خطبة الجمعة-السيد محمد حسين فضل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة لسماحة السيد محمد حسين فضل الله
13 ربيع الثاني 1424هـ/ 13 حزيران ـ يونيو 2003م
--------------------------------------------------------------------------------
في رحاب البرنامج الخُلقي في الإسلام:
الخُلق الحسن رسالة محبة وتواصل بين الناس
--------------------------------------------------------------------------------
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
الأخلاق: التوازن والتواصل
تحدثنا في الأسبوع الماضي عن دور الأخلاق في التشريع الإسلامي، وقلنا إن الإسلام كله أخلاق، باعتبار أن الأخلاق هي التي تحقق التواصل الإنساني والتوازن في المجتمعات عندما يعيش المجتمع أخلاقيته الإنسانية، في اعتبار أن كل إنسان له حق وعليه واجب.
وقد ورد في أحاديث النبي (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) الكثير مما يؤكد أن الأخلاق تتصل بالمنزلة الرفيعة التي يحصل عليها الإنسان عند الله تعالى، وأنها تمثّل الدرجة العالية من الإيمان، فمن كانت له الأخلاق الطيبة الحسنة فهو ممن بلغ درجة رفيعة في الإيمان، ومن لم يملك الأخلاق الحسنة الطيبة فهو في درجة نازلة من الإيمان، لأن الإيمان ليس مجرد حالة في الذهن أو في القلب، بل هو حركة في الواقع في التعامل بين الناس والتواصل بينهم.
فقد ورد في حديث الإمام أبي جعفر محمد الباقر (ع): "إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"، فالإنسان الذي وصل إلى درجة يملك فيها أعلى درجات الأخلاق وأحسنها فهو من أكمل الناس إيماناً، لأن إيمانه قد تحرّك في حياته بحيث أصبح يمثّل التجسيد الحيّ للإسلام في تعامله مع الناس.
وفي الحديث الذي روي عن الإمام عليّ بن الحسين (ع) فيما روي عنه قال: "قال رسول الله (ص): ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق"، لأن مسألة أن تصلي أو تصوم أو تحج أو تتصدق هو أمر يتحرك في دائرة خاصة، ولكن عندما يكون لديك حسن الخلق فإن هذا الأمر تعمّ فوائده على كل الناس الذين تعيش معهم وتخالطهم. فالأخلاق هي حركة تنفتح على كل المجتمع، والله تعالى جعل الميزة على الأعمال كلها، بحيث إنها إذا وضعت في الميزان فإنها ترجح وتؤدي بالإنسان إلى النجاح عند الله.
كمال الإيمـان
وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) يقول: "أربع من كنّ فيه كمل إيمانه وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً ـ بحيث كان مغسولاً بالذنوب والسيئات ـ ينقصه ذلك، وهو الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق".. وفي حديث عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "ما يقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه"، بأن يكون واسع الصدر، بحيث يعيش مع الناس ويمتصّ السلبيات التي تصدر منهم تجاهه، على النحو الذي لا يعيش فيه بعقلية ردود الفعل السلبية ضد الإنسان الآخر.
وفي الحديث عن النبي (ص): "إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم".. وعن الإمام الصادق (ع) قال: "قال رسول الله(ص): أكثر ما تلج ـ تدخل ـ به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق". وعنه(ع) قال: "إن الخلق الحسن يميث ـ يذيب ـ الخطيئة كما تميث الشمس الجليد". وفي الحديث عنه (ع): "البرّ وحسن الخلق يعمّران الديار ويزيدان في الأعمار". وورد في بعض الأحاديث عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "هلك رجل على عهد النبي (ص)، فأُتي بالحفّارين فإذا بهم لم يحفروا شيئاً، وشكوا ذلك إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله ما يعمل حديدنا في الأرض، فكأننا نضرب في الصفا، فقال (ص): "ولم، إن كان صاحبكم لحسن الخلق، آتوني بقدح من ماء، فأتوه به فأدخل يده فيه ثم رشّه على الأرض رشاً، ثم قال: احفروا.. قال: فحفر الحفّارون فكأنما كان رملاً يتهايل عليهم"، فالله تعالى أكرمه بحسن خلقه وأزال هذه العقبة التي كانت تحول بينه وبين أن ينفتح قبره.
وعن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: "إن الخلق منيحة يمنحها الله عزّ وجلّ خلقه، فمنه سجيّة ـ بطبيعته وفطرته، بحيث تولد معه إنسانيته وأخلاقه ككثير من الطباع التي تخلق مع الإنسان ـ ومنه نيّة ـ مما يأتي من خلال عمل الإنسان وتدريب نفسه ومجاهدتها وتربيتها على ذلك ـ فقلت: فأيهما افضل؟ قال (ع): صاحب السجيّة هو مجبول لا يستطيع غيرها ـ ففطرته فطرة خير وهو مطبوع عليه، فهو يتحرك بالخير بدون اختيار وإرادة، لأن الخير طبيعته ـ وصاحب النيّة يصبر على الطاعة تصبّراً، فهو أفضلهما".
عطاء المجاهد في سبيل الله
ونحن إنما نقرأ هذه الأحاديث حتى نعيش هذه الأجواء الطاهرة التي يرتفع بها الإنسان عند الله، لا سيما أن مجتمعنا ـ سواء في البيت أو في العمل أو في الواقع الاجتماعي ـ أصبح يتميز بسوء الخلق، والإنسان لا يصبر على الإنسان الآخر، ولا يقابله بالعقل والقلب المفتوحين.
وعن الإمام الصادق (ع) قال: "إن الله تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله، يغدو عليه ويروح"، فكما المجاهد يجاهد الأعداء حتى يقتل الشرير فيهم، فصاحب الخلق يجاهد نفسه وشيطانه وكل نقاط الضعف التي تدفعه إلى سوء الخلق. وعنه (ع) أنه قال: "إذا خالطت أحداً، فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلا كانت يدك العليا فافعل ـ كن أنت المبادر لكي تعطي الناس من نفسك ما يجعلك مميزاً عنهم في أخلاقك ـ فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة ويكون له حسن خلق فيبلّغه الله بحسن خلقه درجة الصائم القائم".
حُسْن الخُلق يسر
وهناك قصة تنقل عن النبي (ص) في حسن خلقه وتواضعه، فعن "بحر السقّاء" أنه قال: قال لي أبو عبد الله(ع): "يا بحر، حسن الخلق يسر".. قلت: بلى. قال (ع): "ألا أخبرك بحديث ما هو في يد أحد من أهل المدينة"؟ قلت: بلى؟ قال: "بينا رسول الله (ص) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي فلم تقل شيئاً، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي (ص) في الرابعة وهي خلفه، فأخذت هدبة ـ قطعة ـ من ثوبه ثم رجعت، فقال لها الناس: فعل الله بك وفعل، حبست رسول الله ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً وهو لا يقول لك شيئاً، ما كانت حاجتك إليه؟ فقالت: إن لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ هدبة من ثوبه ليستشفي بها المريض، فلما أردت أخذها رآني فقام، فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني وأكره أن استأمره في أخذها، فأخذتها بعد ذلك". وهذا الحديث يدلل كيف كان رسول الله (ص) يتواضع لكل الناس ويتسع صدره لهم.
وعن أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال: "قال رسول الله: أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً ـ كنايةً عن التواضع ـ الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم"، وعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "المؤمن مألوف، لا خير في من لا يألف ولا يؤلف".
أما بالنسبة إلى أصحاب الخلق السيئ، فقد ورد عن الإمام الصادق أنه قال: "قال النبي (ص): أبى الله عزّ وجلّ لصاحب الخلق السيئ بالتوبة، قيل: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: لأنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه"، لأنه ينتقل من ذنب إلى ذنب فلا تستقر التوبة عنده. وعنه (ع) أنه قال: "أوحى الله عزّ وجلّ إلى بعض أنبيائه: الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل".
رسالـة محبـة
هذا البرنامج الذي يجعل مسألة أن يكون لك خلق حسن أو يكون لك خلق سيئ من المسائل التي تتدخل بالإيمان وبمنزلة الإنسان عند الله، كما تنعكس في نتائجها على المجتمع، بحيث يعيش صاحب الخلق الحسن في أمان واطمئنان مع الناس، بحيث يألفهم ويألفونه، فيفتحون له قلوبهم ويخضعون لأخلاقه. والله تعالى يريد من الإنسان أن يعيش في المجتمع ويعطي الناس ما يجعلهم يحبونه، ومن الطبيعي أنك عندما تفتح قلبك للناس فإن قلوبهم تنفتح عليك، ولكن مشكلة بعض الناس أن عقولهم مغلقة، وقلوبهم مغلقة، وحياتهم مغلقة، وبذلك يمثلون مشكلة لأنفسهم وللآخرين.
إن الخلق الحسن يمثل رسالة المحبة والتواصل بين الناس، فعلينا أن نربي أنفسنا على ذلك، وأن نربي أولادنا على ذلك، لأن هذا هو الذي يحقق لنا الطمأنينة والراحة والسعادة والمغفرة في الدنيا والآخرة.