شيخ الشيوخ منشأها ولمن تطلق؟
مستقطع من كتاب لكود القشعم للأستاذ محمد منير بن عبدالمجيد لكود
-الالتباس الحاصل في منشأ رتبة شيخ الشيوخ بن قشعم
قد تحوجني المناقشة والتحليل والتعقيب للعودة إلى بعض النصوص فأرى ضرورة ذكرها كشاهد لتوضيح الفكرة كي لا أجهد القارئ في البحث عنها في صفحات الكتاب .
من المسائل التي ناقشناها أثناء زيارتي لمدينة تدمر : منشأ رتبة شيخ الشيوخ .
قال لي ابن العم سلطان : لما رحل سعد راعي الذلول من نجد إلى العراق ، وهو من شيوخ القشعم القدامى ، فقال له الناس : أقم بيننا ولا ترحل عن ديرتنا ، فكان جوابه في هذه الأبيات :
قالوا لي : جيم ، قلت : ما أجيم ما أجيم بديـره كثيرة شـيوخهـا
أشوف الطـوارف صارن مجـاديم و الـفاروع بانٍ عليها شـروخـها
فرخ البوم مكوم الصـيد تكـويم والحرّ الأشقر ما مدرك معيشة فروخها
ثم ذهب إلى العراق وتزوج ابنة غليص بن مسعود .
فقال فيه أحدهم من شمر حين ذهب إلى العراق :
حــرٍ شـلع من قصـر برزان حــرٍ يسـبح الحـوم بمـتونـه
و اليا شـلع من أطـراف العربان شـمر أهـل الطـولات يتلونـه
وأثناء وجوده في العراق دعا الوالي أربعين شيخاً بينهم ، سعد راعي الذلول ابن قشعم ، وبنى لكل منهم بيتاً ووظف له خادمة ، ويقال لها صلبيه ، تقضي له حوائجه وتحسن خدمته ، وكان قد طلب الوالي أن ترفع الواحدة منهن راية سوداء على البيت في حال مسّ شرفها الشيخ الذي تقوم على خدمته ، وذلك لاختبار هؤلاء الشيوخ فرُفِعَت الرايات السوداء إلا على بيت ابن قشعم سعد راعي الذلول رفعت الراية البيضاء ، ثم أمر الوالي بإحضار الغذاء ، فقدم للشيوخ ثلاث أنواع منفصلة وهي : دم ، حنظل ، مرق ، فلم يرق هذا الطعام للشيوخ إلا ابن قشعم ، فأخذ يسكب هذه الأنواع ويخلطها ، وهمّ بتناولها ، فمُنِع عنه ، ثم أمر الوالي بتقديم الطعام الحقيقي ، حيث كان ما ذكرت اختباراً لهم جميعاً .
وحين حضر مُضيف القهوة ، قال الوالي : صب القهوة لشيخ الشيوخ ابن قشعم الذي حفظ الأمانة ، واتسع صدره للصالح والطالح من القوم .
ومن هنا جاءت تسمية "شيخ الشيوخ محفوظ الأمانة" .
المناقشة والتحليل والتعقيب .
في اللغة :
1-الشَّيْخُ هو : من أدرك الشيخوخة ابتداءً من عمر خمسين سنة إلى آخر عمره .
واختص بهذه الصفة من هو فوق الخمسين سنة وذلك لاكتسابه الخبرة في الحياة أكثر مما هو دون هذه السن ، والمثل الذي يطلقه العوام هو : "أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة" .
مفهوم هذا المثل مستنداً إلى ما ذكرت ، وعليه يكون من هو أصغر سناً يحترم ويوّقر الذي يكبره سناً ، فتعيش المجتمعات في احترام متبادل بين الجميع .
2-الشَّيْخُ ذو المكانة من : آ-العلم . ب-الفضل . ج-الرئاسة .
آ-الشيخ ذو العلم :
كانت الناس تتفقه بالدين بعد الانتهاء من الصلاة في المسجد على يد الإمام، وكلما التبس على البعض مسألة ما ، فيقول : قال شيخي فلان كذا وكذا ، لتصحيح الالتباس الحاصل .
أي أن كلمة شيخ هنا اختصت برتبة دينية وعلمية وثقافية .
ب-الشيخ ذو الفضل .
أثناء زيارتي إلى مدينة تدمر وبحضور عدد كبير من أبناء العمومة آل قشعم طرحت السؤال التالي :
ما اسم شيخكم ؟ .
فذكر لي أحد المتقدمين بالسن اسماً لأحد أبناء القشعم وكان غائباً عن المجلس حينئذ .
فقلت : وهل هو معتمد لدى الدولة ، أم منتخب من العائلة ؟ .
جاء الرد على الشكل التالي :
"نحن أبناء القشعم في مدينة تدمر ، يعيش البعض منا حياة مدنية مطلقة ، والآخر يمارس أعمال الزراعة ، ولنا اتصال وأعمال مع العشائر في بادية تدمر ، ومن خلال لقاءاتنا الاجتماعية يتوجب علينا اختيار شخصاً نقدمه على أنفسنا ليمثلنا في المجتمع ، بشرط أن تتوفر فيه الخصال والميزات التالية : الحكمة والذكاء والكرم والخبرة في مجال المجتمع والقدرة على حل قضايانا بالشكل الأمثل ،سمحاً ورحب الصدر ."
فقلت : في هذه الحال هو شيخ ذو صفة معنوية وليس إرثاً ، كما هو الحال في النظام العشائري ، أو اعتمدته الدولة التي تقر النظام العشائري لإدارة مجتمعها ، أو أنها وظيفة دين ومعتقد .
فقال الحضور : وهو كذلك .
ج-الشيخ ذو الرتبة الرئاسية .
إن الظروف التي مرت بها القبائل العربية لقرون طويلة عرضة لضغوط الفرس والأتراك ، حرمتهم من اليد الحنونة التي تقودهم إلى عالم المدنية والحضارة فابتعدوا وتوغلوا في لهيب الصحراء وتأقلموا بمناخها على تحمل العطش والجوع ، واشتد ساعد أبنائها في تحمل أعباء السفر والحل والترحال ، وفي هذه الصحراء الموحشة لابد أن تتضافر الجهود وتتوحد الكلمة لحماية الشيوخ والنساء والأطفال والمال والحلال من تعدي الآخرين واستباحتها ، وفي هذه الأحوال يترتب عليهم اختيار رئيس لهم قادر على تحمل أعباء هذه المسؤولية الكبيرة ، وكنت قد قدّمت في فصل التمهيد لهذا الكتاب عن شكل الحكومة عند البدو وهي : إمارة ، قبيلة ، عشيرة . . . .
وقبيلة شمر كما قال عنها المؤرخون : تتكون من مجموعة عشائر متنوعة ومتفرقة وتمتاز بكثرة الجموع ووفرة الفروع ومنعة الجانب وذيوع الصيت بالبطولة واتساع الملك والثروة والمواقف الوطنية المحمودة وأصولها الراسخة وأمجادها الباذخة .
ومن أجل هذا الشعور نراهم يعيشون بشكل جماعي ، متعاونين ومتكافلين ومتضامنين أقوياء وعزيزّي الجانب ، وأذكياء جداً يستطيعون التغلب على الصعاب .
وجاء في كتاب تاريخ العراق بين احتلالين حيث قال :1-
"والملحوظ أن عشائر شمر لا تزال العودة مشهودة لها في حروبها بعد إظهار الهزيمة فيعودون إلى ما كانوا عليه ، ولذا يسمون ، بأهل العودة ، وكما يقولون : أهل العادة ، بعد إظهار الكسر المصطنعة".
أي أن حروبهم ، كر وفر . ولكل قبيلة من هذه القبائل شيخها ، وفي سنة 795هـ ظهر ثامر بن قشعم على ساحة الصراع العشائري مما لفت انتباه السلطان في مصر فمنحه لقب أمير العرب ، وأمره أن يؤدب محمداً بن حيار الملقب نعير ، لخروجه عن طاعة السلطان ، فكانت القشعم في هذه الحال ناظمة للقبائل الشمّرية التي تنتمي لمنابت متعددة .
شـيخ الشـيوخ .
في اللغة : شيوخ و أشياخ جمع من "شيخ" .
وبناء على ما تقدم يتضح لنا النقاط التالية :
1-إن شيخ الشيوخ لمن عمره يناهز الخمسين عاماً هو : أكبرهم سناً وأغناهم خبرة في هذه الحياة .
إذاً في هذه الفقرة : شيخ الشيوخ هو: المختص بالمعمّرين .
2-شيخ الشيوخ لذوي المكانة العلمية والدينية هو : الذي يمتاز عن جميع هذه الشيوخ علماً وفقهاً .
3-شيخ الشيوخ لذوي الفضل هو : الذي يمتاز عن جميع قرنائه .
4-شيخ الشيوخ ذو المكانة الرئاسية
إن جميع القبائل العربية أمثال : طيء ، و زبيد ، و عنزة ، تنتمي كل واحدة منها إلى أرومة خاصة بها نسباً ودماً ، ولكل قبيلة شيخها العام ، إلا شمراً فإنها تتكون من عدد من القبائل ، وكل قبيلة منها تتداخل فروعها مع فروع شمرية أخرى ، بسبب الاتحاد العسكري الملتحم بالدم لبطولات سطروها في قرون ماضية ، وفي سنة 795هـ كانت قبيلة القشعم ناظمة لهذه القبائل الشمرية ، وبقوتها ووحدتها نالت إعجاب السلطان ، ولكي يستميل أميرها للوقوف إلى جانبه كقوة عظيمة لترجيح كفة الوالي أمام القوى الأخرى المناوئة له ، وللأسباب التي ذُكرت ، أطلق على رئيسها : شيخ شيوخ هذه القبائل ، وهي رتبة رفيعة المستوى مستقاة مما تحمله هذه العبارة من معنى فاضل في مجال العلم والمعتقد والرئاسة والخبرة الاجتماعية والعسكرية .
وعليه كلما تواجد شيخ من شيوخ القشعم في مجلس فيه شيوخ من عشائر أخرى ، وصبّ فنجان القهوة ، ولصفة شيخ الشيوخ التي ورثها كل شيخ من شيوخ القشعم عن ابن قشعم ، تقدمه هذه الشيوخ لشرب فنجان شيخ الشيوخ في ذلك المجلس .
وفي خبر كتبه لي ابن العم الشاعر محمد علي قشعم سمعه من والده متواتراً ( نقلته بتصرف ) :
اجتمع شيوخ بدو تدمر وباديتها في ديوان الشيخ محمد بن قاسم بن محمد بن حسين بن محمد الملقب بـ(الشوفي) بن شبيب بن حبيب القشعم ، واحتار مُضيف القهوة متسائلاً :
من أين أبدأ ، أشار البعض أن يبدأ الصب إلى أمير الموالي ، ورأى آخر أن يبدأ عند ابن هذال كبير عنـزة ، فقال ابن هذال : " أدخل على الله " صب القهوة من عند شيخ الشيوخ ابن قشعم ، فكان الصب فنجان على اليمين وآخر على اليسار .
وقال في ذلك أحد الشعراء :
شيوخ ثقال يعطـونك عهدهـم بأنك شيخ لهـم وراعي لعـهدهم
بدار العـز ابن قشـعم وعدهـم وشرب فنجان على روس الاشهاد