" القسوة والصمت "

[align=center]كتاب " القسوة والصمت " للباحث والمفكر العراقي كنعان مكية


الطبعة الأُولى (الإنكليزية ) من هذا الكتاب صدر عام 1993 ،وأدت ترجمته العربية إلى سجال فكري وسياسي في الأوساط السياسية والثقافية العربية ، ذلك انه –الكتاب- فضح صمت العالم العربي عن جرائم " الأنفال " والإبادة الجماعية التي ارتكبها " البعث " في العراق . [/align]

[align=center]
تذكر القسوة


1-12



اعتقدت، حتى وقت قريب، ان (الانفال) اسم لسورة قرآنية. عندما اطلق صدام حسين عملية عسكرية ضخمة في جنوب العراق حزيران/ يونيو 1991، مطلقا عليها ايضاً اسماً شفرياً هو (الأنفال)، لم يكن لدى أي منا، نحن العراقيين الذين اندفعنا في كل الأمكنة لإيصال الخبر الى وسائل الإعلام، أية فكرة عن المعنى الضمني الكامل لإختياره تلك العبارة، هرب اللاجئون من إنتقام النظام في اعقاب عمليات الثأر التي تلت إنتفاضة آذار/ مارس 1991 الفاشلة، ودمرت مجمعات سكنية بأكملها مع كل الجوار في مدن جنوبية طوال أسابيع كان كل ذكر شيعي يفوق عمره الإثنتي عشرة سنة معرضا للإعدام بالرصاص داخل مقابر جماعية بالجرافات. كل تلامذة الفقه الذين استطاع النظام إلقاء القبض عليهم اعدموا. أناس مثل ابي حيدر هم من الذين فروا هاربين من كل ذلك، لكنهم، اذ لم يستطعوا الفرار من البلاد لجأوا الى منطقة الأهوار ما بين دجلة والفرات في جنوب العراق. في حزيران/ يونيو بدأ الجيش حصاره لهم وقطع عنهم المواد الغذائية والوقود والأدوية. وفقط عبر تذكر استعادي للأحداث، استطعت ان ادرك ان تلك ليست الا استعادة للسابقة الكردية الرهيبة في 1988.
سوف يستمر البشر مناقشة مسألة جوهر الحقيقة حتى نهاية الازمنة. لكنه لن يكون هناك أي نقاش حول ماهية القسوة. منذ الآن فصاعدا ستحمل عبارة (الانفال)إلى الأبد ولدى كل عربي، معنى جديدا اعطاه حزب البعث العراقي وهو: الإبادة الجماعية المقررة رسمياً فى العام 1988، لما لا يقل عن مئة الف كردي.
وهذا المعنى الجديد هو بداية اعتراف بمسؤولية ما جرى في 1988 فلن يكون ثمة مستقبل طبيعي للعراق من دون ذلك الإعتراف. الماضى لا يزول هكذا كأن لم يكن، ينبغي مواجهته قبل ان يوضع جانبا.
ان بلدا وثقافة خبرا تجربة كالأنفال، او عاشه كل العراقيين في تجربة العام 1991 لا يمكن ان يعودا اطلاقا إلى الحياة (كما كانت من قبل). هل باستطاعة تيمور ان يعود مجرد طفل كردي صغير ثانية؟ تذكارات ما جرى في 1988و1991 ليست الا بعضا من الميراث الضخم المرير الذي تركه صدام حسين، هذا الميراث الذي سيعيش معه الشعب العراقي زمنا طويلا بعد ذهابه.

لكن من هو المسؤول عما جرى في 1988؟
لم اعرف بشأن عمليات الأنفال حتى تشرين الثاني/ 1991 هل يعني هذا انني لست مسؤولا؟ كان العالم يعرف بالتأكيد، في الأقل منذ 1975، انه كان يجري اعادة توطين الكرد. عدد كبير من الناس كان يعرف ان المئات ان لم نقل الآلاف من القرى ازيلت من الوجود. كانت الأنفال هي الذروة المنطقية جدا للوحشية المتصاعدة التى كانت تمارس منذ سنوات داخل العراق، وبمعرفة تامة من جميع الحكومات الغربية والمثقفين العرب: الأولى سلحت الطاغية والآخرون (المثقفون) دعموه سياسيا.والآن، مست الوحشية الجميع.
المسؤولية عن الموتى الكرد في الأنفال تتعدى النظام البعثي في بغداد. هل يعني هذا أن كل عراقي عربي مسؤول ايضا؟ ومن جهة أخرى، هناك عدد كبير من الكرد ما كان ليلاقي حتفه لو لم يسقه كرد آخرون إلى خارج قراه ويذهب به إلى حتفه. هل يعني هذا ان الكرد مسؤولون ايضا؟
إن كل عربي مسؤول؟ كتبت ملايين الكلمات والسطور عن تدمير مئات من القرى الفلسطينية ابان قيام دولة إسرائيل. وهذا أمر محق إلا أنه العديد من المثقفين الذين كتبوا تلك الكلمات، اختاروا الصمت عندما تعلق الامر بازالة آلاف القرى الكردية من قبل دولة عربية. يبدو اننا لا نعرف الا الأمور التي نريد معرفتها.
ربما تقع المسؤولية ايضا على الحكومات المتحالفة التي دمرت العراق لإجبار صدام حسين على الخروج من الكويت. العديد من العراقيين يتذكرون انه في الماضي، في العام 1988، كان صدام حسين صديق الجميع، جورج بوش، الذي كان آنذاك نائب رئيس الولايات المتحدة، تدخل شخصيا لمصلحة نظام البعث في مناسبات عديدة، لجعل بلاده (ترجح) كفة العراق خلال الحرب العراقية الإيرانية(1). إنهم يذكرون تلك الأيام غير البعيدة يذكرون بأية طريقة جرت الحرب في الخليج، ويرون ان صدام ترك في السلطة ليشفي غضبه دماراَ و خراباً بشعبه، وقالوا: هل كان رئيس الولايات المتحدة قد تلقى معلومات استخباراتية بشأن عمليات الأنفال، وهل تجاهل عمدا تلك المعلومات واستخباراته؟(2). في ذات يوم، اعتقد اننا سوف نعثر على قبور جماعية من ذلك النوع الذي وصفه تيمور، في الصحراء غربي السماوة قرب السعودية. وقد حدث بالصدفة انه بينما كانت تسحق الإنتفاضة العراقية في آذار/مارس 1991، كانت القوات المتحالفة تعسكر بين السماوة والحدود العراقية- السعودية، وربما بالضبط فوق تلك القبور وتشاهد حدوث تلك المذبحة هل كان احد يعرف في اروقة السلطة في واشنطن، فوق ماذا يجلس جنودهم؟[/align]

[align=center]تذكرة القسوة


2-12

تذكر حرب الخليج

الحرب جحيم، لكن ليست كل الحروب جحيماً من النوع نفسه. لقد تبين ان الطريقة التي انهت الولايات المتحدة حرب الخليج اشد اذى لشعب العراق، وقد اوقعت ضحايا يفوق عددهاما قد توقعه حرب مباشرة. مع بداية صيف 1991 كان العراق قد تحول من بلد معاصر يمتلك جهازاً طبياً متطوراً، وشبكات مياه ومجارير، ونظام طاقة كهربائية، إلى (أحد اكثر بلدان العالم فقراً) كان هذا استنتاج فريق دراسة عالمي مؤلف من 87 باحثاً اكاديمياً ومختصاً. لقد زاروا العراق في ايلول/ سيبتمبر 1991 ليدرسوا تأثير الحرب عموماً على صحة المدنيين ورفاههم(3). كان ما يزيد عن نصف عدد السكان مازالوا معرضين للتلوث بالمجاري، اذ اختلطت اوساخها بمياه الشفة التي كانوا يشربونها طوال الأشهر السبعة التي اعقبت وقف إطلاق النار. ثلث أطفال العراق كانوا يعانون من سوء التغذية، وارتفعت اسعار المواد الغذائية بين 1500و 2000 بالمئة فيما تدنت قيمة الأجور ما دون الـ 7 بالمئة قياساً لما قبل الحرب. الأمراض المنتقلة بالماء، تضاعفت مئة مرة ومنها التيفيوئيد والأمراض المعوية والكوليرا، وكثرت إلتهابات الكبد وانتشر مرض إلتهاب السحايا في جنوب العراق، وانبعثت في كل مكان امراض لم تعد مالوفة مثل شلل الأطفال والحصبة والكزا(4).
أبان حرب الخليج، وعلى الرغم من الـ 120 الف طلعة التي قامت بها طائرات التحالف، لم يكن التدمير والأضرار التي لحقت بالمناطق السكنية واسعاً وشاملاً.ولم يجر البتة مايمكن ان ندعوه بحملة قصف جوي عشوائي نموذجية. كذلك لم يكن عدد الضحايا المدنيين مساوياً لما يمكن ان يتوقعه المرء من حملة بتلك الضخامة، ان عدد الموتى المدنيين يتراوح بين 3 آلاف و 5 آلاف(5). والتقديرات المتعلقة بعدد الجنود العراقيين الذين قتلوا في المعارك تراوح مابين 30 الفاً ومئة الف قتيل، لكن ثمة إجماعا متزايداً على ان تلك الأرقام تحتاج إلى إعادة نظر وتعديل نحو الأقل(6).
بيث دابونت ديموغرافية تعمل في مكتب الإحصاءات السكانية الرسمية في الولايات المتحدة، تقدر انه سقط 53 الف قتيل بسبب الحرب مباشرة في كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير، مقابل 105 آلاف عراقي قتلوا بنتيجة الإنتفاضة ضد صدام حسين وبنتيجة امراض وبائية شانعة، وامراض منقولة بالماء، نتجت عن الدمار الحربي لبنية التحتية للبلاد(7) هربا إلى الجبال بعد فشل الإنتفاضة فخلال الهجرة الجماعية التـأريخية لأكثر من مليوني كردي- اغلبيتهم الساحقة من الأحداث- كانوا يموتون بمعدل يتراوح بين 450 و 750 يومياً بسبب الإسهال والأمراض التنفسية المعوية والمبرحة، والجروح. وفي المجموع مات بين 25 الفاً و 30 الف كردي(8). غير أن الشيعة العراقيين تكبدوا القسط الأعظم من إنتقام صدام حسين بعد انتهاء الحرب، ولا احد يعرف كم من عشرات الآلاف قتل منهم.
الطابع المتطور تكونولبوجيا للحرب استطاع انهاء وجود العراق كدولة حديثة بعد بضع ساعات على بدء المعركة. وطن بأكمله ترك (ميت الدماغ)، بحسب وصف ريتشارد ريد من صندوق الأمم المتحدة للأطفال. قال إن (بغداد بدت مدينة غير مخدوشة بشكل أساسي، وجسداً لم يمس جلده بشكل جوهري، فيما كل عظمة اساسية فيه محطمة وكل مفاصله واوتاره مقطوعة)(9). فريق دراسات من هارفرد زار احدى عشرة مدينة وبلدة عراقية رئيسة من 27 نيسان/ ابريل حتى 6 أيار/ مايو استنتج التالي (على الرغم من ان قصف التحالف الجوي قد الحق خسائر قليلة نسبياً بين السكان المدنيين. الا أن تدمير البنية التحتية نتجت عنه عواقب طويلة الأمد ومدمرة على الصعيد الصحي. نعتبر عادة ان الضحايا المدنيين هم فقط الذين قتلوا كنتيجة مباشرة لإصابتهم خلال الحرب، غير أن هذا التفسير بحاجة إلى إعادة نظر)(10).
إن الضحايا الحقيقيين للبراعة التكنولوجية الأميركية كانوا اطفال العراق. توصلت دراسة معمقة قامت بها مدرسة هارفرد للصحة، وكانت ارتكزت على دراسة عينة سكانية من 16.076 طفلاً عراقياً. الى أن (نسبة وفيات الأطفال ازدادت ثلاثة اضعاف في الاقل بنتيجة حرب الخليج، والإنتفاضة المدنية التي تلتها واستمرار العقوبات الاقتصادية، هذه الزيادة تتطابق مع زيادة تبلغ 46897 من الوفيات بين الاطفال العراقيين الذين تقل اعمارهم عن الخمس سنوات ما بين كانون الثاني/ وآب/ اغسطس 1991،(11)). دراسة اخرى ركزت على مدينة البصرة. حيث يعيش حوالى الـ 175 ألف طفل، واستنتجت من خلال عينة سكانية تتألف من 723 طفلاً، كانت الأغلبية بينهم تتراوح اعمارهم بين يوم واحدو 36 شهراً، ان 8 بالمئة كانوا بحكم (المصابين بالهزال) طبياً و24 بالمئة (متوقفين عن النمو) كلياً، و 2 بالمئة (يعانون اشكالاً معتدلة او من سوء التغذية)(12). تلك الدراسات تثبت ان الرابط بين حرب الخليج و امراض الأطفال وفياتهم كانت اقوى في شمال العراق و جنوبه منها في المناطق الوسطية اليوم وبكلام آخر، مات نسبياً عدد اكبر من من الأطفال الكرد و الشيعة كنتيجة مباشرة للقرار الأمريكي باستهداف محطات الطاقة في البلاد، ومن ثم التنصل من العراق وتركها من دون إصلاح. وبالنسبة إلى الشرق الأوسط ككل، يقدر رسميون من الأمم المتحدة ان يقارب الخمسة ملايين معرضون لخطر أن يقضوا سنوات تكوينهم في ظروف عدم نتيجة لحرب الخليج. ( نستطيع ان نتحدث بثقة مرعبة و خطيرة عن جيل ضائع). هذا ما قاله ريتشارد ريد(13).
تأثيرات حرب الخليج سوف تبقى داخل اولئك الأطفال الذين نجوا من القصف الجوي، وإنتقام النظام، وكوارث الامراض وسوء التغذية. عالمان نفسيان كانا من بين اعضاء، فريق الابحاث الدولي الآنف الذكر، وهما متخصصان في مجال صدمات الاطفال النفسية، اجريا مقابلات مستفيضة مع 214 طفلاً عراقياً في اعمار الصفوف الابتدائية، وتوصلا الى استنتاج مذهل وهو ان الصدمة النفسية التي يعيشها اطفال العراق من جراء الحرب، تفوق أية صدمة تعرض لها الاطفال من جراء الحروب عبر التأريخ). كما اكتشفا مستويات من الحصر النفسي والقلق. والضغط النفسي، والسلوك المرضي لم يسبق لها مثيل عبر سنوات ابحاثهما الميدانية فقد تراوحت الاعراض التي وصفاها في تقريرهما مابين)( الكآبه والخوف) و (الافتقار إلى الحياة). كان الاطفال مشوهين من الداخل بالكآبة والحزن والخوف المريع. ثمانون بالمئة من الذين اجريت معهم الاحاديث يعيشون خوفا يوميا من احتمال فقدان عائلاتهم بالموت او الإنفصال ثلثاهما تقريباً يعتقدون انهم لن يبقوا احياء حتى بلوغهم من النضوج وينتهى التقدير بالأستنتاج التالي: حتى في المناطق الاكثر تمزقا وتأثراً بالحرب في الموزامبيق، كان الاطفال لا يزالون يلعبون ويتصرفون كالأطفال. الأطفال في العراق ذكروا كاتبين بوصف (الموتى الاحياء) الذي ظهر بعد إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما(14).
[/align]