كركوكيات ( هاتوا دليلكم )
قضايا كردية معاصرة ... كركوك - الأنفال - الكرد وتركيا
د. جبار قادر
كركوك بين حقائق التاريخ ومزاعم السياسيين
الفصل الأول
كركوك ، تاريخ عريق وواقع مرير
قد يبدو الحديث عن التاريخ البعيد في قضية معقدة ومتأزمة كقضية كركوك التي تعاني من آثارها الكارثية مئات الالاف من المدنيين ، نوعا من الترف الفكري الذي لا طائل منه . ولكن الذي يبرر تقديمي لهذه الورقة هو طلب القائمين على هذه الفعالية الثقافية - السياسية كي اقدم هذا العرض التاريخي السريع ، وحقيقة أنه يصعب فهم معضلات اليوم دون معرفة خلفياتها التاريخية . لذلك اتمنى ان لاتخلو هذه اللمحات الخاطفة من تاريخ كركوك الطويل من فائدة .
شهدت سنوات العقد الأخير إهتماما لا بأس به بكركوك و نشر العديد من الكتب و الدراسات و المقالات التي غطت بعض الجوانب التاريخية و السياسية و الجغرافية و الأقتصادية لقضية كركوك ، لذا لم أجد مبررا في إيراد النصوص و المقتبسات المطولة من بطون الكتب و الدراسات بل سأشير و بإختصار شديد الى محطات تاريخية مهمة برأيي، وقد لا تكون كذلك بالنسبة للعديد من الحاضرين و القراء ، و سأكون سعيدا للأستماع الى مداخلاتكم و تعقيباتكم و إستفساراتكم .
إذا وضعنا جانبا الحكايات الكثيرة و المتضاربة في تفاصيلها والتي ترويها الفئات المختلفة من سكان كركوك عن تاريخ مدينتهم و الأقوام التي شاركت في بناء هذه المستوطنة (الكوتية -الحورية - الميتانية) أو تلك التي سكنتها و سادت فيها، وهي قصص تغطي فترة تاريخية طويلة تمتد الى الألف الثالث قبل الميلاد وأحيانا الى أبعد من ذلك، وتجمع هذه القصص في طياتها أخبارا عن سلسلة من الأقوام والقبائل التي سكنت تلك المنطقة مثل ( اللولوبيين ، السوباريين ، الكوتيين ، الخوريين أو الحوريين ،الكاشيين ، الميتانيين ، الميديين وغيرهم من الأقوام التي لعبت فيما بعد دورا أساسيا في تكوين الشعب الكردي الحالي ، فضلا عن قوى دولية كبرى اغارت عليها و حكمتها سنينا طويلة لتخلف آثارا مهمة كالآشوريين و الساسانيين و السولوقيين و غيرهم)، أقول إذا تجاوزنا هذه الأخبار سنرى بأن التاريخ يشير الى أن عمر كركوك أكثر من خمسة آلاف سنة على أقل تقدير و هي بذلك واحدة من أقدم مدن المنطقة وبنيت شأنها شأن العديد من المدن الأخرى في العالم القديم على شكل قلعة على تلة كبيرة و أحاطت بها الأسوار من كل الجهات لصد هجمات القبائل و الجيوش المغيرة و كانت لها بوابات أربع . وتدلل الآثار التاريخية الغنية التي عثرت عليها قرب كركوك الى هذا التاريخ الطويل ودور المدينة والمنطقة في حضارة بلاد ما بين النهرين .
وكانت كركوك خلال العصور الوسطى جزءا و في أكثر الأحيان مركزا لإقليم شهرزور، أحد أشهر إقاليم كوردستان الى جانب إقليمي الجزيرة و الجبال على مر العصور الأسلامية حتى أواخر العهد العثماني(1).
ويهدف ممثلوا الفئات المختلفة من سكان المدينة من وراء تلك الحكايات والقصص والبحث في بطون كتب التاريخ الى الحصول على أكبر قدر ممكن من هذه الروايات أو مايسمونها ب(الشواهد والإثباتات )على تاريخية تواجدهم في المنطقة وتوظيف ذلك في الصراع السياسي الدائر بشأن الهوية التاريخية والقومية والثقافية للمدينة والمحافظة، متناسين في أغلب الأحوال حقيقة أن حقوق المواطنة و التمتع بالحريات الأساسية يجب أن لا تستند لا على القدم التاريخي للناس ولا على كثافتهم العددية ،رغم أهميتهما بطبيعة الحال في تحديد هوية المناطق قوميا أو ثقافيا .
مع تفكك الدولة العباسية وسيطرة القبائل الرعوية المغولية والتركمانية تعرضت كركوك المدينة و المنطقة كغيرها من المدن والحواضر الشرقية الى حملات التدمير والنهب والفوضى السياسية على أيدي السلاجقة والمغول والأتابكة والقرقوينلو والآق قوينلو والصفويين والعثمانيين الى جانب صراعات الزعماء القبليين والإقطاعيين الكرد المحليين. نجمت عن هذه الصراعات الطويلة التي إستغرقت فترة زمنية تجاوزت ألفية كاملة ، حالة جد مريعة من الركود الإقتصادي و الإجتماعي و الثقافي .
وجاء الإحتلال العثماني في النصف الأول من القرن السادس عشر ليكرس حالة التخلف والركود والنهب العثماني لأربعة قرون كاملة، شهدت المنطقة خلالها الويلات بسبب الصراع الطويل بين الدولتين العثمانية والأيرانية بخاصة خلال حملات الشاه عباس الأول (عام 1623) و بالأخص أثناء حملة نادر شاه و إحتلاله لكركوك (عام 1743 ) وإستعادة العثمانيين لها في عام (1746 ). لم يكن بالأمكان ان تمر هذه الحملات دون ان تترك آثارا كبيرة على البنى الأقتصادية والأثنية والأجتماعية في كركوك وتوابعها .
ومنذ القرن الثامن عشر تحولت كركوك الى ساحة لصراع باشوات بغداد و شهرزور من أجل السيادة فيها . وهكذا يمكننا القول بأن كركوك لم تنعم على مدى قرون طويلة بالأمن والسلام . ولكنه ورغم السيطرة الشكلية العثمانية على كركوك خلال العصر الحديث، إلا أن السلطة الفعلية فيها و في غيرها من مناطق كوردستان كانت بأيدي الزعماء القبليين والأقطاعيين المحليين وبخاصة أمراء بابان وأردلان .
لم تكن كركوك في العصور الوسطى سوى مجموعة من البيوت المحاطة بسور كبير على ربض بين قصبة داقوق ومدينة أربيل، أي أن داقوقا التاريخية، التي أصبحت فيما بعد قضاء تابعا لكركوك ومن ثم ناحية لتعود قضاء مرة أخرى ، كانت أكثر صيتا و أهمية من كركوك نفسها، بل أن الأخيرة ولغاية أواخر القرن أواخر الرابع عشر الميلادي غالبا ما كانت تتبع داقوق اداريا و اقتصاديا ، وكانتا على إتصال بأربيل وشهرزور وإمتداداتهما اوثق من إتصالهما بأية بقعة أخرى في المنطقة من جميع الأوجه(2 ).
ورد إسم كركوك بصيغته الحالية لأول مرة في التاريخ في العهد التيموري في كتاب شرف الدين علي يزدي ( ظفر نامة ) الذي كتب في حدود سنة 1424 / 1425 م (3 ).
ويبدو أن القلعة المحاطة بالأسوار بقيت لقرون طويلة المنطقة السكنية الوحيدة في المدينة ولم يتجاوز عدد بيوتها عند منتصف القرن السادس عشر المائة وسبعين بيتا وفق بعض الروايات التاريخية،كانت بيوت باشوات شهرزور حتى منتصف القرن التاسع من أبرز البيوتات التي كانت تضمها قلعة كركوك . وشهدت نفس الفترة التاريخية تقريبا ظهور البيوت و المحلات التجارية خارج القلعة ، إذ لدينا بعض الإشارات تعود الى عام 1548 عن حي إمام قاسم الكردي الشهير في كركوك الذي ضم آنذاك 21 دارا سكنية و شهد جامعه المعروف (جامع امام قاسم ) عمليات الترميم في الأعوام 1614 ، 1691 و 1894 . وشهدت بداية القرن الثامن عشر بناء تكية الشيخ عبدالرحمن التي تعرف بالتكية الطالبانية . كما تشير المصادر نفسها الى الكنيسة على التلة حمراء الى الشرق من القلعة على طريق كركوك- السليمانية الحالي (4).
وكانت كركوك تدار بعد إستيلاء العثمانيين عليها بموجب نظام إقطاعي (دربكي) ، حيث يتولى (متسلم ) إدارتها مقابل رسوم مقطوعة، ولما ألغي نظام الحكم الإقطاعي عام 1840 ، أعيدت إدارة كركوك الى ولاية شهرزور وكانت كركوك مركزا لها . و في عام 1879 أصبحت هذه الولاية سنجقا أي متصرفية الحقت بولاية الموصل .
من المناسب أن أشير هنا الى حقيقة تاريخية مهمة وهي أن لواء كركوك كانت تضم حتى نهاية الحرب العالمية الأولى أقضية كركوك، أربيل، رانية، رواندوز، كويسنجق وكفري وجميع توابع هذه البلدات . وفي عام 1918 فقط قام البريطانيون بفصل الأقضية الواقعة الى الشمال من الزاب ليكونوا منها لواء بإسم لواء أربيل. أي أن لواء كركوك كان يضم جميع أراضي كوردستان الحالية بإستثناء الأقضية الكردية التي كانت تتبع الموصل و التي شكلت منها عام 1969 محافظة دهوك وقضاء خانقين وتوابعه التي ألحقت بولاية بغداد لدوافع ترتبط أساس بأهمية موقعها الجغرافي في العلاقة مع إيران . وهكذا فإن إقليم شهرزور يعيش اليوم من دون عاصمته التاريخية . وتشير حقيقة إرتباط هذه المناطق إداريا بكركوك بل وإدارتها إنطلاقا من مركز كركوك الى الهوية التاريخية والجغرافية للمدينة والمحافظة التي يحاول الكثيرون تحريفها هذه الأيام لأغراض سياسية معروفة .
يبدو أن كركوك شهدت توسعا لا بأس به في ظل حكم الأمارتين الكرديتين الأردلانية والبابانية. فقد أشار أوتير، أول سائح فرنسي زار المدينة في نيسان من عام 1735 و عاد إليها مرة أخرى عام 1739 ، الى مدينة كركوك بأنها كانت في النصف الأول من القرن الثامن عشر مدينة متوسطة الحجم و تقع في منطقة سهلية تتخللها التلال، ولها سور وقلعة حصينة ذات إنحدار حاد وعسير ، وتمر بأسفلها ساقية اسمها (خاصة،وهي كلمة كردية متداولة في منطقة كركوك تعني العذب أو الجيد وقد اشار هذا السائح الى ذلك بوضوح ) أي الماء العذب .
وأشار بأن القلعة تعود الى عصور قديمة جدا، وكانت المدينة عندما زارها تتكون من قسمين:ضم القسم الأول القلعة وكان يعيش فيها عدد غير كبير من السكان، أما القسم الثاني فقد شكلته المنطقة المحيطة بالقلعة والتي كانت تضم المركز التجاري للمدينة. وأكد أوتير أيضا حقيقة كون كركوك عاصمة لباشالق " باشوية " شهرزور والتي إعتبرها جزء من كوردستان، و ضمت حكومة شهرزور برأيه 32 مقاطعة ، وكان يحد باشوية شهرزور كل من آذربايجان وبلاد بابان وبلاد بغداد والموصل وعمادية وحكاري، وذكر بأن باشا شهرزور جعل من كركوك محلا لإقامته (5).
شهد القرن الأخير من عمر الدولة العثمانية صراعا كبيرا للسيادة على كركوك بين باشوات بغداد وشهرزور . فقد كان ولاة شهرزور يعينون من الباب العالي مباشرة ويديرون شؤون الولاية من مركزها كركوك بإستقلال تام عن سلطات باشوات المناطق المحيطة بها. لكن باشوات بغداد أخذوا يعينون رجالهم كمتسلمين في كركوك منذ منتصف القرن الثامن عشر. ولم يكن ذلك ليرضي باشوات شهرزور الذين لم يتخلوا عن حقهم في إسترداد عاصمة ولايتهم أبدا ومثلوا على الدوام تهديدا على سيطرة ولاة بغداد على كركوك . ربما يتساءل المرء هل للصراع الدائر حاليا على كركوك بين حكام بغداد و شهرزور علاقة بذلك الصراع القديم أم لا ؟ .
لم تجذب كركوك إهتمام الرحالة الأجانب كثيرا ، فالرحالة القادم من عاصمة آل عثمان والمتوجه الى بغداد عن طريق الموصل أو العكس كان بإمكانه أن يمر على مسافة عدة من الكيلومترات غرب كركوك ، دون أن يمر بها أو يكتب عنها وذلك عبر طريق الموصل - قصر مشعان - تكريت - سامراء - بغداد ومن ثم الذهاب الى إيران عن طريق خانقين أو غيرها . وهكذا فإن كركوك لم تكن خلال عصر الرحلات مدينة مركزية في ذهن الرحالة و لا مركزا من الصعب أو الخسارة السياسية والإقتصادية أو المعلوماتية تفادي المرور به . بينما كان هناك طريق آخر يزيد حظ كركوك كمحطة رئيسية من محطات السفر ، وهو الذي يمر بوسط كوردستان، أي عبر السليمانية - سنه أو سنندج - همدان ومن ثم اصفهان وطهران إن كان المسافر قادما من بغداد أو الموصل أو عائدا اليهما (6).
ومن هنا فإن المعلومات المتوفرة عن كركوك بالمقارنة مع المدن والحواضر الشرقية الأخرى التي مر بها الرحالة والتجار والمغامرين تبدو فقيرة ومبعثرة ،لا يستطيع معها الباحثون من رسم صورة عنها خلال القرون التي أعقبت الأحتلال العثماني .
ولكن في المقابل فأن الطريق المار بكركوك قد جرى أستخدامه من قبل الجيوش المحتلة والقوى المختلفة في حملاتها العسكرية و صراعاتها الطويلة على مدى القرون للسيطرة على هذه المنطقة أو درء الأخطار عن نفسها ، الأمر الذي نجم عنه الخراب والدمار على مختلف الأصعدة السياسية ، الإقتصادية، الإجتماعية ، والثقافية التي لا تزال كركوك تعاني من آثارها المريرة .
تشكل نهاية القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر ( فترة التنظيمات العثمانية) لحظة تاريخية مهمة بالنسبة لكركوك و كوردستان برمتها. و يرتبط ذلك أساسا بتخلي الدولة العثمانية عن سياستها السابقة في كوردستان ، نقصد بها سياسة ترك إدارة المناطق الكوردية بأيدي الزعماء القبليين والأقطاعيين المحليين الكورد لقاء إرسال الأموال سنويا الى الباب العالي وتقديم المقاتلين أثناء الحروب والحملات العسكرية والخطبة بإسم السلطان في جوامع كوردستان اثناء صلاة الجمعة. وقد إتبعت الدولة العثمانية هذه السياسة في أغلب مناطق كوردستان منذ معركة جالديران 1514 بينها و بين الدولة الصفوية . ولكن مع التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا وإكتشاف الدولة العثمانية لحقيقة تخلفها عن الأولى وقيامها ببعض الإصلاحات بهدف بقاء سيطرتها على المناطق المختلفة، قررت اللجوء الى الإدارة المباشرة للمناطق الخاضعة لسيطرتها بما فيها كوردستان . وقد تركت تلك السياسات العثمانية في كوردستان على مدى قرون ثلاثة أثارا جد عميقة على الأوضاع في كوردستان ، فهي ساهمت من جهة على بقاء الكورد عنصرا سائدا في مواطنه ومحافظا على ثقافته المحلية ولغته، لكنها ساهمت من جهة أخرى في ترسيخ حالة التفتت والتشرذم القبلي والأقطاعي الى حد كبير الأمر الذي لا يزال يعاني المجتمع الكوردي من آثاره الإجتماعية والسياسة والأقتصادية والثقافية المدمرة الى يومنا هذا .
وقدر تعلق الأمر بكركوك فإنها تحولت منذ منتصف القرن التاسع عشر الى مركز مهم للأدارة والجيش العثمانيين و تجنيد العساكر والموظفين الإداريين . ومع إستقرار الإدارة العثمانية وفئة الموظفين المدنيين والعسكريين فيها، بدأت عثمنة (أقرأ تتريك) جزء من السكان المحليين،لتبدأ بذلك عملية التغييرالديموغرافي القسري للسكان والتي ستصبح على مدى القرن والنصف التالي سمة رئيسية تصطبغ بها الحياة الإجتماعية والأقتصادية والثقافية والسياسية في كركوك المدينة و المنطقة (7) .
رغم ذلك لا نجد حتى نهاية القرن التاسع عشر مصدرا مهما يشير الى تغييرات كبيرة في التركيبة الأثنية للسكان. وهنا يجب التنويه مباشرة الى أنه لا يمكن التعويل كثيرا على الأرقام الواردة في كتابات الرحالة والمصادر المختلفة لانها تستند في أغلب الأحوال على التخمين لأناس لم يقضوا في أكثر الأحيان سوى أيام معدودة في كركوك أو في احد توابعها ، لذا فإن الإختلاف و التناقض الكبيرين ينتابان هذه الأرقام و المعطيات الى حد كبير . ولعل كليمان الذي زار المدينة عام 1856 أول من يعطينا تخمينا لعدد وتركبية سكان كركوك الذين يقدرهم عددهم بحوالي 25 ألف نسمة ( من دون الجنود العثمانيين الذين كانوا يتمركزون فيها)، مؤكدا في الوقت نفسه أن الكرد يشكلون ثلاثة أرباع سكان كركوك (8) .
من الجدير بالملاحظة أن أكثر الرحالة الذين مروا بكركوك و تحدثوا عن تركيبة سكانها لم يدخلوا الجنود و في أغلب الأحوال الموظفين المدنيين العثمانيين أيضا ضمن سكان المدينة ، بل عدوهم غرباء عنها سرعان ما يغادرونها بعد إنتهاء خدمتهم فيها ، بإستثناء من يتخلف منهم بسبب الروابط الإجتماعية أو المصالح الإقتصادية . فقد قدر المهندس الروسي يوسيب تشيرنيك الذي زار المدينة عام 1872 - 1873 بهدف دراسة إمكانية الملاحة في حوضي دجلة و الفرات ، قدر عدد سكان المدينة بين 12 - 15 ألف نسمة و أكد بأنهم جميعا من الكرد بإستثناء ( 40 ) عائلة مسيحية إعتبرهم خطأ من الأرمن . وهكذا نرى بأن التناقض تسود هذه المعطيات خاصة فيما يتعلق بعدد السكان و بقدر أقل قدر تعلق الأمر بتركبيتهم الأثنية . و يحدد شمس الدين سامي ، وهو مؤلف عثماني معروف من أصول ألبانية و من رواد الأدب التركي الحديث، في مصدر معتبر هو قاموس الأعلام العثماني عدد سكان كركوك ب 30 الفا في منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر مؤكدا في الوقت نفسه بأن الكرد يشكلون ثلاثة ارباعهم (9) .
سيشهد القرن العشرين أكبر عملية عبث بالديموغرافيا في كركوك على أيدي الحكومات العراقية المتعاقبة لتصل الى مرحلة التطهير العرقي بأبشع صوره على يد نظام صدام حسين ولتنحسر نسبة الكرد في كركوك الى 48 % في أواخر العهد المكلي و أقل من ذلك بكثير في العقود اللاحقة. لقد ساهمت ثروة كركوك النفطية في تعميق هذه التغييرات الديموغرافية، فقد تحولت المدينة الى مركز جذب مهم للسكان بعد إستخراج النفط فيها منذ منتصف الثلاثينات و بلغت الزيادة السكانية فيها نسبا عالية جدا بسبب الهجرة المستمرة اليها من مناطق الطرد السكاني. فقد بلغ عدد سكان مركز قضاء كركوك عام 1947 (67756 ) شخصا،كان أكثر من 18 ألفا منهم من مواليد الألوية الأخرى، بينما وصل هذا الرقم الى حوالي 20 ألفا حسب إحصاء عام 1957 بينهم عدد من مواليد الدول العربية أيضا .
من المفيد أن نشير هنا الى أنه وبعد إنقضاء أربعة عقود كاملة من زوال الحكم العثماني عن العراق كان لا يزال في مركز قضاء كركوك 1353 شخصا من مواليد تركيا حسب إحصاء عام 1957. ويؤكد الرقم الأخير حقيقة طالما حاولت جهات عديدة أن تنكرها لأسباب غير منطقية ونقصد بها سياسة إسكان الموظفين المدنيين والعسكريين الترك في المدينة من قبل سلطات الإحتلال البريطاني بعد هزيمة الدولة العثمانية وإحتلال الأنجليز للمدينة(10 ). لقد برر
البريطانيون الأمر بحاجتهم الى اولئك الموظفين و الأستعانة بهم لإدارة امور اللواء . لقد استغل الأنجليز هذا الأمر بطريقة كانت تهدف دوما الى تهميش السكان الكرد في المدينة و اضعاف دورهم في ادارتها و في الحياة الأقتصادية و السياسية و الثقافية فيها بسبب مطالبة الكرد انذاك بالدولة الكردية المستقلة . استمرت عمليات الهجرة الى كركوك خلال العقود التي اعقبت ذلك باعداد كبيرة وتشير المصادر الى أن عدد المهاجرين الى كركوك خلال 1947 - 1957 فقط بلغ 39 الف مهاجر(11) .
وهناك حقيقة أخرى لا يخلو منها مصدر معتبر او مرجع رصين و هي إعتبار كركوك ضمن أراضي كوردستان قبل وبعد قيام الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي. إذ تشير الموسوعة البريطانية الى أن مدينة كركوك تقع عند أقدام جبال زاكروس في كوردستان العراق(12) . كما تشير الموسوعة الفرنسية الكبرى الى أن كركوك تعد من أهم المدن في كوردستان الجنوبية وتتمتع بأراض خصبة و تصلها المصادر المائية المختلفة (13 ) .
خلال العقود الأربعة الأخيرة ومع تنامي حملات التعريب وحملات الأنفال والتطهير العرقي تنامت الدعوات والمحاولات لفصل كركوك عن محيطها الجغرافي و الثقافي الطبيعي من خلال الإجراءات القسرية وتشويه حقائق التاريخ و الجغرافيا . لقد أثبتت تجارب التاريخ فشل مثل هذه المحاولات والدعوات في كركوك و في غير كركوك . في المقابل أظهر سكان كركوك الأصلاء كما كبيرا من التسامح والروح الإنسانية النبيلة لقبر جميع المحاولات التي كانت تهدف الى تحويل مدينتهم الحضارية الى ساحة للصراع و العنف و البربرية .
الهوامش و المصادر :
*) ورقة قدمت في ندوة كركوك بلندن بتاريخ 24 أيلول 2005 .
1. للمزيد من المعلومات في هذا الباب يراجع : J.H.Kramers & Th.Bois ,Kirkuk, The Encyclopaedia of Islam,new edition. Vol.V. Leiden 1986.PP.144-147. : د.كمال مظهر أحمد،كركوك و توابعها - حكم التأريخ و الضمير ، ج1 ، بلا.م ، ص 5-26 .
2. . د.كمال مظهر أحمد ، المصدر نفسه ، ص 19 .
3. Kramers J.H, Th.Bois, Kirkuk , The Incyclopaedia of Islam. vol.V, p.144
4. صبحي ساعتجي ، شذى التاريخ في أحياء كركوك ، إيلاف 14 تموز 2005 .
5. ج. أوتير ، رحلة الى تركيا و بلاد فارس ، باريس 1748 ، ص150 ؛ نقلا عن : د.هلكوت حكيم ، كركوك في كتابات الرحالة الفرنسيين ، في كتاب : كركوك مدينة القوميات المتاخية ص 143 .
6. د.هلكوت حكيم ، المصدر نفسه ، ص 141 -142 .
7. للتفاصيل راجع مقالنا المطول: كركوك : قرن و نصف من التتريك و التعريب ، المنشور في (الملف العراقي ) ،العدد 99 ، اذار 2000 ، ص 42-46 ؛وكذلك بحثنا الموسوم ، السياسات الحكومية في كركوك خلال العهد الملكي (1921 - 1958 ) ،في كتاب: كركوك ، مدينة القوميات المتآخية ،لندن 2002 . ص 151- 189 .
8. أ . كليمان ، رحلة الى كوردستان العثمانية ، من كركوك الى رواندوز ، مجلة كلوب ، باريس 1866 ، المجلد الخامس .ص 199 ، نقلا عن د.هلكوت حكيم ، نفس المصدر ، ص 143 .
9. للتفاصيل راجع دراستنا : التكوين الأثني لسكان كركوك ( خلال الفترة 1850 - 1958 ) ، في كتاب : كركوك مدينة القوميات المتاخية ، ص 256-272 .
10. وزارة الداخلية ، مديرية النفوس العامة ، المجموعة الإحصائية لتسجيل السكان لسنة 1957 مطبعة العاني ، بغداد 1963 ، للوائي السليمانية و كركوك - ، ص 241.
11. الدكتور أحمد نجم الدين ، أحوال السكان في العراق ،القاهرة 1970 ، ص 109 ، نقلا عن : الدكتور نوري طالباني ، منطقة كركوك و محاولات تغيير واقعها القومي ، ط2 ، بلا.م،1999 ص 49.
12. Encyclopaedia Britannica, Kirkuk
13. الموسوعة الكبرى،الجزء 31 ، تور 1885 ، ص 485 ،نقلا عن د. هلكوت حكيم ،المصدر نفسه، ص 142 .
shad-kurdistan@hotmail.com