المثقف الشيعي وثقافة الحقوق ....... غالب حسن الشابندر
المثقف الشيعي وثقافة الحقوق
غالب حسن الشابندر
بصرف النظر عن التعريفات الدارجة فيما يخص هذه المصطلح ، فإن الثقافة بما تعنيه من فكر ، وتقاليد ، وعادات ، وأنسقة تفكير ، تشكل الحقيقة الخافية للجماعات ، والأحزاب ، والشعوب ، والحركات ، بل هي باطن التاريخ ، ومن هنا ، فإن تشخيص المشاكل وطرح الحلول بالنسبة للمجتمعات ، و الطوائف ، والأفراد ، والأحزاب ، إنّما تبدأ من تحليل ونقد وتفكيك النظام الثقافي ، ونقد الثقافة .
ثقافة المسلمين الشيعة بشكل عام هي ثقافة عقيدة بالدرجة الأولى ، تركّز على النسق العقدي الخاص بأهلها ، وقد كيّفت المنطق والتاريخ لخدمة هذه العقيدة بغض النظر عن تقييمها الموضوعي والعلمي ، متواصلة بطبيعة الحال مع الإيمان ، الإيمان العميق ، وقد كان للخوف دوره في هذا التوجه ، وهو خوف مشروع ، لأن عقيدة الإنسان أثمن ما يملكه في هذه الحياة ، والاضطهاد كان له دوره هو الأخر في هذا الحصر الثقافي إلى حد ملموس ، فالمضطهد قد ينكب على الثقافة العقدية أكثر مما ينكب على الثقافة السياسية ، أو على الثقافة الحقوقية ،يلوذ بالعقيدة ، يلتف حولها ، يحميها وتحميه .
هذا الموقف صائب ، بل هو ضروري سواء كان هنا ك خوف أو أمان ، سواء كان هناك اضطهاد أو لم يكن ، لان عمر الإنسان عقيدته ، ولكن ليس على نحو المطلق . فإن ثقافة العقيدة مطلب جوهري ، وهو حق ، شرط أن لا ينسينا ثقافة الحقوق ، ولماذا نفصل بين ثقافة العقيدة و ثقافة الحقوق ؟ .
لقد عاش الشيعة عبر التاريخ نوعين من المأساة بشكل عام ، المأساة الأولى ، مأساة الحذف العقدي ، فهم من أتباع ذلك اليهودي المتآمر ، لا يحق لهم ممارسة عقائدهم بحرية ، يخافون الصلاة كما يؤمنون ، كما ثبت لهم في شريعة نبيهم ، والمأساة الثانية هي مأساة الحذف الوجودي ، تجسّد بأنهار الدم في العصر الأموي والعباسي والعثماني والمملوكي و ( الوطني ) ، فضلا عن حرمان المسلم الشيعي من الوظائف المهمة ، ودرجه في خانة الإنسان الهامشي ، الذي يجب أن يكون مواطنا من الدرجة الثانية ، و التاريخ يشهد ، بأن ليس هناك ارتباطا دائماً ومصيرياً بين النوعين من المأساة ، فيما حصل ذلك بالنسبة للشيعة ، فإن الحذف ا لعقدي الذي يرجع إلى مئات السنين تحول إلى حذف وجودي بامتياز ، لقد تحول الجزئي إلى كلي ، من العقل إلى الوجود ، إنّ الحذف العقدي كان بداية ، ثم تحول إلى حذف وجودي ، رغم عدم العلاقة الضرورية بينهما على صعيد المنطق المجرّد ، ولم يلتفت الشيعة إلى هذه النقطة المهمة ، وانصبت الجهود على حماية العقيدة ، فهل كان هناك شعور داخلي بأن حماية العقيدة يعني حماية حملتها من القتل والإبادة والتهميش ؟
على أن هناك نقطة جديرة بالانتباه ، العقيدة تصمم المجتمعات والطوائف والأحزاب من الداخل ، لأنها البعد ( الجواني ) من هذه الكيانات والكتل البشرية ، وكان من المفروض أن يتحوٍّل التنزيه الإلهي في ثقافة الشيعة ( صفات الله عين ذاته ، عصمة الرسول وعصمة إئمتهم ، العدالة ا لمهدوية المنتظرة ... ) ... أ ن تتحول إلى عينات حقوقية في الخارج ، أي أن تكون عبارة عن حركة مادية على صعيد الحقوق ، حقوقهم ، فضلا عن حقوق الإنسان بشكل عام ، ولكنَّها للأسف الشديد تخلَّفت عن أداء هذا الدور على الأرض ، فيما نجد أن خطب علي بن أبي طالب تتميز بإبراز ثقافة الحقوق ( وصية الأشتر ... ) ، ولماذا ننسى وتلك هي وصايا الأمام الجميل علي بن الحسين السجاد تجسد روحها بمشروع الحقوق قبل أي شي آخر ، حق الله ، وحق النفس، وحق الراعي والرعية ، وحق الآخر ...!
تلك هي ترشحات العقيدة على لسان أهلها الأولين !
أعتقد أن هذا التخلف بين ثقافة العقيدة من جهة وثقافة الحقوق من جهة أُخرى رغم شبه العلاقة ا لعضوية أو المنطقية بينهما بالنسبة للشيعة إنما كان بسبب عدم تبحرهم في فهم تلكم العقيدة التنزيهية ، لم يعكسوا ذلك على الصعيد المادي ، كانت ثقافة حوارية مع العقل ، حوار مع المفاهيم ، فيما تحولت عقيدة ( التجسيم ) لدى الأخ الطرف السني إلى فعل ( تجسيمي ) حقوقي على الأرض .
نعم لقد كانت هناك ثورات شيعية ، ولكنها ثورات عاطفية في أغلب الأحيان ، ولم تصدر عن ثقافة الحقوق المبرمجة في نسق فكري متغلغل في الضمير ، كانت عاطفة وليس ثورة ، كانت رد فعل على الظلم و الطغيان ، وليس ثورات ذات نسقية فكرية تتقوَّم بثقافة الحقوق .
كان بإمكان التنزيه الشيعي أن يتحول إلى ثورة مادية على الأرض ، ثورة حقوق ، تماما كما تحول التوحيد في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله ، بل كما هو التوحيد كما يطرحه القرآن الكريم ، فهو فكر تنزيهي بالدرجة الأولى ، ولكن تحول إلى طاقة حقوقية عارمة على الأرض . وكان ذلك من أهم العوامل التي شيَّدت الحضارة الإسلامية و أمدّدتها بالقوة والمنعة والاستمرار .
أن الدفاع عن الحقوق على الأرض لا يتم بالدفاع عن العقيدة ، كلاهما له مجاله وأساليبه ، والذي غرقنا به هو الدفاع العقدي ،فما كان إلاّ أن أُستغِلَّ هذا الجدب على صعيد الدفاع الحقوقي ، كان بالإمكان أن تتحول إلى نضال في سبيل الحقوق بشكل عام ،حقوقهم ، وحقوق الأخ السني فيما إذا تعرض للظلم ، وحقوق الأخ المسيحي الذي يُضطهد باسم التوحيد ، وحقوق الأخ اليهودي الذي يضطهد بجريرة الصهيونية في كثير من الأحيان ، وحقوق الأخ البوذي الذي يذبح بتهمة الشرك . حقوق كل إنسان مهمش ، حتى لو كانت ( مومس ) زقاق قذر ، فضلا عن ( مومس ) صالونات و بلاطات ، فهي لها أيضا حقوقها المهضومة ، بل هي أكثر بني البشر تعرضا للظلم ...
ثقافة المسلمين الشيعة يجب أن تتخطى ثقافة العقيدة ، لتتواصل مع ثقافة الحقوق ، حقوق اجتماعية واقتصادية وسياسية ، ليست ثقافة تشقيق وتفصيل عقائديين وحسب ، بل ثقافة حقوق طبيعية أولا ، وثقافة حقوق مهضومة ثانيا ، ثقافة مطالبة بهذه الحقوق ثالثا ، ومن ثم يجب أن يتحولوا إلى دعاة حقوق ، بلا فصل ، بلا تمييز ، لكل الناس ، فأن أي إنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق .
يتبع