الخطر الأعظم وفتاوى السلطان .. ........... د. حسن حنفي
الخطر الأعظم وفتاوى السلطان
GMT 20:30:00 2006 الجمعة 8 سبتمبر
الاتحاد الاماراتية
--------------------------------------------------------------------------------
السبت: 2006.09.09
د. حسن حنفي
الفتوى جزء من النظام التشريعي الإسلامي. عرض له علماء أصول الفقه في باب "المفتي والمستفتي" كما فعل الشاطبي في "الموافقات". وهي ممارسة فعلية للاجتهاد كمبدأ عام. ولها أبلغ الأثر في سلوك الناس لأنها هي التي تعطيه شرعيته. ويطيعها الناس أكثر من طاعتهم للقوانين أحياناً. فهي تتعلق بالضمير والسلوك القويم، والخوف من الله في اليوم الآخر، وتجنب عذاب النار. أي أنها ذات بعد ديني.
فإذا ما تعلقت الفتوى بالشأن العام، ما تعم به البلوى، فإنها في هذه الحالة تتقاطع مع المواقف السياسية. لا يجوز للأفراد القيام بها بل فقط مجامع البحوث الفقهية أي الجماعة، أهل الحل والعقد أي أهل الاختصاص. فقضايا الحرب والسلام مهمة مجالس الأمن القومي. وقضايا الغنى والفقر مهمة الجمعيات الوطنية للاقتصاد والتشريع. وقضية شرعية النظام السياسي مهمة المحكمة الدستورية العليا.
ومنذ أن فقد بعض علماء الأمة استقلالهم وأصبحوا موظفين في الدول ومؤسساتها الدينية مثل دور الإفتاء، فإنهم في الغالب يبررون قرارات السلطان إلا فيما ندر. هم جزء من جهاز الدولة مثل الجيش والمجالس النيابية والإعلام والتعليم. وفي الخلافات السياسية داخل جهاز الدولة أو بين الدولة وخصومها السياسيين أي المعارضة، أو بين الدول فيما بينها. تصبح الفتوى سلاحاً سياسياً لنصرة هذا الفريق أو ذاك، ولتأييد هذا النظام السياسي أو ذاك، ولتبرير موقف هذه الدولة أو تلك من القضايا الكبرى. فيتحول الخلاف السياسي إلى خلاف ديني. وتزداد الأمة فرقة وتشتتاً بل وتكفيراً متبادلاً. فهي فتاوى قد لا تكون لوجه الله ولا لمصلحة المسلمين بالضرورة. وقد لا تكون خالية من الأهواء وبالتالي تكون كلها باطلة لأنها أقرب إلى الميل منها إلى الحق (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض).
والفتوى التي صدرت مثلاً من بعض الفقهاء بتحريم مناصرة "حزب الله" فتوى أراها غير مبررة منهجاً وموضوعاً، قصداً وهدفاً وغاية. فهي تبدأ من النص، وعادة ما تبدأ الفتاوى بالواقع. لذلك يسميها علماء المغرب "النوازل" أي ما يقع للمسلمين من حوادث ومصائب ومآسٍ مثل العدوان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين. فالبداية بالنص تتوقف على اختيار النصوص. وكل مفتٍ يختار النص الذي يحقق أهدافه. والنصوص متشابهة. إنما تقوم الفتوى على تحليل العلل في الفرع ومعرفة مدى اتفاقها مع العلل المذكورة في الأصل وهو النص. وهو تحليل للواقع يقوم به المختصون في العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلاقات الدولية. بل إن فهم الأصل وهو النص يعتمد على منطق لغوي مُحكم يفرق بين الحقيقة والمجاز، والظاهر والمؤول، والمحكَم والمتشابه، والمجمل والمبيَّن، والعام والخاص، والأمر والنهي، وفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، إلى آخر ما يعرفه علماء الأصول. ولا يُترك لسوء التأويل والأغراض الشخصية وأهواء المفتِين.
ولا تتعلق الفتوى بالماضي بل بالحاضر. والحكم على "حزب الله" بأنه "رافضي" أسوة بـ"الرافضة" أيام الفتنة الكبرى إنكار لتغير الزمان والعصر. والحكم عليه بأنه "صفوي فارسي" إنما هو نكء للجراح التاريخية والعرقية والمذهبية، وتضحية بالحاضر ومآسيه. فلكل عصر أحكامه. والحكم الحاضر يدرأ خطأ ماثلاً في الحاضر، وملحاً في العصر. يدرأ المفاسد، ويجلب المصالح، ويغلِّب العاجل على الآجل. ولو كان هناك خطر شيعي من محور إيران والعراق وسوريا ولبنان فإنه ليس خطراً عاجلاً. وقد يكون وهماً. إنما الخطر العاجل هو العدوان الصهيوني على فلسطين ولبنان، والأميركي على العراق وأفغانستان، والروسي على الشيشان. وهو ما يحدث الآن حيث تسيل الدماء كل يوم. ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ كل يوم، ويتم تدمير البنية التحتية للبنان وفلسطين. هذا هو الخطر العاجل الذي تتصدى له الفتاوى.
وغرض الفتوى توحيد الأمة، وتجميع قواها وحشد طاقاتها ضد الغزو والعدوان وليس تفرقتها إلى سُني وشيعي، "رافضي" وإباضي، سلفي وعلماني... الخ. فالموت لا يفرق بين المذاهب والطوائف والديانات. وطالما سعت الاتجاهات الإصلاحية المعاصرة إلى التقريب بين المذاهب منذ الشيخ شلتوت، والإمام القُمي، ومجلة "التقريب". وإن تغليب التناقض الرئيسي بين مصلحة الأمة لا فرق فيها بين عرب وعجم وترك على التناقض الثانوي والخلافات بين الأقطار العربية والإسلامية أقرب إلى روح الشرع الذي ينتصر للمظلوم ضد الظالم.
ولا يجوز قياس شيعة لبنان على شيعة العراق. فلكل طائفة ظروفها التاريخية والسياسية والاجتماعية. لقد عانى شيعة العراق من النظام العراقي السابق وكانوا ثواراً عليه. في حين أن شيعة لبنان جزء من الحركة الوطنية اللبنانية ومن نسيج الشعب اللبناني. وإذا أخطأ شيعة العراق أو سُنته أو أكراده فإن ذلك لا يعني خطأ شيعة لبنان. ومجموع الخطأين لا يكوِّن صواباً.
وإن قسمة الوطن في العراق أو لبنان أو دول الخليج إلى سُنة وشيعة هو وقوع في التصور الطائفي ومشروع الشرق الأوسط الجديد الأميركي. فالوطن واحد بصرف النظر عن طوائفه العرقية والمذهبية. والمواطنون مواطنون بصرف النظر عن أصولهم الطائفية. هكذا قرر مؤتمر "الطائف" للمصالحة اللبنانية بعد الحرب الأهلية. "حزب الله" ليس شيعياً طائفياً بل يمثل، من وجهة نظر كثيرين، المقاومة الوطنية اللبنانية. تقاوم فيه كل ألوان الطيف السياسي الناصري والماركسي والمسيحي والسلفي والعلماني. هويته وطنية وليست طائفية. كان الشاه شيعياً. وكانت أميركا تريد إدخاله في حلف إسلامي مع دول سٌنية للدفاع عن المصالح الأميركية ومحاصرة القومية العربية في مصر وسوريا واليمن والجزائر. ولم يقل أحد من العلماء إن شاه إيران شيعي.
إن فقه الواقع يقرر أن الخطر الأعظم على الأمة الآن هو الخطر الصهيوني الأميركي ومشروع الشرق الأوسط الجديد والعدوان على لبنان وفلسطين والعراق مما يستوجب شحذ طاقات الأمة كلها عربية وإسلامية لدرء العدوان وتحرير الأرض. فقد دافع لبنان كله عن بيروت ضد محاولة غزوها في 1982. وحررت المقاومة اللبنانية الجنوب المحتل في 2000. وها هي الآن مرة ثانية تدافع عن لبنان كله مع الشعب اللبناني ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان كله وتدمير البنية التحتية وقتل المدنيين وهدم المنازل والمستشفيات والمساجد والكنائس بعدما عجز عن مواجهة المقاومة وجهاً لوجه على الأرض في الجنوب.
كل من قال "لا إله إلا الله" فهو مسلم، دمه وماله في عصمة المسلمين. فلا يجوز تكفير المسلم أو استبعاده وإخراجه من حظيرة المسلمين. والإسلام يناصر كل مظلوم معتدى عليه بصرف النظر عن دينه وطائفته ومذهبه وعرقه كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في "حلف الفضول". الإسلام مع الحرية والعدل في كل مكان وليس فقط على أراضي المسلمين.
على فقهاء الأمة مراعاة ضمائرهم وإصدار فتاويهم دفاعاً عن مصالح الأمة وليس لتبرير المواقف السياسية. وعليهم أن يختاروا بين المصالح العامة والخطر العاجل ومسؤوليتهم عن دماء الأبرياء، وبين المصالح الخاصة للنظم.