العراق: الفيدرالية ومخاوف التقسيم
العراق: الفيدرالية ومخاوف التقسيم
أثار إقرار قانون الاجراءات التتنفيذية لتشكيل الاقاليم جدلاً وتقاطعات حادة بين القوى السياسية العراقية، وامتد الاهتمام به اقليمياً ودولياً، بدءا من الداخل حيث اعتراضات واتهامات متبادلة بين الفرقاء السياسيين في البرلمان، ونهاية بانفراط عقد الضبط الحزبي بين الكتل السياسية.
وبرغم تعدد القوى التي ناوأت مشروع الفيدراليات، الا انها لم تستطع التوحد لإسقاطه بسبب انطلاقها في رفضه من ارضيات مختلفة. فجبهة التوافق السنية ترفض المشروع وتعتبره تهديداً لوحدة العراق وتكريس لنفوذ اجنبي، الا انها اتهمت بأنها وافقت على المشروع مقابل صفقة تمريره مع تنفيذ المادة 142 القاضية بمراجعة الدستور، فيما كان قد تم التوصل معها الى تسوية وسطية حول مدة نفاذ او الشروع بتشكيل الاقاليم بتقييدها بسنة ونصف من تاريخ الاقرار. وتم ايضاً في اليومين الأخيرين قبل التصويت ادخال قيد آخر نتيجة ضغط من الفرقاء السياسيين ونصائح من الأمم المتحدة والاطراف الدولية النافذة، وذلك باشتراط ان لا يكون الاستفتاء ناجحاً إلا بمشاركة نصف الناخبين المسجلين وليس المصوتين، وهذا ما قيد الاقرار بأكبر مشاركة مجتمعية تستطيع أن تعبر عن نفسها سلباً بالعزوف عن التصويت لإسقاطه. وفي حين ان الكتلتين الناشزتين عن اجماع الائتلاف، وهما الفضيلة والتيار الصدري، يختلفان في رفضهم للمشروع، فالتيار الصدري يرفض الفيدرالية ليس لذاتها، وانما يرفضها في ظل الاحتلال، في حين ان الفضيلة طرح مشروعاً مقابلاً ان تكون فيدرالية المحافظات، اي يكون العراق ثماني عشرة فيدرالية، ودخل في مساومات اللحظة الأخيرة واشترط كثمن لدخوله التصويت ان تعدل آلية اتخاذ القرار في الائتلاف حول شكل الفيدرالية اللاحق، لكي تكون بالإجماع، لكي يبقي بين يديه حق النقض، الا ان الذي حسم اقرار القانون وجنب الائتلاف وضع رقبته بيد مساومي اللحظة الاخيرة، اشتراك بعض اعضاء القائمة العراقية بخلاف رغبة قائدها اياد علاوي في التصويت على القرار، والذين كان حضورهم وللامانة مفيدا، حيث عدل من بعض فقرات القانون ومنع من التراجع عن التنازلات التي وجد الائتلاف نفسه في حل منها لنكوص الطرف المقابل.
الا انه وردت اعتراضات جدية وواسعة على التوقيت، وعلى سلم اولويات الوطن الجريح وجدوى الانشغال بصراعات مبكرة وضخ عوامل فرقة لواقع متشرذم اصلاً، ولكن الرد على ذلك هو أن البرلمان كان امام استحقاق دستوري لا بد من انجازه خلال ستة شهور من اول انعقاده، ثم ثانياً ان اقرار القانون لا يعني تنفيذه، لأن هناك مدة الثمانية عشر شهراً التي وضعت كضمانة لتجاوز الظروف الراهنة الصعبة، وثالثاً ان هذه الفترة ستكون انتقالية تمر فيها المحافظات باللامركزية الادارية وفقاً للدستور، وهي فترة اختبار حقيقي اذا وجد المواطنون فيها ان سلطاتهم المحلية فشلت في حسن ادارة شؤونهم، كما هو حاصل الآن فعلاً، فإنهم بالقطع لن يذهبوا الى اعطائها سلطات اوسع واستقلال اكبر عن المركز بالتصويت على الفيدرالية، ورابعاً ان لجنة اعادة النظر بالدستور ستنجز اعمالها وتستفتي الشعب على تعديلاتها خلال سنة اي ستة شهور قبل الشروع بإقرار الفيدراليات.
ومع ذلك فالإيجابي في هذا التصويت انه لأول مرة يتم الاصطفاف وفقاً للقضايا وليس على اسس طائفية او قومية، فوجدنا أطراف من الائتلاف الشيعي تقف مع التوافق السنية في رفضها للمشروع، في حين تحالف الائتلاف مع الاكراد بعلمانييهم واسلامييهم على انجاحه مدعومين بثلث القائمة العراقية ممثلة بالكتلة الشيوعية فيها، وكتلة البصرة وعدد من الشخصيات الليبرالية.
المتخوفون من الفيدرالية يوردون مبرراً يثير الفزع داخلياً ويلقى صدى ويحرض ضدها اقليمياً بأنها ستؤدي الى تقسيم العراق، ولا جدوى في الرد بالاستشهاد بالتجارب العالمية للفيدراليات في الانظمة الديمقراطية، وبأنها تجارب نجاح ولا توجد من بينها تجربة انفصال، او بالدفع بأن العنف سيحرق العراق، او التمسك بإعادة المعادلة المختلة السابقة، او رفض الاحتكام لما تفرزه الديمقراطية باعتبارها لدى البعض اوصلت الى الطريق المسدود.
لذا سأركز على مسألة واحدة معتقداً بأنها ستمثل الرابط لوحدة العراق واللاصق الذي سيبقيه موحداً بغض النظر عن النظم الادراية التي سيتبناها، وهي مركزية امتلاك وادارة الموارد، آخذين بنظر الاعتبار انتفاء التمايزات الواضحة ما بين العرب السنة والشيعة، فيما يتعلق بمسألة الهوية، وخفوت التقاطعات فيها مع الاكراد بسبب تاريخ العيش الطويل، وتداخل المصالح ومشترك الثقافة والاسلام ووحدة الماضي، ونأمل كذلك المستقبل. لذا تعود مسألة الانفصال بحثاً عن التمايز في الهوية او للتعبير عنها ضعيفة ومستبعدة في الحالة العراقية، سيما وان الديمقراطية وحرية التعبير تكفلت بطمأنة هذا الانشغال.
فلو تلفتنا حولنا واستمعنا الى رغبات الانفصال واستعدنا تاريخ أغلب حالات الانفصال، نجد انها رغبات قام بها جزء غني، يريد ان يتخفف من آخر فقير، فحركة الاستقلال في كشمير الهندية، لا يمكن فهمها كحركة انفصالية اسلامية فقط بدون ملاحظة ان اقليمها هو الأغنى في الهند. وفي البرازيل يشكو سكان الأقاليم الغنية في جنوب البلاد من تحمل أعباء تقديم المعونات المالية للشمال الفقير، ويرى قادة انفصاليون هناك ان الانفصال هو الحل الوحيد الذي سيتيح للبرازيل مغادرة التخلف. اما في المكسيك فهناك شمال متطور ديمقراطي مرفه نسبياً، يشكو من جنوب هندي فقير للغاية. وفي الاتحاد السوفيتي فقد انفصلت بعض الجمهوريات للتخفف من اعباء اخرى فقيرة، كذلك يمكن الافتراض ان رغبة جنوب السودان في الاستقلال عن الخرطوم، لا تستند الى اسباب عرقية ودينية فقط، وانما ايضاً لكون مصدر الثراء النفطي للبلد يقع في الجنوب. فالملاحظ هنا وفي العقود الاخيرة، هو استبدل الانفصال من اجل الحرية بالانفصال من اجل الرفاهية، فقد استخدم التشيك الذين يعيشون برفاه اكبر الخطاب الوطني للتخلص من سلوفاكيا، ويؤكد ذلك ايضاً حلم الانضمام الى الرفاه الاوروبي الساعية له دول اوروبا الشرقية الفقيرة، حتى في ايطاليا هناك حركات شعبية تريد فصل الشمال الصناعي الثري المتطور عن الجنوب عديم الانتاج، وكذا في اسبانيا نجد ان النزعات القومية الاقليمية هي اكثر في الاقليمين الاكثر ازدهاراً كاتلونيا والباسك، انه السباق نحو الرفاه والاستهلاك المحرك الجديد للتاريخ.
لذا تأسيساً على ذلك فإن حرص القوى الشيعية، وقبلها اصرار المرجعية، وهي التي تختزن مناطقها اغلب ثروات العراق النفطية على جعل تملك وادارة الثروة من صلاحيات المركز وتثبيتها لذلك دستورياً ورفضها لدعوات اعطاء الاقليم النفطي 60% من موارده، يؤكد على رغبة اصيلة ودليل واقعي في الابقاء على عراق موحد، وهذا ما يجب ان تصدق النوايا على اقراره، كونه يمثل رابط المصلحة الذي سيمنع العراق من التفكك.