محاكمة صدام ... بين الغاية والوسيلة
كتابات - راسم المرواني
أذكر مرة - قبل سقوط الطاغية - أن أحد أصدقائي أخبرني بأن ( صدام ) مصاب بالسرطان ، وهو على وشك الموت ، أو هو ميت سريرياً ، ورغم أن الخبر أخذ بمقاليد نفسي وأفرحني في حينها ، ولكني لم أصدق محتواه ، ذلك لأنني كنت انتظر العدل الإلهي ، وأعرف أن لله محكمة في الدنيا قبل الآخرة ، وأعرف أن صدام – في وقتها – ليس مؤهلاً للموت ، لأن موته بالسرطان هو خلاف وعد الله الحق ، فأنا – وكثير كثير غيري – يفهمون أن صدام آيل للخزي في الحياة الدنيا ، وكنت أعرف – اعتماداً على عدل الله – أن صدام لابد أن يجد حرقة الذل بما أذل الناس ، ولا بد أن يحس بمرارة قتل أولاده كما أحسها العراقيون في حربين تافهتين ، وعليه أن يحس بثكل نساءه وبناته كما رمل نساء الشهداء ، وعليه أن يتذوق طعم مستقبل بناته بما أوصل له العراقيات في زمن ما ، وكان لله الأمر ، وأذيق هذا الفاسد كل ما وعد الله به الظالمين والمتجبرين من الخزي .
البعض يرمي كرة محاكمة صدام في ملعب السياسة ، ويدعي أنها محكمة سياسية أكثر من كونها قضائية ، وهذا في الحقيقة نوع من أنواع التهافت ، ذلك لأن القضية ( موضوع المحاكمة ) هي محض جناية وجنحة مخلة بالشرف ، وهي - بعد - تحمل ملامح الصبغة السياسية الواضحة لأنها تتعلق بقرار سياسي كارثي أدى إلى إعدام شريحة واسعة من أبناء ألشعب ، وتتعلق بأسلوب سياسي في التعامل مع العراقيين ، أما مسألة التوقيت مع الانتخابات الأمريكية ، فهذه مسألة لا تعنينا البتة ، وحتى لو تم توظيف المحاكمة والحكم لهذه الجهة ، فالغاية عندنا أن تهدأ أسارير المساكين ، ويشعر المستضعفون أن لله يداً تقتص لهم من الباطل ، وهي أشبه بما يتردد من المثل العراقي الدارج والمشهور ( كلب الله على عدو الله ) ، وهنا يمكن أن نتصور الحكم على صدام بالإعدام شنقاً حتى الموت على أنه شبيه بنزول المطر ( على أرض عطشى ) ولكن ليس في موسم تساقط المطر ، ومادامت الأرض عطشى فليس من الحق أن نقول للسماء لا تمطري !!! لأنك خرقت مواقيت المواسم ، وقريب من هذا المعنى فإن انتصار رسول الله (صلى الله عليه وآله ) على قريش ، وكسر شوكتهم ، كان يمثل – عرضياً – نصراً لليهود الذين ( كانوا يستفتحون ) على قريش بقدوم من يكسر شوكتهم ، وبالتالي فالحكم على صدام يمثل نصراً للإنسانية ، ولو أنه قد يتم توظيفه للدعاية الانتخابية الأمريكية ، ووشيكاً ستدفع - حتى - أمريكا ثمن جرائمها في عموم الأرض .
وبأقل تقدير ، فالحكم على صدام ، استطاع أن يفرز أوراق البرلمانيين والساسة البعثيين الإرهابيين ، واستطاع أن يستفزهم ليخرجوا من جحورهم ، وأن يعلنوا عن أنفسهم ، بعد أن كانوا يطلقون التصريحات والشعارات الجوفاء ، والتي سبق وأن حذرنا منها ، ولكن لا حياة لمن تنادي .
البعض يبرر أعمال صدام الإجرامية ، ويلقيها في خانة (التصدي للعملاء والمؤامرات الخارجية) متناسياً عدد النساء والأطفال الأبرياء في المقابر الجماعية ، والآن دعونا نتنزل إلى إسفاف هؤلاء وادعاءاتهم ، ونقول لهم بأننا سنفترض أن ما جرى في الدجيل والأنفال وغيرها من المناطق والمجازر والمقابر الجماعية هو عمل ضد جماعات مدعومة من الخارج ، والتصدي لأجندات انفصالية - رغم أننا لا نحترم هذه الآراء ، ولكن نتنزل إليها لفرض المحال - فبوسعنا أن نقدم أنموذجاً من نماذج جرائم صدام التي لا تمتلك أي غطاء أو تبرير قانوني أو إنساني ، وهو إعدامه للسيد – الأستاذ المفكر والفيلسوف الإسلامي - محمد باقر الصدر وأخته العلوية الطاهرة بنت الهدى ، وهما أنموذجان عربيان عراقيان لا علاقة لهما بأية أجندة دولية أو إقليمية ، وليس لهما علاقة بأية تنظيمات خارجية ، لا إيران ولا سوريا ولا الكويت ولا أمريكا ولا جيبوتي ولا غيرها ، فهما عراقيان محضان كانا يعملان على وفق الفكر والإصلاح والتجديد ، وقد قام صدام بتنفيذ حكم الإعدام – دون محاكمة وبشكل شخصي وارتجالي - بحق محمد باقر الصدر وأخته العلوية الطاهرة ( بنفسه ) وبمسدسه الخاص ، وهذا وحده يستحق الإعدام لأنه قتل مع سبق الإصرار والترصد .
وإذا ما أخذنا مسألة تصفية المولى المقدس ( محمد محمد صادق الصدر ) فالمشكلة أمام ( أصدقاء صدام ) ستكون أعقد ، فالمعروف أن السيد الشهيد محمد الصدر (عليه صلوات من ربه ورحمة ) لم يكن مؤسساً لحزب ، وعلاقته بالمرجعية الساكتة في العراق وخارجها معروفة الملامح من حيث الاختلاف في وجهات النظر- راجع خطبته الأخيرة من منبر مسجد الكوفة - ولم يكن يحمل السلاح ، ولم يدفع بأتباعه ومحبيه ( من المسلمين الشيعة والسنة ) إلا لبناء النفس والوحدة والتخلص من العبودية ، وليس بوسع الباحث أن ينكر أن المولى المقدس كان يتبنى مشروعاً إصلاحياً لعموم المجتمع ، فعملية تصفيته الجسدية ونجليه هي جريمة مدنية من الدرجة الأولى مع سبق الإصراروالترصد وحكمها الإعدام ، ويمكن جر المسألة إلى إعدام الشيخ عبد العزيز البدري وغيره من العلماء ( المسلمين السنة والشيعة ) من الذين لا علاقة لهم بالخارج ، ولا أجندات لديهم سوى أجندة الإصلاح ، وليس هناك أية فقرة في الدستور المؤقت أو الدائم أو القانون العراقي تمنح صدام وسلطته المافيوية حق إعدام حملة راية الإصلاح .
كل التصريحات حول مشروعية المحكمة كانت جوفاء ، رغم أننا كنا نتمنى أن تضطلع ( المرجعيات الدينية الإسلامية ) بمهمة محاكمة هذا المتمرد ، وتطبق فيه حكم عدالة السماء ،على الأقل كي نبعث برسالة للعالم نقول فيها إن مرجعيات الإسلام هي ضد مبادئ القتل والقمع وتغييب الآخر ومصادرته ، ولكن المرجعيات آثرت أن تكون نهاية صدام على يد أخرى غير يدها ، وهذا يتعلق بتوفيقات الله ، ولله في خلقه شؤون .
أمامنا شهر بانتظار الاستئناف ، والبت بنتيجة الاستئناف ليست محكومة بسقف زمني ، كما يقرر الدستور ، ولكن يجب أن ننتبه إلى إمكانية استغلال المحتل للحكم على صدام على وفق الأجندة الطائفية ، فالقنوات الطائفية الفضائية ووسائل الإعلام الموتورة تحاول أن تدس مفهوم الطائفية في الحكم على صدام ، حين ترسخ معنى الفرحة لدى المسلمين الشيعة (فقط) بهذا الحكم ، وتشير إلى حزن واستنكار ( المسلمين السنة ) ، غير ملتفتة إلى حجم القهر والقمع الذي نال الشرفاء من أبناء الفريقين ، كل هذا لكي تكسب عدة جوانب أهمها :-
1- ترسيخ مفهوم انتماء صدام للمذهب الإسلامي السني ، واستنفار أبناء المسلمين السنة من العرب لدعم هذا الانتماء ، رغم أن الحقيقة تدفعنا لنقول أن صدام لم يكن منتمياً إلى أي مذهب أو دين ، فهو رمز من رموز الإرهاب ، والإرهاب لا دين له.
2- تريد هذه الفضائيات أن ترسخ مفهوم أن أمريكا هي التي حكمت على صدام بالإعدام، وبالتالي فالمسلمون الشيعة – بفرحتهم – يتطابقون مع أمريكا في حكمها ، وهم شاكرون لها ، ومتوافقون مع أجندتها ، رغم أن الواقع يثبت خلاف ذلك . فالمسلمون الشيعة يعتبرون أمريكا – لو صحت رغبتها في تصفية صدام - عصابة تقوم بتصفية أحد أفرادها ليس إلا .
3- الفضائيات تتجاوز ردود الأفعال المشيدة بحكم الإعدام ، وتؤكد على المنددين فقط ، مع الالتفات إلى أن هذه الفضائيات ووسائل الإعلام تؤكد على مباركة أمريكا وبريطانيا وإسرائيل وغيرها لهذا الحكم ، من أجل إضفاء مفهوم عداء صدام لهذه التوجهات ، وبالتالي ترسيخ فكرة عروبة ووطنية صدام ، وتضع قرار حكم الإعدام في خانة العمالة لهذه القوى التي تتمثل بالثالوث المشئوم.
4- تحاول وسائل الإعلام أن تسلط الأضواء بكثافة على المتظاهرين المنددين بحكم إعدام صدام في المناطق السنية ، وتحاول أن تصعد من الموقف ، وبذلك فهي تريد أن تقول بأن كل ( المسلمين السنة ) في العراق هم مع صدام ، وبالتالي فهي تحاول استفزاز مشاعر المسلمين الشيعة تجاه إخوتهم ، وتوسع من الفجوة بين الأخوين في الوطن الواحد .
وختاماً ، فصدام لم يكن يمثل نفسه أبداً ، بل هو يمثل سلطة كاملة من الإرهاب وآلات القتل والدمار ، وعملية إعدامه – إذا حدثت – فهي لا تقدم ولا تؤخر إذا لم يمتد حكم الإعدام ليطال كل الأيادي التي تمرغت بدم العراقيين الأبرياء بالقتل – داخل وخارج العراق - وهذا لا يشمل البعثيين الصداميين وحدهم ، بل يشمل جميع المجرمين السابقين والحاليين وعصابات التكفير والتهجير ، وحثالة المحتلين ، بل حتى المستقلين – السابقين - الذين لم يكونوا من المنتمين لحزب البعث ، ولكنهم كانوا يعملون وكلاء لأجهزة الأمن الإرهابية الصدامية ، أو المستقلين والحزبيين الحاليين ، ممن لا يألون جهداً في سفك الدم العراقي من أجل مصالحهم الشخصية أو الفئوية أو الحزبية أو الطائفية المقيتة .
* مستشار الهيئة الثقافية العليا لمكتب السيد الشهيد الصدر (قده)
العراق / عاصمة العالم المحتلة
marwanyauthor@yahoo.com