الحركة الإسلامية وفقه المآلات
الحركة الإسلامية وفقه المآلات
حسين جابر
قد يكون فقه المآل من المفردات الجديدة في القاموس الفقهي المتداول، إلا أن فوضى المواقف والممارسات يفترض العمل الدؤوب على بلورة هذا الحقل الفقهي ليكون الأساس العملي والشرعي ليس فقط لقادة الحركات الاسلامية التي ترسم التوجهات العامة والسياسات الكبرى وإنما لكل منتم لتلك الحركات كي لا يبقى أسير رؤى ومواقف اشتهائية. فالصورة المأخوذة عن المنتمين للحركات الاسلامية هي صورة سلبية، بمعنى الاتباع التعبدي للقيادة والطاعة الصارمة والعمياء التي لا تترك للمنضوين مساحة للقول والتفكير والاعتراض، واذا كان في هذا الحكم بعض التجني لجهة التعميم والإطلاق، إلا أن أحداً لا يجسر على نفيه ورفعه، والسبب في هذه الصورة المنتزعة، في الغالب، من الواقع، يعود الى غياب ثقافة المآل او المقصد، التي تشكل ضمانة عدم الوقوع في فوضى المشاريع والمواقف من جهة، وتتيح للقواعد فرصة التصويب والمحاسبة وصولاً الى الاعتراض والعزل.
وفقه المآلات لم يُستنبط من أدلة الشرع، كما يوحي المصطلح، حصراً، فمرتكزه الأساسي قائم في سيرة الناس والعقلاء، وهذا ما يضفي على هذا الحقل صفة الأنسنة، بمعنى اتصافه بالمقبولية والاستحسان من كل ذي عقل سليم.
والخطاب القرآني الذي يرشد العقل البشري الى التفكير بكل ما هو جوهري وحقيقي ونافع ينهى، أي الخطاب، وبالقطعية نفسها، عن كل ما هو عرضي و<زخرف> و<متاع> و<زبد> و<زائل> و<زينة> الى آخر المفردات التي تتكرر بكثافة في كتاب الله تعالى والتي تختم عادة بعبارات <لعلكم تعقلون> <تفقهون> <يا أولي الألباب> وغيرها الكثير التي تنطبق مع سيرة العقلاء في تدبير شؤونهم وحياتهم وخططهم واستراتيجياتهم. والتجربة الانسانية غنية بالاستخلاصات التي توحي بالمؤدى نفسه، فالماركسية في أدبياتها كانت ترجح التناقض الأساسي على مجمل التناقضات الثانوية، أي تقدم المآل والأهداف البعيدة على المكتسبات الظرفية والآنية وسريعة التجاوز. في هذا الإطار يحضرني قول للإمام علي أطلقه في مرحلة الصراع مع معاوية، عندما قال <والله لو فعلها بنو الأصفر (الروم) لوضعت يدي بيد معاوية> اي ان التهديد الخارجي والتناقض الأساسي مقدّم على التناحرات الداخلية والتناقضات الثانوية. في هذا السياق تكشف استفاقة <الجماعة الإسلامية> في مصر التي عكستها مراجعات شيوخها في السجون المصرية، شكلاً من صحوة الوعي بما أطلقنا عليه فقه المآلات، وذلك عندما حاكموا تجربتهم في الاستغراق المفرط بالمواجهة مع النظام المصري في الوقت الذي يجثم الاسرائيليون على أرض فلسطين ويهددون مستقبل الأمة كلها، وقد أقر هؤلاء بالخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبوه مع ناسهم واقتصادهم وقطاع السياحة وقوات الشرطة، والذي فرّط، أي الخطأ، بجهود عظيمة وهائلة ذهبت جفاء ودون طائل، وكان المستفيد منها العدو المشترك.
هذه المراجعة الثرية للجماعات الإسلامية في مصر لا يجوز حصر ثمرتها في فئة معينة عانت وتعاني من أخطاء عطلت طاقات عشرات الآلاف من الشباب، فهي تشكل مرجعاً تنبغي العودة إليها والاعتبار منها خصوصاً الحركات الاسلامية المكلفة شرعاً بدراسة التاريخ وتدبر حكمته <قل سيروا في الأرض وانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل...>، والعبرة ليست استخلاصاً كيفياً تصح معها استعادة الأخطاء وتكرار التجربة والمأساة وإنما تنقلب بفعل التزامن والمعايشة الى حجة لا تجوز العودة إليها، إلا أن الوقائع في ساحات اخرى تشي بعدم الإفادة، فالأخطاء هي نفسها والممارسات لا تختلف في صورتها، وهو أمر محزن ومحبط في آن.
وحتى لا نتعسف في اطلاق الأحكام، ثمة ممارسات ومواقف تنم عن نضج في التجربة وتبصر بالمآلات والمقاصد، كالموقف الذي عبّر عنه الشيخ المقاصدي فيصل المولوي الذي رنا ببصره الى الاستراتيجي والبعيد ولم تحبطه صور الدمار والخسائر البشرية التي مُني بها لبنان في حربه الأخيرة، كما أنه قابل بين مخاوف البعض من اختلال موازين القوى الداخلية، وهي عرضية وزائلة، مع النصر الاستراتيجي على العدو، فقدّم الأخير على تلك المخاوف، لأن العبرة، في النهاية، ليست فيمن تسنم سلطة زائلة، وإنما العبرة في رفع الظلم التاريخي الذي لحق بالأمة جراء اغتصاب فلسطين وتمادي المحتل بغيّه وظلمه.
ويرشح فقه المآلات في مواقف رموز أساسية منضوية تحت عنوان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذين لم تشغلهم التناقضات المذهبية الثانوية عن المخاطر الاساسية التي تتهدد الأمة بأكملها، خلافاً لبعض قصيري النظر الذين خرجوا في مواقفهم عن المقاصد الكلية للشرع وأرخوا أزمة عصبياتهم على حساب الرؤى والتصورات البعيدة والأساسية.
صحيح أن التجربة العملية التي قدمتها المقاومة في لبنان سبقت البلورة النظرية لفقه المآلات، إلا أن ذلك لا يعفي الفقهاء وعلماء الأمة ومفكريها من مهمة الاستنباط العلمي لهذا الحقل الدقيق والملحّ حتى لا تستباح عقول الناس البسطاء بالمسوغات الثانوية، كما هو واقع الأمر في العراق وغير العراق.
فالمنطقة تعجّ بالمقولات المضللة، والتي يشترك فيها عدد من المثقفين ورجال الدين، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على اختلالات في ميزان التفاضل بين الأولويات. وهنا تنبغي إحالة هؤلاء جميعاً الى التجربة الاسرائيلية التي يلتحم فيها موقف العلماني مع المتدين في اللحظات المصيرية، فهل تؤسس التجربة الأخيرة لوعي جديد يختزن مدلولات فقه الأولويات الى جانب شقيقه فقه المآلات؟
(?) استاذ جامعي