قرأت لكم - جمهورية مقتدى الصدر
بغداد - حازم الأمين الحياة 2003/07/10
http://www.daralhayat.com/special/fe...jpg_200_-1.jpg
سيعتبر مقتدى الصدر وتياره الواسع في العراق من العلامات البارزة التي
تكشّف عنها سقوط النظام العراقي السابق. فهذه الحركة التي تسعى إلى لعب دور في عراق المستقبل لم يسبق أن رصدها المهتمون بالشأن العراقي، في حين أشبعت التيارات والأحزاب الاخرى بحثاً وتدقيقاً. مقتدى الصدر وتيار "الحوزة الدينية الناطقة" كما يطلق مناصرو هذا الشاب الذي لم يبلغ الثلاثين بعد، على أنفسهم، إضافة إلى مدينة الثورة، اختارتهما "الحياة" بداية لسلسلة تحقيقات عن العراق، نبدأها بثلاث حلقات عن "جمهورية مقتدى الصدر، ونتبعها بتحقيقات عن النجف وسامراء وعن قوى سياسية جديدة بدأت العمل على الساحة العراقية.
اللطمية التي راح رحيم دليلنا في مدينة الثورة يرددها فور صعودنا إلى السيارة وإشغال جهاز التبريد فيها، تقول "قوم ارويها... قوم ارويها... هاي أطفالك قوم ارويها... مشبوحة الأنظار تجودك... انهض يا المعروف بذودك... قوم ارويها". واللطمية هي الغناء البكائي الذي يردده شيعة العراق حين يشرعون بالبكاء على الإمام الحسين بن علي. ويقول رحيم، وهو شاب عشريني من مدينة الثورة في بغداد، أن صوته اختفى هذا العام حين شارك في مسيرة أربعينية الحسين من النجف إلى كربلاء، ولم يتوقف طوال المسيرة عن إطلاق اللطميات وعن البكاء على "سيد الشهداء". علماً أن رحيم وفي السنوات الفائتة كان يشارك في حلقات بكاء سرية على الحسين في مدينة الثورة بعدما منع النظام إقامة شعائر عاشوراء على النحو الذي يقيمه الشيعة عادة.
يقول صحافي غربي كان في بغداد لحظة سقوطها في أيدي القوات الأميركية "إن إشارات سقوط المدينة لم تأتنا من معاينتنا الدبابات الأميركية في التاسع من نيسان في ساحة الفردوس، وإنما قبل ذلك بقليل عندما وصل مصورنا العراقي حاملاً شريطاً مصوراً سجله صباح ذلك اليوم في مدينة الثورة التي كان يطلق عليها في ذلك الحين اسم مدينة صدام، وفي الشريط يظهر الناس وقد خرجوا من منازلهم وشرعوا بتحطيم مراكز الأمن والجيش وكل الإدارات العامة، فأيقنا حينها أن المدينة سقطت".
يشكل سكان مدينة الثورة التي أطلق عليها السكان بعد سقوط النظام اسم مدينة الصدر ثلث سكان بغداد، وتراوح تقديرات أعدادهم بين مليونين وثلاثة ملايين جميعهم من الشيعة الذين نزحوا من جنوب العراق منذ النصف الثاني من القرن الفائت، إضافة إلى أعداد قليلة من الأكراد الفيليين (الشيعة) ونسبة أقل من أكراد الشمال وبعض المسيحيين المستمرين في النزوح من المنطقة إلى الآن. ليست مدينة الثورة ضاحية تقليدية من تلك الضواحي التي يتجمع فيها حول المدن النازحون من الأرياف، فهي قد تكون على رغم فقرها وتآكل مبانيها وفوضى السكن وكثافته، من أكثر مناطق بغداد وضوحاً في تقسيمات شوارعها وتوزعها. إنها مدينة أفقية تنتشر على نحو 20 كيلومتراً مربعاً شرق بغداد. وفي الأربعينات، أي في أيام الحكم الملكي، كان أهل بغداد يسمون المنطقة التي أنشئت فيها مدينة الثورة "خلف السد" حيث كان يقيم نازحون قليلون على ضفاف دجلة، وكان هذا الأخير يفيض عليهم سنوياً فيأتي على منازلهم الطينية، إلى أن أطاح عبد الكريم قاسم الحكم الملكي، وشرع في بناء مدينة الثورة وأسكن المهاجرين الشيعة أبناء عشائر الجنوب فيها، مستمداً في التخطيط لشوارعها تصميمات مدن غربية كبرى، كنيويورك مثلاً التي طالما يستحضرها العراقيون أثناء شرحهم لتقسيمات المدينة.
الآن وبعد سقوط النظام تعتبر مدينة الثورة (وهو الاسم الغالب عليها) مدينة مقتدى الصدر الذي ورث زعامة والده العلامة محمد صادق الصدر الذي اغتاله النظام عام 1999 في مدينة النجف. ولعل حكاية مدينة الثورة والبحث في تقسيماتها القبلية والسياسية وفي صلاتها المتفاوتة بعدد من المحطات الحديثة التي عاشها العراق، تفسر إلى حد كبير ظاهرة مقتدى الصدر، رجل الدين الشاب الذي لم يبلغ الثلاثين بعد، والذي شكل حضوره المفاجئ علامة جديدة تضاف إلى تعقيدات الوضع العراقي. فزعامة هذا الشاب تهدد إلى حد كبير زعامات العلماء الشيعة الكبار. وإضافة إلى أنه خارج العباءة الإيرانية، يبدو أنه امتداد لنزعة شيعية عربية، ولشعبوية دينية يختلط فيها العنف بالتزمت.
العشائر المتشيعة
لم تفعل بغداد بعشائر جنوب العراق النازحة إليها ما تفعله المدن بالعشائر عادة، إذ أتاحت لهم المدينة أن يستأنفوا فيها معظم شعائرهم العشائرية، وأن يعيشوا ويعملوا ويتبادلوا ويتقاتلوا ويتقاضوا ويتزوجوا وفقاً لسنن عشائرهم، ولم تخرج إجابة واحدة من عشرات الإجابات التي تلقتها "الحياة" في مدينة الثورة عن حقيقة أن العشيرة وشيخها هما الباب الأول الذي يطرقه من تواجهه أي مشكلة. هاجروا إلى مدينة الثورة من الجنوب للأسباب التي يهاجر من أجلها سكان الأرياف إلى المدن، في الأربعينات هرباً من نظام إقطاعي زراعي يتحكم فيه كبار الملاكين في ظل دولة ملكية يشكل الملاك فيها النخبة الحاكمة. وفي الخمسينات والستينات تضاعفت الهجرة بعد التوسع الكبير الذي شهدته بغداد، وتزايد الحاجة إلى يد عاملة رخيصة وغير متخصصة.
في بداية نزوحهم سكن المهاجرون الشيعة في مناطق متفرقة من بغداد، فأقاموا فيها مدن صفيحهم، إلى أن قرر عبد الكريم قاسم بناء المدينة خلف سور بغداد وأطلق عليها اسم مدينة الثورة في بداية الستينات، وانتقل إليها هؤلاء المهاجرون وتبعهم أقارب لهم من عشائرهم خصوصاً من مدينة العمارة ومناطق الأهوار ومدن الجنوب وبادياته الأخرى التي تنتشر فيها العشائر المتشيعة. وما زال هؤلاء يحفظون لقاسم إنصافه لهم، ويفضل الكثيرون منهم تسمية مدينتهم باسم مدينة الزعيم، وهي التسمية التي كانت تطلق على قاسم.
بنى قاسم مدينة الثورة على شكل ثلاثة شوارع طويلة ومقسمة إلى 79 قطاعاً مرقمة في شكل تسلسلي. التقاطعات بين الشوارع الرئيسية والقطاعات الأفقية هي التي رسمت مساحات البناء السكني والأسواق. أما المساحة العامة فتقدر بنحو 20 كيلومتراً مربعاً. هذه التقسيمات ما زالت تحتفظ حتى اليوم بخطوطها العامة على رغم امحاء الأرقام وكثافة السكن وما طرأ عليه من إضافات وتمدد. الشوارع وعلى رغم اهترائها وانتشار المياه الآسنة والروائح المنبعثة بقوة منها، ما زالت واسعة ومحددة بأرصفة ودوائر. لكن أبناء العشائر وعلى رغم التزامهم التنظيم المديني العام لمنطقتهم في بغداد، وهذا ما أملاه ربما سريان بعض القوانين المنظمة لسكنهم، نقلوا إلى المدينة دواخل بيوتهم وتمكنوا من التعايش مع ذلك المحيط الترابي الذي شرع يزحف إلى البيوت فيغطيها بطبقة غبارية وإلى وجوه الأطفال العابثين في الشوارع والمتخبطين بفقرهم وبرثاثة تضافرت عليها عوامل النزوح والاضطهاد السياسي واستيلاء تقاليد العشائر ورجال الحوزة الدينية على منظومة العيش والتفكير والاعتقاد.
والتقسيمات الواضحة والسهلة لهذه المدينة الهائلة اتسعت لحياة من نوع آخر، لا يعوزها هذا الوضوح، إذ سيلازمك شعور أثناء تجوالك في أحياء الثورة أن هذا الفقر غير مكتمل أو غير تام. صحيح أن إشاراته ممتدة إلى مختلف نواحي العيش ولكن أيضاً ثمة من صمم فقر هؤلاء، والتنظيم المديني الصارم لمنطقتهم لم يخفف من أعبائه، لا بل وسع مسرحه، فالساحات بين التقاطعات تحولت إلى مستنقعات يعبث فيها الأطفال، والأسواق الممتدة على طول الشارع وفي محاذاته ليست إلا معرضاً للبضائع الرخيصة التي سحب منها مرور الزمن الحياة، ورجال العشائر المتجولون بثيابهم العشائرية وخلفهم نساءهم اللابسات العباءت السود، يشعرون بثقل كبير وكأنهم يحملون النسوة على أكتافهم. وفي الآونة الأخيرة أضيف عبء جديد على مشهد مدينة الثورة، يتمثل بالسوق الكبير الممتد بين تقاطعات عدة والذي تعرض فيه الأغراض التي نهبت من المؤسسات العامة. ويبدو مشهد هذه الأغراض غير المنسجمة بالغ العنف والقسوة والمفارقة. خزائن حديد إلى جانب مكيفات هواء مخلعة، وأحجام معدنية غامضة عرضت إلى جانبها لوحات رخيصة من ذلك النوع الذي يختاره المديرون المتوسطو الحال والموقع في العراق لمكاتبهم. وبين المعروضات أغنام ودجاج. والزبائن أيضاً هم خليط غير منسجم وغير واضح المقاصد. كل هذا يحصل وسط دبيب الأقدام الزاحفة والجارة وراءها كميات من الوحول والغبار.
لواجهات المحال والمنازل في أحياء الثورة وشوارعها ملامح من أكثر من زمن وذوق. البعث موجود في أسماء المحال وفي أنواع المهن. ودخول البعث إلى ديكور سوق للعشائر يمكن أن يكون خطوة إلى الأمام من حيث نوع المهنة والأسلوب الذي تقدم به. ثمة محال كثيرة مثلاً لتأجير البدلات الرجالية "الحديثة"، وراء ازدهار هذا النوع من الأعمال رائحة ما للبعث. ومن وسائل العيش المختلفة التي أدخلها النظام إلى مشهد الثورة، تلك السيارات العسكرية التي لم تعد تصلح للاستعمال العسكري فقام بعرضها في مزاد علني في المدينة حيث اشتراها السكان وحولوها إلى سيارات نقل داخلية، وهي اليـوم وسيلة النقل الأكثر شيوعاً في مدينة الثورة. سيارات روسية الصنع، خلفياتها مكشوفة، يتسلق إليها أبناء الثورة، نساء ورجالاً ومواشي وطيوراً، فيُسهِل جريانها الثقيل في الشوارع استشعار ذلك البطء الذي أحدثه البعث في أرواح الناس وفي تبادلاتهم، إذ ثمة أمر لم يتحدث عنه أحد بعد، خلفه النظام العراقي البائد في العراقيين. إنه ذلك البطء، وتلك الماكينة الثقيلة التي تسيّر الحياة. فخلال إقامتك في بغداد لا بد أن يصيبك عدم الجاهزية الدائم الذي يعيشه أبناء المدينة، الزمن كان معطلاً، فلم يشعر العراقيون بأي قيمة لجريانه، فهم لا يسابقون أحداً والنظام لم يطلب منهم سوى البقاء على ما هم عليه، والتقدم في أي اتجاه كان من الممكن أن يشكل خطراً عليه. وإضافة إلى أن العراقيين عاشوا في ظل نظام عسكري وأمني، شهدوا في العقدين الفائتين نقلاً حثيثاً لأخلاق البادية وقيمها إلى مدنهم خصوصاً إلى بغداد.
ففي المدن يغالب عادة البدو عاداتهم وتظهر أزياؤهم غريبة وطارئة، أما في بغداد وتحديداً في العقدين الفائتين فقد أعيد بعث العشيرة والقبيلة في المدينة، وصار مشهد شيوخ العشائر ومقلديهم وأتباعهم في الفنادق الفخمة وفي شوارع النخب أمراً عادياً، لا بل إن تعمد ارتداء الزي العشائري صار أمراً شائعاً من قبل أناس كانوا تخلوا عنه. وفي أحد الأشرطة المصورة التي توزع اليوم في بغداد للحفلات التي كان يقيمها عدي صدام حسين يظهر رجال بزي عشائري يراقصون نساء حديثات الأثواب وقصيراته، على وقع موسيقى غربـية. كثـيرون هم المشـايخ الذين قصدنا منازلهم في الثورة لنلقى أجوبة من نوع أنهم ذهبوا إلى فندق "شيراتون" مثلاً لعقد اجتماع مع شيوخ عشائر أخرى. وحين تقصد سياسياً من المحتمل جداً أن يقول لك إن مشايخ عشائر الثورة سيزورونه غداً.
البعث ليس المشهد الوحيد، فالعشائر ملأت دنيا الثورة بعلاماتها وشعائرها. أسهم رسمت على الجدران لتدلك إلى منازل الشيوخ، وعدم الاكتراث في حال أمكن ذلك لأي التزام مدني. أما العلامة المتواصلة على الجدران والأبنية والتي استجدت بعد سقوط النظام، فهي تلك اللافتات السود التي نعى فيها مواطنو الثورة أقاربهم الذين أعدمهم النظام، إذ يبدو أن الناس في حينها لم يكونوا يجرؤون على إعلان إعدام ابنهم، وحين كان يصلهم نبأه عبر مختار المحلة، كانوا يقيمون الشعائر سراً، ويبكونه داخل منازلهم من دون أن يحدثوا ضجيجاً كما يقول رحيم الذي أعدم شقيقه. ويعتقد رحيم أن أمه توفيت لأنها لم تتمكن من البكاء على ابنها. الناس في مدينة الثورة عادوا وأشهروا موت أبنائهم على لافتات سود غطت جزءاً يسيراً من الجدران، وأقامت العائلات مجالس عزاء وقدم معزون وبكت الأمهات بعد مرور سنوات على إعدام أبنائهن.
الانتقال السهل من شارع الجودار في الثورة إلى شارع الفلاح إلى شارع "ثورة داخل"، يضاعف من شعورك أن المدينة لم تصمم لهذا النوع من السكن. كثافة سكانية كبيرة، تفصل بين كتلها مساحات لا بأس بها وتتصل عبر شوارع واسعة. أما السكان الخارجون من منازلهم إلى المساجد والأسواق وغيرها فيذهبون في الاتجاهات التي يقصدونها بجماعات كبيرة، إذ يمكنك ملاحظة مجموعة من أكثر من 20 شاباً مرتدين الدشاديش البيض في طريقهم إلى المسجد القريب، أو رجل بزي عشائري ووراءه نساء مرتديات العباءات السود، متجهين إلى السوق القريب، ويقوم الشيخ بمحادثة نسائه من دون أن يلتفت إليهن.
الناس هنا في الثورة يتحدثون دائماً بلغة الشرع والفقه. جميعهم من دون استثناء ألفوا تلك العبارات التي تسمعها عادة من رجال الدين: الحوزة الدينية والأولياء والمعصومون والسادة الموسويون... وإلى ما هنالك من مفاتيح الجمل الشيعية. مسألة التقليد شائعة على نحو واسع في أحاديث الناس، وأن تكون مقلداً للصدر او للسيستاني مسألة ستُواجه بها أكثر من مرة في اليوم. وإذا كنت لبنانياً سيسألونك هل أنت من مقلدي السيد محمد حسين فضل الله الذي لا يعرفون عنه الكثير باستثناء أنه تصدى للمرجعية في السنوات الأخيرة. تديُن هؤلاء موروث كما عشائريتهم. والتشابه بين الأمرين يصل إلى حد التداخل، فيقول ابن شيخ التمائم في الثورة "نحن نقلد السيد الشهيد الثاني، معظم أفراد عشيرتنا يقلدونه". وتشكل مسألة المرجعية والتقليد عمق الشخصية المتوسطة لابن الثورة ولشيعة العراق عموماً. فموظف الفندق رحيم وهو من أبناء مدينة الثورة، شاب حليق وملتزم دائماً بالقيافة التي تفرضها عليه وظيفته، يقول إنه واشقاءه يقلدون السيد السيستاني، ومقلدو السيستاني أقلية في الثورة، ومُحاربون من قبل مقلدي الصدر، وتقليد رحيم للسيستاني لم يمنعه على رغم الفتوى التي أطلقها هذا الأخير من طرد مدير الفندق البعثي وصديق عدي كما يصفه، ويقول: "كان يعاملني معاملة سيئة لأنني من الثورة". وكمعظم أبناء الثورة قدم أهل رحيم من منطقة العمارة في جنوب العراق وهو من أبناء عشيرة الدراجي التي نزح آلاف من أبنائها إلى الثورة وأقاموا فيها حمائلهم التي يبلغ عدها نحو عشر حمائل لكل حمولة شيخ مرتبط بفخذ وبشيخ العشيرة العام. ويشرح شيخ الدفافعة في الثورة التقسيمات العشائرية فيقول إن الوحدة الأوسع هي القبيلة أو الأمارة ثم تليها العشيرة ثم الفخذ ثم البيت ثم الحولة أو الشبة. وفي بعض مناطق الجنوب تسبق الحمولة البيت في الترتيب. ويضيف أنه اختير رئيساً لحمولته لأنه الابن الأكبر للأب الأكبر للجد الأكبر. ويتابع: "كنا جزءاً من فخذ دفافعي، ثم انفصلنا وأسسنا حمولتنا لأن عددنا صار كبيراً وبالتالي صارت مشكلاتنا كثيرة وتحتاج إلى تفرغ ومتابعة". وعن نوع الأعمال المناطة بشيخ العشيرة يقول "السنة الفائتة كانت سنة كساد، وهذه السنة شغلتنا قضية دهس سيارة يقودها واحد من أبناء عشيرة عمارية لابن لنا هنا في الثورة وقتله له. اختلفنا مع شيخ عشيرتنا العام حول هذه المسألة. فالسائق سجن في حينها لكن عشيرته لم تقم بواجباتها كاملة حيالنا. جاء شيخ حمولته مع وفد وقدم واجب العزاء، لكن شيخ العشيرة العام لم يعز شيخ عشيرتنا العام. شيخنا طلب منا القيام بغزوة صغيرة لتأديبهم، والغزوة الصغيرة لا تهدف إلى قتل احد منهم بقدر ما تهدف إلى تسجيل احتجاج وإصابة أفراد من العشيرة الأخرى إصابات غير قاتلة".
في السنوات العشر الأخيرة أفسح النظام العراقي للعشائر بأن تقيم شرائعها من دون تقييد كبير. صارت قيم العشيرة أحد أبرز منظومات قيم النظام. صدام حسين في استقباله للشيوخ وفي إطلاقه عليهم تلك الألقاب والمعاني حوّل هؤلاء إلى مراكز قوة حقيقية ولكن تحت عباءة النظام. أعيد العمل خلال هذه السنوات بعدد من السنن الحسبية العشائرية. أعيد العمل في شكل محدود بموضوع الزوجة الوصلية. إذ على أهالي القاتل أن يقدموا ابنتهم إلى أهالي القتيل كزوجة لأحد أفراد عائلة المقتول. والمرأة الوصلية تصل إلى منزل زوجها بعباءتها ولا يسجل لها مهر أو أي حقوق. ويقول شيخ الدفافعة إن إعطاء عائلة المقتول زوجة من قبل عائلة القاتل يهدف إلى أمرين، أولاً إلى وهب حقلٍ للإنجاب لتعويض الخسارة اللاحقة بالعشيرة، وثانياً إلى التقارب النسبي والرحمي بين عائلة القاتل وعائلة المقتول فيؤدي ذلك إلى إنهاء الضغائن. وعشائر الثورة راحت تتحايل على موضوع الوصلية، بأن تهب كلامياً طفلة صغيرة لعائلة المقتول على أن تتسلمها حين تكبر وهذا الوقت كفيل بإطفاء "نار الصدور".
لم تقم العشائر الجنوبية في مدينة الثورة في قطاعات واحدة. فينتشر ابناء العشيرة الواحدة في كل أنحاء الثورة، لكن ذلك بالطبع لم يؤد إلى وهن في العلاقات بين أبناء العشيرة. الروابط أقوى من أن تصاب بتوزع السكن وانفكاك الاتصال المكاني، وهو وإن أضعف في أحيان قليلة من الاتصال العشيري، فواقعة صغيرة كفيلة بإعادة بعثه وتمتينه. ففي منزل شيخ عشيرة التميم في الثورة كانت رائحة نوم الرجال في الساعة الخامسة بعد الظهر منبعثة بقوة في أنحاء غرفة الاستقبال. والرجال النائمون لم يكونوا أبناء الشيخ لوحدهم بل ضيوفهم القادمون لزيارتهم من مدينة العمارة في الجنوب، أما الشيخ فكان بدوره قد ذهب إلى الجنوب ليتابع مشكلة عشائرية وليستأنس برأي شيخ العشيرة العام. الرجال النائمون في غرفة الاستقبال في منزل شيخ التمائم هبوا هبة الرجل الواحد لاستقبال الوافدين الغرباء. الحرارة داخل الغرفة الواطئة والقليلة الأثاث أقل وطأة من الحرارة في الخارج، ولكن تسرب الهواء الساخن واستقراره في الغرفة على مدى النهار كله حول الحرارة إلى شيء ثقيل زاد منه اختمار المادة الهوائية واختلاطها بأجسام الرجال النائمين. الرائحة التي يؤلفها هذا المزيج تدفعك للشعور بأنها المادة التي تتألف منها مسكة العشيرة. حاسة الشم هنا تساعدك على تحسسٍ غير منطقي للمادة العشائرية. أبناء الشيخ وأقرباؤهم البعيدون يضمهم عالم غرفة الاستقبال من دون أن تشعر بذلك التنافر الذي يمكن بسهولة ملاحظته عادة بين أهل المنزل وضيوفهم الغرباء.
لا يبدو على منازل شيوخ الحمائل والأفخاذ في الثورة أثر يذكر لعلو اجتماعي. حتى غرف الاستقبال التي من المفترض أن يستقبل هؤلاء الشيوخ زائريهم الكثر فيها تبدو قليلة الأثاث ومرتجلته. مقاعد قليلة خشبية وضعت فوقها طبقة من القماش الرث، وغالباً ما تتصل غرفة الاستقبال بباب جانبي يؤدي إلى المطبخ الذي تصل منه وجبات العصير المصنوع من المواد المجففة والثلج الذي يشتريه السكان من مصانع الثلج المنتشرة في كل العراق، ثم أقداح الشاي الحالك والشديد الحلاوة. أرض المنازل متشققة في الغالب والبلاط لا يغطي كل المساحة، فالشيوخ يبددون عائدات مشيختهم في الولائم والهبات التي تشترطها المشيخة.
سيكون لمثلث العلاقة بين النظام العراقي والعشائر والحوزة الدينية، خصوصاً محمد صادق الصدر، دور كبير في مستقبل كل منهم، فالنظام سقط بعدما قضى عشر سنواته الأخيرة في حمى العشائر، مقلباً في أدوارها ووظائفها، ومقدماً عشيرة على أخرى، ومبدداً الأموال على شيوخها. أما العشائر فيتمت أفخاذ منها وصعدت أخرى. وفي مدينة الثورة تحديداً أعادت عشائر كثيرة وفقاً لعلاقتها إما بالنظام أو بحوزة محمد صادق الصدر، النظر بعلاقاتها وتحالفاتها. ضلع المثلث الأخير أي الصدر الثاني دفع حياته وحياة ابنيه على مذبح هذه العلاقة، تاركاً لابنه الثالث مقتدى قاعدة ولاء كبيرة، مركزها الرئيسي مدينة الثورة، كما ترك له طلاباً موالين يفوقون مقتدى خبرة وحنكة، ويحاولون اليوم إيجاد صيغة تنظم هذا الإرث الواسع وتجعل منه قوة سياسية هادفة، ويترافق ذلك مع خلافات شديدة تعصف بتيار الصدر وانشقاقات يقودها مشايخ ووساطات يقوم بها مكتب المرجع السيد كاظم الحائري الذي كان الصدر الثاني أوصى مقلديه باتباعه.
غداً: صدام والصدر يتنافسان على عشائر الثورة.
صدام وآية الله الصدر يتنافسان على عشائر الثورة 2/6
الجغرافية والعشائرية لمدينة الثورة، وبعث النظام لدور العشائر والأفخاذ المحلية النازحة الى هذه المدينة من جنوب العراق، تتناول حلقة اليوم الصدام بين النظام العراقي السابق ومرجعية السيد محمد صادق الصدر والذي أسفر عن اغتيال الصدر مع ولديه.
حزب البعث في بدايات حكمه ايام كان قريباً من افكار مؤسسيه لم يكن صادراً من داخل التركيب العشائري. لم يحاربه ربما، ولكنه اهمله، فصار الارتباط بالدولة محكوماً باحتكار آخر. ادى ذلك الى ضعف في الوظيفة السياسية والاقتصادية للعشيرة. ولكن وبعد عام 1991، اي بعد هزيمة النظام في الكويت والانهيار السريع للجيش وللمؤسسات الأمنية والحزبية، شعر صدام حسين انه في حاجة الى ركيزة جديدة للحكم، وأن القاعدة الاجتماعية والسياسية والأمنية لنظامه مترهلة وهشة، فلجأ الى شيوخ العشائر وراح يعيد بناء الوحدات العشائرية ويغدق اموالاً ومخصصات دورية على الشيوخ، مستعيناً بخبرات مكائدية كسبها من اخلاق البعث، وناهلاً من ذاكرته كيتيم تربى في كنف عشيرة قاسية وخشنة.
اما الحوزة الدينية الشيعية فيمكن ايضاً تحقيب علاقتها بالنظام العشائري، اذ يرتبط هذا التحقيب ارتباطاً وثيقاً بالواقع الراهن لتوزع القوى السياسية الشيعية وامتداد نفوذها. فلطالما اصطدم رجال الدين الشيعة خلال تسييرهم حياة الناس والافتاء بمشكلاتهم بمعضلة طغيان الأحكام العشائرية وسريانها الذي يفوق سريان احكام الحوزة وفتاويها. الديات وجرائم القتل والوصلية وتبادل النساء في عمليات الفصل في المنازعات، جميعها لم تكن ترضي رجال الدين، ثم ان نفوذ هؤلاء كان يحد منه ذلك النفوذ الكبير لمشايخ العشائر، الى ان جاء السيد محمد صادق الصدر في بداية التسعينات وقرر التحرش بالأعراف العشائرية من دون ان يمسها، فأقام علاقات مع مشايخ عشائر محليين كانوا نزحوا الى مدينة الثورة وأقاموا "حمولات عشائرية" (وهي وحدة عشائرية مرتبطة بشيخ الفخذ المرتبط بدوره بشيخ العشيرة العام الذي غالباً ما يكون مقيماً في المدينة التي قدمت منها العشيرة). وأصدر الصدر الثاني (الصدر الأول هو السيد محمد باقر الصدر الذي اغتاله النظام عام 1980 وهو عم الصدر الثاني) كتاب "فقه العشائر" ناقش فيه عدداً من الأحكام العشائرية في القتل والدية والغزوات والزواج والتبادلات، محاولاً ايجاد مخارج شرعية لعدد من الشرائع العشائرية وإدخال تعديلات على عدد آخر من هذه الشرائع مبقياً على دور شيخ العشيرة في فض المنازعات. لا بل ان الصدر الثاني ذهب اكثر من ذلك بأن أعطى وكالات بلسمه كمرجع مقلد لعدد من مشايخ العشائرالمحليين في مدينة الثورة وغيرها لينوبوا عنه في الأمور العشائرية "الحسبية". فشيخ التمائم في الثورة مثلاً حائز على وكالة من الصدر الثاني تتيح له التدخل لتحديد الديات وكل الأمور الحسبية التي تحتاج اليها حمولة التمائم في الثورة والتي يبلغ عدد افرادها نحو 1500 شخص. ووكالات الصدر الى مشايخ العشائر اعطيت كما يؤكد مقلدو الصدر لمشايخ عشائر ملتزمين. فبحسب كتاب "فقه العشائر" "يجب الولاء لمن تثبت ولايته الشرعية وعدالته في الحكم والتصرف". والصدر الثاني تناول في كتابه مواضيع دية القتيل وحق الورثة المباشرين فيها ولا حقوق للعشيرة فيها الا بموافقة الوارثين. وهذه الموافقة سهلة بحسب العشائريين مقلدي الصدر الذين يجهدون للتأكيد ان تدخل الشرع في سننهم العشائرية لم يؤد الى الاطاحة بها.
كان صدام يعيد بناء علاقته بالعشائر، فيقيم في ديوان الرئاسة مكتباً لرعاية شيوخ العشائر، وأحياناً كان يقوي الأفخاذ على الأصول فيعزز سلطة شيوخ الحمولات الصغيرة عبر مدهم بالمال والسلاح، ويعيد ربط افخاذٍ موالية بعشائر كبرى ثم يتجه الى بناء القبيلة وهي الوحدة العشائرية الأكبر، فيزج بأفخاذ من عشائر بعيدة في شجرة القبيلة التي يتحدر منها ليدعي انه متحدر من سلالة الرسول. ويقول الدكتور رياض الدفاعي وهو شيخ حمولة (فرع من فخذ عشائري) في عشيرة الدفافعة الشيعية ومقيم في مدينة الثورة ان صدام حاول عام 1995 دمج الدفافعة قصراً في قبيلة عبادة وشرع في اعادة اعتبار عبادة امارة واعتبار شيخها اميراً ليتسلق هو وعشيرته من احد الفروع ويكون بذلك انتمى الى عشيرة ثم قبيلة من السادة. ولفت الدفاعي الى ازدهار ظاهرة بيع الأنساب في التسعينات من القرن الفائت، فقيام النظام بإحياء نفوذ شيوخ العشائر وتقديم بعضها واستبعاد اخرى ادت الى انشقاق افخاذ عن عشائر كبيرة والتحاقها بعشائر اخرى اقوى شكيمة وعلاقة بالنظام، وذلك عبر دفع مبالغ لشيوخ العشائر الذين يخترعون صلة ونسباً للفخذ الملتحق بهم ويخرجون شجرة عشائرية تضمهم على ان يضعوا مكتب العشائر في ديوان الرئاسة في اجواء الخطوة التي قاموا بها.
في هذا الوقت كان الصدر الثاني متن علاقته بأفخاذ العشائر الجنوبية المقيمة في مدينة الثورة والتي يمكن مشايخها وبسبب البعد الجغرافي والانخراط في حياة شبه مدينية والسعي الحثيث وراء النفوذ ان يقدموا للشرع تنازلات طفيفة. والأرجح ان اللحظة التي قرر فيها صدام حسين قتل الصدر الثاني عام 1999 كانت لحظة يقين صدام بأن السيد ينافسه تماماً على المكان الذي اختاره ليكون قاعدة حكمه الجديدة، ليس على ولاء شيوخ العشائر فقط، وإنما على تلك الأفخاذ السهلة التي من غير الصعب تشكيل المجتمع العشائري البعثي من حطام تفرعاتها وانشقاقاتها وابتعادها من انويتها.
http://www.daralhayat.com/special/fe...jpg_200_-1.jpg
طلاب الصدر الثاني من معممي مدينة الثورة وجدوا في تصديه للفقه العشائري فرصة لتمتين علاقتهم بعشائرهم، لا بل تمكنوا من انتزاع دور في قيادة العشيرة انطلاقاً من موقعهم كمعممين. فيقول الشيخ محمد الغراوي (49 سنة) وهو احد خدم مسجد المحسن في الثورة ويعود بأصوله الى محافظة ميسان في الجنوب ومتحدر من عشيرة الغرة: "جئت الى الثورة سنة 1965 انا وأهلي. في بداية نزوحنا تحولنا الى منطقة المجزرة في بغداد حيث كان يقيم المهاجرون. ثم قام عبدالكريم قاسم جزاه الله خيراً بنقلنا الى الثورة". ويضيف: "كنت رجلاً بسيطاً ورياضياً مهتماً برفع الأثقال، ولاحقاً ذهبت الى الحوزة العلمية الناطقة وتتلمذت على يد السيد الشهيد، وبقيت على علاقتي بعشيرتي، فالإمام علي قال: يا بني عشيرتك هي جناحك. وبالنسبة الى الأحكام، فالحكم الشرعي هو للمرجعية، والحكم الوضعي هو لشيخ العشيرة". اما الشيخ خليل القريشي (25 سنة) وهو احد ائمة مسجد المحسن وينتمي الى "الحوزة الناطقة" كما يسميها، فيقول انه يذهب كل اسبوعين الى شيخ عشيرته في الكوت ليناقش معه في الأمور الحسبية والديات وفي الأمور المأذونية. فشيخ العشيرة رجل مؤمن كما يقول وحريص على استشارة الشرع في شؤون العشيرة.
اقترب الشهيد الصدر الثاني نصف المسافة في اتجاه السنن العشائرية، واقتربت الأفخاذ العشائرية المهاجرة الى بغداد نصف المسافة الثاني فالتقيا في "مدينة الثورة". في هذا الوقت كان السيد محمد صادق يتغلغل بفتاويه الى حياة الناس اليومية، فيحاذي بذلك الحقل الذي يحتكره البعث في العراق. والأرجح ان نيات السيد لم تكن تتضمن التصدي للمهمات التي تثير مخاوف النظام، اذ لم يكن معروفاً عنه قبل سنة من اغتياله بأنه آخذ على عاتقه مهمة مكافحة النظام. ثم ان السيد عاش وعمل في العراق طوال سنوات ازمة النظام مع الشيعة، والتي كانت ذروتها خلال الحرب العراقية - الايرانية، وخلال هذه السنوات قام صدام بتصفية كل من يمكن ان يتعاطف من بعيد مع الايرانيين وعلى رأسهم شقيق والد محمد صادق ومؤسس "حزب الدعوة الاسلامية" السيد محمد باقر الصدر، في حين ابقى على الصدر الثاني حتى عام 1999.
الحرب العراقية - الايرانية في "الثورة"
اشتغلت في هذه الحقبة اشياء كثيرة هي الآن جزء من مفارقات العراق. فخلال الحرب العراقية - الايرانية لم يكن سكان مدينة الثورة على صلة حميمة بالدولة الشيعية المجاورة. مرجع كمحمد صادق الصدر لم يجعل من مسألة ادانة الحرب امراً في صلب مهماته. ثم ان ذهاب عشرات الآلاف من ابناء المدينة الى الحرب بحكم كونهم مجندين وضباطاً في الجيش وعودتهم منها قتلى وجرحى وأسرى ساهم في بلورة مشاعر وطنية عراقية غلبت تشيعهم احياناً، او غذت ميولاً لتشيع ذي هوية عراقية. فمحمد دليلنا في مدينة الثورة ومقلد الشهيد الثاني والمؤيد بتطرف لمقتدى ولمكتب الشهيد الثاني، قال: "شقيقي ضابط في الجيش العراقي استشهد في معارك الفاو ونذرت امي خروفاً وذبحته بالنجف بعد تحريرنا الأرض التي احتلها الايرانيون اثناء الحرب". هذه المسألة ستعزز لاحقاً من استقلال ابناء مدينة الثورة عن التشيع بالمعنى الايراني، على رغم التشابه معه لجهة الدعوة لأن يكون للحوزة دور القائد والموجه والقرار في كل شيء. ثم انه لا شك في ان النظام خاض حرباً وقائية ضد ايران في مدينة الثورة. فإلى جانب المراقبة الأمنية الدقيقة لحياة السكان، اشتغلت آلة اعلامية بثت اخباراً وإشاعات تطاول المراجع الايرانيين ورغبتهم في انتزاع دور القيادة من الحوزة النجفية. ومن هذه الاشاعات، واحدة تقول ان الخميني في صدد طباعة صورته على القرآن، وبثت على التلفزيون العراقي صوراً لنسخ من القرآن طبعت عليها صورة الخميني. وبعد سقوط النظام عثر السكان في مركز حزب البعث في منطقة الثورة على المطبعة التي استعملت لهذه الغاية وعلى نسخ غير منجزة من هذه المصاحف. الجدارية العملاقة التي كانت تتوسط الساحة الرئيسة في مدينة الثورة كانت صورة للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين استبدلها السكان بأخرى تضم الصدرين وبينهما احد المقامات الشيعية. تحتل واجهة الجدارية صورة لمحمد صادق الصدر، وفي الخلفية صورة محمد باقر الصدر، ويشكل هاجس الربط بين الرجلين احد هموم انصار مقتدى الصدر. اذ يمكن هذا الربط ان يضع الصدر الثاني في دائرة الاسلام النضالي الذي اتسمت به سيرة الصدر الأول الذي يعتبر باكورة تصدي الشيعة للشأن العام في العراق الحديث. لكن الصدر الأول وحزبه غريبان كل الغربة عن بيئة الصدر الثاني وعن جمهور حسينيات مدينة الثورة ومساجدها، وإن كان بين سكانها عشرات ممن اعدموا بتهمة الانتماء الى حزب الدعوة. وهذا الحزب هو اليوم في مدينة الثورة جهاز تنظيمي ليس له خارج اسوار التنظيم اكثر من عائلات محازبيه وما تبقى من سمعة مؤسسه، وربما استفاد من وهج الزعامة الصدرية الثانية. اما الصدر الثاني فإرثه كبير والوارث، مقتدى، استفاد من القرب الزمني الذي يفصل اغتيال والده عن سقوط النظام، بحيث لم يتكفل الزمن بعد بتحويل هذه الزعامة الى ذكرى، فدم الرجل ما زال ساخناً، وفتاويه مستمرة في تغذية الأوردة العشائرية في مدينة عشائر الجنوب في بغداد، والنهاية المأسوية لحياته ولحياة ابنائه اضافت الى صورته عمقاً قرّبه من مصائر الأئمة الشيعة. لكن الفارق بين الرجلين كبير، تصدي الأول لمهمات سجالية مع افكار اخرى وتأسيسه حزباً مرتبطاً بالحوزة النخبوية، وانغماس الثاني في دنيا العشائر وتصديه للإفتاء بالقضايا اليومية. وربما يمكن المغامرة بالقول في هذا الموضع من شخصية الرجلين ان شيعية الأول اصولية نضالية طرحت على نفسها مهمات ثورية وانقلابية، في حين كانت شيعية الثاني سلفية اتجهت الى التدخل في حياة الناس اليومية وما هو حلال وحرام من الموسيقى الى السينما وغيرها، ولم تجعل من مسائل النظام السياسي والحكم مادة للدعوى والافتاء.
"نعم نعم للجمعة". هذه العبارة لن تفارقك ما دمت تتجول في مدينة الثورة التي صار اسمها مدينة الصدر. يرددها خطباء الجوامع، وتجدها مكتوبة على الملصقات التي تحوي صورة السيد محمد صادق الصدر، واستبدلها الشبان بشعارات البعث وأقوال صدام المكتوبة على جداريات الحزب البائد. انها العبارة التي اطلقها الصدر الثاني عندما افتى بجواز وضرورة اقامة صلاة الجمعة عام 1997. فإقامة صلاة الجمعة تقليد لم يكن سائداً في اوساط الشيعة العراقيين، لاعتقاد البعض بعدم جواز اقامتها في ظل الحاكم الجائر، ولميل الآخرين للتقية في ظل انظمة لطالما اضطهدت الشيعة وضيقت عليهم. وصلاة الجمعة التي اعاد الصدر بعثها من مدينة الثورة مكّنته من الاتصال بحياة الناس اليومية، ومن اقامة صلة موازية للصلات التي كان يقيمها معهم عبر رؤسائهم العشائريين. وعبارة "نعم نعم للجمعة" التي غالباً ما تتبع بعبارة "نعم نعم للحوزة" تُغنى غناءً عندما تلفظ، اذ كان الصدر الثاني حين يقولها على المنبر يوجهها الى جمهور المصلين طالباً منهم ترديدها وراءه. ويبدو ان الاتصال الخطابي بين الإمام ومريديه على هذا تقنية خطابية عراقية، اذ طالما حاول الأئمة الشيعة استدراج المستمعين الى خطبهم بترديد الكلام الذي يطلقونه.
النجف النخبوية والسيد الشعبوي
وإضافة الى ميول السيد الشعبوية في مقابل نخبوية المراجع الأخرى التي تزدهر بها الحوزة النجفية، لا يبدو ان انخراط السيد في التعامل مع القضايا العشائرية وميله الى ايجاد تسوية بين الشرع والنظام العشائري مصدره اعتدال ورغبة في ايجاد صيغة علاقة بين الشرع والحياة عموماً. فتعاليم السيد لسكان مدينة الثورة الا يسمحوا لمحال بيع الأشرطة الموسيقية وجدت في انهيار النظام فرصة للتنفيذ، وقام مقلدو الصدر الثاني بتحطيم معظم محال بيع الأشرطة الموسيقية والتصويرية في مدينة الثورة. وفتاويه امتدت على طول الحياة وعرضها. فسمك الصبور الذي يصطاده اهل بغداد من دجلة يموت ما إن يصطدم بالشباك وأكل الميت حرام، فأفتى الصدر الثاني بأن الكمية التي يتم اصطيادها اذا غلب عليها السمك الميت قبل اخراجه من الماء فهي حرام كلها، واذا غلب عليها السمك الحي عند اخراجه من الماء حلال كلها، والتحقق من هذا الأمر يبقى في ذمة الصياد. فصار بائعو السمك في مدينة الثورة ينادون على اسماكهم "السمك الذي حلله السيد الشهيد". وتزدهر في مدينة الثورة الكتيبات الصغيرة التي اصدرها الصدر الثاني والتي تتضمن فتاويه في شأن الغناء والفنون. ويبدو ان الصدر لم يكن هو من يصدر هذه المنشورات انما الماكينة التي تعمل معه. فكتيب "في حرمة الغناء" مقدم على انه "حوار فتوائي مع مرجع المسلمين زعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد محمد الصدر"، كتـب السيد على صفحــته الأخيــرة "لاحظــته فوجدته جيداً ومطابقاً لما كتبته. جزى الله من فعله خيراً".
ومرونة الصدر الثاني في موضوع العشائر لم تنسحب ايضاً مرونة في علاقته مع المرجعيات الشيعية الأخرى، فمن المعروف عن محمد صادق الصدر تفسيقه عدداً من رجال الدين الشيعة في العراق، ومنهم قريبه السيد حسين الصدر المقيم في منطقة الكاظمية، في بغداد، وهي المنطقة التي يسكنها شيعة من نوع اجتماعي مختلف عن شيعة مدينة الثورة. وامتداد الفتاوى وشمولها الكثير من نواحي الحياة اليومية امر غريب الى حد ما عن الوظائف التي اناطت الحوزة الدينية في العراق نفسها بها، وهذا الأمر يدفع بالكثير من العراقيين للاعتقاد انهم حيال شيعية من نوع مختلف تشبه الى حد كبير شيعية الملالي الايرانيين على رغم اختلافها الشديد معهم حول هوية المرجع. فالصدر الثاني ووارثه الشاب مقتدى يؤمنان بالولاية العامة للفقيه، ولكنهما يؤمنان بتعدد المرجعية، ويضمران حساسية كبيرة حيال اي مرجعية غير عراقية.
اذاً، القرار باغتيال الشهيد الصدر الثاني لم تسبقه الا سنة واحدة من المضايقات ومن إشهار النظام عداءه له. لم تُمنع صلاة الجمعة في حياته ولكن الاستخبارات حاصرت المصلين خلفه، وفي كل مرة كان يكتشف اصراراً من جانب سكان الثورة على مبايعته فتقترب المنية منه. وخلال هذه السنة يبدو ان محمد صادق الصدر ذهب في دور دفعته اليه ظروف كثيرة ليس في مواجهة الدولة مباشرة وانما في استرساله بدور عام يشكل خطراً عليها. فقام النظام باغتياله مع اثنين من اولاده في مدينة النجف عام 1999، ولم يبق على قيد الحياة من ابنائه الذكور الا مقتدى الذي لم يكن بلغ العشرين من عمره في حينه، وهو كان بدوره من تلامذة الحوزة الدينية في النجف. ولم يكن غريباً ان تعقب عملية الاغتيال هذه موجة احتجاجات مركزها مدينة الثورة التي حوصرت لثلاثة ايام ثم احتلت من فدائيي صدام. وبعدها منع النظام اقامة صلاة الجمعة وشرع في حملة تصفيات واسعة في صفوف طلاب الصدر الذين سبق ان اوكل اليهم مهمة اقامة صلاة الجمعة في مساجد مدينة الثورة، فقتل نحو 12 إماماً، منهم الشيخ علي الكعبي والشيخ حسين المالكي والشيخ حسين السويعدي والشيخ علاء الشويلي. وبدأ عملية واسعة لتفكيك شبكة نفوذ الصدر عبر شراء مزيد من الشيوخ العشائريين المحليين الذين خصصت لهم رواتب شهرية بقيمة مليون دينار عراقي وإدخالهم في المجلس العشائري التابع للقصر الجمهوري، وتقديمهم احياناً على الشيوخ الكبار لعشائرهم.
العلاّمة محمد صادق الصدر كان اوصى مقلديه ومناصريه بأن عليهم في حال وفاته ان يتحولوا الى السيد كاظم الحائري، وهو احد مراجع الحوزة النجفية الذين انتقلوا الى مدينة قم الايرانية بعدما بدأ النظام حملاته على الشيعة في العراق. علماً ان الحائري وكالكثير من المراجع النجفية يعود بأصوله الى ايران. وهذا الأمر، اضافة الى استمرار اقامته في قم، خلق إرباكاً كبيراً في عملية نقل الولاء وفي اعتباره مرجعاً مقلداً في بيئة تنتظر من المرجع دوراً عاماً ويثيرها في الوقت نفسه اي دور للإيرانيين في الشأن العام العراقي. ولهذا يعيش مقلدو الصدر ومؤيدوه في مدينة الثورة حالاً ربما كانت فريدة في تاريخ علاقة المرجعيات بجمهورها، فهم وعلى رغم وفاة مرجعهم مستمرون في تقليده، وتقليد الميت امر غير شائع عند الشيعة، ولكنهم يقولون انهم يعودون للحائري في القضايا التي لم يتصد لها الصدر الثاني. اما في موضوع الولاء السياسي الذي يفترض ان يكون جزءاً من التقليد ومن الولاء المرجعي وفقاً لمسألة الولاية العامة، فيبدو ان مناصري الصدر الثاني متمسكون بولائهم لنجله طالب العلوم الدينية مقتدى على رغم حداثة سنه الذي لا يخوله للتصدي للمرجعية.
يشكل تيار الصدر الثاني احد الأسرار التي تكشفت بعد انهيار النظام، اذ لا يبدو ان احداً كان في وارد توقع وجود تيار سياسي نشأ ونما في معزل عن الحركة السياسية للشيعة العراقيين خارج العراق. تيار مستقل عن حزب الدعوة الذي انتقل للعمل خارج العراق، وعن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. نما هذا التيار في العراق في كنف قيم ارسى بعضها النظام البائد، وهو ضعيف الحساسية حيال ما ارتكبه صدام حسين في خوضه حرباً ضد ايران، كما انه ضعيف الارتباط بالحوزة النجفية لأسباب تتعلق بعدم عراقية معظم مراجعها.
غداً: مكاتب الصدر الثاني تقود "الثورة" ومقتدى ينتظر المرجعية