العراق.. سراب المصالحة! رشيد الخيون
العراق.. سراب المصالحة!
لا يحبط همةً أو يفل عزيمةً مَنْ يرى أن المصالحة بين الكيانات العراقية، وعلى هذا الحال، مجرد «خفوق سراب». ويبدو أن أمرها قد تأخر خمسا وثمانين سنة، هي عمر الدولة الحديثة. يُتلمس هذا من شكوى ملك البلاد فيصل الأول (ت 1933)، وهو يُقلب ناظره حائراً بين نوازع متباغضة. كتب في ورقة نشرها المؤرخ عبد الرزاق الحسني في «تاريخ الوزارات»: «إن البلاد العراقية، هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية. ذلك هو الوحدة الفكرية والملية والدينية... يحتاج ساستها أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي عين الوقت أقوياء، مادة ومعنى، غير مجلوبين لحِسيات أو أغراض شخصية، أو طائفية».
ويكشف الملك عن معضلة تُركت بلا حل، حتى نمت وتورمت، كانت مغذياتها، قطعاً، سياسية. قال: «العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سُنّية، مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني. وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة، بينه أشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي منها، بدعوى أنها ليست من عنصرهم. وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة. إلا أن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي، الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التمرن عليه...». ولا يقصد الملك بذكر أكثرية كوردية وشيعية جاهلة إلا عرض حال التركة العثمانية، التي تركت تلك المناطق لرؤساء العشائر وجُباة الضرائب. ثم جاء البريطانيون وفرضوا أعراف العشائر كقوانين، عُرفت بالسواني (الرصافي، الرسالة العراقية).
خلا هذه الوقفة الملكية لم تقف الدولة، طوال حياتها، وقفةً ناقدة بقصد المصالحة بعد المكاشفة. بل استمرت بتلميع السياسات. ووسط المعضلات، التي أشار إليها فيصل الأول، دُمغ مركز السلطة الأول لسُنّي عربي، كان للملك مبرراته، فما لرؤساء الجمهوريات؟! بل المركز الثاني أيضاً، وهو رئاسة الوزراء، إلا ما ندر أن يكون شيعياً أو كوردياً. ومن هنا أتت أصالة تأسيس الطائفية الرسمية. ويخطأ مَنْ يشدد على فائدة طائفة السُنَّة من هذه القسمة، إنما جنت الفائدة عائلات، لم تكن بظلها أحوال الرمادي أفضل من أحوال الناصرية.
بطبيعة الحال، لا يمكن لأحد المزايدة على ما شخصه الملك، حتى يحلو له الحديث عن رومانسية ذلك العهد بملوكه الثلاثة. إلا إذا اختلت الموازين وحاول مقارنتها بالعقود الأخيرة، وهي معادلة «ضيزى»، أين الثرى من الثريا! كذلك هناك مَنْ يبالغ بالمظلومية في تلك الدولة، تاركاً الفواصل بين ذلك الزمان وزمان أتى وعتى. ومع ذلك تلمس العراقيون الطريق إلى هوية، مع ما يكتنفها من حساسيات ظلت غائرة في الأعماق، تطفو سريعاً عند المؤثرات.
عطفاً على ما أقلق فيصل الأول، تبقى المصالحة سراباً، إذا لم تسم الأشياء بمسمياتها، مثلما فعل وتُرك العمل بما بدأ به بعد وفاته. وفي أسوأ الأحوال، ليس الاضطهاد القومي مسؤولية العرب بسبب أن الحكومة كانت عربية قومية! وكذلك ليس الاضطهاد الطائفي مسؤولية السُنَّة لأن الحكومة، وعبر التاريخ، كانت سُنّية، تضخ سموم الطائفية خفية. إنما هناك تراكم سياسة غير نظيفة، توجت بتصفيات جماعية، وبطلاق الشيعي من زوجته السُنّية وبالعكس. وما يدور الآن ليس للأقوام ناقة فيه ولا جمل، سوى أن الدماء تسفك غزيرة من عروقها جميعاً.
إذا تركت الأمور بلا تدخل الحكماء، الذين افتقدهم فيصل الأول آنذاك، قد يحتاج ذهن المتحرر من مظلوميته إلى زمن يعادل زمن مظلوميته، أو شعوره بالمظلومية، ليتحرر من عقدة الانتقام، ويتواضع للأمر الواقع، ولمتطلبات المواطنة الواحدة. وخصوصاً وقد أتت رياح التحرر من خارج الحدود، وعصفت بكل مؤسسات الدولة السليمة والمشوهة معاً، مثلها مثل علاج السرطان الكيميائي يأخذ الخلايا السليمة بجريرة المريضة، إلا ما استقر في النفوس من أدران، لم تُمس أورامه.
وعلى خلفية الأحداث المريعة، جاءت الحاجة إلى المصالحة، بعد أن تلبس القادة الجدد طبائع قادة الانقلابات السابقة، فأصدروا قرارات تصفية الحسابات، ونسوا أنهم قضوا عقوداً في المعارضة من أجل المواطنة لا الطوائف. تناسوا الشعارات، وأسرعوا إلى توسيع أملاك ومزارع، وانشغال بالحمايات الجيوش.
ستة أشهر مضت على مؤتمر المصالحة الأول، حتى عُقد مؤتمرها الثاني السبت الماضي. واستمرت، ما بين المؤتمرين، أنهار الدم تسيل، والقتلة يجوبون الطرقات زرافات ووحْدانا. ومع عظم المحنة انسحبت جماعات من المؤتمر، واقترحت أخرى العودة إلى ما قبل التاسع من أبريل 2003، تيمناً بالقاعدة الفقهية: «ما بني على باطل فهو باطل»، من دون النظر إلى أباطيل ما قبل البناء. وبهذه الذريعة بات لا يُميز بين الحق والباطل، فكم تبدو المعاني متداخلة والألوان متشاكلة. وأول المقاصد لا مصالحة إلا بعودة «الحق المسلوب»، وهو سلطة البعث.
وبعيداً عما يفكر فيه المنسحبون من المصالحة، ومع كل التقدير لوزير الحوار الوطني أكرم الحكيم، فالرجل على مستوى من العفة والرغبة في التآخي، لكنه في المحصلة يبقى خصماً سياسياً بانتسابه السياسي، إذا علمنا أن المصالحة بين خصماء، وإلا ما سميت مصالحةً. فالمعروف أنه ينتمي إلى كتلة الائتلاف الشيعي، ومحسوب على المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والمفروض أن يكون الوسيط، أو وزير المصالحة، من خارج الكُتل المتخاصمة طائفياً، إلا إذا أُجيزت وزارته للمصالحة بقول أبي الطيب المتنبي للأمير سيف الدولة الحمداني(ت 356 هـ) استسلاماً لا تكافؤاً: «يا أعدلَ الناسِ إلا في معاملتي.. فيك الخصِامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ». إضافة إلى أن الشعراء «يقولون ما لا يفعلون»، وحكومة المالكي تريدها قولاً وفعلاً!
على أية حال، يطمع بالعودة إلى دفة السلطة ويتصالح بشروطه مَنْ يرى دولة فيها ما فيها من أسباب الانهيار. وحال وزارتها حال وزارة حامد بن العباس (ت 311هـ) من ضعف المنزلة في زمن المقتدر العباسي (قتل 320 هـ)، حتى قيل في رئيس وزارتها وحال خليفتها: «هذا وزير بلا سواد (شارة السلطة العباسية).. وذا سوادٌ بلا وزير»(تجارب الأمم). أقول: إذا لم يُعَد تأسيس الدولة على أُسس وطنية، تفسح المجال لإنعاش الهوية العراقية، ويعلن فيها التسامح بنوايا صادقة لا هروباً من محنة، ستبقى «سواداً بلا وزير»، كل ليلة من لياليها، على حد عبارة سجين قصر النهاية أحمد الحبوبي «ليلة هرير»، لا تعني دعوات المصالحة فيها سوى قبضة ريح وملاحقة سراب!
r_alkhayoun@hotmail.com