إشكالية تنازع السلطة في العراق: رئيس وزراء منتخب بشكل مباشر
إشكالية تنازع السلطة في العراق: رئيس وزراء منتخب بشكل مباشر
جابر حبيب جابر
عندما قامت الجمهورية الرابعة في فرنسا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اتخذت النظام البرلماني شكلا لها، ولان تلك المرحلة كانت فترة تناحر ايديولوجي مثقل بعبء البحث عن بداية جديدة إثر كارثة الغزو الالماني، فان تلك الجمهورية فشلت بمرور الوقت ان ترتقي لمستوى ما تتطلبه هذه البداية، حيث انعكس الصراع الحزبي على الشارع ثم على صورة البرلمان والحكومة المنبثقة عنه التي طالما كانت حكومة اضعفتها التوافقات كما التناحرات الحزبية في ظل فشل اي حزب بتحقيق اغلبية حقيقية يرتكن عليها لوضع البلاد على مسار واضح، وكان ان استمر التيهان منتجا الظرف الملائم لقبول زعامة فرنسية كارزمية تمثلت بشخص شارل ديغول الذي بات معلما في التاريخ الفرنسي للقرن الماضي لاسيما انه تحمل مسؤولية مواجهة التفكك السياسي بدون مصادرة الديمقراطية او الانقضاض عليها.
عبر ديغول انبثقت الجمهورية الخامسة شكلا جديدا لنظام الحكم في اوروبا الذي نجح بتجاوز هيمنة البرلمان المفكك وما ينتجه من حكومة هشة دون ان يذهب الى حد خلق نظام خاضع تماما لهيمنة الرئيس كما هو حاصل في بعض الانظمة الرئاسية، ولذلك اصطلح على هذا النظام الجديد بالنظام شبه الرئاسي او شبه البرلماني وكلاهما يعبر عن حقيقة انه نظام وسط بين الرئاسي والبرلماني حيث يتم انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب مما يمنحه تخويلا ديمقراطيا يعزز من سلطته كرمز للوحدة ومالئ للفراغ الذي قد ينتج عن وجود برلمان فاقد لأغلبية حاسمة، ومنذ ذلك الوقت كان النظام السياسي الفرنسي اكثر استقرارا وفاعلية.
وفي ايطاليا فقد هذا البلد الذي يصنف رابعا بين الاقتصادات الاوروبية الكثير من زخمه بفعل الانقسامات الحزبية التي لم تسمح طويلا بظهور حكومة فاعلة خلال السبعينيات والثمانينيات، وفي اسرائيل تم تمرير تعديل دستوري خلال التسعينيات يسمح بانتخاب رئيس الوزراء مباشرة من الشعب لتعزيز فعالية هذا المنصب وقدرته على تجاوز عوامل الضعف الناتجة عن تحول التحالفات والأغلبيات الحزبية بشكل مستمر.
اريد اتخاذ هذه الامثلة كمعبر الى الحالة العراقية وهي تعيش حالة سيولة مفرطة تصل احيانا حد الفوضى بسبب تنازع السلطات وغياب الرمز الموحد وتواصل التفكك السياسي والغياب الراهن والمتصور لأغلبية قادرة على مسك زمام الامور ووضع البلاد على مسار محدد دون ان تواجه باتهامات تتصف بالتشكيك والتخوين لاسيما مع انقسام الطبقة السياسية على اساس طائفي او اثني ما يعمق ازمة الارتياب بين الكتل السياسية المختلفة. لقد تمت صياغة العديد من بنود الدستور في ظل حالة من الخوف تجاه تكرار ظهور حكومة مركزية قوية تتحول مع الزمن الى حكومة مستبدة تعيد فرض هيمنة الشخص الواحد ورهن البلاد لمزاجياته المتقلبة، كما اسست السلطات في ظل نزوع نحو تغليب حالة التوافق وتكريس المحاصصة التي خلقت مفهوم الرئاسات الثلاث بشكله الحالي وانسحبت على التركيبة الوزارية التي طالما تمت الشكوى من عدم كفاءتها بفعل ارتكان الاختيار على عامل الحصة البرلمانية والتي اعطت لكل كتلة داخل البرلمان مقاعد في مجلس الوزراء توازي حصتها البرلمانية مما حول الحكومة في بعض الحالات الى برلمان مصغر دون ان يؤدي الى معالجة احساس البعض بالتهميش ووصف الحكومة بأنها «طائفية» في بعض الحالات.
وأمام هذه الحال قد لا يكون مواتيا الحديث عن ديغول جديد في العراق حيث البلد يعيش انقساما تتحدد فيه المواقف استنادا الى الانتماءات الاولية التي شاءت الاقدار انها لم تمنح احدا قدرة ان يختزل في ذاته كل المطالب والثقافات والتطلعات التي تمتلكها الاثنيات والطوائف المختلفة، ولكن الطريق ما زال مفتوحا امام البحث عن حلول جديدة تتعاطى مع سلبيات الوضع الراهن وتستفيد من المرونة التي خلقتها امكانية تعديل الدستور لمعالجة ما يمكن ان يكون مصدر خلل داخل النظام. والفكرة التي اطرحها هنا قد لا تكون نهائية او متكاملة الا انها نقطة معروضة للنقاش والأخذ والعطاء.
ان انتخاب رئيس الوزراء العراقي بشكل مباشر من الشعب وبعد تنافس بين مجموعة مرشحين سيحل العديد من الاشكاليات، فهو سيعطي لرئيس الوزراء سلطة اعتبارية تقوي موقعه امام الكتل السياسية وتحرره من الخضوع الى اراداتها المتناقضة لاسيما حينما تمنحه فضاء كافيا ليختار وزراءه على اساس الكفاءة لا الانتماء الحزبي والطائفي، وتخليص البلاد من اشكالية المحاصصة التي يعيبها الجميع رغم تمسكهم المفرط بها. بالطبع ان رئيس الوزراء المنتخب بهذه الطريقة سيكون شيعيا او سنيا او كرديا او منتميا الى اي فئة اجتماعية اخرى، لكنه في هذه الحال سيكون منتخبا من غالبية العراقيين بما يكفي ليخلصه من تهمة الاختزال الطائفي، وبما يخلق مناخا ليتعاطى ابناء الطائفة او الاثنية الاخرى معه ايجابيا لاسيما حينما يقرر السنة مثلا ان رئيس الوزراء سيكون شيعيا كون الشيعة اغلبية في العراق وفي هذه الحالة سيميلون الى انتخاب اقرب المرشحين الشيعة الى انفسهم ليتحملوا مسؤولية الاختيار بدلا من الوقوف بموقف سلبي مطلق، وقد يتسنى للسنة والأكراد اذا اتفقوا مع بعض التيارات الشيعية ايصال رئيس وزراء سني او كردي دون اشعار الشيعة بالتهميش.
بالطبع لا بد من ان تكون هذه العملية خاضعة لمتطلبات الموازنة ولا تؤدي الى اندفاع سلطوي، فالقوة التي يكتسبها رئيس الوزراء عبر الانتخاب المباشر يتمتع بها البرلمان ايضا، ولا يعني الامر تجريد السلطة التشريعية من امكانيات التأثير في المعادلة الحكومية واتجاهاتها والرقابة عليها، سيظل رئيس الوزراء بحاجة الى موافقة البرلمان على التشكيلة الوزارية وسيكون عليه بالتالي الاخذ بالاعتبار طبيعة التوازنات السياسية داخل البرلمان، لكنه في نفس الوقت لن يكون مقيدا في جعل تشكيلته رهنا لهذه التوازنات لاسيما اذا اقترن ذلك بضرورة عدم اختيار احد النواب لمنصب حكومي وإنهاء فكرة ان يكون مجلس النواب محطة للعبور نحو السلطة التنفيذية، وتعزيز امكانية الفصل بين السلطات. قد تحصل حالة تعارض بين البرلمان ورئيس الوزراء ولكنها يمكن ان تعالج عبر وجود منصب رئيس الجمهورية الذي قد ينهي بعض الاستعصاءات او عبر آلية الدعوة لانتخابات مبكرة تكون في ذات الوقت استفتاء شعبيا على السلطتين التشريعية والتنفيذية. مثل هذا التجديد سيتطلب تغييرا على صعيد النظام الانتخابي وترجيحا لمفهوم القائمة الانتخابية المفتوحة، ولكنه سيكون اختبارا اخر لمدى قدرة الاطراف السياسية العراقية على قبول نظام للحكم يتجاوز التخندق الطائفي او السياسي، ويسهم في اعطاء رمزية توحيدية لأهم موقع سياسي في البلاد .