صدمات الكاتب عكاشــــه:القومية غطاءعنصري لدعوة سياسية ابتكرتها الاستخبارات البريطانية
صدمة للإفاقة!
GMT 20:30:00 2007 الخميس 21 يونيو
الاهرام المصرية
أسامة أنور عكاشة
[align=justify] لاشك أنه يؤلمني أن أتسبب في صدمة لأي إنسان, فما بالك إذا كان هذا الإنسان شخصا أكن له الكثير من التقدير والود, وأعتز بقيمته كمثقف بارز وواحد من أهم نشطاء العمل الثقافي بمصر, وأحد المحسوبين علي التيار التنويري في فترة حرجة أعتمت فيها الرؤي واختلطت المعايير وسادت الضلالات والهراءات.. والأستاذ شريف الشوباشي هو ذلك الرجل!
فاجأني بمقاله الأسبوع الماضي الذي بدأه مباشرة بالإفصاح والإعلان عن الصدمة التي تلقاها جراء دعوتي لمراجعة أحلامنا القديمة عن وحدة عربية تجمع شعوبا متجاورة في هذه المنطقة, من غرب آسيا وشمال إفريقيا, لأن هذه شعوب ـ كما أدخلت هذه الأحلام في روعنا ـ تنتمي إلي عنصر واحد لأنها تتحدث نفس اللغة ـ العربية ـ وتدين غالبيتها بدين واحد ـ الإسلام ـ ولها تاريخ وظروف متشابهة لأنها ديموغرافيا تعد مجموعة بشرية واحدة.
لم يفاجئني كلام الأستاذ الشوباشي في حد ذاته, لأنه في الواقع ترديد لنفس التبريرات والتعللات التي تدبجها المناهج الدراسية وتسوق فيها العبارات الإنشائية الطنانة في حصص التربية الوطنية, أو كما تسمي أحيانا الدراسات. ولكن ما فاجأني هو صدور هذا الكلام من الأستاذ الشوباشي بالذات, وهو كما أعرف ـ ويعرف القارئ ـ من مجموعة المثقفين الفرانكوفونيين في مصر, خاصة أنه حين التقيته, عشية نشر مقاله في أحد البرامج وتحاورنا حول القضية نفسها لم يبد أبدا مصدوما من آرائي, بل كان مقاربا لها لدرجة أن مقدم البرنامج نبهه أكثر من مرة إلي أنه يردد نفس ما أقول!
والأمر المدهش( ولا أقول إنه يصدمني) هو ما يبديه الإخوة مثقفو الفرانكوفونية من غرام مفاجئ بالخطاب العروبي في هذا الوقت بالذات وكأنهم ينفون عن أنفسهم تهمة ألصقت بهم وجعلتهم يتحسسون رءوسهم بين الفينة والفينة, لأن الشائع, والثابت بحكم التجارب والسوابق, أن الثقافة الفرنسية هي دائما ثقافة إقصاء وإبعاد للآخر الثقافي ولا يمكننا في هذا الصدد أن نتجاهل حقيقة تاريخية مؤداها أن العنف والقهر كانا الوسيلة الأولي التي فرض الفرنسيون بها ثقافتهم علي شعوب أخري.. فالحروب النابليونية في أوروبا والشرق.. والحملات الفرنسية في الدنيا الجديدة ـ أمريكا الشمالية والوسطي ـ ثم حروب فرنسا الاستعمارية والاستيطانية في شمال إفريقيا وغربها ودول جنوب الصحراء, التي اهتمت في المحل الأول بمسخ واستئصال الثقافة الوطنية وفرض الثقافة الفرنسية.. وتعد التجربة الفرنسية في الجزائر هي المثال القاطع في هذا الأمر, مما يفسر تلك القطيعة التي مارسها الفرانكوفونيون ضد ذلك المركب الملقب بـ القومية العربية وضد مفردات الثقافة العربية بالذات!
أشير بهذا فقط إلي دهشتي من حالة الصدمة التي مر بها الأستاذ شريف!.. ولندع الدهشة جانبا فكل ما أوردته في مجال الإشارة إليها قابل للنقاش والجدل ولنعد إلي المجري الرئيسي.. مجري الصدمة.. وكلمة الصدمة في حد ذاتها كلمة ثقيلة تحمل حتي في منطوقها قدرا كبيرا من المبالغة!
وليس من المنطق في شيء أن نصف المراجعات الفكرية والسياسية بصفة الصدمات.. لأن الفكر مادة متحركة دائمة التفاعل والتحاور والجدل, ودائما ما نتحدث عن تجديد الفكر في مجالاته المختلفة فلا يتفق الفكر أصلا مع الجمود والثبات والمراوحة في المكان وإلا انحرف إلي الدجماطيقية القاتلة.. والفكر السياسي بالذات هو ساحة تبدل وتغير القوانين والمواقف والاتجاهات.. ومرونة التعامل مع المتغيرات والمستجدات.. وهذا القانون في الواقع هو محور المراجعة التي فاجأت وصدمت وكأنها لم تكن واردة علي الخاطر والبال, برغم أنني بدأتها من أوائل التسعينيات وبدأها قبلي كثير من الأساتذة المفكرين.. وقد لخصتها في عبارة رددتها عشرات المرات, ولكن يبدو أن هناك علي الطرف الآخر من لا يريدون سماعها, لأنها تفرغ هتافاتهم من رنينها الأجوف.. قلت وأعيد القول ولن أمل من تكراره, إن اصطلاح القومية هو غطاء عنصري لدعوة سياسية ابتكرها رجال الاستخبارات الإنجليزية في العقد الأول من القرن الماضي.. ولأنها مجرد لعبة سياسية دست بالباطل علي أحلام شعوب هذه المنطقة, فقد فشلت في أن تتحول إلي حقيقة واقعة وفشلت كل المحاولات ـ وبعضها محاولات نبيلة وبريئة حقا ـ ل
إقامة أي نوع من أنواع الوحدة أو الدولة السياسية الواحدة!.. بل أسفرت كل هذه المحاولات عن خيبات أمل مريرة حولت الحلم إلي كابوس.. ومع ذلك يفضل الكثيرون لذة النوم والكسل تحت أغطية الشعارات والأماني المستحيلة.. فإذا حاول أحدنا سحب هذه الأغطية.. كانت الصدمة.. ومن هذا المنطلق تبرر الصدمة نفسها, لأنها تصبح ضرورة لازمة للإفاقة.. وإذا كان لابد من صدمة توقظ الغارقين في بحران النوم الثقيل, فأهلا بها.
وإذا كان من الخطأ أن نتوقف عند نصف الآية ولا نكتفي بذكر:( لا تقربوا الصلاة)! وكان واجبا علينا أن نكمل( وأنتم سكاري).. فقد لزم أن ندير العملة علي وجهها الآخر ونؤكد بإيمان وإصرار أن هويتنا كمصريين لا تعني مطلقا إنكار ثقافتنا العربية!.. فالثقافة العربية ليست كما قيل عن حق رداء نرتديه عندما نريد ونخلعه وقتما نحب.. ثقافتنا العربية حقيقة لا ريب فيها ولا مجال للجاج أو الثرثرة حولها.. وليست في حاجة إلي إثبات أو إيراد دلائل علي وجودها.. وهذا ما يجب أن نتمركز حوله.. ولنفض مرة وإلي الأبد حديث الدردشة السياسية التي يلوك أصحابها ويستحلبون علكة الأحلام المخدرة.. ويصعب عليهم إلي درجة الشحتفة والبكاء أن يصدمهم صادم يريد لهم الإفاقة!
وإذا كنت أفخر بثقافتي ولغتي وآدابي وكل منتجاتي من مصنفات الثقافة العربية, فإنني أنبه وأحذر بالتالي من ظاهرة الازدواج الثقافي وما قد تثيره من التباسات لن ينتج عنها إلا المزيد من ضبابيات الرؤي فيما يتصل بـ الهوية الوطنية.. وقد أشرت في مقالي السابق مصران إلي الخطر الماثل في الأفق نتيجة ازدواج العملية التعليمية في مصر.. ومغبة انقسام مصر إلي مصريين ثقافيا.. الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلي ما أحذر منه في مقالي اليوم, مشيرا إلي ازدواجية الثقافة.
وإذا كانت هناك قوانين تنظم ازدواج الجنسية, سواء قبلناها أو كان لنا فيها رأي, فلا توجد قوانين يمكنها أن تنظم ازدواج الثقافة!.. وإذا كان مزدوجو الثقافة في مصر( فرانكوفونيين أو انجلوفونيين) يحسبون اليوم ضمن شريحة النخبة الثقافية أو الإيليت, ويمكن الوثوق والركون إلي أنهم محميون بحكم تربيتهم وتكوينهم الوطني من خطر الانسلاخ عن الثقافة الأم لحساب الثقافة المضافة.. فإن الأجيال المقبلة من ضحايا ازدواجية التعليم لن تكون بالتأكيد حائزة علي هذا الضمان أو محصنة ضد الخطر.
[/align]
