أبعاد زيارة الجعفري لـ«لولي الفقيه» السيستاني
أبعاد زيارة الجعفري لـ«لولي الفقيه» السيستاني
كتابات - ضياء الشكرجي
طالعنا الجعفري اليوم (الاحد) بـ«مبادرة» له جديدة. ونحن في الواقع لا نـُشكل على أي طرف سياسي ليقوم بمبادرة ما، ولا على أي مجموعة پرلمانية أو خارج-پرلمانية لتحقيق أي هدف سياسي خاص، أو عام، أي سواء كانت المبادرة ذات بعد وطني عراقي، أو ذات بعد حزبي أو كـُتلـَوي أو طائفي أو قومي، بشرط عدم تقاطع المبادرة الخاصة مع المصلحة الوطنية العامة. ولكن عندما يتحرك رجل أصبح مثارا للجدل بمبادرة، يجتذب الاهتمام، سلبا أو إيجابا، رفضا أو قبولا.
في مبادرته يريد الجعفري، كما هو معلن، رأب صدع الائتلاف المتصدع، حيث أخذ مبادرته، مستصحبا فيمن استصحب عبد الكريم العنزي وقاسم داوود، أخذها وإياهم إلى «الولي الفقيه» في النجف، ليضفي على المبادرة الغطاء الشرعي بمباركة «الولي الفقيه». فهكذا اعتادت أحزاب «الإسلام السياسي» عندما كانت في ضيافة دولة «ولاية الفقيه»، أن تفعله أيام الاندكاك في تلك الدولة الشرعية وقائدها ومؤسسها «الولي الفقيه» الخميني. فكانوا يتسابقون إلى بيت «إمام الأمة»، ويزايد بعضهم على بعض في مدى شرعية عمله، بمقدار مباركة «القيادة الشرعية»، التي تمثل «امتداد الإمامة» و«نيابتها الشرعية» في زمن «الغيبة».
في الوقت الذي كان الإسلاميون الشيعة يعتقدون بوحدة «ولاية الأمر» لعموم الأمة الإسلامية، والتي كانت متمثلة بـ«إمام الأمة» و«قائد الثورة الإسلامية» و«مؤسس الدولة الممهدة» لدولة «عصر الظهور»، كان هناك رأي جريء من آراء من يعتمد نظرية ولاية الفقيه للحكم، ألا هي تعدد مواقع الولاية، بتعدد الشعوب والدول الإسلامية. والقوى الإسلامية التي كانت ترى نظرية تعدد الولاية مخالفة لتوجه الدولة الشرعية وولي أمرها الفقيه الجامع للشرائط الخميني، نراها نفسها سرعان ما تحولت إلى نظرية تعدد الولاية عمليا وربما تقية، وأعلنت تحولها من الخضوع لولاية الخامنئي إلى ولاية السيستاني، وهكذا سارع حزب الدعوة بجناحيه الداخليين «جناح الجعفري» و«جناح المالكي/الأديب» (ولا أقصد بشقيه الأصل والمنشق بقيادة العنزي-الخزاعي)، لإعلان الولاء لـ «لولي الفقيه» في النجف، بدلا من «الولي الفقيه» في حسينية چمران-طهران. لكن كل ما في الموضوع أن المصطلحات تبدلت، فلم يعد يستخدم مصطلح «الولي الفقيه»، أو «ولي أمر المسلمين»، أو «إمام الأمة»، بل «المرجع الأعلى»، واستبدلوا مصطلح «ولاية الفقيه» بـ «المرجعية».
لست بصدد مناقشة نظرية «ولاية الفقيه»، وبقطع النظر عن أدلتها الشرعية وصلاحيتها كأساس للدولة العصرية، بل أريد أن أقرر هنا مدى الازدواجية التي تمارسها القوى والشخصيات الإسلامية، ومعها أصحاب المشروع المذهبي - كي لا أقول الطائفي - حتى من السياسيين الشيعة من غير الإسلاميين، يقولون لشركاء العملية السياسية الآخرين أننا متفقون معكم على أسس الديمقراطية التي من لوازمها وشروطها عدم إقحام الدين ورموزه في الشأن السياسي، ويقولون أننا لم نعد نستهدف إقامة الدولة الإسلامية، لا على أساس ولاية الفقيه، ولا على أي أساس آخر، ولكنهم في نفس الوقت يلتزمون بشكل سافر بمبدأ ولاية الفقيه من الناحية العملية؛ هذا ما يفعله رئيس الوزراء طوعا أو جبرا، قناعة أو تقية، وما يفعله إخوانه الخصوم الداخليون أي من داخل حزبه كالجعفري وغيره، بل حتى العلماني الشيعي قاسم داوود، ومن قبله العلماني الشيعي أحمد الچلبي التزما بولاية الفقيه التي ليس لما عندها لا ناقة ولا جمل. إني لا أريد هنا أن أناقش مؤهلات أو عدم مؤهلات السيستاني السياسية، فيمكن ان يكون أوعى وأكفأ من كثير من السياسيين، ويمكن ان يمتلك مؤهلات قيادية، ويمكن أن ذا حس وطني، فأنا لا أميل على لمزه بجنسيته، لأن هذا لا يمنع أن يكون ذا حس وطني لوطنه الثاني (العراق)، أقول ذلك عن تجربة، لكوني أحس أيضا بالحرص على الوطن الثاني الذي عشت فيه نصف عمري. ولكني أناقش المبدأ، وهو التطبيق الفاضح لولاية الفقيه نقيضة الديمقراطية. لكن لا أدري هل تعي المرجعية الموقرة، وهل يعي السياسيون من أصحاب مشروع الإسلام السياسي من الشيعة هذا التناقض، أو لا أقل التنافر، أم إنهم غافلون عن هذه الحقيقة.
ثم يعرف كل من يعرف الجعفري عن قرب، كم عانى الرجل من جراء زحزحته واستبداله بأخيه الندي المالكي مرتين، مرة عن كرسي رئاسة الوزراء، وأخرى عن كرسي الأمانة العامة للحزب.
واليوم يذهب الجعفري مع حاشيته المعروفة من الدعوة، ومعه من جمعهم حوله من المفارقين للائتلاف، أو المُستـَبعَدين من التحالف الرباعي (الفضيلة، والصدريين، وتنظيم العراق، وقاسم داوود)، في وقت يتزامن مع زيارة المالكي لنيويورك، مما يمكن أن يفهم، وأقول مؤكدا (يمكن) أن يفهم، أنه محاولة سرقة للأضواء التي سلطت على المالكي، تلك الأضواء التي تؤذي الجعفري بكل تأكيد، وكذلك في عملية استباقية لمبادرة الائتلاف في إطار لجنة مشكلة برئاسة أخ ندي آخر هو حيدر العبادي، لرأب الصدع الذي مني به الائتلاف؛ هذا التصدع الذي ترى فيه القوى الديمقراطية الوطنية مصلحة للقضية الوطنية، ليس من قبيل التشفي، بل تشخيصا لما سببت الطائفية السياسية التي قادتها القائمتان الشيعية (الائتلاف) غير المتآلفة، والسنية (التوافق) التي لا أعرف مدى توافقها، ولكن التي يمكن القول عنها أنها أقل تصدعا من الائتلاف. كما ويمكن أن تفهم هذه الحركة للجعفري تمهيدا لتشكيل تكتله الذي تجري التكهنات عنه منذ أشهر، والذي تشير العديد من المؤشرات إلى إمكان حصوله، كما إن له الكثير من المبررات النفسية للمتصدي له، ولو إنه لو استمع إلى الناصحين المخلصين، لكان الأجدر به التأمل كثيرا قبل خوض انتحار سياسي جديد.
عندما أكتب هذا التشخيص، أجد صعوبة في تناول أشخاص ربطتني لأكثر من عقدين علاقة أخوة وصداقة وعمل، ولو إن البعض سيقول، وهل أبقيت شيئا، فأقول نعم الكثير، ولكن هذا الذي قلته رغم حراجته، أجد وجوب الإفصاح به، لأن العراق أغلى عندي من كل تلك الاعتبارات، والحرج الذي أوقع نفسي فيه معهم، أهون علي من الحرج أمام الشعب، وأمام التاريخ، وأمام الله، إذا أنا سكت عن كل هذه المفارقات للإخوة رفاق الأمس.
أقول للجعفري وغيره، كفاكم تأرجحا بين ولاية الفقيه والدولة الدستورية، بين الديمقراطية والثيوقراطية، احسموا أمركم في أحد الاتجاهين، إما تريدونها ديمقراطية حقا، وإما تريدونها دينية.
ولدي الكثير مما ينبغي أن يقال، لولا أشياء تمنعني عن ذلك. لكني أقول، أنتم لستم رجال هذه المرحلة، كنتم بالأمس رجال الجهاد من أجل تحقيق مشروع أسلمة المجتمع، ولكنكم لا تصلحون للمشروع الديمقراطي. أعلم كم سيترك هذا الكلام من أذى عميق في نفوس البعض ممن ذكرت ومن لم أذكر، ولكني أعلم أن عددا غير قليل من عقلاء ومعتدلي ووطنيي الإسلاميين، وبالذات من داخل حزب الدعوة، يتفقون معي، إلم أقل في كل، ففي جل ما أطرح اليوم ومنذ فارقت الإسلام السياسي بفضل الله علي. إذن كونوا مرة واحدة شجعانا، وأعلنوا رفضكم لما يزاوله قادتكم، من أجل العراق يا إخواني وأحبتي، من أجل المشروع الديمقراطي، ومن أجل الإسلام الذي دفع ثمن تسييسنا له نحن الإسلاميين - يوم كنت منكم -، وما زلتم مصرين على هذا النهج رغم ثبوت فشله وبؤسه وضرره على قضايا الوطن والدين. ويا ليت السيستاني يتدارك الأمر، فيكف عن فتح باب بيته للمزايدات بمرجعيته، لان هذا يسيء إلى شخصه الكريم، وإلى موقعه وما يرمز له، وإلى الوطن والدين.
d.sh@nasmaa.com
www.nasmaa.com