-
تيمور العراق
كلما أشرقت شمس استبشر الناس بيوم جديد لكسب رزق أو الشكر لأنهم على قيد الحياة وإزداد عمرهم يوما. في بعض الأماكن شروق الشمس يعني مأساة أخرى اضافة للسابقات. وفي بعض الكواكب تشرق شمسان واحدة من الشرق والأخرى من الغرب لكي يلتقيا ويحرقا بقايا الثمار ومانبتت عند الليل تحت ضوء الأقمار الأربعة. البعض لابد له أن يقدم قربانا ثمنا للعيش يوما آخر. فأن نفذت ملكياته المادية فعليه دفع الجزية بأذن واحدة أو بعض البعض قدم مالديه من أولاد قربانا للذي لا ينام قبل أن يلطخ يداه
ومن يروي أن حاكم الكوكب يتلذذ بالقتل بيده. كان عادلا من حيث ظلمه وزعها على مختلف الناس من قتل وتعذيب، شيء واحد يريد أن يحققه في كل ذلك تأمين بقائه في العرش.
والروايات كثيرة عن تلكم المأساة، وبعضها لا يصدق ممن لم يتعايش الأوضاع أو لم يكن جزءا من الأدوات المستعملة في الظلم. لكن في هذه المرة يروي شخصا من نفس البقعة من الأرض التي احتوت مئات الأحياء. لو كنت تستمع للنبرة، للصوت، للجمل التي يحاول ادائها بالطريقة البرئية والبسيطة لكنت جزمت صدق السرد وحقيقت الحدث. قد يتصور البعض بأن هناك تأليف للأحداث خدمة لمصلحة معينة، لقليل من المال، للتوصل لغاية أو الأنتقاص من جهة. لكن الشخص الذي روى الحدث لا تلتمس منه أي من كل ذلك. تصاعد وهبوط النبرات الصوتية تدل على صدق الكلام، وإلتماسه للمستمعين بالتوجه لمكان الحدث من خلال تفصيله للموقع بالأسماء والكيلومترات والتحديد الجغرافي وتأريخ الواقعة. الأرض لا تخون أماناتها.
قرابة اربع ملايين من سكان الكوكب هربوا، أو أخرجوا قسرا. لكل شخص قصة تبكي الصخر، ولكل واحد من هؤلاء تأريخ مملوء بالأحزان وقلة الأفراح، ومجموعها يؤلف تأريخ كوكب مهم. لكن هل بإستطاعة الجميع الحديث وجعلنا نطلع على جزئيات التأريخ وزواياه المهمة. وكم عدد الذين مكلبين بالسلاسل تحت سطح الأرض في مخازن بشرية لا يرون الشمس والقمر ولا يمكن لأي من الأحياء أن يراهم. ماذا يحدث لتلك الجموع البشرية المخزونة وما يجرى عليهم من تجارب؟ هل يأتي يوما من يوضح لنا ونحصل على تلك الكنوز من تأريخ الأنسان الضائع.
في كوكب ليست الأرض، في عالم ليس بعالمنا الذي نعرفه ونعيش فيه، نزلت ضيفا رغما عن أنفي، كنت مجبرا لكي أرى مالا كنت أتوقعه أو حتى أحلم به عند أتعس أحلامي المزعجة. بعد أكثر من عشرون عاما من البعد عن الوطن، من العيش القسري وكل آلام الغربة ومأساتها. حدثني أخ من وطني، من الكوكب الذي اود الحديث عنه. كنت متشوقا لسماع ما يريد أخباري عن الأم التي فقدتها منذ زمن. وددت سماع أحاديث البلد المسلوب مني. تلذذت بأسلوبه واللهجة الشجية، جلفية الفرات وأطراف الجنوب الغربي من البلد المسجون. الذي يحمل في ذرات ترابه ويلات وآهات الأمهات وصراخ الأطفال ودعوات الشيوخ. صوته لم يخفت بعد فهو في عز قوته البدنية وذاكرته الروائية. متحديا الخوف ومعانيه، يروي وكأنه يضيف لسجل تأريخ المأساة ألف حزن ويريد ان يدع الجرح ينزف دما قاتما. ويدغدغ بعض المشاعر عسى العيون تدمع وعسى تهتز أحاسيس النيام في سرير الدفء والشقق المفروشة. يريد أن يقول تذكر التربة التي سقيت بدماء الكثيرين من جنسك، من وطنك، من شعبك بكل أطيافه وبمختلف معتقداته. الكلب الذي ينبح لأنه رأى جريح لم يفرق بين كردي وعربي...ولم يسأل إن كان سني أو شيعي. إنه ينبح لأن الأرض تسقى من دم إنسان عراقي.
مزارع حالفه الحظ من أن يقتني حفارة لكي يحفر الأرض وحمل التراب لملء شاحنات تنقلها الى معامل الطابوق القريبة في تلك المنطقة. لم يتوقع يوما أنه سوف يجبر على حفر قبر لمئات الناس، لكن ليس لأموات، بل لكي يساهم رغما في دفنهم أحياء. في منتصف الليل سمع أصوات سيارات تقف قرب داره. قفز من نومه الذي لم يسترسل فيه ليرى ما الأمر، دق باب داره بعنف، هرع الى الباب وهو يحاول مساعدت عينه بيده اليمنى لكي تباشر بعملها جبرا. فتح الباب والسلاح موجه الى رأسه من قبل بعض الضباط. بلهجة غريبة ونبرات هزيلة أمر بأن يخرج معهم لتشغيل ماكنته(الحفارة، البلدوزر). دون أن يخبروه عن الأمر شيء.
ساقوه الى منطقة قريبة من منزله، كانت هناك ستة شاحنات وعدد من السيارات العسكرية والمدنية الصغيرة. الظلام الحالك قد أحال دون تشخيص الحالة بصورة تجعله يدرك خطورة الأمر. الأمر كان بأن يبدأ بالحفر عمقا بمترين ونصف وبمساحة حددوها بالأشارات التي كانوا يأمرونه بها بين الحين والحين. السلاح الموجه لرأسه حال دون أن يتفوه بكلمة تسائل لماذا هذه الحفرة؟ .....بل نفذ كل الطلب. الأرض كان فيها بعض الصخور، وأحدى هذه الصخور كانت سببا لحصولنا على مفردات القصة. وأداة لنجاة طفل مازال اليوم على قيد الحياة يرزق. بعد أن أكمل عمله بدأت الشاحنات الواحدة تلو الأخرى ترمي حملها في تلك الحفرة. القبر الكبير. أعمارهم مختلفة، عوائل، كان للناظر جلي بأن هؤلاء أسر، آباء وأمهات وصغار. كل الأعمار ممثلة. لكن كل شاحنة كانت تحمل حملها من مدينة معينة، هذا القبر أختلطت فيه دماء قوميات ومذاهب متعددة، هنا حققت الديمقراطية بحذفيرها. الدفن الجماعي لتلك العوائل بان واضحا لصاحب (الشفل). الناس أيديهم مربوطة من الوراء وعلى أعيونهم قطعة قماش سوداء. لكن صخرة ويد طفل امتدت وساعدت بعضها لكي تجعل منفذا للهواء يدخل ويبقي واحدا من أولئك الذي دفنوا أحياء شاهدا يروي لنا قصة الكوكب ذو الشمسين والأقمار الأربعة.
على غرار أصوات ونبح الكلاب اجتمع الناس من عشيرة آل الزيادي ليروا ما خطب الكلاب النابحة. وهم في علم من قبل بأن تلك الكلاب تدرك بأن خطرا ينتاب إنسان. وعلى أثر حركة الكلاب على تلك البقعة الصغير بدأ الناس في غرت الفجر بأيديهم يحفرون الأرض ليروا طفلا جريح فاقدا للوعي لم يبلغ الثامنة من عمره قد دفن مع والديه ومئات من العراقيين المختلفة قومياتهم. ذلك الأمر حدث في الساعة الأولى من إحدى ايام السنة الألف وتسعة مائة وثمانية وسبعون. الطفل كان على قيد الحياة وبفضل نباح الكلاب والناس الطيبين نجى، طفلٌ لا يشبه ألوان أهل المنطقة التي أثر على لون بشرتها الشمس وطبيعة المنطقة التي اعطتهم سمار لون البشرة وطابع الكرم الفراتي. لكن هذا الطفل شعره اشقر ووجهه يشع بياضا ولون عيناه يدل على ألوان الجبال والأشجار المليئة بالفواكه وبرودة أجواء المنطقة. من أجل أن لا يلفتوا الأنظار أخذوه لمنطقة أخرى بعيدة نوعا ما عن مكان الدفن الجماعي للأحياء الذين جلبوهم من مناطق متعددة ... من الكاظمية، الناصرية، السليمانية، النجف، ومن مدن أخرى قد لا يتذكرها جميعها الراوي وهو نفس الشخص الذي يمتلك البلدوزر وبها حفر المقبرة الجماعية في تلك الليلة مجبرا والسلاح موجه لرأسه. وعند السؤال كيف عرفت بأن هؤلاء من تلك المناطق التي عددتها...أجاب بأن الضباط الذين كانوا يأمرون الشاحنات السته بأن تأتي كل حسب المنطقة ومديرية الأمن التابعه لها.
أخذوا الطفل المختلف لونه الى بيت وبنوا له غرفة على السطح كي لا يراه أحد ويتسائل من هو، ومن أين. أضمدوا جراحه وبعد سنة أو أكثر دون أن يتمكنوا من الحديث معه لفقرهم للغته وعدم استطاعته التعبير لهم بلغته. فسافر صاحب الشئن لكي يتعلم بضع كلامات كردية..مثلا ماهو اسمك (ناو تو جيه) ومن أين انت( خلق جو بوي) أين ولدت..ففلح بذلك ورجع لأهله، وسأل الطفل وكانت إجابته أنه من منطقة السليمانية (كالار). فتهيء للعمل من أجل معرفة اصل الطفل ورده الى أهله. فحاول عمل علاقة مع شخص من نفس المنطقة وهذا العمل أخذ فترة السنة أو أكثر من تبادل الهدايا والزيارات لبناء الثقة. وبعد الوثوق من صدق الشخص عرض عليه المسألة وبحذر وخوف شديدين على أن يعملوا بصورة لا تجلب أنظار النظام. وقد وجهة الشخص الكردي دعوة الى أناس مختلفين وذو أوصاف ممن فقد عوائل لم يعرف مصيرهم. وقد جائوا بالطفل بعد أن لبسوا الزي الكردي كي لا يجلبوا الأنظار وجعلوا الطفل في غرفة لها ثقب يمكنه النظر من خلالها للزائرين حتى يتسنى له التعرف على شخص له علاقة به. وبعد تكرار العملية وفي احدى المرات بدأ الطفل يبكي واراد الصياح لكن منعوه كي لا يفشى سرهم. ثم سألوا الطفل من يكون هذا الشيخ فقال أنه جدي.....أي أب لأبيه....
بشكل وآخر بدئوا بالكلام مع الشيخ العجوز وعرفوا منه أنه يفتقد ولده وعائته، طلبوا منه أسمائهم فبدأ بالذكر حتى وصل لأسم تيمور. عند ذلك تأكدوا من أن الطفل في الغرفة الداخلية حفيده. فألتقى وبكى...وتيمور معانقا جده بشدة والدموع تنهال من عينيه لتغسل آلام المنظر الذي شاهده كيف يدفنونهم وهم أحياء..كيف فرقوا بينه وبين ابويه. الذي انجى تيمور وساعده أحد أفراد عشيرة الزيادي من منطقة السماوة. تيمور كردي من منطقة السليمانية.. من يشكك بحب العراقيين لبعضهم.
وهناك للقصة تكملة، احاول الأتصال بتيمور الذي يسكن الآن في أمريكا، لكي احصل على معلومات أخرى واقعية.
عباس رضا
السويد
abbas541@msn.com
(: