~.ملامح المنهج الفقهي عند آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين.~السيد محمد طاهرالحسيني
[align=justify]
[align=center][frame="7 80"][align=center]
http://www.ebaa.net/khaber/2004/01/12/images/007.jpg[/align][align=center] ملامح المنهج الفقهي
عند الشيخ محمد مهدي شمس الدين
[overline]السيد محمد طاهر الياسري الحسيني[/overline][/align][/frame][/align]
ترك الشيخ محمد مهدي شمس الدين من التراث الفكري ـ فيما يتصل ببحثنا ـ عدداً من الأبحاث المهمة، وآخر من المقالات والمقابلات.. عالج فيه جملة من المسائل والموضوعات من وجهة النظر الفقهية. لنتلمَّس من خلال قراءتها الأبعاد الخاصة التي رسمها الشيخ شمس الدين لمنهجه الفقهي، في هذا المنهج الذي قد يتفق مع نظرائه الفقهاء تارة، وقد ينأى عنهم تارة أخرى، بما يؤسس له من مقولةٍ هنا أو رأي هناك، كما هو دأب الفقهاء وديدنهم في الاتفاق والاختلاف، تبعاً لاختلافهم في اختيار المناهج التي تحكم طرائق تفكيرهم، بما يترك أثره في نتائجها.
ـ 1 ـ المرجعية الفكرية
من زاوية التصنيف المذهبي السائد يُصنَّف الشيخ محمد مهدي شمس الدين على مذهب اهل البيت (عليهم السلام) ويعتمد الآليات العلمية المشروعة من وجهة نظرهم ـ وهو المعبّر عنه في إصطلاح الأصوليين بالأدلة الشرعية ـ ويستبعد ما استبعده أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، على ما هو مقرر في علم أصول الفقه، تبعاً للاختلاف في دليلية بعض ما يدّعى صلاحيته للدلالة على الحكم الشرعي، من قبيل الاستحسان والقياس والمصالح المرسلة.. فالأدلة الشرعية ـ عنده ـ هي الكتاب الكريم (النص القرآني)، والسنة الشريفة حصراً (1) . وإذا كان قد اشتهر على ألسن علماء أصول الفقه ـ من الإمامية ـ أنَّ الأدلة الشرعية أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، فإنَّ الشيخ شمس الدين يرجع هذا الاشتهار إلى "توسعٍ وتسامحٍ لا يتناسبان مع المنهج العلمي، الذي يقتضي الدقة بقدر الإمكان" (2) .
ويرى الشيخ شمس الدين "أنَّ الشيعة الإمامية أدخلوا مصطلح الإجماع في أصولهم التي تأخر تدوينها ـ وربما تأسيسها ـ عن أصول أهل السنة، متأثرين بمنهج البحث الأصولي عند أهل السنة، وربما استجابة لمقتضيات الحوار والجدل الكلامي" (3) ، وهو رأي نجده في تضاعيف أبحاث فقهاء آخرين، مثل الإمام الخميني الذي ذكر: "ان إنسلاك الإجماع في سلك الأدلة وعدَّة في مقابلها إنما نشأ من العامة" (4) .
ومهما يكن من أمر، فالإجماع ليس "حجة في موازاة الكتاب والسنة، بل هو ـ على فرض حصوله ـ حاكٍ عن السنّة كخبر الواحد مثلاً. ومن هنا فإنَّ حجية الإجماع إنما هي من جهة تضمنه لرأي المعصوم أو كشفه عنه، كما صرَّح بذلك الفقهاء والأصوليون الإمامية في تعريفهم للإجماع وبحثهم فيه. ومن دون ذلك لا حجية للإجماع ولا عبرة به في مقام الاستدلال والاستنباط، مهما بلغ عدد المجمعين ومهما بلغت منزلتهم" (5) . فالإجماع إذاً "صيغة من صيغ حكاية السنة" (6) .
وموقف الشيخ شمس الدين هذا مسبوق بما أشار إليه الشهيد الصدر ـ بإيجاز في رسالته العمليةـ مذكِّراً أنَّ ما يسمى بالإجماع فهو ليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسن"(7).
وعوداً إلى إدراج الاجماع في جملة الأدلة على الحكم الشرعي، يرى الشيخ شمس الدين أنَّ اعتبار إجماع الفقهاء دليلاً شرعياً موازياً للكتاب والسنة أدى إلى "إعاقة نمو الفقه، لأنه يحول بين الفقيه وبين البحث عن أجوبة غير جاهزة عن المسائل الطارئة، لأنه يقدم للفقيه جواباً جاهزاً يعفيه من عبء البحث ومسؤولية القرار الفقهي، فيعطل نمو البحث عن أجوبة جديدة عن الأمور الطارئة. وبذلك يحول أيضاًـ بطبيعة الحال ـ دون استجابة الشريعة لمستجدات الواقع، لأنه يحصر الشريعة في صيغ جامدة ومحددة، هي صيغ الإجماع على قولٍ ما أو الشهرة على قولٍ ما" (8) . وعليه فإنَّ "حجية إجماع الفقهاء أدّى إلى تعطيل النمو الحضاري في المجال الحياتي العام، وإلى شل مشاركة الأمة في قيادة نفسها في المجال التنظيمي السياسي" (9) ، مما يعني ضرورة الدعوة "إلى إعادة النظر في دعوى حجية الشهرة والإجماع، وإلى البحث في المسائل الإجماعية عن أجوبة عن الأسئلة الجديدة تتجاوز الشهرات القائمة والاجماعات المدّعاة" (10) . ولذلك شكّك الشيخ في كثير من دعاوى الإجماع، لجهة أن بعض ما يدّعى أنه مجمع عليه ليس مجمعاً عليه (11) ، خاصة في التفريعات التي في أبحاث الفقهاء المتأخرين عن عصر القدماء، إذ لا وجه لسماع دعوى الإجماع فيها، وكذلك القضايا المبنيَّة على مبادئ ومقدمات عقلية فلسفية أو منطقية أو نقلية قابلة للمناقشة فلا يمكن سماع دعوى الإجماع فيها أيضاً (12) .
ولذلك لم يُصغ الشيخ شمس الدين لدعاوى الإجماع في عددٍ من المسائل الحرجة من قبيل: دعوى اشتراط الذكورة في رئيس الدولة وعدم جواز أو أهلية المرأة لتولي السلطة (13) ، ودعوى الإجماع على اشتراط الذكورة في القاضي (14) ، ودعوى الاجماع على انحصار حرمة الاحتكار في موارد منصوصة لا يمكن التعدي منها إلى غيرها (15) ..ولعدم الإصغاء هذا استثناء، فقد يتمسك الشيخ بالاجماع، بل وينّظر له، كما في دعوى الاجماع على اشتراط العدالة في المفتي ومرجع التقليد، فإنه استظهر اشتراط العدالة فيه لدليلين: أحدهما الاجماع، وذكر أن "قضية عدالة وفسق الفقهاء في الأحكام الشرعية ورواة السنة كانت من الأمور المتداولة والمطروحة على بساط البحث عند الأئمة المعصومين(ع) والفقهاء وشيوخ الرواية، فدعوى الاجماع على اعتبار العدالة في المفتي ممن ادعاها تقوم على اساس متين من فتاوى الفقهاء القدماء وعملهم المتصل بزمان الأئمة(ع)، ولذا فإنَّ الاجماع في هذه المسألة مما يُعلم باشتماله على قول المعصوم" (16) ، وإن كان تكرر منه "أن ثبوت الإجماع في مسائل التقليد ومتفرعاتها غير معلوم" (17) ، خاصة مع ما ذكره من كون "الولاية من قِبَل الفقيه خصوصية زائدة على صِرْف الافتاء" (18) ، فإنه عندئذٍ لا ينفع الاستدلال باشتراط العدالة في ولاية الأمور الحسبية الملازمة لكون المفتي مرجعاً في الفتوى (19) ، لأنَّ هذه الولاية خصوصية زائدة، والبحثُ في المفتي من حيث هو كذلك.
وموقف الشيخ شمس الدين من إدارج العقل في الأدلة الشرعية موقفه ذاته من الإجماع، فإنه ـمن وجهة نظرة ـ "ليس دليلاً تشريعياً في موازاة الكتاب والسنة ـ أي أنه ليس مصدراً للتشريع ايضاً ـ وليست له "أحكام" بالمعنى المصطلح، بل هو يدرك الأشياء وعلاقتها ولوازمها" (20) . ويمكن أن نشير إلى ماذكره الشهيد محمد باقر الصدر في هذا السياق، فإنه ذكر في (الفتاوى الواضحة): "وأما ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنه هل يسوغ العمل به أو لا، فنحن وإن كنّا نؤمن بأنه يسوغ العمل به، ولكنا لم نجد حكماً واحداً يتوقف إثباته على الدليل العقلي، بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتابٍ أو سنة" (21) .
وبالعودة إلى ما أشرنا إليه من كون الكتاب والسنة الشريفة المصدرين الوحيدين للتشريع، فإن الشيخ شمس الدين يشير إلى أن الكتاب هو "القرآن المتداول بين المسلمين منذ عهد صاحب الرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما بين الدفتين لا زيادة فيه ولا نقصان ولا تحريف... وهو قطعي السند لا ريب في صدوره عن الله تعالى على لسان رسول الله (ص)، وبعضه نص قطعي الدلالة وبعضه ظاهر الدلالة" (22) . وما يقرره الشيخ في هذا الصدد لا يُضيف شيئاً ولا يزيد. إنما المهم ما يلاحظه الشيخ شمس الدين على المنهج السائد في التعاطي مع الكتاب الكريم، إذ يرى "أنَّ الفقهاء رضوان الله عليهم والأصوليين القدماء.. انطلقوا في تعاملهم مع القرآن باعتباره مصدراً للتشريع من خللٍ أو من ضيقٍ في الرؤية المنهجية، جعلتهم يرون فقط آيات الأحكام المباشرة التي يتعاطونها، وهي ما يتصل بفقه الأفراد، عبادات الفرد، تجارة الفرد، جريمة الفرد، الأسرة" (23) ، وأنهم "غفلوا عن البُعد لتشريعي للمجتمع وللأمة في المجال السياسي والتنظيمي وللعلاقات الداخلية في المجتمع وعلاقات المجتمع مع المجتمعات الآخرى غير المسلمة" (24) ، وأصبح الفقيه يتعاطى مع أقل من عُشر القرآن الكريم، متغافلاً عن الباقي منه.
كما لاحظ على منهج الاستنباط الفقهي أنه يتجاوز حاكمية القرآن الكريم، وأنه يتصدى لفهم النصوص الدينيةمن الروايات والأحاديث الشريفة بمعزل عن التوجيه القرآني، ذلك (الأساس) الذي ينبغي اتباعه في الاستنباط (25) ، وذلك لأن "الرؤية القرآنية هي المناخ التشريعي للأحكام، فهذه الأحكام ليست بلا جذور وليست بلا إطار (فلسفة)، بل هي تركز على قاعدة عامة تعبّر عنها هذه الرؤية، وبذلك تكون هذه الرؤية مرجعاً في فهم النصوص التشريعية وتفسيرها" (26) . وعليه فإنّ"الرؤية القرآنية تضيء النص التشريعي، وتكشف فيه عن أبعاد وخصوصيات قد تضيف إليه دلالة أخرى تضمنية أو إلتزامية على خصوصيات لا تدل عليها بالمطابقة وبصورة مباشرة" (27) . وهذا المعنى وإن لم يتجاهله الفقهاء، إلاّ أنهم لم يؤصّلوا الموقف منه، ولعلَّ من أوائل من نّبه عليه من الفقهاء الشهيد الصدر فيما أسماه باشعاع المفاهيم على الأحكام ودورها في فهم النصوص الشرعية (28) .
وأماالمصدرالثاني من ادلة التشريع فهو السنة، "وقد وصلت إلينا السنة عن طريق النقل على أَلسنة الرواة، وقد جمعها ائمة الحديث وعلماء السنة في مجاميع تداولها المسلمون وتدارسها علماء الحديث والفقه والأصول، وصنفوها في أقسام: منها ما يصح الاحتجاج به واعتماده في استنباط الأحكام الشرعية، وهو الصحيح وما دونه من الموثق والحسن، ومنها مالا يصح الاحتجاج به، وهو الضعيف وإخوته" (29) . ولم تصل السنة بطريق قطعي في معظم الحالات، ولذلك اختلف الفقهاء المسلمين في اعتبار هذه السنة، لجهة إختلافهم في طرق توثيق الأخبار والروايات، واعتبار ما هو معتبر منها، فنشأت حقول معرفية خاصة تعنى بالتوثيق ودراسة الروايات من حيث الاعتبار واللا اعتبار، مثل علم الدراية والجرح والتعديل.
وفي هذا الصدد يظهر من الشيخ شمس الدين أنه يرى "إنَّ المدار في الحجية ـ يعني حجية الخبر واعتباره والاعتماد عليه ـ على حصول الوثوق بالصدور و... أن العقلاء في شؤونهم العملية إذا وثقوا بصدق مخبر عملوا بخبره ورتبوا عليه الآثار وإن لم يكن ثقة في نفسه من جهات أخرى (30) ". وقد اختلف الفقهاء وتباينت مواقفهم تجاه هذه المسألة بين من يعتبر أن الخبر المعتبر هو خبر الثقة، وبين من يعتبر أنه الخبر الموثوق به وإن لم يكن المخبر ثقة. وبناءً عليه اختلفوا في مسألة ما عرف عندهم بأنَّ عمل مشهور الفقهاء جبر له، وأنَّ إعراضهم عنه يوهنه، وقد ظهر من بعض ابحاثه أنَّ عمل المشهور يُولَّد الوثوق بالخبر (31) . غير أنه يظهر منه التأمل في هذا الرأي ومما ينبغي إعادة النظر فيه (32) ، بل أنه نشأ وشاع إيثاراً للسهولة واليسر (33) .
غير أنَّ الأهم في هذا المجال التذكير بملاحظته الجريئة حول التصنيف المذهبي للسنة الشريفة، فيكون للشيعة سنتهم الخاصة، ويكون للسنة سنتهم الخاصة بهم، فيرمى الخبر الشيعي بالكذب الوضع، ويرمى الخبر السني بالكذب والوضع، وتساءل عن السرِّ في تجاهل السنة أخبار الشيعة التي تجمع شرائط الحجية، وتساءل عما إذا كان ثمة جهود بذلت لدراسة هذه الأخبار من الطرفين، وإلاّ كيف يتصور أن يكون هذا العدد الهائل من اخبار وروايات الشيعة كله أكاذيب! وكيف يتصور ان يكون هذا العدد الهائل من اخبار السنة كله اكاذيب (34) !
نشير إلى أنَّ للشيخ شمس الدين آراء ونظرات في مسائل وقواعد رجالية تستدعي الدراسة والتأمل، فقد اختار ما يُعرف بالتوثيق العام لرواة كتاب (كامل الزيارات) للمحدث أبي جعفر بن قولوية (35) ، وهو مطابق للرأي الذي عدل عنه استاذه السيد الخوئي، وهو رأي ـ ربما ـ تفرد به السيد الخوئي، كما أنه وثَّق من يروي عنه ما اصطلح عليهم أصحاب الاجماع (36) . كما أنَّ له رأياً في دلالة بعض الألفاظ على التوثيق في الوقت الذي يرى فيه معظم علماء الرجال عدم دلالتها عليه (37) . وجرح بعض الرواة على الرغم من التنصيص على وثاقتهم وفقاً لمعطيات علم الرجال (38) .
يبقى أن نشير إلى أنَّ ما يعرف بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ليس من الأدلة علىالحكم الشرعي، وهو ما ينسجم فيه الشيخ شمس الدين مع الموقف العام لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) شأنه شأن أعلامها وفقهائها الأقدمين والمتأخرين والمعاصرين. ولكنَّ للشيخ راياً في هذا الصدد، فإنَّ عدم مشروعية هذه الأدلة من وجهة نظر مدرسة أهل البيت "لا يعني أنه يوجد تباين كامل بين هذه المذاهب في هذه الأدوات الاستنباطية، ففي بعض الموارد يكون الاختلاف لفظياً، أي أن الاختلاف يكون في التسمية فقط، وبعض الموارد التي تعتبر قياساً عند أهل القياس لا يسميها فقهاء الأمامية قياساً، كذلك في باب الاستحسان مثلاً، ما يسمى باب التزاحم في الفقه الإمامي قسم كبير منه يمكن تصنيفه بسدّ ذريعة أو استحسان" (39) . بل يمكن القول ـ من وجهة نظرالشيخ شمس الدين ـ: "أنَّ من لا يلتزم بحجية المصالح المرسلة فلإلتباس في الأسم، وإلاّ في استنباطاته الفقهية هو يستعمل هذا المنهج" (40) . وعليه"لا يجوز التعميم بنفي صلاحية الاستدلال وصفة الدليلية عن كل ما يسمى قياساً، كل ما يسمى استحساناً، كل ما يسمى سدّ ذريعة. إنَّ هذا التعميم ليس دقيقاً في التعبير عن حقيقية الحال، حيث إنَّ بعض الموارد التي تستعمل فيها هذه المناهج أو هذه المفردات في المنهج هي موارد صحيحة> (41) >.
-2- رؤى جديدة
إنتماؤه لمدرسة فكرية معينة لم تمنعه من الإنفتاح، إذ شاد لنفسه رؤية تبتعد به شيئاً ما عن السائد والمألوف، بل انه يجد في المألوف والسائد إجتراراً وتقليداً، بما ينفي صفة الاجتهاد والتفكير والتأمل.
ويرى ـ بكل صراحة ـأنَّ ما "يُحكى عن باب الاجتهاد مفتوح عند الشيعة، مغلق عند السنة، هذه مكرمة وهمية، باب الاجتهاد إذا كان مفتوحاً في مذهب الشيعة فهو مفتوح في المذاهب السنية، وإذا كان مغلقاً عند المذاهب السنية فهو مغلق عند مذاهب الشيعة" (42) ، وأنَّ "عملية الاجتهاد التي تجري الآن وقبل الآن هي اجتهاد في داخل المذهب، حتى عند الشيعة الذين يستعملون مصطلح مجتهد مطلق في مقابل مجتهد متجزئ" (43) .
ويرى أنَّ "من أكمل مظاهر وحدة الأمة وجود مجتهدين على الاطلاق تتمثل فيهم وحدة الشريعة الغراء بجميع تجلياتها في فقه المذاهب، ويغتني كل مذهب في فقهه بأنظار المذاهب الأخرى" (44) ، ولعلَّ اخطر ما يواجهه المسلمون هو غياب الفقيه الإسلامي، من امثال السيد المرتضى والشيخ الطوسي، والشهيد الأول، والشهيد الثاني، في أفقهم الإسلامي العلمي الرحب، بحيث "أصبح من المألوف أن يتهم فقيه شيعي بأنه أصبح قريباً من الأنحراف إلى الدائرة السنية إذا تبنى حكماً موافقاً للمذهب السني، أو يتهم فقيه سني بالخضوع للمؤثرات الشيعية إذا افتى بما يوافق مذهب الشيعة" (45) .
وفي هذا السياق يُلاحظ الشيخ شمس الدين أنَّ "التطور ـ غير الملائم ـ في علم الأصول لم ينعكس على نتائج الإستنباط، حيث نجد أنَّ المعالجات الفقهية تنتهي إلى نتائج واحدة عند اقدم الفقهاء وعند أحدثهم" (46) . وينبّه الشيخ شمس الدين إلى أنَّ "هذه الشريعة ليست قوالب جامدة، كما أنها ليست كلها احكاماً نهائية. كما انها ليست كلها احكاماً محدودة بجيل من الجيال وعصر من العصور، ومحددة في مجال معين من مجالات حياة الإنسان، بل هي منهج عام لحياة البشر في جميع أبعادها على مدى تاريخ البشرية الآتي وعلى مدى عمرالدنيا" (47) .
ولذلك دأب الفقهاء على البحث الدائم للوفاء بمتطلبات الأنسان المسلم، والاستجابة لأسئلته الملحة.. وكان ثمة عدد من المناهج والأصول التي اعتمدها الفقهاء بغية استكشاف الحكم والموقف الشرعيين، غير أنَّ بعض هذه المناهج قد يشكَّل عائقاً لتطور التفكير الفقهي وقد يخلّ بالمعطيات العلمية، كما هو حاصل بالنسبة لعلم أصول الفقه في صورته التي هي قائمة فعلاً ـ عند علماء الأصول في مدرسة اهل البيت (عليهم السلام)ـ إذ أنَّ "كثيراً من أبحاث علم الأصول قد تحولت عند بعض الأصوليين المعاصريين إلىأبحاث فلسفية تجريدية او يغلب عليها الطابع الفلسفي التجريدي ولاعلاقة لها بالنص القرآني او السنتي إلاّ من حيث التسمية والعنوان، ولا يحتاج إليها الفقيه في بحثه واستنباطه، و هي تستهلك الوقت والجهد على غير طائل، بل قد تؤثر على سليقة الفقيه العرفية، وذوقه اللغوي وقدرته على الفهم السليم" (48) .
ويرى الشيخ شمس الدين أنَّ آليات الاستنباط الفقهي التقليدية لا تستجيب للمتغيرات المجتمعية، وما يظهر من تطور في اصول الفقه لا يعدُّ تطوراً صحيحاً، لأنَّ هذا التطور ادخل في علم الأصول افكاراً وقضايا ليست منه ولا تتصل بالشريعة من قريب ولا بعيد (49) . بل ما نراه من تطور في علم الأصول إنما "عكسَ حذاقة علمية نظرية، وسعة في الخيال الأصولي، وتنويعاً في أبحاث الفلسفة وعلم الكلام وفلسفة اللغة وما إلى ذلك و.. لم يؤد إلى أية نتائج" (50) .
ويعرب الشيخ شمس الدين عن رأيه بشكل أوضح بشأن مركز علم أصول الفقه ـ كما هو عليه الآن ـ فيقول: "نعتقد أنَّ علم الأصول بصيغته السائدة قاصر عن الاستجابة لحاجة الاستنباط الفقهي المتجددة بحسب ما يطرأ من تغيرات على المجتمع في حركته وتفاعله مع المجتمعات الأخرى. وهذا القصور تاريخي وليس طارئاً، لأن أبحاث هذا العلم لم توضع ـ أساساًـ لتنبني عليها عملية اجتهاد شاملة... لم يوضع المنهج لمجال معرفي مقصود داخل في دائرة الوعي بشموليته وابعاده وإنما عولج هذا المجال المعرفي من خلال قضاياه الصغرى: قضايا الطهارة، أو قضايا الانكحة، أو قضايا البيوع، أو قضايا الدماء، وهكذا.. أما السبيل لصياغة مناهج ملائمة لاجتهاد معاصر يستجيب لقضايا التنظيم المجتمعي في مختلف الحقول، فنحق نعتقد أنَّ هذا الأمر الآن ميسور لنا أكثر مما كان ميسوراً للاجيال السابقة. نحن نمتلك الآن رؤية شاملة للمجتمع ولقضاياه، سواء في ذلك القضايا الراهنة القائمة أو التي تستشرقها، و التي نتوقع ان تحدث في المستقبل، ونحن نمتلك الآن وعياً نرى فيه الفقه على أنه كلٌّ متكامل مترابط، أو هذا ما يجب أن نراه. ونحن ندرك الآن في صورة افضل التفاعل بين الحياة المعاشة وبين النص القانوني أو الحكم الشرعي، وكيف يمكن أن يتأثر التقنين بضرورات الواقع او بخياراته، وكيف يمكن أن يؤثر التقنين في تغيير هذه الضرورات وفي تغيير هذه الخيارات" (51) .
وفي ضوء هذه العلامات الفارقة لاحظ الشيخ على عملية الاجتهاد طغيان النظرة الجزئية إلى الحياة، وهي نظرة تركت بصماتها واضحة على نتائج الفقه واستنباط الفقهاء. يقول في هذا الصدد: "والنظرة الجزئية إلى الحياة واستنباط الأحكام لشرعية لمسائل جزئية حوّل الفقه ومعه عملية الاجتهاد، في جانب كبير منهما، إلى فقه أفراد، وليس فقه مجتمع فضلاً عن فقه أمة.. فالفقيه يلاحظ حالة جزئية، او حالة لمجموعة أفراد، وليس فقه مجتمع فضلاً عن فقه أمة.. فالفقيه يلاحظ حالة جزئية، أو حالة لمجموعة أفراد، ويحاول أن يستنبط حكمها الشرعي، هذا في المنهج. اما في التعامل مع النص، فنلاحظ أن النصوص الفقهية في الكتاب والسنة تُقرأ على اساس انها نصوص مطلقة. من هنا نجد ان بعض الاستنباطات، من الناحية الفنية، أي ما يسمى صناعة الاحتهاد، صناعة الاستنباط، هو سليم من الناحية الشكلية، اما من الناحية الواقعية فيظهر فيه الخلل، وأذكر هنا بعض الأمثلة: مسألة نجاسة أهل الكتاب وطهارتهم، مسألة "السبيرتوه والقول بأنه نجس، لأنه مسكر، بناء على أن الخمر نجس العين. مسألة ملكية الجهة، واستطراداً هل أن الدولة تملك أو لا تملك، وما يترتب على ذلك من اعتبار جانب كبير من الأموال العامة مجهولة المالك واستحلالها بهذا العنوان? إضافة إلى الموظف الحكومي، معلم المدرسة، موظف في وظيفة معلومة الشرعية، أو معلومة الرجحان. هل يستحق كل منهم راتبه أم لا? أمور من هذا القبيل، او في بعض المسائل الكبرى كدائرة التقليد، واعتبار أن المقلَّد يجب أن يكون الأعلم.. وهكذا أمور كثيرة في الأطار الفقهي، فقه المراة، فقه الأسرة، المجتمع، الاقتصاد، التنظيم، الفن، إذا صحّ هذا التعبير، النظرة الشائعة عن تحريم الموسيقى التي لا اساس لها، بمعنى من المعاني، الفكرة الشائعة وشبه الاتفاقية حول الغناء وفيها كلام طويل، أو بالنسبة إلى الموسيقى، فهذا امر شديد الوضوح. هذه النظرة التجزيئية والجزئية مسؤولة عن تقصير كبير يظهر في عملية الاستنباط، ومن ثم يظهر في عملية تكوين الخطاب التنظيمي والتعبوي وحتى التثقيفي، "ثقافة الحكم الشرعي..." (52) ، وكان قد نّبه الشهيد الصدر قبل اكثر من ثلاثين سنة على غلبة الطابع الفردي لتفكير الفقيه بما يؤدي إلى ما أسماه بالانكماش في الهدف والنتيجة، ليتحول الفقه إلى خشبة خلاص للفرد على حساب خلاص المجتمع (53) . ولكنه أمل وتنبأ بضمور هذا التفكير في مايأتي من زمانٍ، ليمحى من "مفهوم حركة الاجتهاد أي تصور ضيق للشريعة ويزول من الذهنية الفقهية، وتزول كل آثاره وانعكاساته على البحث الفقهي والأصولي" (54) . ولعل اسهامات الشيخ شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهما من الفقهاء تَعِدُ بخطواتٍ جديدة لاحقة في هذا الاتجاه.
وفي هذا السياق يمكن التذكير بالطابع العرفي الذي دأب عليه الشيخ شمس الدين في استظهاراته وقراءاته للنصوص، بعيداً عن التاثيرات الفلسفية وغيرها من التدقيقات التي لا تتصل بالفقه ولا عملية الاستنباط. ولعلّ في مقدمة ما يُصنَّف على هذا السياق ملاحظته على الفقهاء استغراقهم في المنهج الفلسفي والمنطق الأرسطي، واستعارتهم مصطلحات هذه الفنون والحقول المعرفية التي لا علاقة لها بالفقه والشريعة، واستغرب التفكيك الملحوظ عند الفقهاء في فهمهم لما يرد في الأدلة الشرعية من ألفاظ وتعابير مثل: الصعيد والحجر والطعام والبيع والعقد والستر والاستطاعة، فيرجعون إلى العرف في تحديد دلالاتها، وفهمهم لما يرد من تعابير من قبيل: العلم والشك والوهم واليقين، فيجنحون في فهمها إلى الفلسفة والمنطق الأرسطي، على مستوى تحديد دلالاتها أصولياً، مما يشكل مفارقة واضحة في تعاطي الفقيه وإدارته عملية الاستنباط (55) .
ولذلك استغرب من الفقهاء تعريفهم الاجتهاد بالملكة، ورأى أنه من التأثر بالمنهج الفلسفي، وذلك لأن الاجتهاد مفهوم أوعنوان منتزع من الأدلة الشرعية ويجب أن تحدد دلالته وفقاً لأصول المحاورات العرفية لا الفلسفية (56) . وفي السياق نفسه مناقشته للاستدلال المعروف ـ عند معظم الأصوليين ـعلى سقوط اعتبار فتوى الفقيه الميت، فإنه لاحظ أنه استدلال يتنكّر للفهم العرفي ومتأثر بالفلسفة والتدقيق العقلي (57) .
[/align]