ماذا حـل بـ المشــــروع غيــــرالطائفــــي فــي المجتمعات الاسلامية ؟
بقلـــــم : الشيخ حيدر حب اللّه
الطائفية والوعي الديني .. ماذا حل بالمشروع غير الطائفي في المجتمعات الاسلامية ؟
على امتداد التاريخ الاسلامي تقريبا كان العقل الطائفي حاضرا في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية و..مكونا بنيات الوعي الديني عند المسلم، ليغدو جزءا لا ينفك عن الوعي نفسه، حتى لم يعد يمكن لكثير من المسلمين تصور الدين بعيدا عن الطائفية والانحياز الطائفي السلبي، فاذا ما حاول الفيلسوف حينا والعارف المتصوف حينا آخر ان يخرج الوعي من هذا المنغلق لم ير سوى تهمة الزندقة عنوانا لحركته في حياة المسلمين.ولعل من اوجه دراسة الظاهرة الطائفية المنحازة سلبيا في العقل الاسلامي ان ندرس حركة عدم الانحياز الطائفي كانموذج بديل، ولنحلل اسباب الفشل والاخفاق والترنح فيهذه الحركة، في محاولة تذهب للتعالي عن ممارسة تنزيه للذات عبر لعن الاخرين، او تطهيرها من خلال قذفهم بالوان الفاحشة، وربما يكون ذلك مفتاحا لنهوض حركة الوعي الاسلامي، بان تغدو قادرة على نقد ذاتها كما هي ممتازة في نقد الاخرين، فلعل الحل فينا لا عند الاخرين، وكما هومضمون قول الشاعر: قد تدور حول العالم طلبا للحبيب ولست تدري انه بجانبك.
1- لم يولد الوعي الاسلامي اللاطائفي في العصر الحديث من مخاض طبيعي استدعته تفاعلات داخلية متصاعدة في الداخل الاسلامي، وانما كان عبر ولادة قيصرية فرضت عليه من خارجه، واعني بهذا الخارج ظاهرة الاخر الحضاري بشكله الاستعماري الى جانب ظهور الكيان الصهيوني في المنطقة الاسلامية، الامر الذي دفع المفكر المسلم لخلق حالة طوارئ في حياته هي التي جرته لاعادة ترتيب علاقاته الداخلية كي يصالح خصومه التاريخيين في الداخل حماية لوجوده، ومعنى ذلك انه عندما يزول الخطر الخارجي فلا شي يضمن استمرار حالة التلاشي الطائفي في المجتمع، بل سيبدو الوضع اللاطائفي في غاية الهشاشة.
ان جعل المنطلق السياسي هو المبرر الوحيد والاساس للتعالي عن الطائفية خدر الاطراف لكنه لم يشفها من دائها، من هنا كان المفروض اعادة انتاج المفهوم اللاطائفي من ثنايا بعدين اضافيين ينضمان الى البعد السياسي، وهما: البعد الاجتماعي والبعد المعرفي.
2- يتمثل البعد الاجتماعي في العلاقات الاجتماعية العفوية التي تربط آحاد المسلمين ببعضهم في شؤونهم اليومية، وهذاما يستدعي رفض مفاهيم من نوع تكوين مجتمعات مذهبية خالصة باحداث تغييرات ديموغرافية لصالح ابعاد اجسام مذهبية اخرى عن المجتمع، لان هذا الواقع هو الذي يغيب الاخر، ويسمح لصناع الصور المشوهة عن الاخرين بالاستفراد بتكوين صورة الاخر في المجتمع بائسة مكروهة، كما وجدنا في بعض المجتمعات ذات الاغلبية المذهبية الساحقة.
وهذا الامر يستدعي حرصا من جانب من تمس مقولاتهم ونشاطاتهم البعد الديني الاجتماعي معا، وبالخصوص الفقهاء،فالتنظير لمسالة الزواج من ابناء المذاهب الاخرى، وشرعية المعاملات الاقتصادية معهم، واستحقاقهم الاموال الشرعية والصدقات، وكذا البحث في جواز غيبة المسلم من غير المذهب الذي يعتقده، او جواز الصلاة خلفه جماعة، وهل ان الاعتقادات ركن اساس في بناء مفهوم العدالة؟ بمعنى ان الذي لا يعتقد بالمذهب الحق حسب تصور كل انسان هل يغدو فاسقا حتى لو كان ملتزما باحكام الشريعة تماما وفق مذهبه ام ان الفسق والعدالة امران تابعان لما يعتقده الانسان حراما ويفعله او حقا ويعانده كما ذهب الى ذلك بعض فقهاء المسلمين؟ وكذا مسالة العلاقات الاجتماعية وحقوق المؤمن على المؤمن ومدى سريانها الى المسلم من سائر المذاهب، واشتراط الاسلام او المذهب الخاص في القاضي والمفتي والشاهد و... وكذا الدفاع عن المسلم من المذاهب الاخرى ضد هجمات الكافرين واعتدائهم و.. مفاهيم لابد من اعادة قراءتها بصورة جريئة وموضوعية في آن، طبقا لما يمكن ان يكون احدث القراءات الفقهية للمذاهب الاسلامية، كمايفترض الحيلولة دون كل ما يعيق هذا التعايش الاجتماعي.
3- ويتمثل البعد المعرفي، في اعادة تكوين العلوم الاسلامية برمتها تكوينا جديدا يتخذ الطابع الاسلامي غير المذهبي،بمعنى ان تدرس الفلسفة الاسلامية بعيدا عن التمذهب، فلا يغيب ابن رشد ولا صدر المتالهين الشيرازي، وتنظم الموسوعات الحديثية لتستوعب تمام الحديث الاسلامي عند المذاهب، وكذلك الموسوعات الرجالية، وعلى المنوال عينه نستبدل اعيان الشيعة وطبقات الشافعية باعيان المسلمين وطبقاتهم، ونعيد تكوين علمي: الفقه والاصول اسلاميا، لا لكي يطلع هذا الفريق على الاخر، ولا لكي نقارن او ننتقد، بل لكي تشاد علومنا الاسلامية وفق بنية تحتية شاملة ومستوعبة..فهذا هو ما يكسر التشظ ي الموجود في وعينا الديني.
4- المشكلة الاخرى الاكثر تعقيدا، والتي قد لا يكون معنى للحلول السابقة من دون وضع حل لها، هي مشكلة من يملك قرار هذه الطائفة او تلك، فعندما يتصدر الطائفيون كرسي السلطة في طوائفهم، فان دعاة الانفتاح الاسلامي سيواجهون ازمة شرعية، وهذا ما يعيق بدوره اى فرصة لحلحلة الوضع الطائفي في الفكر الاسلامي، لانه سيبدي العقل اللاطائفي خارج المربع الديني على مستوى الراي العام، مما سيعجزه عن ممارسة اى تاثير على الارض، وهذا ما حصل بالضبط لانصارالاتجاه غير الطائفي، فغدو ليبراليين او ملحدين او ضالين في مجتمعاتهم، وانعزلوا واقصوا وفشلوا الا من بعض الكلام الذي خلعت عليه لغة النخبة، لان هذه اللغة هي اللغة الوحيدة المتبقية التي تسلي المثقف المسلم النهضوي، وتشعره بذاته.
عندما تكون المؤسسة الدينية الرسمية في مذهب ما طائفية فنحن امام خيارات، اما ننعزل ونخاف ونبرر خوفنا بمقولات مثل المراحلية والتكتيك والعمل الهادئ البعيد المدى، وفي نهاية المطاف نصبح كمن يغرد خارج السرب، او نهرب الى الامام فننفجر حتى لا يرى منا سوى اشلاء ما بعد الانفجار، او نختار سبيلا اكثر واقعية وعقلانية وهدوءا، لكنه لا يخلو من مزعجات، واعتقد انه سبيل مزدوج من النفوذ داخل المؤسسة الرسمية لاحداث تحولات ولو طفيفة في العقل عبر اعادة انتاج الوعي من خلال الاليات نفسها التي تنتج منها هذه المؤسسة مفاهيمها، عل ذلك يحدث زحزحة في بعض المواقف،الى جانب العمل المنفصل عن هذه المؤسسة والذي يبنى على مراكمة اجيال لتكوين شريحة جديدة تمثل مرجعية معرفية اخرى، الى جانب المرجعية السائدة.
5- عبر هذا السبيل لا نقوم في حالات الياس من اصلاح المؤسسات الرسمية ذات الطابع المذهبي باللهث وراء اصلاحها،بل نحول وجهة عملنا الى الشارع وعموم الناس، فنحاول اخذهم الينا وهذا ما لا يمكن ان يحصل باتباع سياسة نقدية بحتة للمفاهيم الدينية ذات طابع علمي محايد للغاية، لان القاعدة الشعبية لن تعتبر هذه اللغة والطريقة ذات طابع ديني، فلابد من قدر ما من الادلجة في عرض خطابنا الفكري بغية ايجاد تحريك لدى الجماهير، فلم تحرك نصوص الفلاسفة يوما احدانحو التغيير بل حركته نصوص الزهاد ولو كانوا جهلة، فالمفترض الامساك باسباب التغيير وعدم التطهر امامها، فقد غرق مثقفنا الاسلامي والعربي بمقولة موت الايديولوجيا، لكن بدايات الالفية الثالثة كشفت عن واقع خطير على العكس تمامامما نتصور، فلا ينبغي محاسبة المجتمعات وتقييمها تقييما واحدا، الامر الذي يبعدنا عن الواقعية في قراءة الظرف والمناخ والمحيط، لنغرق في نرجسية وسوريالية تبقى لنا لوحدنا وتبقينا لوحدنا لا يصح في مثل موضوعنا تقييم واقع مجتمعاتنا المعرفي على اساس حال النخب، كما اخطا كثيرون في ذلك، بل على اساس حال متوسط الناس، وهو الحال الذي ما زال لا ينبعث عن لغة علمية غير عاطفية ولا مؤدلجة ولا متحرقة على الدين، وهذا ما يستدعي النفوذ الى وسائط الاتصال الجماهيري سيما تلك التي تستخدمها الاطراف الطائفية، ولو بدت لناكلاسيكية اجترارية، فلا يصح التنزه عنها وتركها للاخر، لان هذه هي الوسيلة الهجومية الافضل لجعل الطرف الاخر في موقع الدفاع بدل ان يكون في موقع الهجوم.
اذا لم يكن الفريق الواعي اللاطائفي مؤمنا بالدين ايمانا روحيا متفاعلا مع الهم الديني دون نفاق ولا مداهنة، فلن تعترف به المجتمعات الدينية كالكثير من مجتمعاتنا، اما اذا اراد ان ينتظرها حتى تتغير عن هذا السبيل فقد تموت اجيال دون الوصول الى ذلك، فضلا عن ان غرضنا حماية الدين والانسان، لا تدميرهما.
6- انطلاقا من مجمل ما تقدم، ادعو مختلف اطياف الاتجاه اللاطائفي في مجتمعاتنا الاسلامية الى اعادة قراءة تجربتها مرة اخرى، ونقد هذه التجربة والاعلان عن ولادة مرحلة جديدة من العمل، لان جهود ما يقارب القرن من الزمان على هذاالصعيد انهارت عند فرقاء معتدلين فضلا عن غيرهم في الساحة الدينية عند اول مفترق وتحدي حقيقي مرت به الامة،وهذا ما يكشف عن اخطاء حقيقية، لعل ابسطها الحاجة للمكاشفة والشفافية والخروج النسبي من مرجعية التاريخ، كي لايقاتل ابناء هذه الطائفة بجرم ارتكبه آباؤها، وتصفى حسابات الماضي في العصر الحاضر، بدل ان ينتج المستقبل من هذاالعصر عينه، واطياف الاتجاه اللاطائفي مدعوة للتخلي فيما بينها عن حالة التنافس السلبي الذي باتت تشهده، ينخرها حتى الصميم، لوضع يدنا جميعا في يد بعضنا بعضا، عل اللّه يرزقنا بعض شرف الاصلاح في هذه الامة المباركة.
(فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لايعلمون(#) من يبين اليه واتقوه واقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (#) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاكل حزب بمالديهم فرحون). «الروم: 30 32 »