الكتاب : عمليات التجميل الجراحية ومشروعيتها الجزائية بين الشريعة والقانون
المؤلف :سماحة العلامة السيد محمد طاهر الياسري الحسيني
فهارس الكتاب
الإهــــداء
مقدمة المركز
تنويه
المقدمة
الفصل الأول: العمليات التجميلية وأركانها
الفصل الثاني: الأعمال الطبية وجراحة التجميل
القسم الثاني:
الفصل الأول: مشروعية عمليات التجميل في القانون
الفصل الثاني: مشروعية عمليات التجميل في الشريعة
الخاتمة
الحواشي
المصادر والمراجع
الإهــــداء
من الجامعة الإسلامية في بيروت عاصمة الثقافة والحرية، إلى بغداد عاصمة الحضارة أهدي بحثي المتواضع هذا ..
راجياً قبوله، على أمل أن تُشرق جامعة بغداد، وتُطل على العالم من جديد ..
دمشق: في 16/6/2007 م
محمد طاهر الحسيني
مقدمة المركز
بسم الله الرحمن الرحيم
يسرُّ مركز (ابن إدريس الحلي للدراسات الفقهية) أن يُقدم لقرائه الإصدار الرابع من سلسلة (دراسات فقهية) التي تتناول بالدراسة والبحث ما يُهم المتفقِّهين والمشتغلين بالفقه.
وتحمل هذه الدراسة عنواناً يتعلق بحياة الناس في جانبها الطبي والاجتماعي، بقلم السيد محمد الحسيني، والذي تناول فيها عمليات التجميل الجراحية في إطارها الشرعي والقانوني، من خلال التعرُّض للرؤية الفقهية والقانونية لهذا النوع من العمليات التي أصحبت شائعة في عصرنا الحاضر.
مركز ابن إدريس الحلي
للدراسات الفقهية
تنويه
الكتاب عبارة عن جهد علمي تطلّبه الحصول على درجة الدبلوم في القانون العام.
وقد ارتأيت تقديمه للطبع تعميماً للفائدة، ولقلة ما كُتب عن هذا الموضوع على أهميته.
ويسرني في هذا الصدد أن أُنوِّه بالملاحظات القيمة التي سجَّلها - على البحث أثناء مناقشته - الأستاذ الدكتور (القاضي) سمير عالية، والتي أثْرت البحث شكلاً، فضلاً عن الملاحظات العلمية التي أفادت الباحث عموماً، فله الشكر موصولاً بالتقدير والاحترام ..المؤلف
المقدمة
يعتبر الجمال أحد أهم القيم الاجتماعية، وهو هبة الله العظيمة؛ كونه يعبِّر عن المظهر الخارجي للإنسان، بما لهذا المظهر من قيمة بين بني البشر، ولذلك لم يختلف اثنان منهم حول مدى ما تقتضيه هذه القيمة من التزامات بالرغم من اتفاقهم - في الغالب - على أفضلية الجوهر الإنساني؛ لأنهما - معاً - يشكِّلان القيمة الإنسانية ومحتواها.
وتزخر الحياة الإنسانية بمفردات الجمال ومشتقاتها، إن على المستوى الثقافي العام أو الخاص؛ حتى شاع المأثور: "إن الله جميل يحب الجمال"(1)؛ ليعبِّر عن مدى صدقية هذه القيمة وكونها كذلك.
وفي إطار الشريعة الإسلامية - تحديداً - شُرع التجمُّل والتزيُّن، فقال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]، في استفهام استنكاري يؤكد فيه على البعد القيمي للتجمّل والتزيّن.
ولم يختلف بنو البشر حول هذه القيمة إلاّ في التفاصيل، وعدّ هذا النوع من التجمل أمْ لا، وكونه حسناً ومناسباً أمْ لا.
لقد كان التجمّل والتزين شكلاً ولم يتم تجاوزه إلى ما هو عليه اليوم من التقنية الطبية وتطور علم الجراحة؛ إذ مع هذا التطور بدا الأمر مختلفاً، وبات من الممكن تجاوز التجمّل الشكلي إلى إعادة رونق الجسم البشري نفسه أو إعادة بنائه أو إدخال تعديلات عليه من خلال عمليات أصبحت شائعة ومعروفة؛ كشدّ الوجه، وتجميل الأنف، وملء الخدود، وشفط الدهون، وإزالة الشعر..
وكان لتطور علم الجراحة وظروف الحرب ومصاعب الحياة ونكباتها الأثر في تصاعد وتيرة الجهد الطبي في هذا الحقل الذي عرف فيما بعد بجراحة التجميل.
وهي الجراحة التي يكون الغرض منها؛ إما ترميم الجسم البشري، وإعادة بنائه في حالات التشوه أو الكسور، وإما تحسينه وفقاً لرغبات الإنسان.
ومنذ ذلك الوقت ثار الجدل بين رجال الفكر والقانون والشريعة حول شرعية بعض عمليات التجميل الجراحية، خاصة تلك التي لا صلة لها بعنوان العلاج، ولم يكن القصد منها شفاء المريض، فضلاً عن العمليات التي تندرج تحت عنوان الترف والعبث.
لقد خاض رجال القانون البحث في إطارٍ قانوني، وخاضه رجال الدين وعلماؤه في إطار عقيدي وفقهي (عملي) حول مدى انسجامه مع العقيدة وعدم انسجامه، وكونه يُعدُّ تمرداً على الإيمان أمْ لا، وحول مدى شرعيته الفقهية، من حيث هو عمل جائز ومباح، أمْ أنه محرم ممنوع؟!
أهمية البحث:
ومع شيوع الرغبة في إجراء عمليات جراحية تجميلية لدى كثيرين، وفي بلداننا العربية والإسلامية - أيضاً - فضلاً عن شيوعها في العالم كله، ازدادت أهمية البحث في هذا الموضوع، وتنبع هذه الأهمية من كونه موضوعاً قانونياً وموضوعاً فقهياً يتعلق بالخلقة الإنسانية وما يُصاحبها من تعديلات، والموقف القانوني والشرعي منها. كما تنبع هذه الأهمية من كون الموضوع يُسهم في رفد المكتبة العربية والإسلامية، وذلك لقلة المصادر التي تناولته..
إشكالية البحث:
وعلى ضوء ما تقدم فإن البحث سيُعالج إشكاليتين، إحداهما: قانونية؛ لجهة أن ما أجازه القانون وأباحه من التعرض لأجسام البشر هو العمل الطبي العلاجي، فكيف يُسوّغ ويُبرر ما ليس علاجاً، كما في عدد من عمليات التجميل الجراحية. وثانيتهما: فقهية شرعية، لجهة ما ورد في التراث الديني مما يمنع من التعرض لجسم الإنسان رغبةً في التغيير، لأنه من وحي الشيطان، وهو حرام.
فرضية البحث:
وعليه فإن فرضية البحث هي أن عمليات التجميل، وإن كانت بداعي تحسين المظهر، فهي مشروعة قانوناً بالتصور الأولي، وذلك لكونها علاجاً بنحو من الأنحاء، وعملاً طبياً عاماً ليس ثمة ما يمنع من انطباقه على هذه العمليات.
وأما فقهياً وشرعياً فإن ما يُستدل به على الحرمة ليس صالحاً للاستدلال، وما يحرم هو الإضرار بالجسد.
وسنُثبت ذلك فيما سيأتي من فقرات.
ولمّا كان من المقرّر أن يكتب طالب الدبلوم بحثاً لاجتيازه إلى الامتحان، فقد قبلت - بشرف - ما اقترحه الأستاذ المشرف على قاعة البحث الدكتور رامز عمار، على أمل التوفيق والنجاح، تدفعني إلى البحث فيه عدة دوافع:
1- أهمية هذا الموضوع كونه بحثاً يشهد حضوراً فاعلاً في الحياة اليومية للإنسان، إذ تصاعدت عمليات التجميل بشكل كبير، ففي العام 2003م - ووفقاً لما أفادته الجمعية الأميركية لجراحي التجميل (asps) في تقريرٍ لها – أجرى جراحو التجميل المعتمدون من مجلس الجمعية أكثر من ستة ملايين ونصف المليون عملية تجميل تقويمية، فيما تجاوز عدد العمليات الفنية عدد العمليات التقويمية بكثير، حيث وصل إلى ثمانية ملايين وثمانمائة عملية فنية(2).
وشيوع هذه الظاهرة تعدّى إلى بلداننا العربية والإسلامية، ففرضت نفسها على رجال القانون؛ للتعاطي معها ومع ما ينتج عنها من مشكلات وقضايا.
وأحسب أن البحث في هذه المسألة كفيل بخلق حراك بحثي بين الباحثين على اختلاف اختصاصاتهم، ومنهم رجال القانون.
2- أهمية التعرّف على الموقف الفقهي من هذه الأعمال الطبية، وتحديد موقف الشريعة، وهو موقف يُستكشف من خلال النصوص الدينية والتراث الفقهي لمئات من فقهاء الإسلام. ولا تخفى أهمية الموقف الشرعي تجاه هذه الأعمال، نظراً للمساحة الواسعة للمتدينين بهذه الشريعة، واعتبارهم إياها مرجعاً لهم في حياتهم اليومية.
3- قلة ما كُتب عن هذا الموضوع في المكتبة الفقهية الشرعية بالنسبة لأهميته وحساسيته. مع كونه أخذ أبعاداً واسعة على المستوى العلمي والقانوني والاجتماعي.
4- الاهتمام الشخصي، كوني أحد دارسي الفقه الإسلامي، بالإضافة إلى دراسة القانون، مما يشكّل دافعاً مهماً للبحث على مستوى المقارنة والمقاربة بين الاختصاصين.
منهجية البحث:
إنني في هذا البحث عمدت إلى محاولة الإجابة عن إشكالية قانونية وإشكالية فقهية شرعية في موضوع عمليات التجميل الجراحية، وخاصة ما كان منها فنياً أو شكلياً. ولذلك صبغت البحث صفة التحليل والاستنتاج والمقارنة، مع عدم إغفال البُعد التاريخي في بعض الفقرات.
هذه هي أهم الدوافع والأسباب التي دعت للبحث، وبغية الإلمام - ولو بصورة موجزة - بعناصر الموضوع، والتكييف القانوني لوقائعه، وبعض تطبيقات القانون ذي الصلة، كان لابد أن أُقسِّم البحث إلى قسمين رئيسيين؛ أولهما: التطور القانوني والفقهي لعمليات التجميل، والذي يندرج فيه فصلان، وثانيهما: مشروعية عمليات التجميل في القانون والشريعة، والذي يندرج فيه فصلان أيضاً.
وهذه هي خطة البحث بالتفصيــــل:القسم الأول: التطور القانوني والفقهي لعمليات التجميل
الفصل الأول: العمليات التجميلية وأركانها
مدخـــل للتعريف
الفقرة الأولى: تاريخ العمليات التجميلية
النبذة الأولى: شيوع العمليات التجميلية في عصرنا الحاضر.
النبذة الثانية: أركان التجميل.
النبذة الثالثة: التجميل وعلاقته بالمنظومة القيمية.
الفقرة الثانية: دواعي التجميل وأنواعه.
الفصل الثاني: الأعمال الطبية وجراحة التجميل
الفقرة الأولى: العمل الطبي ومشروعيته
النبذة الأولى: الاختصاص الطبي
النبذة الثانية: المستند القانوني والشرعي للعلاج
الفقرة الثانية: المسؤولية الطبية وطبيعة المسؤولية
النبذة الأولى: المسؤولية الطبية
النبذة الثانية: طبيعة المسؤولية الطبية
القسم الثاني: مشروعية عمليات التجميل في القانون والشريعة
الفصل الأول: مشروعية عمليات التجميل في القانون
الفقرة الأولى: المستند القانوني للعمل التجميلي
النبذة الأولى: الموقف القانوني من العمل التجميلي
النبذة الثانية: التكييف القانوني للعمل التجميلي
النبذة الثالثة: تقييم الدور القانوني في عمليات التجميل
الفقرة الثانية: مسؤولية طبيب التجميل الجزائية والمدنية
النبذة الأولى: مسؤولية الطبيب الجزائية
النبذة الثانية: مسؤولية الطبيب المدنية
الفصل الثاني: مشروعية عمليات التجميل في الشريعة
الفقرة الأولى: الأساس الشرعي للعمل التجميلي
النبذة الأولى: النصوص الشرعية في مجال العمل التجميلي
النبذة الثانية: الآراء الفقهية في عمليات التجميل
النبذة الثالثة: تقييم الآراء الفقهية
الفقرة الثانية: المسؤولية الشرعية تجاه عمليات التجميل
النبذة الأولى: مسؤولية المريض والطبيب الشرعية
النبذة الثانية: مسؤولية الطبيب الجزائية والمدنية في الشريعة
خـــــاتمة
[mark=FFCC00]الفصل الأول[/mark][mark=FFCC00] العمليات التجميلية وأركانها [/mark]
مدخل للتعريف
ابتداءً يمكن القول بأن الجراحة التجميلية هي الجراحة التي تجرى لأغراض وظيفية أو جمالية؛ وهي بالمفهوم البسيط استعادة التناسق والتوازن لجزء من أجزاء الجسم عن طريق استعادة مقاييس الجمال المناسبة لهذا الجزء.
وجراحة التجميل بالإنكليزية (Plastic surgery)؛ أي الجراحة التصنيعية، وكلمة (Plastic) مشتقة من مصطلح إغريقي يوناني (Plastikos)؛ أي التشكيليات؛ وتعني النحت والصياغة، أو التشكيل (Moldor shape)، ولكن استعمالها بهذا المعنى – هنا - لا يتصل بالمواد المتبلمرة(*) الصُنعيِّة…
وعليه فإن الكلمة (Plastic) فعل يُقولب أو يُشكِّل، وهو الذي يقرب من عمل الطبيب الجرّاح التجميلي.
وتشمل العمليات الجراحية التجميلية العمليات التقويمية، والغرض منها إعادة بناء الجسم البشري إلى حالته الطبيعية، والعمليات الفنية الجمالية، التي يكون الغرض منها تحسين المظهر(3).
لذلك يرى البعض أن تسمية جراحة التجميل ليست دقيقة؛ لأنها ناقصة، والصحيح أن يقال: جراحة التجميل والتقويم، أو الجراحة البلاستيكية، ويدخل ضمنها التجميل الصرف(4).
وقد عرَّف بعض القانونيين العمليات الجراحية التجميلية بأنها: "مجموعة العمليات التي تتعلق بالشكل، والتي يكون الغرض منها علاج عيوب طبيعية أو مكتسبة في ظاهر الجسم البشري، تؤثر في القيمة الشخصية أو الاجتماعية للفرد"(5).
وواضح أن هذا التعريف لا يتعرض للعمليات التجميلية التي يكون الهدف منها التغيير لمجرد الرغبة في ذلك.
كما عرّفها قانوني آخر: "بأنها جراحات تهدف إلى إصلاح الأعضاء؛ أو إحلال أعضاء محل أخرى فقدت، أو نتيجة عيوب خلقية ولد بها الإنسان"(6).
وهو تعريف غير شامل، ويرد عليه الاعتراض الذي ذكرناه آنفاً.
فيما عرّفها ثالث بأنها: الأعمال الطبية… التي لا يكون الغرض منها علاج مرض عن طريق التدخل الجراحي، بل إزالة تشويه حدث في جسم المريض بفعل مكتسب أو خلقي أو وظيفي(7).
والتعريف كسابقه يشكو من النقص المشار إليه آنفاً.
وفي تعريف آخر بأنها: "عبارة عن عمليات جراحية يراد منها: إما علاج عيوب خلقية أو عيوب حادثة من جرّاء حروب أو حرائق تتسبب في إيلام أصاحبها بدنياً أو نفسياً، وإما تحسين شيء في الخلقة بحثاً عن جوانب من الجمال أكثر مما هو موجود"(8).
وهذا التعريف أكثر شمولاً من التعريفات السابقة، وهو الذي يقترب من واقع الحال مما يجري اليوم من عمليات تجميل.
وإذا كانت هذه التعريفات تشكو النقص لجهة عدم شمولها لحالاتٍ تُعد من عمليات التجميل الجراحية الشائعة، فإن هناك تعريفات شاملة لحالات لا تعد من عمليات التجميل الجراحية. كما عرِّفت بأنها: "كل عمل في جسم الإنسان يُعدُّ تجميلاً أو إزالة العيب عنه"(9). إذ إن هذا التعريف يُدخل ما يعرف بـ (صناعة التجميل)، وهي ليست عمليات جراحية، ولا تتصل بعالم الطب.
وبصدد تعريف شامل وصائب فإنه لابد من ملاحظة قيدين في تعريف هذه العمليات، من حيث إنها..أولا: جراحية ، وعندئذٍ تستبعد عمليات التجميل التي لا توصف بأنها جراحية، بل هي عمليات تزيين ظاهري وسطحي، ولذلك يجب أن يتولى عمليات التجميل التي نحن بصددها طبيب ومختص أيضاً. وإنها ثانياً: تستهدف علاجاً لعيوب خلقية أو حادثة تسبب لصاحبها أذى جسمياً أو نفسياً، أو لمجرد التغيير والظهور بمظهر تستدعيه المعايير المتغيِّرة للجمال والحسن.
ولذلك فإنه يمكن تعريفها بأنها: "عمليات طبية جراحية تستهدف إدخال تعديلات وتغييرات على الجسم البشري؛ إما بهدف العلاج؛ كما هو في عمليات الترميم ومعالجة الحروق، وإما بهدف التحسين والتغيير وفقاً لمعايير الحسن والجمال السائدة". وبذلك تتميز عمليات الجراحة التجميلية عن صناعة التجميل؛ لأن الأخيرة لا تدخل تحت عنوان الجراحة، وتقتصر على إعطاء علاجات صحية لأفراد هم في حالة جيدة من الصحة، ولا يتجاوز حالة الشكل (الجلد)، ولذلك لم يشترط في مزاولة هذه الصناعة الشروط التي يلزم مراعاتها في الجراحة(10).
الفقرة الأولى: تاريخ العمليات الجراحية
لئن كان العالم القديم قد عرف علم الجراحة التجميلية إلاّ أنه "ظهر بصورة واضحة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية في أوروبا وأمريكا، وتطور جنباً إلى جنب مع علم الجراحة العلاجية، حتى انتشرت الآن في كثير من البلدان فكرة جراحة الشكل، لتحسين ومعالجة جمال الإنسان وفق ما هو مرغوب اجتماعياً، حتى ولو كانت بسيطة في حد ذاتها عند تفكير بعض الناس؛ لاختلاف المقاييس والمعتقدات والأفكار بين البشر"(11).
ويفيد بعض الباحثين أن أول رسالة في علم جراحة التجميل ظهرت في عهد النهضة، لمؤلفها الدكتـور تاجليا كوزي الذي اشتهر بإصلاحه للأنف الذي شوّهه مرض الزهري(12).
وكان قبل ذلك قد تمكن الرومان من استخدام تقنيات بسيطة مثل إصلاح الأضرار في الآذان، وذلك بدءاً من القرن الأول قبل الميلاد.
بل عرفها الطب الهندي القديم على يد الطبيب الكبير سوسروثا (Susrutha)، والذي وصفه الدكتور الجّراح جان شارل سورنيا بأنه مؤلف أسطوري(13)، حيث استخدم (سوسروثا) ترقيع الجلد في القرن الثامن قبل الميلاد، فيما عُرف جرّاح آخر وهو من حواريي بوذا اسمه ديفاكا (Divak) عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، ولا يزال إبداعه يستكمل باستمرار حتى يومنا هذا، ومن ذلك علاج التشوّهات الخلقية(14).
وبينما كان شائعاً جدع الأنوف في هند القرون الوسطى، كما كان شائعاً في أماكن أخرى من العالم كنوع من التنكيل الذي يمارس ضد المجرمين وأسرى الحرب. فإن بعض الجرّاحين كانوا يقومون بتجمـيل هذه البشاعة باستخدام قطعة من جلد الجبهة تدار ويغير موضعها بحيث تغطي هذا العيب. وقد ردّ الاعتبار لهذا التجميل على الطريقة الهندية في العصر الحديث بعد أن ازدراه الغرب زمناً طويلاً(15).
وبالنسبة للإسهام العربي فإني وإن كنت اطلعت على الدور الريادي للجراحين العرب وبالتحـديد (أبو القاسم الزهراوي ت 1106م)(16)، فإني لم أوفق لمعرفة ما إذا كان هنـاك دور لهم على مستوى الجراحة التجميلية، ولكنني وقفت على شواهد من التراث العربي في الفقه والحديث، مما يشير إلى معرفة هذه التقنيات، فضلاً عمّا يعرف من العمليات الجراحية القديمة من قبيل الوشم والوسم وتفليج الأسنان وتجميل الأذن..
فقد ورد ما يشير إلى عمليات التجميل التي تستهدف تجميل الأعضاء حيث يشكو المريض من زيادتها وذلك بقطع الزائد، ولذلك وقع النزاع بين الفقهاء في جواز أو عدم جواز هذه العملية، حيث نص الإمام (أحمد بن حنبل ت 241هـ - 855 م) على عدم جواز قطع هذه الزوائد(17)، كما ذهب الطبري (محمد بن جرير 310هـ – 923م) إلى عدم جواز تغيير شيء من خلقة المرأة بزيادة أو نقص لالتماس الحسن لا للزوج ولا لغيره، إلاّ أنه استثنى من ذلك ما يحصل به الضرر والأذى(18).
بل ورد في بعض مسائل الفقه ما يشير إلى عمليات أعمق كما في مسألة ترقيع العظام، حيث وردت في كتاب (الأم) للشافعي (محمد بن إدريس ت 204هـ - 820م).
قال الشافعي: "وإذا كسر للمرأة عظم فطار فلا يجوز أن ترقعه إلاّ بعظم ما يؤكل لحمه ذكياً... وهو يروي عن النبي (ص) في الذهب ما هو أكثر من هذا، يروي أن أنف رجل قطع بالكلاب، فاتخذ أنفاً من فضة فشكى إلى النبي (ص) نتنة فأمره النبي (ص) أن يتخذ أنفاً من ذهب…"(19). وإن كان وضع أنف من ذهب أو فضة لا يشير إلى معرفة عمليات تجميل في الأوساط العربية يومـذاك.
ومنذ منتصف القرن الخامس عشر الميلادي بدأت الجراحة التجميلية بالتطور، حيث قام هنري فون فولسبندت بعملية صناعة أنف جديد لشخص فقده كلياً (قضمه كلب)، وذلك بإزالة جلد من الوجه الخلفي للذراع وخياطته في موقع الأنف الملتهم(20).
ويمكن أن نسرد تطور العمليات الجراحية الحديثة وفقاً للتالي(21):
* في عام 1791م أجرى (شوبارت) عملية جراحية للشفة باستعمال شريحة من العنق.
* في عام 1814م أجرى (جوزيف كاربوي) عملية ناجحة لضابط عسكري بريطاني فقد أنفه بسبب تأثيرات سُمِّية لمعالجة بالزئبق.
* في عام 1818م عممَّ الجراح الألماني (كارل فون غريف) إنجازه الكبير الذي أسماه تصنيع الأنف، وقد عدَّل الطريقة الإيطالية مستعملاً الطعم الجلدي من الذراع بدلاً من الشريحة الجذرية المتأخرة الأصلية؛ "وهي أن ترفع شريحة كاملة الطبقات من الجلد المجاور لمكان الإصابة ليتم زرعها مكان الجراحة دون قطعها كامـلاً من موضعها".
* وقد أجرى (جون بيتر ميتور) - وهو أول جراح تجميل في أمريكا - أول عملية انشقاق شراع(*) الحنك عام 1827م بأدوات صنعها بنفسه.
* في عام 1845م كتب (ديفينباخ) نصاً (كتاباً) مرشداً لتصنيع الأنف أسماه (شيرورغي الجراحي Operative Chirurgie)، وقد أدخل مفهوم إعادة العملية لتحسين المظهر التجميلي للأنف المرمّم.
* في عام 1891م قدم اختصاصي الأنف والأذن والحنجرة الأمريكي (جون راو) مثالاً عن عمله الذي أجراه لشابةٍ حيث أنقص التحدب الظهري للأنف (الحدبة الأنفية الظهرية) لغايات تجميلية.
* عام 1892م أجري (روبرت واير) تجربة غير ناجحة لطعوم من الذيل الحنجري في عمليات على أنـوف غائرة.
* في عام 1896م وصف كل من الجراح الألماني (جيمس إسرائيل) و(جورج مونكس) الأمريكي الاستعمال الناجح للطعوم الخالية من العظم متخالفة أو متغايرة لترميم سرج الأنف المشوّه.
* في عام 1898م نشر (جاكوز جوزيف) الألماني إحصائيته الأولى لتصغير الأنف التصنيعي.
* وقد طوّر السير (هارول غيليز) النيوزيلاندي العديد من التقنيات الحديثة للجراحة التصنيعية أثناء معالجة الإصابات الوجهية في الحرب العالمية الأولى، وهو أبو الجراحة التصنيعـية الحديثة، واستمر عمله حتى فترة الحرب العالمية الثانية عبر أول تلامذته وابن عمته (أرشيبالد ماك أندو) الذي أبدع معالجات الحروق الشـديدة التي يُصاب بها طواقم طائرات مكافحة الحرائق.
النبذة الأولى : شيوع عمليات التجميل في العصر الحديث
لقد توسعت العمليات التجميلية بشكل لافت في القرن الأخير، وذلك بسبب الحـروب والحوادث التي تعرض لها الإنسان، حيث دفعت الأطباء إلى بذل قصارى جهودهم في تذليل المشكلات الصحية التي يتعرض لها الإنسان، والتي قد تحدث له أضراراً كبيرة في جسمه، وخاصة على صعيد المظهر الخارجي، فبات من الممكن ترميم الجسم، وإعادة بنائه، وإزالة التشوهّات التي قد تسببها الحروق.
ومثل هذه العمليات لا خلاف على مشروعيتها؛ لأنها تدخل تحت عنوان العلاج، وهي في أحيان كثيرة مما يتوقف عليه النشاط الإنساني، كما في حالات ترميم العظام وإعادة بناء الهيكل الجسمي للإنسان، وكما في حالات التعرض للإصابات الكبيرة.
إلاَّ أن ما هو موضع جدل فقهي وقانوني هو عمليات التجميل التي يكون الداعي فيها هو تحسين المظهر الخارجي وفق مقتضيات ومعايير الجمال المتغيِّرة، إذ يمكن إعادة رونق الوجه والبشرة إلى حالتها الطبيعية الجذابة، بواسطة العديد من عمليات التجميل؛ مثل شدِّ الجفون وإزالة الجيوب الدهنية من أسفلها، وكذلك شدّ الوجه والرقبة أو جراحة تجميل الأنف، وهناك نوع أبسط من العمليات الجراحية لملئ الخدود وأسفل الجفون والشفتين، مثل حقنهم بالدهون المشفوطة من أماكن الجسم المختلفة.
وأيضاً يمكن استعمال أنواع من المواد التي تحقن في أماكن التجعيدات؛ لإزالتها بواسطة مواد مماثلة لأنسجة الجلد الطبيعية.
كما يمكن إعادة تناسق الجسم عن طريق العديد من العمليات التجميلية مثل شفط الدهون وشدِّ الترهلات في أجزاء الجسم المختلفة(22). بل وأحياناً يكون الداعي من ورائها مجرد الرغبة في التغيير كما يشيع في حياة الفنانين، وقد أصبحت هوليود (مدينة السينما) ولوس أنجلوس المرتعين الخصيبين لذلك النوع من جراحة التجميل.
ولا غرو أن نجد لوس أنجلوس اليوم تحوي على أكبر عدد من جراحي التجميل وعيادات ومراكز التجميل في العالم، وأن عدد جراحات التجميل التي تجري فيها تفوق عدد ما يجري في أي مدينة أخرى في الولايات المتحدة وخارجها بأضعاف مضاعفة، وهذا ما شجع الـكثير من الباحثين عن المال لمحاولة البحث عن عمل في تلك المدينة الواعدة بالمجد والثراء(23).
وقد شهدت جراحة التجميل طفرة كبرى في علاقتها مع السينما حينما بدأ الممثلـين في الحديث علناً دون استحياء، بل وبتفاخر عن عمليات التجميل التي أجروها وعن مشاريعهم المستقبلية في إجراء المزيد منها.
وكانت الممثلة (فيليس دلير) الأولى التي كسرت هذا الحاجز النفسي وأعلنت عام 1971م عما أجرته من جراحات تجميل، وبذلك فتحت الباب على مصراعيه أمام الجميع(24).
وتمارس اليوم حملات إعلامية ضخمة بغية الترويج للعمليات الجراحية، وأخذ يزداد عدد الأطباء المرتبطين بمنتديات مجانية حول إغواء المرضى، في ما يتصل بتعديل ملامح الوجوه وإعادة إنتاجها أو إزالة الشحوم الزائدة(25).
وعدد الأطباء الذين يمارسون العمليات التجميلية مع افتقارهم للخبرة المطلوبة آخذ بالازدياد، بل أصبح بمقدور أي شخص يحمل شهادة طب أن يعلِّق لافتة ويعلن بها أنه يقوم بعمليات شفط الدهون أو أية عمليات تجميلية أخرى، ومن تدَّرب منهم فإن تدريبه كان في منتدى، ولمدة ثلاثة أيام عطلة(26).
وينفق في بريطانيا على العمليات التجميلية أكثر من مليوني باوند من كل عام. ويدفـع كل معمل أكثر من مليون كتعويضات عن عدم رضا المستهلكين(27).
وفي أستراليا تتزايد أعداد المراهقين (وبعضهم في سن الخامسة عشرة) الراغبين في إجراء عمليات تجميل؛ كزراعة صدر أو شفط دهون أو تغيير في الأنف، وقد ارتفعت نسبة العمليات الجراحية التجميلية للمراهقين، من عملية واحدة كل شهر في السنوات الخمس الماضية إلى عملية واحدة كل أسبوع(28).
وبحسب الجمعية الأمريكية لجراحة التجميل فإن (326000) عملية تجميل في عام 2004م كانت لمراهقين، وتتضمن (13000) عملية صيوان أذن، وتقريباً (52000) لتجميل الأنف، وتقريباً (4000) عملية زرع، و(3000) عملية شفط دهون(29).
وفي عالمنا العربي لا نجد - فيما أعلم - إحصاءات أو بيانات تشير إلى أعداد الراغـبين بإجراء عمليات تجميل جراحية، ولكن بعض الأطباء المختصين بجراحة التجميل أكّدوا شيوع هذه العمليات، فإن عمليات شفط الدهون - مثلاً - تشهد إقبالاً شديداً لاسيما مطلع كل صيف(30).
وفي تقرير لوكالة الأنباء الكويتية أفاد أنه انتشرت عمليات التجميل بين الجنسين في الآونة الأخيرة بصورة كثيفة في العالم العربي بصفة عامة والسعودية بصفة خاصة، حيث شهدت عيادات ومراكز التجميل بالسعودية إقبالاً متزايداً من النساء والرجال ومن مختلف الفئات العمرية لإجراء جراحات التجميل، وكشف الدكتور سمير أبو غوش في حديثه لوكالة (كونا) أن أكثر العمليات التجميلية التي يتم إجراؤها ومن قبل الرجال بالسعودية تتمثل في زراعة الشعر الطبيعي وشفط الدهون وتجميل الأنف فيما تعتبر عمليات شفط الدهون وتكبير الصدر وتجميل الأنف والشفاه من أكثر العمليات التي تجرى للنساء(31).
ومع هذا الإقبال الشديد الذي يشهده العالم العربي على عمليات التجميل فقد لاحظ المختصون أن هذا الإقبال يشهد فوضى كبيرة في هذا القطاع أيضاً(32).
ولا تقتصر هذه الفوضى الكبيرة على قطاع الجراحة التجميلية من حيث هو قطاع طبي، بل لوحظ - أيضاً - غياب القانون الناظم لهذه العمليات، والاقتصار على النصوص العامة، مع تطور العلوم الطبية وتنامي الاختصاصات(33).
النبذة الثانية : أركان التجميل
للعملية الجراحية أركان ثلاثة؛ وهي:
الركـن الأول: المريض.
الركن الثاني: الجرّاح.
الركن الثالث: العمل الجراحي.
الركن الأول:المريض
ونعني بالمريض الشخص الذي يشكو من علة في جسمه أو خللٍ وظيفي في عضو من أعضائه، ويسبب له اضطرابات أو آلاماً وأوجاعاً، أو يشكو من عيب في المظهر الخارجي بسبب تشوّهات حصلت بالولادة، أو لاحقاً بسبب الحوادث.
وإذا كان لا يختلف فقهاء القانون والشريعة في مشروعية العمل الجراحي التجميلي لترميم أعضاء الجسم البشري أو إزالة التشوّهات عنه فإنهم يختلفون حول ما إذا كان يُعدُّ مريضاً الشخص الذي يرغب في إجراء عمل جراحي تجميلي لمجرد تحسين أنفه أو أي عضوٍ آخر بما ينسجم مع معايير الحسن والجمال السائدة. ولذلك يبدو لأول وهلة أن جراحة التجميل غير جائزة إطلاقاً، لجهة أن الغرض منها ليس علاج مرض بل مجرد التجميل، وهو ما يتصل بالشرط الأساسي لإجازة العمل الطبي، والذي يكون القصد منه الشفاء من المرض(34).
بل حدث الجدل حول ما إذا كان يمكن اعتبار مريض التجميل مريضاً عضوياً أم مريضاً نفسياً، ومدى تأثير زيادة الاهتمام بالشكل على الصحة النفسية، وما ضرورة استشارة طبيب نفسي قبل إجراء أي جراحة تجميلية.
ولذلك فقد اعتبر "أن الأعمال الطبية التجميلية ذات صلة وثيقة بعلم النفس، إذ إن كثيراً من الأمراض النفسية؛ كالكآبة والانطواء والقنوط والشعور بالحزن والإحباط والعزلــة الاجتماعية وغيرها يعود سببها إلى قبح الشكل"(35).
ولذلك يفترض في المريض توفر الشروط العامة التي تبرّر إجراء عملية جراحية له، وربما تشدَّدت بعض الدول في بعض الحالات حيث قدَّم (فورس ليما) رئيس وزراء مقاطعة (نيوساوث ويلز) الأسترالية عدة قوانين بصدد العمليات الجراحية التي تُجرى لمراهقين، بعد تزايد أعدادهم لطلب إجراء مثل هذه العمليات، حيث يشترط إحالة من طبيـب إلى الجراح التجميلي قبل أية عملية جراحية يمكن أن تجرى، مع شرط موافقة الوالدين، على أن يكون للمراهق الذي يرغب بمثل هذه العمليات شهر للتفكير وإعادة النظر في إجرائها(36).
بل إن جرّاحي الجمعية الأسترالية للجراحة التجميلية يفيدون أن معظم الأطباء المحترمين وحسني السمعة لن يقوموا بإجراء جراحات تجميلية للمراهقين عدا تجميل الأذن والأنف(37).
الركن الثاني: الجرّاح
وهو الذي يمارس هذه العملية ويُخضع مريضه لأدواته بغية تحقيق الشفاء أو تحقيق الرغبة المتوخاة.
ولابد أن يكون الجرّاح حاصلاً على شهادة اختصاص بالجراحة وتصريح بممارسة المهنة والعضوية في جمعية الجراحين في بلده، وأن يكون ملمّاً ومتدرباً على القيام بهذا النوع من الجراحة، ومدركاً لكل خصائصه ومضاعفاته المحتملة، وأن يناقشها مع المريض قبل الشروع في العمل الجراحي، وفيما إذا كانت هناك علاجات بديلة، أو أخف وأقل خطورة، واختيار ما هو الأنسب للمريض من حيث الزمان والمكان.
وفيما يتعلق بالعمليات الجراحية التجميلية فقد لوحظ أنه لا يكفي أن يكون الجرّاح حاصلاً على شهادة في الجراحة وإن كانت شهادة (البورد الأمريكي)؛ إذ إن العديد من عمليات شفط الدهون المؤدية للوفاة كان سببها جرّاح حاصل على شهادة البورد من الهيئة الطبية الأمريكية، ولذلك افترض بعض الأطباء في الجراحة التجميلية في أمريكا أن يكون هناك تخصص في جراحة التجميل لفترة سنتين أو ثلاث سنوات من العمل في الجراحة التجميلية(38).
ولأن الجرَّاح هو الركن الأهم في هذه العملية فقد اعتبرت هيئة أطباء بنسلفانيا وعلى لسان المتحدث باسمها (كيف شيفرز) أن يكون الأطباء الممارسون في حقل الجراحة على كفاءة عالية، وأنهم إنْ فشلوا في إثبات هذه الكفاءة فإنه ستجب تنحيتهم(39).
الركن الثالث: العمل الجراحي
ونقصد به نوع الجراحة وكونه عملاً مسموحاً به قانوناً، وقد أصبح من الممكن إجراؤه دونما أضرار كبيرة، ومن حيث إمكانية إجرائه في الظروف التي تحيط به، والوسائل التي سيلجأ إليها الجرّاح والتقنيات التي سيعتمدها، وعلى الجرّاح تحديد نوع العلاج المطلوب والمناسب لكل حالة على حدة تبعاً لعدة عوامل منها حالة المريض الصحية العامة.
والتقنيات المستعملة اليوم في الجراحة التصنيعية (التجميلية) هي: الشق الجراحي، والاستئصال، والجراحة الكيماوية، والجراحة الكهربائية، والليزرية، وكشط الجلد، وشفط الدهون(40).
وفي هذا المجال لابد من إدراك بعض الحقائق الأولية، والتي منها:
1- أن أية جراحة تجرى على الجسم البشري هي عمل طبي، يقبل النجاح والفشل، وجراحة التجميل هي الأخرى تقبل النجاح والفشل.
2- أن نجاح عملية معينة على يد جرّاح معين لا تعني بالنتيجة أنها ستنجح مع مريـض آخر، بمعنى أن ما يحصل من نجاح أو فشل مع مريض معين لا يعني أن كل مريض سيواجه النتيجة نفسها، ذلك لأن لكل جسم بشري خصوصياته وإن توحدت طريقـة العمل الجراحي في جميع الأحوال، إذ قد تكون النتيجة مختلفة من شخص إلى آخر، لأن الاستجابة تتأثر بالكثير من المواصفات الجسمية والعادات الصحية، ومن هنا لابد من أن نتيقن بأن العملية الجراحية مرهونة بعدة عناصر أهمها: مهارة الجراح، واستجابة الجسم، ثم الوسيلة العلاجية المستخدمة، واتباع التعليمات بعد العملية.
3- أن نجاح العملية وخاصة التجميلية تعتمد على الأركان التي ذكرناها جميعاً، ولا تتوقف عند ركن دون ركن آخر.
النبذة الثالثة: التجميل وعلاقته بالمنظومة القيمية
يتصل التجميل وعمليات التجميل - تحديداً - بمنظومة العقائد والأخلاق والمعايير الاجتماعية السائدة، ولذلك فإن من المتوقع أن تصدر بحقها أحكام قيمية، من حيث الجواز وعدم الجواز، ومن حيث كونهـا أمراً مستحسناً أم لا؟ فهناك موقف عقيدي تجاه هذه العمليات، وهناك موقف أخلاقي، كما أن هناك موقفاً اجتماعياً تجاهها.
1- عمليات التجميل والعقيدة :
ولأن لعمليات التجميل بعداً عقيدياً من حيث العقيدة التي يختارها الإنسان لنفسه، فـإن جدلاً واسعاً أثير حول ما إذا كانت مبررة أم لا؟! ومعرفة ما إذا كانت تنسجم مع العقيدة أو لا تنسجم؟
وقد استدل بعضهم(41) لتأكيد منافاتها مع العقيدة الإسلامية بقوله تعالى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} [النساء: 119]، فيكون العمل التجميلي منافـياً للاعتقاد، والذي منه الرضا بقضاء الله وقـدره والتسليم بهما.
وقد نُقل(42) عن الطبري أنه قال: "لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها الله عليها بزيادة أو نقص، التماس الحسن لا للزوج ولا لغيره، كمن تكون مقرونة الحاجبين فتزيل ما بينهما توهم البلج(*) أو عكسه، ومن تكون لها سن زائدة فتقلعها أو طويلة فتقطع منها أو لحية أو شارب أو عنفقة(**) فتزيلها بالنتف، ومن يكون شعرها قصيراً أو حقيراً فتطوله أو تغزره بشعر غيرها، فكل ذلك داخل في النهي، وهو من تغيير خلق الله تعالى".
ولذلك اعتبر البعض أن جراحات التجميل التي روّجتها حضارة الجسد والشهوات - على حد تعبيره ويقصد بها الحضارة الغربية - حرام، فلا يجوز للمرأة تعديل شكل أنفها أو ثديها أو غير ذلك؛ لأنه من تغيير خلق الله(43)، ورفض لصبغة الله: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْـسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [البـقرة: 138](44).
وإذا كان هناك من يرى منافاة عمليات التجميل للاعتقاد بقدرة الله تعالى فإن ذلك لا يعني أنه أمر متسالم عليه؛ إذ فُسِّرت - الآية المستدل بها – بما لا ينسجم مع الرؤية المشار إليها آنفاً، إذ اعتبر المفسر الطبري (ت 310 هـ) أن المراد بتغيير خلق الله هو دين الله، واعتبر هذا القول هو أولى الأقوال بالصواب(45).
وعلى هذا القول جماعة من أهل التفسير من الصحابة والتابعين(46).
وعندئذٍ فيكون العمل الجراحي التجميلي - لو كان محرَّماً – معصية، ولا يتصل بالاعتقاد ليمس المعارف الاعتقادية كما هو مفاد الرأي الأول.
ويُلاحظ - أيضاً - في الدين اليهودي أن هناك من يرى التنافي بين مثل هذه العمليات الجراحية وبين الاعتقاد والإيمان بالله؛ وذلك لجهة ما تمثله هذه العمليات من تحدٍ للحكمة الإلهية، فضلاً عن كونها - خصوصاً عند الذكور - تشبهاً للرجال بالنساء، وهو أمر محظور في الدين اليهودي(47)، إلاّ أن ذلك لا يعني أن الرؤية الدينية عند الحاخامات اليهود موحّدة، فإن هناك من يعتقد بجوازها، كما هو رأي الحاخام (موردخاي ياكون بريشي) الـذي لم يجد بأساً في إجراء مثل هذه العمليات الجراحية التي تعتبر المخاطر فيها متدنية(48).
وتؤكد التعاليم المسيحية على أهمية الروح وتقدمها على الجسد، فقد ورد: "فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح فبما للروح؛ لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام، لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله؛ إذ ليس هو خاضعاً لناموس الله"(49).
وفي موضع آخر: "لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية"(50).
وفي موضع آخر: "فإذاً أيها الأخوة نحن مدينون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد، لأن إن عشتم حسب الجسد فسوف تموتون، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فسوف تحيون"(51).
وهذه التعاليم – ربما – تشير إلى عبثية بعض العمليات التجميلية، وهي الفنية والجمالية؛ لأنها من الاهتمام بالجسد على حساب الروح، إلا أنه لم يظهر من تعاليم الكنيسة تحريم أو منع.
2- عمليات التجميل والأخلاق:
ومن وجهة نظر أخلاقية يمكن التساؤل حول ما إذا كانت عمليات التجميل الجراحية فعلاً أخلاقياً، أم لا؟ وهو تساؤل لا يزال قائماً والجدل حوله على أشده. وإذا كانت العمليات التجميلية الضرورية والتي تجرى لغرض دفع الأذى الجسمي والنفسي عن الإنسان أمراً مبرراً من وجهة نظر أخلاقية لكونها تجرى بدوافـع نبيلة، فإن العمليات التجميلية التي لا يكون الداعي فيها سوى تغيير الشكل أو إشباع رغبة أو نزوة مؤقتة - لا تجد مبرراً كافياً لتكون فعلاً أخلاقياً، وذلك لأنها قد تعبِّر عن حالة زهوٍ نفسي، أو قد تقترب من الروح العبثية وتقلّب المزاج، وهو ما تحكم عليه القيم الأخلاقية بالسلبية.
ويبقى المجال واسعاً في الموقف الأخلاقي من عمليات التجميل، ولكنه يفتقر إلى بحث موسَّع.
3- عمليات التجميل والبُعد الاجتماعي:
بما أن جمال الوجه هو عنوان المظهر الخارجي للإنسان، من حيث تناسق أجزائه من الأنف والخدود والجفون والحاجبين، فقد استحوذ على اهتمامات معظم أبناء البشر، ليظهروا بمظهر لائق أمام بعضهم البعض، مما عُدَّ قيمة اجتماعية لا يحسن التغاضي عنها.
وإذا أُضيف إلى هذه الحقيقة البُعد الإعلامي والسياسي ودروهما في الحياة البشرية فقد تتضاعف هذه الاهتمامات وربما تبلغ الذروة، حيث يهتم معظم السياسيين بمظهرهم الخارجي إلى درجة يكون فيها هذا المظهر عنصراً من عناصر الحملات الانتخابية. وكذلك حال الإعلاميين، فضلاً عن المنتمين إلى الوسط الفني الذي أصبح مبالغاً في الاهتمام بالمظهر الخارجي والرغبة في إجراء عمليات تجميلية لهذا الغرض، وهو ما انعكس اجتماعياً على الأوساط الشعبية على أوسع نطاق، خصوصاً عند النساء؛ نظراً لأنهن الأكثر اهتماماً بمظهرهن الخارجي.
الفقرة الثانية: دواعي التجميل وأنواعه
أولاً: دواعي التجميل:
ثمة دواع تدفع بالإنسان لإجراء عمل جراحي، سواء كان ركن هذا العمل الجراحي هو المريض (الركن الأول) أو الطبيب (الركن الثاني)، إذ لكل منهما دوافعه التي تدفعه نحو هذا العمل، والتي يمكن إجمالها في:
1- الدواعي الصحية : وهي - ربما - من أكثر الدواعي شيوعاً، حيث تدفع المريض أحواله الصحية وما يصاحبها من آلام ومعاناة إلى إجراء عملية جراحية، بغية ترميم وإعادة تنسيق جسمه فيما لو كان قد تعرض إلى تشوّهات - مثلاً - أو حروق وغير ذلك؛ وذلك بغية إعادة الجسم إلى طبيعته أو إعادة تأهيله خارجياً فيما لو كان قد تعرَّض إلى كسور - مثلاً - أعاقت حركته وفاعليته.
2- الدواعي النفسية: وذلك في الحالات التي لا يشكو فيها المريض من آلام أو إعاقات جسدية، إلاّ أنه يعاني من آلام نفسية بسبب قبح المنظر - مثلاً - الذي يسبب له هذه الآلام، وما يلاقيه من إحراجات في حياته اليومية.
ويفيد أحد اختصاصيي الأمراض النفسية أنه أُخضع مجموعة من المرضى الذين حضروا لإجراء جراحة تجميلية على الأنف لفحص نفسي، فتبين أن 40 % منهم لديهم اضطراب شخصية، ولم يكن هناك علاقة بين درجة التشوّه ومقدار الاضطراب النفسي(52).
3- الدواعي الجمالية: كما في الحالات التي يرغب فيها الإنسان بإجراء عملية جراحية لتجميل أنفه أو فمه وإن لم يكن ثمة داع صحي، سواء كان على المستوى الجسدي كمعاناته من آلام جسدية أو على المستوى النفسي، إلاّ أنه كان يرغب في تعديل أنفه لمجرد الرغبة في التعديل ولدواع جمالية بحتة، أو كما في حالات شفط الدهون لامرأة تشكو من ترهل في أسفل البطن أو حالات زرع الشعر للمرأة أو للرجل.
4- الدواعي الجُرمية: إذ قد تدفع الإنسانَ إلى إجراء عملية جراحية تجميلية أغراضٌ جرمية، وذلك على خلفية التهرب من العدالة وسلطتها، فيعمد بعض الجناة كاللصوص والقتلة وأعضاء العصابات إلى تغيير ملامحهم؛ للإفلات من قبضة العدالة والتمويه على السلطات الشرطية والقضائية.
وربما تقترب منه الدواعي اللاأخلاقية بشكل عام، كما في حالات التدليس والتضليل الذي تمارسه امرأة بحق رجل لغرض إقناعه بالزواج أو العكس.
5- الدواعي العبثية: كما في الحالات التي يلجأ فيها البعض إلى إجراء عملية تجميل لمجرد الرغبة في التغيير، وتحت ضغط المزاج وتلوُّنه، وهي حالات تكثر في الأوساط المترفة، والتي تسود فيها مظاهر البطر وهيمنة المعايير المادية الصرفة، كما في أوساط الفنانين، وفي بعض البلدان تحديداً.
6- الدواعي الاقتصادية (التجارية): وهي دواعي تتصل بالركن الثاني من أركان عملية التجميل وهو الطبيب، إذ قد تدفعه الرغبة في الحصول على المال إلى التسويق لمثل هذه العمليات، ومحاولة التأثير على الآخرين بغية إجرائها رغبة في ذلك.
ولا يخفى التأثير السلبي لشيوع مثل هذه الدواعي على الأساسيات المهنية والأخلاقية لمهنة الطب وسمعة الجسم الطبي.
ولكن ومع شديد الأسف فقد يلاحظ تحول عمليات التجميل عند بعض الأطباء إلى نوع من التجارة في مجتمعنا، الهدف منها الربح دونما مراعاة للجانب الإنساني في هذه المرتبة(53).
ثانياً: أنواع العمل التجميلي(54):
يمكن تنويع العمل التجميلي الجراحي لعدة اعتبارات، إلاّ أننا نقتصر على ذكر اعتبارين، أولهما بلحاظ ما يمكن أن نسميه مدى هذه العمليات، وثانيهما بلحاظ واعتبار العمل الجراحي نفسه والغاية منه.
الاعتبار الأول: حيث يتطلب القيام بعمليات التجميل إما أخذ أعضاء من ذات الشخص كما لو أخذ من الشخص الذي يرغب بإجراء عمل تجميلي قطعة عظيمة أو جلدية من مكان ما في جسمه لغرض ترقيعها في مكان آخر، وإما أخذ أعضاء من شخص آخر، وفي هذه الحالات نكون أمام ما يعرف بزرع الأعضاء، وهي قضية يكثر الجدل حولها بين فقهاء القانون والشريعة، وما إذا كانت جائزة أم لا، وبأية شروط؟
الاعتبار الثاني: حيث يتنوع العمل التجميلي الجراحي تبعاً للغاية منه، وهو بهذا الاعتبار على نوعــين:
النوع الأول: الجراحة التجميلية (الترميمية) ويقصد بها إعادة الأعضاء الخارجية لجسم الإنسان إلى وضعها الطبيعي من الناحية الوظيفية والشكلية بصورة تقريبية؛ مثل التشوّهات الخلقية كفتحة الشفة العليا أو زيادة أو نقصان الأصابع، وإعادة أشكال بعض الأعضاء بعد عمليات جراحية استئصالية؛ مثل محاولة تشكيل الثدي بعد استئصاله بسبب مرض السرطان.
النوع الثاني: الجراحة التجميلية التي تعنى - غالباً - بالجانب الشكلي. ومع ذلك - ربما - تأخذ بالجانب العضوي أيضاً؛ وهو النوع الذي يعرف به التخصص بصورة عامة، ولعل أشهر أنواع هذا العمل الجراحي: عمليات الوجه سواء لإصلاح التشوهات الناتجة عن الحوادث والأمراض، أو لأغراض تجميلية بحتة كتعدي الأنف وصيوان الأذن، وجراحة الثدي، وذلك لغرض إعادة التوازن لهذا العضو من حيث الوزن، أو جراحة اليد لرفع التشوهات التي تطرأ عليها سواء كانت ولادية أو عارضة، أو الأورام الجلدية، أو الجروح والندبات، أو الحروق وغير ذلك.
يتبع/
بارك الله بكم اخي الفاضل سيد مرحوم وشكرا على هذا الاختيار لهذا البحث القيم وسلمت يداك لما كتبت
انتظر بقية البحث ولا اريد حاليا ان اقاطعكم في البحث حينما ستنتهي ساطرح بعد الاسئلة او ربما ارى الاجوبة في هذا البحث
تحياتي
الشكرموصول لكم كذلك أختي الفاضلة منازار على التواصل بالمتابعة والتعليق ..خالص التحيات والموفقية
[mark=FFCC00]الفصل الثاني:[/mark][mark=FFCC00] الأعمال الطبية وجراحة التجميل[/mark]
الفقرة الأولى: العمل الطبي ومشروعيته
قال ابن منظور (ت 711هـ): "الطب: علاجُ الجسم والنفس، ورجل طَبُّ وطبيب: عالم بالطب"(55).
ويقابلها في النص الفرنسي كلمة (medecin)، وفي الإنكليزية (medicine)، وهي مشتقة من الكلمة الفرنسية القديمة ومن اللاتينية (medecina)، ومعناها فن العلاج(56).
وقد عرَّفت دائرة المعارف البريطانية الطب بأنه: "مجموعة المعارف والإجراءات التي تتعلق بالمرض وعلاجه في الإنسان والحيوان"(57).
وقد عُرِّف العمل الطبي عند القانونيين بعدة تعريفات، إذ عرَّفه البعض بأنه: "ذلك العمل الذي يقوم به شخص متخصص من أجل شفاء الغير، طالما كان هذا العمل يستند إلى الأصول والقواعد الطبية المقرَّرة في عالم الطب"(58).
وعَرَّفه آخر بأنه: "ذلك النشاط الذي يتفق في كيفيته وظروف مباشرته مع القواعد المقرَّرة في علم الطب، ويتجه في ذاته - أي وفق المجرى العادي للأمور - إلى شفاء المريض، والأصل في العمل الطبي أن يكون علاجياً، أي يستهدف التخلص من المرض أو تخفيف حدته أو مجرد تخفيف آلامه، ولكن يعد كذلك من قبيل الأعمال الطبية ما يستهدف الكشف عن أسباب سوء الصحة أو مجرد الوقاية من مرض"(59).
وقد اعترض بعض القانونيين على التعريف المشار إليه آنفاً بأنه وإن كان أكثر سلامة من التعريفات الأخرى، إلاّ أنه أغفل أهم عنصر قانوني، وهو عنصر مشروعية العمل الطبي، ولذلك فضَّل البعض تعريف العمل الطبي بأنه: "كل نشاط يرد على جسم الإنسان أو نفسه، ويتفق في طبيعته مع الأصول العلمية والقواعد المتعارف عليها نظرياً وعملياً في علم الطب. ويقوم به طبيب مصرّح له قانوناً به، بقصد الكشف عن المرض وتشخيصه وعلاجه، لتحقيق الشفاء أو تخفيف آلام المرض أو الحد منها، أو منع المرض، أو يهدف إلى المحافظة على صحة الأفراد، أو تحقيق مصلحة اجتماعية شريطة توافر رضا من يجرى عليه هذا العمل"(60).
وقد حاول هذا التعريف أن يكون شاملاً لعناصر العمل الطبي، بحيث يشمل عنصر العلاج من الأمراض وما يتصل به، وعنصر الوقاية منها.
ولذلك حرص آخرون في تعريفهم العمل الطبي على أن يكون شاملاً للعنصرين معاً، فعرَّفوه بأنه: "كل عمل يرد على جسم الإنسان أو نفسه، من فحص أو تشخيص أو علاج أو وقاية، يقوم به طبيب وفقاً للقواعد والأصول العلمية المقررة والمتعارف عليها في علم الطب. وذلك بهدف تحقيق مصلحة المريض أو مصلحة اجتماعية، بشرط توافر رضا من يجرى عليه هذا العمل أو من يمثله"(61).
ولذلك فإن العمل الطبي يشمل(62):
- الفحص الطبي.
- التشخيص.
- العلاج.
- التذكرة الطبية.
- الرقابة العلاجية.
- الوقاية.
وبذلك يتجاوز العمل الطبي العلاج كما كان سائداً، حيث أصبح شاملاً لما ذكرناه آنفاً، وهي أعمال طبية، ويتوقف العمل الطبي عليها.
وأظن أن التركيز على العلاج في بعض التعريفات لكونه: "الوسيلة التي تؤدي إلى الشفاء من المرض أو الحد من أخطاره أو التخفيف من آلامه الناتجة عنه بتسكينها أو بالقضاء عليها"(63) فيكون الأبرز من عناصر العمل الطبي.
وتبدو المراحل الأخرى - عندئذٍ - مقدمات أو مكملات، إذ إن الفحص الطبي والتشخيص مقدمات للعلاج، والرقابة العلاجية من مكملاته.
بل يمكن القول: إن بعض ما ذكر في مراحل العمل الطبي كما هو في (التذكرة الطبية) لا يعدو كونه إثباتاً للعلاقة بين الطبيب والمريض(64)، ولا يدخل في صميم العمل الطبي.
ويشترط لإباحة العمل الطبي توفر ما يلي(65):
1- الترخيص بمزاولة مهنة الطب: إذ إن حصول الطبيب على الترخيص الذي يخوّله مزاولة مهنة الطب وفق الشروط والإجراءات المنصوص عليها في القوانين المنظمة لمزاولة مهنة الطب - هو الذي يبيح له مباشرة الأعمال الطبية.
2- رضا المريض: حيث يتطلب المشرِّع لإباحة الجراحة الطبية وأعمال التطبيب أن تتم برضا المريض أو النائب عنه قانوناً صراحةً أو ضمناً، إذ لا يجوز أن يُرغم الشخص على تحمل المساس بتكامله الجسدي ولو كان ذلك من أجل مصلحته.
3- قصد العلاج (الشفاء): إذ يجب لإباحة العمل الطبي أن تتجه إرادة الطبيب إلى العلاج لا إلى غاية أخرى، أي أن يكون غرضه مما يقوم به من أعمال مهنته الوصول إلى علاج المريض بتخليصه من الآلام التي يكابدها أو التخفيف من حدتها.
4- عدم وقوع إهمال من الطبيب: لأنه مع حصول الخطأ يكون مسؤولاً عن إهماله.
النبذة الأولى: الاختصاص الطبي
إذا كان العمل الطبي مشروعاً لكونه عملاً نبيلاً يسهم في حماية النفس الإنسانية، فإنه لا يُشرع إلاّ إذا كان ممارسه عالماً وعارفاً به، ولذلك لم يكتف المشرّع لإباحة العمل الطبي برضا المريض وإذنه - أو من يقوم مقامه - لتبريره، بل اشترط أن يكون ممارسه طبيباً حائزاً على شهادة في الطب معترفٍ به، علاوة على الترخيص الذي يتطلبه القانون للممارسة ومزاولة هذا العمل.
ولذلك نصّت المادة /30/ في فقرتها الأولى من قانون العقوبات الكويتي على أنه "لا جريمة إذا وقع الفعل من شخصٍ مرخصٍ له في مباشرة الأعمال الطبية أو الجراحية كان قصده متجهاً إلى شفاء المريض، ورضي المريض مقدماً صراحةً أو ضمناً بإجراء هذا الفعل.."، وهو ما يعني أن المشرِّع الكويتي يتطلب لإباحة الأعمال الطبية أن يكون ممارسها حاصلاً على شهادة في الطب معترفٍ بها من قبل السلطات المختصة في دولة الكويت، سواءً أكانت صادرة من دولة الكويت أم من الخارج ما دامت قد تمت معادلتها والاعتراف بها(66).
ولهذه الجهة اعترض بعض القانونيين على صياغة الفقرة /2/ من المادة /186/ من قانون العقوبات اللبناني؛ لأنه خلا من الإشارة إلى صفة الطبيب الذي يمارس العمل الطبي، واكتفى بتضمين شرطين، أحدهما رضا المريض، وأن يُجرى العمل وفقاً لأصول الفن الطبي، مع أنه لا إشكال ولا خلاف في أن القانون إنما أجاز هذا العمل لفئة من الناس قدَّر أنهم تتوافر لديهم عادة الخبرة المتطلبة للقيام بهذا العمل على النحو الفني المطلوب(67).
وتَطَلُّب الاختصاص الطبي معروفٌ قديماً حيث عرف المصريون القدماء فن الطب وتخصصوا فيه أيضاً، إذ تخصص بعضهم بطب العيون وآخرون بطب الرأس والأسنان، وقسم ثالث في الأمراض الباطنية(68).
وهو ما يؤكد اشتراط العلم بالعمل الطبي والإحاطة به، ولذلك ورد في الحديث الشريف عن النبي (ص): "من تطبَّب ولم يُعرف منه طب فهو ضامن"(69)، لأنه يتطفل على عملٍ لا معرفة له به، ويتطاول بذلك على حياة الناس وأرواحهم، فيكون ضامناً لتعديه على الجسم البشري.
ولأنه يلزم في ممارسة العمل الطبي الاختصاص والمعرفة فقد عمد المشرِّع لتنظيم هذه الممارسة، وقيل إن اليهود هم أول مَن اشترط في ممارسة الطب أن يحصل الراغب في الممارسة على ترخيصٍ عن طريق الحصول على إذن مـن مجلس القضاء المحلي(70).
وفي العام 319 هجرية أمر الخليفة العباسي (المقتدر) محتسبه (إبراهيم بن بطحا بن أبي أصيبعة) بمنع جميع الأطباء من المعالجة إلاّ من امتحنه رئيس الأطباء في ذلك العهد وهو (سنان بن ثابت بن قرة)، وقد امتحن في بغداد وحدها وقتذاك (800) طبيباً عدا الذين لم يدخلوا الامتحان لشهرتهم في الطب(71).
وإذا كان الوضع متأرجحاً في أوروبا، بين مزاولة العمل الطبي بأدنى مستوى علمي وبين فرض مستوى عالٍ للمزاولة، فإنه قد اتجهت غالبية الدولة الأوروبية شيئاً فشيئاً إلى قصر ممارسة المهنة على أشخاصٍ مؤهلين رسمياً(72).
أما اليوم فإنه لم يبق ما يثير الخلاف حول هذا الشرط، فإنه يُشترط لمزاولة العمل الطبي الاختصاص الطبي المطلوب، ولم يعد كافياً أن يكون الممارس حائزاً على شهادة في الطب العام في وقتٍ يحتاج فيه العمل الطبي إلى اختصاص فيه، مثل الاختصاص في الجراحة أو الطبابة النفسية وغير ذلك.
وفيما نحن فيه من البحث حول عمليات التجميل الجراحية فقد تتطلب خبرة واسعة لا تقل عن ثلاث سنوات من العمل في الجراحة التجميلية فضلاً عن سنتين خبرة في الجراحة العامة كما تفيد جمعية الأطباء الأمريكية، وعليه فلا تكفي الطبيب الشهادة الحاصل عليها ولو كانت شهادة البورد الأمريكي(73).
النبذة الثانية: المستند القانوني والشرعي للعلاج
في معرض الحديث عن العمل الطبي وحدوده ومشروعيته، فضلاً عن البحث عن مسؤولية الطبيب، فإنه يلزم البحث عن المستند القانوني والشرعي له، وما هي مبرراته ومسوغاته من وجهة نظر القانون والشريعة.
وفي هذا الصدد تُذكر عدة نظريات:
أولاً: نظرية العادة
وتقوم هذه النظرية على أساس ما اعتاده الناس في موقفهم من العمل الطبي حيث: "دأب الناس منذ القديم على عدم مساءلة الطبيب، كما عند المصريين قديماً والرومان والقانون الكنسي، فيما لو أعطي تصريحاً بالعلاج وفقاً لأصول المهنة، وإن لحق المريض ضرر أدى به إلى الموت، وكذلك هو الموقف الفقهي عند المسلمين(74) حيث لا ضمان عندهم على الطبيب الحاذق الذي عالج مريضه وفقاً لأصول الطبّ المتعارفة"(75).
وعليه تستند مشروعية العمل الطبي وانتفاء مسؤولية الطبيب إلى ما اعتاده الناس منذ القديم، من عدم مساءلتهم الأطباء عن الأضرار التي تلحق المرضى طالما راعوا الأصول الطبية المتعارفة.
ويراد بالعادة في الاصطلاح القانوني: "القاعدة القانونية التي تنشأ وتثبت باستمرارها مدة من الزمن، وتتحول هذه القاعدة إلى عرف له قوة القانون، إذا كانت قديمة وعامة وثابتة وظاهرة ونافذة بين الناس، ولا تتعارض مع التشريع القائم"(76) وهو ما يتوفر في هذا العرف السائد بين الناس قديماً - كما يدّعى - على عدم تضمين الطبيب، والذي أخذ من ثبات هذا العرف واستقراره.
وذُكر (الختان) عند اليهود مثالاً لانتفاء المسؤولية عن الأطباء، وتبرير العمل الطبي كونه أمراً معتاداً، وهـو عملية جراحية، كما ذهبت (لجنة المراقبة القضائية) في مصر إلى عدم اعتبار الحروق الحادثة من الكيّ الذي يجريه الأقارب بعضهم للآخر - ولم تفضِ إلى عواقب سيئة - جروحاً غير عمدية فضلاً عن كونها جروحاً عمدية، لكونها أفعالاً اعتاد الناس على اعتبارها أمراً مشروعاً(77).
وقد اعترض على هذه النظرية "بأن العادة إذا كانت أول مصادر القانون فهي قد فقدت تأثيرها في العصر الحالي، وحلّت محلها السلطة التشريعية التي تقوم الآن بسنّ القوانين اللازمة، وليس للعادة على وجه الخصوص من تأثير على قانون العقوبات، فإن من المبادئ المقرَّرة في القوانين الحديثة أن لا جريمة إلاّ بقانون ولا عقوبة بغير نص… ولذلك فلا يمكن أن تنشأ جريمة ولا نوع من العقاب بالعرف، كما أن قانون العقوبات لم ينص على أن العادة من أسباب الإباحة وموانع العقاب، حتى يصح القول بأنها يمكن أن تكون سنداً قانونياً لإعفاء الطبيب من المسؤولية"(78).
بل شكك بعض الباحثين في صحة الأمثلة التي ارتكزت عليها نظرية العادة لتبرير العمل الطبي واعفاء الأطباء من المسؤولية في ضوئه، لأن نفي المسؤولية عن الطبيب في المزاولة العادية - في الختان وغيره - لم يكن مستنداً بالضرورة إلى العرف وما اعتاده الناس، بل إنه يمكن أن يكون مبرراً لاقترانه بشروط أخرى، منها إذن الشارع وإذن المريض وقصد الشفاء وغير ذلك(79)، مما يعني أن هذه النظرية لا تجد أساساً من الصحة من حيث المبدأ، فضلاً عن أن تلك الأمور كانت أمراً متعارفاً يومذاك، ثم فقدت أساسها القانوني باعتبار التطور القانوني.
ثانياً: نظرية الضرورة
وبمقتضاها يُبرّر العمل الطبي كونه حالة ضرورية، ولذلك أعفي الطبيب - بتسالم - منذ أقدم العصور، فضلاً عن كون الضرورة قاعدة شرعية تفيد "أن الضرورات تبيح المحظورات"، ولذلك نصت معظم القوانين الحديثة على حالة الضرورة كسببٍ من أسباب انعدام المسؤولية.
ويمكن أن يبرر اعتبار حالة الضرورة سنداً لإباحة العمل الطبي بأن خسارة البعض أفضل من خسـارة الكل، ولذلك فإنه أفضل للمرء أن يخسر عضواً من أعضائه من أن يخسر حياته(80). وربما يدرج هذا الأمر فيما يعرف عند فقهاء المسلمين بـ (باب التزاحم)، فيكون العمل الطبي مشروعاً كونه تطبيقاً لهذا المبدأ، حيث تتزاحم المصالح والملاكات في تحديد ما هو المهم والأهم، وعندئذٍ يتقدم الأهم على المهم من الأفعال.
وفي مقام تحديد الضرورة العلاجية وضعت عدة ضوابط يجب على الطبيب مراعاتها في تحديد هذه الضرورة، وهي(81):
1- أن يكون العمل الطبي مطابقاً للمبادئ الأولية في العلم.
2- أن تكون الضرورة مؤسسة على مجموعة من المعارف الإكلينكية والنفسية والمعنوية المتعلقة بالمريض.
3- وجوب فهم الضرورة بمعنى خاص عندما تكون عمليات التجميل ضرورية بسبب ما تسببه التشويهات والإصابات من آلام نفسية للمريض قد تدفع به إلى الانتحار، مع وجوب الاعتداد بالمقارنة بين مخاطر العلاج والنتائج المترتبة عليه.
وعليه فإنه لا يسوغ للطبيب أن يقوم بأي عمل طبي لا يُعدُّ ضرورياً للمريض.
وقد اعترض على هذه النظرية بعدة اعتراضات منها:
1- أن "حالة الضرورة يمكن أن تعفي حتى غير الطبيب من المسؤولية عن الأعمال الطبية التي ترغمه الظروف على إتيانها. وقد حكم بأنه لا مسؤولية على الزوج الغريب عن مهنة التوليد إذا ولَّدَ زوجته في مثل تلك الظروف"(82).
2- أن "الاعتداد بهذا الرأي فيه إهدار لإرادة المريض، وهي من المبادئ التي لا شك فيها، والتي لا يُسمح بالتغاضي عنها"(83).
3- أن نظرية الضرورة لا تصلح سبباً عاماً لإباحة الأعمال الطبية كلها، وإنما تصلح سبباً للإباحة على نحو الاستثناء، كما في حالات الاستعجال خروجاً على شرط توفر رضا المريض مثلاً، أو في حالات انتشار الأوبئة التي لا يشترط فيها رضا المريض أيضاً(84).
ولذلك فإن حالة الضرورة لا يمكن أن تعفي الطبيب من المسؤولية إلاّ في الأحوال المحدودة التي تتوفر فيها الشروط اللازمة قانوناً لقيام حالة الضرورة المانعة من العقاب(85).
ولهذه الجهة يعفى الطبيب الذي منع من المزاولة مؤقتاً أو دائماً من المسؤولية لو قام بهذه الأعمال الطبية من باب الضرورة. وهو إعفاء سلّم به قانون سنة 1892م في فرنسا، فنصَّ في نهاية الفقرة الأولى من المادة /16/ على استثناء الحالات المستعجلة من حكم المزاولة غير المشروعة للمهنة. كما نصّ على مثل ذلك كثير من قوانين الولايات المتحدة الأمريكية(86).
ثالثاً: نظرية رضا المريض
وبموجب هذه النظرية فإن الطبيب يعفى من المسؤولية طالما أنه قام بالعمل الطبي برضا مريضه.
وتقوم هذه النظرية على وجود عقد يربط بين المريض وبين الطبيب، ومقتضاه أن يقوم الطبيب بالعلاج لما تقضي به الحكمة والأصول، فإذا نفَّذ الطبيب التزامه من غير خطأ ولا تقصير فلا مسؤولية عليه، ولو ترتب على المعالجة ضرر بالمريض.
ويعتقد بعض الباحثين أن لهذه النظرية جذوراً نجدها في القاعدة الرومانية التي تقرر "أن لا ضرر لمن رضي بهذا الضرر"، وفي الشريعة الإسلامية التي جعلت لرضا المريض بالعلاج أثراً في تخفيف العقاب على الطبيب، ونفي القصاص عنه، وعدم تحميله الدية أو تعويض التلف إلاّ في الحالات التي يكون فيها الطبيب جاهلاً أو مهملاً(87).
وقد تبنى القضاء المصري القديم هذا الاتجاه، فقضت محكمة النقـض في عام 1897م ببراءة شخص لم يكن طبيباً اتهم في قضية لإجرائه كياً على رجل برضاه وبناءً على طلبه وبقصـد شفائه من مرضٍ اسـتناداً إلى أن الرضا يعتبر مانعاً من العقاب(88).
وقد نوقشت هذه النظرية بعدة مناقشات:
1- إن هناك أحوالاً كثيرة لا يكون لرضا المريض أو رغبته أي وزن في إجازة العلاج، فقد يحدث العلاج على الرغم من إرادة المريض دون أن تترتب على الطبيب أية مسؤولية، وإلاّ لاضطررنا أن نعتبر غيرَ جائز عمل الطبيب الذي يقوم بمعالجة رجل شرع في الانتحار فأصيب بجراح ولم يمت(89).
2- إن حق المريض في الإذن بالعلاج ليس مطلقاً، ولذلك قيدَّ فقهاء المسلمين رضا المريض بأن يستهدف المعالج من عمله صيانة صحته، ولذلك فإن رضا المريض يقتصر أثره على الجانب الفردي للحق، ولا يبرر المساس بالجانب الاجتماعي الذي يتجسد في حق الله(90).
3- إن رضا المريض لا يعدُّ سبباً لإباحة العمل الطبي، ولذلك فإن الأعمال الطبية لا يبيحها رضا المريض، وإنما هو شرط لممارسة هذه الأعمال، وهو مقيَّد بعدة قيود، منها أن لا يخالف هذا العمل النظام الـعام والآداب(91).
رابعاً: نظرية انتفاء القصد الجرمي
وتفيد هذه النظرية أن السبب في اعتبار الطبيب غير مسؤول أنه ليس يقصد من الإصابات بالمريض إلاّ شفاءه، على خلاف المتهم الذي يحدوه الحقد أو الغضب أو غير ذلك من الدوافع الجنائية للإضرار بالمجني عليه(92).
وقد أخذت بهذه النظرية طائفة من الأحكام الفرنسية(93)، كما أخذت بها محكمة النقض المصرية في 24 أبريل 1897م حين حكمت بتبرئة شخصٍ اتهم بإحداث إصابة نتيجة كيِّه شخصاً بناء على طلبه وبقصد شفائه استناداً إلى انتفاء القصد الجنائي لديه(94).
وقد أخذ بهذه النظرية بعض الفقهاء الألمان(95).
وقد تراجع الفقه والقانون عن الأخذ بهذه النظرية، ويكفي في الاعتراض عليها أنها: "لا تعد بذاتها سبباً لإباحة الأعمال الطبية، والقول بغير ذلك لا يمكن التسليم به، ويفتح الباب على مصراعيه بإباحة الأعمال الطبية والتعرض لأجسام المرضى وغيرهم من البشر ممن هم ليسوا بأطباء، مما يهدّد النظام القانوني لهذه المهنة"(96).
خامساً: نظرية إجازة القانون
ويرى أصحاب هذه النظرية أن الأطباء بنفس وصفهم كأطباء يستمدون من الدولة الحق في استعمال جميع الوسائل المسلَّم والجاري العمل بها للعناية بالمرضى وعلاجهم، فليس حسن القصد هو الذي يعفي الطبيب من المسؤولية عن الأضرار التي يمكن أن تحدث منه في أثناء مزاولته لمهنته، بل هو التصريح الضمني من الدولة(97).
وعليه فإن "العلة في إباحة عمل الطبيب والجراح وانتفاء مسؤوليتهما هو ترخيص القانون؛ لأن القانون إذا رخّص للطبيب أو الجراح اعتماداً على شهادته الدراسية بمزاولته مهنة الطب قد خوَّل له بذلك حق علاج المرضى والتعرض لأجسامهم ولو بإجراء عمليات جراحية"(98).
وعليه "فالطبيب الذي يجري العملية أو يوصف الدواء إنما يأتي الفعل بنية سليمة عملاً بحقٍ مقرر بمقتضى القانون"(99).
وقد رجحّ بعض الباحثين أن الرأي الراجح في الفقه الإسلامي في أساس عدم مسؤولية الطبيب أو الجراح هو إذن الشرع وإذن المريض، وعليه فإن عدم تضمين الطبيب راجع إلى الجواز الشرعي، وهو ينافي الضمان، واعتبر أن إذن الشرع هو الذي ينشئ للطبيب رخصة استثناءً من المحظور، فكأن إذن الشرع هو الـذي أنشأ سبب الإباحة من الناحية التجريدية، ولا يعدو إذن المريض أن يكون العامل المباشر الذي يمكّن الطبيب من العمل بالرخصة التي خوّلها له الشرع على جسم المريض(100).
وقد تبنّت معظم التشريعات العربية والأجنبية هذا الرأي فنص عليه التشريع المصري واللبناني والسـوري والعراقي والأردني والكويتي من التشريعات العربية، ونص عليه من التشريعات الأجنبية التشريع الفرنسي والبلجيكي والسويسري(101).
وفي مقام تقييم هذه النظرية فإنه يشرع التساؤل عن الفرق بين ترخيص القانون وإذنه وبين إذن المريض، وما إذا كانا شرطين لابد منهما كما هو المقرر لانتفاء مسؤولية الطبيب؟ وهو ما يجعل من ترخيص القانون شرطاً لممارسة العمل الطبي، لا سنداً لإباحة العمل الطبي. خاصة وأن ترخيص القانون بمزاولة مهنة الطب يُعدُّ كاشفاً لحق الطبيب في ممارسة المهنة، لا منشئاً لهذا الحق، لأن أساس منح الترخيص لمزاولة مهنة الطب هو الإجازة العلمية التي يحصل عليها الطبيب(102).
ويمكنني التساؤل حول سبب إجازة القانون وترخيصه، وهو ما يَعني إعادة النظر في اعتباره سنداً للإباحة، إن كان هناك ما يدفع القانون والمشرِّع للإجازة والترخيص لمثل هذه الأعمال.
سادساً: نظرية المصلحة الاجتماعية
وتستمد هذه النظرية من المبادئ العامة للدين والقانون؛ إذ تنظر هذه المبادئ إلى وظيفة الطبيب كونها تحقق غاية إنسانية، وهي المحافظة على صحة وحياة أفراد المجتمع؛ للقيام بأعباء وظائفهم الاجتماعية التي يفرضها عليهم المجتمع تحقيقاً للمصلحة العامة(103).
ويمكنني تسميتها بالحاجة الإنسانية، لأن حاجة التطبُّب عند الإنسان إن لم تكن أهم من حاجاته الأخرى للغذاء والجنس.. فإنها لا أقل تساوي هذه الحاجة؛ لأنه يستهدف بالتطبّب الإبقاء على حياته أو المحافظة على صحته وتوازنه النفسي.
وإذا كان القانون يُجيز للأطباء التسلط على أجسام البشر فهو يُجيزه تحقيقاً لهذا الغرض، مع مراعاة الشروط الموضوعية التي تكشف عن مصداقية هذه الحاجة، وكونها حقيقة لا وهماً، والتي في مقدمتها الترخيص القانوني، ورضا المريض، ومراعاة أصول الفن وقواعده وضوابطه.
ومن وجهة نظري فإن هذه النظرية هي الأكثر سلامة من غيرها، وهي تستجيب - كما سيأتي الحديث عنه - للمتطلبات الطبية الحديثة، التي فرضتها حاجة الإنسان إلى العمليات الجراحية الحديثة من زرع أعضاء وعمليات تجميل…
يتبع /
الفقرة الثانية: المسؤولية الطبية وطبيعة المسؤولية
إذا كان العمل الطبي يجد مبرره القانوني والشرعي في إحدى الصيغ التي ذكرناها في البحث عن السند القانوني والشرعي للعلاج، فإن ذلك لا يعني إعفاء الطبيب من المسؤولية لمجرد كونه أجيز بممارسة العمل الطبي قانوناً أو أذن له المريض بإجراء عمل جراحي له، لأن "العمل الطبي في ذاته يمثل اعتداءً على التكامل الجسدي أو النفسي للشخص، وهو عمل إرادي لا يمكن أن يكون مشروعاً من وجهة نظر القانون الجنائي إلاّ إذا كانت غاية هذا العمل هي مصلحة المريض، فإذا كان يقصد غاية أخرى يكون العمل غير مشروع. ومن ثَم يكون الطبيب أو الجراح مسؤولاً من الناحية الجنائية إذا خرج عن نطاق وظيفته الاجتماعية"(104).
وفي قانون الآداب الطبية اللبناني رقم /288/ بتاريخ: 22/2/1994م اعتبرت المادة /2/ منه "أن رسالة الطبيب تتمحور حول جسم الإنسان الذي له حرمته، وحياته التي لها حصانتها، إذ إن حياة الإنسان وسلامته الشخصية هما فوق كل اتفاق، وتمثل أهم موجبات الطبيب في تحقيق رسالته للمحافظة على صحة الإنسان الجسدية والنفسية وقائياً وعلاجياً، والتخفيف من آلامه ورفع المستوى الصحي العام"(105).
وفي حالة عدم التقيّد بموجبات القانون وعدم مراعاة الالتزامات التي تترتب على الطبيب فإنه يُعدُّ مسؤولاً عن إخلاله بالمهام التي يتوجب عليه إنجازها في عمله الطبي.
النبذة الأولى: المسؤولية الطبية
وإذا كان هناك من يدعو من الأطباء وقلة من القانونيين قديماً إلى ما يُعرف بنظرية (حرية المبادرة) للأطباء والقول بإعفائهم المطلق من المسؤولية عن أخطائهم الفنية التي تحدث أثناء ممارستهم للمهنة استناداً إلى كفاءتهم العلمية وضميرهم الطبي(106)، وحرصاً على تنمية الطموح الطبي الذي أسهم بإنقاذ العديد من المرضى(107)، فإنه لم يَعُد لهذه النظرية مكان عند القانونيين، بل إن الموقف القانوني والموقف الشرعي يحمّلان الطبيب مسؤولية أعماله، وذلك في حالات الإخلال بما يقتضيه القانون، مع تمام المراعاة للواقع الطبي وأعمال الأطباء.
ومن حيث المبدأ يمكن القول: إن الطبيب في حالة وجود عقد طبي بينه وبين المريض يتوجب عليه:
1- تبصير المريض وإعلامه ونصحه.
2- معالجته والعناية به.
3- الامتناع عن إساءة استعمال أو انحراف سلطته.
4- تجنب الرعونة والتفريط.
5- عدم انتهاك القانون.
فإذا أخلّ الطبيب بهذه الواجبات عُدَّ مسؤولاً عن الضرر الذي يلحقه بالمريض، وللمريض أن يقاضيه.
نلفت أن هذه المسؤولية ليست حديثة العهد، فهي قديمة قدم الطب نفسه، وعرفتها أقدم الحضارات، فقد اهتم قدماء المصريين بحماية الناس من الأطباء، فعمدوا إلى تدوين القواعد التي يلزم على الأطباء مراعاتها في ما عرف بـ (السفر المقدس)، ويصل عقاب مخالفة بعض بنوده إلى الإعدام.
كما تطور تحديد مسؤولية الطبيب بدرجة أوضح في شريعة حمورابي، حيث نصت المادة /218/ على عقوبة قطع يدي الطبيب لو تسبب في فقد عين المريض، كما ضمّن "أبو قراط" عند الرومان واجبات الطبيب ومسؤولياته في يمين المهنة، ووصلت العقوبة عندهم إلى الإعدام في بعض الحالات(108).
وفي الفقه الإسلامي نظمت واجبات الطبيب ومسؤولياته بما شكّل تطوراً كبيراً يتفق اليوم مع أرقى انجازات التطور القانوني الحديث، وبما يوفّق بين مقتضيات التطور الطبي وبين حماية النفس البشرية.
ويخضع الطبيب في مسؤولياته للقواعد الفقهية العامة، كما في الحديث الشريف "إنه لا يبطل دم امرئ مسلم"(109)، والقواعد الخاصة: كما في قوله (ص):
"من تطبّب ولم يُعرف منه طب فهو ضامن"، وقول الإمام علي بن أبي طالب (ع): "من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه، وإلاّ فهو ضامن"(110).
وقد عالجت هذه القواعد عدة جوانب من مسؤوليات الطبيب، سواء فيما يتعلّق بالواجبات المهنية أو شروط ممارسة العمل الطبي.
ومع تطور الطب تطوّر التنظيم القانوني بما يتناسب مع هذا التطور، وبما يوفّق بين مقتضيات التطور الطبي وحماية الإنسان من أخطاء الأطباء ونزواتهم.
النبذة الثانية: طبيعة المسؤولية الطبية
مع ازدياد الأعمال الطبية والتطور التقني الذي رافق هذه الأعمال فقد لوحظ ازدياد الخصومات الناتجة عن المسؤولية الطبية بشكل كبير، وبالتحديد منذ الثلث الثاني من القرن الثاني(111)، مما دعا إلى ضرورة تحديد مسؤوليات الطبيب، وطبيعة هذه المسؤوليات.
وبغض النظر عن المسؤولية الأدبية للطبيب وكون مهمته ووظيفته إنسانية يلزم أن تكون متفقة مع قواعد الأخلاق والدين، فإن المسؤولية القانونية للطبيب على نحوين:
1- المسؤولية الجزائية:
وهي التي تتحقق عندما يرتكب الشخص فعلاً يشكّل جرماً يعاقب عليه القانون. فتقوم هذه المسؤولية على اعتبار أن هناك ضرراً أصاب المجتمع من جرّاء ارتكاب هذا الشخص فعلاً يخالف القواعد القانونية العامة التي تنظم شؤون الحياة في المجتمع، ويترتب على مخالفته لهذه القواعد جزاءً محدَّداً بنصوص القانون(112).
ويكتسب موضوع مسؤولية الطبيب الجزائية أهمية كبيرة لتعلُّقه بحياة الإنسان وسلامة جسمه والحفاظ على أسراره، ومسؤولية الطبيب الجزائية تكون في الغالب في صورةٍ غير عمدية، كما في الأخطاء التي يقترفها عند ممارسته للمهنة، والتي تتمثل في جريمة القتل الخطأ أو جريمة المساس بسلامة الجسم.
ويعتبر الخطأ الطبي جوهر المسؤولية الطبية غير العمدية، والذي تترتب عليها النتيجة التي يُجرّمها القانون(113).
ومن تطبيقات هذه المسؤولية أخطاء التشخيص، وأخطاء العلاج، وأخطاء التخدير، وأخطاء الجراحة.
وأما مسؤولية الطبيب العمدية فتتعلق بالجرائم التي تتصل بعمله ويقترفها عن قصد، ومنها:
القتل إشفاقاً، وإفشاء السرّ الطبي، ومزاولة مهنة الطب دون ترخيص، وجريمة الإجهاض.
2- المسؤولية المدنية:
وهي التي تتحقق عند إخلال المدين بالتزام يجب عليه، بحيث يترتب على هذا الإخلال ضرر يصيب الغير، أو هي التزام شخص بتعويض الضرر الذي أصاب شخص آخر، وبالتالي يلزم بتعويض الضرر الذي لحق بالغير(114).
والمسؤولية المدنية على قسمين(115):
أ- المسؤولية العقدية:
وهي تقوم على الإخلال بالتزام عقدي يختلف باختلاف ما اشتمل عليه العقد من التزامات.
ب- المسؤولية التقصيرية:
وهي تقوم على الإخلال بالتزام قانوني واحد لا يتغير، هو الالتزام بعدم الإضرار بالغير.
وبغض النظر عن النزاع في وحدة المسؤوليتين أو اختلافهما، فإنهما - لا إشكال - يتفقان في كونهما إخلالاً بالتزام سابق، ويختلفان في اعتبار الأولى إخلالاً بالتزام عقدي، وفي اعتبار الثانية إخلالاً بالتزام قانوني(116).
وفي تحديد ما إذا كانت مسؤولية الطبيب المدنية عقدية أو تقصيرية، فإن هناك من يعتقد أن "الراجح في الفقه والاجتهاد أن مسؤولية الطبيب تقصيرية"(117)، وهو موقف القضاء الفرنسي مدة طويلة من الزمن، حيث أيَّدت محكمة النقض الفرنسية حكماً عرض عليها سنة 1838م صدر من إحدى المحاكم الفرنسية، فقرَّرت أن مسؤولية الطبيب تقصيرية، وذلك استناداً للمادتين /1382/ و/1383/ من القانون المدني الفرنسي، باعتبار أن هاتين المادتين واجبتيّ التطبيق عندما يصدر خطأ من شخص معيَّن يسبب ضرراً للغير دون تمييز بين طبيب أو غيره.
وقد استند أنصار مسؤولية الطبيب التقصيرية إلى عدة حجج(118) وهي:
1- أن المسؤولية الطبية لها طبيعة فنية بحته، إذ إن الطبيب ملزم بمراعاة واجب الضمير والأصول العلمية الطبية الثابتة بعلم الطب، سواء ارتبط بعقد أمْ لم يرتبط، وكل ما يتعلق بالضمير والأصول العلمية الثابتة مناط بقواعد المهنة، وهذا خارج عن دائرة العقد.
2- أن كل فعل يقوم به الإنسان وينشأ عنه ضرر للغير فإنه يوجب المسؤولية التقصيرية، وإن لم يشكل جريمة جنائية، وعمل الطبيب لا يخرج عن ذلك، وهو لا يتمتع بحصانة تجاه ذلك.
3- الاستناد إلى فكرة النظام العام؛ لأن العلاج الطبي يتعلق بحياة الإنسان وسلامة جسمه وبدنه، والمساس بذلك يُعدُّ مساساً بالنظام العام، وهي القواعد الأساسية التي تهم المصلحة العليا للدولة الواجب على الجميع احترامها، وفي حالة مخالفتها يخضع المسؤول عن ذلك لقواعد المسؤولية التقصيرية.
وقد ظل الفقه والقضاء في فرنسا يعتبر مسؤولية الطبيب تقصيرية، إلى عام 1936م حيث صدر قرار شهير عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 20/أيار/1936م اعتبر فيه مسؤولية الطبيب عقدية، وذلك لوجود عقد بين الطبيب ومريضه يرتب التزاماً على الطبيب، ويُعدُّ الإخلال بهذا الالتزام مخالفة للعقد وإخلالاً به(119).
ومنذ ذلك التاريخ فإن محاكم الدرجة الأولى والاستئناف في فرنسا مجتمعة على قبول مبدأ المسؤولية العقدية(120).
وقد تبعت محكمة النقض المصرية في قرار لها بتاريخ 26/تموز/ 1969م الاجتهاد الفرنسي، واعتبرت مسؤولية الطبيب عقدية بعد أن كانت تعتبرها مسؤولية تقصيرية(121).
وفي لبنان لم تضع محكمة التمييز اللبنانية مبدأ واضحاً لطبيعة المسؤولية الطبية، كما أن سائر المحاكم اللبنانية لم تتعرض في أحكامها للتفرقة بين المسؤولية التقصيرية والمسؤولية العقدية، إلاّ أن محكمة بيروت ذهبت في أحد أقضيتها الصادرة عن الغرفة المدنية إلى أن مسؤولية الطبيب هي مسؤولية عقدية. ويرى الفقه اللبناني أن الطبيب يرتبط بعقد يقتضي منه أن يعالج المريض الذي تعاقد معه، وأن يبذل في معالجته العناية الصادقة في حدود الأصول الطبية المستقرة في علم الطب(122).
ومع أن الفقه والقضاء الحديثين يميلان إلى اعتبار مسؤولية الطبيب عقدية، فإن بعض القوانين لا تزال تعتبرها تقصيرية، كما هو موقف القانون السوري ومحكمة النقض السورية(123).
ومع افتراض أن مسؤولية الطبيب تعاقدية؛ فإنه لابد – لإثباتها - من توفر الشروط التالية(124):
1- أن يكون ثمة عقد صحيح بين الطبيب والمريض. من حيث الأهلية والمشروعية.
2- إخلال الطبيب المعالج بالعقد الطبي؛ إذ يُسأل الطبيب في حالة عدم قيامه بالالتزامات التي يفرضها عليه العقد الطبي المبرم مع المريض عن كل تقصير أو إهمال يصدر عنه، وفقاً لمعيار الرجل العادي.
وقد جرى الفقه القانوني على أن التزام الطبيب بعلاج المريض ليس التزاماً بتحقيق غاية هي شفاء المريض، بل هو التزام ببذل العناية الواجبة في علاج المريض وفقاً لأصول الصنعة(125).
وقد نصّ المشرّع اللبناني في المادة /82/ من قانون الآداب الطبية رقم 882/4991 على "أن الطبيب لا يلتزم بموجب نتيجة معالجة المريض، بل بموجب تأمين أفضل معالجة مناسبة له"(126)، ونصت المادة /1/ من الدستور الطبي الأردني "أن مهنة الطب هي مهنة إنسانية وأخلاقية، وتقوم المسؤولية الطبية بين الطبيب والمريض على بذل العناية وعدم الإهمال، وليس الشفاء"(127).
ويتطابق مع ذلك الموقف القضائي منذ تحوّل الموقف القضائي الفرنسي، فتبعه القضاء المصري، كما ورد في قرار لمحكمة النقض المصرية بتاريخ: 26/تموز/1969م، حيث أكّدت أن التزام الطبيب التزام ببذل عناية(128)، وهو ما قضت به محكمة استئناف دبي في قرار لها رقم 2790 بتاريخ 8/8/2000م(129)، وهو ما قرّرته محكمة استئناف بيروت "الغرفة الثالثة في القرار رقم 910 أساس رقم 101 تاريخ: 18/5/1967م"(130).
ويبدو أن الفقه الإسلامي متطابق في اعتبار التزام الطبيب التزام بذل عناية لا التزاماً ببذل نتيجة، حيث اعتبر فقهياً بأن المريض وإن كان يأذن بشرط السلامة إلاّ أنها لم تؤخذ بنحو مطلق، وإنما شرط على الطبيب أن يبذل ما في وسعه وكل مهارته وحذقه، على نحو لو أخلّ بذلك يكون قد أخلّ بشرط السلامة، ولذلك لا يضمن الطبيب الذي يبذل كل مهارته، ويزاول العمل الطبي وفقاً لأصول وقواعد الطب وإن حصل تلف، إذا كان هذا التلف قد حصل بسبب خارج عن إرادته، ولم يكن متوقعاً حصوله، أو لم يكن في الحسبان بالعادة، إلاّ إذا كان من مهمات الطبيب أن يحيط علماً بحالات المريض جميعها(131).
ولكن يمكن أن يكون التزام الطبيب التزاماً بتحقيق نتيجة، كما سيأتي في عمليات التجميل الجراحية.
3- حصول ضرر للمريض، إذ مع عدم حصوله فإنه لا مسؤولية على الطبيب، وهو ما يقع إثباته على المريض.
4- إثبات العلاقة السببية بين عدم تنفيذ المدين لالتزامه والضرر الحاصل، لأن المسؤولية العقدية لا تقوم لمجرد عدم تنفيذ المدين لالتزامه، بل يجب أن يكون عدم التنفيذ راجعاً إلى خطأ المدين.
وإذا كانت مسؤولية الطبيب تعاقدية، فإن ذلك لا ينفي أن تكون تقصيرية في بعض الحالات استثناءً.
يتبع /
القسم الثاني:
[mark=ff9900]الفصل الأول: مشروعية عمليات التجميل في القانون[/mark]
الفقرة الأولى: المستند القانوني للعمل التجميلي
تقدَّم في القسم الأول من الدراسة - وتحديداً في النبذة الثانية من الفقرة الأولى للفصل الأول - أن هناك جدلاً بين القانونيين في المستند القانوني للعلاج والعمل الطبي، وتراوح الرأي بين عدة نظريات وهي: نظرية العادة، نظرية الضرورة، نظرية رضا المريض، نظرية انتفاء القصد الجرمي، نظرية إجازة القانون، نظرية المصلحة الاجتماعية أو الحاجة الطبية.
وبصدد البحث عن المستند القانوني للعمل الجراحي التجميلي يتصاعد الجدل بدرجة أكبر، لمعرفة ما هو المبرر القانوني الذي ينفي المسؤولية عن الطبيب الجرّاح الذي يُجري عملية تجميلية لأحد مرضاه.
فهل يعتبر رضا المريض "الراغب في إجراء عملية جراحية" هو المستند القانوني لتبرير المساس بجسد الإنسان، ونفي مسؤولية الطبيب عندئذٍ عن الأضرار التي تلحقه؟ وهو ما يُعمل به في بعض البلدان، أو أن المستند لهذا العمل هو الضرورة، وكون هذا ضرورياً للجسم البشري، أو لاستقرار الحالة النفسية، أو أنه يستند إلى كونه حاجة اجتماعية؟ أو أن مرجع نفي المسؤولية الطبية هو إجازة القانون الذي سمح للطبيب إجراء عمليات جراحة شرط أن تكون موافقة لأصول الفن الطبي ورضا المريض.
النبذة الأولى: الموقف القانوني من العمل التجميلي
يختلف الموقف القانوني من العمل الجراحي التجميلي من نظام إلى آخر، فضلاً عن التطور الذي لحق هذه المواقف؛ إذ اتخذت عدة صيغ من زمن لآخر.
ففي ألمانيا تعتبر جراحة التجميل جائزة على نحوٍ مطلق، وذلك على اعتبار أنها تنطوي تحت الأنظمة التي وضعتها الدولة فيما يتعلق بالصحة واستعادتها. كما أن جراحة التجميل تُعدُّ جائزة في إنكلترا، وذلك أخذاً بالمبدأ المعتمد عندهم من أن رضا المجني عليه يبرر كل فعل ما لم يكن محرماً قانوناً، أو كان يؤدي إلى خطر شديد. وتُعدُّ جراحة التجميل جائزة - أيضاً - في بلجيكا ما لم تمنع من أداء واجب اجتماعي أو يكون الغرض منها كسب المال(132). وهي جائزة في الولايات المتحدة الأمريكية، مع اختلاف المعايير والضوابط التي يجب مراعاتها لإجراء عمل جراحي، إذ تطول قائمة الأنظمة الواجب اتباعها في بعض الولايات(133).
أما في فرنسا فإن الموقف مختلف، فقد كان القضاء الفرنسي ولفترة ينظر بالسخط والشك إلى جراحة التجميل، وهو إذ يرى كفاية رضا المريض في إعفاء الطبيب من المسؤولية عن الأضرار التي يلحقها العمل الجراحي بالمريض طالما أنه لم يقع منه خطأ في تطبيق قواعد مهنته، فإنه كان يعتبر الطبيب مسؤولاً عن جميع النتائج الضارة التي تترتب على علاجه ولو لم يصدر منه خطأ طبي. وبذلك يعتبر القضاء الفرنسي أن إقدام الطبيب الجراح على إجراء عملية لا يقصد منها إلاّ التجميل يُعدُّ خطأ في ذاته يتحمل الجراح بسببه كل الأضرار التي تنشأ عن العملية ولو أُجريت طبقاً لقواعد الفن الطبي(134). إذ أصدرت محكمة استئناف باريس في: 22/1/1913م قراراً يفيد أن "مجرد الإقدام على علاج لا يقصد به إلاّ تجميل من أجري له خطأٌ في ذاته يتحمل الطبيب بسببه كل الأضرار التي تنشأ عن العلاج، وليس بذي شأن أن يكون العلاج قد أُجري طبقاً لقواعد العلم والفن الصحيحين"(135)، وإن كان قد رضي المريض بإجراء هذه العملية، إذ ذهبت محكمة تولوز في فرنسا في: 23/10/1934م إلى أن الاتفاقات الخاصة بما يلحق جسم الإنسان من ضرر تعتبر مخالفة للنظام العام. كما قضت محكمة ليون في: 27/6/1913م بأن لا أثر لما يتفق عليه المريض من استبعاد مسؤولية الطبيب أو الجراح، ولو كان العلاج بناءً على الطلب الصريح من ذلك المريض(136).
وقد تغيّر الموقف القضائي الفرنسي من عمليات التجميل الجراحية، إذ إنه عاد وأخضعها إلى القواعد العامة التي تخضع لها الجراحة العلاجية، فاشترط أن تكون هناك علة تبرِّر المساس بحرمة الجسم البشري، وأن تكون ملائمة تُناسب بين الخطر الذي يتعرض له المريض والفائدة التي يرجوها من العمل الجراحي التجميلي(137).
وتقرر هذا الموقف في ما قضت به محكمة استئناف ليون في: 17/3/1937م "بأن الطبيب الذي يقوم بإزالة الشعر الغزير من جسم سيدة بالعلاج الكهربائي، فإذا لم يحدث منه أي تقصير في العلاج فلا يُسأل عن الضرر الحادث لتلك السيدة، متى ثبت أنه لم يكن هناك عدم تناسب بين النتيجة المرجوة والمخاطر العادية للعلاج الكهربائي"(138).
وأما الموقف القانوني العربي؛ فهو وإن لم يكن مواكباً للمستجدات الحياتية - ومنها الموقف من عمليات التجميل الجراحية - بدرجة تتناسب مع تطور هذه العمليات وشيوعها، فإن الفقه والقضاء ينظران إليها كحالة من حالات العمل الجراحي العام الذي يبرره القانون بالشروط التي أُلزم بمراعاتها(139). وعندئذٍ تدخل تحت أسباب الإباحة كونها واحدة من الأعمال الطبية(140)، والتي رخّص فيها القانون للأطباء - طبقاً للقواعد العامة - إجراءها بشروط منصوص عليها(141).
النبذة الثانية: التكييف القانوني للعمل التجميلي
يرجع تباين الموقف القانوني تجاه العمليات الجراحية التجميلية إلى التكييف القانوني الذي يُعطى لهذه العمليات من قبل الفقه والقضاء القانونيين.
ويمكن إجمال الآراء والنظريات في هذا الموقف في الاتجاهات الرئيسة، والتي تتراوح بين اتجاه يتحفظ على هذه العمليات، وآخر يرى جوازها على نحوٍ واسع، وثالث يدعو لإباحتها بشروط.
الاتجاه الأول: وهو اتجاه يميل إلى منع عمليات التجميل الجراحية. وترتكز الدعوة إلى المنع على افتراض أن العمل الطبي إنما يشرع ويسوغ بشرط أن يكون متجهاً إلى شفاء المريض(142)، ولذلك افترض البعض أن قصد الشفاء ضروري في العمل مهما يكن الأساس الذي يبنى عليه إعفاء الطبيب من المسؤولية عن حوادث العلاج(143).
وبناءً على ذلك يقرِّر هذا الاتجاه أن عمليات التجميل غير مشروعة؛ كونها لا يقصد منها الشفاء من مرض؛ لأن الغرض منها مجرد التجميل.
وقد واجه هذا التكييف اعتراضاً أساسياً؛ وذلك لجهة صعوبة وضع حدٍ فاصل بين ما يمكن أن يعد عملاً جراحياً علاجياً وبين ما يمكن أن يعد عملاً جراحياً تجميلياً. وقد ذكر بعض القانونيين أمثلة لذلك منها حالة طفل يولد بقدم معوجّة أو مفذوغة، فإن هذه القدم لو عولجت في الصغر فإنها تعد عملاً جراحياً علاجياً. ولكن لا يشك أن النتيجة تشمل جانباً تجميلياً أيضاً، فإذا انتقلنا من العوج إلى العرج الخفيف فإن من الصعب أن نحكم ما إذا كانت العملية التي تجرى لإصلاح هذا العيب هي عملية جراحية علاجية أو تجميلية، ولو أننا اعتبرناها عملاً جراحياً فإنه يكون من الصعب أن لا نعد كذلك سائر العيوب؛ لأنها تحمل جميعاً عنصراً من الشذوذ(144)، ولذلك فإن من الصعب القول إن الجراحة التجميلية تعنى بالجانب الشكلي فقط؛ إذ يأخذ بالجانب العضوي أيضاً، وكمثال على ذلك الجراحة التجميلية للبطن عند النساء بعد الحمل المتعدد، والذي لا يؤدي إلى الترهل فقط، ولكن يصحبه ارتخاء عضلي يؤدي إلى فقدان القائم الأمامي للجسم أو انحناء إلى الأمام، وبالتالي يؤدي لمشاكل في الظهر إلى جانب مشاكل بالتنفس، إضافة إلى إحباطات نفسية(145).
ويضاف إلى ذلك أن الأعمال الطبية ذات صلة وثيقة بعلم النفس؛ إذ إن كثيراً من الأمراض النفسية كالكآبة أو القنوط والشعور بالحزن أو الإحباط والعزلة الاجتماعية وغيرها يعود سببها إلى قبح الشكل، الذي قد يدفع الإنسان إلى الانتحار إذا توافرت عوامل أخرى(146).
الاتجاه الثاني: وهو يميل إلى التوسع في إباحة العمل الجراحي التجميلي، وذلك لجهة المناقشة في دعوى تضييق العمل الطبي وقصره على العلاج المألوف. وبذلك تم تكييف العمل الجراحي بنحو يكون مشمولاً بمفهوم العلاج، كونه يشمل الناحية النفسية كما يشمل الناحية الجسدية للجسم البشري، وبذلك تشرع العمليات التجميلية كونها تجرى بغرض الشفاء(147). ولذلك لا يبقى من العمليات الجراحية التجميلية مما لا يكون مشمولاً بهذا العنوان سوى العمليات التجميلية التي لا تدعو إليها حاجة جسم المريض أو نفسه، أو إذا لم تكن ثمة ملاءمة بين الحالة التي يشكو منها والخطر الذي يتعرض له(148).
بل إن هذا الاتجاه يميل إلى التوسعة في إباحة العمليات التجميلية؛ كونها تُعدُّ من مجددات الشباب، وأن التجميل يعطي الإنسان المسرَّة والسعادة، وهما من شروط صحة الإنسان، فضلاً عن كونها تذللّ العقبات التي تعترض الشخص في اكتساب رزقه في الحياة الاجتماعية(149).
لكن ينبغي تقييد هذه العمليات بعدم حدوث أضرار لا تتناسب مع المشكلة الصحية التي يعاني منها المريض.
الاتجاه الثالث: وهو اتجاه يرتكز على تقدير الأضرار التي تلحق الجسم البشري جرّاء القيام بهذه العمليات، ولذلك دعا أنصار هذا الاتجاه إلى إباحة هذه العمليات في مجال العيوب البسيطة كاستئصال اللحميات والعظام البارزة في الجسم والتجاعيد في الوجه وتكميل الأنف الناقص وغيرها، ومنع العمليات التجميلية في مجال العيوب الجوهرية.
وتقوم هذه التفرقة على أساس عدم التناسب بين المخاطر والفوائد من العمل الطبي، والحد من جراحة الترف(150).
وكرأي وسيط تم التمييز بين ما هو عملي جراحي بداعي العلاج وبين ما لم يكن كذلك، بل إن هناك تمييزاً آخر وبمقتضاه تشرع العمليات التجميلية إن كانت لا تنال الصحة بضرر ولا تهدر مصلحة الجسم في أن يسير السير الطبيعي(151). ولذلك وقف البعض موقفاً وسطاً بناءً على فكرة تناسب خطر العملية مع النفع المتوقع منها، بحيث إذا حصل هذا التناسب، فإن عمل الطبيب يبرر بالاستناد إلى موافقة المريض(152).
ويتبيَّن مما تقدَّم أن التكييف الذي أعطي لهذه العمليات يقوم على فكرة مصلحة الجسم البشري وما يطرأ عليه من مخاطر وأضرار، وبناءً عليه يُبّنى جواز أو عدم جواز هذه العمليات تبعاً لمدى الخطورة والضرر الذي تسببه هذه العمليات.
النبذة الثالثة: تقييم الدور القانوني في عمليات التجميل
يُلاحظ من خلال البحوث القانونية وقرارات وأحكام القضاء أن ثمة جدلاً واسعاً حول عمليات التجميل الجراحية، إن على مستوى المشروعية، أو على مستوى المعايير والضوابط التي يجب توفرها لإجراء عمليات التجميل هذه.
وهو جدل قديم - ربما - يعود إلى مطلع القرن العشرين. وقد أخذ بالتشعب بين فقهاء القانون، أو بين رجال القضاء، ولكن هذا الجدل في بواكيره الأولى كان جدلاً غريباً عن أوساطنا العربية والإسلامية، وإن كان انتقل فيما بعد إلى أوساط رجال الفقه والقضاء عندنا. ولذلك نلاحظ أن ما يذكر من جدل في مطلع القرن العشرين كان جدلاً بين رجال فقه وقضاء البلاد الأجنبية، وتحديداً بلاد الغرب، وما كان يجري من تداولات في أروقة القضاء على مستوى الأحكام واستئنافها ونقضها وإبرامها فهو يجري في غير بلادنا.
وقد كتب أحد الباحثين القانونيين أنه لم يُلاحظ على مدى ثلاثين سنة ماضية - وكان ذلك في سنة 1980م - من الأحكام الصادرة بشأن المسؤولية الطبية في سورية إلاّ بضعة أحكام لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولم يتح له الاطلاع في الكويت إلاّ على قضية واحدة فصلت فيها دائرة التمييز الكويتية عام 1980م(153).
وقد لاحقت شخصياً عدداً من مجموعات قرارات محكمة النقض السورية فلم أجد أحكاماً كثيرة في ما يتصل بالمسؤولية الطبية، فضلاً عمّا يتصل بعمليات تجميل جراحية.
ولذلك يمكن أن يقال: إن الدور القانوني والقضائي لا يتناسب مع ازدياد النشاط الطبي عموماً وما ينشأ عنه من آثار، فضلاً عن غيابه الملحوظ فيما يتصل بالنشاط الطبي في عمليات التجميل الجراحية.
الفقرة الثانية: مسؤولية طبيب التجميل الجزائية والمدنية
لا تختلف مسؤولية طبيب التجميل المدنية والجزائية عن مسؤولية الطبيب عموماً، فهو مسؤول عن الأضرار التي يلحقها بمريضه نتيجة الخطأ الذي يمكن أن يصدر منه.
النبذة الأولى: مسؤولية الطبيب الجزائية
على مستوى المسؤولية الجزائية، فإن هناك أعمالاً تصدر عن الطبيب وهو يقصد الإضرار بالمريض، وتُعدُّ هذه الأفعال جرائم عمدية تخضع لعقوبات مقررة في قانون العقوبات. وهناك أعمال تصدر عن الطبيب عن غير قصدٍ وتلحق بالمريض الضرر والعطل، وتُعدُّ جرائم غير عمدية، وهي أغلب الحالات التي تصدر عن الأطباء، إذ "إن أغلب أخطاء الطبيب تدخل ضمن الجرائم غير المقصودة، خاصة وأن المشرِّع أدخلها بطريق غير مباشر في أعمال الخطأ؛ لأن أغلب أعمال الأطباء وجرائمهم تقع تحت الإهمال أو قلة الاحتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة"(154)، ولذلك يمكن القول: إن الخطأ هو جوهر المسؤولية الطبية غير العمدية وأساسها الذي لا تقوم إلاَّ به(155)، فلا مسؤولية على الطبيب إن حصل على رضا المريض وراعى أصول الفن الطبي وما يتوجب عليه من آداب المهنة.
ولمّا كانت المسؤولية الجزائية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالخطأ الجزائي فإنه لا يخرج عن التصنيف القانوني للأفعال من حيث الوصف الجرمي للخطأ الجزائي، فهو إما جناية أو جنحة أو مخالفة.
وأول مسؤوليات طبيب التجميل أن يكون مجازاً في مزاولة الجراحة التجميلية، فلا يكفي أن يكون مجازاً في الطب العام، مع أن بعض القوانين والتشريعات تشترط خبرة واسعة لعدة سنوات تختلف مدتها بين تشريع وآخر. وفي حالة مخالفة الطبيب فإنه يعاقب جزائياً على ممارسة الأعمال الطبية بدون إجازة(156).
كما أن طبيب التجميل - كما سواه من الأطباء - مسؤول جزائياً إذا لم يتقن قواعد الفن الطبي التجميلي، فإن مارس الطبيب عملاً في ظل هذه الظروف فإنه مسؤول جزائياً عن الضرر الذي يلحق المريض فضلاً عن مخالفته للأنظمة واللوائح الخاصة(157).
ومن أهم واجبات الطبيب في الجراحة التجميلية - كما العلاجية الأخرى - قيامه بإعلام المريض عن وضعه الصحي، وما يلزم من علاج، والنتائج المتوقعة، والامتناع عن إجراء العملية الجراحية إن لم يكن لها مبرر طبي أو صحي، وإن وافق على إجرائها المريض(158).
ولذلك دأب القضاء الفرنسي على تأكيد التزام الأطباء التجميليين بمنتهى الحيطة واليقظة قبل إجراء العملية(159).
وتحسن الإشارة إلى أن الطبيب - بلحاظ ما ذكرناه آنفاً - مسؤول عن الأضرار التي يلحقها بالمريض من حيث درجاته؛ لجهة كونه يتعامل مع الجسم البشري، فإنه قد يصيبه بأضرار قد تؤدي إلى الوفاة أو إلى عاهات وأعطال مستديمة أو مؤقتة، وقد يكون ذلك بقصد أو عن غير قصد، ولذلك يُسأل الطبيب عن هذه الأفعال طبقاً للقواعد العامة المنصوص عليها في قانون العقوبات.
النبذة الثانية: مسؤولية الطبيب المدنية
وأما بالنسبة لمسؤولية طبيب التجميل المدنية، فإنها لا تختلف - من حيث المبدأ - عن مسؤولية الطبيب عموماً، إلاّ أنها في غالب الأحوال - كما يبدو - مسؤولية عقدية.
وإذا كان الفقه والقانون لا يوجبان على الطبيب عموماً أزيد من بذل العناية - كما تقدمت الإشارة إليه - فإنه "قد حصل خلاف في الفقه القانوني والاجتهاد القضائي حول تحديد طبيعة موجب طبيب التجميل، أهو بذل عنايته أم موجب تحقيق نتيجة، فاعتبر البعض أن التزام جراح التجميل هو التزام ببذل عناية، وليس بتحقيق نتيجة، ويبقى ضمن الإطار العام للمسؤولية الطبية. إلاّ أن رأياً آخر يعتبر أن التزام جراح التجميل هو التزام بتحقيق نتيجة بحيث تقوم مسؤولية الطبيب عند فشل التوصل إلى النتيجة المطلوبة أو الحد الأدنى منها ما لم ينف علاقة السببية بين فعله وبين الضرر الحاصل"(160)، وعليه فيكون التزام طبيب التجميل من قبيل التزام طبيب الأشعة، وطبيب الفحوص المخبرية، أو طبيب تركيب الأسنان(161).
وإذا كان القضاء الفرنسي حتى عام 1968م يتشدَّد في تحديد طبيعة الالتزام الطبي، وأنه التزام ببذل عناية، وليس التزاماً بتحقيق نتيجة، فإن هناك جانباً من الفقه المدني الفرنسي يرى أن التزام جرّاح التقويم والتجميل هو التزام بتحقيق نتيجة، بحيث يُسأل الجراح عن فشل العملية(162).
وقد قضت محكمة النقض المصرية في أحد قراراتها بأنَّ "جراح التجميل وإن كان كغيره من الأطباء لا يضمن نجاح العملية التي يجريها، إلاّ أن العناية المطلوبة منه أكثر منها في أحوال الجراحة العامة، اعتباراً بأن جراحة التجميل لا يقصد منها شفاء المريض من علة في جسمه، وإنما إصلاح تشويه لا يعرض حياته لأي خطر.."(163).
وقد رأى بعض القانونيين "أن ما يحدِّد نوع التزام الطبيب الجرّاح في الأعمال الطبية التجميلية والعلاجية الأخرى هو مستوى العمل الطبي، ونتائجه الأكيدة والمستقرة، لا الاحتمالية، فإن كانت كذلك عُدَّ العمل أو الالتزام بغاية، ولا يكون طبيب التجميل أو غيره موفياً بالتزامه، إلاّ إذا حقَّق النتيجة كالتزام الختان، والالتزام بنقل الدم، والتزام المختبر في التحليلات المرضية، وإن كانت النتائج محتملة اعتبر العمل أو الالتزام بوسيلة (بذل عناية) ومنها التزام الطبيب والجرّاح في الطب التجميلي. ومع ذلك فإنه في الجراحة التجميلية بوجه عام قد يتضمن العمل الطبي نوعين من الالتزامات، منها ما يلزم فيها تحقيق نتيجة، وأخرى يكفي بذل العناية"(164).
ويمكن القول: إن طبيب التجميل مسؤول عن نتيجة مفادها أن لا يكون ما يعقب العملية الجراحية أسوأ من الحال التي كان عليها المريض، لأنه - عندئذٍ - يكون الطبيب مقصِّراً في مدى التشخيص أو التقدير.
يتبع /