لو تذكرنا اعتراف مصر باسرائيل واتفاقية كامب ديفيد عام 1978 ثم اتفاقية سلطنة عُمان مع الولايات المتحدة الامريكية التي كانت تشمل بناء المطارات والمرافئ العسكرية واعطاء الحق الكامل للامريكا ان تستخدمها متما شاءت ,مرورا باتفاقية المملكة السعودية مع الولايات المتحدة الامريكية لبناء قاعدة الظهران وصولا الى بناء اكبر قاعدة امريكية في قطر .وقبلها تعاون كافة الدول العربية مع امريكا لضرب العراق واعتبار الولايات المتحدة هي الحامي عن المنطقة ابان حادثة نهب قوات الحكومة البعثية للكويت.
وحتى الان وبعد كل تلكم الكميات الضخمة من صفقات السلاح التي تسابقت عليها دول مجلس التعاون الخليجي,لم تتحقق تلك المعادلة المأمولة بان السلاح يوفر القوة الذاتية للدول العربية وبالتالي يتم الاستغناء عن التبعية الغربية,على العكس تزايد كميات السلاح زادت التشبث بمركب النجاة الغربي اكثر فاكثر ,عبر سلسلة من الديون وفقدان الثقة بقدرة المواطن الخليجي على خوض حرب دفاعية مفتوحة.
كل تلك الاتفاقيات لازالت مورد اتفاق عملي واختلاف نظري.اذ من الصعب ان تجد قضية يتفق عليها العرب حقيقة.لكن بعد التاسع من نيسان بتنا نجد ثمة ظاهرة غريبة تتمثل بوجود وحدة عربية صلبية,واتفاق طويل المدى ضد جميع شؤون العراق الداخلية والخارجية, العامة والخاصة.فكأن العرب هنايعوضون نقص وحدتهم التي ماتحققت يوماً الا عبر السرد الخيالي,بموقف لايلين ضد العراق وحكومته الجديدة.طبعاً التحليل النفسي هنا لن يجدي فثمة مصالح ابعد بكثير من عملية اخضاع الخطاب الجماعي لمصحة او عيادة.
بعد سقوط الصنم العفلقي وحكومة العصابات البعثية دبج الاعلام العربي استنتاجاً مغلوطً زاد من حمى جدله البائس.قائلا ان ماحصل هو احتلال وما بني على باطل فهو باطل.لذا الحكومة العراقية الجديدة باطلة وغير شرعية.ليس هذا فقط وانما دعى هولاء الى تدخل عربي او وضع تعاون من قبل بعض العراقيين مع الحكومات العربية للاطاحة بالحكومة الجديدة. مُعتميّن على القارئ والمتلقي ان ماحصل ما كان ليتم لو لم يكن هناك قبول شعبي سهل سقوط الطاغية وشرد كلاب حراسته الذين باتوا اما تجار سلاح داخل العراق او تجار اكاذيب وتضخيم الاموال المسروقة في الخارج. الاعلام العربي يعتم هذا القبول بكونه نتيجة إجهاد وعذاب دام اكثر من ثلاثين عاماً لم تقدم الحكومات العربية اي عون للمعارضة والمُهجرّين والمنفيين آنذاك على خلاف الصور التضخيمة والمتلاعب بها اليوم لاسم المهجرين.
يعتم هذا الاعلام العربي المرتزق بكون هذه الحكومات العربية القائمة بواسطة انقلابات عسكرية او تصفيات اهلية ,وانها بالتالي حكومات غير قائمة بارادة الشعوب وانما من خلال القوة ,وهي قوة مهيمنة بفعل جهاز القمع الداخلي ومعاونة التأييد الغربي ,والامريكي والبريطاني والفرنسي ,بالخصوص. فأي فرق بين بطش وذبح بسكين وطنية وآخر بسكين مستوردة؟!.فهذا الاستنتاج الذي يكرر الاعلام العربي بشغف لو صح فانه يعني ضرورة الاطاحة بكل هذه الحكومات العربية الممولة لهذا الاعلام السلطاني .فضلا عن ان هذا الاعلام مثل اسياده لايحترم الشعوب لذا يهملون ان الحكومة تم تنصيبها عبر انتخابات شعبية سارت اليها الجماهير على العبوات المفخخة متحدين ملثمين الموت ونواب الكراهية والتصفية الجسدية.
لانعني من ذلك ضرورة القبول الاعمى للاتفاقية بين العراق والولايات المتحدة الامريكية.على العكس يجب التشديد علىضرورة التبصر والنقد الايجابي.لكن الفرق كبير بين هذا التبصر والنقد الموضوعي ,وبين العمى والوقوع بالتشهير المجاني الذي كل نتائجه تصب لصالح البعثيين والطائفيين.فبينما يستنكر هولاء الثعالب الاتفاقية بدون بيان ودليل ,فانهم في الوقت ذاته يتصلون بالرئيس الامريكي الجديد ويحاولون كسب قناعة غربية بضرورة عودتهم للسلطة ولو جزئياً.وبينما يسمي البعض هذه الاتفاقية بالعار نجده هو ذاته له ارتباطات بدول اخرى عديدة,هذا فضلا عن عدم تقديم اي دليل من داخل بنود الاتفاقية نفسها الامر الذي حاولوا تغطيته بان ثمة نسخة اخرى للاتفاقية سرية,ولاندري اذا كان هذا صحيحاً كيف وصولوا هم اليها وبنوا اعتراضتهم عليها؟!
وللاسف انغر البعض بالشعار دون المضون بعض الكتل الوطنية امثال التيار الصدري,والذين موقفهم في غاية الغرابة.فالتيار الصدري كان يصر طيلة خمسة اعوام على ضرورة وجود اتفاقية تحدد فترة زمنية للانسحاب الامريكي من العراق, الان هو ذاته من يقف بوجه هذه الاتفاقية!
بعض هذه التكتلات ,التي لانشك بنواياها الوطنية ,بدل ان تقدم نقدا موضوعياً يخدم في تعديل الاتفاقية راح يدبج الهتافات والشعارات الكبيرة الطنانة بدون ان ينحني قليلا من ابراج المثاليات المناطحة للسماء وينظر الى ضروريات الحياة للفرد العراقي البائس الذي هو أول الضحايا.امثال ذلك طالعنا اشهر استاذ في الحوزة العلمية السيد كمال الحيدري بتصريحه الذي هو اول تدخل له في الشأوون السياسية فقال بشكل مؤسف:{ أنا لا أوافق على أي أتفاقٍ يعطي للأجنبي حقاً في العراق.}
مع العلم انه لايوجد اي بند في الاتفاقيه يمنح الاجنبي اي شيء من ارض العراق.وعلى الفرض المبني على الخيال الا يجب منح ثمن لمن يقوم بعمل وهولاء ادوا عمل لم نستطع تحقيقه شئنا ذلك ام ابينا. هذا مع تغييب هذه الاطراف الممانعة إننا مع قوات الاطلسي لم نستطع حماية مراقد واضرحة مقدساتنا فكيف بعدمها؟!.طبعا العلامة الحيدري والسيد مقتدى الصدر كلاهما ليس في العراق لذا يتعاملان مع الواقع العراقي وكأنه نص في كتاب حوزوي قديم امثال كفاية الاصول للخراساني ونهاية الحكمة للطباطبائي .
للاسف الشديد ان ثلة من ابناء وطننا لايفكرون كيف ان هتافاتهم واعتراضاتهم تطابقت الى حد الذهول مع بيان حزب البعث الاخير الذي صدر من قبل بعض المجرمين الذين فروا الى القاهرة ودمشق(موطن حزب البعث الاول ) والذي باركه شاعر البلاط المعروف عبدالرزاق عبدالواحد بقصيدة اعتنى بها خادم الديكتاتورية الوفي سعد البزاز ,كالعادة في مؤسستيه الاعلاميتين الزمان والشرقية, فنقرأ في هذه قصيدة الحربية التي حملت عنوان واضح الدلالة ,الا وهو : عثرة عمر:
{بـِبـَقـايا " اللهُ أكـبـَرُ " في الـرَّاياتِ بــالأنــْجــُم ِالــثــَّـلاثِ الـغـَـــوالي
عـائـِداتٌ إلـَيـكِ يا رايـَة َالـرَّحمـن ِ تـِـلــكَ الــنــُّجـومُ فـي كـلِّ حـــال ِ
لم نـَنـَمْ في الجُحورِمثـلَ السـَّحالي
بـَلْ مَشـَـيْـنـا على رؤوس ِالجـِبـال
قــَد عـَثـَرنـا .. فـَسـَجِّـلي يالـَيــالي
قـَد عـَثـَرنا في الغـَدرِلا في الـقـتـال}
حيث الدعوة واضحة الى ضرورة ايجاد انقلاب بعثي جديد,تمثله الانجم الثلاث الغوالي على قلوب الحكومات العربية وخطاب القومية العنصري ,انقلاب يعتمد ذات الاليات القديمة للانقلاب الاول والثاني :إقناع الغرب بان العنف سوف يستمر لو لم تكون لهم السلطة, واقناع الحكومات العربية بخطورة التشيع,مستفيدا من الغرب خيبة الخطاب الديمقراطي في الشرق الذي كان يراهن عليه جوروج بوش الابن,واللعب على مشاعر الحقد المذهبي الوراثي الذي هو جزء من شرعية بعض الحكومات العربية ويوافق ميولات الكثير من تجار ورؤوس الاموال في المنطقة.
طبعا عبدالرزاق عبدالواحد يسمي ماحصل غدرا(وهو تعبير صدام المحبذ)لكن كل الانقلابات البعثية وجرائمها تكون راية الرحمن وتنفيذ لمشيئة الله.وهو هنا يتفصح علينا بانه يمشي فوق الجبال بينما يتناسى ان سيده زاحم الجرذان في حفرها.وماعسانا نقول بشأن حراس الظلام هولاء الذين تكرشوا بالضحايا فكانت المقابر الجماعية بعدد قصائدهم.
صحيح ان العملية السياسية في العراق تعاني من مشاكل جوهرية مثل المحاصصة وقلة الخبرة للمتصدين,وتعصب البعض لاقامة امارة خاصة به كما يفعل الاكراد في الشمال وطموحات المجلس الاعلى في الجنوب,وضياع الكثير من فرص البناء والعمران وتحسين الخدمات,وصعود الحس العشائري ,وتفشي الوساطات والرشاوى وغير ذلك كثير. بيد ان هذا شيء والاطاحة بالعملية السياسة وهدم مشروع الدولة الليبرالية شيء آخر.خصوصاً وان الاصلاح لايتم فجأة في بلد عانى من الحرمان والتشوه والحصار العقلي والمادي اكثر من نصف قرن بالكامل.
وللاسف الشديد يفوّت كثيرون من ابناء شعبنا فرصة النقد البناء واعادة تجديد العملية الديمقراطية بشكل عملي صحيح,وبدل ذلك يغرقون انفسهم في شعارات طوباوية لايمكن ان تتحقق متناسين انه حتى في الاحكام الدينية توجد احكام استثنائية لدى الضرورة ان الضرورات تبيح المحضورات.وان الاحكام رهينة على تزاحم الواقع الخرجي وليس التمنيات والهتافات بالمطلقات التي لاتعرف التقييد ولا اشتراطات النجاح العملي لكل عملي عقلائي.وقديما اعطانا الامام الحسن بن علي , بعقده الصلح مع معاوية درساً بليغاً كنا نتمنى على الامة ان تستفيد منه في حياتنا المعاصرة بشكل تطبيقي لا مجرد اجترار بكائي في منابر مأتمية.
ليس غرضنا بالطبع ان نبصم بالعشرة على اوراق تقدمها لنا هذه الدولة او تلك.لكن من الخطورة ان نتعامل مع قضايا سياسية بهذا الحجم بمنطق الهوسات والعرضات والصراخ والاستفزاز العاطفي.السياسة هي فن ادارة المصالح وكبرى خساراتنا التاريخية كان سببها هو هذا الامتناع القائم على مطلقات لانحصل منها بعد فوات الاوان سوى الهتافات والحسرات.لقد اعتلى شقاوات حزب البعث الهرم السياسي بسبب هذا المنطق بالذات,والذي هو نفسه يسود اليوم الشارع العراقي والحوزة الشيعية والمعاهد الدينية السنية.ومع ان هذه المؤسسات هي مؤسسات تاريخية تراثية الا انها مع الاسف الشديد شديدة التعصب ضد الاستفادة من اي درس من دروس التراث.بينما الاخرون الذين يحاربون كل ماهو ديني وتاريخي هم الاكثر استفادة من تلك العبر التي خُطت بالدماء والندم.
**********
يروي ابن الاثير في كتابه الكامل في التاريخ:
{قال الخليفة عبدالملك بن مروان لسعيد بن المسيب:ياأبا محمد صرت أعمل الخير فلا أسر به واعمل الشر فلا اساء به.
فقال له سعيد: الان تكامل فيك موت القلب}
الا وان الاعلام العربي قد مات قلبه منذ زمن بعيد .لذا فمنطقه هو كيف يعود الشقاوات الى السلطة فيدرّون عليه العطايا من جديد, اما صراخ الضحايا فقد اسمعت لو ناديت حيا.لكن الاخطر ان نكون نحن من الذين يحسبون انفهسم ايقاظ وهم رقود,اذ لاتدخل الحكمة الا من كان له قلب وأُلقي السمع وهو شهيد.اذ لو تكرر وعاد حزب البعث (باي قناع كان) للمرة الثالثة فهذا معناه اننا من اصحاب القلوب الموات ,وهو بحق خسران الدين والاخرة.العقل والعاطفة ,الارض والانسان.