-
اَêٌْçِ كêçè
وزير خارجية فرنسا يصرخ بالتاريخ برومانسية الشعراء
دومنيك دو فيلبان: لم يعد للسلطة سلطانها القديم، لم يعد لها إلا المظهر الخارجي، وإن حدودها القديمة ذابت في شمس الوقائع الجديدة
أحمد الشيخ
من الطبيعي في لحظات الأزمات وأزمنة التحولات الكبرى ان تتزايد المقالات والدراسات والكتب السياسية والاستراتيجية، التي تحاول ان تجد مخرجا، أو تفتح أفقا جديدا من الرؤية والعمل، لكن من غير الطبيعي ان يسيطر على أغلب هذه الكتابات الطابع السردي للأحداث، الذي يفتقد البحث الجريء عن العلل والجذور البعيدة والقريبة، كما يفتقد كذلك الرؤى الجديدة التي تمهد الطريق نحو الانتقال الى أفق انساني أكثر رحابة.
وكتاب «صرخة التاريخ» لدومنيك دوفيلبان وزير خارجية فرنسا الحالي، يمكن ادراجه دون مبالغة ضمن هذه القلة النادرة من الكتب السياسية الجديدة التي تقدم رؤية غير نمطية للواقع المعاصر، وتطرح طاقات جديدة من الحركة والعمل قد لا تتوافر في غيرها من الكتب المماثلة التي تعالج الموضوعات ذاتها وما أكثرها.
يجد القارئ في كتاب دومنيك دوفيلبان خبرة المسؤول السياسي الذي عايش الأحداث ويعرف جيدا وعمليا ظواهر وبواطن الموضوعات التي يتحدث عنها، فهو ليس منظرا أكاديميا وانما عمل سكرتيرا عاما لقصر الاليزيه لمدة سبع سنوات قبل أن ينتقل الى منصب وزير خارجية بلد له ثقله الرئيسي في تقرير وتحديد مسار الاحداث، كما يجد القارئء في كتابه أيضا خبرة الشاعر الذي يتمتع بموهبة ادراك الحقائق والتفكير بها والتعبير عنها في أسلوب مميز، وهو ما تبدى منذ ديوانه الأول «كلام المنفى» (1986) وديوانه الثاني «حق الأخ الأكبر» (1988) وكتابه عن نابليون «المائة يوم.. روح التضحية» (2001) ثم كتابه الأخير «صرخة التاريخ» مايو (أيار) 2002، الذي صدر بعد تعيينه وزيرا للخارجية بعدة أيام فقط.
لا شك ان الخبرة الشعرية تضيف الى المسؤول السياسي تألقا وتمنحه بصيرة في رؤية الأحداث قلما تتوافر لكثيرين، لكن من زاوية أخرى هل تكون هذه الخبرة الشعرية، عند اقترانها بالخبرة السياسية أو المسؤولية السياسية، مفيدة وناجعة دائما أم قد تكون مصدرا لخلط وارباك قد يفضيان الى ان يفلت الواقع الحقيقي من بين يدي الشاعر والمسؤول السياسي معا، أو الى ان يعيش الشاعر والسياسي حالة تناقض منسجم أو انسجام متناقض؟
وعلى ذلك ففي الكتاب تبدأ المزاوجة بين موقع الشاعر وموقع الوزير من عنوان الكتاب ذاته، والذي يحمل شحنة رومانسية أكثر منها سياسية، فالعنوان «صرخة التاريخ»، هكذا ترجمناه عن الفرنسية، أقرب الى الشعر منه الى السياسة، وهو يشير الى صرخة تماثيل معلقة بأعلى كاتدرائية نوتردام تصور حيوانا اسطوريا يخرج من فمه الماء أو الحمم وفقا لما ينتظره ويريده الشاعر أو الوزير، وكأن المؤلف أراد أن ينطق هذه التماثيل الصامتة لتتحدث الى الفرنسيين ولتحثهم على العمل، ولتشهد على تاريخ فرنسا العريق، وعن واقعها المعاصر والبائس كما يراه المؤلف. واذا كان للمؤلف جذور عربية أو مصرية، وهو بالمناسبة ليس بعيدا عن بعض الملامح العربية والمصرية، لاختار رمز «أبي الهول» ليتحدث من خلاله الى العرب والمصريين كشاهد على عبقرية التاريخ القديم، ومغامرات الزمان التي تقع تحت بصره من دون ان ينطق بكلمة واحدة، وجاء الآن دور الشاعر لينطقه خبرة السنين ضد بؤس الواقع المعاصر.
الكتاب اذن من عنوانه يطلعنا على درجة كبيرة من حضور الشعر، لأنه من النادر أن يحمل كتاب سياسي عن اوضاع فرنسا الراهنة وأزماتها الداخلية والخارجية مثل هذا العنوان الذي يكشف عن تجربة خاصة أو ذوق خاص قد لا يكون موضع اجماع، فـ«صرخة التاريخ» أو صرخة الجارجوي بالفرنسية، هو اختيار به ميل وهوى يجوز في عالم الشعر لكن هل يجوز أيضا في عالم السياسة؟
وليست المزاوجة بين الشعر والوزارة مقصورة على عنوان الكتاب، وانما تمتد بتداعياتها الى اسلوب التأليف ذاته، والى كثير من الآراء والمواقف التي عبر عنها المؤلف بصورة ذات طبيعة شعرية أحيانا، وبصورة ذات طبيعة سياسية أحيانا أخرى بحيث يصل الأمر الى درجة يصعب فيها التمييز بين ما يعود الى الشاعر وما يعود الى السياسي أو الوزير.
هذه المزاوجة يوضحها دوفيلبان حين يقدم نفسه الى قارئه قائلا: ليس مصادفة ان كثيرا من الأمراء والملوك وقادة الدول كانوا محاطين بمجانين وشعراء وفلاسفة ورسامين ومبدعين غرباء، وكان هؤلاء الهامشيون يمثلون الرئة التي تتنفس منها السلطة. ويتحسر فيلبان على غياب هؤلاء الهامشيين اليوم من قصور السلطة واحتلال حاشية السلطان مكانهم بشكل واضح.
وفي كتابه يستشهد فيلبان بالعديد من النصوص التي تدعم افكاره لهؤلاء الشعراء والفلاسفة والمفكرين قديما وحديثا بحيث يجد القارئ نصوصا على درجة عالية من الايحاء والتأثير، فهو عندما أراد ان يصور حالة عدم الاستقرار والغموض الذي يلف الواقع نجده يستشهد بشاعر هو هنري ميشو في قوله: «في الماضي كنت ارقص عندما كانت الارض صلبة وكانت لدي الثقة، كيف يكون هذا ممكنا الآن، فعندما تأخذ حبة رمل فان الشاطئ كله ينهار، انت تعرف ذلك جيدا» (ص 64).
يقدم دومنيك دوفيلبان في كتابه رؤية شخصية لفرنسا اليوم، ويعكف على دراسة أوجاع المجتمع الفرنسي وأزماته وانسداد قنواته، ويطرح السؤال التاريخي: ما العمل؟ وهو حين يفعل ذلك يضع مسافة كبيرة مع الوظائف التي شغلها ويشغلها داخل سلطة هذا المجتمع، ويطلق لنفسه عنان الخيال والحلم والحوار مع التاريخ، ففي أولى صفحات كتابه يقول: انه يخشى من تزايد حالة عدم الثقة في الحياة السياسية، فملايين الناخبين يعبرون عن انسحابهم من الحياة السياسية بالامتناع عن المشاركة في التصويت، أو التصويت لصالح مرشحي الحركات الاحتجاجية، ويتساءل كيف لا يستاء المرء عندما يجد الدولة تترك أصحاب الشركات يفصلون العمال، في الوقت الذي تحقق فيه شركاتهم أرباحا جوهرية، فأغلب الناس لديها الشعور بأن السلطة رغم وعودها المتكررة تتخلى عنهم، ربما بسبب عجزها أكثر من إهمالها، فماذا تعني السلطة اذا لم يكن في مقدورها فعل شيء؟
وعندما يطالب العمال المستاءون باجراءات لحماية وظائفهم فإن الخبراء يجيبون إنها ضرورات عمليات تحرير الاقتصاد، والمنافسة الدولية، والانسدادات الظرفية (ص 19)، ويتساءل فيلبان: هل لايزال للسلطة السياسية القدرة على تغيير مسار الأشياء؟ ويرى انه للمرة الأولى في تاريخنا لم يعد للسلطة سلطانها القديم، لم يعد لها إلا المظهر الخارجي، وان حدودها القديمة ذابت في شمس الوقائع الجديدة، ويندهش من اولئك الذين مازال يجتذبهم الحنين الى زمن السلطة الكلية القاهرة التي تأمر فتطاع، وان الركائز التقليدية للسلطة تكشف اليوم عن عدم قدرة على الحركة في مواجهة التحديات التي تتجاوز الحدود وتهم العالم بأسره، ناهيك عن غيابها عن الأراضي الجديدة التي ترسمها الحداثة، كما هو الحال في البيوتكنولوجيا، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وحيث تحاول الدولة تبرير حضورها في ساحات تتقلص بل وتهرب من تحت اقدامها، ولا تعرف الدولة كيف تكون مرنة حتى تتقدم في مواجهة الخريطة المتحركة للقوة الجديدة (ص 78).
ويعود فيلبان للتفكير من جديد في طبيعة السلطة اليوم وحدودها، فهذه السلطة غير القادرة على الحركة والمنقسمة على نفسها والتي تنسحب الاراضي من تحت أقدامها لصالح القوة الاقتصادية والمالية، تكشف ايضا عن عدم قدرتها على مواجهة البطالة بشكل فعال، أو مواجهة الفقر والجرائم والاضطرابات الاجتماعية، فالسلطة التي لاتزال حبيسة عقائدها وعاداتها ليست معدة لاصلاح ذاتها من أجل الانطلاق وتجديد شرعيتها (ص 103).
ويتساءل فيلبان أمام الأوضاع الجديدة التي تحاصر نمط السلطة القديم، كيف لا تفقد السلطة عقلها وايمانها بين الحسابات القصيرة الأمد وبين متطلبات رؤية استراتيجية (ص 110).
وقبل ذلك يشير الى ان أزمة المشروعية التي تضرب السلطة تكشف عن ثلاث مفارقات رئيسية: المفارقة الأولى تكمن في وجود ديمقراطية بلا شعب، إذ كيف يمكن تأمين تمثيل سياسي للافراد الذين يزداد تنوعهم أكثر فأكثر بينما لا يوجد أي مثال أو نموذج يعرف كيف يجمعهم؟ فهناك عدد متعاظم من الفرنسيين يرفض الاختيار بين القوى السياسية المشاركة في لعبة الديمقراطية البرلمانية حيث يعتبرون انهم لم يعد يمكنهم التعرف على أنفسهم في هذه الأحزاب، وهو ما ظهر جليا في الاحتجاج من خلال الامتناع عن التصويت في الانتخابات (ص 53).
والمفارقة الثانية تكمن في وجود ممارسة ديمقراطية محدودة ومحددة باجراء الانتخاب، ففرنسا منذ ثورتها خنقت بصورة منظمة الديمقراطية المحلية عبر الجمعيات والاتحادات من كل نوع، سواء كانت سياسية، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، دينية (ص 55).
والمفارقة الثالثة والأخيرة تكمن في حرب المشروعيات بين الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي، فبعد فترة هدوء استمرت منذ اصلاح 1962 انفجر التعايش القائم بين مشرعية الجهازين مع فترة التعايش السياسي التي بدأت بين اليسار واليمين في عام 1986.
ونتيجة ذلك كله يرى انها المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية يخشى الفرنسيون ان تكون الأعوام القادمة بالنسبة لهم أقل سعادة وأكثر بؤسا بالنسبة لاطفالهم وان الارض تهتز تحت أقدامهم.
ما الذي حدث إذن؟ هل المواطن هو الذي تغير؟ هل جوهر الحياة الديمقراطية ذاته هو الذي تحول؟ وبما ان الأمر لم يعد كما كان في الماضي، عندما كان الانسان يبحث عن اجابات لتساؤلاته الدينية والقومية، من خلال الايديولوجيا، فما العمل إذن؟
يستدعي المؤلف طاقة الأمة الوطنية ويدعو الى ثورة عقلية وأخلاقية، ويطالب بألا يصل الى السلطة سوى الرجال المتخلصين من أنانيتهم ومصالحهم الشخصية والمهنية، رجال تسكنهم اشراقة داخلية تقود البلد نحو ثورة انسانية جديدة، ويقدم كتابه هذا كنداء مباشر وأخوي لتأكيد مبادئ الوفاء والإرادة والخيال الفرنسي، كما يدعو المؤلف في معرض حديثه عن طرق الخروج من الأزمة، الى ضرورة إعادة امتلاك الذاكرة والعودة الي المنابع الأولى.
ويمنح المؤلف رجال الثقافة في الماضي والحاضر كذلك دوراً كبيراً في رفع آمال المجتمع وتعميق وعيه بالتحديات الكبرى المتعلقة بالحريات وانعدام العدالة والمعاناة، فهم يمهدون الطريق ويضعون العلامات الهادية، ويرسخون المرجعيات التي تجعل الانسان شامخاً في مواجهة متاعب وأزمات العالم (ص 158).
ويعود للسياسي ـ كما يرى المؤلف ـ أكثر من أي وقت مضى مهمة إعادة نسج الخيوط مع الذاكرة وتنشيط الخيال، وابتكار قواعد جديدة، وفتح آفاق جديدة مع المحافظة على تأكيد الثقة وترسيخ الوحدة الوطنية في عالم تهيمن فيه المنافسة ومبدأ «كل من أجل ذاته»، وحيث يتجه الأفراد أكثر فأكثر نحو العزلة والانغلاق على قلقهم الخاص (ص 168).وسيكون المستقبل، لدى مؤلفنا، للوفاء أولا واستعادة امتلاك أفضل ما في الإرث الفرنسي، وهذا العمل سيقود الى ماهو جوهري، ويسمح باستعادة اشراقة وعينا الجماعي.
وعلينا نحن اذن ـ كما يقول المؤلف ـ ان نعثر على الصيغة التي تسمح لنا بالتقدم دون التنكر (لميراثنا) والوفاء له، ومن أجل ذلك علينا أن نعيد اكتشاف مغزى وقدر السياسة، وأول مطلب (في هذا الطريق) هو الارادة التي ترفض حالة اللاحركة والتي تطرح اليأس بين الفرنسيين وتبعدهم عن الشأن السياسي... السياسة ليست لعبة توازنات تنتهي لصالح الاتجاه المحافظ، السياسة لا توجد إلا فيما هو محدد، في طاقة العمل، وضرورة تحقيق نتائج (ص 206).
والمطلب الثاني في طريق حل الأزمة هو مطلب الحقيقة من أجل القضاء على حالة كوميديا المظاهر كشكل إجباري للسياسة كما فرضه بخبث الذين يسيطرون على مقاليد الحكم (حاشية السلطان)... فثقافتنا وتاريخنا جعلا حساسيتنا نحو المساواة أكثر من الحرية، وسيكون من عديم الجدوى إذن الادعاء بفرض مسيرة إجبارية على فرنسا نحو الليبرالية الاقتصادية... الدولة ينبغي ان تحتفظ إذن بدور المحرك في مجتمعنا، بشرط أن تبني أنماطاً جديدة من المشاركة الديمقراطية لعلاج عدم كفاية التمثيل (السياسي) سواء على الصعيد المحلي أو الوطني (ص 210).
والمطلب الثالث والأخير الذي يفرض نفسه، في الصيغة التي يقدمها المؤلف لحل الأزمة، هو مطلب تحقيق النتائج الملموسة، وألا تخاطب السياسة المواطنين كما كان الأمر في السابق (ص 212).
وستفضي هذه الصيغة، التي طرحها المؤلف، الى بناء نموذج جديد تتوازن فيه حقوق المواطن مع حقوق الدولة، والى ثورة عقلية تقاطع مع التصور الدائري للتاريخ منذ العصور الوسطى، لكنها ثورة تريد الاصلاح دون تدمير.
وينتهي كتاب «صرخة التاريخ» في صفحاته الأخيرة بالاستشهاد بالأديب الفرنسي اندريه مالرو، حين سئل في أواخر حياته عما يميز الحضارة اليوم فكان جوابه «بالتأكيد غياب القرار» ويعلق فيلبان: لقد أتت ساعة الحسم وزمن العمل بالنسبة لبلدنا (ص 342).
كثيرة هي القضايا التي يطرحها كتاب دومنيك دوفيلبان، وحاولنا قدر الامكان أن نقدم أهم هذه القضايا، وبلغة صاحبها، ليس فقط لان الأسلوب وصنعة الكلام من أفضل ما يميز مؤلفنا، لكن أيضا لان أفكاره تتقاطع وتتشابه كثيرا مع ما يدور في واقعنا العربي المعاصر، وبحيث قد يدفع هذا التقارب في الأفكار الى الاشتباه في أن مقدم وناقد الكتاب يعرض أفكاره وليس أفكار المؤلف.
ما يروق لنا في هذا الكتاب هو دعوته لاحياء الطاقة الوطنية كعامل فعال للتغيير، وكذلك العودة الى التاريخ والأصول والينابيع الأولى لحضارة المجتمع، إذ كيف يعيش مجتمع وهو معزول عن حضارته وماضيه، وكيف يتقدم في الحياة من فقد ذاكرته، وربما لو قلنا هذا الكلام في عالمنا العربي لهبت العواصف والاتهامات بالأصولية والإرهاب... الى آخر مفردات هذا القاموس.
ما قد يمكن أن نختلف فيه مع هذا الكتاب، هو تلك المساحة أو المسافة التي يضعها المؤلف مع الوظائف التي شغلها ويشغلها الآن، وهو هنا يذكرنا ببعض القادة والمسؤولين العرب الذين يتحدثون أحياناً وكأنهم غير مسؤولين عما يحدث في الواقع، فأحيانا نجد بعض الزعماء العرب يتحدثون عن الحرية والديمقراطية وكأنهم شعراء، ولا تعرف من الذي نزعها منهم؟ ولا تعرف ماذا يقول السجين أو الخائف من التعبير عن رأيه في هذه المجتمعات البائسة؟ ومؤلفنا دومنيك دوفيلبان يتحدث عن أزمة المجتمع الفرنسي ويطالب بحلول وكأنه ليس من هذا النظام القائم بيمينه ويساره ومتطرفيه... وربما يكون من حقه أن يقول ما يشاء بوصفه كاتبا فقط ودون الرجوع الى مناصبه، لكن هذا الأمر يعمق الفجوة القائمة أصلا بين القول والفعل، أو بين المبادئ المعلنة وبين الممارسات المطبقة في أرض الواقع.
ما قد لا نتفق فيه أيضا، مع هذا الكتاب، مسألة توزيع الأدوار بين شخصية الشاعر وشخصية المسؤول السياسي، ففي لحظات نجد أمامنا حماسة الشاعر وغضبه، وفي لحظات أخرى نجد تحليل المسؤول السياسي المستند الى وقائع محددة، ولا نعرف في الحقيقة متى يصعد الشاعر ومتى يصعد المسؤول السياسي، والمؤلف وحده هو الذي يمتلك أزمنة الصعود والهبوط، ومبرراتها عندما يلائمه الأمر، فعندما يحتاج الحدث تحليلا عمليا ملموسا واجراءات محددة، ليس في مقدوره تقديمها، هنا يتحدث المؤلف لغة الشعر الضاربة في الخيال والمجاز... لذلك ونحن نقرأ هذا الكتاب نشعر وكأننا نقرأ نصا أدبيا، في المقام الأول، والكتاب، بالفعل ليس ببعيد عن ذلك، ففي لحظة يصعد على خشبة المسرح / الكتاب، المؤلف بثياب الشاعر ويجمع في حديثه وقائع عن أزمات صغيرة، أو بين أحداث سياسية وسمات تاريخية، ثم يضفي عليها مسحة درامية كبيرة، ويستدعي رموز التاريخ وأبطاله، ثم في لحظة ثانية يخرج المؤلف خلف الستار ليعود مرتديا ثياب المسؤول السياسي المحنك الذي يعرف جيدا خبايا الأمور ويقدم لنا رؤية الحكيم والواقعي.
لكن ما لا نتفق فيه كذلك، مع هذا الكتاب، هو منطق التأليف ذاته، فالمؤلف يقدم لنا كتابا لا نعرف اذا كان يمكن ادراجه في إطار الدراسات السياسية أم في إطار ما هو أدبي، أو ما هو أقرب الى كتب السير والانطباعات الشخصية، والأهم من هذا هو أسلوب «التناص» في الكتاب، والطريقة التي استدعى بها المؤلف نصوص غيره من كبار الكتاب والمفكرين والفلاسفة والشعراء.
وما يلاحظ هنا هو ان نسبة هذه النصوص المقتبسة تعتبر غير عادية بالمقارنة مع حجم النص الأصلي للمؤلف، فلا تمر صفحة إلا ونعثر على اقتباسات يزرعها المؤلف بطريقة خاصة وعجيبة وكأنها كتبت، ليس في سياق آخر، وإنما خصيصاً لنص المؤلف فيلبان.
وكذلك رؤيته لأسباب التدهور الحاصل، التي تعود أحياناً الى مصادرها الواقعية الملموسة على الصعيد الداخلي والخارجي، وأحياناً أخرى تعود لأسباب ثقافية وأخلاقية، وعندما يبحث في أزمة سلطة الدولة يرجعها تارة للعولمة وآثارها وتداعياتها، حيث لم تعد سلطة الدولة تملك النافذة الوحيدة، كما كان الأمر في الماضي التي تطل منها على الوقائع والأحداث والعلاقات الدولية، وتارة أخرى يرجع أزمة سلطة الدولة الى تاريخ فرنسا الخاص، والى تطور مجتمع بلاط السلطة، وتأثيره السلبي على حركة نمو المجتمع وحيويته، وهو يطالب المثقف بأن يضع العمل موضع الصدارة، ولا يقتصر فقط على الوعي المجرد، أو الوعي في لعبة المرآة، وانما عليه ان يغمس يديه في الواقع وأن يواجه تحدي الدخول الى واقع العمل السياسي بعيداً عن التنظير الافتراضي لعوالم وهمية.
* صرخة التاريخ
* المؤلف : دومنيك دوفيلبان