-
خصوصيات عراقية
خصوصيات عراقية
نــــــــــزار حيدر
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
مرسلة للنشر من الكاتب عبر الايميل الشخصي
--------------------------------------------------
جاء موضوع السجال الدائر حاليا في العراق ، حول الدعوة لإجراء الانتخابات، لتشكيل المجلس التأسيسي المرتقب ، مناسبة، ليثير الكثير من المخاوف ، بشأن إحتمالات تكرار تجربة الحكم الديني على الطريقة الإيرانية ، خاصة ، وأن من أبرز الذين يتبنون نظرية الانتخابات ويصرون عليها،هو المرجع الديني الأعلى المقيم في مدينة النجف الاشرف، آية الله العظمى السيد علي السيستاني ، من جانب ، وكون الأكثرية في العراق ، وهم الشيعة ، أعلى الآخرين صوتا في تبني الدعوة .
إن الكثير ممن يرفض فكرة الانتخابات المبكرة ، سواء من الساسة العراقيين أو من قادة التحالف الاميركي ، لا يقصدون برفضهم ، أصل الفكرة ،التي لا يختلف عليها إثنان، على إعتبارها من أبرز مصاديق أية ديمقراطية في العالم ، كما أنهم لا يرفضونها لاستحالة تنفيذها ، وإنما يعنون برفضهم ، من يقف وراءها ويتبناها ، لدرجة ، أني سمعت بعض من تحدثت إليه منهم ، يقول ، إن القبول بالفكرة ، يؤسس لسابقة خطيرة في العراق الجديد، ولمنهج خاطئ لا يجوز التورط فيه،لان أي تنازل لصالح الفكرة ،هو تنازل للسيستاني ـ النوعي ـ، ما يعني منحه حق الوصاية بامتياز على الحياة العامة ، والذي يعني ، فيما يعني ، تمكين علماء الدين من أن يلعبوا الدور الأول والأساس في الحياة السياسية العراقية الجديدة .
ويضيف بعضهم ؛ لو جاءت الفكرة من غير علماء الدين ، لأمكن دراستها وربما الأخذ بها وتنفيذها ، أما وقد نطقت بها المرجعية الدينية ، فمن غير الممكن أبدا ، حتى مجرد التفكير بها ومناقشتها ، فضلا عن الأخذ بها والتنازل عن بقية الطروحات ، لأنها ستمنح المؤسسة الدينية ، وصاية وقيمومية وحق النقض ـ الفيتو ـ على كل المجريات السياسية في العراق الجديد ، ما يعني تعبيد الطريق لتكرار التجربة الإيرانية في الحكم الديني من جديد، وهل يعقل ذلك ؟ يتساءلون بعصبية .
فما مدى صحة هذا الكلام ؟ ، وما هو مدى صحة مثل هذه المخاوف ، التي أثارتها دعوة السيستاني للانتخابات ؟ .
شخصيا ، لا أخفي تفهمي لبعض هذه المخاوف ، وتعاطفي معها ، ربما لحد التبني ، لأننا ، وبصراحة ، لا نريد أن نرهن العراق الجديد وشعبه بيد رجل واحد ، مهما كان موقعه الاجتماعي ، لان ذلك يتناقض كليا مع مبادئ الديمقراطية ، كما يتعارض مع نظرية الشورى التي يتبناها الإسلاميون المتنورون في العراق ، فهو نوع من أنواع الاستبداد السياسي ، الذي يلغي الرأي الآخر وصوت المواطن ، بحجة وبأخرى ، لما للفتوى الدينية من تأثير ساحر على الناس ، يصل في بعض الأحيان إلى حد الإقفال كليا على العقل ، ومنعه من مجرد التفكير بحرية ، كما يلغي الإرادة .
ولكنني ، في نفس الوقت ، أرى أن هنالك تهويلا وتضخيما كبيرا في أغلب هذه المخاوف ، خاصة ، عندما يقارن موقف السيستاني مع سلطة علماء الدين في التجربة الإيرانية ، والتي أجزم أن لا أحد يحب أن تتكرر ، بأية صورة من الصور، في العراق ، كونها تجربة لا يحسد عليها أصحابها ، بعد أن فشلت في الصمود أمام تحديات الواقع الاجتماعي الإيراني ، الذي تصوره المراقبون وقتها ، بأنه الأرضية المناسبة والخصبة لنموها واستمرارها ، بسبب عدم قدرتها على تطوير نفسها ذاتيا لتنسجم وتطورات الحياة ومتطلبات الزمن الجديد .
وما أخشاه هنا ، هو التوظيف السيئ للتهويل والتضخيم المقصود لهذه التخوفات ، من أجل إجهاض الجهود الرامية للانتقال إلى الديمقراطية في العراق ، من خلال وضع العصي في عجلة عملية التحول الديمقراطي ،التي تسير بشكل متنامي ، وإن كان بطيئا ، والحيلولة دون تمتع الأغلبية بحقوقها السياسية ، من خلال تخويف الآخرين منها .
إن التهويل من مخاوف تكرار التجربة الإيرانية في العراق ، سببه الجهل بالفروقات الجوهرية ، الكثيرة والكبيرة ، بين البلدين ، بالإضافة إلى تجاهل الفارق الجوهري بين السيستاني، ـ صاحب فكرة الانتخابات ـ والخميني، ـ قائد ومؤسس التجربة الإيرانية الفريدة ـ ، فلا العراق ، إيران ثانية ، ولا السيستاني ، خميني آخر ، وذلك للفروقات التالية ؛ ـ
أولا ـ ليس في العراق أغلبية مطلقة ، لأية شريحة من شرائح المجتمع ، كما هو الحال بالنسبة إلى المجتمع الإيراني ، الذي يشكل فيه الشيعة، النسبة المطلقة تقريبا ـ أكثر من 96 في المئة ، حسب الإحصاءات الرسمية القديمة والحديثة ـ ، ولذلك لا يمكن لأية شريحة من شرائح المجتمع العراقي ، المتعدد الشرائح دينيا ومذهبيا وقوميا ، أن تستفرد بطروحاتها ومشاريعها وأجندتها السياسية للعراق الجديد ، ما لم تتوافق عليها مع بقية الشرائح ، لأن العراق وتركيبته الاجتماعية المتنوعة والمتعددة ، لا تسمح له بذلك ، ما يعني أن كل الشرائح يلزمها أن تعتمد مبدأ التنوع والشراكة ، لبناء العراق الجديد ، المستقر والمسالم .
ثانيا ـ حتى الشيعة في العراق ، الذين يمثلون الأغلبية العددية ، حسب مختلف الإحصاءات ، لا يتبنون نهجا سياسيا واحدا ، أو حتى منهجا مرجعيا واحدا ، ولذلك لا يمكن حسابهم جميعا ضمن تيار واحد ، عند حساب تأثير التيارات السياسية في الساحة ، وأن من الخطأ حسابهم جميعا ككتلة واحدة وصوت واحد ، مع تعدد الآراء والاجتهادات والاتجاهات ، على عكس الحالة في إيران ،إبان الثورة على الأقل ، عندما اصطف الشعب بكامله خلف الخميني ، لدرجة، أن الشيوعيين الإيرانيين تبنوا كذلك شعارات الخميني في مواجهته لنظام الشاه ، الأمر الذي دفع بالناس إلى تسميتهم تندرا بــ ، ـ الشيوعيين السائرين على خط الإمام ـ .
ثالثا ـ تعرف المرجعية الدينية ، كما تعرف غيرها من القوى الشيعية الأخرى المؤثرة في الساحة ، أن في العراق قوى وتيارات قومية وليبرالية عديدة لا يمكن لأحد تجاوزها أو تجاهل تأثيرها في الساحة السياسية ، فضلا عن فرض أجندات سياسية خاصة ومحدودة ، بالرغم من أن موضوع الانتخابات ليست مطلبا شيعيا أو حتى إسلاميا فقط ، بل إنه مطلب وطني عام تبنته ودافعت عنه مختلف شرائح المجتمع العراقي ، بغض النظرعن انتماءاتها الدينية أو المذهبية أو القومية،أو حتى اتجاهاتها الفكرية والسياسية .
قد تتفاوت هذه التيارات، في تأثيرها وفاعليتها في الشارع العراقي ، إلا أنها ، مع ذلك، تبقى ذات وجود وتأثير ، حسب هوية التيار، ومناطق وجوده الجغرافي، ونوعية برنامجه السياسي ، وإن كان التيار الديني، وعلى رأسه المؤسسة المرجعية الدينية، هو الأقوى ، ولكنه ليس الوحيد أبدا .
رابعا ـ إن تعاطي المرجعية الدينية في العراق ، بالشأن العام ، وإبدائها لرأيها في القضايا السياسية،لا يعني بالضرورة ، أبدا ، الدعوة إلى إقامة نظام ديني على طراز التجربة الإيرانية ، فهناك فرق كبير وشاسع بين الدعوة إلى احترام الدين ، وآراء علمائه وفقهائه، في مختلف القضايا العامة ، وبين الدعوة إلى تبني نظرية إقامة نظام ديني ، الذي يقوم على أساس واضح من الأجندة السياسية ، لا أعتقد أنه يخفى على المعنيين والمتابعين ، فضلا عن القادة والسياسيين .
حتى أكثر التيارات المرجعية تطرفا في العراق ، نفت أن تكون قد دعت إلى إقامة نظام ديني ، لا على أساس التجربة الإيرانية، ولا على أساس غيرها من التجارب ، فضلا عن السيستاني ، الذي عارض تدخل ـ رجال الدين ـ بالأمور التنفيذية بشكل
مباشر ، والاكتفاء بدور التربية والتوجيه والنقد والمراقبة .
لذلك ، فإن تعاطي العلماء والفقهاء والمراجع بالشأن السياسي العام ، هو من باب ممارسة حقهم الطبيعي ، كمواطنين ، في المشاركة السياسية ، والتي يكفلها أي نظام ديمقراطي قيد الإنجاز في العراق ، ليس أكثر .
خامسا ـ إذا كان الإيرانيون قد التفوا حول الخميني بصفته زعيما سياسيا ، وقائدا لثورة شعبية ، ضمن سياق تاريخي طويل ، فأطاعوه في كل طروحاته السياسية التي كان يتقدم بها إلى المجتمع الإيراني بكل فئاته ، فإن العراقيين لم يلتفوا حول السيستاني ، إلا بصفته مرجعا دينيا ، يشخص أفضل الطرق الممكنة لصيانة حقوقهم ، من الانتهاك أو التجاوز، فهم لم يتبنوا مشروعه حول الانتخابات مثلا ، بصفته زعيما سياسيا ، أو قائدا لثورة شعبية ، أو ما أشبه ، بقدر ما يعتبره العراقيون ، لسان حالهم في المطالبة بحقوقهم السياسية ، في إطار دعوة الاحتلال لإقامة الديمقراطية في العراق الجديد .
إلى جانب ذلك ، فإن المرجعية الدينية في العراق، لم تتبن في طروحاتها الفقهية، مطلقا ، نظرية ولاية الفقيه، التي أقام الخميني على أساسها نظريته السياسية، التي توجها بتأسيس النظام الديني القائم حاليا في إيران .
بل إن المدرسة المرجعية، التي ينتمي إليها السيستاني، وبقية المراجع الدينية الحالية في العراق ، عارضت الخميني في مشروعه السياسي ، ورفضت تفسيره لنظرية ولاية الفقيه المطلقة ، ولذلك فهي لم تذهب إلى ما ذهب إليه الخميني في سعيه الحثيث لتأسيس الحكومة الدينية ، منذ إنطلاقته قبل نصف قرن تقريبا ، وعلى هذا الأساس ، إعتبرت مدرسة السيستاني المرجعية ، مدرسة محافظة بكل معنى الكلمة .
سادسا ـ وإذا كان الخميني قد قاد ثورة شعبية شاملة ضد نظام الشاه السابق ، ما منحه الحق المطلق في التصرف بشؤون البلاد، وبلا منازع ، ـ حاله حال كل قادة الثورات في العالم ـ من خلال ما كان يرسمه للآخرين من خطوط حمراء في العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية، التي إعتبرها الخميني الشيطان الأكبر ، فإن الأمر يختلف كليا بالنسبة إلى العراق.
فلا أميركا بمثابة الشيطان الأكبر من وجهة نظر العراقيين ، وهي التي ساعدتهم على التخلص من نظام المقابر الجماعية ، الشمولي الديكتاتوري البائد ، ولا السيستاني أو غيره ، قاد ثورة شعبية لوحدة أسقطت الحكم البائد ، ليتصرف لوحده في رسم الخطوط الحمراء للآخرين، وبالشكل الذي يراه مناسبا ، كما أن العراق لم يشهد، بالأساس، ثورة شعبية أطاحت بالحكم ، ليتصرف قادتها كيف يشاؤون ، ولكل ذلك ، فإن إستحقاقات الحالة العراقية، تختلف كلية عن إستحقاقات الحالة الإيرانية آنئذ ، فليس في العراق طرف واحد، يرسم حدود الخطوط الحمراء في الخارطة السياسية والاجتماعية الجديدة ، كما أنه ليس في العراق مؤسسة واحدة فقط ، يحق لها أن تتصرف كيف تشاء ومن دون منازع ، أبدا .
قد يختلف الدور والتأثير ، إلا أنه لن ينفرد أبدا .
وإذا كان الخميني هو اللاعب الأول والأخير في الساحة الإيرانية ، إبان التغيير الذي شهدته إيران في العام 1979 ، وهو الذي كان يحدد لوحده الخطوط الحمراء للآخرين الذين لم يكن من حقهم أن يتجاهلوها ، فضلا عن تجاوزها، وإلا واجهوا السقوط ، وبشأن كل القضايا السياسية ، فإن السيستاني ، أو أية قوة دينية أو سياسية أو إجتماعية أخرى في العراق ، ليس هو اللاعب الأول والأخير، وأن الجميع يدركون، بمن فيهم المرجعية الدينية ، أن عليهم أن يحترموا أصول اللعبة ، فلا يتجاوزوا الخطوط الحمراء،التي إرتسمت في خارطة العراق الجديد ، بالتوافق فيما بين الجميع ، من جانب، وبينهم وبين الولايات المتحدة الاميركية، وحليفاتها ، من جانب آخر ، ولقد رأينا ماذا حل بمن حاول تجاهل الإشارات الضوئية الحمراء ، المنصوبة على طول الطريق ، عندما صعد، أكثر من اللازم، سقف مطاليبه السياسية ، في مسعى منه لاستغلال الظرف الطارئ وإبتزاز الآخرين .
سابعا ـ وإذا كان الخميني قد حرم على أتباعه والملتزمين بنهجه السياسي ، التعامل مع الولايات المتحدة الاميركية ، كونها العدو اللدود للشعب الإيراني ، وأن العلاقة معها تشبه إلى حد بعيد علاقة الذئب بالحمل الوديع ـ على حد وصفه ـ ، فإن العمامة الشيعية العراقية دخلت البيت الأبيض من دون إحراج ، كما أنها جابت أروقة المؤسسة السياسية الاميركية منذ مطلع العقد الأخير من القرن الماضي ولحد الآن ، ما يعني إنفتاحها على العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية ، من جانب ، وعدم تأثرها بالاستراتيجية السياسية للنظام الديني في إيران ، من جانب آخر .
أضف إلى ذلك ، فإن للعلاقة بين العمامة الشيعية العراقية، والولايات المتحدة الاميركية، تاريخ إيجابي طويل ، يعود إلى أيام الاحتلال البريطاني للعراق مطلع القرن الماضي ، عندما تبادلت المرجعيات الدينية آنئذ ، وعلى رأسها قائد ثورة العشرين الإسلامية التحررية ، المجدد الشيخ محمد تقي الشيرازي ، الرسائل السياسية مع زعماء البيت الأبيض ، وعلى رأسهم الرئيس الاميركي آنئذ ، ويلسون ، والتي دعتهم فيها إلى التدخل لصالح إنتزاع حقوق العراقيين من المحتل ، من خلال دعوتهم البيت الأبيض لممارسة الضغط على بريطانيا العظمى آنذاك للوفاء بتعهدها الذي قطعته على نفسها في منح العراقيين الاستقلال الكامل ، مرورا باللقاء التاريخي المشهور الذي جمع بين السفير الاميركي في بغداد ، نهاية الخمسينيات من القرن الماضي ، والمرجع الديني الأعلى آنذاك السيد محسن الحكيم ، والذي إستقبله في بيته في مدينة النجف الاشرف .
إن كل ذلك وغيره الكثير من الشواهد ، يشير إلى أن المرجعية الدينية في العراق تختلف جذريا في إستراتيجيتها السياسية ، بشأن العلاقة مع دول المجتمع الدولي ، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الاميركية ، عن تلك التي تبناها الخميني ، والذي كان ، منطلقها ، ولا يزال ، في رسم هذه الاستراتيجية ، هو الانفتاح في العلاقة ، بما يضمن إنتزاع حقوق العراقيين ، من المحتل مطلع القرن الماضي ، وللمساعدة في التخلص من النظام الشمولي البائد مطلع هذا القرن ، وللمساعدة في بناء النظام الديمقراطي في العراق الجديد ، حاليا .
كما تؤكد كل هذه الوقائع ، على أن المرجعية الدينية في العراق ، تفكر وتخطط بطريقة مستقلة ، لا تتأثر بإيحاءات خارجية أبدا ، وهي التي ظلت المرجعية العليا في كل الظروف ، ومنذ أكثر من ألف عام ، حتى في العصر الذهبي الذي مرت فيه الجارة الشرقية إيران بقيادة الخميني ، طوال الفترة الزمنية الممتدة من ـ 1979 لغاية 1989 ـ .
تأسيسا على كل ذلك ، لا أرى أية أوجه شبه في المقارنة بين العراق وإيران من
جانب ، والسيستاني والخميني من جانب آخر ، والتي يسوقها المتخوفون من دور المرجعية الدينية في العراق الجديد ، ربما لحاجة في نفس يعقوب يريدون قضاها ، لا أدري .
إن رؤية الصورة كما هي ، وقراءة الواقع كما هو ، من دون تهويل أو تضخيم ، يقلل من الأزمة ، ويقدم خدمة تاريخية كبرى ، للعراق والعراقيين