فيلم الموسم ! بقلم: فهمي هويدي
فيلم الموسم !
بقلم: فهمي هويدي
"النكتة" أخذت على محمل الجد، وتحولت الى فيلم مثير عنوانه "الحرب النووية المقدسة"، وطبقا للسيناريو المعد فان الفيلم يبدأ بوصول المفتشين الدوليين الذين أرسلوا لتحري شأن الأسلحة الشيطانية التي يخفيها النظام في سراديبه، بزعم الاعداد ليوم ينقض فيه على الولايات المتحدة. ولأن السيناريو معروف سلفا، فالمفترض ان يبقى المفتشون هناك بعض الوقت لمشاغلة العراقيين ودغدغة اعصابهم، الى ان يستكمل الأمريكيون اعدادهم لإجهاض الضربة العراقية واستباقها، بحيث يتغدون بنظام بغداد قبل ان يتعشى بهم. أما ما الذي سيحدث بعد ذلك فالله أعلم به، لا الأمريكيون ولا العراقيون، والمرجح أنه سيكون موضوعا لفيلم آخر!
(1) احقاقا للحق فان "النكتة" أدخل عليها بعض التعديلات الجوهرية في مقاصدها فضلا عن وقائعها. ذلك ان اطلقت على سبيل المزاح والتندر ووصلتنا من باب "الكوميديا". لكن واضعي السيناريو وظفوها في اتجاه مأساوي معاكس تماما، "تراجيدي" بامتياز. وقد وجدت ان أفضل وسيلة لتبيان الفرق بينها وبين الفيلم ان أروي "النكتة" في طبعتها الشعبية الاصلية. يقول الراوي: ان بعضا من اليمنيين اجتمعوا ذات يوم، وتطرق حديثهم الى الأوضاع المتردية في البلاد، وكيف ان اغلب الناس اصبحوا عاجزين عن توفير قوت يومهم، كما ان الخدمات تدهورت والمرافق تعطلت، حتى أصبح أفق المستقبل مسدودا من الجهات الأربع. وبينما هم كذلك قفز واحد من الجالسين قائلا: وجدتها، وحين سئل عما تفتقت عنه قريحته قال: الحل الوحيد ان نعلن الحرب على أمريكا، فوجم بعض الجالسين وقال آخرون: ان "النكتة بايخه". غير انه لم يأبه بهم وواصل كلامه قائلا بصوت غلب عليه الجد: اسمعوني حتى النهاية ارجوكم. أمريكا اذا ادركت اننا جادون في اعلان الحرب عليها، فانها ستسارع الى احتلال بلادنا وتعيين حاكم من قبلها عليها، وفي هذه الحالة فان صاحبنا هذا سيشرب المقلب، وسيكون مضطرا الى ادارة البلد، كما ستصبح امريكا مضطرة إلى أن تقوم بنا، وبذلك تنفرج الازمة حيث ستتولى الادارة الجديدة حل مشكلات الكساد والخدمات وغير ذلك، واذ انتهى المتحدث عن عرض فكرته، فان الجميع هللوا مشيدين بألمحيته، واستلقوا على أقفيتهم من شدة الضحك: (للعلم: لا أعرف بالضبط لماذا وقع الاختيار على اليمنيين من دون غيرهم في النكتة، لكني ارجح انهم وضعوا في هذا الموقف لأنهم في مقدمة ظرفاء العرب). سواء كان الأمر مجرد توارد خواطر او كان غير ذلك، فالشاهد ان واضعي سيناريو ضرب العراق استخدموا ذريعة ان بغداد تهدد الأمن القومي الأمريكي، وقد تستخدم اسلحتها الشيطانية في ضرب مصالحها الحيوية وربما شن هجوم ضدها. كما انهم تحدثوا ايضا عن تعيين حاكم عسكري أمريكي للعراق لادارة شئونه بعد "تحريره!". والفكرتان مقتبستان من النكتة، التي ما تصور احد يوما ما انها ستحول الى حقيقة سياسية تحرك قرارات دولة عظمى، وتؤثر على مجرى الأحداث في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وخصوصا بعد "تطويرها" في السيناريو المستجد، لأن المحتل الأمريكي في "النكتة" هو الذي سيتولى الانفاق على الشعب اليمني، بينما هو في السيناريو الأخير سيأخذ من نفط العراق لصالح الشعب الأمريكي.
(2) وحدها الادارة الأمريكية التي تتحدث عن التهديد العراقي لأمن الولايات المتحدة، والرئيس بوش هو الذي اطلق عبارة "الحرب النووية المقدسة" التي اعتبرتها عنوانا للفيلم الجاري تنفيذه. أما الكتابات التي لم تصدق حكاية التهديد العراقي لأمريكا، واعتبرتها مجرد "نكتة" تنتمي الى عالم الخيال "والفنتازيا" فهي بلا حصر، في داخل الولايات المتحدة وأوروبا، ووحده الشعب الأمريكي الذي صدق الرئيس بوش وصفق له حين تحدث عن خطر التهديد العراقي. ولا غرابة في ذلك فحين تظن أغلبية الأمريكيين ان "المملكة المتحدة" موجودة في العالم العربي، كما ذكر وزير السياحة البريطاني، وحين يعجز 83% من شبابهم عن العثور على أفغانستان على خريطة العالم رغم ان آلافا من جنودهم يعسكرون ويحاربون هناك، كما ذكرت دراسة نشرتها مجلة "ناشيونال جيوجرافي"، حين يحدث ذلك فلا غرابة ان يصدق الناس ان العراق يشكل تهديدا لأمن الولايات المتحدة. أما لماذا صدق الامريكيون حكاية ان العراق "المفترس" خطر على بلادهم، فقد كان تفسيري ان السبب الرئيسي هو بساطة الناس وسذاجتهم ومحدودية معرفتهم بالعالم الخارجي، غير ان صحيفة "نيويورك تايمز" نشرت في 9/7/2002 مقالة قصيرة أثارت انتباهي، تقدم لنا تفسيرا للمسألة، اليك حكايته: ذكرت المقالة ان سكان نيويورك اصبحوا اكثر تعلقا باقتناء الحيوانات المفترسة وتربيتها كالسمك المعروف بالسم رد ديفيل (الشيطان الأحمر) او جاك ديمبس، الذي يمزق ضحاياه، وكالأفاعي التي تلتهم فريستها، وهو ما يعني ان الناس اصبحوا يفضلون تلك الحيوانات المفترسة البشعة، على الحيوانات الاخرى الوديعة والجميلة، الامر الذي استنتج منه كاتب المقالة ان النزعة العدائية اصبحت تنتشر بين سكان المدن. وبقدر ما يزداد حجم المدينة وازدحامها، بقدر ما يزداد النزوع العدائي وهو ما استثمره أصحاب محلات بيع الحيوانات، حتى اصبحت واجهاتها تعلن توافر انواع جيدة من "السمك اللئيم"! تحدثت المقالة عن تراجع تلك النزعة في المدن الصغيرة والضواحي حيث يفضل السكان اقتناء الحيوانات الوديعة على المفترسة والشرسة، في هذا الصدد لاحظ كاتبها ان ثمة اختلافا بين سكان الشقق الصغيرة في الاحياء المزدحمة، وبين من يسكنون في بنايات مستقلة. فالاولون يحتاجون الى التعبير عن المشاعر العدائية اكثر من الآخرين. كذلك تزداد تلك النزعة العدائية لدى الموظفين العاجزين الذين لا يتمكنون من مجابهة رؤسائهم الذين يمارسون الظلم او القهر بحقهم. في سياق المقالة ذكر احد المولعين بتربية الاسماك المفترسة انه يجب ان يراقب كيف تمزق السمكة القوية السمكة الضعيفة. ولاشباع تلك الرغبة فان اصحاب المحلات التي تبيع تلك الاسماك يتفننون في تدريبها بحيث تصبح اكثر شراسة ودموية، اذ بقدر ما تسيل الدماء وتنهش في لحم الاسماك الضعيفة بقدر ما يزداد الطلب عليها. في التعليق على الظاهرة تقول المقالة: انه ربما كان سكان مدينة نيويورك يعانون من التأزم والتوتر في نهاية النهار، لذلك فانهم يريدون ان يشاهدوا شيئا يتمزق ويستخلص كاتبها ذلك الاستنساج من قول احد باعة الحيوانات المفترسة: ان مدينة نيويورك اصبحت مكانا عدائيا، الكبار فيه يسحقون الصغار، وعليك ان تحارب لكي تعيش فيها، ولكي تحصل على ما تريد. ترى، هل يصلح ذلك النزوع العدائي لتفسير تأييد الجمهور الامريكي لمحاولة الرئيس بوش "افتراس" نظام بغداد، ومحاولة شارون "افتراس" السلطة والمقاومة الفلسطينيتين؟!
(3) لست أشك في أن المواطن العربي العادي يتعامل مع التهديد العراقي للولايات المتحدة باعتباره "نكتة"، وان كل ما يصدر عن الادارة الأمريكية في هذا الصدد لا يخرج عن كونه استغفالا للشعب الأمريكي وللرأي العام الغربي. وهو استغفال استخدمت في الترويج له شركات العلاقات العامة التي تولت تضليل الناس وايهامهم بأن الخطر على الابواب، وان البيت الابيض لو سكت او صبر اكثر مما سكت وصبر في السابق، فان العراق سوف يوجه اسلحته الشيطانية، الذرية والكيماوية والبيولوجية، صوب تلك الواحة الوديعة المسماة بالولايات المتحدة، التي هي قاطرة الحضارة والتسامح والديمقراطية في العالم! الولايات المتحدة تعرف بئر العراق وغطاة، كما يقال، وأمراء الحرب الأمريكيون هم أول من يدرك ان ما تسوقه شركات العلاقات العامة بشأن المارد العراقي المرعب وخطره على البشرية بأسرها تبريرا للضربة العسكرية، ليس سوى حزمة من الأكاذيب، وان حكاية المفتشين، الدوليين ليست سوى غطاء تمهيديا لتوجيه الضربة، التي لواشنطون وتل ابيب فيها مآرب أخرى، فالاولى تتوق إلى نفط العراق، وتريد ان توجه رسائل تحذيرية عدة الى ايران وغيرها من الدول الآسيوية. والثانية تتوف إلى تدمير مصادر العافية ومظانها في العالم العربي، وتتطلع إلى أن تكون لها حصة في نفط العراق. الولايات المتحدة وهي تستثير المخاوف من اسلحة الدمار الشامل العراقية وتسوق للخطر الذي تمثله ، تراهن على ضعف الذاكرة العامة، متجاهلة ومتكتمة حقيقة ان واشنطون ظلت طيلة الثمانينيات تحتفظ بعلاقات ايجابية مع بغداد. وهي تعلم جيدا ان النظام العراقي يستخدم الغاز السام في حربه ضد ايران، وفي قمعه الأكراد الذين ابيد منهم خمسة آلاف شخص بذلك الغاز في "حلبجة". وهو السلاح الكيماوي الذي تريد واشنطون الآن اسقاط نظام بغداد بسببه وذهب المفتشون الدوليون لاعدام المخزون منه والتخلص من مصادره. المفارقة المثيرة في هذا الصدد ان الرئيس رونالد ريجان كان قد اوفد مبعوثا خاصا الى بغداد في ديسمبر عام 83، والعراق يمطر الجيش الايراني بالغاز السام لكي يتولى اعادة افتتاح السفارة الأمريكية في بغداد، من اجل تنشيط العلاقات بين البلدين. أما ذلك المبعوث فلم يكن سوى السيد دونالد رامسفيلد الذي يشغل الآن منصب وزير الدفاع، ويعد احد المحرضين الرئيسيين على الاطاحة بالنظام العراقي "الشرير" الذي كان "واسطة خير" معه قبل عشرين عاما! تكتمل حلقات الاثارة حين نعلم ان الرئيس بوش الأب قدم الى حكومة الرئيس صدام حسين مبلغ 500 مليون دولار عام 1988، دعما من واشنطون لكي يشتري بها العراق المنتجات الزراعية الأمريكية. وهذه "الهدية" سلمت الى حكومة بغداد في اعقاب ابادة آلاف الاكراد في حلبجة بالغاز السام. وهي الجريمة التي يندد بها الرئيس بوش الابن الآن وهو يبرر مهاجمة العراق، متهما صدام حسين بأنه "استخدم الغاز ضد شعبه". الأعجب مما سبق ان بوش الأب ضاعف الدعم للرئيس صدام حسين بعد نجاح عملية الابادة حتى اصبح بليون دولار. ليس ذلك فحسب، وانما امد نظامه بالبذور الجرثومية المستخدمة في انتاج مادة "الانثراكس" وطائرات الهليكوبتر والمواد "الثنائية الاستخدام" السيئة، التي تستخدم في صنع الاسلحة الكيماوية والبيولوجية. وهي المعلومة التي اوردها الكاتب البريطاني روبرت فيسك في مقالة نشرتها صحيفة "الاندبندنت" (في 9/10/2002)، كان عنوانها "ما الذي يريد منا رئيس الولايات المتحدة ان ننساه؟!".
(4) ليست جديدة لعبة التلويح بالخطر الذي يستنفر ضده ومن اجله الناس، للتغطية على اهداف اخرى لا علاقة لها بالخطر المفترض او الموهوم. حيث يبدو انه لا فرق في استخدام اساليب الكذب والتضليل والخداع بين دول العالم الأول او الثالث، فالتاريخ الامريكي البعيد يسجل 120 اتفاقا وقعت لمسالمة الهند الحمر ومصالحتهم، ولكنها لم تكن سوى مسلسل من الحيل انتهى بابادة اغلبيتهم الساحقة، وحصار من تبقى منهم في معسكرات ومعازل اقرب الى حظائر الحيوانات. لكننا لا نستطيع ان نغفل في التاريخ الأمريكي القريب اكذوبتين كبيرتين اخترعتهما الادارة الامريكية للتغطية على اهداف ومقاصد اخرى. الاكذوبة الاولى: كانت في شهر اغسطس من عام .1964 حين ادعى الرئيس جونسون ان مدمرة امريكية في خليج "تونكين" تعرضت لهجوم فيتنامي شمالي، الامر الذي اعتبره تهديدا خطيرا للأمن القومي للولايات المتحدة. ولمواجهة ذلك التهديد استصدر الرئيس جونسون من الكونجرس قرارا وافقت عليه الاغلبية عرف باسم الخليج المذكور. وبمقتضى القرار اعطي الرئيس صلاحية ارسال الآلاف من جنود القوات البرية الى فيتنام لصد الخطر المزعوم. وكانت تلك بداية تدفق القوات واستمرار تزايدها حتى بلغ عددها خلال بضعة اشهر اكثر من نصف مليون جندي غرقوا في مستنقع الحرب الفيتنامية على النحو الذي يعرفه الجميع. غير انه تبين فيما بعد ان قصة الاعتداء على المدمرة الامريكية في خليج تونكين لم تكن سوى اكذوبة سياسية. وهو ما دفع الكونجرس بعد اكتشافها الى اصدار قانون "سلطات الحرب" لتقييد حرية الرئيس في أي تحرك عسكري الا بعد التشاور المسبق مع الكونجرس. الاكذوبة الثانية: اخترعها الثنائي فورد ــ كيسنجر في شهر مايو من عام 1975، وعرفت باسم حادثة سفينة الشحن "مايا جويز" التي كانت الحكومة الثورية الكمبودية قد احتجزتها في مياهها الاقليمية، وقد وجدت ادارة الرئيس فورد في ذلك الاحتجاز فرصتها الذهبية لكي ترد الاعتبار للولايات المتحدة بعد مهانة هزيمتها في فيتنام التي مرغت كرامتها في الوحل. فماذا فعلت؟ ادعت الادارة الأمريكية ان أمن البلاد اصبح مهددا، واعربت عن غضبها الشديد ازاء ما اعتبرته عدوانا على المصالح الحيوية الامريكية، ولكي ترد العدوان المفترض فانها شمرت عن سواعدها واستعرضت عضلاتها وانهالت على الكمبوديين قصفا، وضربا بقسوة مبالغ فيها كثيرا، وكأنما ارادت ان تبعث الى الجميع برسالة تؤكد لهم ان القوة الامريكية مازالت تحتفظ بجبروتها (هل يذكرك ذلك بما حدث في افغانستان بعد الهجوم على مركز التجارة العالمي؟). وهي تنتقم وتثأر لكرامتها سيرت القيادة الامريكية قواتها البرية والبحرية والجوية ضد جزيرة صغيرة باسم "تانج" لا تكاد ترى على خريطة بحر سيام، وانقضت عليها حتى دمرتها. ولاحظت احدى الصحف اليابانية المفارقة فسخرت من العملية قائلة: ان امريكا كانت كمن يريد اصطياد دجاجة بمدفع! ليس ذلك فحسب وانما انتابت القوات الامريكية وهي تنتقم من الكمبوديين ما يشبه اللوثة، فقامت بانزال بعض جنودها على جزيرة غير تلك التي احتجزت عندها سفينة الشحن، واغارت على بعض القوارب المتحركة التي كانت تابعة للقوات الأمريكية (حدث ذلك ايضا في افغانستان مع قواتهم البرية). واستمرت في الضرب العنيف حتى بعد عودة السفينة الامريكية وبحارتها بطريق المصادفة الى قواعدهم سالمين! لقد كان استعراض القوة العسكرية الأمريكية واسترداد الهيبة المضيعة هما الهدف الحقيقي للعملية ولم يكن فورد ووزير خارجيته كيسنجر مشغولين كثيرا بانقاذ السفينة المحتجزة ولا طاقمها، وهو ما عبر عنه كيسنجر لاحقا في أول اجتماع لمجلس الأمن القومي لبحث الأزمة حينما قال: "ان انقاذ السفينة كان أمرا ثانويا".
(5) للسينما الأمريكية تاريخ عريق في اصطناع "العفاريت" والترويج لأنماط الكائنات الشريرة، التي كان الهندي الأحمر رمزا لها يوما، ثم ظهر بعضها الصيني الغامض، وزعيم العصابة الاسود والكائنات الفضائية التي تهبط على الأرض لتشيع فيها الخراب.. الخ. وهذا الذي فعلوه في السينما في هوليوود تلبسه اهل السياسة في واشنطون. وفيلم الحرب العالمية ضد الارهاب نموذج لما انتجه اولئك الساسة، وفيلم الحرب النووية المقدسة الذي يجرى عرضه في العراق نموذج آخر. وما خفي ربما كان اعظم. وما تنتجه هوليوود في هذا السياق خطر لا ريب لكن ما تنتجه واشنطون اخطر لأن مشاهدي افلامها اليوم قد يكونون ضحاياها غدا، او بعد غد.