خطبة العيد , سماحة السيد علي فضل الله حفظه الله . كل عام وانتم بخير
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الأولى
العيد: يومٌ للعطاء والفرح الرّوحي
العيد في غياب السيِّد
في مثل هذا اليوم، وفي يوم العيد من السنة الماضية، ومن كلّ سنة، كان السيّد بيننا بلسانه المحبّ، وقلبه الحاني، يسبقنا إلى تحيَّة العيد: «تقبَّل اللّه أعمالكم، تقبَّل الله تعبَكم، ذهب العناء وبقي الأجر، وأعاده الله عليكم بالخير واليمن والبركة»..
أيّها الأحبَّة، في هذا اليوم، تختـلطُ علينا المشاعرُ وتتـنازعُنا.. فغياب السيّد أحزن قلوبَنا وأدمى العيون، لكنّ السيّدَ الحريصَ على طاعة الله، وقد أفنى عمره في ذلك، هو من يدعونا إلى هذا الفرح، لأنّه فرح الطاعة، فرح تحمّل المسؤوليّة، فرح الفوز برضوان الله ورحمته.
لقد علّمنا السيّد أن نتعامل مع مناسباتنا بعامّة، وأعيادنا بخاصّة، تعاملاً مسؤولاً، فنقف عندها كمحطات، نتزوّد منها ونُعْطيها حقَّها، مدركين الحكمة من ورائها، كي لا تمرّ علينا مرور الكرام.
وداع شهر رمضان
ها هي، أيّها الأحبّة، أيّام شهر رمضان قد انقضت، ولياليه قد تصرّمت بكلّ خيراته وبركاته.
لقد غادرنا شهر رمضان بعد أن أقام فينا، وكما أشار الإمام زين العابدين(ع)، مقام حمد، وصحبنا صحبة مبرور، فنحن مودّعوه وداع من عزَّ فراقه علينا، وغمّنا وأوحشنا انصرافه...، ونحن قائلون: السّلام عليك، ما كان أمحاكَ للذّنوب! السّلام عليك ما كان أطولك على المجرمين وأهينك في صدور المؤمنين! السّلام عليك يا شهر الله الأكبر، ويا عيد أوليائه.
أيُّها الأحبَّة: لقد انتهى شهر رمضان وجاء العيد.. ويبقى السّؤال: هل هي مجرّد رزنامةٍ نقلّب أوراقها، لننتهي من شهرٍ مضى ونستقبل شهراً غيره.. أم يبقى فينا شيءٌ أو أشياء منه زرعناها في قلوبنا وعقولنا ووجداننا، لتنمو فينا، وتتفاعل في ما يأتي من الأيّام والشّهور؟!
لقد تحمَّلتم أيّها الأحبَّة مشقَّة الصّيام رغم الحرّ، وطول اليوم، وجهد العمل، وضربتم المثل في الصَّبر على طاعة اللّه بكلِّ فرح..
لقد ملأتم الشّهر بالعبادة والدّعاء، وشاركتم الرّوح والملائكة في إحياء ليالي القدر، ولم تتّسع لكم الباحات والسّاحات، والأروقة والقاعات، وبقيت قلوبكم تصدح بذكر الله، لم تكلّ ولم تملّ حتّى طلوع الفجر.
والشّهر كان مميّزاً بأعمال الخير الّتي غمرت ألطافها الفقراء والمساكين والأيتام والمرضى، فلهجوا بالدّعاء لكلِّ الخيّرين.. وكانت أبواب الجنان لهم مفتوحة..
فرح الإنجاز
العيد أيّها الأحبّة هو أن نبدأ، وبعد كلّ التّعب، صفحةً جديدةً من الإنجازات مع الله الّذي أحببناه، وعاهدناه، وقرأنا كتابه، وأحسسنا بأهميّة آياته، وبأهميّة الالتزام برسالته ومبادئه، وسنتابع لتكون كلّ الأيّام أيامَ شهر رمضان.. ولن يكون حالنا في ذلك ما قاله الشّاعر:
رمضان ولّى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
أيّها الأحبّة.. العيد يُمثّل قيمةً بالنّسبة إلينا.. إنّها قيمة كبرى، فهو ليس يوماً للفرح نمارسه في بيوتنا ومجتمعنا ونلهو فيه، وإن كان الفرح هو عنوان يوم العيد، ومن حقّنا أن نفرح فيه.. العيد هو الّذي نحتفل فيه بإنجاز واجب، فشهر رمضان كان واجباً، وقد أدّيناه، ونسأل الله أن يكون قد تقبَّل أعمالنا فيه.
ونحتفل أيضاً بالعيد لأنّنا انتصرنا على الشّيطان، ولجمنا أنفسنا الأمَّارة بالسّوء.. وهو الشّهر الّذي ملكنا فيه إرادتنا، فأصبحنا قادرين على أن نقول لأنفسنا لا، حتّى ولو كان وراء ذلك الدّنيا بكلّ زخارفها ومباهجها..
لأجل هذا كلّه نحتفل بالعيد، وبه نحقّق المعنى الّذي أشار إليه أمير المؤمنين(ع): «إنّما هو عيدٌ لمن قبل اللّه صيامه وقيامه، وكلّ يومٍ لا يُعصى اللّه فيه فهو عيد»..
فالعيد، بمنطق أمير المؤمنين(ع)، لا يُحدُّ بعيدي الفطر والأضحى، بل يمتدُّ في كلِّ يوم يقف فيه الإنسان أمام نفسه ليكبح جموحها، ويتحدَّى رغبتها في الانحراف، فلا يسير إلاّ حيث يريده اللّه له أن يسير.
ولا بدَّ أيضاً من أن نتطلَّع إلى العيد أنّه يوم توزيع الجوائز من الله، وهو ما أشار إليه الإمام(ع) في خطبته عندما أقبل العيد: "إنَّ يومكم هذا هو يومٌ يثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المسيئون، وهو أشبه بيوم قيامتكم. فاذكروا بخروجكم من منازلكم إلى مصلاكم، خروجَكم من الأجداث (القبور) إلى ربّكم، واذكروا بوقوفكم في مصلاّكم، وقوفكم بين يدي ربِّكم، واذكروا برجوعكم إلى منازلكم، رجوعكم إلى منازلكم في الجنَّة... » بعد استحقاقكم لها...
ثمّ قال (ع): «إنّ أدنى ما للصّائمين والصّائمات، أن يناديهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان: أبشروا عباد اللّه، فقد غُفِر لكم ما سلف من ذنوبكم، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون».
أيّها الأحبّة، ما أجمله من شعور بأنّنا نستحقّ هذا العيد! وأيّ فرحٍ داخليّ هو هذا، إنّه الفرح الحقيقيّ الّذي يشعر به كلّ مؤمن في هذا العيد السّعيد.
واجب زكاة الفطرة
أيّها الأحبّة: ها هو العيد، وأمامنا واجب ينبغي علينا القيام به.. دفع زكاة الفطرة.. ولا يكتمل شهر رمضان إلا بدفعها.
والزّكاة هي ما فرضه اللّه، كي لا يمرّ العيد على القادرين والأغنياء دون غيرهم، كي ينعم الأيتام والفقراء وأولادهم بهذا العيد.
فلنجعل هذا اليوم يوم فرح وسرور، كما أراد اللّه لهذا اليوم، حتّى ولو كنّا في أصعب الأوقات وأدقّها.
فالعيد هو فرصة لتدفّق الأمل في قلوبٍ أحبطها اليأس، ونفوسٍ أحاط بها القنوط، والنفس الجادّة تحتاج إلى قدرٍ من الراحة، وإلى الابتهاج الّذي يروّح عنها ويريحها.
يوم المودَّة والتَّواصل
فابتهجوا بعيدكم، أيّها الأحبّة، ابدؤوا بإدخال الفرح والسّرور على أهليكم وأطفالكم، أحيطوهم بكلِّ الحبِّ والقرب، أشعروهم بالعيد وبتميّزه عن بقيّة الأيام، عيشوا معهم بهجة العيد، وبادلوهم عبارات التّهاني والمودّة والوفاء والبرّ والاعتراف بالجميل.
افتحوا أبوابكم، واستقبلوا إخوانكم وأخواتكم، أفشوا السلام وصِلوا الأرحام، تواصلوا حتّى مع أهل القبور من الأقارب والأحبّة، زيارةً وقراءةً للقرآن، ودفعاً للصّدقات عن أرواحهم، والاستغفار لهم.
وحافظوا على هذا المشهد الجميل الّذي دأب عليه الأهل والأجداد نهار العيد، حيث ترى البيوت في حركة دائمة، والأقارب يمرّ أصغرهم عند أكبرهم ليقوم بواجب العيد، والنّاس تصفو قلوبها بعضها على بعض، وكأنّ العيد أكمل بعد شهر رمضان غسل ما في القلوب .
اللّهمّ بارك لنا في يوم عيدنا وفطرنا، واجعله من خير يوم مرَّ علينا، واغفر لنا فيه ما خفِي من ذنوبنا وما أُعلِن.
وكلّ عام وأنتم بخير.
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الثانية
ازدياد الضغوط على الفلسطينيين:
يزداد الضّغط الصهيونيّ عدوانيّةً ووحشيّةً على الشّعب الفلسطيني، في الغارات المتكرّرة على قطاع غزّة المحاصَر بقرارٍ صهيونيّ ودوليّ، ونخشى أن نقول بقرارٍ عربيّ أيضاً.. حيث يُراد لهذا الشّعب أن يدخل مرحلة اليأس والإحباط، ليقول للقيادات التي تشرف على المفاوضات مع العدوّ: فليأتِ الحلّ على أيّة صورة شاء، لأنّ المهمّ أن نتخلّص من ضغط المرحلة..
ونحن ـ من خلال معرفتنا بالشّعب الفلسطينيّ وتاريخه وجهاده وتجاربه ـ نعرف أنَّ لغة اليأس والاستسلام بعيدة عن قاموسه السياسيّ والدّينيّ، ولكنّنا ندرك حجم الضّغوط الهائلة الّتي تنهال على كاهله، والّتي يُراد لها أن تحدّد وجهة الأمور في المراحل القادمة من عمر القضيّة الفلسطينيّة، وهي المراحل الأشدّ صعوبةً وخطورة..
وإنّنا إذ نؤكّد أنّ هذه المفاوضات ليست مرفوضةً من هذا الشّعب الأبيّ فحسب، بل هي مرفوضة أيضاً من تلك القيادات القريبة من السّلطة الفلسطينيّة، والّتي رفضت استئناف المفاوضات، لأنّها لا تحقّق للشّعب الفلسطينيّ أيّة مصلحةٍ، باستثناء ما تحقّقه من خدماتٍ انتخابيّة لإدارة أوباما، أو مصالح داخليّة لبعض الحكومات العربيّة.
حملات حاقدة تستهدف الأمة:
إنَّ الأمَّة أمام تحدٍّ كبير يتَّصل بمصيرها وهويَّتها، وإنَّ الإسلام كلَّه أمام منعطفٍ خطير، وخصوصاً أنَّنا نشهد حملةً إعلاميّةً وسياسيّةً وثقافيّةً تثار ضدَّه، لتضاف إلى الحملة الميدانيَّة الّتي تستهدف المسلمين والكيان الإسلاميّ كلّه.. وها نحن نشهد دعواتٍ حاقدةً لإحراق القرآن الكريم في ذكرى أحداث الحادي عشر من أيلول، الأمر الّذي يفرض على الأمّة، بمذاهبها واتجاهاتها وانتماءاتها المتعدّدة، أن تتماسك وتقف صفّاً واحداً في مواجهة كلّ هؤلاء الّذين يكيدون للإسلام والأمّة على مستوى الحاضر والمستقبل.
مشاريع الفتنة والتحريض المذهبي:
وفي موازاة ذلك، يتقدَّم مشروع الفتنة في قلب الأمّة، بعدما عمل العدوّ، ومعه الإدارة الأمريكيّة، على تعديل حركتهما، تبعاً للظّروف والمعطيات الّتي نشأت بعد فشل العدوّ في حرب تموز، وسقوط الاحتلال الأمريكيّ في الوحول الأمنيّة والسياسيّة في العراق وأفغانستان، حيث عملت الإدارة الأمريكيّة على إدارة تراجعها وتخبّطها في هذين البلدين، في سياقٍ يخدم استئناف هجومٍ آخر يتّخذ عنوان الفتنة في شكلٍ أساس، ليأتي مشروع الانسحاب الأمريكيّ من العراق في سياق التّحضير لفتنٍ داخليّة متنقّلة في أكثر من موقعٍ إسلاميّ، تبدأ من العراق ولا تنتهي في محيطه، بل تتجاوزه إلى مواقع جديدة، حيث لعبة الموت الانتحاريّ والتفجيرات بدأت تأخذ بعداً مذهبيّاً خطيراً في باكستان، وحيث أبواق الفتنة الإعلاميّة والسياسيّة الّتي تضعها أجهزة إعلاميّة متعدّدة، أخذت تبثّ سموم الفتنة، وتعمل وفق "أجندة" أمريكيّة وصهيونيّة، أو تخدم مصالحهما بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة.
وإنَّ ما يثير الهواجس أكثر، يتمثّل في الإيحاءات المبرمجة الّتي انطلقت في بعض المواقع الخليجيَّة، لتثير الحديث عن جهةٍ هنا أو هناك تعمل للإطاحة بهذا النَّظام أو ذاك، في طريقةٍ هي أقرب إلى الطّريقة الاستعراضيّة، وفي أسلوبٍ يوحي بأنّ الأمور المطلبيّة التي تتّصل بحركة المعارضة في البلدان العربيّة، سوف يُعمل على استغلالها، في نطاق خطّة مدروسة، لممارسة أكبر نوعٍ من أنواع التّحريض الذي يستثير الجانب المذهبيّ، ويؤسّس لفتنةٍ بدأت خطوطها تُرسم على أكثر من صعيد..
إنّنا نحذّر من هذه المناخات التي يُراد لها أن تتحكّم بمصير الأمّة، لتقطع الطّريق على قضاياها الكبرى، ولتّفسح في المجال لتمييع هذه القضايا، تمهيداً لبيعها في سوق النّخاسة الدّوليّ، ولتضييعها في لعبة الأمم الّتي دخلت في مرحلةٍ مفصليّة على مستوى أوضاع المنطقة.
وفي هذا المجال، على القيادات العربيّة، وخصوصاً العراقيّة، التنبّه إلى ما يتهدّد العراق من مصير أسود، إذا لم ترتفع إلى مستوى الالتزام، لا أقول الإسلاميّ أو القوميّ أو الوطنيّ، بل الالتزام ببقاء العراق كوجودٍ، لا كأشلاء فتنةٍ عمياء ستأكل أخضره ويابسه.
لبنان: حذار من اجواء الفوضى
كما نحذّر من أنّ هذه المناخات بدأت تتسرّب أجواؤها إلى لبنان، لتوحي بأنّ أجواء الفوضى المصحوبة بمشاكل ميدانيّة وتوتّرات داخليّة، يمكن أن تطلّ برأسها من جديد.. ما يحتّم علينا في هذا اليوم، أن ندعو الجميع إلى تحمّل مسؤوليّاتهم، لمنع الفتنة الّتي تتقدّم بخطواتٍ متتالية، لأنّ المسألة هي أنّ العدوّ على الأبواب، وأنّه يقف خلف الكثير من الأوضاع ليراقب سير الأمور في البلد، وليتّخذ خطواته العدوانيّة التّالية بناءً على التطوّرات الداخليّة، ولذلك لا بدّ من العمل على خطّين: قطع دابر الفتنة بالمواقف السياسيّة والميدانيّة الحاسمة، والتّحضير لمواجهة العدوّ بكلّ الوسائل الممكنة، وعلى مختلف الصّعد والمستويات..
لنقف مع المظلومين:
أيّها الأحبّة: إنّ علينا في يوم العيد أن نقف مع كلّ المظلومين والمقهورين والمستضعفين، وأن نعمل جاهدين لرفع الحيف والظّلم والفقر عن كاهلهم، لنساهم في التّخفيف من مشاكلهم ومن ضغط الحياة عليهم، وأن نتذكّر أسرى المسلمين والمستضعفين في سجون الظّالمين والمحتلّين، وخصوصاً الآلاف من الأسرى الفلسطينيّين في سجون الاحتلال الصّهيونيّ، وأن نتذكّر الظّلم اللاحق بالشّعب الأفغانيّ والعراقيّ، وما لحق ويلحق بأهلنا في باكستان وغيرها.. لنقف مع كلّ هؤلاء، ولنعمل جميعاً على حفظ وحدة الأمّة وكرامتها، وتحريرها من سجن الاحتلال، لتنطلق إلى المستقبل الواعد بخطواتٍ مدروسةٍ وهادفة.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
التاريخ:1 شوّال 1431 هـ الموافق: 09/09/2010 م