فضل الله : الاحتلال أقسى أنواع التعذيب
سئل العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، في ندوته الأسبوعية، عن أبعاد صور التعذيب الذي تمارسه القوات الأميركية في سجونها في العراق في قاموس القيم الأميركية؟
فأجاب: "لعلّ أبرز الصفات التي تتّصف بها الإدارة الأمريكية الحالية تتمثّل في هذا النوع من الاحتقار والعنجهية التي تحملها ضد الإنسان الذي تعتبره معارضاً أو معادياً لها، وخصوصاً الإنسان العربي والمسلم، إلى درجة تجد معها أن من الطبيعي أن تستبيح الحقوق المدنية لهذا الإنسان أو أن تمتهن كرامته، وأن تتصرف بكل ما عنده من ثروات وما يمتلكه من إمكانات وذلك فضلاً عما تجده من سهولة في قتله أو تشريده أو تعذيبه أو ما إلى ذلك.
وهي بذلك لا تختلف كثيراً عن الإدارات الأمريكية التي سبقتها، مع كونها أظهرت احتقاراً أكبر للقيم الإنسانية في تشريعها الدائم لقتل الفلسطينيين وإعطاء إسرائيل كل الفرص لكسر صمودهم، ناهيك عن إيحاءاتها وإمعانها في احتقار الإنسان العربي والمسلم من خلال كل ما تفعله في العراق، وكأنها تقول للحاخام الإسرائيلي الأكبر الذي اعتبر أن العرب هم حشرات وأفاعي: إننا ننظر إليهم بهذه النظرة ونتعاطى معهم وفق هذا المفهوم.
لقد أصبح التعذيب سمة من سمات السياسة الأمريكية، ولقد تفننت فيه إدارة بوش بالذات، وعلى جميع المستويات، فمن التعذيب الجسدي في السجون، كما تجلى ذلك في أفغانستان والعراق وفي غوانتاموا، إلى عمليات القتل التي ارتكبتها في الغارات الجوية التي استهدفت المدنيين والقرويين في أفغانستان وكذلك في العراق، إلى العقوبات الجماعية التي تطاول الآلاف هنا وهناك، حيث ظهرت أمريكا الإدارة وكأنها على عداوة مع القيم الإنسانية والحضارية في الوقت الذي تقدم نفسها للعالم على أنها الراعية لحقوق الإنسان والعدالة والحرية والمساواة وما إلى ذلك من عناوين.
إن الناس يتحدثون في هذه الأيام عن الصور التي تتوالى حول تعذيب الأمريكيين للسجناء العراقيين في "أبوغريب" ولكن ماذا عن الاحتلال؟.. إن الاحتلال يمثل أقسى أنواع التعذيب، وقد برزت أمريكا في العراق كقوة احتلال غاشمة وغير عاقلة تعمل على تسخير شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لإطالة أمد احتلالها وللاحتفاظ بالسيطرة على منابع النفط ومصادر الثروة في العراق، كما أظهرت بطشاً ووحشيةً لا يفوقها فيهما إلا صدام حسين وآرييل شارون. وإذا كان التعذيب في السجون الأمريكية في العراق يمثل فضيحة أخلاقية وإنسانية بكل المقاييس، فإن الفضيحة الكبرى تتمثل في الاحتلال الأمريكي نفسه للعراق بكل ممارساته الوحشية وأساليبه التعسفية وبكل هذا الاستهتار بدماء الناس وبقصف وقتل واعتقال المدنيين والعلماء في الأماكن والمدن المقدسة بدم بارد، وما يتحدث به "بوش" عن مناقبية جنوده يظهر زيفه في شكل واضح في كل عمليات القتل التي يمارسها هؤلاء في الفلوجة وفي النجف وكربلاء وبغداد وغيرها من المدن العراقية.
ولذلك، فإن أمريكا تتحمل المسؤولية كاملة عما جرى في سجن أبوغريب، فهو يتجاوز عمل الأفراد ليدخل في التعليمات أو في الجو العام الذي يعيشه ضباط وجنود الاحتلال الأمريكي، ومن خلال موافقة الاستخبارات العسكرية على ذلك، وبعلم المسؤولين الأمريكيين في وزارة الدفاع وغيرها، الأمر الذي يؤكد بأن هذه الإدارة تتحرك بذهنية سادية وتعيش في نطاق عقلية معقدة وحاقدة لا تأخذ حقوق الإنسان حتى في أدنى مستوياتها في الحسبان.
إن هذه الصورة في السجون الأمريكية وكذلك صورة الأحداث التي يحركها الاحتلال في السجن العراقي الكبير تؤكد بأن المسؤولين الأمريكيين يكذبون وينافقون عندما يتحدثون عن إعطاء السيادة للعراقيين في أواخر حزيران القادم، أو أن الحديث عن ذلك يدخل في نطاق النكتة السياسية أو الاستعراض السياسي والإعلامي الذي تمارسه هذه الإدارة التي يتحدث بعض رموزها، ومنهم الرئيس بوش بالذات في مناسبات أخرى، عن الاستمرار في احتلال العراق حتى تنتهي مهمة جيشه هناك وكأن مهمة هذا الجيش لا تنتهي إلا بتدمير العراق على رؤوس سكانه.
وقد يكون من المخجل والمعيب فعلاً أن يلاحظ الكثيرون، ومن بينهم بعض المسؤولين الأمريكيين، أن الضرر الذي أحدثته صور التعذيب الأمريكي للعراقيين في أوروبا هو أكبر مما أحدثته في العالم العربي الذي نلاحظ أن ليس ثمة ما يحرك زعماءه لإبراز موقف عملي وجدي ضد هذا الانتهاك الصارخ للقيم العربية والإسلامية والإنسانية على أساس أن معظم هؤلاء قد أدمنوا الخضوع لأمريكا وباعتبار أن "من يهن يسهل الهوان عليه"...
إن ما جرى ويجري يحمل العرب والمسلمين المسؤولية لكي يتحركوا في العالم وعلى المستويات السياسية والإعلامية كافة، وذلك لفضح الممارسات الأمريكية وللمطالبة بمحاكمة المسؤولين الأمريكيين أمام محكمة العدل الدولية، لأن من شأن ذلك أن يساهم في رفع اليد الأمريكية والإسرائيلية عنهم، وأن يظهر بعضاً من ملامح الصورة التي تحملها هذه الإدارة التي تؤكد الوقائع أنها تسيء أو على الأرجح عن عمد، إدارة الوضع في بعض السجون، في الوقت الذي تقدم نفسها للعالم على أساس أنها القيادة التي لا يمكن للعالم أن يستغني عنها".
استفتاء خاص بالشأن العراقي