لقاء صحفي مع .. أحد الناجين من مقبرة جماعية
لقاء صحفي مع .. أحد الناجين من مقبرة جماعية
كتابات - باسم السعيدي
ملاحظة : رفض السيد أبو عمار تزويدي بصورة له وباءت كل الوسائل فالفشل الذريع وبرر ذلك بأنه يخشى العواقب
س - الأخ أبو عمّار لأن القرّاء لا يعرفونكم ..الاسم الكامل والعمر والمهنة؟
- عامر سعيد جاسم العامري ، 43 سنة ،صاحب محل تجاري .
س - أين كنت بالضبط قبل أن تتعرض للتجربة المرعبة ؟
-كنت عسكري/جندي إحتياط /في ميناء الأحمدي وقبلها كنت في منطقة جبل سنام /كتيبة الهندسة الثانية،موقعها الدائم في خان بني سعد(شمال شرق بغداد)
س - كيف كانت أحوال الجيش في الكويت ؟ وهل تعرضتم فعلاً لهزيمة
نكراء ؟؟ وما السبب بتصورك ؟ وما رأيك بإدِّعاء صدام للنصر في أم معاركه ؟
- كنا في حالة يرثى لها ،لم تصل المؤن ، وقصف جوي مرعب.
نعم تعرضنا لهزيمة نكراء ،والسبب هو أننا كنا في جانب الباطل ،والسبب الثاني كنا نقارع دول(في مصاف الدول التي يطلق عليها) عظمى،وقول صدام أنه انتصر.. بماذا ؟؟ انتصر ؟بخروجنا من الكويت ؟ بهذا الكم الهائل من الخسائر ؟
س- قال أتباعه ومريدوه إنه انتصر لأن أمريكا وحلفاءها لم يتمكنوا من إزاحته عن السلطة ؟
- كانوا قادرين على إزاحته عن السلطة .. لكن لغاية في نفس يعقوب لم يفعلوا !!!.. لم يحن الوقت يومها .
س- أين بالضبط تعرضت للإعتقال ؟ وكيف ؟
ج- تعرضت للإعتقال بعد خروجنا من الكويت ووصولنا الى البصرة ،حيث تزامنت الثورة الشعبانية المباركة (يقصد الإنتفاضة) ودخول لواء 55 المكلف بقمعها في البصرة،حيث كنا نحمل سلاح وحدتنا حين ألقي القبض علينا .
س- علمت أنك كنت ترتدي بزتك العسكرية عند إعتقالك ،هل سألك أحدهم لماذا كنت ترتديها؟
ج- اثناء إلقاء القبض لم يسألني أحد ،أما بعد ذلك ؟ فنعم .
س- ممكن تتحدث لنا عن تجربة إعتقالك ؟
ج- كانت تجربة مريرة ومريعة جداً،حيث أخذوا سلاحي وسلاح زميلي في الوحدة،وربطونا معاً وأركبونا إحدى السيارات وإذا بنا نلقى في ساحة سعد حيث وجدنا (كمية كبيرة )"كذا" من الناس ،تقدَّر بثلاثة آلاف بين رجل وامرأة .
س- تقصد ان حملك السلاح وإخلاءك سلاحك من أرض المعركة هو السبب في إعتقالك ؟
ج- نعم فمن حملي السلاح ظنّوا أني مشترك في الثورة الشعبانية .
س- وهل كان الثلاثة آلاف أيضا يحملون أسلحة ؟
ج- لا .. لأنه يوجد بينهم نساء وأطفال وشيوخ ..كان اعتقالا عشوائيا .
س- من كان يشرف عليكم اثناء اعتقالكم في ساحة سعد ؟
ج- الجيش .. لواء 55، وقادة وعسكر لا أعرفهم .
س- ذكرت لي قبل اللقاء أنك رأيت علي حسن المجيد عدة مرّات ..كيف
رأيته وأين وماذا فعل ؟
ج- كنا في ساحة سعد عندما رأيته أول مرة، كنا مطوقين من أربعة أركان بالدبابات(يقصد أربعة جوانب) ، وإذا به يسحب بندقية نوع كلاشينكوف من يد الحماية التابعة له، وبدأ بإطلاق النار علينا حيث كنا (جاثمين) على الأرض ،وعندما تعبت يداه من إطلاق النار أمر إحدى الدبابات بالسير على الناس (يقصد سحق الناس).
س- هل تستطيع وصف المشهد ؟ ذكرت لى أنها سحقت أكثر من صف من البشر ..وأنه اعترض على سائق الدبابة ؟كيف ذلك ؟
ج- بحدود أربعة الى خمسة صفوف ..تقريبا في كل صف خمسون شخصاً ، وما زلت أسمع صوت الجماجم تتهشم في أذني حين أذكر الحدث .
نعم اعترض على سائق الدبابة وصرخ به مع سيل من الشتائم لأن الناس بين السرفتين (يقصد بين جنزيري الدبابة) لم يسحقوا ..فأمره بالرجوع عليهم وسحقهم .
س- كيف أُنقذتم من الموت أو الأصح كيف أنقذ من تبقى منكم حياً يومها ؟؟
ج- كانت الدبابة مستمرة في سحق البشر ،فجاءه اتصال هاتفي (عبر تليفون السيارة) فبدا عصبيا جدا ورمى جهاز الهاتف من يده بقوة ، وركب سيارته وغادر مسرعاً، فانبرى القائد الميداني (عبد الله طلب عجزان) محافظ البصرة بالصراخ على سائق الدبابة للتوقف ..اذ لم يتحمل الرجل صعوبة المنظر..لكن سائق الدبابة حين استجاب للأمر بالانسحاب سحق على بضعة أشخاص كانوا في طريقه .
س- حين غادر المجيد الموقع ماذا حصل تحديداً؟
ج- ذكرت لك ما فعله محافظ البصرة ..فبقينا في ساحة سعد بحدود يومين .
س- هل كانوا يطعمونكم أو يسقونكم ؟
ج- (منو يجيبلك أكل ؟؟) ..كنا نشرب الماء الراكد (برك) يبدو انه متبقي من المطر أو ما شابه ذلك .
س- إحك لنا عما حصل في المسقف (الجملون) ؟؟ وهل كان يزوركم علي المجيد هناك ؟؟وكل كم يوم يزوركم ؟؟
ج - بعد تجربة ساحة سعد أخذونا الى نادي النفط مقابل منطقة حمدان الصناعية حيث أودعونا في (جملون مظلم)
(مقاطعاً)… هل كانوا يطعمونكم في المسقف ؟
لا .. كان هناك حشيش خارج الجملون ..فحين يخرجوننا للتبول أو غيره كنا نأخذ معنا "خمطة" (يقصد قبضة) من الحشيش ..وكنا نتعارك عليها ..وكان يحن علينا بعض الحراس اذ يلقون إلينا بصمونة (هم نتعارك عليها) وأحيانا كان بعض الأهالي يعطون طعاما للحراس فيدخلونه إلينا (أهالي بعض المعتقلين من سكنة البصرة) .
كان علي المجيد يزورنا كل يومين أو ثلاثة أيام أغلب الأوقات كان بعد منتصف الليل ..بحدود الثانية أو الثالثة صباحا ، كان يأتي لحصد أرواح جديدة ..عن طريق قتل مباشر ،كان يصوب على الرأس حيث يستمتع
بالشظايا المتناثرة والدم من الجمجمة .
س- هل تذكر حادثة معينة لشخص ؟.. اسمه عمره ؟
ج- أذكر امرأة ناداها ..( أسمج ..ليش دتسوين ثورة على الحكم ؟) وقبل أن تجيب فتح النار على رأسها ..دماغها تناثر في أحضاننا نحن الجالسين ..وحضني حصل على الحصة الأكبر ..اذ كان بيني وبينها شخصين فقط ..
س- وهل كانت النساء معكم في الحجز ؟
ج - نعم .
س- هل صادفت أصدقاء هناك ؟؟ أو هل صادقت أشخاصاً في غيابة الجب تلك (عذراً للتشبيه) ؟
ج- كنا في وضع لا نحسد عليه ..فقط كان جليسي الجندي في وحدتي الذي أصيب بالسل ومات بعد ذلك .
س- ممكن تروي لنا إجراءات المحاكمة ؟؟ وعلى يد من تم إنقاذك ؟
ج- كان الذي يحاكمنا علي حسن المجيد (ولو ليس في كل الأحيان) ،وكان هناك عبد الله طلب عجزان محافظ البصرة ،وأشخاص أربعة لا أعرفهم لكن رتبهم عقداء وعمداء وكان أحدهم ضابط شرطة وليس عسكرياً.
يحيط بهم رجال مغطاة وجوههم بـ(كليته) .
وكانوا يخرجوننا واحداً بعد واحد ..وكنا نسمع صوت إطلاق نار ..ثم جاء دوري ..فقال لي أحد الضباط .لماذا اشتركت بالغوغاء (وطبعا لا يمكنك أن تجيب) فقال له عبد الله طلب عجزان وكان يحمل هويتي بيده / هذا ولادة المنصور ، بغداد ، أنظر إليه انه يرتدي بزته العسكرية …فقال الضابط .. دعهم يعدمونه .. فسحبوني الى الحديقة ففهمت بعد ذلك ان الإفراج يعني الإعدام ..والإعدام يعني الإفراج ..وهذا برأيي عملية ارهاب .
س- هل كنت ما تزال ترتدي بزتك العسكرية يوم محاكمتك ؟
ج- نعم ..فهي التي أنقذتني من الموت.
س- يوم خرجت أي أمر كنت تظنه حلماً عملية الإعتقال ؟أم الإفراج ؟
ج- كانت عملية الإفراج هي الحلم …غير واقعي (مستبعد حدوثه).
س- ثم الى أين أخذوك بعدها ؟ هل أفرج عنك ؟
كلا..نقلونا بسيارة لوري من نادي النفط الى آمرية (يقصد مقر قيادة) الفيلق الثالث .
وهناك أصبح الحراس يطعموننا التمر ..وتمكنت من إرسال رسالة الى عائلتي (على علبة سجائر) بيد أحد الحراس ، فجلب أخي الكبير كتاب رسمي صادر من وحدتي العسكرية تثبت أنني كنت مستمراً بالخدمة العسكرية اثناء وبعد الحرب ولحين اعتقالي .
س- ما هي الأزمة النفسية التي مررت بها بعد الإفراج ؟؟ وهل أحدث ما جرى أي تغيير في حياتك؟
ج- دعني أقول لك شيئا .. حين خرجت ذبح أهلي خروفين .. فلما حكيت لهم ما جرى أرسل أبي رحمه الله في طلب سبعة خراف فذبحوها ..قائلا بني ما جرى لك لا يتصور ..
كانت التجربة منعطفا نفسيا في حياتي اذ أصبت بحالة تشبه الذهول ..فحين يكلمني أحد من عائلتي لا أظنني معهم ..بل في واد آخر ..وكنت أستيقظ بعد منتصف الليل من نومي صارخا ..حالماً بكوابيس مليئة بتكسُّر الجماجم تحت سُرَف الدبابات ..وعظام بشرية تسحق أمام عيني ،ولحم يفرم مع تراب الأرض ..تحت وطأة الوحوش الحديدية بأوامر الوحوش البشرية ..استمر هذا الأمر لمدة ستة أشهر تقريباً..أصبت بفزع لا مثيل له .
س-كيف تقبلت واقعة سقوط النظام ؟؟ وما تسمي ما حصل هل هو
تحرير أم إحتلال ؟
ج- تلقيت ذلك بفرحة غامرة جداً وشيء لا أستطيع وصفه .
أما سؤالك هل هو تحرير أم احتلال ؟؟ فأقول لك بصراحة إنه تحرير واحتلال في آن واحد .
س- كيف تفسر احتفالات فرنسا وشيراك بالذكرى الستين لدخول قوات احتلال أجنبية على الأرض الفرنسية ؟
ج- تحضُّر ،لأنه يعد نصراً للإنسانية ..لكن الذي ينطبق عليهم لا ينطبق علينا
- مقاطعا- لماذا ؟؟
ج-النفسية الأوربية تختلف عن النفسية العراقية .
س- لا أدري كيف أصوغ سؤالي ؟ لكنني أسألك ما رأيك في الساسة
العراقيين ؟؟ وهل هناك فرق بين ساسة صدام والساسة الحاليين ؟
ج- بعد هذه التجربة لا أستطيع أن أعطي رأيي بسهولة الا بعد تطبيق الساسة لوعودهم على أرض الواقع .
أما الشق الثاني من السؤال ..فنعم هناك فرق كبير ..فساسة صدام منقادون ..أما ساسة اليوم فليست آراؤهم بيد قائد ملهم (ساخراً بالطبع) .
س - ماذا تريد من حكومتك العراقية فعلا ؟؟ وهل لديك مطالب تطلبها
من الساسة من خارج الحكومة (أي المعارضة) ؟
نريد من الحكومة الاهتمام بالطبقة المسحوقة ، وللساسة خارج الحكومة أقول – الوقت الحرج الذي يمر به البلد يحتم علينا وعليكم مساندة الحكومة في هذه المرحلة .
س- هل لديك تصنيف (كعراقي ذاق العذابات المتتالية) للعمل المسلح أي المقاومة ؟؟وما رأيك به في الأوقات التالية :-
1- قبل تسليم السلطة ؟
2- بعد تسليم السلطة؟
3- بعد إجراء الانتخابات ؟
ج- أرفض جميع أشكال المقاومة الموجودة حاليا ،ما عدا المقاومة الشريفة التي هي شر لا بد منه ، لأنك لا تستطيع أن تجلس على طاولة المفاوضات وأنت لا تملك ورقة ضغط ..فالمنطق يقول لا تفاوض من موقع ضعف .
س- كيف تصنف المقاومة الشريفة ؟
ج- المقاومة التي لا تقاتل داخل المدن وتعرض أرواح الأبرياء لخطر جسيم ، ولا تفجر البنى التحتية للبلد والتي لا تغتال الشرطة (الذين يخدموننا) والسياسيين ..هذه التي أبحث عنها .
وأقول للتصنيف حسب الوقت الذي ذكرتها في سؤالك السابق قبل تسليم السلطة أجبتك ..لكن بعد تسليم السلطة فلا مبرر مطلقا .
س- نصيحة تقدمها للساسة العراقيين ؟
ج- عدم الالتصاق بالكرسي ، فثقافة الكرسي (كذا) كانت في زمن العهد البائد حيث كان يذهب الرئيس الملهم الى قائم مقامية أية منطقة ويجد كرسي القائم مقام مكسور فيعاقبه ، أقول للساسة اذهبوا الى الشارع ..الى الفقراء واعتنوا بالشعب ، ستعرفون انه يحبكم ولا يحب كراسيكم ..وأوفوا بعهودكم
س- نصيحة تقدمها للمواطن العراقي البسيط ؟
ج- النصيحة الوحيدة هي الصبر والانتظار وعدم الدخول في متاهات نحن في غنى عنها ،لقد وقع فعل التغيير ولكل فعل رد فعل ،نحن بانتظار رد الفعل وعسى أن نخرج من عنق الزجاجة .
س- هل أقمت دعوى ضد النظام السابق ؟ ولماذا ؟
كلا ..لم أقم دعوى ..لأنني من المسالمين الذين يمشون (جنب الحيط)
مقاطعاً- هل تخاف أحدا بعينه ؟أو فئة ؟
لا .. أخاف من داخلي ..لدي شعور بالخوف من الداخل فمآسي هذه التجربة جعلتني أحاول أن أنهيها من ذاكرتي .. وأعتقد أن العدالة الإلهية أقوى من عدالة أهل الأرض.
سيد عامر أنا أكثر من ممتن لسماحك لي بإجراء هذا اللقاء معك فشكراً ونتمنى أن تنتهي معاناتك بل معاناة كل العراقيين سريعاً .
بغداد في 10/6/2004