الديمقراطية الليبرالية و الديمقراطية الواقعية .. (نظرة فلسفية)
لعل معالجة الديمقراطية, بشكلها الليبرالي أو العلماني, صار أمراً يثير حساسية الكثير من المواطنين البسطاء الذين سمعوا تراتيل التقديس على هذه الكلمة لعقود, حتى بات مستحيلاً أن تنتقد أو أن تطوٌر. بأغلب مراحل التأريخ, كان تناقل السلطة يتم بشكل دموي, إذ يفرض فرد, أو مجموعة أفراد, سلطته على مجموعة من الناس (الحاشية) حيث يضمنون له بقاء السلطة عليهم و على عدد أكبر غيرهم. و لا يتغير هذا الطاغي (الديكتاتور) إلا بثورة تهرق لأجلها الدماء, و تتابع السلطة الجديدة إزهاق الأرواح بغية الحفاظ على سيادتها, و هلم جراً على هذا المنوال المأساوي حتى بداية ثورة جديدة. لذا, كانت الديمقراطية محاولة لتناقل السلطة دون إراقة الدماء, و هذا بحد ذاته لا يجعل منها مسألة مقدسة أو يحصرها بقالب شكلي أو عملي. و تعود بدايات الديمقراطية إلى الحقبة اليونانية, و لم تكن مشابهة لما نعرفه اليوم من مجالس برلمانية و مساواة جوهرية أمام القانون, بل كانت حصرا على الطبقة الأرستقراطية فقط رغم أنها عنت "قوة الشعب" باللغة اليونانية. و سواء أكانت قوة للشعب حقا أو للنبلاء, كان سقراط يحمل آراء مغايرة للمجتمع السياسي اليوناني. أن سقراط قد رفض النظام الديمقراطي بجوهره, , علل رفضه على أن الديمقراطية نظام يعتمد على عقلية الشعب التي تكون متوسطة عادة, فليس كلهم حكماء و لا كلهم حمقى, و وفق هذا فإن أحكام هذا الشعب غالبا ما تكون بعيدة عن الصواب حتى و إن كانت الأغلبية متفقة على أمر ما. كان سقراط يرى بأن الحكم ليس جديرا بالشعب, لأنه لا يفقه أمره كما علل, بل هو جدير بالملك الفيلسوف, ذاك الحكيم الخاضع للعقل و لرقباء عليه يقومون قراراته التي يقدسها الشعب و يسير وفقها. و لم يتوقف سقراط عند هذا بل وصف الديمقراطية بالمثيل الإستبدادي للنظام القمعي, فبالثاني تحرم حريات البشر لدرجة المعاناة و بالأول تفسح حريات البشر لدرجة المعاناة بشكل آخر لنوع الثانية و نتيجة مساوية لها. و ليس كلام سقراط بالهذر حقيقة, بل هو كلام له ثقله العقلي الذي لا يمكن لعاقل الفرار من صوابه. فالنظام الديمقراطي, بحد ذاته, هو نظام "مفروض" على الشعب و شكل تنظيمي للحكومة, و رغم تطيٌره بالحريات إلا أنه لا يسمح بنظام "غير ديمقراطي" آخر بالتواجد على الساحة و هذا لون من الإستبدادية بلى. و لكنها إستبدادية ضرورية و منطقية, بغض النظر عن نظريات الدولة الخاصة كنوع الحرية و مفاهيمها و التي تكون مبنية على أسس فكرية لا علاقة لها بالديمقراطية, فالدولة, مهما تعددت أقطابها, عليها أن تتفق على آلية أساسية واحدة للقيادة. و بهذا نفهم بأن الديمقراطية تحمل وجها فرَدانيا طبيعيا و مطلوبا, إذ لا يمكن محاسبتها على هذا لأن الدولة السليمة لا يمكن أن تقوم على تناقضات و صراعات عقلية. إلا أن الديمقراطية الليبرالية, رغم فردانيتها المشروعة, تعطي للمجتمع حرية شخصية مبالغ فيها و حرية سياسية سنرى بأنها لا تزيد عن كونها واجهة لا قيمة لها. فكيف يمكن أن تجبرنا الضرورة على بناء دولة ذات نظام سياسي واحد (لا حزب) يرتب سير السلطة و تكون فردانيته طبيعية لبقاء الدولة, و لا تجبرنا ذات هذه الضرورة على بناء نظام إجتماعي واحد (وفق حريات عقلانية) لضمان عدم تخبط المجتمع كما ضمنا عدم تخبط الدولة؟ لا بل و ما هي الفائدة المتاحة من الإنتماء لحزب ذو عقلية شيوعية- أو ماهو غير ذلك- بينما تُحكَم الدولة بعقلية رأسمالية فقط؟ الفردانية, الضرورية مرة أخرى, موجودة إلا أن مفاهيم الحريات الليبرالية يتعارض و حقيقة الوضع السياسي الديمقراطي و مفاهيمه التي لابد لها أن تبنى على مذهب فلسفي واحد. و حتى لو مكنت الأنظمة الديمقراطية حزبا شيوعيا لحكم دولة ذات نظام ليبرالي و رأسمالي, فإن هذا الحزب سيكون عاجزا بحال عدم تغييره للدستور و المفاهيم و الفلسفة الإقتصادية على نحو كامل و مغاير لسابقه. و لو حدث هذا فإن على الدول أن تغير أنظمتها و دساتيرها بكل خمس أو سبع سنوات. إذن فالنظام الديمقراطي عاجز على إشراك كل الشرائح السياسية حقا بالحكم – كما يزعم – بل أن التعددية البرلمانية التي يمتلكها لا تتعدى حيز بسيط للتعامل مع المستجدات وفق أسس قد تكون مغايرة لمنطلقات الحزب الحاكم, كما هو الحال بحزب تركيا الإسلامي الحاكم اليوم, و لن يجد الحزب الحاكم الوقت الكافي لتغيير كافة نصوص الدستور حتى و إن قاد حملات شعبية واسعة لأجل هذا, فهناك خطوط حمراء لا يمكنه تجاوزها حقا. إذن التعددية البرلمانية بالنظام الديمقراطي ليست سوى فُتاة خبز ينشره المذهب الفكري الحاكم على المذاهب و أحزابها المغايرة له. و قد يبدو أن الشعوب ذات النظام الديمقراطي الليبرالي قادرة على تغيير أغلب دساتيرها, و تبدو هذه علامة إيجابية لوهلة إلا أنها علامة فوضوية و غير صحية, فمجرد سعادة الشعب بالقانون لا يعني بالضرورة صحته عقليا و لا يعني بأن هذا الشعب لن يعاني من سوء إختياره و أنه لن يتخبط أكثر بمحاولة من للخروج من الأزمات الإجتماعية التي وضع نفسه فيها.
و إذا كان هذا هو الحال المزري بالديمقراطية الليبرالية, فأنني لأقترح ديمقراطية لا تخاتل و لا تتلاعب على الآخر بشكل دراماتيكي بل تعامله وفق الواقع المطروح. لنقل بأنها "ديمقراطية واقعية" تعالج الأنظمة السياسية بشفافية واضحة و لا تبذر طاقات الشعب بالإنتماء لأحزاب لا فائدة منها, لأنها ستكون مغايرة لروح النظام, بل تحصر الإنتماء بين حزب تقدميٌ و آخر محافظ, يقومان كلاهما على تبني نظام تشريعي واحد و متماسك و يتناوبان على الحكم وفق إنتخابات تشريعية إذ تدار الدولة بموجبها وفق برلمان و رئاسة جمهورية و مرشد أعلى يختار من مجموعة مرشدين يقومون بمراقبة قراراته, و خلافة أحدهم لمنصبه بحال موته أو جنونه, و مدى تلائمها مع الروح الجوهرية للنظام, و يكون دور المرشد الأعلى دورا فاصلا بحال تواجد الصراعات الداخلية و دورا توجيهيا قياديا للدولة و الشعب أن هما أنحرفا عن مسارهم و منصب كهذا يحتاج لثقة الشعب و الحكومة المطلقة بهذا الحكيم المرشد و قرارته. و تبني الدولة دستورها وفق أسس المذهب الفكري المتبنى و وفقه تحدد شكل الحريات و المؤسسات الإجتماعية و الإقتصادية. تغيير الدستور يتم وفق الحاجة الزمانية و المكانية و وفق رأي هيئة مسئولة عن الدستور تبت بصحة الطلب الشعبي للتغير أم لا. دولة كهذه لا تبنى وفق خدع قانونية و حملات إنتخابية و أكاذيب سياسية و مكائد, بل هي دولة تبنى وفق ثقة الشعب بحكومته و إحترامه لقراراتها التي تتسلم زمام أموره كافة. و عليه فإن هذا الوضع سيعطي الحكومة مصداقية أكبر أمام المرشد و أمام الشعب على حد سواء.