العراق بعد (؟) مقتدى الصدر و"جيش المهدي"1-2 صحيفة الحياة
العراق بعد (؟) مقتدى الصدر و"جيش المهدي" (1)
سامي شورش الحياة 2004/08/15
بعد ترديد مقرف دام طويلاً لتلك النغمة الشوفينية التي تفيد ان الأكراد يعتزمون فصل بلادهم, كردستان أو ما يطلق عليه شمال العراق, عن باقي مناطق الوطن, ارتفعت في الجنوب تهديدات غير مسبوقة تشير الى استعداد بعض الشيعة لفصل مناطقهم الموغلة في عراقيتها عن العراق. واللافت أن سلام المالكي نائب محافظ البصرة وممثل الزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذي بزغ نجمه في الفترة التي أعقبت إطاحة النظام العراقي السابق, هو الذي أطلق التهديدات, مشدداً على أن تيار الصدر غير عازم على التراجع عن تهديداته الى أن تتم الاستجابة لـ"مطالب الجنوبيين". وقد أكد المالكي, في هذا المعنى, ان الطريق الوحيد لمنع الانفصال هو تنفيذ انسحاب القوات الأميركية من مدينة النجف, ومبادرة اياد علاوي, رئيس الحكومة, بتقديم اعتذار باسم حكومته للصدر, وتعويض عوائل القتلى والمتضررين من المواجهات المسلحة, مضيفاً أن عدم تنفيذ هذه المطالب سيجبر الصدريين على... فصل الجنوب عن العراق.
ولا يبدو في ظاهر الأمور أثر لدور ايراني. لكن أكثر من مصدر عراقي يؤكد ارتباط تلك التهديدات بالتصعيد الحاصل في الأزمة العراقية - الايرانية أولاً, والأزمة الايرانية - الأميركية ثانياً. وقد لا يتناغم التهديد الصدري بفصل الجنوب مع رغبات الأكثرية الشيعية في العراق. بل لا يستبعد أكثر من مراقب أن تندرج التهديدات تلك في اطار البهلونيات اللفظية لتيار الصدر ورغبته في اختطاط نهج مستقل ومتمايز عن المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية وحزب الدعوة. لكن مع هذا, يوحي الموضوع في إطاريه التاريخي والراهن, بمشكلة حقيقية قد تشهد تفاقماً لافتاً في المستقبل القريب, ما لم تتم السيطرة على جيش المهدي الذي يبلغ عديده نحو أربعين ألف مسلح.
ويمكن القول ان ايران تعيش أوضاعاً داخلية وخارجية بالغة الصعوبة. ونضيف ان طهران قد لا تتردد في انتهاج أي طريق كانت لمواجهة التهديدات الأميركية, خصوصاً على صعيد الملفّين النووي والصاروخي. وفي الحالين, يشكل العراق ومربعه الجنوبي متنفساً عملياً للضغوط. ثم أن الجنوب, على عكس الحالة الكردية في الشمال, مفتوح على البحر في منطقة الخليج, يتمتع في الوقت ذاته بغنى هائل في ثرواته النفطية. والى ذلك, يمكن عند التنقيب في صفحات التاريخ, استرجاع دعوة الزعيم البصراوي طالب النقيب, في أعقاب انهيار الامبراطورية العثمانية, الى تأسيس دولة جنوبية مستقلة عن الكيان العراقي. ورغم ان النقيب كان سنيّاً, فالأكيد أن فكرة لمّ المناطق الشيعية تحت لوائه كانت حاضرة لديه. وكان بعض الشيعة في البصرة تخاطبهم فكرة دولة تحاكي النموذج الايراني القاجاري عهد ذاك.
لكل هذا, لا يستبعد المراقبون كون التهديدات التي أطلقها المالكي ايرانية في جوهرها, أو جزءاً من أزمة عراقية - ايرانية بدأت تتشكل ملامحها خلال الأسابيع القليلة الماضية. ولتأكيد الرابط بين الأزمتين الصدرية والايرانية مع العراق, يشار الى مبادرة وزير الدفاع حازم الشعلان في وصف ايران بـ"العدو الرقم واحد", ثم زيارة علاوي الى النجف وتصريحاته بأن ايران مسؤولة عن تسلل مقاتلين غير عراقيين الى المدينة. وفي ما بعد جاء اختطاف ديبلوماسي ايراني في كربلاء, ليضيف تعقيداً جديداً على الأزمة بين بغداد وطهران.
وفي تطورات أخرى, وبعد سكوت طالت سنواته, انبرى المسؤولون العراقيون بمطالبة الحكومة الايرانية إعادة الطائرات المدنية والعسكرية التي نقلها الرئيس العراقي السابق صدام حسين الى المطارات الايرانية عام 1991. لكن طهران التي تجاهلت الموضوع, أكدت لاحقاً أنها غير مستعدة لحل المشكلات العالقة مع حكومة علاوي إلا في حال وجود حكومة منتخبة في بغداد.
وفيما تكاد نار الخلافات بين بغداد وطهران تصل الى الذروة, يبدو أن الثانية شرعت تركّز على الداخل العراقي. وكان من هذا القبيل, على الأرجح, أن لجأ الصدر وتياره, في خطوة غير مدروسة, لتسخين شوارع النجف ومقابرها. بيد ان العراقيين الذين أدركوا خطورة اللعبة الصدرية, ركزوا اهتمامهم, في المقابل, على ايران تاركين شأن الصدر وتياره وميليشياته (جيش المهدي) للأميركيين. واللافت ان علاوي وقد زار النجف, أعلن عفواً عاماً أكد أنه يشمل عناصر جيش المهدي.
والواضح أن ما زاد الوضع سوءاً أن العراقيين لا يمتلكون في الوضع الحالي القوة التي تؤهلهم مواجهة تيار الصدر وميليشياته المسلحة. فالجيش الجديد لم يُستكمل بناؤه, كما أن الشرطة في حاجة الى معدات حديثة وأسلحة جيدة وتدريب مستمر, ناهيك عن المشكلات الاقتصادية والمعيشية التي تضرب أطنابها في مختلف أرجاء العراق. لهذا, لم تجد بغداد أمامها سبيلاً لمواجهة الصدر سوى جر القوات والطائرات الأميركية الى ساحة المعارك مع جيش المهدي. لكن المشكلة ان العين الأميركية التي لا ترى في تدهور الأوضاع الأمنية سوى أصابع ايران, سرعان ما أججت الانخراط العراقي في الصراع غير المعلن مع الايرانيين. وكانت المذكرة التي أصدرها القاضي العراقي, القاضية باعتقال زعيم المؤتمر الوطني العراقي أحمد الجلبي وابن أخيه سالم الجلبي, اشارة واضحة في هذا المنحى.
في هذا الإطار, ارتكب الصدر, اللاعب الأقل قوة بين لاعبي الملعب العراقي, أخطاء جسيمة, بل قاتلة. فلجؤه الى خيار المواجهة المسلحة مع الأميركيين والحكومة الانتقالية في زمن تعيش تتوهّج فيه الخلافات العراقية والأميركية مع طهران, وتزامن توقيت هجماته ضد الأميركيين وقوات الحرس الوطني والشرطة العراقية مع اعتلال صحة السيستاني واضطراره للسفر الى بريطانيا للمعالجة, أفضيا به الى الاضطرار للعودة الى الحضن الايراني. وكان من شأن هذا إحداث ارتباك سياسي لافت في صفوف تياره المرتبك أصلاً. والواقع ان التهديدات غير الواقعية التي أطلقها تياره هذا بفصل الجنوب (وليس الشمال!) عن العراق جاءت بمثابة التعبير الأوضح عن حال الارتباك التي تنبئ بمستقبل عراقي طافح بالأحداث الكبيرة.
--------------------------
العراق بعد (؟) مقتدى الصدر و"جيش المهدي" (2)
نهلة الشهال الحياة 2004/08/15
قد تؤدي معارك النجف الى انتصار القوات الأميركية ومعها تلك التشكيلات من "قوات الدفاع الوطني" العراقية التي تم تدبيرها على عجل والتي تقاتل تحت غطائها هناك. قد ينجحون في اقتحام النجف بفعل التفوق التقني (الطيران خصوصاً) وبفعل الاستعداد للذهاب بعيداً جداً في العنف (مئات القتلى من العراقيين خلال ايام واستخدام للقنابل العنقودية والغازات...).
قد تكسر تلك المواجهة شوكة "جيش المهدي" في النجف, بل قد يُقتل السيد مقتدى الصدر, فيظن الأميركيون, ومعهم جماعتهم العراقية, ان رد الفعل على ذلك, مهما كان غاضباً, سيعود فيهدأ محبطاً. وأنهم قادرون على تحمل بضعة أيام من التمرد العام الأهوج بعد ذاك, الذي سيغدو محطة اخرى من محطات الحزن الشيعي العراقي الضارب في القدم والمتجدد على الدوام, وأن تحويل السيد مقتدى شهيداً, حتى ذلك سيكون أقل خطراً وثقلاً عليهم من وجوده حياً أو فاعلاً ومن الحالة "الزئبقية", بحسب وصف رامسفيلد, التي تتجاوز إدراكهم وقدرة أعصابهم على التحمل. أو لعلهم يأملون بأن تُضعف هزيمة كالتي يخططون له في النجف الرجلَ الى حد يحمله على الاستقرار الذي يفهمونه تعاوناً معهم أو سكوتاً وإنكفاء.
توحي الوقائع ان هناك تواطؤاً على هذا الهدف يتجاوز الدائرة الاميركية, بصفتها الادارة في واشنطن والحالة التابعة لها في الحكومة العراقية الموقتة. فالمراجع الدينية الشيعية قررت جميعها غض الطرف. اما كبيرها فاقتصرت بيانات مكتبه مذّاك على وصف حالة شرايين قلبه. وتساهم القوى السياسية الشيعية في العمليات بأشكال مختلفة او انها تجيزها عبر ممثلين عنها يحتلون مناصب تقريرية او ميدانية, وهي قوى تشارك في الحكومة الانتقالية وترى في مشاركتها هذه, كما في مساهمتها تلك, أنصبة بناء موقعها السياسي في العراق كما يقوم.
وعلى رغم تواتر أنباء عن تسرب مئات المقاتلين من الفلوجة الى النجف, وما يعنيه ذلك كرغبة في اظهار التضامن وتجاوز الانقسام المذهبي, وعلى رغم التوتر الكبير والمصادمات في مناطق اخرى, كالبصرة والعمارة ومدينة الصدر وفي بغداد نفسها, وإمكان انفجار الموقف فيها في اي لحظة, الا انه يجرى تجاهل هذا التهديد والامعان في الهجوم على النجف التي يراد لمعركتها ان تحمل نتائج حاسمة. فهل هي قادرة على ذلك, وما هي "النتائج الحاسمة" في الحالة التي نحن في صددها؟
لم تولد حركة الصدر الثالث بقرار من صاحبها, بل لعل دوره اقتصر على تأطيرها رمزياً. فمَن من القوى القائمة على الارض والتي تتنازع على مراكز السلطة منذ انهيار النظام السابق, هي القادرة على التعامل مع بؤس "مدينة الصدر", التي كانت "مدينة صدام" وقبلها "مدينة الثورة" وقبلها "خلف السدة" في بداياتها: ملايين الفقراء من الريف الجنوبي وفدوا بلا انقطاع على امتداد ثلاثة ارباع القرن للتكدس في تلك الضاحية المتضخمة, التي اصبحت مدينة موازية لبغداد, يحملون معهم خيم مناطقهم الاصلية, تضاف الى ذلك مأساة شروط الحياة في مكانهم الجديد, وجزع السلطة منهم واعتمادها لغة القسوة والحرمان والقمع في التعامل معهم. والنتيجة ان ما اصبح مدينة الصدر نسبة الى والد السيد مقتدى, لا يمكنه ان يكون سوى خزان للتمرد. وهو صورة قصوى عن احوال مناطق اخرى في البصرة والعمارة والناصرية وأريافها, كما ريف النجف نفسه, الذي يشترك معها في تلك الخصائص, بخلاف المدينة بتجارها ووجهائها المعتاشين تاريخياً على الانفتاح والتسويات مقابل تأدية الخدمات التي يختصون بها.
عصب حركة الصدر الثالث هم الشباب والمعدمون - او الطرفان معاً - وهم ايضاً ابناء عشائر شتى وأبناء التشيع الشعبي العراقي الذي تقع بينه وبين التشيع المؤسساتي مسافة, بكل تعقيدات أبعادها, غير قابلة للتجاهل. هؤلاء قد يُغلبون على أمرهم مرة او مرات, ولكن هل تُقبر حقاً تلك الحالة بهزيمة عسكرية في معركة النجف؟ هذا على صعيد الحركة التي يجري قصف أبنائها وقتلهم اليوم. اما على الصعيد الوطني والسياسي العام, فما يجري يطرح سؤال أولويات هذه الحكومة, التي قام أركانها بجولة عربية واسعة تهدف الى تطبيع وجودها, فإذا بها تستقوي بنتائج الجولة الايجابية لتتحول الى "حكومة حرب" على حد قول احد الوسطاء في أزمة النجف.
يفترض ان أولوية هذه الحكومة هي التحضير للانتخابات العامة التي يفترض انها ستنهي سلماً الاحتلال, وان مفتاح هذه وتلك هو المجلس الوطني الذي كان يفترض - يا لكثرة الافتراضات! - ان يجتمع في آخر الشهر الفائت ثم اليوم في منتصف هذا الشهر, وقد فات الموعدان ولم يحدد موعد ثالث له.
الواقع انه يراد لمعركة النجف ولكسر شوكة السيد مقتدى الصدر وحركته, ان تكون بديلاً عن العملية السياسية او غطاء لعجزها عن الانطلاق والتحليق. ويقال همساً: بل ان ذلك هو شرط انطلاقها وتذليل الاستعصاءات التي أحاطت بها.
وثمة أسباب كثيرة للشك في أن يؤدي تحييد او قتل السيد مقتدى, ومعه الألوف من أنصاره, الى ارساء الامر الواقع الذي يحلم به السيد أياد علاوي, اي ان تستتب له الامور, اذ يكون قد أظهر شدة بأسه وبرهن على فاعليته. فالسيد علاوي لا يملك شيئاً من عائدات النفط العراقي, هذا الذي أتاح لصدام حسين القيام بمشاريع كبرى من جهة وتوزيع بعض الفائض على الناس عبر الوظيفة العامة. وبعكس صدام حسين, لا يملك السيد علاوي خطاباً ايديولوجياً جديراً (بغض النظر عن الانحطاط الذي لحق به), يماسك تصرفاته ويمنحها شرعية الوجود والفعل, او على الاقل المبرر الذي يُعتد به. وعلى هذا وذاك, لا يملك السيد علاوي... الوقت! فقد بنى صدام نظامه عبر السنوات, وعلى اية حال, كان ابن مرحلة أفلت في العالم كله.
ولأنه لا يملك ذلك كله, فهو يتحرك مكشوفاً تماماً, حيث قد تفعل سطوة الامر الواقع فعلها لهنيهة لكنها لا تبني نظاماً. وبالمناسبة, فالمقارنة بسائر الانظمة العربية تتناسى أمرين مهمين, أولهما ان تلك الانظمة ليست في صدد الولادة اليوم, بل هي تعيش بفعل قوة الاستمرار والتوازنات التي بُنيت عبر الزمن. وثانيها انها لم تكن وليدة الغزو المباشر ثم الاحتلال الواسع. وثمة فارق لا يمكن تجاهله بين قواعد عسكرية هنا وهناك ونفوذ أميركي مهما بلغت شدته, وبين الحالة العراقية الاستثنائية تماماً.
الانكشاف الذي يتحرك السيد علاوي في ظله يجــعل النجــاح والفشــل في المهمة التي يتصــدى لهــا متعادلي النتيــجة. فإن صــفّى تلك الظاهـــرة المقلقة المتــمثلة في حــركة الصــدر الثـــالث, كـــان ذلك على الارجـــــح آخر عمـــــل سيتمكن مــــن القيــــام بــه, اذ تحـتاج اعـــادة صياغة الــــتوازن في البلاد, وتلك شروط حالها الجديدة, الى أياد أقل تلطخاً بالدمــــاء. وإن لم ينجح (وهي النتيجة الارجح لأن المهمة التي يتصـــدى لها تكاد تكون مستحـــيلة عليه), فـإن التوازن الذي سيتبلور سيطيحه ويطيـــــح المميزات التي يــــدعيها. والـــلافت هو السرعة التي يستهلك بها الاميركيون رجالاتهم. فها ان الســــيد الجلبي ومؤتمره الوطــني قد باتا مغــضوباً عليهما مطــــاردين. وها ان السيد علاوي يحترق بالنار التي اشعلها أياً تكن نتيجتها. اذاً: Who is next?