الطائفية الدينية وأبعادها السياسية
رغم محاولات الإمام علي إعادة أوضاع الدولة والمجتمع إلى نفس الأسس التي أتت بها الرسالة الإسلامية إلا أن هذه التجربة تعرضت لصنوف مختلفة من الأخطار لم تسمح لهذا البناء أن يتكامل. وكان من أهم الحركات التي منعت تكامل هذا البناء هي حركة الخوارج.
تعتبر حركة الخوارج أول حركة معارضة مسلحة تتأسس في التاريخ الإسلامي على اساس إيديولوجي. ولم تتوقف هذه الحركة عند مسألة المعارضة والصراع السياسي مع الدولة، أوالنظام الرسمي في الإسلام.
وعند إستقرائنا التأريخي لهذه الحركة نستطيع أن نستشف وجود صفات الطائفة عليها. وقد تعدى تحرك هذه الطائفة المارقة "الخوارج" خط المعارضة السلمية في المجتمع من مجرد التنظير والدعوة إلى قلب نظام الحكم، إلى أن تبدأ بشرعنة القتل والفتك بالمدنيين الأبرياء من المسلمبن. وإنتهى المطاف بها أن تتصيد الآمنين من المسلمين، مستخدمة بهم السيف، والرمح، بين طعن وقطع وقتل.
المسألة نستطيع إختصارها بأنها كانت حركة إرهابية بكل معنى الكلمة، كانت تستأصل كل من يختلف معها، أو تراه يقف في طريقها. وكان هذا الإستئصال يتم لأول مرة في التأريخ الإسلامي-ربما- على اسس إيديولوجية، وبإستخدام الخطاب الديني بشكله الناقص والمشوه. هذه الحركة الطائفية ، التي لا يعرف على وجه الدقة شكلها التنظيمي الأول على مستوى العقيدة، والسلوك، تنبئنا عن خطورة الخطاب الديني عندما يستخدم بشكل مشوه، وناقص ، وإنتقائي، في تحريك العواطف والميول الإجرامية لدى شرائح كبيرة –ربما- في المجتمع لتحقيق غايات سياسية. وما يجب الإلتفات إليه في هذا الصدد هو مقدار الخطر الذي يحدثه تحرك السلوك والممارسة الدينية من صلاة، وعبادة، وقراءة وحفظ القرآن الكريم بشكلها المجرد مبتعدةً عن فهم روح الإسلام، وقيمه الأصيلة. هذه الأسس والممارسات الناقصة والمشوهة تكون هي البيئة التي تحتضن فراخ الإرهاب، والوحشية التي تنطلق تدمر ذاتها، والمجتمع الذي يحتضنها، دون أن تلتزم بقيم الدين الأصيلة.
الطائفية عندما تستهدف الإنسان المدني
الإنسان بطبعه مسالم، أي أنه إنسان مدني، لا يعيش حياة العسكري بشكل دائم، وهو بهذا المجال ليس محارباً يحمل السلاح كي يمارس الحرب بشكل يومي. ولكن هذه الطائفة، والتي شكلت إمتداداً فكرياً وسلوكياً إلى يومنا الحاضر وعلى عدة اصعدة ، أسست طريقة مميزة في إستهداف المدنيين، والإنسان البسيط، لا لشيئ إلا لأنه يختلف مع أفكار هذه الطائفة، أو لا ينسجم معها، أو ربما يتعاطف مع بعض الشخوص التي لا تتعاطف معها هذه الطائفة. وقد شكل إستهداف الإنسان المدني إستراتيجية مهمة في إشاعة جو من الإرهاب والخوف والهلع في أوساط المدنيين، بسبب بسيط هو سهولة إستهداف المدني، والتأثير الفوري والمباشر الذي يتركه هذا الإستهداف ، إضافة إلى أن إشاعة الفوضى والقتل والترويع يشكل ضربة لكل من يرونه لا يتفاهم مع إتجاهات طائفتهم.
المشكلة تعقدت أكثر عندما إدعت هذه الطائفة أنها تحتكر الدين، والإسلام، وأنها هي التي تمتلك حق فهم النص الديني وتفسيره، وهي التي تسيطر على قرارات التضليل والتكفير والتفسيق، وبوابات الجنة والنار. الطائفية ببعدها الإجرامي والذي يستهدف الأبرياء والآمنين –إسلامياً- بدأت من حركة الخوارج بعد معركة صفين الشهيرة، وهي حركة نستطيع أن تطلق عليها وصف الظاهرة الخطيرة التي تفشت في المسيرة الإسلامية، إبتداءً من إرهاب الدولة، وقسوتها في التعامل مع الإنسان المدني المختلف، في مراحل لاحقة، وما تمثله قسوة الطائفة التي تعارض، وأفعالها التي لا تقل قسوة عن أفعال الدولة. الإمام علي عليه السلام لم يتعامل مع هذه الطائفة الإرهابية من منطلق طائفي يمثل وجهة نظر الدولة التي كان يحكمها ، وقد حاول عليه السلام بشتى السبل أن يقيم أمر هذه الطائفة ويعيدها إلى حظيرة الإسلام، وأن يمارس عملية غعادة تأهيل لها في المجتمع بكافة الأسايب دونما فائدة تذكر. مما إضطر أن يستأصلهم في معركة النهروان الشهيرة. لكن الحكم الأموي وغيره من دول تعاقبت على الحكم بدأت تمارس العقل الطائفي في التعامل مع كل من يعارضها، وبنفس المنطق الشهير الذي كان يعني إستحقاقات الإستئصال والإقصاء والتقريب والإبعاد، ومفهوم النصوص الدينية والرموز والشخوص، إضافة إلى ثقافة الدفن والتنكيل. وربما فهم الأمويون وغيرهم في فترات مبكرة أن الطائفية هي إستراتيجية ناجحة في الحفاظ على كرسي الدولة والرئاسة من جانب، كما إستخدم المعارضون نفس الإستراتيجية في تشكيل الطوائف الخاصة بهم كي تمنحهم ضمان الإمتداد التأريخي في المواجهة، كآلية حماية إجتماعية من الإستئصال ولم ينج من هذه الحلقة المفرغة من الدخول في الصراع الطائفي الشنيع إلا من رحم ربي. الطائفية خطر كبير عندما يستولي على الدولة ومؤسساتها، كما أنها خطر كامن عندما يسيطر على مواقع صناعة القرار في المجتمع، بأفراده ومؤسساته واساليب المعارضة فيه.
هل كان الخوارج حقاً أناساً طلبوا حقاً فضيعوه ؟
المسألة في هذا السياق لا تتعلق كثيراً بأناس "طلبوا حقاً فأصابوا باطلاً" وبالتالي فإنهم أقل أذىً من غيرهم الذين "الذين يطلبون باطلاً فيصيبون باطلاً"، لأن القواعد القانونية والعقلية تشير إلى أن العبرة بالنتائج وإستحقاقات الفعل والفكر، لا بمستوى النوايا. وحتى إذا تسامحنا في هذا الشأن فإننا لا نستطيع أن نلمس ما يدل بشكل واضح على نوعية أو شكل الحق الذي طلبه الخوارج، مما يعطيهم تفضيلاً على غيرهم. وقد مارسوا ما مارسوه بحق المجتمع، على نفس المستوى الذي مارسه أصحاب غارات معاوية.
وقد قام الإمام علي عليه السلام بالتعامل مع الطائفة المارقة "الخوارج" على أنها طائفة خارجة على القانون الإسلامي، ولم يحاربهم على اساس تكميم أفواه المعارضة، أو التحزب الغير شرعي بقدر ما تعامل معهم وفقاً لسلوكهم وتصرفهم الإجرامي في الواقع الإجتماعي، من قتل للأبرياء والتمثيل بجثثهم، والإعتداء على أموال وأعراض الناس بدون تفريق بين شيخ أو إمرأة حامل.
لقد مثلت هذه الطائفة المارقة –لمن يريد أن يتعلم من التاريخ- نموذجاً واضحاً على التفكير الطائفي الذي إستخدم الدين كاسلوب لتبرير الفعل الجنائي والإجرامي في المجتمع المسلم حينها. فحفظ اتباع هذه الطائفة للقرآن، وكثرة صلاة أتباع هذه الطائفة وتهجدهم منحت لدي أتباعها إحساساً كاذباً بالإحتكار الظالم للدين، ودخلت في متاهة التفسير الخاطئ لنصوص الدين، مما جعلها تبرر قتل المسلمين والإعتداء عليهم من الذين تحكم عليهم أنهم يختلفون معها سياسياً.
معركة النهروان وإستئصال الخوارج
في يوم الخامس والعشرين من رمضان سنة 38 للهجرة وقعت أكبر معركة فاصلة بين أول تيار إرهابي في الإسلام، وبين الدولة الإسلامية متمثلة بالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. وقد تأسست هذه الحركة الإرهابية على اساس لم يكن متعارفاً عليه سابقاً في المجتمع الإسلامي. فهذه الحركة الإرهابية والتي تكونت من قادة عسكريين وعشائريين، تميزوا بالعبادة وقراءة القرآن، تأسست على أساس يذكرنا -كما أسلفت- كثيراً بطبيعة تكون الطوائف في المجتمعات. ونستطيع أن نكون أكثر جرأة في التحليل التأريخي بأن نطلق عليها وصف أول طائفة تاسست في التأريخ الإسلامي، إن أساليب التحرك الإرهابي الذي يتلبس بلبوس الدين في أيامنا هذه يقترب كثيراً من اساليب حركة الخوارج في صدر الإسلام بكثير من تفاصيله. إنه أسلوب مميز للطائفية الدينية عندما تستخدم العنف والفتك لتحقيق أهدافها السياسية.
تقول المصادر التأريخية أن الإمام علي بن أبي طالب حاول اقناع الخوارج بالبيان والبرهان، ولكنهم لم يصغوا الى لغة المنطق واستمروا في غيهم وراحوا يعلنون القول بكفر ومعصية المنتمين الى معسكر الامام ، فضلاً عن الامام نفسه وشرعنوا قتل وذبح كل من رضي بفعل الإمام علي أو من الذين حسبوا عليه. ورغم كل ذلك فقد تصرف الإمام علي عليه السلام على أساس عدم وجود العقدة من المعارض الذي لا يهدد الأمن والإنضباط العام، ولا يتعرض للأبرياء من الناس وأملاكهم وأموالهم. وبعد أن إستفحل أمرهم، وكانت أهم جرائمهم هي قتل الصحابي الجليل عبدالله بن خباب وبقروا بطن زوجته الحامل دون مبرر. وقد عزم الامام علي على عدم التعرض لهم ابتداء ليمنحهم فرصة التفكير والرجوع الى العقل. ولكنهم تمادوا في غيهم وقتلوا الصحابي الجليل عبد الله بن خباب وبقروا بطن زوجته الحامل دون مبرر. فلما بلغ الإمام علي ذلك ارسل اليهم الحارث بن مرة العبدي فقتلوه هو الآخر. حينذاك سار اليهم الامام علي وطلب منهم ان يسلموه قتلة عبد الله بن خباب والحارث بن مرة العبدي ويكف عنهم، فأجابوه بانهم كلهم قتلوهما، وهنا ثبتت الجريمة على إشتراك هذه الطائفة كلها في جريمة قتل بشعة. إذ أن من قتل بيده تساوى في هذا السياق مع من شرعن هذا القتل، وأعطاه مبرره المتلبس بلباس الدين، إضافة إلى من أعطى القتلة الحماية والإسناد. .. وعندها لم يجد الإمام علي بداً إلا قتالهم حيث كانت حصيلة المعركة عدة آلاف من القتللى في صفوفهم، والقضاء على حركتهم. وكانت هذه المعركة حسب المفهوم العسكري الحديث حركة إستئصال لحركة عاثت في المجتمع المسلم فساداً وقتلاً وترويعاً. ولم يكن تأثيرها بأقل شأناً من تأثير معاوية. إحدى أهم الدروس التي نستشفها -ربما- من معركة النهروان هي أن الكي هو الحل الوحيد أحياناً في التعاطي مع حركات من هذا النوع. وأن حماية حياة وأملاك الإنسان المدني تعتبر إحدى أهم أولويات الدولة.
النص التأريخي في هذا الشأن :
قال الطبري:" فلما وصل النهر بعث اليهم ادفعوا لنا قتلة اخواننا منكم نقتلهم بهم ثم انا تارككم و كاف عنكم حتى القى أهل الشام فلعل الله يردكم الى خير مما انتم عليه فقالوا كلنا قتلتهم و كلنا نستحل دماءهم و دماء كم و خرج اليهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم و احتج عليهم و قال لهم ركبتم عظيما من الامر تشهدون علينا بالشرك و تسفكون دماء المسلمين فلم ينجع ذلك فيهم و خطبهم أبو أيوب الانصاري فقال انا و اياكم على الحال الاولى التي كنا عليها فعلام تقاتلوننا فقالوا انا لو تابعناكم اليوم حكمتم غدا قال فاني انشدكم الله ان تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل و قال لهم أمير المؤمنين عليه السلام ايتها العصابة التي اخرجها عداوة المراء و اللجاجة و صدها عن الحق الهوى الم تعلموا اني نهيتكم عن الحكومة و أخبرتكم ان طلب القوم اياها منكم مكيدة و نبأتكم ان القوم ليسوا باصحاب دين و لا قرآن و اني اعرف بهم منكم عرفتهم أطفالا و رجالا و هم أهل المكر و الغدر و انكم ان فارقتم رأيي جانبتم الحزم،فعصيتموني حتى اذا اقررت بان حكمت فلما فعلت شرطت و استوثقت فأخذت على الحكمين ان يحييا ما احيا القرآن و يميتا ما أمات فاختلفا و خالفا حكم الكتاب و السنة فنبذنا امر هما و نحن على امرنا الاول فما الذي بكم و من اين اتيتم قالوا انا حكمنا فلما حكمنا اثمنا و كنا بذلك كافرين و قد تبنا فان تبت كما تبنا فنحن منك و معك و ان ابيت فاعتزلنا فانا منابذوك على سواء ان الله لا يحب الخائنين فقال علي اصابكم حاصب (8) و لا بقي منكم آبر (9) أبعد ايماني برسول الله (ص) و هجرتي معه و جهادي في سبيل الله اشهد على نفسي بالكفر لقد ضللت اذا و ما انا من المهتدين،ثم انصرف عنهم فتنادوا لا تخاطبوهم و لا تكلموهم و تهيئوا للقاء الرب،الرواح الرواح الى الجنة".