-
النوم مطرود و منبوذ اليوم, متأكد أنا, كلّ الأحداق مفتوحة داخل تلك الزنازين الأشبه بالقبور. الجثتين هناك, بمكان ما يبعد بضعة أمتار عن مركز السرداب. الظلمة تلدغ السكينة, صرخات بربرية تنبعث برأسي, أدير عنقي بالظلام و أفتح عيوني لأميز القبيلة التي تدور حول الجثتين, لا شيء, الظلام وحده مايبدو أشد وضوحا كلما حدّقت النظر, أصوات كمان روسي لرقصة شعبية, بيانو مرح, طبول أفريقية مجنونة تنقر على كل حبة هواء, العرق يرشح مني و رأسي يدور بدورات غير منتظمة, كأنني بحفل مقدّس للهلاك. أدور, العالم يدور, القبيلة الهمجية بجلود وحوشها المقتولة تدور, الزنازين تدور, و الطبول تستمر مع عشرات الأصوات المتناحرة, العالم كله يدور حول الجثتين.. يدور.. يدور.. يدور وسط العرَق و الأنفاس التي لا تدخل إلاّ لربع الرئة, لم أعد أحتمل, أصرخ بهستريا و بكلمات غارقة بالزبد الأبيض الذي يملأي فمي. أضرب القضبان, عيناي جاحضتان من محجرهما, ترنوان لجهتين مختلفتين لكن عقلي الباطن مازال يرصد الجثتين. الأضواء تفتح, ينزل حارسان غاضبان من نوبة جنوني و ربما خائفان, يفتحان بابي دون أن أشعر, أهوي لوجهي دون أن أشعر, يضرباني كحمار رخيص دون أن أشعر, لا شيء يؤلم, الجثتين أخيراً أمامي – ببرودتهما و الدماء اللزجة - فأتأكد أن القبيلة لا تدور, و يخمد مهرجان الهمجية داخلي تباعا لأغوص بدوامة ظلام و خمود أشبه بالموت.
عربة تقلني, أصوات تعلو بمحادثة مرحة, أفتح عيوني فأرى منخار هائلا لرجل يدفعني. لم أركز أكثر, الحديث كان مملاً للغاية, فلا يهمني لو فاز الزوراء على الطلبة مثلا, أو سعر الموز الذي أنخفض؛ لم يعد هناك من شيء يهمني هنا سوى الخروج من "هُنا". دخلنا لغرفة ذات ممر مضلّع بأتجاهات عديدة, و من جهة ما فاحت رائحة البخار و الصابون الرخيص الذي يصادفه المرء بالمراحيض العامة, أو المطاعم المتواضعة. قلب العربة فيّ, فسقطت لجنبي دون أن يكترث أيا منّا نحن الثلاثة: أنها الطريقة الأمثل لكي لا يلمس جسدي القذر, و لكي لا يضغط على أحدى رضوضي أو سحجاتي فيؤلمني. أنه تعايش بين السجين و سجانه, ظالم و قاسي, أنما ضروري. قال بلهجة آمرة و لكنها أقلّ لؤما مما أعتدته: أسرع بالإغتسال بهذا الحوض, ثم أستخدم الرشاش المائي لتزيل المواد الكيماوية عن جسدك. أمتثلت لأمره بطاعة محببة, و كأنني أشكره على لهجته الأقرب للوداعة. كان شابا طويلا, بأنف رفيع كحد السيف و شعر مسترسل ينزل على جبينه, لكنه يتعمد أن يدفعه للجانب الأيمن – بحركة خفيفة من عنقه - بكل دقيقة أو أكثر. كان يرتدي بنطالا أسودا و قميصا رماديا. الأخر بدى نحيلا أيضا, لكنه أقصر و قد غزا الصلع أعلى جبهته, و أحتفظ بالزي العسكري مع رتبة نائب عريف على ساعده. ماذا تنتظر؟ نهرني الأخير بضيق بسبب تحديقي بهما, فتمتمت بتردد:
-هل أستحم أمامكما؟
=نعم يا حبيب أمك..
تدخل الشاب الطويل القامة:
-لننتظره عند البوابة..
=لكن يا ضاري...
-لا عليك.. يبدو شابا عاقلا و لن يقترف حماقة.
رمقني بصرامة بعينيه البدَويتين البنيتين, فأطرقت متمتما:
=بالتأكيد.
-جميل.. هناك ستجد ملابس نظيفة و منشفة.. أرتدي السروال الداخلي فقط و نادنا عند إنتهائك.. معك عشر دقائق..
=خمسة..
قالها صاحبة, لكن ضاري رمقه بنظرة عتاب و أعاد كلامه:
-عشرة يا مُناف..
أنصرفا على الفور ليكملا حديثهما, بينما عدّل مُناف مسدسه المدسوس بنطاقه العسكري, علامة على أنه سيستخدمه لو تهورت. خلعت ملابسي و قفزت للماء المخلوط بمواد كيماوية شديدة الحرقة. لم يكن من الأمر بد, فهذا ما سيقضي على الجرب و القمل الذي يغزوني. عند نهوضي عن الحوض, كان ماؤه رمادي ضارب للسواد, الأمر الذي دفعني لأن أرفع السدادة كي يزول عن وجهي؛ أنه يحرجني. أخيرا, و تطبيقا لأوامرهما, غسلت جسدي و شعري بالصابون ذا الرائحة الرخيصة, و أستخدمت الرشاش كي تزول آثار الصابون ليبقى عطره الذي أعاد لي تماسكي. أرتديت السروال الداخلي و ناديتهما, فأتيا على مهل و مازالت المحادثة لم تنتهي. أوصل مُناف ماكنة كهربائية بمأخذ قريب, ثم أمرني وسط هدير الآلة: قف و أرفع يديك على الجانبين. جزّ شعر رأسي, ما تحت أبطي, شاربي و لحيتي, و حتى شعر صدري الكثّ. "أرتدي ثيابك", قالها و هو يضع الماكنة بموضعها الأصلي على الرف الخشبي. كان قميصا بلا أزرار, و بيجامة عريضة تربط بربّاط عند محزمها. القطعتين باردتين و بلون أزرق, رغم أنهما مغسلوتان, مما يدل على أستخدامهما قبلا. فتح ضاري خزانة جانبية و هو يسألني عن نمرة حذائي. "43" أجبته بتعاون أكبر, أما هو فراح ينّقي بين النعول البلاستيكية حتى وجده. قدم النعل بيده إليّ, فأخذته بأحترام شديد – و كأنه شهادة فخرية لقيمتي الإنسانية – و أنا أشكره بأدب.
=أنا من الرمادي, و أنت؟
-النَجَف.. حيّ الأمير..
مطّ شفته كإشارة لمعرفته للحي الشهير الراقي.
-لم أنتَ هنا؟
سألني ضاري بنبرة هادئة لا تنم عن كونها نبرة تحقيق, بينما زفر مُناف بضيق من سؤال صاحبه. أجبت:
=لضربي سائق أجرة.. و تهم أخرى لا علاقة لي بها.. لم أنتَ هنا؟
تفاجأ من سؤالي, بدى أشبه بتمرّد للحظة, لكنه أعاد هدوءه لنفسه بعد أن تذكر أنه من بدء نقاشا لا تحقيقا:
-أنا أقضي فترة الخدمة العسكرية برتبة عريف..
=أنت جامعي بخدمة جيش أم متطوع بالأمن؟
قطب مُناف أكثر هذه المرة, بينما أوقفه ضاري بإشارة من يده و أجابني:
-بكلاريوس فيزياء.. و أنت؟
=طيّار.... تقريبا.
رفع حاجبيه علامة على الإندهاش و ربما عدم التصديق, قال كلماته مع إبتسامة وديّة:
-هل أنت قادر على قيادة الطائرات حقا؟
هززت رأسي مع إبتسامة بريئة للموافقة, لكنها تلاشت فور تذكري لما حدث أمس. سألته بلهجة بطيئة لكنها ثابتة:
=هل كنت مع المساعد وليد بالسرداب أمس؟
فهمني تماما, كانت كلماته متأسفة حينها:
-لا لم أكن, و كانت حادثة مؤلمة بحق – صمت لبرهة ثم رفع رأسه بنظرة آمرة – ثم عليك أن تنسى ما حدث لأنه يحدث بشكل دائم هنا.. للأسف.
"أشششش" قالها مناف و هو يرمق ضاري بنظرات غاضبة, همس بعدها: هل جننت؟ أسكت قبل أن يسمعك أحدهم.. بقيت سنة على نهاية الخدمة يا أحمق و لا نريد مشاكل.. سنخرج كما دخلنا.. دون مشاكل. لم يجبه ضاري, لكن صمته كان علامة إتفاق ضمني. قال كلماته و هو يتجه بالحديث إلي:
-عذرا على ما فعلناه بك بالسرداب.. كنّا بحاجة لضربك.. نحن مأمورين.
=لا عليك..
أبتسمت, لكنه لم يرد الإبتسامة بل ربت على كتفي بجدية و تمتم:
-شد حيلك.
هذا كل ما قاله, لأنه عصّب عيناي و قيد يداي للخلف و أمرني بأن أتوجه معه لزنزانتي.
تابع
-
[align=center]أين البقية أخي احمد العربي ؟؟!!
لقد طال الانتظار و بدأت أحداث الرواية تتلاشى من ذاكرتي !
:p [/align]
-
الزنزانة كانت نظيفة نسبة للقبو المزبلة, رغم أن هناك مخاط و مني و بول مشبع بجوانبها الأربعةالمسودّة, مما يدل على وجود نزيل مستعجل أثناء غيابي. و عند المرحاض الصغير - القريب للسرير- كان هناك جيشا من النمل الأحمر. دلقت الماء القليل المتبقي بالإبريق البرتقالي البلاستيكي, و راقبته ببلاهة يطوف بغرق عارم إلى الفوهة. الظلال الأزرق يتأملني بمشاعر باردة, لئيمة و مستهزءة بعودتي. لم أسمح لتنهيدة الإرتياح بالولادة عند إضطجاعي على السرير الضيق الصديء القوائم, كنت بحالة تحدي مع واقعي. رغبة مجنونة صارت تقتحمني, شيء كشهوة, إنما هي شهوة للحياة خارج هذا المكان. لن أنتهي هنا, و لو كان لا بد من هذا فسأنتهي بقوة و ثورة, كالحاج مصطفى, الشيخ مؤيد و نجلاء حتى! سأخرج, هكذا بهذي البساطة المستحيلة إلاّ بخيالات محبطة, و سأجلس على ضفاف دجلة لأكتب الشعر و أطالع "السيّاب" و "بوشكين" و "المتنبي", في الوقت الذي أشرب به البلنغو المثلّج*. سأكتب يوما عن هذا المكان, قصيدة رواية, لا فرق, المهم أن أكتب لعنة ما تفضحهم. سأسافر, و لمَ لا؟ , مع ملاك لأرض لا تحوي حزبا همجيا, جلادين, سياط, أقبية أو معتقلات أصلا. أنها تمطر الآن, أكاد أسمع صوت المطر على الإسفلت كأنه تصفيق حار لا ينقطع, شيء ما يثير فيّ رغبة بالبكاء عند سماع صوت الرعد ينكسر من بين صدوع السماء المحتقنة بالغيم. المطر, المطر الجميل ينهمر خارج هذه الدنيا الضيقة, بدنيا أخرى, يصلني صوته فقط. يالهذا الثلاثي الموغل بالإبتزاز؛ العراق و السيّاب و المطر, هل تُبتز العاطفة عطشا بموسم المطر؟ أصوات تتردد داخلي, أضطجع على سريري المتهالك لأسمعها أفضل و سط حفيف المطر.. العراق, السيّاب, المطر.. برومنسية يهطل, فتغرورق الدنيا به؛ بساتين الأرز الأخضر السنابل, ريش العصافير الرمادية و الزرازير السوداء, و كذلك غابات النخيل اللاهثة بصمت مريب و شهي. يهطل مطر السيّاب على الشناشيل و السطوح الإسمنتية المقفرة, و ضفاف الطمي اليابس على الفرات. يهطل, إنما بهسيس خفي يهطل, ليثير زوبعة صامتة.. كما الدموع كما السحاب كما الموت.. ليف النخيل يقطر ماء نقيا برّاقا مجّ الطعم, الليل ينتشر تدريجيا معلنا قضاء يوم آخر على ذكريات المطر, إعتقالي و كذلك أفكاري. تصغرعيوني, تتمدد عضلاتي, لأنام أخيرا على ذكرى كلمات تتسرب هي الأخرى للقلب الرملي العطش.. كلمات "السيّاب".
مطر..
مطر..
مطر..
في كلّ قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
و كلّ دمعة من الجياع و العراة
و كلّ قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي واهب الحياة
مطر..
مطر..
مطر..**
و أنتهى الفصل الأول
تابع
=========
* "البلنغو" هو حبيبات كالسمسم تنقع بالماء المثلّج, فترشح نكهة مميزة و تنتفخ هي بالماء, و تحلى بالسكر و تعتمد كمرطب بأيام الصيف الفراتي الحار.
** من قصيدة الشاعر بدر شاكر السيّاب "أنشودة المطر".
=========
شكرا ملاك
-
كلمة لابد منها
و هكذا, لقد قرأتم و شهدتم بأعينكم نهاية الفصل الأول من رواية فكرّت بها مذ كنت بالرابعة عشرة - متأثرا بمنيف - و خططت أول سطورها بعمر السابعة عشرة, و أستمرت كتابتها حتى ثلاث سنوات أخرى, ثم أخذ تنقيحها مدة سنتين, و أعيدت كتابتها بعد سنة لمرة أخيرة و منافية للكثير من الأسلوب و المضامين و الأفكار و الأحداث الأصلية.
الرواية تتألف من ستة فصول, تعالج الكثير من الواقع العراقي, الإشكالات الفلسفية, المفاهيم سياسية, و ستنتهي بسجن أبو غريب بنهاية ستدهش القاريء الكريم, الذي أتمنى أن يجد بها مجهود لمحاولة متواضعة - إنما جادة - لتصوير مأساة أستمرت لقرن من الزمان.
سيتم نشر الرواية رسميا بعد سنة كحد أقصى بإذن الله عن:
المؤسسة العربية للدراسات و النشر
بيروت, ساقية الجنزير, بناية برج الكارلتون
ص. ب 5360
و ستترجم, بسعي من المؤلف و الناشر, للأسبانية بعدها و للإنجليزية و للفرنسية خلال السنتين التاليتين.
أتمنى أنكم قد أستمتعتم بما كتبته, و أتقبل أي نقد أو رأي نهائي بما وضعته.
شكرا لكم,و الله الموفق
المؤلف