المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ديك الجن
لنذهب الآن لنسرد حادثة مشابهة و متقاربة تاريخياً و موقفاً متناقضاً
من ناحية شرعنة الحاكمية في الاسلام
و هي في الجهة الأخرى من معسكر أمراء المؤمنيين الجدد
و التي حدثت مع أحد جهابذة المذاهب "السياسية" في الاسلام عند أهل السنة...
و هي حادثة لقاء الامام مالك مع أبي جعفر المنصور العباسي:
هذه اللقاء يرويه لنا ابن قتيبة المؤرخ الكبير في كتابه تاريخ الخلفاء
و منقول أيضاً بلسان الامام مالك شخصياً:
قال مالك:
فمشيت حتى انتهيت الى القبة التي هو(أي الخليفة المنصور) فيها
فاذا هو قد لبس ثياباً قصدة لا تشبه ثياب مثله تواضعاً لدخولي عليه و ليس معه في القبة الا قائم على رأسه بسيف صليت
فلما دنوت رحب بي و قرب ,ثم قال:ها هنا الي فأوميت للجلوس
فقال: ها هنا فلم يزل يدنيني حتى أجلسني اليه و لصقت ركبتي بركبتيه
ثم كان أول ما تكلم به أن قال: و الله الذي لا اله الا هو يا ابا عبد الله
ما أمرت بالذي كان و لا علمته قبل ان يكون, و لا رضيته اذا بلغني (يعني الضرب)
قال مالك: فحمدت الله تعالى على كل حال و صليت على رسول الله(ص) ثم نزهته عن الأمر بذلك و الرضا به.
ثم قال: يا ابا عبد الله , لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم
و اني أخالك أماناً لهم من عذاب الله و سطوته و لقد دفع بك عنهم وقعة عظيمة,
فانهم ما علمت أسرع الناس الى الفتن و أضعفهم عنها, قاتلهم الله أنى يؤفكون.
و قد أمرت أن يؤتى بعدو الله من المدينة على قتب, و امرت بضيق مجلسه و المباغة في امتهانه
و لا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه....
ثم يقول مالك:
أصلح الله الأمير, ان أهل العراق لا يرضون علمنا و لا يرون في عملهم رأينا
فقال أبو جعفر: يحملون عليه و نضرب عليه هاماتهم بالسيف و نقطع طي ظهورهم بالسياط
.فتعجل بذلك وضعها فسيأتيك محمد المهدي ابني
العام القابل ان شاء الله الى المدينة ليسمعها منك, فيجدك و قد فرغت من ذلك ان شاء الله...
قال مالك:
ثم أمر لي بألف دينار عيناً ذهباً, وكسوة عظيمة,
وأمر لابني بالف دينار ثم استأذنته فاذن لي,
فقمت فودعني و دعا لي ثم مشيت منطلقاً فلحقني الخصي بالكسوة فوضعها على منكبي
و كذلك يفعلون بمن كسوه و ان عظم قدره فيخرج بالكسوة على الناس فيحملها
ثم يسلمها الى غلامه. فلما وضع الخصي الكسوة على منكبي انحنيت عنها بمنكبي كراهة احتمالها و تبرؤاً من ذلك
فناداه أبو جعفر: بلغها رحل أبي عبد الله...
تاريخ الخلفاء لابن قتيبة -ج2-ص150
الآن....
بمقارنة بسيطة....
نص مقابلة عم السفاح بالامام الأوزاعي مع نص مقابلة أبو جعفر المنصور مع الامام مالك
يتضح البون الشاسع بينهما....
فمالك هنا يعترف بشرعية الحكم العباسي و له مكانته المميزة في قلب البلاط العباسي
و اميره المنصور الذي عامله بكل تقدير و احترام على العكس
من الأوزاعي فقيه الجند الأموي و المدافع عن دمائهم اموالهم و اعراضهم
يظهر جلياً مقدار فقيه البلاط الجديد في قلب المنصور
و التي بلغت درجة عزل والي المدينة و هو بالمناسبة ابن عمه -
الى درجة اهانته أشد الاهانة و عزله عن منصبه
و الاعتذار عن ما بدر منه بحق مالك ممثلهم الشرعي هناك
يظهر من نص المقابلة اطمئنان المنصور في بقاء الامام مالك ممثلاً رسمياً في المدينة
للبلاط العباسي و تأمين الغطاء الشرعي لحاكميته
و بالمقابل التلويح باستخدام القوة الضاربة الساحقة في وجه المناوئين
لمذهبه الفقهي في العراق....
كذلك يتشابه هذين اللقائين من ناحية مكافئة الامامين
بمبلغ سخي من المال عند انتهاء هذا اللقاء الاختباري و كانت تلك احدى الطرق الشهيرة عند
العباسيين الأوائل في اختبار ولاء الدعاة و الفقهاء
و اعتباره مقياس نسبي للولاء كما سنرى فيما بعد...
و من الملاحظ هو ان موقف هذين الامامين المتناقضين
من شرعية الحكم العباسي آنذاك قد وضعتنا أمام
خياران لا ثالث لهما:
فهو اما الحكم الأموي هو الحكم الشرعي الصحيح و الحكم العباسي هو المغتصب
للخلافة كما رأى الاوزاعي رغم تقيته في أخذ التقدمة المالية لا حقاً
و اما حكام بني أمية حكام جور و ظلمة و حلال دمائهم و أموالهم و شرعنة استأصال شأفتهم
وزوال ملكهم على يد الخلفاء الشرعيين الجدد من بنو العباس ...
و موقف الامام مالك من شرعنة الخلافة العباسية كحامية اسلامية لا لبس فيها
لا بل دوره في سياق هذه الخلافة الناشئة أشهر من نار على علم و في نفس السياق:
¨ قال الذهبي:
(كان ـ العمري الزاهد ـ ينكر على مالك الإمام اجتماعه بالدولة،
فكتب إليه بكتاب أغلظ له فيها،
فرد عليه مالك رد إمام فقيه لم تستفزه غلظة العمري،
وبمثل ذلك كتب يحيى بن يزيد النوفلي إلى مالك.
قال له العمري ولابن أبي ذئب:
أنتم علماء تميلون إلى الدنيا،
وتلبسون اللين،
وتدّعون التقشف.
فكتب إليه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة،
ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم،
وآخر فتح له في الجهاد؛ فنشر العلم من أفضل أعمال البر،
وقد رضيت بما فتح لي فيه،
وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير.
أما يحيى بن يزيد النوفلي فقد كتب لمالك:
أما بعد فقد بلغني أنك تلبس الرقاق،
وتأكل الرقاق،
وتجلس على الوطاء،
وتجعل على بابك حجاباً،
وقد جلست مجلس العلم، وضربت إليك آباط المطي،
وارتحل إليك الناس، فاتخذوك إماماً، ورضوا بقولك،
فاتق الله يا مالك،
وعليك بالتواضع،
كتبت إليك بالنصيحة مني كتاباً، ما اطلع عليه إلا الله، والسلام.
فكتب إليه مالك بن أنس: بسم الله الرحمن الرحيم، من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد، سلام عليك؛
أما بعد فقد وصل إليّ كتابك، فوقع مني موقع النصيحة من المشفق، أمتعك الله بالتقوى،
وجزاك وخولك بالنصيحة خيراً، وأسأل الله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،
وأما ما ذكرت من أني آكل الرقاق، وألبس الرقاق، وأجلس على الوطاء
، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى، وقد قال سبحانه: "قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"،
وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه، فلا تدعنا من كتابك، فإنا ليس ندعك من كتابنا والسلام.
و يبدو ان مالك قد استطاب لعب دور الفقيه الرسمي للبلاط العباسي
فقد روى الذهبي أيضاً عن مالك أنه قال:
والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه،
إلا نزع الله هيبته من صدري.
وقد عين فقيه البلاط العباسي ...الامام مالك ..((استاذاً خصوصياً)) لأبناء ملوك بني العباس تكريماً له!!!؟؟؟
سأل هارون الرشيد مالكاً، وهو في منزله ومعه بنوه، أن يقرأ عليهم،
قال: ما قرأت على أحد منذ زمان، وإنما يقرأ عليّ. فقال: أخرج الناس حتى أقرأ أنا عليك.
فقال: إذا منع العام لبعض الخاص لم ينتفع الخاص. وأمر معن بن عيسى فقرأ عليه.
و ها هو يستمرفي علاقاته النفاقية ال مميزة الخاصة مع الجيل الجديد من امراء المؤمنين من سفلة بنو العباس :
... قدم المهدي المدينة فبعث إلى مالك، فأتاه، فقال لهارون وموسى: اسمعا منه.
فبعثا إليه فلم يجبهما، فأعلما المهدي، فكلمه، فقال: يا أمير المؤمنين العلم يؤتى أهلُه.
فقال: صدق مالك، صيرا إليه. فقال له مؤدبهما: اقرأ علينا. فقال: إن أهل المدينة يقرأون على العالم،
كما يقرأ الصبيان على المعلم، فإذا أخطأوا أفتاهم.
و من الملفت للنظر ان الامام ابن أبي ذئب قد تكلم في مالك كلاما
وقال: فيه جفاء و خشونة و كلام ابن عبد البر ((كرهت ذكره)) قاصداً اياه
مشهور عنه!
و يبدو ان موقف ابن أبي ذئب مرده الى أنه اكثر الناس العارفين بحقيقة معدن هذا الرجل
و قد عرف عن ابن ابي ذئب انه لم يخشى في الله لومة لائم
وقد سجل له التاريخ هذا الموقف الذي ذكره ابن قتيبة في تاريخ الخلفاء ج2- ص142
وقال: لما ولي أبو جعفر المنصور الخلافة جمع مالك بن أنس
و ابن أبي ذؤيب و ابن سمعان في مجلس واحد
و سألهم: اي الرجال أنا عندكم ؟
أمن أئمة العدل أم من أئمة الجور ؟
قال مالك , فقلت: يا أمير المؤمنين أنا متوسل اليك بالله تعالى و أتشفع اليك بمحمد(ص) و قرابتك منه,
الا ما أعفيتني من الكلام في هذا
(((في تقية ونفاق واضح يشابه تقية و نفاق الأوزاعي الرخيص مع عم السفاح!)))
- قال (أبو جعفر المنصور): أعفاك أمير المؤمنين
أما ابن سمعان (المتزلف) فقال له: أنت والله خير الرجال يا أمير المؤمنين,
تحج بيت الله الحرام و تجاهد العدو وتؤمن السبل و يأمن الضعيف بك ان يأكله القوي
و بك قوام الدين فانت خير الرجال و أعدل الائمة !!؟؟؟!!
أما (صاحبنا) ابن أبي ذؤيب فقال له: أنت والله عندي شر الرجال
استأثرت بمال الله و رسوله و سهم ذوي القربى و اليتامى و المساكين و أهلكت الضعيف
و اتعبت القوي و امسكت أموالهم فما حجتك غداَ بين يدي الله؟
- فقال له أبو جعفر: ويحك ما تقول؟
اتعقل؟
انظر ما أمامك؟
قال(ابن أبي ذئب):
نعم قد رايت أسيافاً , و انما هو الموت و لا بد منه عاجله خير من آجله
[B]و بعد هذا الاختبار الشفهي طرد المنصور ابن ابي ذؤيب و ابن سمعان و اختلى بمالك وحده و قال له:
يا أبا عبد الله انصرف الى مصرك راشداً مهدياً, وان أحببت ما عندنا ,
فنحن لا نؤثر عليك أحد ....ولا نعدل بك مخلوقاً...
قال: ثم بعث أبو جعفر المنصور من الغد لكل واحد منهم صرة فيها خمسة آلاف دينار مع أحد شرطته و قال له:
تدفع لكل رجل منهم صرة, و أما مالك بن أنس ان أخذها فبسبيله, وان ردها فلا جناح عليه فيما فعل.[/B]
و أما ابن أبي ذؤيب فائت برأسه ان أخذها و ان ردها عليك , فبسبيله لا جناح عليه
و ان يكن ابن سمعان ردها فائت برأسه و ان أخذها فهي عافيته
فقال مالك: فنهض بها الى القوم , فاما ابن سمعان فأخذها فسلم
و اما ابن أبي ذؤيب فردها فسلم, وأما أنا فكنت و الله محتاجاً اليها فأخذتها
(تاريخ الخلفاء-ج2- ص144)
ولتبيان الفرق الشاسع بين الامامين ابن أبي ذئب... ومالك...و خصوصاً في مواقفهم من سفلة بنو العباس لنرى هذا الأثر:
- ابن أبي ذئب ينصح المهدي وأبا جعفر المنصور:
لما حج المهدي دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلم يبق أحد إلا قام، إلا ابن أبي ذئـب،
فقال المسيب بن زهير: قم، هذا أمير المؤمنين.
فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين.
فقال المهدي: دعه، فلقد قامت كل شعرة في رأسي.
وقال(( ابن أبي ذئب)) للخليفة المنصور: قد هلك الناس، فلو أعنتهم من الفيء.
فقال: ويلك، لولا ما سددتُ من الثغور لكنت تؤتى في منزلك، فتذبح.
فقال ابن أبي ذئب: قد سد الثغور وأعطى الناس من هو خير منك،
عمر ـ رضي الله عنه . فنكس المنصور رأسه والسيف بيد المسيب،
ثم قال: هذا خير أهل الحجاز.
وقال أبو نعيم: حججت عام حج أبو جعفر ومعه ابن أبي ذئب، ومالك بن أنس،
فدعا ابن أبي ذئب فأقعده معه على دار الندوة،
فقال له: ما تقول في الحسن بن زيد بن حسن ـ يعني أمير المدينة؟
فقال : إنه ليتحرى العدل.
فقال: ما تقول فيّ ـ مرتين ـ؟
فقال: ورب هذه البنية، إنك لجائر.قال: فأخذ الربيع الحاجب بلحيته،
فقال له أبو جعفر: كف يا ابن اللخناء.
ثم أمر لابن أبي ذئب بثلاثمائة دينار.
ولم تقتصر الفروق بين ابن أبي ذئب و فقيه البلاط مالك في هذا ..
فهذا امامهم أحمد بن حنبل يشهد ان ابن أبي ذئب طلب استتابة مالك بن أنسك
قال: بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث "البيعان بالخيار".
فقال: «يُستتاب. فإن تاب، وإلا ضربت عنقه».
ثم تكفيه(ابن أبي ذئب) شهادة امامهم ابن حنبل فيه : «هو أورع وأقوَلُ بالحق من مالك».
.....