-
نهج البلاغة
-
[align=center]كتاب نهج البلاغة[/align]
أما بعد، فإن (نهج البلاغة) اسم وضعه الشريف الرضي على كتاب جمع فيه، ـ كما هو مذكور ـ المختار من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في جميع فنونه ومتشعبات غصونه. وقد اشتمل على عدد كبير من الخطب والمواعظ والعهود والرسائل والحكم والوصايا والآداب، توزعت على 238 خطبة و79 بين كتاب ووصية وعهد، و488 من الكلمات القصار، واحتوت على عوالم وآفاق متعددة منها: عالم الزهد والتقوى، عالم العرفان والعبادة، عالم الحكمة والفلسفة، عالم النصح والموعظة، عالم الملاحم والمغيبات، عالم السياسة والمسؤوليات الاجتماعية، عالم الشجاعة والحماسة وغير ذلك.
ولقد انفرد هذا المصنف بسمات قلما نجد لها مثيلاً في أي كتاب إسلامي آخر سوى القرآن والسنة النبوية، إذ لا نكاد نرى كتاباً تميز بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية والواحدة والأسلوب الواحد كما نراه في (نهج البلاغة). وهو اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده، يحافظ على نفس الحلاوة والطلاوة، ونفس القدرة في تحريك العواطف والأحاسيس، تلك التي كانت له في عهده، رغم كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق والثقافات لأن كلماته لا تحدّ بزمان أو مكان، بل هي عالمية الوجهة، إنسانية الهدف، من حيث أنها تتجه إلى كل إنسان في كل زمان ومكان.
ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه، سار في الناس ذكره، وتألق نجمه، وأعجب به كل من وصل إليه، وتدارسوه في كل مكان، لما اشتمل عليه من اللفظ المنتقى والمعنى المشرف، وما احتواه من جوامع الكلم في أسلوب متساوق الأغراض، محكم السبك يجمع بين البلاغة والشمول ويعد في الذروة العليا من النثر العربي الرفيع.
لقد شغل الإنسان بكل أبعاده، مختلف خطب الإمام علي (عليه السلام) وكلماته بهدف تحريره من ربقة الجهل وإنارة عقله بالعلوم والمعارف، تمهيداً لإيقاظه من سباته وبعثه على التأمل في الكون وما يتخلله من أنظمة ونواميس وما يحكمه من إرادة خفية دقيقة التنظيم، ليخلص من ذلك كله إلى الإيمان بالله خالق الكون وواهب الحياة.
وليس بوسع هذا الإنسان المحدود حياة وقدرة، أن يدرك هذه الحقيقة المطلقة، ما لم يرتفع فوق الصغائر والشهوات، ويتحرر من قيود المادة وأغلالها ويحترز من أغوائها وأهوائها ويفطم طبيعته عن ألبانها، لذلك فقد ركزت خطب الإمام علي (عليه السلام) على التقوى تلك التي تهب النفس القوة والنشاط، وتصونها عن الانحراف والشطط، وتدفع بها إلى ملكوت الله حيث السعادة الأبدية. ولا يعني ذلك، ترك المجتمع واعتزاله، إذ لا رهبنة في الإسلام، ولا يبدو من كلماته (عليه السلام) أنها تدعو إلى مثل ذلك، بل هي توحي إلى الإنسان بأن يتقي الله في دنياه، ويعمل لدنياه كما لآخرته، ويعيش حياته بكل بساطة وقناعة، في ظل علاقة اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية والمطالب الحياتية لكافة الناس، هذه المشاركة في الحياة تفرض على الإنسان أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه في مستوى واحد من الحماسة والاهتمام.
هذه المعاني الإنسانية الخالدة التي تضمنها نهج الإمام علي (عليه السلام) جعلته موضع اهتمام الباحثين ورجال الفكر في كل عصر وجيل وسوف يبقى كذلك ما دامت العقول تكتشف فهي منطلقات جديدة لبناء هذا الإنسان حتى يعود إلى الصورة التي أراد لها الله أن تكون.
ومع هذه الأهمية التي حظي بها كتاب (النهج) فقد امتدت إليه سهام الشك منذ أن صدر عن جامعه وحتى يومنا هذا، واختلفت فيه الآراء، وفي كونه للإمام علي (عليه السلام) أم للشريف الرضي، وما زالت المواقف على حالها دون البت في ذلك، رغم أن الموضوع قد استنفذ البحث.
-
[align=center] هل في النهج دخيل[/align]
ذهب شطر من الكتاب وفيهم الكاتب المعتزلي عبد الحميد بن أبي الحديد فيلسوف المؤرخين إلى القول بأن المجموع في نهج البلاغة من الدفة إلى الدفة معلوم الثبوت قطعي الصدور من أمير المؤمنين من فمه أو من قلمه.
وإليك من مقاله الآتي في شرحه على نهج البلاغة، ج10، ص546 بعد إيراده لخطبة ابن أبي الشحناء المشهورة ما نصه: كثير من أرباب الهوى يقولون أن كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضى أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح ونكبوا بينات الطريق ضلالة وقلة معرفة بأساليب الكلام وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول: لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين وقد نقل المحدثون كلهم أوجلهم والمؤرخون كثير منهم وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك؛ والثاني يدل على ما قلناه لأن من قد آنس بالكلام والخطابة وشد طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لابدّ أن يفرق بين الكلام الركيك وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولد. وإذا وقفت على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلابدّ أن تفرق بين الكلامين وتميز بين الطريقتين.
ألا ترى: إنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض؟ ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر؟ وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس شيئاً كثيراً لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة؟ وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءاً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.
ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بهذا البرهان الوضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به، لأنا متى فتحنا هذا الباب وسلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم تثق بصحة كلام منقول عن رسول الله أبداً وساغ لطاعن أن يطعن ويقول هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع. انتهى كلامه.
وكذلك ما نقل أن الخطب والكتب والكلم المرويات في نهج البلاغة حالها كحال الخطب المروية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) التي بعضها متواتر قطعي الصدور وبعضها غير متواتر فهو ظني السند لا تحكم عليه بالانتحال والافتعال إلا بعد قيام الدليل العلمي على كذبه، كما أننا لا نحكم بصحته جزماً إلا بعد قيام الدليل عليه وعليه فالاعتدال والحق الذي أحق أن يتبع يقضيان علينا بأن نجعل لهذا الكتاب من القيمة الدينية ما نجعله لغيره من الجوامع الصحاح والكتب الدينية المعتبرة ونعترف بقيمته الأدبية وتفوقها من هذه الجهة على كل كتاب بعد كتاب الله عزّ وجلّ.
-
[align=center] دفع الشبهات عن نـــهـــج البـلاغــة[/align]
لقد نال موضوع تصحيح نهج البلاغة منزلة من الوضوح وتنورت أطرافه من حيث كثرة الأسانيد لحد لم يدع مجالاً للمتقولين عليه فيما بحثنا عنه، إلا أن البعض ممن ركبوا العصبية ونكبوا عن النهج قد يضربون عن كل هذه الحجج والدلائل صفحا ويتشبثون بشبهات واهية.
- الشبهة الأولى: كثرة الخطب وطولها وتعذر الحفظ والضبط في أمثالها، فإن الخطب الطوال يصعب حفظها وتذكر ألفاظها بعد الأجيال.
والجواب عنها أنها ليست بأعجب من رواية المعلقات السبع والقصائد الأخرى من الأوائل ومن الخطب والمأثورات التي رويت عن النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) وعن غيره ممن تقدم عليه زمانه أو تأخر، في حين أن العناية بالحفظ والكتابة كانت في زمن بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) أهم وأعظم ممّا قبله، ونعتوا ابن عباس بأنه كان يحفظ القصائد الطوال لأول مرة من سماعها وكان مثله في عامة العرب كثيراً ولا يزال حتى اليوم، والاعتناء بحفظ خطب الإمام كان أكثر حتى قال مدرس دار العلوم المصرية في كتاب علي (عليه السلام) ص125: (إن الأدباء والمؤرخين الذين تقدموا الشريف الرضي كانوا يعتقدون أن خطب الإمام (عليه السلام) كانت بضع مئات، وحكي عن المسعودي أربعمائة ونيفاً وثمانين خطبة).
- الشبهة الثانية: إسناد بعض الخطب المروية في النهج إلى القطر الخارجي وغيره، والجواب عنها أن الشريف الرضي أحق بالتصديق في روايته من غيره وأعرف بأساليب بلغاء العرب، ولا يبعد أن يكون الذين جاءوا بعد الإمام اقتفوا أثره في خطبه وأفرغوها بألسنتهم، وربما نحلها هؤلاء أشياعهم كما نحل معاوية بن أبي سفيان بعض خطب الإمام. قال: مدرس دار العلوم أحمد زكي صفوة المؤرخين: (وممّا يستوقف الباحث في هذا الباب ما أورده الجاحظ المتوفى سنة 255هـ في البيان والتبيين، قال: قالوا لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك فقال: ويحك ولم؟ قال: لا أدري. قال: فوالله ما هم بعدي إلا الذي يسوؤهم. وأذن للناس فدخلوا فحمد الله وأثنى عليه وأوجز ثم خطبهم خطبة أوردها الجاحظ وعقبها بقوله: وفي هذه الخطبة ـ أبقاك الله ـ ضروب من العجب: منها أن هذا الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها أن هذا المذهب في تصنيف الناس وفي الأخبار عنهم وعما هم عليه من القهر والإذلال ومن التقية والخوف أشبه بكلام علي وبمعانيه بحاله منه بحال معاوية؛ ومنها إنا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد ولا يذهب مذاهب العباد وإنما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه. والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم.
وفي الحق أن الناقد المتأمل لا تخالجه ريبة في أن هذه الخطبة أحرى بها أن تعزى إلى الإمام، إذ ترى روحه واضحة جلية، فيها أسلوباً ومعنى وغرضاً، وكأني بالجاحظ يبغي أن يقول: إن الرواة نحلوها معاوية وهو يتشكك في صدق روايتهم هذه كما يلمح من قوله: (والله اعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم) ولكنه يتحرج من المجاهرة بذلك لأنه (إنما يكتب ويخبر بما سمعه).
أقول: ويؤيد ما احتملناه إسناد الوزير الآبى بعض الخطب إلى زيد الشهيد في حين أنها مسندة في النهج إلى جده الإمام عليه السلام، ويعتز سند الشريف الرضي بالمصادر القديمة لخطب النهج التي تروى هاتيك الخطب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فلا يكون إلقاء زيد الشهيد لها إلا ضرباً من الاقتفاء والاقتباس.
- الشبهة الثالثة: إن المجموع من خطبه (عليه السلام) يتضمن أنباء غيبية وأخبار الملاحم والفتن ممّا يختص علمه بالله وحده.
والجواب عنها أن الغيب يختص علمه بالله سبحانه ومن ارتضاهم من أنبيائه وأوليائه وكم حوت السنة النبوية أنباء غيبية وأخباراً عن الملاحم والفتن، وما ذلك عن النبي الكريم إلا بوحي من ربه العليم الخبير، كذلك لا ينطق ابن عمه وربيب حجره وصاحب سره في الملاحم والخفايا إلا بخبر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله). ولقد قيل له (عليه السلام): لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ فأجاب (عليه السلام): ليس هو بعلم غيب وإنما تعلم من ذي علم..
ولا غرو فقد ثبت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيه أنه قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) وقول علي (عليه السلام): لقد علمني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب.
فمن اختص من مهبط الوحي ومدينة العلم بمثل هذا الاختصاص لا يستغرب منه أن يملأ الكتب من أسرار الكائنات وكامنات الحوادث ولنعتزل عن خطبه المروية في النهج ونسلك آثاره المتواترة في التاريخ، فقد روى عه المؤرخون كالمسعودي في مروج الذهب وابن أبي الحديد في شرح النهج ص425 مجلد 1 وابن بطة في الإبانة وأبي داود في السنن، وغيرهم في غيرها أنه تنبأ بمصير الخوارج حينما أخبره الناس بأنهم عبروا النهر قال (عليه السلام): (لا يفلت منهم عشرة ولا يقتل منا عشرة) فكان الأمر كذلك. واستفاض عنه الخبر بمقتله وإنه سوف يخضب أشقاها هذه من هذه ـ وأشار بيده إلى لحيته وجبهته ـ وكان إذا رأى ابن ملجم قال:
أريد حياته ويريد قتلي **** عذيرك من خليلك من مراد
واستفاضت أنباؤه في توسع ملك بني أمية وبني العباس وخبره بمقتل الحسين في كربلاء(1).
وممّا يدلك على جواز مثله واستقاء هذه العلوم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خبر أم سلمة زوجة النبي بمقتل الحسين قبل وقوعه ـ كما رواه الترمذي في صحيحه. فإذا جاز لمثلها النبأ عن الحوادث المستقبلة واستقائها العلم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلم لا يجوز مثل ذلك من علي (عليه السلام) وهو عيبة علمه وصاحب سره الذي كان يسكن في ظله ويتحرك في ضوئه. هذا من ناحية الدين وأما من سواها فقد بلغتنا عن ساسة الأمم وحكمائها تنبؤات صادقة عن مصيرها في مسيرها، ونحن لا نمارى في ذلك مبدئياً فكيف نمارى في المنقول عن ابن عم الرسول (صلّى الله عليه وآله) وترجمان وحيه وخازن علمه؟
- الشبهة الرابعة: اشتمال خطب النهج على علوم تولدت في المجتمع الإسلامي بعد عصر الصحابة والتابعين ممّا يستبعد التحدث عنها قبلاً، كدقائق علم التوحيد وأبحاث الرؤية والعدل والتوسع في كيفية كلام الخالق وابتعاده عن صفات الجسم وكيفياته وتنزهه عن مجانسة مخلوقاته.
وأجاب عنها أحمد زكي صفوة المؤرخين في ص126 من كتابه علي ابن أبي طالب (عليه السلام) قائلاً: هل في فكر الإمام وحكمه نظريات فلسفية يعتاص على الباحث فهمها ويفتقر في درسها إلى كد ذهن وكدح خاطر، اللهم إلا أنهم حكم سائغة مرسلة تمتزج بالروح من أقرب طريق وتدب إلى القلب دون تعقل أو عناء، وليس أحد يمارى في أن إيراد العرب للحكمة البالغة وضربهم الأمثال الرائعة فطري فيهم معروف عنهم منذ جاهليتهم لما أوتوا من صفاء الذهن وانقاد الحرية وسرعة الخاطر وقد اشتهر منهم بذلك كثير قبل الإسلام أفتستكثر الحكمة السامية على علي (عليه السلام)؟ وهو من علمت سليل قريش الذين كانوا أفصح العرب لساناً وأعذبها بيناناً وأرقها لفظاً وأصفاها مزاجاً وألطفها ذوقاً! وقد قدمنا لك أنه ربي في بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) منذ حداثته فنشأ وشب في بيت النبوة ومهد الحكمة وينبوعها ولازم الرسول حتى مماته. وقد قال علي (عليه السلام) في بعض خطبه: (كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به) وكان من كبار كتاب وحيه وحفظ القرآن كله حفظاً جيداً وسمع الحديث الشريف ووعاه وتفقه في الدين حتى كان إماماً هادياً وعالماً عليماً، وفوق ذلك فأنت تعلم أن الشدائد ثقاف الأذهان وصقال العقول تفتق عن مكنون الحكمة وتستخرج عصيها، وقد مر بالإمام حين من عمره حافل بالشدائد ملئ بالعظائم والأهوال. وحسبه أن يحمل مع ابن عمه (صلّى الله عليه وآله) أعباء أمره ويبيته في فراشه ليلة هجرته متعارضاً لأذى المشركين الراصدين للرسول وإن يخوض غمار الحرب في كل غزواته ـ إلا واحد ـ ثم هو يقضي طول خلافته مذّ بويع إلى أن قُتل ـ أربع سنين وتسعة أشهر ـ في شجار ونضال وجلاد وكفاح تارة مع عائشة ومناصريها وأخرى مع معاوية وأشياعه ثم يبتلي بخلاف أصحابه عليه ويعاني من اختلاف مشاربهم وتباين أهوائهم وغريب شذوذهم وتحكمهم واعتسافهم ما يضيق عنه صدر الحليم ويند معه صبر الصبور. كل أولئك التجاريب والظروف قد حنكته وصفت من جوهر عقله وثقفت من حديد ذهنه وأمدته بفيض زاخر من الحكم الثاقبة والآراء الناضجة، وما العقل إلى التجربة والاختبار؟! وأخالك تذكر ما قدمناه لك آنفاً من أنه كان معروفاً بين الصحابة بأصالة الرأي وسداد الفكر، فكان بعض الخلفاء يفزع إلى مشورته إذا حز به أمر فيجيد الحز ويطبق الفصل. ولم يكن رضي الله عنه بالرجل الخامل الغمر بل كان من سادة القوم وعليتهم، وكان كل ما يجري من الشؤون السياسية في عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعهد الخلفاء السابقين له بمرأى منه ومسمع بل كان له في بعضها ضلع قوية وشأن خطير؛ هذا المران السياسي الطويل العهد ـ وهو خمس وثلاثون سنة من بدء الهجرة عدا ما تقدمها ـ أفاده شحذا في الذهن وثقوبا في الفكر فليس بمستنكر على مثل علي أن يكون حكيماً ـ انتهى كلامه.
وأما جوابنا عنها: فهو أن المتأخر أخذ عن المتقدم لأن المتأخر نسب إلى المتقدم، وبيان ذلك: إن علماء الإسلام المتأخرين إنما توسعوا في علومهم بعد ما تعمقوا في آيات التوحيد والمعارف القرآنية وما وصل إليهم من خطب علي (عليه السلام) وكلمه في أبواب التوحيد وشؤون العالم الربوبي، حتى أن الحجاج ألقى على علماء التابعين يوماً شبهة الجبر فرده كل منهم بكلام خاص انفرد به؛ فلما سألهم عن المأخذ قال كل منهم أنه أخذ ذلك عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال الحجاج: لقد جئتموها من عين صافية.
ولقد كان ابن عم رسول الله يفيض على أبناء عصره ومصره بعلوم النبوة ومعارف الدين العالية، إلا أن أكثرهم لم يكونوا ليفهموها بل كانوا يحملون هاتك الكلم الجامعة إلى من ولدوا بعدهم كما قيل: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه).
ونظير هذا آيات التوحيد والرؤية والكلام والعدل تلك الآيات التي تدبر فيها حكماء الإسلام في القرون المتأخرة وأظهروا معارفها العالية التي لم تخطر ببال أحد في عصر الصحابة.
وأوضح برهان لنا في المقام وجود جمل في خطب نهج البلاغة تنطق بحركة الأرض وتنطبق على أصول الهيئة الجديدة ومسائلها التي حدثت بعد الألف الهجري، كقوله (عليه السلام) في صفة الأرض: (فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها) وقوله (عليه السلام): (وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها) وكلنا نعلم أن الرأي القائل بتحرك الأرض مع سكونها الظاهر مستحدث من بعد (غالية) الإيطالي (وكوبرنيك) الألماني و(نيوتن) الإنكليزي، ورأى ثبوت الحركات العشر للأرض متأخر عنهم جداً. وكل هذه الآراء حادثة بعد انتشار شروح نهج البلاغة فضلاً عن النهج ـ الذي اشتهر أمره من قبلها فهل يسوغ لأمري، أن يشك في تأليف نهج البلاغة وشروحه بحجة أنها مشتملة على مسائل الهيئة المتأخرة عن الألف الهجري؟
- الشبهة الخامسة: اشتمال الخطب على اصطلاحات وجدت في القرون المتأخرة وعلى سبك حديث الطراز كقوله (عليه السلام): وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه.. الخ.
والجواب عنها يعرف ممّا سبق؛ فإنّما المتأخرين إنما توسعوا في معارفهم بعد العثور على هذه الحكم الجلائل واختاروا الاصطلاحات من قبيل الكيف والأين بعد ما استأنسوا بمبادئها في كلام الإمام (عليه السلام) لأن الكلام نسب إلى الإمام بعد ظهور هذه المصطلحات، بدليل أن أمثال هذه المبادئ مستفيضة في أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) وفي كلام فصحاء العرب الأوائل ولا يعز المتتبع وافره؛ وأي عاقل يستطيع أن يصوغ هذه الجمل ثم ينسبها إلى غيره؟ ولو كان أحد ينسب إلى الإمام شيئاً من المصطلحات بعد تاريخ حدوثها لجاءت في خطبه كلمة الماهية المنحوتة من (ما هي)، واللمية المنحوتة من (لم)، والإنية المنحوتة من (إنه)، والهيولى المنحوتة من (هي الأولى) وأمثال ذلك من مصطلحات حكماء الإسلام. في حين أن النهج كله خلو عن كل هذا.
ونظير هذا قول أبي نؤاس (كأن صغرى وكبرى من فوافقها) الذي يظن فيه سامعه لأول وهلة أنه أخذ عن المنطقيين مصطلحهم في صغرى وكبرى القياس، في حين أن اصطلاح متأخر عنه جداً ولا يستلزم تأخره نفى ذلك الشعر المتقدم. ومثل هذا غير عزيز على من طلبه.
ومن الغريب استغراب بعضهم في كلام الإمام استنتاجه الجمل متفرعة بعضها من بعض كقوله (عليه السلام): فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه... الخ، يحسب أن ترتيب الكلام على شاكلة القياس المؤلف من صغراه وكبراه غير مألوف من العرب في حين أن هذا الحسبان قدح في الأدب العربي من حيث لا يقصد؛ ومعناه أن نظم القياس المعقول قصى عن الذوق العربي. وهذا شيء لا نقبله والعرب هم الأقربون إلى القياس المنقول بفطرتهم وكم له نظير في الكتاب والسنة؟ قال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) وروى البخاري في صحيحه عنه (صلّى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله) فإذا ورد في أفصح الكلم نظم القياس وتفريغ الجمل فهل يستغرب من حفظة القرآن أن يتوسعوا في نظم الأقيسة الاقترانية والاستثنائية في أساليب حديثهم؟
ولقد قطعنا جهيزة كل خطيب بأن المسانيد المشهّرة إذا حوت خطبة للإمام بأسانيد معتبرة فغير جدير الإصغاء إلى أمثال هذه الشبهات الضعيفة.
[align=center]--- مؤلف نهج البلاغة وغرضه الشريف[/align]
إن مجموع نهج البلاغة عقد في الأدب ثمين، ينبوع للعلم غزير المادة لا ينبغي أن يستخف بوزنه لمجرد تعصب أشخاص أو طوائف ضعيفة المركز لا تعرف ثمن الحكمة ولا تلتفت إلى العواقب، قام في عصره سيد الشعراء بلا مراء ألا وهو الشريف الرضي فسن لنهضة النشؤ العربي نهج البلاغة واختار من مختار كلام أمير البلاغة، وإمام الإنشاء مجموعة وافية بالغرض وثق من إسنادها وهو الثقة عند الجميع.
فكتاب نهج البلاغة المنوه عنه المنتشر في دواوين الأدباء وأندية العلماء فلا ينبغي الشك في أنه من جمع الشريف الرضي محمد بن الحسين ذي الحسبين المتوفى سنة 406. ونسبة الكتاب إليه مشهورة وأسانيد شيوخنا في أجازاتهم متواترة ونسخة عصر الشريف موجودة والتي وشحت بخطه الشريف مشهورة وعليه فكلما في مجموعة نهج البلاغة هو من جمع الشريف الرضي محمد بن الحسين بلاء مراء.
أما نسبة انتحال الشريف الرضي جامع نهج البلاغة خطبة أو كلمة إلى سيدنا الإمام علي (عليه السلام) وتعمده الكذب عليه بأي دافع من الدوافع منشئ لا يسع أهل العلم والعرفاء بحال الرضي أن يقبلوه، لأن نزاهة الشريف الرضي معلومة وعفته مشهورة وزهده ثابت وورعه معروف.
إذن فما الذي دفع الشريف الرضي إلى تجشم التأليف؟ نعم، كان الرضي في بداية أمره مولعاً بأساليب البلاغة شغفاً في صنعتي الإنشاء والكتابة ينتقي من جوامع الكلم أبلغها، ويختار من أحاسن الإنشاء أبدعها ليعينه حفظ ما جمع على كماله في صناعة الإنشاء وبراعته في فن الخطابة والكتابة، شأن المشتغلين بالأدب في كل عصر ومصر. هذا ولا غيره حمل الشريف الرضي على تدوين الخطب والكتب والكلم المأثورة عن أمير البلغاء وإمام الفصحاء، الإمام علي (عليه السلام)، ولو كان يجمع بغرض فقهي أو غاية مذهبية لا ورد كثيراً من الخطب بأسانيدها المستفيضة. وليس الرضي مخطئاً في سلوك هذا المذهب في الأدب لأننا شاهدنا جماهير العرب والعجم والشرقيين والمستشرقين ممن يتطلبون بلاغة اللسان وبراعة القلم يستظهرون نهج البلاغة لما فيه من فصاحة بانسجام وبلاغة خالية من كل تعقيد أو تكلف.
وليس الرضي بدعاً من الرسل ولا بأول سالك نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا بأول من استضاء نبراسه، فقد سبقته قوافل من رواد العبقرية الإنشائية مسترشدين بكلم علي (عليه السلام) وخطبه وكتبه.
فهذا ابن نباتة يقول: حفظت من الخطب كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي ابن أبي طالب.
وكم زين الجاحظ كتبه مثل البيان والتبيين بفصول من خطب أمير المؤمنين إعجاباً بها وإعداداً للنفوس لبلوغ أقصى البلاغة.
هذه غاية الأدباء في حفظ كلامه وهذا ما حمل الشريف الرضي على جمع المختار من خطب الإمام علي (عليه السلام).
..........................................
الهوامش:
1- راجع، ص208، من المجلد الأول لشرح ابن أبي الحديد على النهج، ففيه جمع من الروايات في أخباره (عليه السلام) عن المغيبات، وكذا، ص425 منه.
-
[align=center]الفصاحة والجمال[/align]
لا تحتاج هذه الميزة في نهج البلاغة إلى التوضيح لمن كان عارفاً بفنون الكلام وجمال الكلمة، فإن الجمال يدرك ويوصف. إن لنهج البلاغة اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده نفس الحلاوة واللطف الذي كان فيه للناس على عهده، ولسنا نحن الآن في مقام إثبات هذا الكلام، ولكنا - بمناسبة البحث - نورد هنا كلاماً في مدى نفوذ كلامه (عليه السلام) في القلوب، وتأثيره في تحريك العواطف والأحاسيس، والمستمر من لدن عهده إلى اليوم، مع كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق. ولنبدأ بعهده.
لقد كان أصحابه (عليه السلام) - خصوصاً من كان منهم عارفاً بفنون الكلام - مغرمين بكلامه، منهم (ابن عباس) الذي كان - كما ذكر الجاحظ في (البيان والتبيين) - من الخطباء الأقوياء على الكلام (1) فإنه لم يكن يكتم عن غيره شوقه إلى استماع كلامه والتذاذه بكلماته (عليه السلام)، حتى أنه حينما أنشأ الإمام خطبته المعروفة بـ(الشقشقية) كان حاضراً فقام إلى الإمام (عليه السلام) رجل من أهل السواد - أي العراق - وناوله كتاباً، فقطع بذلك كلام الإمام، فقال ابن عباس: (يا أمير المؤمنين! لو اطّردت خطبتك من حيث أفضيت) فقال (عليه السلام): (هيهات! إنها شقشقة هدرت، ثم قرّت) ولم يطرد في كلامه ذاك، فكان ابن عباس يقول: (والله ما ندمت على شيء كما ندمت على قطعه هذا الكلام).
وكان يقول في كتاب بعث به إليه الإمام (عليه السلام): (ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كانتفاعي بهذا الكلام)(2).
وكان معاوية بن أبي سفيان - وهو ألد أعدائه - معترفاً بفصاحة وجمال أسلوبه:
فقد أدبر محقن بن أبي محقن عن الإمام (عليه السلام) وأقبل على معاوية وقال له - وهو يريد أن يفرح قلبه الفائر بالحقد على الإمام (عليه السلام) -: جئتك من عند أعيا الناس!
وكان هذا التملق من القبح بمكان لم يقبله حتى معاوية، فقال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس؟! فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره!
..........................................
الهوامش:
1- البيان والتبيين، ج1، ص230.
2- نهج البلاغة، الرسائل، رقم22، ص140، ج15، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.
-
[align=center] النفوذ والتأثير[/align]
كان الذين يجلسون إلى منبره فيستمعون إليه يتأثرون بكلامه كثيراً، إذ كانت مواعظه تهز القلوب وتسبل الدموع. والآن أيضاً من ذا يسمع وعظه أو يقرأه فلا يهز له؟ وهذا السيد الرضي (رحمه الله) يقول بعد نقله الخطبة المعروفة بالغراء(1):
وفي الخبر: (أنه (عليه السلام) لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، وبكت العيون، ورجفت القلوب. ومن الناس من يسمي هذه الخطبة: الغراء).
وكان همام بن شريح من أصحابه (عليه السلام) من أولياء الله وأحبائه متيّم القلب بذكره، فطلب من الإمام (عليه السلام) بإصرار أن يرسم له صورة كاملة للمتقين، وكان الإمام (عليه السلام) يخاف عليه أن لا يتحمل سماع كلماته، فاقتصر على جمل مختصرة إذ قال:
(اتق الله يا همام وأحسن، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
ولكن لم يقنع بهذا همام بل ازداد شوقه إلى كلامه (عليه السلام) أواراً وضرماً، فأصرّ عليه أكثر من ذي قبل حتى أقسم عليه! فبدأ الإمام (عليه السلام) خطبة عد فيها (105) من أوصاف المتقين (2). وكلما أدام الإمام كلامه وصعد في صفات المتقين ازداد اضطراب نفس همام كأنها طير يحاول أن يكسر قفصه فيخرج منه؟ وفجأة قرعت أسماع الحاضرين صرخة مهولة جلبت أنظارهم إلى صوب همام ولم يكن الصارخ سوى همام، فلما وقفوا عليه رأوا أن روحه قد خرجت من جسمه إلى رحمة الله ورضوانه. فقال الإمام (عليه السلام): (أما والله لقد كنت أخافها عليه. ثم قال: هكذا تفعل المواعظ البليغة بأهلها).
نعم، هكذا كان أثر نفوذ كلام الإمام (عليه السلام) في نفوس سامعيه.
.......................................
الهوامش:
1- الخطبة 82، ص241-276، ج6 من شرح النهج لابن أبي الحديد، بتحقيق محمد أبو الفل.
2- الخطبة، 186، ص132-149، ج1، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفل.
-
[align=center] قالوا فيه[/align]
كان علي (عليه السلام) هو الشخص الوحيد الذي اهتم الناس بحفظ كلماته (عليه السلام) وضبطها في بطون الصحائف والقلوب.
فهذا ابن أبي الحديد ينقل لنا عن الكاتب عبد الحميد بن يحيى (1) الذي كان يضرب به المثل في الكتابة والخطابة في أوائل القرن الثاني الهجري، أنه كان يقول: (حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت)!
وينقل الدكتور علي الجندي: أن عبد الحميد سئل: أنى لك هذه البلاغة فقال: (حفظ كلام الأصلع) (2).
وكان عبد الرحيم بن نباتة وهو الذي كان يضرب به المثل في خطباء العرب في العهد الإسلامي، يعترف بأنه إنما أخذ ماله من ذوق وفكر وأدب عن الإمام (عليه السلام) ويقول - على ما نقله ابن أبي الحديد في مقدمته لشرح النهج -: (حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب (عليه السلام)).
وكان الجاحظ - وهو الأديب العارف بالكلام وفنونه، والذي يعد نابغة في الأدب في أوائل القرن الثالث الهجري، ويعدّ كتابه (البيان والتبيين) أحد أركان الأدب الأربعة (3) - يكرر في كتابه الإعجاب والثناء على كلام الإمام (عليه السلام).
ويبدو من كلامه انتشار كلمات كثيرة عن الإمام (عليه السلام) بين الناس على عهده.
ينقل الجاحظ في الجز الأول من (البيان والتبيين) (4) آراء الناس في الثناء على السكوت وذم كثرة الكلام، فيعلق عليها يقول: (الإسهاب المستقبح هو التكلف والخطل المتزايد، ولو كان هذا كما يقولون لكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس أكثر الناس فيما ذكروا).
وفي نفس الجزء الأول ينقل هذه الكلمة المعروفة عن الإمام (عليه السلام): (قيمة كل امرئ ما يحسنه) ثم يثني على هذه الجملة ما يبلغ نصف صفحة الكتاب ويقول:
(فلو لم نقف من كتابنا هذا إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية وغير مقصرة عن الغاية. وكأن الله عزّ وجلّ قد ألبسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله).
وللسيد الشريف الرضي (رحمه الله) جملة معروفة في وصف كلام الإمام (عليه السلام) والثناء عليه، يقول:
(كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مَشْرَعَ الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وقد تقدم وتأخروا، لأن كلامه (عليه السلام) الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي) (5).
وكان ابن أبي الحديد من علماء المعتزلة في القرن السابع الهجري، أديباً ماهراً وشاعراً بليغاً. وهو كما نعلم مغرم بكلام الإمام (عليه السلام) مكرراً إعجابه به في كتابه ومقدمته:
(وأما الفصاحة: فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة... وحسبك أنه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر ممّا دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه) (6).
وفي الجزء السادس عشر من شرحه عند شرحه رسالة الإمام (عليه السلام) إلى ابن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر واغتصاب مصر بيد أصحاب معاوية، إذ يكتب إليه إلى البصرة يخبره بالخبر، يقول:
(انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها وتملكه زمامها، وعجب لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضاً كيف تؤاتيه وتطاوعه سلسة سهلة، تتدفق من غير تعسف ولا تكلف... فسبحان الله من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة! أن يكون غلام من أبناء عرب مكة ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو، ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية - لأن قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك - وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط، ولم يُرب بين الشجعان - لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة ولم يكونوا ذوي حرب - وخرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض، قيل لخلف الأحمر: أيما أشجع: عنبسة وبسطام أم علي بن أبي طالب؟ فقال: إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر والناس، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة! فقيل له: فعلى كل حال؟ قال: والله لو صاح في وجهيهما لماتا قبل أن يحمل عليهما. وخرج أفصح من سحبان وقُس، ولم تكن قريش بأفصح العرب، كان غيرها أفصح منها، قالوا: أفصح العرب جُرهُمْ وإن لم تكن لهم نباهة. وخرج أزهد الناس في الدنيا وأعفهم، مع أن قريشاً ذوو حرص ومحبة للدنيا. ولا غرو فيمن كان محمد (صلّى الله عليه وآله) مربيه ومخرجه، والعناية الإلهية تمده وترفده: أن يكون منه ما كان) (7).
..................................................
الهوامش:
1- كان كاتباً لمروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، وهو شيخ ابن المقفع لعالم والكاتب الشهير في الدولة العباسية. وقد قيل فيه: بدأت الكتابة بعبد الحميد واختتمت بابن لعميد، وزير البويهيين.
2- الأصلع: من انحسر شعر مقدم رأسه - فعبد الحميد مع اعترافه بكلامه هذا بفضل الإمام (عليه السلام) وكماله، يذكر الإمام بنبز اللقب وذلك بحكم انتمائه إلى بني أمية!
3- والأركان الثلاثة الأخرى هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والنوادر لابن علي الفالي، ابن خلدون.
4- البيان والتبيين، ص202.
5- ص45، ج1، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.
6- مقدمته، ج1، ص24، ط أبو الفضل.
7- شرح النهج لابن أبي الحديد، ج16، ص147، ط الحلبي.
-
[align=center] نـهـج الـبـلاغــة ومجتمعنا اليوم[/align]
لقد تبدلت الألوان في هذا العالم اليوم عما كانت عليه منذ أربعة عشر قرناً، وتطورت المعارف والثقافات وتغيرت الأذواق. فقد يزعم الواهم أن المعارف والأذواق القديمة كانت تتقبل مقال الإمام (عليه السلام) وتخضع له، أما الأفكار والأذواق الحديثة فهي تحكم بغير ذلك! ولكن يجب علينا أن نعلم: أن مقال الإمام (عليه السلام) سواء من حيث اللفظ أو المعنى لا يتحدد بالزمان والمكان، بل هو عالمي وإنساني ما بقي الإنسان إنساناً في العالم، وسنبحث نحن في هذا الشأن فيما بعد، ولكنا كما سردنا بعض ما قالوه في مقاله (عليه السلام) في القديم نعكس الآن هنا قليلاً ممّا قال فيه ذوو الأنظار والأفكار في عصرنا هذا أيضاً.
كان الشيخ محمد عبده المفتي الأسبق للديار المصرية - ممن قرّبته الصدفة حين ابتعاده عن الوطن من معرفة (نهج البلاغة) وجرّته هذه المعرفة إلى الشوق، إلى أن يشرح هذه الصحيفة المقدسة وينشرها بشرحه بين شباب أمته. إنه يقول في مقدمته لشرحه: (وبعد، فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمّل، أصبته على تغير حال وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال...) (1).
والدكتور علي الجنيد رئيس كلية العلوم بجامعة القاهرة في مقدمة كتاب (علي بن أبي طالب، شعره وحكمه) كتب عن نثر الإمام (عليه السلام) يقول:
(في هذا الكلام موسيقى موقعة تأخذ القلب أخذاً وفيه من السجع المنتظم ما يصوغه شعراً).
ثم ينقل عن قدامة بن جعفر أنه كان يقول: (جلت طائفة في القصار وطائفة في الطوال، أما علي فقد بزّ أهل الكلام جميعاً في القصار والطوال وفي سائر الفضائل).
وينقل الدكتور طه حسين الأديب والكاتب المصري الشهير في كتابه (علي وبنوه) خبر الرجل الذي تردد في يوم الجمل في أمر علي (عليه السلام) وطلحة والزبير وعائشة، يقول في نفسه: كيف يمكن أن يكون مثل طلحة والزبير وعائشة على الخطأ؟! وشكا شكه ذلك إلى الإمام علي (عليه السلام) وسأله: أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟
فقال (عليه السلام): (إنك لمبلوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله).
- يعني: إنك في ضلال بعيد، إذ أنك قلبت في قلبك بشكك هذا مقاييس الأمور، فبدل أن تجعل الحق والباطل مقياساً لعظمة الأفراد وحقارتهم، جعلت العظمة المزعومة مقياساً لمعرفة الحق والباطل! أردت أن تعرف الحق بمعرفة أقدار الرجال! كلا، بل أقلب هذا المقياس، فابدأ بمعرفة الحق وحينئذ تعرف أهله، واعرف الباطل وحينئذ تعرف أهله، وحينئذ لا تبالي من يكون إلى جانب الحق أو الباطل، ولا ترتاب من أقدار الرجال.
وبعد أن ينقل الأستاذ هذه الكلمات عن الإمام (عليه السلام) يقول:
(ما أعرف جواباً أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحداً مهما تكن منزلته ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته بعد أن سكت الوصي وانقطع خبر السماء).
وأمير البيان شكيب أرسلان، من كتاب العرب المعروفين في هذا العصر، يتفق في الحفل الذي أقيم تكريماً له في مصر أن يرقى أحد الحاضرين المنصة ويقول فيما يقول:
(رجلان في التاريخ يستحقان أن يلقبا بلقب: أمير البيان: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وشكيب أرسلان)!
فيقوم شكيب أرسلان من مجلسه غاضباً ويذهب إلى المنصة فيعتب على صديقه الذي عمل هذه المقارنة بينه وبين الإمام (عليه السلام) ويقول:
(أين أنا وأين علي بن أبي طالب! أنا لا أعد نفسي شسع نعل لعلي (عليه السلام)) (2)!
وكتب ميخائيل نعيمة الكاتب اللبناني المسيحي المعاصر في مقدمة كتاب (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) لجورج جرداق، يقول:
بطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء رأيه، وطهارة وجدانه. وسر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبّده للحق أينما تجلى له الحق.
ولا نطيل أكثر من هذا بنقل ثناء الناس على كلام الإمام (عليه السلام)، ونختمه بكلمة منه في هذا الموضوع:
قام يوماً أحد أصحاب الإمام (عليه السلام) ليتكلم، فتلجلج وأعيى! فقال الإمام (عليه السلام):
(ألا وإن اللسان بضعة من الإنسان فلا يسعده القول إذا امتنع ولا يمهله النطق إذا اتسع. وإنّا لأمراء الكلام وفينا تنشّبت عروقه وعلينا تهدّلت غصونه).
وينقل الجاحظ في (البيان والتبيين) (3) عن عبد الله بن الحسن (المحض) بن الحسن بن علي عن الإمام (عليه السلام) أنه قال:
(خصصنا بخمس: خصاصة وصباحة، وسماحة، ونجدة، وحظوة).
................................................
الهوامش:
1- مقدمة عبده، ص1، وبهامشه: يقال: كان ذلك حين كان الأستاذ الإمام منفياً في بيروت.
2- نقل هذا الخبر العالم المعاصر الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية العاملي في الحفل الذي أقيم تكريماً له في مدينة مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) قبل عدة أعوام.
3- البيان والتبيين، ج2، ص99.
-
[align=center] الشمول والاستيعاب في مختلف الميادين[/align]
من المميزات السامية في كلمات الإمام (عليه السلام) المجموعة باسم (نهج البلاغة) والتي هي بين أيدينا اليوم: أنها لا تحدّد بصعيد واحد، فإنه (عليه السلام) لم يكن فارس الحلبة في ساحة واحدة، بل أنه صال وجال ببيانه في ميادين مختلفة لا يجتمع بعضها مع الآخر في الرجل الواحد. إن نهج البلاغة عبقرية ولكنها ليست عبقرية واحدة في موضوع واحد كالموعظة مثلاً أو الحماسة فقط، بل في أصعدة مختلفة سنشرحها فيما يأتي.
أن تكون كلمة من العبقريات في موضوع واحد ليست كثيراً ولكنها توجد على أي حال. أو أن تكون الكلمات في مختلف الموضوعات ولكنها عادية من دون عبقرية أيضاً كثيرة. ما أن تكون الكلمات من العبقريات ومع ذلك لا تكون محدودة بصعيد واحد فتلك من خصائص (نهج البلاغة) فقط.
طبعاً إذا تجاوزنا عن القرآن الكريم - الذي هو كتاب من نوع آخر - فأي كتاب آخر نستطيع أن نجده متنوعاً في العبقريات البلاغية على مدى ما في (نهج البلاغة)؟!
إن الكلمة مرآة الروح الإنسانية، ولذلك فإن كل كلمة تتعلق بنفس العالم الذي يرتبط به روح صاحبها، فالكلمات التي تتعلق بعوالم عديدة تكون علامة على ذلك الروح الذي لم ينحصر في عالم واحد. وحيث أن روح الإمام (عليه السلام) لا تتحدد بعالم خاص بل هو ذلك الإنسان الكامل الجامع لجميع مراتب الإنسانية والروحية والمعنوية، فلا تختص كلماته أيضاً بعالم واحد. إن من مميزات كلاما الإمام (عليه السلام) أنه ذا أبعادٍ متعددة وليس ذا بعد واحد.
وإن هذه الخصيصة: خصيصة الشمول والاستيعاب في كلام الإمام (عليه السلام) ليس ممّا اكتشف حديثاً، بل هو أمر كان يبعث على العجب منذ أكثر من ألف عام، فهذا السيد الشريف الرضي (رحمه الله) الذي هو من علماء الإمامية في المائة الرابعة أي قبل ألف سنة، يلتفت إلى هذه النقطة فيعجب بها ويقول:
(ومن عجائبه التي انفرد بها: إن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المفكر، وخلع من قلبه: أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلا حسّه ولا يرى إلا نفسه. ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطّ الرقاب ويجدل الأبطال ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال! وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات. وكثيراً ما أذاكر الإخوان بها واستخرج عجبهم منها. وهي موضع العبرة بها والفكر فيها) (1).
وقد أعجب الشيخ محمد عبده بهذا أيضاً، حيث أن القارئ في نهج البلاغة يسير به في عوالم عديدة وقد أبدى إعجابه بهذا في مقدمته فقال:
(فتصفحت بعض صفحاتهن وتأملت جملاً من عباراته، من مواضع مختلفات، ومواضع متفرقات، فكان يخيّل لي في كل مقام أن حروباً شبّت وغارات شنّت، وأن للبلاغة دولة وللفصاحة صولة.. وأن مدبّر تلك الدولة وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد وتحول المعاهد) (2).
وقال صفي الدين الحلي - المتوفى في القرن الثامن الهجري - بهذا الصدد:
جمــــعت فـــي صفاتك الأضداد ولهـــــذا عـــــزت لك الأنــــداد
زاهد حاكم! حلــــيم شــــــجاع! فاتـــك ناســـــك! فقـــير جواد!
شيم ما جمــعن فـــــي بشر قط ولا حــــاز مثــــلــهن العـــــبادُ
خلق يخــــجلُ النسـيم من اللطـ ـف وبأس يــــذوب مـنه الجماد
جل معــــناك أن يحيط به الشعـ ـر ويحصـي صفاتك النقاد(3)
وبعد كل هذا نقطة أخرى وهي: أن الإمام (عليه السلام) مع أنه إنما تكلم حول المعاني الحقة والواقعية بلغ ببلاغته الرائعة أوج العظمة والكمال! إن الإمام (عليه السلام) لم يتكلم في الفخر أو الخمر أو الشعر وهي ساحات واسعة للخيال وللوصف الفصيح، ولم يقل ما قاله ليكون مقالاً جميلاً يضرب به الأمثال فيبدي بذلك مهارته الفنية في الكلام، كلا، إذ لم يكن الكلام هدفاً له بل وسيلة إلى أهدافه، إنه لم يرد أن يخلف لنا بمقاله أثراً فنياً أو يبدي عبقرية أدبية. وأكثر من هذا، إن كلامه عام غير محدود بحدود الزمان أو المكان أو الأشخاص بشكل خاص، بل هو يخاطب (الإنسان) ولذلك فكلامه لا يعرف حداً للزمان أو المكان.. وكل هذه الأمور ممّا يقيّد القائل ويضيّق موضوع مقاله.
إن العمدة في الإعجاز اللفظي للقرآن الكريم هي: أن الفصاحة والجمال فيه ممّا أعجز الإنسان العربي، مع أن موضوع مطالبه كان يغاير الكلام المتداول في عصره، متعلقاً بعالم آخر غير هذا العالم، ومع ذلك أصبح مفتتح عهد جديد للأدب في العرب بل العالم. وقد تأثر به (نهج البلاغة) في هذه الناحية أيضاً كسائر الخصائص والصفات، فهو في الحقيقة وليد القرآن الكريم ومن كلمات علي (عليه السلام) وليد البيت العظيم - الكعبة المعظمة -.
..................................................
الهوامش:
1- شرح النهج لابن أبي الحديد، ج1، ص49.
2- مقدمة عبده، ص10.
3- ديوان صفي الدين الحلي، حرف الدال.
-
[align=center] تأملات في أدب نـــهــج البـلاغـة[/align]
عباقرة الأمم الذين يصنعون تاريخها هم عظماؤها وأنبياؤها الرساليون لا مشاهيرها.. هؤلاء الذين يسيطرون على مقدراتها في ظروف مواتية وفي غفلة من الزمن.. وقد تسجل ذاكرة التاريخ أدوارهم المصيرية التي لعبوها على مسرح السياسة أو في حومات الوغى. ولكن هؤلاء لا يخلدون في ذراري الأمة خلود أولئك العظماء.. ولا يمكن أن ينقلبوا في أفئدة الأجيال إيماناً وعلى شفاههم حداء وأمام أعينهم مثالاً ولعقولهم غذاء.
فالاسكندر لم يخلد كفاتح شهير بل كعبقري حكيم وتلميذ فيلسوف عظيم، ونابليون لم يتغنّ به الفرنسيون لأنه قاهر الأمم وغازي الأرض بل يتغنون به - والنخبة منهم على الأخص - لأنه عظيم من عظماء التشريع وأديب ومفكر في ثوب قائد.. ولعل شهرته كقائد قد أساءت إلى عظمته كمتشرّع وعالم.. وهذه هي ضريبة العظمة في العظيم حين يجمع في شخصه أكثر من موهبة وإلى أعماله أكثر من أثر.. وهذا هو خطأ التاريخ حين يركز على الشهير في العظيم لا على العظيم في الشهير..
وابن أبي طالب من هذا النوع من عباقرة التاريخ الذين أسيء إليهم عن قصد أو غير قصد حين أكثروا من الحديث عن حروبهم وسياساتهم وظواهر تصرفاتهم.. ولم ينظروا إليهم كمصلحين كبار وخطباء هادفين ومفكرين عظماء.. وابن أبي طالب على براعته وصواب رأيه في كل هذه المجالات أبرع وأصوب وأخلد في مجال الفكر والإيمان، والتعبير المثير عن معطياتهما في الخطبة أو المثل أو جوامع الكلم (وهو ما نسميه اليوم بقوننة الفكر..).
وعظمة علي لا تكمن في كونه خطيباً بليغاً وحسب بل في كونه أكثر من خطيب وأكثر من بليغ.
وهؤلاء خطباء الإسلام بعد النبي كسحبان وائل وغيرهم.. كانوا خطباء مفوهين وأسياد منابر مشهورين وبلغاء معدودين.. ولكنهم لم يكونوا أكثر من ذلك.. ومن هنا يختلفون في ميزان العظمة مع الإمام علي فهو إلى جانب تفوقه كخطيب بليغ وخير من اعتلى منبراً بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، يمتاز بأنه رجل فكر وتأمل وروحانية وإيمان صميمي ينبع من شلال العقيدة الإسلامية الذي ينهمر في كيانه انهماراً بهياً صافياً وفي بيانه ألقاً روحيا راقياً..
ثم هو رجل أدب.. وبهذا أيضاً يختلف عن كثير من عظماء التاريخ ومصلحي الأمم الذين لم يكونوا أدباء أو متذوقي أدب إلا نفراً منهم..
- يقول جورج جرداق في كتابه الموسوم (علي وسقراط):
فنظرة واحدة إلى الأنبياء مثلاً تكفي لتقرير هذه الظاهرة (ظاهرة وجود الحس الأدبي عند العظماء، في الأذهان). فما داود وسليمان وأشعيا وارميا وأيوب والمسيح والنبي محمد (صلى الله عليه وآله) إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب. وهذا نابليون القائد وأدوار هريو السياسي، وأفلاطون الفيلسوف القائد وباسكال الرياضي وجواهر نهرو رجل الدولة والفكر وباستور العالم الطبيعي وجمال الدين الأفغاني المصلح الاجتماعي إنهم جميعاً أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصاف ذوي الشأن من أهله..
إلى أن يقول: هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإذا هو الإمام في الأدب وسر البلاغة، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علم وهدى...
ولا عجب فالإمام ربيب بيت النبوة ومهبط الوحي والتنزيل وأقرب الحواريين إلى الرسول الأعظم وأول المؤمنين به منهم.. فلابد أن يمسح فكره بقبس من فكر النبي، وأن يتأدب بأدب النبي، وأن تصبح خطبه فلذات من كبد الحقيقة، وآيات من وحي الحديث والسيرة، وقطعاً من سر القرآن وسحره..
وهنا لا عجب إن قلنا أنه خطيب لا كالخطباء وأديب لا كالأدباء سيرة وثقافة والتزاماً وروعة كلم.. الأمر الذي يجعلنا نرى فرقاً شاسعاً وبونا بعيداً بينه وبين من سبقه وعاصره وجاء بعده من خطباء ما عدا النبي الذي تتلمذ الإمام علي على يديه.
فهذه خطب الجاهلية يأخذ الإمام منها شاعريتها وخيالها وصورها وفطرتها السليمة ثم يضيف إليها البيان الإسلامي المهذب والمنطق القوي والموضوعية الهادفة.
وهذه هي الخطبة الإسلامية مبتسرة تكاد تكون ديوانية رسمية أو جمعية روتينية على ما فيها من الإيمان والحرارة والقوة.. ثم هي عند خطباء الوفود والمحافل تزلفية مهادنة متقطعة الأنفاس رغم بلاغتها الأسلوبية.. لذا فهي متكلفة الموضوع إن لم تكن مستأجرة الأسلوب والغاية.. فالإمام بإجماع الباحثين رائد البلغاء في عصره حتى وبعد عصره.. وكل من عاصره كان عيالاً على نبعتين قريشيتين ثرتين.. النبعة المحمدية والنبعة العلوية.. أضف إلى النشأة والسيرة والبيئة ونوع الثقافة الخصائص العلوية الذاتية التي تكاد تقف وحدها في مجال الأخلاق والذوق والذكاء والعمق والشمولية وقوة التأمل والسبر.. تقف لتؤلف شخصية عجيبة خصبة معطاء.. شخصية تلتحم فيها مزايا الفارس والبطل إلى مزايا المصلح والأديب والخطيب الرباني الملتزم في هندسة نفسية وذهنية وفنية رائعة.
من هنا كانت عالمية ابن أبي طالب وتخطيه حدود الزمان والمكان بحيث أصبح موضوعاً خصباً للباحثين العالميين غربيين وشرقيين ومستشرقين.. لما في تلك الشخصية الفريدة من مزايا خارقة ومواهب لا حصر لها.
فليس يكفي الخطيب أن يكون مؤثراً في النفوس بل موجهاً ومحترماً لهذه النفوس.. ليس يكفي - كما في الخطبة السياسية والعسكرية - أن تتخلع القلوب خوفاً وفرقاً أو تنخدع النفوس وتهيم في ضلالات الخطيب بل عليه إن كان خطيباً حقاً وصدقاً أن يعطي من نفسه وسيرته النموذج وأن يهدي الناس بسحر أفعاله قبل سحر أقواله.. وها نحن - أخيراً - نسجل للإمام خلاصة ما تميز به من خصائص أدبية وخطابية مكتفين بالبارز منها..
أ - التدفق التعبيري المناسب، المتصاعد تمتمات علوية وصلوات حيدرية هامسة.
ب - التسلسل المنطقي والموضوعية المنهجية المتماسكة، فإذا كل جملة لا يستقيم البحث بدونها، وإذا الموضوع برمته بنيان مرصوص أو فلذة من الفلذات الكيانية النابضة بالحياة..
ج - الفخامة في اللفظ والاندياح في الخيال. خطبه الوصفية (الطاووس والنملة والجرادة والخفاش)... وشي من الوشي وتهاويل وألوان وأصباغ..
د - التأمل النبوي والافتراض الحدسي الصافي حتى لكأن المستقبل رهن يديه.. أو هو يرى ما لا يرى، بعين البديهة الصافية ومرآة الذهن البلورية وزخم الألق الروحي المخزون في أعمق قرارات نفسه..
هـ - وعقل الإمام خزان وأفكار.. فإذا تكلم انثالت المعاني في حشد هائل ولكن على غير تراكم أو اكتظاظ.. فهو يمضي متدفق التفكير والتعبير في إطار هندسي واضح الزوايا والخطوط.. وسواء ارتجل الإمام أو كتب فهو هو: شلال أفكار وينبوع صور..
و - أما في وصاياه ورسائله فهو غيره في خطبة ونجاواه من حيث الإيجاز وضغط الموضوع في كلام موهوب موجز معجز في إيجازه.. ولعل ذلك قبس من الأسلوب المحمدي الذي كان يميل - في التبليغ - إلى الاجتزاء والتركيز القرآنيين (كما في السور المكية خاصة).
ز - والخطبة العلوية، قبل كل شيء تأتي دائماً عفو الخاطر لا تتهيب المناسبة، مهما حملت من عنصر المفاجأة.. فإن حملت عنصر الفاجعة حمل الإمام وسائل العقل والمنطق في مجابهتها مجابهة ربانية رحمانية مستسلمة استسلاماً إيمانياً لمشيئة مدبر الكون.. وإن لم تحمل عنصر المفاجأة، فاجأ الإمام الناس بالموضوعية الهادفة والعقل القادر.
ح - ومن شمول الألمعية العلوية أنها لا تقتصر على الوعظ والإرشاد والتوجيه بل تروح في لهجة الواثق ولهفة العطف الأبوي الإنساني الغزير تدستر مناهج الإصلاح وتقونن الأخلاق والمعاملات.. ثم لا يفوتها أن تصف طبائع الإنسان والحيوان ومظاهر الكون والوجود ونشأة العوالم.
فمن الرعد والبرق والأرض والسماء، إلى الخفاش والنملة والجرادة والطاووس.. كل ذلك في فلسفة إشراقية إسلامية واعية لينتهي إلى إبراز روائع الخالق في ما خلق وعظيم قدرته في ما أبدع.. مما يندر وجوده في الأدب العربي وبهذا الإطار الفني المدهش.. وإذا كان الجاحظ والمسعودي والقزويني والتوحيدي وأمثالهم قد وصفوا الإنسان والحيوان والعوالم فإنهم كانوا – ولا شك - غيضاً من فيض الإمام وبأساليب علمية جافة وعواطف باردة.
ط - أما الخيال والعاطفة وهما عنصران فنيان هامان في الخطبة الموفقة فللإمام منهما نصيب كبير يكاد يكون نادراً عند غيره.. فالأبراج السديمية التي يتناول منها صوره وظلالها لا تنضب ولا تخون.. والغريب أنها لا تناقض الواقع الموصوف بل تبلوره وتسمو به. ثم يعكس كل ذلك على نفس موّارة بالرؤى، وقلب زاخر بالهتاف وعقل بعيد التأمل والتطلع، خاصة حين تكون الخطبة في تصوير الوجود والعدم في وقفة وجدانية نافذة أمام الموت وهول المصير ووحشة القبر..
فأنا لا أرى أبعث على القلق ولا أدعى للأسى والشجن والكآبة من هذا القول للإمام يصف سكان القبور: (جيران لا يتآنسون وأحباء لا يتزاورون.. أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً.. بليت بينهم عرى التعارف وانقطعت منهم أسباب الأخلاق.. فكلهم وحيد.. وهم جميع، وبجانب الهجر.. وهم أخلاء..).
إنها وقفة ذاهلة كئيبة لا تدانيها سوى وقفة أبي العلاء أمام القبر وتزاحم الأضداد فيه.. وقفة كان لا ينقصها - في خضم التجربة - سوى دم علي يسفحه سيف خارجي جبان.. ثم يثوي الشهيد بين أحبائه هؤلاء ظاعناً مثلهم في سرمدية الجديدين.. وهكذا يفعل ابنه الحسين.. فتنطلق حنجرة حكيم المعرة بهذا الهتاف الحزين.
وعلى الأفق من دماء الشهيدين علــــي ونجــــــله شــــــاهدان
فهما في أواخـــر اللـــيل فجران وفــــــي أوليـــــــاته شفــــقان
ي - وما الأصالة الفنية العميقة التي يتميز بها كبار الأدباء، وما إحساسهم العميق بوحدة الوجود وشوقهم المتيم إلى اكتناه الروابط الخفية الكامنة وراء مظاهر الحياة والموت.. وما نزعتهم الإيمانية التوحيدية الجامحة: نزعة الفنان الكبير الذي يريد أن يعمق الوجود في قلبه وعقله وكل كيانه.. ما هذا كله سوى غاية من غايات ابن أبي طالب وصفة من صفاته، وسمة من سمات فكره الحكيم وأدبه الخالد.. ولا تنسى أنه بهذا يتقدم الخالدين من الأدباء العالميين ويتوسط صفوة الحكماء والفلاسفة.. يتقدمهم توثباً نحو معانقة الجمال الإلهي والعظمة الكونية والرحمانية الإنسانية.. في هتاف دائم ونجوى مستمرة وفكر زاخر بالقيم وخيال موار بالرؤى..
وتسألني - بعد - هل كان ابن أبي طالب أكثر من خطيب أم مجرد خطيب؟ فيجيبك عني - إن لم أكن قد أجبتك حتى الآن - جورج جرداق نفسه حيث يقول: (والخطباء في العرب كثيرون والخطابة من فنونهم الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام ولاسيما في عصر النبي.. أما خطيب العهد النبوي فالرسول لا خلاف في ذلك، وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما تلاه من العصور العربية قاطبة فإن أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه علي بن أبي طالب في هذا المجال.. فالنطق السهل لدى علي كان من عنصر شخصيته.. وكذلك البيان القوي بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعاً. ثم إن الله يسر له العدة الكاملة لما تقتضيه الخطابة من مقومات.. فقد ميزه الله بالفطرة السليمة والذوق الرفيع والبلاغة الآسرة ثم بذخيرة من العلم انفرد بها عن أقرانه وبحجة قائمة وقوة إقناع دامغة.. وعبقرية في الارتجال نادرة أضف إلى ذلك كله صدقه الذي لا حدود له وهو ضرورة لكل خطبة ناجحة، وتجاربه الكثيرة المرة التي كشفت لعقله الجبار عن طبائع الناس وصفات المجتمع ومحركاته، ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق، وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية، وإنه لمن الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كل هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيباً فذاً غير علي بن أبي طالب ونفر من الخلق قليل..)
كما يجيبك جامع (النهج) الشريف الرضي حيث يقول: (كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشروع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة وموردها، منه ظهر مكنونها ومنه أخذت قوانينها، وعلى مثله حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا)..
ويقول شارح (النهج) المصلح الكبير الشيخ محمد عبده: (وأحياناً كنت أشهد عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً، فصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى ونما به إلى مشهد النور الأجلى..) إلى أن يقول مهيباً بالناشئة إلى تعلمه وتدبره وحفظه: (ليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأن كلام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه، بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه (صلى الله عليه وآله) وأغزره مادة وأرفعه أسلوباً وأجمعه لجلائل المعاني..).
وهذا هو العقاد يفرد للإمام كتاباً برأسه في جملة (عبقرياته) وقد جاء في المقدمة قوله: (وللذوق الأدبي - أو الذوق الفني - ملتقى بسيرته كملتقى الفكر والخيال والعاطفة لأنه رضوان الله عليه كان أديباً بليغاً، له نهج من الأدب والبلاغة يقتدي به المقتدون، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون وإن تطاولت بينه وبينهم السنون. فهو الحكيم الأديب والخطيب المبين، والمنشئ الذي يتصل إنشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناشرين والناظمين).
-
[align=center] البلاغة في نهج البلاغة
القسم الأول
بلاغة علي بن أبي طالب (عليه السلام)[/align]
إن النص في نهج البلاغة - كتاب علي بن أبي طالب - يتمتع بسلطة فائقة، محكمة، نادرة. وهي تُحيل القارئ (والسامع) إلى أنموذج العلاقة بين الأفكار والأسلوب.
فثمة نص شكلاني، قائم على إبداعية الشكل، وهو نص إنتاجي من عمل الفنان المبدع، إلاّ أنه يتمتع بمزاياه الفنية الخالصة، كشكل فني قوي الاتصاف، سواء بصورته التجريدية أو بصورته الرمزية، أو بكيفيّته التقليدية.
فقد يكون النص، مثل اللوحة التي تُحاكي الطبيعة (أو الواقع)، أو أنه يكون أداة تعبير عن الذات، بكل استطاعات التعبير الممكنة. وعادة، يكون التعبير النثري متعرضاً للشد والجذب بين قُطبي الذات والموضوع، بما يُرافق ذلك من توسّعات لغوية، أو حشو، أو فجوات، أو نواقص.
وهو - أي التعبير النثري - في ملاحقته للأفكار، ينتهج طرائق وأساليب عادة، متباينة في درجة نجاحها، فهو أحياناً يصل إلى الأفكار، وأحياناً يتقدم عليها، أو يتخلف عنها، وهو - أحياناً - يتماسّ وإياها، قد يُعبّر عنها بصراحة، أو بإيحاء، بوضوح تام، أو بإيماء.
في بلاغة علي بن أبي طالب، أنموذج رفيع للنص المتطابق الذي يُجسد سلطة علي بن أبي طالب على نفسه، تلك السلطة التي ينطلق منها في رؤية العالم الخارجي.
وتوضح سيرة علي بن أبي طالب، أحسن توضيح، تلك الطبيعة الحقّانية الصادقة التي تتبلور في عرض الأفكار - أفكاره هو - وفي البلاغة البيانيّة له.
فالنص لديه - ينقل أفكاره بصدق تام. بمعنى أنه يعطي صورة للبلاغة، ذات ميزان دقيق، يستبعد كل بلاغة (بلاغية) تسوحُ في جولات الأساليب، والشكليات المتغيرة.
حقاً، كان قادراً في فنونه البلاغية المبدعة، لكنه لم يندمج في ظاهرة البلاغة من أجل البلاغة، التي كانت الإطار لعملية إيصال الأفكار.
لقد كانت الأفكار تُوصَل على نحو فعّال، بتصعيدات بلاغيّة تثير الإعجاب، أي أن البلاغة كانت تتولى وضع الإضافات فوق المعاني وحواليها، بالتعبير عن موهبة بلاغية معجبة، فثمة (معانٍ) تتخللها، وتحيط بها زركشات لفظية، مُدلّلة على القدرة البيانية، التي انتشرت شعراً ونثراً منذ العصر الجاهلي.
أما بلاغة علي بن أبي طالب، فقد تبلورت في النص الذي يخرج من رحم اللغة مثل الوليد الجديد، وهو - في الوقت نفسه - يخرج من عالم الأفكار مثل الفكرة الجديدة، الباهرة.
إنه يتناول مسائله الفكرية وكأنها تُولد تواً. وكذلك هو في تناوله للمسائل الفكرية المتداولة (والمشتركة) وكأنها معطيات جديدة، ذلك لأن قدرته البلاغية ابتكارية، توليدية.
فالنص يُولد متكاملاً، في تأديته الوظيفية الخاصة به، رغم أنه يُبرهن - في حالات ثانية - عن جدارات أسلوبية.
لكن علياً بن أبي طالب لم يكن رغم ما أوتي من ميلٍ للدعابة - أحياناً - راغباً بأن يبتعد عن رسالته لحظة.
إن طغيان الجديّة كان من وقر المسؤولية الثابت.
وهو - في ذلك - كان متّسماً بالصدق التام، الذي يجب أن نرى فيه اختلافاً كبيراً عن أنواع أخرى من الصدق المرحلي، الموقت، وغير الثابت.
فثمة أوجه عديدة للصدق، كذلك هناك صدق في مناسبة، وعدمه في سواها. كان علي بن أبي طالب صادقاً في جميع الأوجه والمناسبات، لأن أفكاره كانت تشق الطبقات الكثيفة، والزيادات، والتلافيف التي تحول بين الناس والحق.
فالنص هو الفكرة والأداة معاً، هو المضمون والشكل، في اتّحادهما المتبادل الإغناء، في إعطاء دلالات مؤكدة، كان الإمام علي يُظهر نفسه فيها من جانب، ويُحمّلها الطاقة التوصيلية للوصول إلى الآخرين من جانب آخر.
ويتضافر الجانبان في العملية الواحدة، التي تُكرس صدق القضية، وتهيئ الآخرين للتجاوب مع الصدق. فالنص - في نهج البلاغة - ليس قطعة بلاغية ذات جمال مجرد. بل هو وظيفة متقنة، إنه ثمرة التزاوج الطبيعي بين البلاغة والأفكار، والذي ترتّب عليه إنجاب أفكار جديدة، واستحداثات لغوية وبيانية جديدة.
من المؤكد أن النص الأدبي الذي يُصبح - بسبب أهميته - مستقلاً، قائماً بذاته، بعد تجاوز ظرفه، هو - في حقيقته - تعبير عن طبيعة صاحبه. فالنص هو الشخصية التي تنشئ عدة شخصيات أخرى، مجنّدة لمهماتها المحددة.
وتُعد الكلمات، في النص الأدبي كائنات حية، لم تُخلق عبثاً. وليس من الضرورة بمكان أن تكون إنشاءات الكاتب الأسلوبية على صورته، من الناحية الظاهرية، لكن من الضروري للكاتب الحقيقي أن يكون العمق الفكري له ماثلاً في الحركة التحتية للنص.
فأبو تمام كان يُحرّك ألفاظه كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد، والبحتري كان يُحرّك ألفاظه وكأنها نساء حسان عليهن خلائل مصبّغات، وقد تحلين بأصناف الحلي، كما يقول ابن الأثير الموصلي، لكن أبا تمام كان حاضراً وراء الألفاظ - والأشخاص، وكذلك البحتري، كلاً بطبيعته الخاصة، وبخياراته الخفيّة أو الظاهرة.
كانت مقدرة علي اللغوية، والبيانية، بالغة الفراهة، غير أنه كان يريد إصابة المعنى دائماً، بسبب نظرته الفلسفية، وأفكاره الجمّة التي كان يُصارع من أجل انتشارها. ونظراً إلى تعدد مناحي الثروة الفكرية، وغنى طبيعة علي بن أبي طالب، فإن النص جاء محمّلاً بالدلالات الغنية المُتنوعة، فهو قمة تتويج العلاقة الحرة بين المعنى والمبنى.
قال الشريف الرضي، في مقدمة نهج البلاغة:
(كان أمير المؤمنين علي مَشْرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أُخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب - وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا - وتقدم وتأخروا. وأما كلامه فهو البحر الذي لا يُساجل، والجَمُّ الذي لا يُحافَل) (1).
ومن عجائبه التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه رضي الله عنه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المتفكر، لم يعترضه الشك في أنه من كلام مَن لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شُغل له بغير العبادة، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطُّ الرقاب، ويجدِّلُ الأبطال، ويعود به ينطُف دماً ويقطر مُهجاً) (2).
ويذكر الشيخ محمد عبده في مقدمة شرح نهج البلاغة، مثل ذلك قائلاً:
(تصفحت بعض صفحاته في مواضع مختلفات، فكان يُخيل لي في كل مقام أن حروباً شبت، وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، والفصاحة صولة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تُنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، فما أنا إلاّ والحق منتصر - والباطل منكسر.. وأن مدبّر تلك الرواية، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فتارة كنتُ أجدني في عالم تعمره من المعاني أرواح عالية، في حُلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادَها، وتقوّم منها مُرادها. وطوراً كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، قد تحفّزت للوثاب، ثم انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها. وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خَلْقاً جسدانياً فَضَل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى.
وليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأن كلام الإمام علي هو أشرف الكلام، وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه، وأغزره مادة، وأرفعه أسلوباً.
ويشتمل (نهج البلاغة) على نحو ثلاثمائة خطبة، ومائة رسالة، وخمسمائة حكمة.
نهل من معينها الكتّاب، والأدباء، والمفكرون، والمتصوّفة، والعلماء، والزهّاد، والعارفون، وقد قال عبد الحميد الكاتب:
(حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع (يعني به علي بن أبي طالب) ففاضت ثم فاضت)، وقيل له: ما الذي خرّجك في البلاغة؟ قال: خطب الأصلع (3).
وقال ابن نباته:
(حفظت من الخطابة كنزاً، لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة. حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب).
وقال الشريف المرتضى:
(كان الحسن البصري بارع الفصاحة، بليغ المواعظ، كثير العلم، وجميع كلامه في الوعظ، وذم الدنيا، أو جلّه مأخوذ لفظاً ومعنى، أو معنى دون لفظ، من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فهو القدوة والغاية) (4).
وقال الأستاذ حسن السندوبي:
(والظاهر أنه (أي عبد الله بن المقفع) تخرج في البلاغة على خطب الإمام علي، ولذلك كان يقول: (شربت من الخطبة رياً ولم أضبط لها روياً، فلا هي نظاماً وليس غيرها كلاماً) (5).
وكما كان نهج البلاغة مصدراً كبيراً من مصادر البيان والبلاغة، كذلك هو مصدر للرياضة والتصوف في الإسلام. وهو إلى ذلك المنجم الغني بأصول التوحيد والفلسفة الإسلامية (علم الكلام)، التي أوسعها المتكلمون - بعد ذلك - بالشرح والتفسير، وأحد الروافد الكبيرة للفكر الإسلامي في جميع جوانبه الاجتماعية والأخلاقية والدينية وغيرها.
وهو كذلك سجل حافل بعناصر تاريخية واقعية، تمد الباحث والمؤرخ بالحقيقة الساخرة، ويمثل كذلك الكثير من الحقائق المذهبية، والتوحيد، وتنزيه الخالق، وصفاته، والعدل. والجبر والاختيار، وما إلى ذلك (6).
وليس نهج البلاغ (الكتاب الجامع لخطب علي بن أبي طالب ورسائله وأقواله، والذي أطلق عليه الشريف الرضي عنوانه)، أول جمع لتراث علي بن أبي طالب، فلقد حظي كلام الإمام وخطبه بعناية العلماء، والأدباء، قبل عصر الرضي، فعكف فريق منهم على جمع شوارده، ونظم فرائده، حتى تألفت من ذلك مجاميع كثيرة، كما عكف فريق آخر على حفظه والاستعانة به في كلامهم وخطبهم. وفريق ثالث ضمّنوا مؤلفاتهم الأدبية والتاريخية والأخلاقية، طائفة كبيرة من كلامه. وكان ذلك كله هو المصدر الرئيسي الذي اختار الرضي منه هذا المجموع (نهج البلاغة)، وانتقى منه هذه الطرائف البيانية القيّمة (7).
وقد تجاوزت خطبه المتداولة بين أيدي الناس، إلى أكثر من أربعمائة خطبة:
قال ابن واضح اليعقوبي المؤرخ المشهور المتوفى سنة (392 هـ) في كتاب (مشاكلة الناس لزمانهم):
(وحفظ الناس عنه الخطب، فإنه خطب بأربعمائة خطبة، حفظت عنه وهي التي تدور بين الناس، ويستعملونها في خطبهم).
وقال المسعودي المتوفى سنة (346 هـ) في كتاب (مروج الذهب - الجزء الثاني):
(والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته، أربعمائة ونيف وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً) وقد أشرنا إلى أن هناك جماعة من العلماء والأدباء عكفوا على جمع كلام الإمام علي قبل أن يخلق الشريف الرضي. وقد ذهبت هذه المجموعات مع الزمن كما ذهب سواها من تراثنا العربي، وبقيت أسماؤها.
ويذكر عبد الله نعمة من الأسماء:
1 - كتاب خطب علي (عليه السلام) وكتبه إلى عماله، لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الله المدائني المولود عام 135 هـ والمتوفى عام 215 / 225 هـ.
2 - كتاب خطبة علي (كرم الله وجهه)، لهشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 204 / 206 هـ.
3 - كتاب خطب الإمام علي، لأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى بن عيسى الجلودي الأزدي البصري المتوفى سنة 332 هـ، وكان من شيوخ البصرة وأخبارييها، له ما يقرب من ثلاثمائة مؤلف.
4 - كتاب رسائل علي.
5 - كتاب ذكر كلام علي في الملاحم.
6 - كتاب مواعظ الإمام علي.
7 - كتاب قوله في الشورى.
8 - كتاب الدعاء عن الإمام.
9 - كتاب بقية رسائله وخطبه وأدل مناظراته.
10 - كتاب بقية مناظراته.
11 - كتاب ما كان بين علي وعثمان من الكلام، وهذه الكتب كلها للجلودي المذكور.
وقد بقي كتابه في خطب الإمام علي بين أيدي العلماء حتى أوائل القرن التاسع، وقد نقل عنه الشيخ حسن بن سليمان الحلي في كتابه (المختصر) شطراً من خطبته التي أولها: (أنا فقأتُ عين الفتنة).
12 - كتاب خطب أمير المؤمنين، لأبي هاشم عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن المتوفى سنة (252هـ).
13 - كتاب الخطب لأمير المؤمنين، لأبي إسحاق النهمي إبراهيم بن سليمان بن عبد الله بن خالد الكوفي الخراز، يرويه عنه النجاشي بثلاث وسائط، آخرها حميد بن زياد الكوفة المتوفى سنة (310 هـ).
14 - كتاب خطب أمير المؤمنين، لإبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري، قال الطوسي في الفهرست: (إنه صاحب التفسير عن السدي، والسدي الكبير هو أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي المفسر المتوفى في حدود سنة (128 هـ) والسدي الصغير هو حفيد السدي الكبير، محمد بن مروان بن عبيد الله بن إسماعيل السابق الذي يروي عن محمد بن السائب الكلبي، كتاب التفسير.
15 - كتاب الخطب لأمير المؤمنين، لأبي يعقوب إسماعيل بن مهران بن محمد بن عمر بن أبي نصر السكوني.
16 - كتاب الملاحم للإمام، لأبي يعقوب المذكور.
17 - خطب أمير المؤمنين على الناس في الجمع والأعياد وغيرهما، لأبي سليمان زيد بن وهب الجهني الكوفي المتوفى سنة (80 / 96 هـ).
18 - خطب أمير المؤمنين، لأبي الخير صالح أبي حماد سلمة الرازي.
19 - خطب أمير المؤمنين، المروية عن الصادق المتوفى عام (148 هـ).
20 - خطب أمير المؤمنين، لأبي محمد أو أبي بشر مسعدة بن صدقة العبدي.
21 - خطب أمير المؤمنين، برواية أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي الأسلمي. رواه الشيخ أبو غالب الزراري بإسناده إلى الواقدي، وقد توفي الزراري عام (368 هـ).
22 - كتاب رسائل المؤمنين، لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي المتوفى سنة 283 هـ. وهو من ولد سعيد بن مسعود أخي عبيد بن مسعود صاحب وقعة الجسر مع الفرس، وعم المختار الثقفي، وله أيضاً كتاب الخطب السائرة..
23 - كتاب الخطب، لمحمد بن عيسى بن عبد الله بن سعد الأشعري.
24 - مائة كلمة من كلام أمير المؤمنين، جمعها الجاحظ المتوفى عام (257 هـ).
25 - كتاب أبي العباس يعقوب بن أبي أحمد الصيمري الذي جمعه من كلام علي (رضي الله عنه) وخطبه. ذكره شارح النهج ابن أبي الحديد عند شرح كتاب علي إلى معاوية، وأول هذا الكتاب: (وكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابيب ما أنت فيه..).
26 - كتاب الخطبة الزهراء لأمير المؤمنين، لأبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الأزدي المتوفى سنة (158 هـ)، وقد رواها الطوسي في الفهرست بسنده، قال: أخبرنا بها أحمد بن محمد بن موسى عن ابن عقدة عن يحيى بن زكريا عن ابن شيبان عن نصر بن مزاحم عن أبي مخنف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه، قال: خطب أمير المؤمنين، وذكر الخطبة. وهذه الخطبة الزهراء أوردها ابن عبد ربه في العقد الفريد (م2)، أولها: الحمد لله الذي هو أول كل شيء وبديه، ومنتهى كل شيء ووليه.
وفيها يقول: ملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك، وليست فيهم فترة ولا عندهم غفلة.
ثم يقول فيها: لم يسكنوا الأصلاب ولم تضمنهم الأرحام... وهي طويلة، وآخرها. إنك ولي كريم.
27 - خطب أمير المؤمنين مع شرحها، لقاضي القضاة لدى الفاطميين أبي حنيفة النعمان المصري المتوفى سنة (363 هـ) ذكره ناشر كتاب الهمة في معرفة الأئمة الدكتور محمد كامل حسين ناقلاً عن الأستاذ المستشرق إيفانوف في كتاب المرشد إلى أدب الإسماعيلية. ويتساءل عبد الله نعمة، بعد كل هذا: (أين تلك المؤلفات الموضوعة في خطب الإمام علي وكلامه؟ وأين ذهبت الأربعمائة خطبة أو تزيد مما كان يحفظه الناس من كلامه؟ وأين ما كان يحفظه الكتّاب والبلغاء من كلماته؟
أليس في كل هذا ما يؤكد أن ما اختاره الرضي في نهج البلاغة هو بعض ما كان مدوناً ومحفوظاً ومشهوراً بين الناس؟
أليس في هذا ما يدمغ أولئك القائلين بأن ما في النهج موضوع ومنحول على لسان الإمام علي؟).
خصوصية النص
إن القيمة الأساسية للنص، في الخطب علي بن أبي طالب، ورسائله، ماثلة في حضور الإبداع النصي في النشاط الفكري والكلامي له على المستويين: الشفهي والتحريري. وتلك ميزة نادرة يتفرد بها علي بن أبي طالب بصورة ملموسة.
وهي ميزة تجعله في المقدمة من جميع كتاب النصوص المبرزين، ذلك لأن أولئك الكتّاب، مثلهم مثل الرسامين والنحّاتين الذين يصنعون نماذجهم، بعد طول تأمل، وتخطيط، وممارسة، وبعد مراجعات نقدية متواترة، وصولاً إلى المحصلة الفنية النهائية، على صعيد العمل. وكان علي بن أبي طالب، بعفويته الثاقبة، يباشر عمله الإبداعي الفوري، فيأتي النص المرتجل، مثل النص المكتوب، آية في الإتقان والروعة. ومن الثابت، أن جريان خطب علي بن أبي طالب على نحوه الباهر، في طوله، وقصره، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع، موهوب، هو السيد المؤكد في عالم العقول.
لا يمكن أن تتوفر تلك الخصوصية لقوة النص في المخاطبة الارتجالية، وفي الكتابة، لشخص آخر ـ غير علي بن أبي طالب ـ الذي انطوت شخصيته على علوم وفنون وقدرات عظيمة، تتلاقح فيما بينها بجدلية خصبة.
ورغم أن الخطاب عند علي بن أبي طالب خطاب سياسي، وفقهي، وتربوي، ووعظي، في إطار معرفي محكم، إلا أنه ذو سمة رياضية، ماثلة في بنية الخطاب الذي يتكامل نصاً مغنياً.
ولقد ارتكزت السمة الرياضية في البناء الأدبي للخطاب على دعامتين بارزتين، الأولى هي في صلب بنية الخطاب، وعلاقته الداخلية، والثانية في خفاء المنهج، أي في تنظيم فضائه.
المقوّم الأول، هو المقوم النحوي، الذي يعصم الخطاب الأدبي من التحرر الإنساني، وبعض مظاهر اللانحوية، التي قد يستكين إليها الوصف الأدبي والحماسة، والارتجال، وخاصة في الخطاب الشفهي.
إن أساس الخطاب في فعالية علي بن أبي طالب ـ من الناحية اللغوية ـ هو أساس نحوي، ذلك لأن علياً بن أبي طالب هو واضع النحو العربي، في منطلقه الأول.
قال لأبي الأسود الدؤلي، حين أعرب عن ألمه من شيوع اللحن على اللسان العربي، اكتب ما أملي عليك. ثم أملى عليه أصول النحو العربي، ومنها أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ثم أملى عليه أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر. وفي خاتمة التوجيهات قال علي: يا أبا الأسود انحُ هذا النحو. وهكذا أصبح عند العرب علم النحو.
من هنا كان الأساس النحوي للنص في خطب علي بن أبي طالب، يؤمن القاعدة المادية لشبكة العلاقات الداخلية للنص، التي يرتكز عليها البناء البلاغي للنص.
ولا شك في أن تكامل الأساس النحوي والبناء البلاغي قائم ـ أصلاً ـ على المحور الفكري للنص، وهو محور المعاني والدلالات.
وإذ يستكمل الخطاب (العلوي) شروطه المادية ـ اللغوية، وجماع علاقاته الداخلية، فإنه يستكمل الوحدة القائمة بين نصّية النص ـ بمعناها الأدبي ـ والفضاء الروحي للنص. أي أن النص يتوفر له البعدان الرمزيان للأرض والسماء في وحدتهما التامة.
أما المقوّم المادي الثاني للنص، فهو المقوّم الرياضي الذي يستدلّ عليه، استدلالاً، لأنه لا يعبّر على نحو مباشر، إلا بالنسبة إلى الملتقي النابه.
إن الذهنية الرياضية النشطة، والمبادهة لعلي، تنعكس تأثيراتها على تعبيراته الأدبية، بصورة الإتقان المحكم لعرض الأفكار، وكذلك في تقديمه المتقن للبناء اللغوي والبلاغي للخطاب.
فالاتساق الرياضي وارد في صلابة أفكاره، وفي عظمة منطقه، وبلاغته. ومردّ ذلك ثابت في معرفته العلمية بالحساب؛ تلك المعرفة التي كانت تكشف عنها سرعة البديهة في الجواب عن معضلات معقدة في المواريث والأقضية.
وذاعت الفريضة المنبرية التي أفتى بها وهو على منبر الكوفة، حينما سئل عن ميت ترك زوجه وأبوين وابنتين، فأجاب من فوره: صار ثُمنها تُسعاً.
وشكت ـ مرة ـ امرأة أن أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يقسم لها من ميراثه غير دينار واحد، فقال لها بسرعة: لعله ترك زوجة وابنتين وأما واثني عشر أخاً وأنت؟ وكان الأمر كذلك.
فمعرفته بعلم الحساب كانت أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلات المواريث، لأنه كان سريع الفطنة إلى حيله التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازاً تكدّ في حلها العقول (8).
.................................................. ...
الهوامش:
1- الشريف الرضي: نهج البلاغة.
2- لا يُساجَل: لا يُكاثر. لا يُحافل: لا يُفاخر في حفل. ينطف: يقطر.
3- الثعالبي: ثمار القلوب مصادر نهج البلاغة.
4- الشريف المرتضى: أمالي المرتضى.
5- الجاحظ: البيان والتبيين: ج1. من الهامش في ترجمة عبد الله بن المقفع وتعليقه عليه.
6- عبد الله حسين: مصادر نهج البلاغة.
7- المصدر نفسه.
8 - عباس محمود العقاد، عبقرية الإمام علي.
-
[align=center] البلاغة في نهج البلاغة
القسم الثاني
تعبيرية النص[/align]
إن الدلالة المشتركة للمفردات والتعبيرات، والتي يشترك في قولها وفي فهمها جمهرة الناس، مثقفين وغير مثقفين، هي توحيد للتفاهم بين أفراد المجتمع وللتعبير عن حاجاتهم الأساسية.
وقد أشبعت الكلمات والتعبيرات المشتركة تداولاً منذ بدء استعمالها، فأصبح الوصول إلى المعنى من خلالها ممارسة اعتيادية، ولكن أساسية.
والفارق بين الكلام العادي، والأسلوب الأدبي ليس فارقاً في الاستعمالات اللغوية فقط، بل هو فارق في دقة الاحتياز على المعاني، ومن ثمّ التعبير عنها. فأنيطت بالقدرة التعبيرية مسؤولية الإمساك بالمعاني والكشف عن الدلالات، وإحراز أكبر نجاح في مخاطبة الآخرين والوصول إلى أذهانهم ونفوسهم. ويتفاوت الكتّاب في مستويات الإبداع، وتبعاً لذلك تتفاوت النصوص في ما تملكه من طاقة تعبيرية، ومن جمالية أسلوبية.
قد انتقد ابن قتيبة في (مقدمة أدب الكاتب) أولئك الذين لم يعطوا الأسلوب حقه، فقال: (رأيت كثيراً من كتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة، واستوطأوا مراكب العجز، وأعفوا أنفسهم من كدّ النظر، وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدّرك بغير سبب وبلغوا البغية بغير آلة). وابن قتيبة محق، لأننا لا نريد من الأديب أن ينقل لنا المعاني وحدها، فإن الغاية من الأدب ليست هي المعرفة وتقرير الحقائق، بل نريد نقل المعاني ممزوجة بشعور الأديب، باعثة لشعورنا، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان التعبير فنيّاً (9).
ويُلخص (الحوفي) عدة صفات في تعبير علي بن أبي طالب هي (10):
1ـ تخيّر المفردات
(بحيث تنسجم من الناحية الصوتية فتجيء خفيفة على اللسان، لذيذة الوقع في الآذان، موافقة لحركات النفس، مطابقة للعاطفة التي أزجتها أو للفكرة التي أملتها).
كقوله في كتاب إلى عمّاله على الخراج:
(إنكم خزّان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة).
وكقوله إلى معاوية:
(لست بأمضى على الشك مني على اليقين).
وقوله:
(كلما أطلّ عليكم مَنسِر من مناسِر أهل الشام أغلق كل رجال منكم بابه، وانجحر انجحار الضبّة في حجرها والضّبُع في وجارها).
وقوله:
(دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأَسَرِّ، ثم خرج إليّ منكم جنيد وتذاؤب ضعيف).
وقوله:
(من أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه).
وقوله:
(إن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم، شفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم، وأمنُ فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم).
2ـ قوة التعبير
إذ أجمع علماء البيان العربي على أن الكلام إذا كان لفظه غثّاً ومعرضه رثّاً كان مردوداً ولو احتوى على أجل معنى وأنبله، كما ذكر أبو هلال العسكري في (الصناعتين). وأجمعوا على أن الجزل القوي من الكلمات يستعمل في وصف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف، وفي التنفيس عن الغضب والضيق وما شابه هذا.
وأما الرقيق منها، فإنه يستعمل في وصف الأشواق، وذكر أيام الفراق، وفي استجلاب المودّات واستدرار الاستعطاف وأشباه ذلك (كما ورد في المثل السائر لابن الأثير الموصلي).
ومن السهل أن نجد كثيراً ممّا يتصف بالقوة والجزالة والفخامة في خطب الإمام علي وفي رسائله، تعبيراً عن عواطفه وأفكاره التي تقتضي التعبير القوي الفخم الملائم لشدتها وقوتها وحرارتها) (11).
ومن الأمثلة والنماذج قوله:
(وَاللهِ لاَ أَكُونُ كالضَّبُعِ: تَنَامُ عَلى طُولِ اللَّدْمِ، حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا، وَيَخْتِلَهَا رَاصِدُها، وَلكِنِّي أَضْرِبُ بِالمُقْبِلِ إِلَى الحَقِّ المُدْبِرَ عَنْهُ، وَبِالسَّامِعِ المُطِيعِ العَاصِيَ المُريبَ أَبَداً، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي) (12) وقوله: (أَلاَ وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، أَلاَ وَإنَّهُ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ الحقُّ يَضرّهُ البَاطِلُ، وَمَنْ لا يستقم بِهِ الهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلاَلُ إِلَى الرَّدَىْ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَد أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ، وَدُلِلْتُمْ عَلى الزَّادَ وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الهَوَى، وَطُولُ الأَْمَلِ) وقال في خطبة يخوّف فيها أهل النهروان:
(فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هذَا النَّهَرِ، وَبِأَهْضَامِ هذَا الْغَائِطِ، عَلَى غَيْرِ بَيِّنَة مِنْ رَبِّكُمْ، وَلاَ سُلْطَان مُبِين مَعَكُمْ، قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ الدَّارُ، وَاحْتَبَلَكُمُ الْمِقْدَارُ، وَقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هذِهِ الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ المخالفين، حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَىْ هَوَاكُمْ، وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ، سُفَهَاءُ الأَْحْلاَمِ، وَلَمْ آتِ ـ لاَ أَبَا لَكُمْ ـ بُجْراً، وَلاَ أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً) (13).
وقوله من خطبة له عند مسيره إلى البصرة:
(إنَّ اللهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله)، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً، فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، وَبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ صِفَاتُهُمْ أَمَا وَاللهِ إنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا، مَا عَجَزْتُ،وَلاَ جَبُنْتُ، وَإِنَّ مَسِيرِي هذَا لِمثْلِهَا، فَلاََنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ. مَالي وَلِقُرَيْش! وَاللهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ، وَلاَُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ).
3ـ سهولة التعبير
مثل قوله في كتاب إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر:
(فَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُهُ، وَلَداً نَاصِحاً، وَعَامِلاً كَادِحاً، وَسَيْفاً قَاطِعاً، وَرُكْناً دَافِعاً وَقَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ النَّاسَ عَلَى لَحَاقِهِ، وَأَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ، وَدَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَجَهْراً، وَعَوْداً وَبَدْءاً، فَمِنْهُمُ الآتِي كَارِهاً، وَمِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ كَاذِباً، وَمِنْهُمُ الْقَاعِدُ خَاذِلاً).
وقوله في رسالة إلى عمرو بن العاص قبل التحكيم:
(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلاَّ فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا، وَلَهَجاً بِهَا، وَلَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا، وَمِنْ وَرَاءِ ذلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ، وَنَقْضُ مَا أَبْرَمَ! لَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ، وَالسَّلاَمُ).
وقوله في خطبة له بعد أن بلغه مقتل محمد بن أبي بكر:
(اسمعوا قولي، وأطيعوا امري، فوالله لئن أطعتموني لا تغوون، وإن عصيتموني لا ترشدون. خذوا للحرب أهبتها، وأعدوّا لها عدّتها، فقد شبّت نارها... إلا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولى في الجد في غيّهم وضلالتهم من أهل البر والزهادة والإخبات في حقهم وطاعة ربهم.
(إِنِّي وَاللهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ طِلاَعُ الاَْرْضِ كُلِّهَا مَا بَالَيْتُ وَلاَ اسْتَوْحَشْتُ، وَإِنِّي مِنْ ضَلاَلِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ لَعَلى بَصِيرَة مِنْ نَفْسِي وَيَقِين مِنْ رَبِّي. فانفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
4ـ قصر الفقرات
مثل قوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التّمر:
(مُنِيتُ(2) بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَلا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، لاَ أَبَا لَكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ؟ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ، وَلاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ؟! أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً، وَأُنادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً، فَلاَ تَسْمَعُونَ لي قَوْلاً، وَلاَ تُطِيعُون لِي أَمْراً، حَتَّى تَكَشَّفَ الاُْمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَساءَةِ، فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ، وَلاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الاَْسَرِّ، وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ الْنِّضْوِ الاَْدْبَرِ...).
وقوله:
(فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الاِْبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا، قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا، وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِليَّ، أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْض لَدَيَّ، وَقَدْ قلَّبْتُ هذَا الاَْمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ، فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعْني إِلاَّ قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ(صلى الله عليه وآله)، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ، وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الاْخِرَةِ).
وقوله في كتاب إلى أمراء جيوشه:
(أَلاَ وَإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلاَّ أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلاَّ فِي حَرْب، وَلاَ أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلاَّ فِي حُكْم، وَلاَ أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ، وَلاَ أَقِفَ بِهِ دُونَ مَقْطَعِهِ، وَأَنْ تُكُونُوا عِندِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً، فَإِذَا فَعَلْتُ ذلِكَ وَجَبَتْ لله عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ، وَلِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ، وَأَلاَّ تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَة، وَلاَ تُفَرِّطُوا فِي صَلاَح، وَأَنْ تَخُوضوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ).
5ـ كثرة الصيغ الإنشائية
وهي: (الأمر والنهي والاستفهام والترجي والتمني والنداء والقسم والتعجب) وهي (أقوى من الصيغ الخبرية تجديداً لنشاط السامعين، وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً، وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم. وهي في الوقت نفسه أدق في تصوير مشاعر الخطيب وأفكاره، لأن أفكاره ومشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها.
ثم إن مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء، وهذا كله عون على الوضوح من ناحية وعلى التأثير في السامعين من ناحية) (14).
أمثلة ونماذج
1ـ من الأمر قوله:
(فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا أَصْغَرَ في أَعْيُنِكُمْ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ).
و(فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الاَْمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ، وَمَصَارعِ جُنُوبِهِمْ، وَاسْتَعِيذوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكبْرِ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْر).
وقوله: (لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ، وَلْيَرأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغيرِكُمْ).
2ـ ومن النهي قوله:
(فَلاَ تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً، وَلاَ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً).
و(أَلاَ وَإِنَّ الاْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الاْخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا).
و(لاَ تَقْتُلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ).
و(وَلاَ تُرَخِّصُوا لاَِنْفُسِكُمْ، فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الْظَّلَمَةِ، وَلاَ تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الاِْدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ...).
و(لاَ تَحَاسَدُوا، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الاِْيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَلاَ تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ).
و(فَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ، فَإِنَّمَا هَوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ، إِلَى أَجَل مَعْدُود).
و(وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَلاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَلاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا).
و(عِبَادَ اللهِ، لاَ تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ، وَلاَ تَنْقَادُوا لاَِهْوَائِكُمْ).
و(لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ الْبَاطِلُ).
و(فَلاَ تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الاَْجْرَبِ).
وقوله: (فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي... فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَوْ مَشُورَة بِعَدْل).
3ـ ومن الاستفهام قوله:
(أَبَعْدَ إِيمَاني بِاللهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ! لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).
وقوله: (أَصْبَحْتُ وَاللهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُوعِدُ العَدُوَّ بِكُم، مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ القَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ، أَقَوْلاً بَغَيْرِ عِلْم! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَع! وَطَمَعاً في غَيْرِ حَقٍّ؟).
وقوله: (إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ، وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أوْقَى مِنْهُ، وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ، وَلَقَدْ أَصْبَحْنا في زَمَان اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً، وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلى حُسْنِ الْحِيلَةِ، مَا لَهُمْ! قَاتَلَهُمُ اللهُ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْن بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ). (15)
وقوله: (هَلْ تُحِسُّ بِهِ ـ ملك الموت ـ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً؟ أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟! أَيَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا؟ أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بَإِذْنِ رَبِّهَا؟ أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا؟ كَيْفَ يَصِفُ إِلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوق مِثْلِهِ؟).
وقوله: (أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى، وَالاَْبْصَارُ اللاَّمِحَةُ إِلَى مَنَارِ التَّقْوَى؟! أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ للهِِ، وَعُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ؟).
4ـ ومن الترجّي قوله:
(فَاسْمَعُوا قَوْلي، وَعُوا مَنْطِقِي، عَسَى أَنْ تَرَوْا هذَا الاَْمْرَ مِنْ بَعْدِ هذَا الْيَوْمِ تُنْتَضَى فِيهِ السُّيُوفُ).
و(وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الاُْمَّةِ).
وقوله: (لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَد بِذَنْبِهِ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَة، فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ).
وقوله: (هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الاَْطْعِمَةِ ـ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْـيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ).
6ـ ومن النداء قوله:
(أَيُّها النَّاسُ، شُقُّوا أَمْوَاجَ الفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ..).
وقوله: (فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَفِرُّوا إِلَى اللهِ مِنَ اللهِ).
وقوله: (أَيُّهَا النَّاسُ، الُْمجْتَمِعَةُ أبْدَانُهُمْ، الُمخْتَلِفَةُ أهْوَاؤُهُمْ، كَلامُكُم يُوهِي الصُّمَّ الصِّلابَ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الاَْعْدَاءَ).
وقوله: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا في دَهْر عَنُود، وَزَمَن كَنُود).
7ـ ومن القسم قوله:
(وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نَصِفاً).
وقوله: (أَمَا وَاللهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَاراً، وَلكِنْ جَئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقاً).
وقوله: (وَلَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى الْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ، لاَُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لاَ يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلاَّ كَلَعْقَةِ لاَعِق).
وقوله: (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لاََلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا..).
وقوله: (وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلاَ اخْضَرَّ لِلاِيمَانِ عُودٌ، وَأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً).
وقوله: (والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلُها عند الله حرام؟).
8ـ ومن التعجب قوله:
(سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ! سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ! وَمَا أصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَة فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ! وَمَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ! وَمَا أَحْقَرَ ذلِكَ فِيَما غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ! وَمَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الاْخِرَةِ!).
وقوله:
(وَاسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالْـمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ، مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَأَسْرَعَ الاَْيَّامَ فِي الشَّهْرِ، وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ!).
وقوله: (فَيَا عَجَباً! عَجَباًـ وَاللهِ ـ يُمِيتُ القَلْبَ وَيَجْلِبُ الهَمَّ مِن اجْتَِماعِ هؤُلاَءِ القَوْمِ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ).
9ـ السجع والترسّل: جاء في إحدى خطبه:
(فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا، وَلْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا، وَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ، وَقَلِيلِ مُقَامِهِ، فِي مَنْزِل حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلاً، فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ، وَمَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ فَطُوبَى لِذِي قَلْب سَلِيم، أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ، وَتَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ، وَأَصَابَ سَبِيلَ السَّلاَمَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ، وَطَاعَةِ هَاد أَمَرَهُ، وَبَادَرَ الْهُدى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ، وَتُقْطَعَ أَسْبَابُهُ، وَاسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ، وَأَمَاطَ الْحَوْبَةَ، فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ، وَهُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ).
وقوله:
(وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ، وَالعَلَمِ المأْثُورِ، وَالكِتَابِ المسْطُورِ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ، وَالضِّيَاءِ اللاَّمِعِ، وَالاَمْرِ الصَّادِعِ، إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ، وَتَحْذِيراً بِالايَاتِ، وَتَخْويفاً بِالمَثُلاَتِ، وَالنَّاسُ في فِتَن انْجَذَمَ فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وَتَشَتَّتَ الاَْمْرُ، وَضَاقَ الْـمَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، واَلعَمَى شَامِلٌ).
ومن قوله لما أنكر عليه الخوارج تحكيم الرجال: (إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ. وهذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ. وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللهِ، وقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)، فَرَدُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بسُنَّتِهِ; فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُكمَ بسُنَّةِ رَسُولِهِ فَنَحْنُ أَوْلاَهُمْ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ أَجَلاً فِي التَّحْكِيمِ؟ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ، وَيَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الأُْمَّةِ، وَلاَ تُؤْخَذُ بِأَكْظَامِهَا..) (16).
وقوله: (ومن ترك الجهاد في الله، وأدهن في أمره، كان على شفا هلكه، إلا أن يتداركه الله بنعمة، فاتقوا الله، وقاتلوا من حادّ الله، وحاول أن يطفئ نوره.
قاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين المجرمين الذين ليسوا بقرّاء للقرآن، ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام. والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بعمال كسرى وهرقل. تيسّروا وتهيأوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم، شخصنا إن شاء الله، ولا حولة ولا قوة إلا بالله).
10ـ التوازن
..كثيراً ما تجيء الجمل في نهج البلاغة متوازنة، بأن يتساوى عدد كلماتها، أو تتماثل أوزان نهاياتها، وهذا ضرب آخر من موسيقى التعبير، ويجيب إلى السمع، ويقربه إلى الذوق. (17)
ومن الموازنة قول الإمام علي:
(لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ، وَلاَ تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ، وَلاَ وَقَفَ بِهِ عَجْرٌ عَمَّا خَلَقَ،وَلاَ وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهُةٌ فِيَما قَضَى وَقَدَّرَ، بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ، وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ، وَأَمْرٌ مُبْرَمٌ..).
وقوله:
(وَإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ، وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ، لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ، وَإِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الأَوْبَةِ، وَإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالفَوْزِ أَو الشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لاَِ فْضَلِ الْعُدَّةِ، فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ نُفُوسَكُمْ غَداً. فَاتَّقَىْ عَبْدٌ رَبِّهُ، نَصَحَ نَفْسَهُ، قَدَّمَ تَوْبَتَهُ، غَلَبَ شَهْوَتَهُ، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ، وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ، والشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِه، يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا، وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا، حتّى تَهْجُم مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا. فَيَالَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَة أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً، وَأَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ! نَسْأَلُ اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمِّنْ لاَ تُبْطِرُهُ نَعْمَةٌ، وَلاَ تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ، وَلاَ تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَلاَ كَآبَةٌ).
وكذلك قوله: (إِنَّ الزَّاهِدِينَ في الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِكُوا، وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا، وَيَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا بِمَا رُزِقُوا..).
وقد يجيء التوازن في آخر الجمل لا في نهاياتها، فيؤلف انسجاماً في نطق الكلمات وفي سماعها، مثل قوله: (الْحَمْدُ للهِ غَيْرَ مَقْنُوط مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلاَ مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ، وَلاَ مَأْيُوس مِنْ مَغْفِرَتِهِ، وَلاَ مُسْتَنْكَف عَنْ عِبَادَتِهِ، الَّذِي لاَ تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ، وَلاَ تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ) فإن هنا موازنة بين مقنوط ومخلوّ وميؤوس.
11ـ الجناس، الطباق، المقابلة، والتوشع.. الخ.
كما استعرض الدكتور الحوفي، أمثلة عديدة عن الخيال البياني في خطب علي بن أبي طالب ورسائله ـ وما تعتمده من (التشبيه) و(الاستعارة) و(الكناية) و(المجاز) ـ وهي عدة الشاعر والخطيب والكاتب، التي برع فيها علي براعة منقطعة النظير، في شتى شؤون المعرفة، والعقل، والنفس، وفي مختلف قضايا البشر، والدين والدنيا.
[align=center] ميزة خاصة[/align]
إن نهج البلاغة ـ كما يقول ابن أبي الحديد ـ إذا تأملته، (وجدته كله ماء واحداً، ونفساً واحداً، وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية).. وهو ـ في عظمته الأسلوبية ـ يحتوي على عبقرية الحسن اللفظي، تلك العبقرية التي تتمثل في علاقة اللفظة بالأخرى، والتي ترد في خطب، وفقرات ممتازة التميّز، تأخذ فيها اللفظة بعنق قرينتها، جاذبة إيّاها إلى نفسها، دالة عليها بذاتها.وذلك باعتراف جعفر بن يحيى، الذي كان من ابلغ الناس وأفصحهم، كما رأى الجاحظ. قال الجاحظ: حدثني ثمامة، قال:
(سمعت جعفر بن يحيى ـ وكان من أبلغ الناس وأفصحهم ـ يقول: الكتابة بضم اللفظة إلى أختها، ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر ـ وقد تفاخر ـ أنا أشعر منك، لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه، ثم وناهيك حسناً بقول علي بن أبي طالب:
(هَلْ مِنْ مَنَاص أَوْ خَلاَص، أَوْ مَعَاذ أَوْ مَلاَذ، أَوْ فِرَار أَوْ مجاز أوْ مَحَار) (18).
قال أبو عثمان (الجاحظ): وكان جعفر يعجب أيضاً بقول علي:
(أي من جد واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيد، وفرش فمهّد، وزخرف فنجّد).
قال: (ألا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها، جاذبة إيّاها إلى نفسها، دالة عليها لذاتها).
وقد روى هذا كله أيضاً ابن مسكويه في كتابه (الحكمة الخالدة) بأسلوب آخر عن جعفر بن يحيى. والفقرات التي حكى الجاحظ إعجاب جعفر بن يحيى بها، وهي (هل من مناص أو خلاص ...الخ) هي من بعض فصول هذه الخطبة.
أما الفقرات التي أعجب بها جعفر وهي (أي من جد واجتهد ...الخ) فهي من خطبة أخرى ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد.
وأولها: (أوصيكم عباد الله، عباد الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته وبتقديم العمل وترك الأمل، فإنه من فرّط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله...).
[align=center] النص الوصفي[/align]
إن ذكاء علي بن أبي طالب النادر، كان يستعين بذاكرة قوية، وقدرة هائلة على اختزان صور الناس والطبيعة، وأخبار البشر، وأوصاف الأشياء، وكانت دقة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة، بسمات الشيء الباطنة، قبل الظاهرة.
وبفعل ذلك كان وصفه يتغلغل إلى عمق الظاهرة، أو الصفة، كما يتسع ليربط الظاهرة بالأخرى، والصفة بالأخرى، ليقدّم رؤية شاملة، تضع الجزئي في موضعه الحقيقي ضمن العام، وتضع البعض ضمن الكل. وبما أن أبلغ وصف هو ذلك الذي ينقل الصور البليغة للأشياء ويعكسها بأجمل تعبير، وأقوى إيحاء، وأدق وصف، وأجلى تعبير، فإن سحر البيان الذي أوتيَهُ علي بن أبي طالب، كان يجعل من عملية الانعكاس الوصفي قطعاً فريدة من النصوص الوصفية التي تفخر بها العربية.
ومثل شأن علي بن أبي طالب، في معرفته بالعلوم اللغوية، والفقهية، والشرعية، والعسكري، كانت الفنون الأسلوبية المميزة لقدرته البلاغية، والمجسّدة لفكره الثاقب، تجعله مبدعاً في ميادين الأساليب المتعددة. فهو يقدم النص الوصفي بالقدرة الرائعة، التي يقدم بها النص السياسي، أو الفقهي، أو الأخلاقي. ورغم أن وصف الأشياء يتصل اتصالاً دقيقاً بعملية انعكاس الأشياء نفسها في الذهن، إلا أن طبيعة النفس المرهفة، والعقل النير، تجعل من عملية الانعكاس إعادة خلق صوري للموصوف، فيصبح الموصوف (في الصورة البلاغية) يشبه الحقيقة الملموسة للشيء الموصوف، ويتجاوزه بالجمالية الممنوحة إليه من داخل كلمات النص.
إن علياً بن أبي طالب كان يستنطق الصفات، واهباً إيّاها المقدرة على أن تستعرض نفسها، بشفافية أكثر.
لقد تميز: (بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن وتتسع، فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذي فكره، وتقوّي خياله، فتسهل عليه محاكمة الأشياء والمقارنة بين عناصرها لإثبات أرجحها وأفضلاه للبقاء والتعميم.
وحديثه عن الطبيعة بمظاهرها الحية بما يتخللها من قواعد ونواميس حياتية وما يحكمها من إرادة خفية دقيقة التنظيم والصنع، وكلامه عن السحاب والزرع والحيوانات المختلفة المتباينة كالخفاش والطاووس والنملة، وتحليله الأوضاع الاجتماعية والغرائز الإنسانية، يعتبر في ذروة أنموذج التفكير العلمي المبدع المبني على دقة الملاحظة والادراك الواعي، وهو بذلك كما يقول العقاد تلميذ ربّه جلّ وعلا) (19).
قال في وصف النملة:
(انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا، وَصَبَتْ عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا. تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وُرُودِهَا لِصَدَرِهَا، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا، لاَ يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ! وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أُكْلِهَا، وَفِي عُلْوهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً! فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ. وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْء، وَغَامِضِ اخْتِلاَفِ كُلِّ حَيّ).
وقال يصف الخفّاش:
(وَمِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْء، وَيَبْسُطُهَا الظَّلاَمُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ، وَكَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نقُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا، وَتَتَّصِلُ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا. وَرَدَعَهَا بِتَلاَْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا (20)، وَأَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلاَقِهَا (21). فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بَالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا، وَجَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ في الْـتَِماسِ أَرْزَاقِهَا; فَلاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ (22)، وَلاَ تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ. فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا، وَدَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ (23) فِي وِجَارِهَا، أَطْبَقَتِ الاَْجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا وَتَبَلَّغَتْ (24) بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَمَعَاشاً، وَجَعَلَ النَّهَارَ لَهَا سَكَناً وَقَرَاراً! وَجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ، كَأَنَّهَا شَظَايَا الآذَانِ، غَيْرَ ذَوَاتِ رِيش وَلاَ قَصَب، إِلاَّ أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلاَماً، لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا، وَلَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلاَ. تَطِيرُ وَوَلَدُهَا لاَصِقٌ بِهَا لاَجِيٌ إِلَيْهَا، يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ، وَيَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، لاَ يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ، وَيَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ، وَيَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ، وَمَصَالِحَ نَفْسِهِ. فَسُبْحَانَ الْبَارئِ لِكُلِّ شَيْء، عَلَى غَيْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ).
وقال يصف الجرادة:
(وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَ اوَيْنِ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ (25)، وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ (26)، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا (27)، وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِم، حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا (28)، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا، وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً).
وقال في وصفه للطاوس:
(يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْـمُخْتَالِ، وَيَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَهُ، فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ، وَأَصَابِيغِ وِشَاحِهِ; فَإذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ زَقَا مُعْوِلاً بِصَوْت يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ، وَيَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ، لاِنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلاَسِيَّةِ. وَقَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِيصِيَةٌ خَفِيَّةٌ، وَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ، وَمَخْرَجُ عَنُقِهِ كالاْبْرِيقِ، وَمَغَرزُهَا إلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ الْـيَـمَانِيَّةِ، أَوْ كَحَرِيرَة مُلْبَسَة مِرْآةً ذَاتَ صِقَال..) (29).
وقال ينفي زعم من يقول إن الطاووس يلقح أنثاه بدمعة تذرفها عينه فتشربها أنثاه فتحمل:
(وَلَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَة تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ، فَتَقِفُ في ضَفَّتَي جُفُونِهِ، وأَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذلِكَ، ثُمَّ تَبِيضُ لاَ مِنْ لِقَاحِ فَحْل سِوَى الدَّمْعِ الْمُنبَجِسِ، لَمَا كَانَ ذلِكَ بَأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ) (30).
ومن كلام له في الأرض قال رداً على رغم أن الأرض تدور على قرن ثور وغير ذلك من الأباطيل والأوهام:
(وَأَنْشَأَ الأرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَال، وَأَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَار، وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ، وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعائِمَ).
وقال في تكوين الجبال:
(وَجَبَلَ جَلاَمِيدَهَا، وَنُشُوزَ مُتُونِهَا وَأَطْوَادِهَا، فَأَرْسَاهَا في مَرَاسِيهَا، وَأَلْزَمَهَا قَرَارَاتِهَا، فَمَضَتْ رُؤُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ، وَرَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ، فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا، وَأَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي متُونِ أَقْطَارِهَا، وَمَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا، فَأشْهَقَ قِلاَلَهَا، وَأَطَالَ أَنْشَازَهَا، وَجَعَلَهَا لِلأَرْضِ عِمَاداً، وَأَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً، فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِن أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا، أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا، أَوْ تَزُولَ عَنْ مَواضِعِهَا).
.................................................. ...........
الهوامش:
9 - الدكتور أحمد محمد الحوفي، بلاغة الإمام علي.
10 - آثرنا ـ هنا ـ تلخيص موضوع الدكتور الحوفي واختيار أهم النماذج التي وردت فيه.
11 - لدكتور أحمد محمد الحوفي، بلاغة الإمام علي.
12 - اللدم: صوت الحجر أو العصا تدقُ بها الأرض دقاً هيناً يصحبه قول الصائد عند حجر. الضبع: خامري أم عامر، أي الزمي حجرك. فتنام: فيدخل إليها ويصيدها ـ المصدر.
13 - الأهضام: جمع هضم على وزن نهر وهو المطمئن من الوادي. الغائط: ما سفل من الأرض. البجر: الداهية والأمر العظيم.
14 - الدكتور أحمد محمد الحوفي، بلاغة الإمام علي.
15 - الحُوّل القُلّب: المجرّب المحنّك. الحريجة: الحرج والتقوى.
16 - أكظام: جمع كظم وهو مخرج النفس.
17 - الدكتور أحمد محمد الحوفي: بلاغة الإمام علي.
(والتوازن أو الموازنة بهذا المعنى أعم من السجع، لأن السجع ورود أجزاء الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد مثل القريب والحسيب والغريب، أما الموازنة بين أواخر الكلمات فهي مثل القريب والشهيد والجليل، فالوزن واحد والحرف الأخير مختلف). المصدر نفسه.
18 - محار: مرجع إلى الدنيا بعد فراقها.
19 - علي محمد الحسين الأديب، منهج التربية عند الإمام علي.
20 - سبحات اشراقها: درجات نورها.
21 - البلج: الضوء الواضح، الأتئلاق: اللمعان القوي.
22 - إسداف: إظلام.
23 - الضّباب: جمع ضبّ.
24 - تبلّغت: تناولت القوت.
25 - قمراوين: مضيئتين.
26 - منجلين: رجلين (شبههما بالمنجلين لا عوجاجهما وخشونتهما).
27 - ذبّها: دفعها وأبعدها.
28 - نزواتها: وثباتها.
29 - زقا: صوت. معولاً: صارخاً (أي أنه يزهى بنفسه، فإذا نظر إلى ساقيه، أعول حزيناً لأنهما قبيحتان). الظنبوب: حرف الساق. صيصيه: شوكة في رجله. العرف: الشعر المرتفع على عنقه ورسه. القنزعة: الشعر حول الرأس. الوسمة: العظم الذي يخضب به.
30 - أي أن هذا الزعم كائن أيضاً في الغراب، إذ قالوا إن تلقيحه يكون بانتقال جزء من الماء المستقر في قانصة الذكر إلى الأنثى فتتناوله من منقاره، ومنشأ هذا الزعم في الغراب أنه يخفي تلقيحه.
-
[align=center] العبادات في نهج البلاغة
-- العبادة في الإسلام -------[/align]
إن من أصول تعاليم الأنبياء والمرسلين عبادة الله الواحد الأحد، وترك عبادة كل شيء سواه. ولم تخل تعاليم أي نبي من ذلك.
والعبادة في الدين الإسلامي الحنيف - كما نعلم - عنوان سائر التعاليم الإسلامية. ولكنها في الإسلام ليست بصورة سلسلة من المراسيم والطقوس والتقاليد والعادات والآداب والتعاليم المنفصلة عن الحياة والمرتبطة بالحياة الأخرى فقط، بل هي في الإسلام توأم مع الحياة وفي صميم فلسفة الحياة فيه.
ففضلاً عن أن بعض العبادات الإسلامية تؤدى بصورة جماعية، نرى أن الإسلام جعل كثيراً من العبادات الفردية بحيث تتضمن تحقيق بعض مطالب الحياة.
فالصلاة - مثلاً - التي هي مظهر كامل لإظهار العبودية، جعلت بصورة خاصة بحيث أن الفرد الذي يريد أن يصلي لوحده في زاوية بيته، يتقيد بصورة (أتوماتيكية) بالعمل بعدد من الوظائف الأخلاقية والاجتماعية، من قبيل: النظافة، ورعاية حقوق الآخرين، ومعرفة الوقت وتثمينه، ومعرفة القبلة وتثمين الاتجاه، وضبط النفس، وإعلان الصلح والسلام مع عباد الله الصالحين، وغير ذلك.
بل إن الإسلام يعتبر كل عمل مفيد - إن كان صادراً بدافع إلهي طاهر - عبادة لله. ولذلك فإنه يعتبر طلب العلم عبادة (1)، وطلب الحلال عبادة (2)، والخدمات الاجتماعية عبادة (3).
ومع ذلك، فقد شرع تعاليم خاصة وضع بها مراسيم خاصة للعبادة بالمعنى الأخص - كالصلاة والصوم والحج، ولكل من هذه العبادات علل وحكم وفلسفات (4).
[align=center]-- مراتب العبادات ------[/align]
إن الناس لا يستوون في فهم العبادة بل يختلفون في ذلك، فهي عند بعضهم نوع من المعاملة والمعاوضة التي يقع بها التبادل بين العمل والأجر عليه، فهو يعطي العمل وسوف يستلم الأجرة عليه، وكما يصرف العامل طاقته العملية لصاحب العمل فيأخذ منه الأجرة على ذلك، كذلك يتعب العابد أيضاً بعبادته إذ يركع فيها ويسجد ويقوم ويقعد، ومن الطبيعي أن يطلب على ذلك أجراً سيجده في عالم الآخرة. وكما تنحصر فائدة العمل للعامل في تلك الأجرة التي يأخذها من صاحب العمل، فإذا لم يكن هناك أجرة ذهبت أتعابه سدى، كذلك فائدة العبادة - عند هؤلاء - هي تلك الأجرة التي يُعطاها العابد في عالم الآخرة في بضاعات وسلع مادية!
وأما أن صاحب العمل إنما يعطي الأجرة عوضاً عما يستفيده من عمل العامل، فما هو الذي يستفيده صاحب الأمر في العالم (وهو الله) من عمل العبد - هذا الضعيف الذليل؟ - وعلى فرض أن يكون عطاء الأجر على العبادة تفضلاً منه وكرماً، فلماذا لا يُعطاه بدون أن يصرف مقداراً من طاقاته في عبادته سبحانه؟ فهذا ممّا لا تفكر فيه هذه الطائفة من العابدين! إذ العبادة - عند هؤلاء - نفس هذه الأعمال البدنية والحركات الظاهرية التي تتبدى بصورة محسوسة من اللسان وسائر أعضاء البدن في الإنسان!
هذا هو نوع من التصور الجاهل للعبادة عند العوام، وهو - كما يقول ابن سينا في النمط التاسع من كتابه الإشارات - ناشئ عن عدم المعرفة بالله، وإنما تقبل عبادة بهذا التصور من عوام الناس القاصرين فقط.
والتصور الآخر عن العبادة هو تصور العارفين بالله.
وفي هذا التصور لا يوجد عامل وصاحب عمل وأجرة كما بين العمال وأصحاب العمل، بل لا يمكن أن يوجد. بل العبادة - عند هؤلاء - قربان الإنسان ومعراجه وتعاليمه وصعوده إلى مشارق أنوار الوجود، وهي تربية روحية ورياضة للقوى الإنسانية، وهي ساحة انتصار الروح على البدن، وأسمى مظاهر شكر الإنسان لمبدئ الخلقة ومعيدها، وهي مظهر حب الإنسان للكامل المطلق والجميل على الإطلاق، وهي مسيرة الإنسانية إلى الكمال اللانهائي.
وفي هذا التصور عن العبادة نجد أن للعبادة جسماً وروحاً، ظاهراً ومعنى، فما يتحقق منها باللسان وسائر الأعضاء هو ظاهر العبادة وجسمها، وأما معنى العبادة وروحها فهو شيء آخر، وهو يرتبط بما يفهمه العابد من عبادته وبنوعية تصوره عن العبادة، وبالباعث له على العبادة، وبما يحظى به من عمل العبادة، وبما يتقدم به من العبادة إلى الله، ويتقرب بها إليه.
[align=center]-- العبادة في نهج البلاغة ------[/align]
- فما هي صورة العبادة في نهج البلاغة؟
إن صورة العبادة في نهج البلاغة من نوع عبادة العارفين بالله تعالى، بل نقول: إن منبع الإلهام لتصور العارفين بالله من العبادة في الإسلام - بعد القرآن الكريم وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - هو كلام الإمام (عليه السلام).
إن إحدى أوجه الأدب الإسلامي - سواء العربي أو الفارسي - هو أدب الدعاء، والأفكار الدقيقة واللطيفة التي توجد في هذا الموضوع ممّا يثير العجب ويبعث على الاستحسان.
وبمقارنة أدب الدعاء في الإسلام مع ما كان سائداً من الأدب العاطفي الإلهي والعبادي في رقعة البلاد الإسلامية قبل الإسلام، يمكننا أن نفهم مدى عظمة تلك النهضة بل الثورة التي بعثها الإسلام في الأفكار من العمق والشمول واللطف والرقة. إن الإسلام صنع من أولئك الذين كانوا يعبدون الأوثان أو الإنسان أو النيران أو الثيران، فكانوا بقصر أفكارهم يعبدون ما ينحتون بأيديهم، أو يهبط به إلى مستوى إنسان أب أو ابن أو أم، أو هم معاً، أو يصنع لأهورا مزدا ضمناً ينصبه في كل مكان فيعبده ويسجد له.. من هؤلاء، صنع أناساً وسعت عقولهم لأدق الأفكار وألطفها وأسمى التصورات وأعلى المعاني! فما الذي حدث فغيّر الأفكار والعقول ورفعها وأعلى كعبها، وقلب الموازين والمقاييس والقيم؟!
إن المعلقات السبع و(نهج البلاغة) نتاجان لعهدين متقاربين بين الجاهلية والإسلام، وكل منهما مثل أعلى للفصاحة والبلاغة في لغة عصره ومصره. أما من ناحية المحتويات فهيهات هيهات! وشتّان شتّان! فكل ما في الأول أوصاف عن الخيول والرماح والجِمال والجَمال والمدح والذم والهوى والغرام والغزل والنسب والتشبيب بالعيون والحواجب للكواعب! وأما الثاني ففيه أسمى المفاهيم الإنسانية وأعلاها وأزكاها وأطيبها وأنماها.
والآن لتتضح لنا صورة العبادة في (نهج البلاغة) نأخذ في ذكر نماذج من كلمات الإمام (عليه السلام)، ونبدأ كلامنا هنا بكلمة منه (عليه السلام) في اختلاف تصورات الناس عن العبادة.
- عبادة الأحرار
(إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار) (5).
(لو لم يتوعّد الله على معصيته لكان يجب أن لا يعصى شكراً لنعمته).
(إلهي ما عبدتك - حين عبدتك - خوفاً من تارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك) (6).
- ذكر الله على كل حال
إن أصول جميع الآثار المعنوية والأخلاقية والاجتماعية في العبادة إنما هي في شيء واحد، هو: ذكر الله على كل حال، وتناسي ما سواه. ويشير القرآن الكريم إلى الأثر التربوي والروحي للعبادة فيقول: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (7) ويقول أيضاً: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي) (8) ويشير بهذا إلى أن المصلي الذاكر لله يذكر الله ولا ينسى أنه هو عبد مراقب من قبل السميع العليم والسميع البصير. إن ذكر الله - وهو الهدف من العبادة - يجلو القلب ويصفيه ويزكيه ويطهره، ويعدّه لإجراء الحكمة فيه وعلى لسانه.
قال الإمام علي (عليه السلام):
(إن الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، وتسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به المعاندة. وما برح لله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات: رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم) (9).
وقد بين الإمام (عليه السلام) في هذا الكلام الأثر الغريب لذكر الله في القلوب، حتى أنها قد تستعد بذلك لتلقّي الإلهام من الله سبحانه والكلام معه.
مقامات المتقين
وقد عدّد الإمام (عليه السلام) في نفس هذه الخطبة - وفي سائر الخطب ومنها خطبة همام في وصف المتقين - تلك الحالات والمقامات والكرامات التي تظهر لأهل العبادة المعنوية في ظلال عبادتهم، إذ يقول:
(قد حفّت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات، في مقام اطلع الله عليهم فرضي سعيهم وحمد مقامهم، يتنسمون بدعائه روح التجاوز...) (10).
- ليالي أولياء الله
إن عالم العبادة في (نهج البلاغة) عالم آخر مليء باللذة الروحية، لذة لا تقاس باللذة المادية ذات الأبعاد الثلاثة. إن عالم العبادة في نهج البلاغة عالم مليء من الحركة والنشاط والسير والسلوك لا إلى العراق والشام ولا إلى أي أرض بلد آخر، بل إلى بلد لا اسم له على الأرض إطلاقاً! إن عالم العبادة في نهج البلاغة لا يختص بليل ولا بنهار، إذ هو مليء بالأنوار، لا ظلمة فيه ولا كدر، بل هو خلوص وصفاء وتزكية وطهارة، وما أسعد من يقدم إلى ذلك العالم - على العبادة - في نهج البلاغة! ليعلله نسيمه المحيي للأرواح والقلوب! فإن من يقدم إلى ذلك العالم لا يبالي بعد ذلك أن يضع رأسه في دنيا المادة على الحرير أو اللبنة:
(طوبى لنفس أدّت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتى إذ غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفّها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبُهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون) (11).
[align=center]-- سيماء الصالحين في نهج البلاغة ------[/align]
بيّنا في الفصل السابق صورة العبادة في نهج البلاغة، فتبيّن أن العبادة - في نهج البلاغة - ليست سلسلة من الأعمال الجامدة الجافة فقط، بل إن العمل البدني هو صورة العبادة وجسمها، وأن الروح هو شيء آخر، وأن العمل البدني إنما يجد الروح ويستحق اسم العبادة فيما إذا كان فيه ذلك الروح المعنوي لها، فإن العبادة الواقعية هي نوع من الانتقال من هذا العالم ذي الأبعاد الثلاثة إلى علام آخر مليء بالحركة والنشاط والخواطر القلبية واللذات الروحية الخاصة.
وقد جاء في نهج البلاغة الكثير عن أهل العبادة، وصور كثيرة عن ملامح العبادة والعُبّاد، فتارة: عن سهر لياليهم، وأخرى: عن خوفهم وخشيتهم، وثالثة: عن شوقهم ولذتهم، ورابعة: عن حرقتهم والتهابهم، وخامسة: عن آهاتهم وأنّاتهم وزفراتهم وحسراتهم، وسادسة: عن تلك العنايات الإلهية الغيبية التي يحصلون عليها بالعبادة والمراقبة وجهاد النفس، وسابعة: عن أثر العبادة في طرد الذنوب وآثارها، وثامنة: عن أثر العبادة في علاج الأمراض النفسية والخلقية، وتاسعة: عن لذتهم وبهجتهم الخالصة غير المحسودة والتي لا شائبة فيها..
- ذكر الله في الأسحار
(أما الليل، فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً، يُحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنها نصب أعينهم، وإذا أمروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى فكاك رقابهم. وأما النهار: فحلماء علماء، أبرار أتقياء) (12).
- الخواطر القلبية
(وقد أحيى عقله، وأمات نفسه، حتى دقّ جليله ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة، بما استعمل قلبه، وأرضى ربه) (13).
والكلام في هذه الجمل - كما ترون - عن حياة أخرى دعاها حياة العقل، وعن إماتة النفس، وعن رياضة الروح، وعن ذلك البرق اللامع الذي يلمع في قلب العابد من أثر عبادته فينير دربه، وعن المنازل والمراحل التي تسلكها الروح حتى تصل إلى المقصد: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ) (14) وعن السكينة والطمأنينة التي يصل إليها القلب المضطرب للإنسان: (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (15).
ووصف الإمام (عليه السلام) اهتمام هؤلاء بحياة قلوبهم وعقولهم في الخطبة 225 فقال:
(يرون أهل الدنيا ليعظمون موت أجسادهم وهم أشد إعظاماً لموت قلوب أحيائهم) (16).
ووصف الجذبة التي تجذب الأرواح ذوات الاستعداد للعروج إلى أعلى فقال:
(صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى) (17).
وقال (عليه السلام): (لولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب) (18).
وقال (عليه السلام): (قد أخلص لله سبحانه فاستخلصه) (19).
ووصف العلوم التي تفاض على قلوب العارفين بالله نتيجة لتهذيب نفوسهم فقال:
(هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وانسوا بما استوحش منه الجاهلون) (20).
- تنهى عن الفحشاء
جاء في التعاليم الإسلامية، إن لكل ذنب أثراً مظلماً على القلب، تقل به رغبة المذنب إلى الخيرات والأعمال الصالحة، وتكثر فيه الرغبة إلى الذنوب. وإن للعبادة وذكر الله أثره في تربية الوجدان الديني للإنسان، فتكثر فيه الرغبة إلى الخيرات والعمل الصالح، وتقل فيه الرغبة إلى الشر والفساد والذنوب. يعني أن العبادة تزيل الظلمات والكدورات الحاصلة من الذنوب وتبدلها بالميل إلى الخير والبر والعمل الصالح.
وقد جاء في (نهج البلاغة) خطبة في الصلاة والزكاة وأداء الأمانة، يقول فيها الإمام (عليه السلام) بعد تأكيد شديد على الصلاة:
(وإنها لتحت الذنوب حتى الورق، وتطلقها إطلاق الربق، وشبّهها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالحمّة (21) تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن؟) (22).
- وتعالج مفاسد الأخلاق
وفي الخطبة 196 بعد أن يشير إلى عدد من رذائل الأخلاق من قبيل: الطغيان والظلم والكبر، يقول (عليه السلام): (ومن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكيناً لأطرافهم، وتخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإزالة للخيلاء عنهم) (23).
- وفيها لذة مناجاة الله
(اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع عليهم في ضمائرهم، وتعلم مبلغ بصائرهم. فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة، إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، وإن صُبّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك) (24).
ويشير في الخطبة 148 إلى الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ثم يذكر في آخر الخطبة أناساً في آخر الزمان اجتمعت فهيم الشجاعة والحكمة والعبادة، فيقول (عليه السلام):
(ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل (25) تجلّى بالتنزيل أبصارهم، ويرمى بالتفسير في مسامعهم، ويغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح) (26).
......................................
الهوامش:
1- طلب العلم فريضة - الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).
2- العبادة عشر أجزاء تسعة منها في طلب الحلال - حديث شريف.
3- خير الناس من نفع الناس - حديث نبوي شريف.
4- وقد ورد في ذلك أحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) جمعها الشيخ الصدوق في كتاب بجزأين أسماه (علل الشرائع).
5- الكلمات القصار، الحكمة، 234، ص68، ج19، من شرح ابن أبي الحديد.
6- الكلمات القصار، الحكمة، 290.
7- سورة العنكبوت: 45.
8- سورة طه: 14.
9- الخطبة 217، ص176، ج11 من شرح النهج لابن أبي الحديد. ط أبو الفضل إبراهيم.
10- نفس المصدر.
11- الخطبة 217، ص6، ج11 من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.
12- الخطبة 186، ص132، ج10، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو افضل إبراهيم.
13- الخطبة 214، ص135، ج11 من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.
14- سورة الانشقاق: 84.
15- سورة الرعد: 13.
16- الخطبة 225، ص8، ج13.
17- الحكمة 143، ص347، ج18، من شرح النهج.
18- الخطبة 186، ص132، ج1، من شرح النهج لابن أبي الحديد.
19- الخطبة 85.
20- الحكمة 143، ص347، ج18، من شرح النهج.
21- الحمّة: حفيرة فيها ماء حار، ومنه الحمام.
22- الخطبة 192، ص202، ج10، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.
23- الخطبة 196.
24- الخطبة 225.
25- القين: العبيد، والنصل: الحديدة الحادة من السلاح.
26- الصبوح: شراب الصباح، والغبوق: شراب المساء، من الخطبة 150، ص126، ج9 من شرح النهج لابن أبي الحديد.
-
[align=center] نظام الحكم والإدارة في نـهــج الـبــلاغة
- الحكومة والعدالة -
-- مسألة الحكومة في نهج البلاغة -----[/align]
من المسائل التي بحث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حولها كثيراً، مسألة الحكومة، والعدالة. ومن يلاحظ نهج البلاغة يرى أنه (عليه السلام) قد أبدى في كلماته هذه اهتماماً خاصاً بشأن الحكومة، والعدالة، بل أنه (عليه السلام) أولاهما أهمية كبرى لا توصف. وهذا ممّا قد يحمل من لم يعرف الإسلام ديناً ونظاماً وعرف سائر الأديان المحرّفة على العجب والاستغراب، قائلاً في نفسه: عجباً! ما الذي يبعث هذا الإمام الديني على هذا الاهتمام الشديد بهذه الأمور الدنيوية؟! أو ليست هذه الأمور من شؤون الحياة الدنيا؟! فما الذي يدعُ الإمام الديني على الدخول في الدنيا والحياة والأمور الاجتماعية؟!
أما من كان يعرف الإسلام ديناً ونظاماً، وكان يعلم بسابقة الإمام (عليه السلام) في الإسلام، وأنه هو ربيب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الوحيد، الذي ربّاه صغيراً ورعاه كبيراً بتربيته وتعاليمه القيمة، فعلّمه بذلك معالم الإسلام ديناً ودولة، وأفرغ فيه أصوله وفروعه، فهذا لا يصاب بالدهشة والذعر، بل إن كان يرى غير هذا كان يذهل منه، أو ليس القرآن يقول:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (1).
وقد أعلن الله بهذه الآية الكريمة: أن الهدف من بعثة الأنبياء والرسل وإنزال الكتب هو: إقرار العدل والقسط، فقد بلغت قداسة العدالة درجة جعلت هدفاً لبعثة الأنبياء. وعلى هذا، فكيف يمكن لمثل الإمام علي (عليه السلام) - وهو المفسّر الأول للقرآن الكريم والشارح الأول لأصول الإسلام وفروعه - أن يسكت عن هذا الحق؟ أو أن لا يهتم به؟!
أما أولئك الذين لا يلتفتون إلى هذه المسألة الهامة، زعماً منهم أن أصول الدين عقائد قلبية فقط، وأن فروع الدين الهامة هي مسائل النجاسة والطهارة فقط، هؤلاء يلزمهم أن يعيدوا النظر في عقائدهم وأفكارهم عن الإسلام العظيم!
[align=center]-- أهمية الحكومة في نهج البلاغة ------[/align]
والمسألة الأولى التي يجب أن نبحث عنها هنا هي: أهمية الحكومة في نهج البلاغة خصوصاً وفي دين الإسلام عموماً. والبحث المفصل في هذا الموضوع خارج عن نطاق هذه المقالات، ولكن تجدر الإشارة إليها هنا، فنقول:
إن القرآن الكريم حينما يريد أن يأمر الرسول العظيم بإبلاغ ولاية علي (عليه السلام) من بعده على الأمة، يقول: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (2).
فأي شيء آخر أنزل إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) واهتم القرآن الكريم بهذا الاهتمام؟ وما هو المنزل الذي يساوي عدم إبلاغه عدم إبلاغ جميع الرسالة؟
ولما انهزم المسلمون في (حرب أحد) وانتشر بينهم خبر قتل الرسول (صلّى الله عليه وآله) ففرّ أكثرهم مدبرين من جبهة الجهاد الإسلامي المقدس، قال القرآن العظيم في تأنيبهم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (3).
واستفاد الأستاذ العلامة الطبابائي (قدس سره) من هذه الآية: أن القرآن الكريم يقول: لا ينبغي لكم أن يوقفكم عن الجهاد المقدس حتى انتشار خبر قتل الرسول (صلّى الله عليه وآله) بل يجب عليكم آنذاك أن تلتفوا حول لواء الزعيم المعيّن من قبل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وتقبلوا معه على جهاد عدوكم. وبعبارة أخرى: إن قتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا ينبغي أن يفرّط النظام الاجتماعي والجهادي للمسلمين (4).
وقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (إذا كنتم ثلاثة في سفر فاجعلوا أحدكم أميراً عليكم).
ومن هنا نستطيع أن نفهم مدى الأضرار البالغة التي كان ينظر إليها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من جراء عدم وجود قوة حاكمة على المجتمع تحلّ النزاعات وتعقد المجتمعات وتدفع عنهم كل هرج ومرج.
وفي نهج البلاغة الكثير من المسائل التي ترتبط بالحكومة والعدالة، سنتعرض نحن هنا لبعضها بحول الله وقوته، فنقول:
إن المسالة الأولى التي يجب أن نبحث عنها هنا هي: أهمية الحكومة ولزومها للمجتمع.
وقد صرح الإمام (عليه السلام) في كلماته المجموعة في (نهج البلاغة) بوجوب وجود حكومة قوية كثيراً، وكافح انتشار فكرة (الخوارج) الذين كانوا يدعون عدم الحاجة إلى الحكومة مع وجود القرآن الكريم بين المسلمين.
وكان شعار الخوارج (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَ للهِ) وقد اقتبسوه هم من القرآن الكريم إذ يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَ للهِ) (5) ومفاد هذه الآية الكريمة هو: أن (القانون) يجب أن يكون إما من الله تعالى، أو ممن أذن له الله من رسول الله أو من عيّنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله). ولكن الخوارج فسّروا هذه الآية من القرآن برأيهم، فأرادوا بهذه الكلمة الحقة معنى باطلاً - كما قال الإمام علي (عليه السلام) - ومفاد كلامهم هو: أن لا حق للإنسان في الحكم بل الحكم له وحده فقط.
فكان الإمام (عليه السلام) يقول: نعم، أنا أيضاً أقول: لا حكم إلا لله، لكنه بمعنى: أن وضع الحكم والقانون ليس إلا لله. وهؤلاء يقولون بأن الحكومة والزعامة أيضاً لله، وهذا باطل، فإن حكم الله لابدّ أن يجري على يد البشر، ولابد للناس من حاكم صالح أو طالح خير أو شر.
(كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله. وإنه لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر (6) يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوى، حتى يستريح برّ، ويُستراح من فاجر) (7).
إن الإمام (عليه السلام) - كسائر الرجال الربانيين - يحتقر الحكومة بصفتها مقاماً دنيوياً يشبع غريزة (حب الجاه) في الإنسان، وبصفتها هدفاً للحياة، وحينئذ فلا يعتبرها بشيء أبداً، بل هي عنده - حينذاك - أهون من عظم خنزير في يد مجذوم، كما جاء ذلك في بعض كلماته (عليه السلام).
ولكنه (عليه السلام) يقدسها تقديساً عظيماً إذا كانت مستقيمة غير محرّفة عن سبيلها الأصيل والواقعي الحق، وهو أن تكون وسيلة إلى إجراء العدل وإحقاق الحق، وخدمة الخلق، ومانعاً عن تغلب الرقيب الباطل المنتهز لفرص الوثوب على حقوق الناس. ولهذا فهو (عليه السلام) يكافح هذا الرقيب الباطل الثائر الذي ما زال يتربص بالحق الدوائر، ولا يألوا جهداً عن الجهاد المقدس لحفظها حينئذ وحراستها عن أيدي المنتهزين الطامعين.
قال عبد الله بن العباس: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار، وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال (عليه السلام): (والله لهي أحب إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً) (8).
ويتكلم الإمام (عليه السلام) في الخطبة 209 حول الحقوق فيقول:
(.. والحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف. لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له. ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب، تفضلاً منه وتوسعاً بما هو - من المزيد - أهله.
ثم جعل سبحانه من حقوقه: حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض.
وأظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق: حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي. فريضة الله سبحانه لكلٍّ على كلّ. فجعلها: نظاماً لألفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدّى الوالي إليها حقها، عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.
وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاجّ السنن، فعُمل بالهوى وعُطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حتى عُطّل، ولا لعظيم باطل فُعل، فهناك تذل الأبرار، وتعِزُّ الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد) (9).
[align=center]-- أهمية العدالة في نهج البلاغة ------[/align]
إن أولى آثار الإسلام هو أثره في أفكار المسلمين، فإنه لم يأت بتعاليم جديدة حول الفرد والمجتمع والعالم فقط، بل بدّل أفكار العالم أيضاً، وإن الأثر الذي جاء به الإسلام ليس بأقل ممّا جاء به من تعاليم.
كل معلم يعلم تلاميذه معلومات جديدة، وكل مدرسة فكرية تعطي لأتباعها ثقافات جدية، ولكن قليل من المعلمين وقليل من المدارس الفكرية التي تهب لإتباعها أسلوباً فكرياً جديداً، بحيث تغير الأسلوب الفكري السابق فيهم وتقلبه إلى مقاييس أخرى.
وهذا ممّا يحتاج إلى توضيح أكثر، فكيف تتغير أساليب الفكر؟ وللإجابة نقول:
إن الإنسان موجود مفكّر، ولهذا فهو يستند في المسائل العلمية والاجتماعية على الاستدلال، وفي استدلاله يستند إلى بعض الأصول والمبادئ التي يستنتج ويحكم بناءً على تلك المبادئ والأصول.
وإن الاختلاف في أساليب الفكر ينشأ من الاختلاف في تلك المبادئ والأصول التي يستند عليها الاستدلال والاستنتاج والحكم، فإن الاختلاف في نوعيتها ومبانيها هو الذي يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام. من هنا ينشأ الاختلاف في النتائج.
وتتساوى أساليب التفكير في المسائل العلمية بين العارفين بالأسس العلمية في كل زمان، وإن كان هناك اختلاف في المسائل العلمية فهو في أسلوب الفكر العلمي بين زمان وزمان آخر. أما في المسائل الاجتماعية فلا تتساوى أساليب الفكر حتى بين أبناء العصر الواحد. ولهذا علل لا مجال هنا للبحث فيها.
إن الإنسان حينما يواجه المسائل الاجتماعية والأخلاقية لابدّ وأن يقيّمها في نفسه وفكره، وحينئذ فهو يرتب بين تلك المسائل مراتب وقيماً ودرجات مختلفة، وعلى أساس هذه الدرجات الترتيبية تتفاوت ما يستند إليه من المبادئ والأصول من شخص إلى آخر، ومن هنا تختلف أساليب الفكر.
فالعفاف للمرأة - مثلاً - مسألة اجتماعية، فهل يمكن أن يكون تقييمه عند الجميع بأسلوب فكري واحد؟ كلا، بل الاختلاف فيه كثير، حتى أن بعضهم لا يعتبر له أي قيمة اجتماعية أو أخلاقية، بل لا يعتبر الأخلاق أصلاً. وعلى هذا فلا أثر العفاف في أفكار هؤلاء أبداً. وهناك آخرون يعتبرون له كل الثقل في القيم الأخلاقية، حتى أنهم لا يعتبرون للحياة أي قيمة لولا القيم الأخلاقية ومنها العفاف.
فحينما نقول: إن الإسلام بدّل أساليب الفكر، نعني: إنه صعد ببعض القيم وهبط ببعضها الآخر: فجعل التقوى - مثلاً، ولم تكن في ميزان قيمهم إلا بمستوى الصفر - في المرتبة العليا من قمم القيم والمثل، وجعل لها أعلى الأثمان وأرفعها وأغلاها، وهبط بأعلى قيمهم: كالدم والعنصر وغيرهما إلى مستوى الصفر.
والعدالة، هي إحدى تلك التي رجعت إلى الحياة والاعتبار، بالإسلام. فإنه لم يوص أتباعه بالعدالة فحسب، ولم يقنع منهم بإجرائها وتطبيقها فقط، بل المهم أنه رفع من قيمتها ووزنها وثقلها وثمنه في الأفكار.
وما أجمل أن نسمع هذا المعنى من لسان الإمام (عليه السلام) كما في نهج بلاغته.
سأله رجل: العدل أفضل أم الجود؟
سأله عن خاصتين من الخصائص الإنسانية، فالإنسان هارب من الظلم وشاكر للإحسان خصوصاً إذا كان الإحسان والبر بدون انتظار الجزاء والشكر.
وقد يبدو لأول وهلة أن يكون الجواب بكل سهولة: إن الجود أفضل من العدالة! إذ العدالة: رعاية لحقوق الآخرين وعدم التعدي عن الحقوق وعدم التجاوز على حقوق الآخرين. أما الجود: فهو أن ينشر الإنسان بيده حقوقه المفروضة له على غيره. فالعادل حافظ للحقوق غير متجاوز عليها، أما الجواد فهو مضحٍ بحقوقه للآخرين مفوّض لها إياهم. فالجود أفضل والجواد أنبل!
هذا إذا كانت مقاييسنا هي المقاييس الأخلاقية الفردية، فعليها يصبح الجود أجل معرّف لشخصية الإنسان الجواد، وأسمى سمة لكماله، وأعلى علامة لرقيّ روحه.
ولكن الإمام علي (عليه السلام) يجيب بعكس ذلك، فإنه يرجح العدل على الجود بدليلين:
1- (العدل يضع الأمور موضعها، والجود يخرجها من جهتها)
فإن معنى العدالة: أن تلاحظ الحقوق الواقعية والطبيعية، فيعطي لكل شخص ما يستحقه حسب استعداده وعمله، وحينئذ يجد كل شخص مكانه في المجتمع، ويصبح المجتمع كمصنع جاهز منظم. أما الجود، فهو وإن كان معناه: أن يهب الجواد ما يملكه بالمشروع للآخرين، ولكن لا ينبغي الغفلة عن أنه عمل غير طبيعي للمجتمع، إذ ما أحسن للمجتمع أن لا يوجد فيه عضو ناقص يستدعي سائر الأعضاء إلى العون والمساعدة؟! فإن الجود لا يكون إلا كمثل أن يوجد في أعضاء البدن عضو ناقص أو مريض يستدعي سائر الأعضاء إلى العون والمساعدة.
2- (العدل سائس عام، والجود عارض خاص)
فالعدالة قانون عام يدبر جميع شؤون المجتمع، فهو سبيل يسلكه الجميع أما الجود فهو حال استثنائي خاص لا يمكن أن يصبح قانوناً عاماً، فإنه إذا كان كذلك لم يحسب جوداً آنذاك.
ثم استنتج الإمام (عليه السلام) فقال: (... فالعدل أشرفهما وأفضلهما) (10).
إن فكرة كهذه حول الإنسان هي نوع خاص من الفكر على أساس تقييم خاص يبتني بدوره على أساس أهمية المجتمع وأصالته. إن الأصل في هذا التقييم هو تقديم الأصول والمبادئ (الاجتماعية) على الأصول والمبادئ الأخلاقية (الفردية) وجعل الأولى أصلاً والثانية فرعاً عليه، والأول جذعاً والثاني غصناً، والأول ركناً والثاني زيناً وجمالاً.
إن العدل في نظر الإمام (عليه السلام) هو الأصل الذي يستطيع أن يصون توازن المجتمع، ويرضيه ويهب له السلام والأمن والطمأنينة والاستقرار. أما الظلم والجور والتمييز الطبقي فهو لا يرضى حتى نفس الظالم والذي يظلم من أجله، فكيف بالمظلومين والمحرومين! العدل سبيل عام يسع الجميع ويصل بهم إلى حيث الطمأنينة والاستقرار، أما الظلم والجور فهو طريق ضيق لا يصل حتى بصاحبه إلى ما يريد.
نعلم أن عثمان بن عفان قد وهب قسماً عظيماً من الأموال العامة للمسلمين إلى أقربائه وذويه في خلافته. فلما أخذ الإمام (عليه السلام) بأزمة الأمور طلب إليه أن لا يعيد النظر إلى ما سبق، بل يقصر سعيه على ما يحدث له في خلافته! ولكنه أجاب (عليه السلام): (الحق القديم لا يبطله شيء. والله لو وجدته قد تزوج به النساء، ومُلك به الإماء لرددته. فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق) (11).
يعني: أن في العدل سعة خاصة تسع الجميع وتشملهم، ومن كان مريضاً متخماً سميناً لا يسعه العدل فليعلم أن مكانه في الظلم والجور أضيق عليه من مكانه في العدل والقسط. وإذا ضاق تدبير الأمور على الوالي بالعدل، فتدبير أموره بالجور أضيق عليه، لأنه حينئذ في مظنّة أن يصدّ عن جوره.
ويعني: أن العدل شيء بالإمكان أن يوصف بأنه من حدود الإيمان، فيقنع به المؤمن، أما إذا كان الرجل مسلوب الإيمان متجاوزاً حدود العدل، إذن لا تحده الحدود، فإنه كلما بلغ مبلغاً من شهواته تعطش إلى حدود أخرى لم يبلغها، وأحس بالعطش أكثر فأكثر.
[align=center]-- لا يصح أن نكون متفرّجين ------[/align]
إن الإمام (عليه السلام) يحسب العدالة وظيفة إلهية بل ناموساً إلهياً، فلا يصح أن يقف المسلم العارف بالإسلام وقفة المتفرج عند ترك الناس العدل ولجوئهم إلى الجور والتمييز الطبقي.
فإنه (عليه السلام) بعدما يشير في (الخطبة الشقشقية) إلى بعض الحوادث المؤلمة السياسية السابقة، يقول: (فما راعني إلا والناس كعُرف الضبع إليّ، ينثالون عليّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم.. أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز).
هجم الناس عليه من كل جانب ومكان يطلبون إليه بإصرار وإلحاح شديدين أن يتقبل الالتزام بزمام أمور المسلمين. وهو (عليه السلام) لم يكن - بعدما كان من الحوادث المؤلمة الماضية، وفساد الأوضاع الحاضرة - راغباً في قبول هذه المسؤولية العظمى، ولكن بما أنه (عليه السلام) لو لم يكن يتحمل هذه المسؤولية الكبرى كان يشوه وجه الحقيقة ويقال: أنه (عليه السلام) لم يكن يهتم بهذه الأمور ولم يكن راغباً فيها من أول يوم، وبما أن الإسلام لا يبيح للمسلم عند انقسام المجتمع إلى مجتمع طبقي، ظالم ومظلوم، متخم وجائع، أن يقف مكتوف اليدين وقفة المتفرج.. لذلك تعهد الإمام (عليه السلام) بهذا التكليف الثقيل وقال: لو لم يكن ما كان من ذلك الاجتماع العظيم، ولولا قيام الحجة علي وانقطاع العذر بوجود الناصرين، ولولا تحريم الله السكوت عن الحق على العلماء عند ظلم الظالمين وجوع المظلومين.. لكنت ألقي زمام الخلافة على عاتقها وأجلس عنها كما جلست من قبل ذلك.
[align=center]-- لا يضحي الإمام بالعدالة للمصلحة ------[/align]
قال الساسة: إن التمييز الطبقي، واستحالة الأعوان، وتأسيس الأحزاب، وسدّ الأفواه بالأموال.. كل ذلك من الوسائل الضرورية للسياسة والتدبير ولكن قد التزم بالسياسة والتدبير وأصبح ربّان سفينتها اليوم رجل هو العدو اللدود لهذه الأدوات الضرورية! بل هدفه وأمله أن يكافح هذه السياسة! وطبيعي - حينئذ - أن يتألم أرباب الطمع ورجال السياسة منه منذ اليوم الأول، ويجرهم المهم هذا إلى التخريب في الأمور وخلق الاضطرابات والقلق. ولذلك فقد أقبل على الإمام (عليه السلام) أحباؤه الخيّرون وطلبوا إليه بكل إخلاص ونصح، أن يعدّل من سياسته هذه لمصلحة أهم وأعظم! واقترحوا عليه أن يريح نفسه من الصراع في هذه الضوضاء، فإنها من أناس متنفذّين ذوي شخصيات من الصدر الأول في الإسلام! كمعاوية بن أبي سفيان والي أراضي الشام الذهبية! فما ضرّك لو سكت عن المساواة والمساواة اليوم من أجل (المصالح)؟!
وأجاب الإمام (عليه السلام): (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟ والله ما أطور به ما سمر سمير، وأمّ نجم في السماء نجماً! لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله) (12).
هذا نموذج من كلمات الإمام في تثمين العدل بنظره (عليه السلام)!
[align=center]-- حقوق الناس في نهج البلاغة ------[/align]
من الممكن أن تعمل الحكومات المختلفة في سبيل تأمين الحوائج المادية للحياة بصورة واحدة، ولكنها لا تتساوى في رضا الناس عنها، إذ يفي بعضها بقضاء الحوائج النفسية والروحية للمجتمع بينما لا تفي بها الحكومة الأخرى.
ومما يرتبط به رضا الناس هو نوعية نظر الحكومة إلى الأمة وإلى نفسها، فهل تنظر إليهم على أنهم عبيد ومماليك وهي المالكة المختارة؟! أم على أنهم ذوو حقوق في جميع الأمور وإنما هي نائبة عنهم ومؤتمنة من قبل الله عليهم وكفيلة برعاية حقوقهم؟
ففي الصورة الأولى أن كل ما عملته من عمل لهم هو من نوع العمل الذي يقوم به صاحب حيوان لحماية حيوانه عن الآفات والعاهات! بينما عملها في الصورة الثانية هو من نوع الخدمات التي يقوم بها أمين صالح لما هو في أمانته ومعهود بصلاحه. إن اعتراف الحكومة بحقوق الناس، وحذرها من كل عمل يشعرهم بنفي حقوقهم، هما من الشروط الأولية لرضا الناس عنها واعتمادهم عليها.
[align=center]-- وهكذا قال الإمام (عليه السلام) -----[/align]
والآن نستعرض هنا نماذج من نصوص الإمام (عليه السلام) في (نهج البلاغة) في باب الحقوق والعدالة الاجتماعية.
يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة 209:
(أما بعد: فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم. فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له).
فالكلام في هذا المقطع حول الحق والعدالة والوظيفة والتكليف من قبل الله تعالى، ولكن لا بصورة أن الله أعطى لبعض الأفراد من الناس حقوقاً ثم لم يجعلهم مسؤولين سوى أمام أنفسهم فحسب! وأنه حرم آخرين من هذه الحقوق وإنما جعلهم مسؤولين أمام أنفسهم وأمام ذوي تلك الحقوق إلى منتهى حدود المسؤولية! ممّا ينفي كل معنى للعدل والظلم بين الحاكم والمحكوم عليه.
ويقول (عليه السلام) فيها أيضاً: (وليس امرؤ - وإن عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته - بفوق أن يعان على ما حمّله الله من حقه، ولا امرؤ - وإن صغرته النفوس وأقحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أو يُعان عليه.
فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل).
[align=center]-- الحاكم أمين وليس مالكاً للحكم ------[/align]
قلنا في الفصل الساق: إنه ظهرت في القرون الأخيرة من بعض علماء الغرب فكرة خطرة مضلة، لها نصيب كبير في دفع المجتمع البشري نحو المادية، وهي: إنهم قرروا بين الإيمان بالله من ناحية ونفي حق الحكم عن العموم من ناحية أخرى علاقة مختلفة! وافترضوا! أن المسؤولية أمام الله تستلزم نفي المسؤولية أمام الناس، وأن حق الله يعوّض عن حق الناس! فبدل أن يكون الإيمان بخالق العالم على العدل أساساً وضماناً لفكرة الحقوق الفطرية، جعل مناقضاً لها! وحينئذ فمن الطبيعي أن يحسبوا أن إقرار حق الحكم للأمة يساوي نفي الخالق!
والأمر في الإسلام على العكس من هذه الفكرة تماماً. ففي (نهج البلاغة) مثلاً مع أنه كتاب معرفة الله وتوحيده ومع أنه يتكلم في كل مكان عن الله وعن حقوقه على العباد - مع ذلك - لم يسكت هذا الكتاب المقدس عن حقوق الناس الحقة والواقعية، وعن مكانتهم المحترمة الممتازة أمام حكامهم، وعن أن الحاكم في الواقع ليس إلا حارساً مؤتمناً على حقوق الناس، بل أكد على ذلك كثيراً.
إن الإمام الحاكم - في نهج البلاغة - حارس أمين على حقوق الناس ومسؤول أمامهم! وإن كان لابدّ من أن يكون أحدهما للآخر فالحاكم هو الذي جعل في هذا الكتاب المقدس للناس، لا أن يكون الناس للحاكم! وعنه اقتبس سعدي الشيرازي إذ قال:
[align=center]ليست الأغنام ملكاً للرعاة **** إنما هم يخدمون الغنما[/align]
وإن لكلمة (الرعية) مفهوماً إنسانياً جميلاً في الإسلام، ولأول مرة نرى استعمال هذه الكلمة في (الناس المحكومين) وكلمة (الراعي) في الحاكم في كلمات الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ثم في كلمات الإمام علي (عليه السلام) بكثرة. وهي من مادة (رعى) بمعنى: حفظ وحرس، وإنما أطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هذه الكلمة (الرعية) على الناس من جهة أن الحاكم في الإسلام يجب أن يتعهد بحفظهم وحراستهم في أنفسهم وأموالهم وحقوقهم وحرياتهم. ومن أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في هذا المورد قوله (صلّى الله عليه وآله):
(كلكم راع وكلكم مسؤول، فالإمام راع وهو مسؤول، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول) (13).
وقد ذكرنا في الفصل السابق نماذج من نهج البلاغة ترينا نظرية الإمام (عليه السلام) في حقوق الناس، وسنذكر في هذا الفصل أيضاً نماذج أخرى في ذلك. ونقدم عليها موضوعاً من القرآن الكريم، فنقول: قال الله تعالى في (سورة النساء، آية 58):
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).
وقال الشيخ الطبري (قدس سره) في (مجمع البيان) في ذيل هذه الآية الكريمة: قيل في المعنى بهذه الآية الكريمة: أقوال: أحدها: إنها في كل من اؤتمن في أمانة من الأمانات، وأمانات الله أوامره ونواهيه، وأمانات عباده فيما يأتمن بعضهم بعضاً من المال وغيره.. وثانيهما: إن المراد به ولاة الأمر، أمرهم الله أن يقوموا (برعاية الرعية) وحملهم على موجب الدين والشرعية..) ثم قال: (ويعضده: أنه سبحانه أمر الرعية بعد هذا بطاعة ولاة الأمر. وروي عنهم: إنهم قالوا: (آيتان، إحداهما لنا والأخرى لكم). قال الله: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا). ثم قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ).. ولذلك قال أبو جعفر (عليه السلام): (إن أداء الصلاة والزكاة والصوم والحج من الأمانة) ويكون من جملتها: الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلق به حق الرعية..) (14).
وروى السيد الطباطبائي في تفسيره (الميزان) عن (الدرر المنثور) بأسانيده عن علي (عليه السلام) أنه قال: (حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا) (15).
فالملاحظ: هو أن القرآن الكريم يرى الحاكم حارساً أميناً على المجتمع، وأن الحكومة العادلة إنما هي أمانة على عاتق الحاكم يجب أن يؤديها إلى الأمة وأن أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من ولده (عليهم السلام) إنما أخذوا عن القرآن ما قالوه بهذا الصدد.
وبعد أن تعرفنا الآن على منطق القرآن الكريم في هذا الموضوع فلنعرض نماذج أخرى من (نهج البلاغة)، وعلينا أن نفحص ذلك في كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ولاته على الأمصار والبلدان، ونخص بالفحص ما كان منها بصورة مرسوم حكومي عام، ففيها تنعكس آراء الإمام (عليه السلام) في شأن الحاكم، ووظائفه إمام الناس، وحقوق الناس عليه.
ففي كتابه إلى عامله على آذربيجان يقول (عليه السلام): (وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعىً لمن فوقك، ليس لك أن تفتات في رعيته..) (16).
وفي مرسومه الحكومي العام إلى جباة الزكاة والأموال العامة، يعظهم ويذكرهم بالله، ثم يقول: (.. فأنصفوا الناس من أنفسهم، واصبروا، فإنكم خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة..) (17).
وفي وصيته إلى مالك الأشتر النخعي إذ ولاه مصر، يقول (عليه السلام): (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق..). ولا تقولن أني مؤمّر آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرّب من الغير.. فإن حقاً على الوالي أن لا يغيره على رعيته فضل ناله ولا طول خُصّ به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمة دنواً من عبده وعطفاً على إخوانه..) (18).
وهكذا نشاهد في كتب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ولاته وعماله على البلاد تحسساً شديداً للعدل، والشفقة بالرعية، واحترام حقوق الناس، ممّا لا ينقضي منه العجب كل العجب.
وقد نقل السيد الشريف الرضي (رحمه الله) في نهج البلاغة وصية له (عليه السلام) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وقال (رحمه الله): وإنما ذكرنا هنا جملاً منها ليعلم بها أنه (عليه السلام) كان يقيم عماد الحق ويشرع أمثلة العدل في صغير الأمور وكبيرها ودقيقها وجليلها).
(انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له. ولا تُروعنّ مسلماً، ولا تجتازنّ عليه كارهاً، ولا تأخذ منه أكثر من حق الله في ماله. فإذا قدمت على الحيّ فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، ولا تخرج بالتحية لهم (19).
ثم تقول: يا عباد الله! أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم. فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليّه؟!
فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه. وإن أنعم لك منعم فانطلق معه، من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسِفه أو ترهقه. فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به. ولا تنفرنّ بهيمة ولا تفزعنّها، ولا تسوءنّ صاحبها فيها. واصدع المال صدعين ثم خيّره، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيّره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره.. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه. فإن استقالك فأقله، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق الله في ماله) (20).
وارى أن هذا يكفي لبيان نظرية الإمام (عليه السلام) بصفته حاكماً نموذجياً مسلماً في حقوق الناس بصفتهم محكومين.
.................................................. ..
الهوامش:
1- سورة الحديد: 25.
2- سورة المائدة: 67.
3- سورة آل عمران: 144.
4- في بحثه حول (الحكومة والولاية).
5- سورة الأنعام: 57.
6- يعني أنه مع فرض عدم وجود الحكومة الصالحة فالحكومة الصالحة خير من حكومة قانون الغابات. المؤلف.
7- الخطبة 40، ص310، ج2، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.
8- الخطبة 33، ص185، ج3، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.
9- الخطبة 209، ص88-92، ج10، من شرح النهج لابن أبي الحديد.
10- الحكمة 437.
11- الخطبة 15، ص269، من ج1 من شرح النهج لابن أبي الحديد.
12- الخطبة 126.
13- البخاري، ج7، كتاب النكاح.
14- مجمع البيان للشيخ الطبرسي (قدس سره)، ج3، ص63، ط صيدا - لبنان.
15- الميزان، ج4، ص410، وفي الدرر المنثور، ج2، ص175، ط لبنان.
16- نهج البلاغة، الكتاب الخامس من قسم الكتب والرسائل.
17- نفس المصدر، الكتاب 51.
18- نفس المصدر، الكتاب 52.
19- أي غير ناقصة.
20- نهج البلاغة - الكتاب 25 وراجع أيضاً الكتاب 26، وهو عهد له (عليه السلام) إلى بعض عماله وقد بعثه على الصدقة أيضاً، و27 وهو عهد له (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر (رحمه الله) و47.
-
[align=center]
الحكمة والموعظة الحسنة في نـــهـــج الـــبـــلاغــة
-- مواعظ لا نظير لها ------[/align]
إن المواعظ في (نهج البلاغة) من أكبر أبوابه وأوسعها، فإنها تستغرق نصفاً من مجموعه تقريباً، ولذلك فقد اشتهر هذا الكتاب بهذا الباب أكثر من سائر الأبواب.
وإذا تجاوزنا مواعظ القرآن الكريم والرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله)، والتي تعد كأصول لمواعظ نهج البلاغة، كانت المواعظ في هذا الكتاب ممّا لا نظير له في غيره.
وقد مر على صدور هذه المواعظ أكثر من ألف عام، وهي بعد تؤدي دورها الخارق وتؤثر أثرها الغريب! فإن هذه الكلمات الحية الخالدة لم تفقد بعد أثرها الذي ينفذ في القلوب والألباب والأفئدة والعقول والبصائر فيهزّها، وفي العواطف والأحاسيس فتجريها دموعاً من العيون والآماق! سيبقى أثرها هذا النافذ ما بقيت للإنسانية نسمة تتنشق النسيم الغض وتتفهم معاني الكلمات والحروف!
إن الموعظة الحسنة - كما جاء في القرآن الكريم - هي إحدى الأساليب الثلاثة للدعوة: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1).
والفرق بين الحكمة والموعظة الحسنة:
هو أن الحكمة يراد بها التعليم والإرشاد والنصيحة، أما الموعظة فيراد بها التذكير وإلفات النظر إلى ما من يعرف ويعلم ولكنه في غفلة أو تغافل أو تجاهل منه.
فالحكمة يراد بها التنبيه، أما الموعظة فيراد بها الإيقاظ.
والحكمة يراد بها مكافحة الجهل، والموعظة يراد بها مكافحة الغفلة والتغافل.
فالحكمة فكرة وتعقّل، أما الموعظة فهي (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
والحكمة تعلم، والموعظة تذكّر.
والحكمة تزيد الإنسان وجداناً ذهنياً، أما الموعظة فهي توقظ الذهن للاستفادة من الوجدان.
والحكمة مصباح وسراج، أما الموعظة فهي إلفات النظر إلى ذلك الضياء.
والحكمة للفكرة، والموعظة للتفكّر.
والحكمة ترجمان العقل، والموعظة ترجمان الروح والأحاسيس والعواطف.
ومن هنا يفرق بين الحكمة والموعظة الحسنة أيضاً: بأن لشخصية الواعظ في الموعظة دوراً بارزاً، أما الحكمة فهي (ضالة المؤمن يأخذها أينما وجدها، ولو من فم فاسق أو فاجر أو غادر أو خاسر أو كافر)!
و(الحكمة جوهرة يأخذها المؤمن أينما وجدها ولو في فم كلب أو سبع)! ففي الحكمة لا مانع من اختلاف الأرواح بين الناطق بها والسامع، أما في الموعظة فلابدّ من ارتباط بينهما واتصال كما في السلك الكهربائي بين السالب والموجب، وحينئذ يكون كما قيل: (ما خرج من القلب دخل في القلب، وما خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان).
[align=center]-- الوعظ والخطابة ------[/align]
وهناك فرق بين الوعظ والخطابة أيضاً:
فإن الخطابة تخاطب العواطف والأحاسيس، لكي تثيرها وتثور بها، أما المواعظ فهي وإن كانت تخاطب العواطف أيضاً، ولكنها لأجل أن تؤثر فيها وتتسلط عليها وتخضعها.
فالخطابة إنما تفيد فيما إذا كانت العواطف راكدة خامدة هامدة جامدة، وأما الموعظة فهي ضرورية فيما إذا كانت الشهوات والأحاسيس عاتية طاغية لتهدّئها وتسكّنها.
والخطابة تثير أحاسيس الغيرة، والحمية، والحماية، والثورة، والعصبية، وللرفعة، والعزة، والفتوة، والمروءة، والشرف والكرامة، والبر، والصلة، والخدمة.. وتوجد فيها الحركة والنشاط. أما الموعظة فهي تهدّئ من ثورة هذه الأحاسيس وتغير الضارة منها.
والخطابة تخرج أزمة الأمور من يد العقل فتودعها بيد الأحاسيس والعواطف، أما الموعظة فهي تهدّئ من فورة العواطف وتهيئ الأرضية للمحاسبة وإمعان النظر في الأمور.
والخطابة تخرج بالإنسان إلى العالم العيني الخارجي، والموعظة تدخل بالإنسان إلى نفسه وفكره. وكلاهما ضروريان للإنسان.
ولذلك نرى في نهج البلاغة من كلا النوعين. والعمدة هي مراعاة موقعهما. وقد راعى الإمام (عليه السلام) هذا الأمر تماماً، فأورد الخطابة المثيرة حيث يجب أن تُثار العواطف والأحاسيس فتطغى وتطيح بأسس الظلم والظالمين، كما في خطاباته التي أوردها في صفين:
منها: حيث تسرّع معاوية إلى الشريعة فامتلكها وضيق على المؤمنين وأميرهم الإمام (عليه السلام). وكان الإمام (عليه السلام) يحذّر من البدء بالقتال ويحاول أن يحل المشكلة عن طريق الكلمة الحكيمة، لكن معاوية أبى عن الحل السلمي بالكلام واغتنمها فرصة للمضايقة الحربية، فضاق الأمر بذلك على أصحاب علي (عليه السلام). فاضطر الإمام إلى أن يثير كوامن النفوس بخطاب حماسي يرد به العدو على أعقابه خاسئاً خاسراً، فخطبهم وقال:
(... قد استطعموكم القتال، فأقروا على مذلة وتأخير محلة! أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء! فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين! ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة، وعمش عليهم الخبر حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية..).
وعملت هذه الكلمات النارية عملها الحاد والمهيّج، فأثارت الدماء والغيرة، ولم يمسوا حتى ملكوا عليهم الشريعة دونهم، وطردوهم عنها خاسئين خائبين!
أما مواعظ الإمام (عليه السلام) فقد كانت في أحوال أخرى.
سارت عجلة الفتوحات المتتالية في دور الخلفاء وعلى عهد عثمان بالخصوص بسرعة هائلة، فكان من أثرها الغنائم الكثيرة غير المنتظمة والثروة العظيمة التي ساعدت على إيجاد النظام الطبقي (الأروستقراطي) الأشرافي والقبلي، في إشاعة الفحشاء وفساد الأخلاق ورفاهية العيش والتنعم والجمال والكمال المادي دون المعنوي وعبادة المال، بين مختلف طبقات المسلمين، وبذلك عادت العصبيات القبلية.. وفي خضّم هذه الغنائم والعصبيات كان الصوت الملائكي الوحيد الذي يرتفع للوعظ والإرشاد.. هو صوت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم صوت تلامذته المتأدبين بآدابه والمتربّين بتربيته..
وسنبحث في الفصول التالية في العناصر التي تشتمل عليها مواعظ الإمام (عليه السلام)، من: التقوى.. والزهد.. والدنيا.. والقبر.. والقيامة.. وغيرها..
[align=center]-- الموعظة من أهم أبواب نهج البلاغة ------[/align]
إن 86 خطبة من مجموع 240 خطبة من نهج البلاغة، خطب موعظة أو فيها موعظة. منها ثلاث خطب طويلة تختص بالموعظة: كالخطبة 174 التي تبتدئ بقوله (عليه السلام): (انتفعوا ببيان الله...) و(الخطبة القاصعة). و(خطبة المتقين، 191).
وإن (25) كتاباً من مجموع 80 كتاباً من نهج البلاغة، كتب مواعظ! أو فيها موعظة، ثلاث منها أيضاً كتب طويلة تختص بالموعظة: كالكتاب: (31) إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام) (أو محمد بن الحنفية - كما في ابن ميثم البحراني وتحف العقول) وعهده إلى مالك الأشتر النخعي حينما ولاه مصر، والكتاب (45) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري واليه على البصرة.
- مواضيع وعظه (عليه السلام)
إن مواضيع وعظه (عليه السلام) مختلفة ومتنوعة: فالتقوى، والتوكل، والصبر، والزهد، والتحذير عن الاغترار بالدنيا، ورفاهية العيش، وهوى النفس، وطول الأمل، والعصبية للعصبة، والظلم والجور، والتفرقة. والترغيب في الإحسان، والمحبة، والأخذ بيد المظلومين، وحماية الضعفاء والمساكين، والاستقامة، والقوة والفتوة والمروءة، والشجاعة والبسالة والبطولة، والوحدة، والعبرة، والفكرة، والمحاسبة، والمراقبة، واغتنام العمر، وتذكر الموت، وشدائده، وسكراته، وما بعده، وأهوال القيامة.. هذه هي العناصر التي أعيرت الاهتمام في كلام الإمام (عليه السلام).
- لنتعرف على منطق الإمام (عليه السلام)
إنا إذا أردنا أن نعرف نهج البلاغة، أو الإمام (عليه السلام) خطيباً واعظاً وناصحاً مشفقاً، أو مدرسته الإرشادية، كي نستفيد من ذلك المنبع الفياض، لا يكفينا أن نعدّد المواضيع والعناصر المطروحة في نهج البلاغة فقط، لا يكفينا أن نعلم أن الإمام (عليه السلام) قد تكلم في نهج البلاغة في التقوى والتوكل والزهد والدنيا مثلاً.. بل يجب علينا أن نتعرف على تلك المفاهيم الخاصة التي كان يفهمها الإمام (عليه السلام) من هذه المعاني، وأن نعرف فلسفته التربوية الخاصة في تربية الإنسان المسلم، وترغيبه في الطهارة والنجاة من أسر الأرجاس والأنجاس، والتحرر المعنوي عن ربقة الدنايا.
إن هذه الكلمات التي عدّدناها عناصر لوعظه (عليه السلام) كلمات تجري على جميع الألسن وتسمع من كافة الأفواه، ولا سيما ألسنة أولئك الذين يتخذون لأنفسهم سمة الناصح الأمين، ولكن لا يتساوى الجميع ما في يرمون إليه منها، وقد تكون مفاهيمهم منها تتجه إلى نواح متناقضة أو مضادة أو مختلفة على الأقل، ومن الطبيعي أن تكون نتائجها أيضاً مختلفة.
ولهذا يجب علينا أن نتكلم بشيء من التفصيل في مفاهيم هذه العناصر في مدرسة الإمام (عليه السلام). ولنبدأ حديثنا هذا بالكلام حول التقوى.
[align=center]-- التقوى ------[/align]
إن كلمة (التقوى) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى. فما هي التقوى؟
يفترض الكثيرون أن التقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب، فهي إذن سيرة عملية سلبية، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!
وعلى هذا التفسير تكون التقوى:
أولاً: أمراً منتزعاً عن السيرة العملية.
وثانياً: هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية.
وثالثاً: كلما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل.
ولهذا نرى أن المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل، ويجتنبون كل رطب وجامد وحار وبارد، حرصاً على سلامة تقواهم!
ولا شك أن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل، فإن الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات والفعل والترك والإقدام والإحجام. بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلا عن طريق السلب ولا إلى الإثبات إلا بعد النفي، وليست كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، إلا كلمة جامعة بين النفي والإثبات، ولا يمكن إثبات التوحيد إلا بعد نفي ما سوى الله تعالى. ولذلك نرى أن الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان، أي أن كل طاعة تتضمن معصية، وكل إيمان يشتمل على كفر: (... فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى..) (2).
ولكن..
أولاً: إن البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلا للعبور إلى أضدادها، ولا تصح إلا أن تكون مقدمات للارتباط بمقابلاتها. ولذلك فلابدّ أن يكون للابتعاد المفيد حدوداً وأهدافاً. فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف، ليست مقدسة ولا يحمد عقباها.
وثانياً: إن مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر (حسب المفهوم المنطقي للفظة الترادف) فإن التقوى في نهج البلاغة: (قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب). فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدمة للحصول على هذه الحالة الروحية، وهو - من ناحية أخرى - من لوازم حالة التقوى ونتائجها.
إن هذه الحالة تهب للروح قوة ونشاطاً، وتصونه من الانحراف والشطط، ومن لم يحظ بهذه الحالة لابدّ له - إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية - من أن يبعد نفسه عن أسبابها. وحيث أن البيئة الاجتماعية مليئة بأسباب المعاصي فلابدّ له من أن يختار الانزواء التام!
وعلى هذا فلابدّ إما أن نكون أتقياء وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة! أو أن نرد المجتمع فنودّع التقوى إطلاقاً! وعلى هذا: كلما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع!
أما إذا حصلت الروح الإنسانية على (ملكة التقوى) فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال. إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع. فمن كانت تقواه بالمعنى الأول كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي، أما من كانت تقواه بالمعنى الصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضده، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم ممّا هم فيه من الألم الممضّ.
أما نهج البلاغة، فإنه يصف التقوى - كما وصفناها نحن - بأنها قوة معنوية روحية، تحصل على أثر التمرين والممارسة، ولها آثار ونتائج، منها تيسير الحذر من الذنوب.
(.. ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات.. ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار... ألا وإن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة..) (3).
فقد وصف الإمام (عليه السلام) التقوى في خطبته هذه بأنها: حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها، وأن من لوازم اتباع الهوى وترك التقوى هو انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها، وأن فاقد التقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه، بل المركب هو الذي يسير حيث يشاء ويهوى، وأن من لوازم التقوى قوة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة، كراكب ماهر على فرس مدرب يسير به في الناحية التي يختارها بكل اقتدار وسلطة، فيطيعه الفرس بكل يسر.
(.. إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم) (4).
وفي هذه الكلمة يصرح الإمام (عليه السلام) بأن التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوف من الله من لوازمه وآثاره.
وعلى هذا، فليست التقوى هي نفس الحذر، ولا نفس الخوف من الله، بل قوة مقدسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها.
(فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة) (5).
نرى أن الإمام (عليه السلام) قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر والطهر، والإحساس بالتذمر من الذنوب والأرجاس والأنجاس.
وهناك نماذج أخرى في هذا الموضوع، ولعل في هذا القسم كفاية، ولا ضرورة في ذكر أكثر من هذه النماذج.
- التقوى وقاية لا قيود
كان الكلام في عناصر مواعظ نهج البلاغة، وقد بدأنا الحديث بالكلام عن التقوى، ورأينا أن التقوى في نهج البلاغة: قوة مقدسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام والإحجام، إقدام على القيم المعنوية، وإحجام عن الدنايا المادية. إن التقوى في نهج البلاغة: حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلّط بها على نفسه ويمتلكها.
ولقد أكد الإمام (عليه السلام) في خطبه في نهج البلاغة على أن التقوى: وقاية لا قيود.. فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين (الوقاية) و(القيود) ولذلك فهم يفرون من التقوى باسم التحرر من القيود والخروج عن الحدود.. ولا شك أن الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنهما كليهما مانعان، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر، في حين أن السجن يمنع عن التمتع بالنعم والمواهب المعدة للإنسان.
يقول الإمام (عليه السلام): (... اعلموا عباد الله: إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه. ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا) (6).
وكأنه (عليه السلام) يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقارب والحيات، ويقول: اقطعوا عن أنفسكم لسعة هذه العقارب بالتقوى. ويصرّح في بعض كلماته أن التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشؤها.
(.. فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة..) (7).
واضح أن التقوى تهب للإنسان حرية معنوية، تحرره من أسر عبودية الهوى، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة، وهكذا تحرق عروق العبوديات المادية، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة، بينما لا يخضع التقي لأعباء هذه العبوديات.
ولقد بحث الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً، ولا نرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها، وإنما نقصد هنا أن يتضح لنا المفهوم الواقعي للتقوى في مدرسة نهج البلاغة، ليتبين لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهج البلاغة.
وإن من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة أثران خطيران:
أحدهما: البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة.
والآخر: القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد.
وقد بحثنا حول آثار التقوى في موضع آخر وهي - بالإضافة إلى ذلك - خارجة عما نهدف إليه من هذا البحث هنا، وهو: بيان المفهوم الواقعي للتقوى، ولذلك نكتفي هنا من هذا البحث بهذا المقدار.
ولكن بودي أن نتحدث هنا عمّا يشير إليه نهج البلاغة من أن:
- التقوى تقي الإنسان، والإنسان يحافظ عليها
بل يصر نهج البلاغة على أن التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى وحفاظتها، فإن التقوى وإن كانت واقعية للإنسان فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها وليس هذا من (الدور المُحال الباطل) بلى هو من نوع المحافظة المتقابلة بين الإنسان والثياب، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزق والسرقة، وهي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد والبأس والبؤس، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوى باللباس فقال: (.. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ..) (8). وقال الإمام علي (عليه السلام) بهذا الصدد:
(... أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم وأشعروها قلوبكم وارحضوا بها ذنوبكم.. ألا فصونوها وتصوّنوا بها...) (9).
وقال (عليه السلام): (.. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم. وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله..) (10).
-
[align=center]-- الزهد ------[/align]
وهو الموضوع الآخر من مواضيع المواعظ في نهج البلاغة، ولعله بعد التقوى من أكثر المواضيع تكراراً وتأكيداً فيه.
والزهد: كلمة ترادف ترك الدنيا، وفي نهج البلاغة الكثير من ذم الدنيا والدعوة إلى الإعراض عنها. إنه من أهم المواضيع التي يجب أن تفسّر وتوضّح مع الالتفات إلى مجموع كلمات الإمام (عليه السلام) بهذا الصدد. وإذا لاحظنا أن الزهد مرادف لترك الدنيا فهو إذن من أكثر المواضيع بحثاً في نهج البلاغة قطعاً.
ونبدأ البحث هنا بالكلام حول كلمة الزهد، فنقول:
إن كلمة (الزهد) إذا ذكرت بدون متعلق فهي تقابل (الرغبة) فإن الزهد يعني: الإعراض، والرغبة تعني: الاتجاه والإقبال والميل والانجذاب.
والإعراض نوعان:
طبيعي: وهو عدم إقبال الطبع على شيء معين، كطبع المريض إذ لا يشتهي الطعام والشراب. وواضح أن الإعراض هذا ليس من الزهد المراد.
وروحي عقلي قلبي: وهو ضد الطبيعي، إذ الطبع هنا يرغب في الأشياء كيفما يشاء، ولكن الإنسان - بدوافع من فكره وأمله في الكمال والسعادة الدائمة - لا يجعلها مورد هدفه وقصده. إذ أن قصده وهدفه وأمله المطلوب - وهو الكمال - أمور أسمى من هذه المشتهيات النفسية الدنيوية. سواء كانت تلك الأمور التي يهدف إليها من المشتهيات الأخروية، أو لم تكن منها بل كانت من نوع الفضائل الأخلاقية: كالعزة والشرف، والكرامة، والحرية والواقعية، أو من نوع المعارف الإلهية والمعنوية: كذكر الله، وحب الله، والتقرب إليه، وطلب مرضاته سبحانه. وهذا هو الزهد المقصود.
فالزاهد إذن: هو الذي اجتاز في نظره الدنيا المادية إلى الكمال المطلوب وأسمى المُنى، وتوجّه في نظره إلى أمور هي من نوع ما ذكرناه. فعدم الرغبة فيه ليس من الناحية الطبيعية، بل من الناحية الفكرية والمُنى والآمال.
وقد عرف الإمام (عليه السلام) الزهد في نهج البلاغة في موردين، لا نصل منهما إلا إلى ما قلناه.
الأول: في الخطبة 79 يقول (عليه السلام): (... أيها الناس! الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والورع عند المحارم..).
الثاني: في الحكمة 439 يقول (عليه السلام): (.. الزهد بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه: (لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه).
وإذا لم يكن الشيء هو كمال المطلوب بل لم يكن المطلوب، بل كان وسيلة إليه، فلا تحوم حوله طيور الآمال بل ولا تجنح إليه، وحينذاك فلا يوجب إقباله المسرة الشديدة، ولا إدباره الأسى الشديد.
ولكن يجب علينا أن ننظر:
هل أن الزهد والإعراض عن الدنيا الذي يؤكد عليه نهج بلاغة الإمام (عليه السلام) تبعاً للقرآن الكريم، صفة أخلاقية روحية فحسب؟ هل أن الزهد كيفية روحية فقط أم أن لها جوانب عملية أيضاً؟ هل أن الزهد هو إعراض الروح أم إعراض عملي وروحي؟
وعلى الثاني، فهل أنه إعراض عملي عن المحرمات فحسب (كما في الخطبة: 79) أم أكثر من المحرمات (كما في حياة الإمام (عليه السلام) والرسول (صلّى الله عليه وآله))؟
وإذا كان الثاني، فما هي فلسفته؟ وما هي خواص الحياة مع الإعراض عن نعيمها؟
ثم هل يصح العمل به مطلقاً، أم أنه إنما يصح بشرائط خاصة معينة؟
ثم هل يتلاءم هذا مع سائر التعاليم الإسلامية أم لا؟
ثم إذا كان الزهد مبنياً على أساس اختيار أهداف غير مادية، فما هي تلك الأهداف في الإسلام، وما هو بيان نهج البلاغة بهذا الصدد؟
هذه هي مجموعة الأسئلة التي تحدّث عنها الإمام في نهج البلاغة في موضوع الزهد، ويجب أن تتضح لنا. وسنبحث عنها في الفصول التالية:
- الزهد والرهبنة
قلنا أن الزهد حسب التعريف والتفسير الذي يستفاد من نهج البلاغة هو حالة روحية، وأن الزاهد بما له من العلائق الأخروية والمعنوية لا يعتني بمظاهر الحياة المادية.
ونقول: إن الزهد وعدم الاعتناء بمظاهر الحياة المادية لا ينتهي بالإحساس والفكر والضمير فقط، بل أن الزاهد زاهد في حياته العملية أيضاً، فهو قانع فيها محترز عن التنعم باللذائذ والكماليات المادية. وليس الزاهد هو من كان في تفكيره معرضاً عن الأمور المادية فقط، بل هو من يحذر في مرحلة العمل عن التنعم باللذائذ والكماليات ويكتفي من الماديات بالحد الأقل من التمتع بها. وليس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) زاهداً لكونه لم يكن يرغب في الدنيا بقلبه فقط بل لأنه كان يأبى عن التمتع باللذائذ، وكان - كما يقولون - تاركاً للدنيا معرضاً عنها في الفكر والعمل.
- مسألتان
وهنا مسألتان تطرحان نفسهما على ذهن القارئ الكريم، لابدّ من أن نجيب عنهما:
المسألة الأولى: إنا نعلم أن الإسلام يخالف الرهبنة المسيحية، ويعدها من بدع الرهبان والقُسس (11). وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا رهبانية في الإسلام) (12). وحينما أخبروه أن جماعة من صحابته قد أعرضوا عن الحياة وكل شيء فيها، وأقبلوا على الاعتزال عن المجتمع وعبادة الله وحده. عاتبهم على حالتهم تلك وقال لهم: أنا نبيكم، ولست أفعل كما تفعلون أنتم! وبهذا أعلن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن الإسلام دين حيوي، اجتماعي لا رهباني!
أضف إلى ذلك أن تعاليم الإسلام تشمل جميع جوانب الحياة، وهي في المسائل الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسة، والأخلاقية، إنما تبتني على أساس كرامة الحياة الإنسانية، لا الإعراض عنها!
أضف إلى ذلك أن الرهبنة والإعراض عن الحياة يتنافى مع الفلسفة الإسلامية المتفائلة في شأن الكون والوجود، إذ ليس الإسلام كبعض الأديان الأرضية المختلفة والفلسفات المصطنعة التي تتشاءم من الكون والوجود أو تقسم الخلقة إلى قسمين: خير وشر، حسن وقبيح، ظلام وضياء، حق وباطل، صحيح وغير صحيح، ينبغي أن يكون وينبغي أن لا يكون.
المسألة الثانية: هي أنه فضلاً عن أن الزهد هي الرهبنة التي تتنافى مع الفلسفة الإسلامية، نقول: ما هي فلسفة الزهد في الإسلام؟ ولماذا يزهد الإنسان في الحياة؟ لماذا يأتي إلى الحياة ويرى بعينه بحور النعم الإلهية ثم هو يمر عليها مرور الكرام ولا يبل منها الأقدام؟
وعلى هذا: أفلا يمكننا أن نتّهم هذه التعاليم التي نراها في الإسلام في الزهد والرهبنة، بأنها من البدع التي دخلت الإسلام بعد صدره الأول من الأديان الأخرى كالمسيحية والبوذية؟! إذن فما نقول فيما جاء من ذلك في نهج البلاغة؟! بل ماذا نقول في حياة الإمام علي (عليه السلام)، ومن قبله حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبم نفسّر ذلك؟ وكيف نوجّهه ونأوّله؟!
والحقيقة في الجواب أن نقول: إن الزهد الإسلامي شيء والرهبنة شيء آخر.
فالرهبنة: انقطاع عن الخلق لعبادة الخالق، على أساس التضاد بين عمل الدنيا والآخرة، فإما العبادة ورياضة النفس في الدنيا لاستكمال نعيم الآخرة، وإما الحياة الدنيا للحياة فيها فحسب، وعلى هذا فالرهبنة تستلزم الانقطاع عن الحياة والمجتمع والمسؤولية أيضاً. وهذه هي الرهبنة المقيتة.
أما الزهد الإسلامي: فهو وإن كان يستلزم اختيار حياة ساذجة غير متكلّف فيها، وعلى أساس الإعراض عن التنعم والتجمل بلذائذ الحياة وكماليتها المادية الإضافية، لكنه - في نفس الوقت - علاقة اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية في الإسلام، ومن أجل الخروج الصحيح عن عهدة أدائها لوجهها.
إذن، فليست فلسفة الزهد في الإسلام هي نفس تلك الفلسفة في الرهبنة المسيحية المبتدعة. إذ ليس في الإسلام مضادة بين الحياتين، بل ولا تجزئه بينهما، ولا بين العمل لهما. بل إن الإسلام يرى العلاقة بين هاتين الحياتين علاقة ظاهر الشيء بباطنه، والشعار بالدثار، والجسد بالروح، لا وحدة، ولا مضادة، وإنما الاختلاف بينهما في الكيفية. وفي الحقيقة، كل ما كان صالحاً لهذه الحياة - واقعاً - فهو صالح لتلك الحياة الأخرى أيضاً، ولهذا وجب الترابط بين العمل الصالح في هذه الحياة لتلك الأخرى بالنية، ولذلك: فلو عمل المرء عملاً يتفق مع المصالح السامية لهذه الحياة ولكنه يخلو من النية الصالحة المرتبطة بتلك الحياة، عُدّ هذا العمل دنيوياً، أما إذا كانت الناحية الإنسانية في العمل تنطوي على أهداف أسمى من الدنيا رامية إلى الآخرة، فذاك العمل عمل أخروي مقرب محبوب راجح، أما واجب أو مستحب مندوب إليه.
فالزهد الإسلامي - كما بيّنا - تكييف خاص للحياة ينشأ من إدخال معان من المثل والقيم الأخلاقية القيمة في الحياة الاجتماعية للفرد المسلم، وهو - كما يظهر من النصوص - يستقر في صميم الحياة الاجتماعية الإسلامية على أسس ثلاثة:
- أصول الزهد في الإسلام
1- إن الإفادة المادية من مواد هذه الحياة والتمتع بنعيمها الفاني ليس هو العمل الوحيد لتأمين سعادة الإنسان، بل لابدّ من أمور معنوية أخرى لا تكفي الحياة المادية بدونها لإسعاد الإنسان، فيها أو فيما بعدها.
2- إن مصير سعادة الفرد لا ينفك عن مصير أمته، فإن له - بحكم إنسانيته - سلسلة من العلائق العاطفية، والإحساس بالمسؤولية، لا يستطيع معها أن تكون له راحة وطمأنينة فارغاً عن قلق الآخرين واضطرابهم.
3- إن للروح أصالتها - كما للبدن - ولها آلام ولذائذ، وهي تحتاج - كالبدن بل أكثر منه - إلى الغذاء والدواء، والطعام والشراب، والتربية والتهذيب، والتأييد والتسديد. وهي لا تستغني عن الجسد وسلامته وقوته وقدرته. ولكن انغماس الإنسان في اللذائذ المادية والإقبال على التنعم والتجمل الجسماني، لا يدع مجالاً لتقوية الروح، بل يوجد نوعاً من المضادة بين النعم المادية والروحية.
وليست نسبة الروح إلى البدن - كما يتصورها البعض - نسبة الألم إلى النعيم، فليس كل ما يرتبط بالروح ألماً وكل ما يرتبط بالبدن نعيماً، إذ أن اللذائذ الروحية قد تكون أصفى وأعمق وأدوم من لذات البدن، وإن الإقبال الشديد على لذائذ البدن لمما يقل من الراحة واللذة الواقعية للبشر، ولهذا ترانا لا نستسيغ التخلي عن اللذات الروحية حينما نواجه الحياة ونريد أن نكسبها رونقاً وصفاء وبهجة وجلالاً، ونضع منها جمالاً وكمالاً.
وإذا التفتنا إلى هذه الأصول الثلاثة للزهد الإسلامي الصحيح، اتضح لنا كيف أن الإسلام حين ينفي الرهبنة يضع زهده في صميم الحياة وقلب المجتمع.
وسنوضح في الفصول التالية بعض النصوص الإسلامية التي تبتني على هذه الأسس الثلاثة.
- الزاهد، والراهب
قلنا: إن الإسلام دعا إلى الزهد، وأدان الرهبنة.
ولا شك أن الزاهد والراهب يبتعدان كلاهما عن التنعم باللذائذ، إلا أن الراهب يفرّ بذلك عن المجتمع ومسؤولياته، ويعدّهما من أمور الدنيا الدنية، ويلجأ منهما إلى الصوامع والأديرة وسفوح الجبال، أما الزاهد فهو يقبل على المجتمع وآماله ومسؤولياته.
وإن الزاهد والراهب كلاهما يتجهان إلى الآخرة، راغبان عن الدنيا وما فيها ومن فيها. وإنهما يبتعدان عن اللذائذ ولكن لا سواء، فإن الراهب يرهب من الزواج والإنجاب أو قل من النظافة والسلامة النفسية! أما الزاهد فهو يعد (النظافة من الإيمان) و(النكاح من الدين، وتكثير النسل - الطيب) من الوظائف الدينية والاجتماعية.
وإن الزاهد والراهب كلاهما يتركان الدنيا، إلا أن الزاهد يترك الدنيا بترك الانهماك بالتنعم والتمتع والكماليات، ويحذر من أن يحسبها منتهى آماله وأكمل مناه، أما الراهب فإنه يترك الدنيا بترك العمل فيها وتحمل مسؤولياتها..
ولهذا نقول أن الزاهد يعيش في صميم الحياة والروابط الاجتماعية، ولا يحسب زهده ممّا يتنافى مع تحمل المسؤوليات الاجتماعية، بل إن الزهد لديه خير وسيلة لتعهد المسؤوليات على الوجه الأكمل والأحسن، بخلاف الراهب.
وإن هذا التفاوت بين سيرة الراهب والزاهد إنما ينشأ من الاختلاف في وجهة النظر إلى الحياة.
إن الراهب: يرى الحياة الدنيا والآخرة عالمين مستقلين لا علاقة بينهما، ويحسب أن السعادة في هذه الحياة غير مرتبطة بسعادة الآخرة، بل هما متضادان لا يجتمعان! ومن الطبيعي لديه - حينئذ - أن يكون العمل المفيد لسعادة الدنيا يغاير العمل المفيد لها في الآخرة، وإن وسائل السعادة في الدنيا تغاير بل تباين وسائل السعادة في الآخرة، بل لا يمكن - لديه - أن يكون الشيء الواحد والعمل الواحد وسيلة لسعادة الدارين أبداً.
أما الزاهد: في هو يرى أن الدنيا مزرعة الآخرة فهما مرتبطتان. وأن الذي يهب لهذه الحياة الدنيا الأمن والصفاء، والراحة والهناء، هو أن يرد قصد تلك الحياة في أمور هذه الحياة، وأن ما يوجب السعادة لتلك الحياة هو الإتقان في العمل بمسؤوليات هذه الحياة، وأن يكون العمل بها قريناً بالإيمان والطهارة والتقوى.
فالحقيقة: إن هناك مغايرة بين فلسفة الزهد عند الزاهد في الإسلام، وفلسفة الرهبنة للراهب في المسيحية. وأن الثانية ليست إلا تحريفة أوجدها الإنسان بجهله أو سوء نيته في تعاليم الزهد للأنبياء السابقين.
وسنوضح فيما يلي فلسفة الزهد في الإسلام بالنظر إلى النصوص الإسلامية، وعلى أساس هذا المفهوم الذي شرحناه من الزهد.
- الزهد والإيثار
من فلسفة الزهد في الإسلام الإيثار. وهو ضد الأثرة، والأثرة: تقديم الشخص لنفسه ومصالحها ومنافعها على غيره، والإيثار: هو تقديم الشخص غيره على نفسه.
والزاهد يختار العيش بكل بساطة وقناعة، ويضيّق على نفسه في الحياة، من أجل راحة الآخرين، وإنما يهب ماله للفقراء لأنه إنما يلتذ بنعم الحياة حينما لا يرى معه فقيراً ينام بلا عشاء، فهو يلتذ بإعطاء الآخرين وإطعامهم وكسوتهم أكثر من راحة نفسه وطعامها وكسائها، وإنما يتحمل الجوع والحرمان والعناء من أجل راحة الآخرين وهنائهم. وهذا هو الإيثار.
والإيثار من أعظم مظاهر الجلال والجمال والكمال الإنساني المأمول، وإنما يستطيع الرقي إلى هذه القمة الشامخة من العمل الصالح أناس عظماء من أمثال علي والزهراء وابنيهما السبطين الحسنين أصحاب الكساء، الذين نزلت في شأنهم هذا (سورة هل أتى) مرآة صافية باقية تعكس للأجيال المتعاقبة ذلك الكمال المتمثل في هؤلاء العظماء الذين (يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (13) وهم يقولون: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً) (14).
وقد نالوا بهذا الإيثار أكمل الكرم والسخاء والجود، إذ بذلوا ذلك الميسور من أقراص الشعير، مع عسرهم الشديد، ولم يراعوا في ذلك القريب والبعيد، فأعطوا الأسير كما أعطوا اليتيم والمسكين. ولذلك دوّى هذا العمل الصالح من هؤلاء العظماء في السماء، حتى نزل في حقهم قرآن يتلى كل صباح ومساء!
ودخل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ذات يوم على ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فرأى على باب بيتها ستاراً وعلى يديها معاضد من فضة، فأنكر ذلك بوجهه حتى عرفته منه ورجع عنها فلم يدخل عليها. فلما رجع خلعت الستار وشدت فيه المعاضد وبعثت بهما إلى أبيها رسول الله ليفعل بها ما يشاء. وفرح رسول الله بذلك وقال: (فعلت، فداها أبوها)!
وكانت تقوم في محرابها لربها حتى تتورم قدماها، وهي تدعو لجيرانها، فسألها ابنها الحسن (عليه السلام) يوماً: أماه! ما لي أراك تدعين لجيراننا ولا تدعين لنا؟ فقالت: (الجار، ثم الدار).
ويصف القرآن الكريم أنصار رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مدينته الطيبة فيقول: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (15).
والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يصف المتقين في خطبته لهمام فيقول: (نفسه منه في عناء والناس منه في راحة).
وبما أن فلسفة الزهد مبنية على أساس الإيثار، والإيثار يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكذلك الزهد يختلف هذا الاختلاف باختلاف الزمان والمكان، إذ أن الإيثار في مجتمع فقير كالمدينة على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يشتد أكثر منه فيها نفسها على عهد حفيده الإمام الصادق (عليه السلام). ولعل هذا هو سر اختلاف السيرتين: علي ورسول الله في جانب وأبناؤهما الأئمة الأطهار في جانب آخر.
إن زهد هؤلاء العظماء كان قائماً على فلسفة الإيثار، وأن الزهد الذي يبتني على فلسفة الإيثار ليس من الرهبنة في شيء بل هو عظمة إنسانية فذة نابعة من أنبل عواطف الإنسانية، وهو ينتج أقوى الروابط الاجتماعية على الإطلاق.
الزهد، والمواساة
ومن فلسفة الزهد مواساة المحرومين ومشاركتهم في حياتهم. فإن هؤلاء حينما يقيسون أنفسهم بأمثالهم من بني الإنسان وهم أغنياء يحسون في قرارة نفوسهم بالفقر والحرمان من ناحية، وتأخر عن أمثالهم من الناس من ناحية أخرى. ولا يستطيع الإنسان بطبعه أن يرى غيره ممن لا فضل له عليه يأكل ويتمتع ويفرح ويمرح، ثم يقف هو جائعاً حزيناً كئيباً وقفة المتفرّج.
وهنا يحس المتدين بمسؤولية ملقاة على عاتقه تثقل كاهله، أمام هذا الواقع السيئ، فهو يشعر في قرارة نفسه الصافية بنداء الضمير والوجدان الإنساني الحي الذي عبّر عنه الإمام (عليه السلام) فقال: (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم) فيشعر بمسؤوليته تجاه هذا الواقع السيئ وفاءً بما أخذ الله عليه وما عاهد عليه الله إذ آمن بالله وكتبه ورسله.
وإذ لم يستطع ذلك بيد أو لسان فلا أقل من الإيثار ومقاسمة ما عنده لهؤلاء الفقراء المعوزين، سعياً في سعادتهم وترسم واقعهم المقيت - كما فعل ذلك ثلاثة من أئمتنا: الحسن والحسين وعلي بن الحسين (عليهم السلام) - وإذا لم يستطع ذلك أيضاً لكثرة الضحايا في هذا الميدان فلا أقل من أن يضمّد جراح هؤلاء الضحايا - ضحايا قسوة المجتمع الظالم - ببلسم المواساة ومشاركتهم في آلامهم وهمومهم، والتساوي معهم في فقرهم.
وإن لمواساة الآخرين في أحزانهم أهمية عظمى، خصوصاً في حياة أئمة الأمة، أولئك الذين تنظر إليهم الأمة لتقتدي بأفعالهم وأقوالهم. ولذلك نرى أن الإمام (عليه السلام) قد زهد في حياته في الخلافة أكثر من أي وقت مضى، وكان يقول في ذلك:
(إن الله فرض على أئمة العدل: أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره) (16).
ويقول (عليه السلام) في كتابه إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف الأنصاري):
(أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون (أسوة) لهم في جشوبة العيش.. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالبشع! أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟! أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة***وحولك أكباد تحن إلى القدّ (17)
نعم، كان الإمام (عليه السلام) هو هكذا، ولكنه كان إذا سمع برجل يضيق على نفسه كان ينكر عليه ذلك.
فقد شكا إليه العلاء بن زياد الحارثي الهمداني أخاه عاصم بن زياد، فقال له وماله؟ قال: لبس العباءة، وتخلى عن الدنيا! قال: عليّ به. فلما جاء قال له:
(يا عُديّ نفسه! لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى أحل الله لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك)!
فقال: يا أمير المؤمنين! هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك؟!
فقال (عليه السلام): (ويحك! إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس..) (18).
وفي (أصول الكافي) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (إن الله جعلني إماماً لخلقه، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يُطغي الغني غناه) (19).
وقال رجل لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): أصلحك الله! ذكرت أن علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن والقميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد؟!
فقال له: (إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر عليه، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به).
إذن فهذا الزهد الناتج عن فلفة المواساة - كما ترى بوضوح - لا يمت إلى الرهبنة بشيء، وليس - كما يقولون - فراراً من المسؤولية وإعراضاً عنها، بل هو المواساة لآلام الفقراء والضعفاء.
- الزهد والتحرّر
ومن فلسفة الزهد: الحرية والتحرّر، فإن بين الزهد والحرية روابط قديمة وقويمة.
إن الحاجة والافتقار ميزة ظاهرة، والاستغناء ميزة الحرية.
إن أقوى الآمال في حياة الأحرار هو وضع الأثقال عن كاهلهم، والخفة والنشاط في الحركة والتنقل. وإنما يجعل هؤلاء زادهم الزهد والقناعة ليقللوا بذلك من حوائجهم المادية فيطلقوا أنفسهم من أسر الأشياء والأشخاص وقيودهما.
إن الحياة المادية للإنسان - كسائر الحيوانات الأخرى - تحتاج إلى سلسلة من الأمور الطبيعية والضرورية التي لابدّ منها، كالهواء للتنفس والأرض للسكن والطعام للأكل والماء للشرب والثوب للستر، فالإنسان لا يستطيع أن يكتفي بذاته - على حد تعبير الحكماء - عن هذه الأمور وأمور أخرى كالنور والحرارة، ولا أن يتحرر من قيودها تحرراً مطلقاً.
ولكن، هناك سلسلة من الحاجات ليست طبيعية ولا ضرورية، وإنما حملت على الإنسان على مدى تاريخه الطويل من قبله هو أو من العوامل التاريخية والاجتماعية الأخرى، وقد كانت عاملاً فعالاً في الحد من حريته شيئاً فشيئاً.
والأمور التي تحمل على الإنسان من الخارج بصورة قسرية للاضطرار السياسي مثلاً، ليست في خطرها عليه كالأمور النفسية التي تعمل على أن تجرّه من إطاره الداخلي إلى إطارها الغريب، وعلى هذا فإن أخطر القيود على الإنسان إنما هو هذه القيود التي تعزله عن نفسه.
وترى الفلسفة الميكانيكية لهذه العوامل التي تؤدي إلى عجز الإنسان وضعفه: أن الإنسان يحاول - من جهة - أن يكسب حياته صفاءً وبهاءً ورونقاً وجلالاً، فيقبل على التجمل والتنعم بكماليات الحياة، ولأجل الحصول على القوة والقدرة يقبل على تملك الأشياء. ومن جهة أخرى يعتاد على وسائل للتنعم والتجمل والقوة والقدرة شيئاً فشيئاً، ويعجب بها فيعشقها، وتنشأ بينه وبينها روابط خفية دقيقة تشده إليها، فيصبح ذليلاً لها عاجزاً أمامها. وحينئذ يتحول الشيء الذي كان مادة لصفائه ورونقه إلى سبب لذهاب رونقه وصفائه، والذي كان وسيلة لقدرته وقوته إلى سبب لضعفه وعجزه في دخيلة نفسه. فيصبح لها كالعبد المدين لمولاه لا يقدر أمامه على شيء.
إن تقيد أي إنسان بالزهد - إن صح التعبير بالتقيد - تابع من أصول فطرية، فإن الإنسان بطبعه يميل إلى تملك الثروة والاستفادة من متع الحياة، ولكنه حينما يرى أن هذه الأشياء كلما منحته القدرة على الحياة في الظاهر سلبته القدرة الإرادية، في واقع الحال على نفس المدى، وجعلته: (عبداً لها ولمن في يده شيء منها) فهو يثور - حينما يرى ذلك - على هذه العبودية. ويصطلح على هذه الثورة بالزهد.
وإنما أصبح الإمام علي (عليه السلام) حراً بمعنى الكلمة لأنه كان زاهداً بمعنى الكلمة، وكان (عليه السلام) كثيراً ما يعبر في خطبه في نهج البلاغة عن الزهد بالحرية، وعن الشره والنهم بالعبودية.
يقول (عليه السلام) في بعض كلماته القصار: (الطمع رقٌّ مؤبّد) (20).
ويصف زهد عيسى ابن مريم فيقول: (.. ولا طمع يذله) (21).
ويقول (عليه السلام): (الدنيا دار ممر لا دار مقر، والناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقته، ورجل اشترى نفسه فأعتقته) (22).
وأصرح من الجميع كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري:
(... إليك عني يا دنيا! فحبلك على غاربك! قد انسللتُ من مخالبك، وأفلت من حبائلك! اعزبي عني، فوالله لا أذل فتستذليني ولا أسلس فتقوديني) (23).
نعم، إن زهد الإمام (عليه السلام) ثورة على الذل في اللذة، وعلى الضعف في الشهرة، وعصيان على عبودية الدنيا، فالسلام عليه يوم ولد ويوم يبعث حياً!
- الزهد، والمعنوية
ومن فلسفة الزهد: إيجاد المعنوية في روح هذه الحياة المادية. ومن الواضح أنّا لا نقصد هنا الماديين في هذه الحياة، إذ من البديهي أن الزهد في الدنيا وثرواتها وجمالها، والإعراض عن عبادة أموالها، وترك التقيد بلذائذها.. لا يجد لنفسه عند أصحاب النظرة المادية أي معنى قط. إنما الحديث هنا مع من يرى لهذه الحياة المادية شيئاً من المعاني أيضاً. فنقول لهؤلاء:
إن من الواضح البديهي لدى هؤلاء أن الإنسان ما لم يتحرر من قيود المادة وأغلالها. وما لم يحترز عن إغوائها وأهوائها، وما لم يفطم طبيعته عن ألبانها.. وأخيراً ما لم يكن يحسن جعل الدنيا وسيلة لا غاية.. لا يتهيأ صعيد قلبه لتلقي الفيوضات الإلهية، والإشراقات الربانية، والإحساس المقدس، والشعور الطاهر، والفكر النيّر.. وأخيراً العقل السليم إلى جانب العاطفة الرحيمة. ولهذا قيل: إن الزهد شرط أساس لإفاضة المعرفة، وله بها علاقة وثيقة.
ومن الواضح أيضاً أن عبادة الحق والحقيقة - بكل ما لهما من المعاني الواقعية - والتلذذ في طاعتهما، وذكر الله الحق المطلق في كل حال، والأنس بالخالق ولطفه حين خدمة المخلوق.. يتنافى مع عبادة النفس والنفيس، والتقيد باللذة، والوقوع في أسار المادة وزخرفها وزبرجها.
بل وفوق هذا نقول: ليست عبادة الله هي التي تستلزم نوعاً من الزهد في الدنيا فقط، بل أن الالتزام والغرام بأية عبادة أو ريادة، في دين أو مذهب، أو فكرة أو مبدأ، أو قومية أو وطنية.. تستلزم نوعاً من الزهد والإعراض عن الشؤون المادية أيضاً!
إلا أن الفرق بين العلوم والفلسفات والتعشق للخيال، وبين الصحيح من العبادات، وهو: أن العبادة، بما أن مقرّها القلب أو الفكر فهي لا تقبل الضرّة أو الرقيب. لا مانع من أن يتعبد العالم أو الفيلسوف بدراهم المادة ثم يجول بفكره في المسائل الفلسفية أو المنطقية أو الطبيعية أو الرياضية. ولكن لا مجال في فكر هذا الفيلسوف أو قلب هذا العالم للتعبد والالتزام بتضحية من تلك التضحيات الإنسانية، أو المبدئية أو المذهبية، بل وحتى القومية منها الوطنية.. فضلاً عن محبة الخالق في خدمة المخلوق. ولهذا نقول أن إبعاد القلب عن التقلب بالمادة العمياء، وإخلائه عن أصنام الذهب والفضة الغراء، شرط ضروري للتربية المعنوية في الإنسان.
وقد قلنا أنه لا ينبغي الخلط بين التحرر عن قيد الذهب والفضة وعدم الاعتناء بكل ما يتبدل بهما، وبين الرهبنة والفرار عن المسؤولية، بل أن المسؤولية والعهود إنما تجد حقيقتها في ظل هذا الزهد، ولا تظل ألفاظاً جوفاء وادعاءات فارغة لا ضمان لها.
ولقد اجتمع الزهد والإحساس بالمسؤولية في شخصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد كان أكبر زاهد في العالم، وكان يحمل في صدره أكثر القلوب إحساساً بالمسؤولية الاجتماعية.
إنه (عليه السلام) من ناحية كان يقول: (ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى).
ومن ناحية أخرى، كان يسهر الليل كله لحيف قليل في العدالة مع مظلوم، ولا يرضى أن ينام مبطاناً ويقول: (ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع) وقد كان بين زهده ذاك وإحساسه هذا الرهيف علاقة وثيقة.
إن علياً (عليه السلام) بما أنه كان زاهداً لا طمع له، ومن ناحية أخرى كان قلبه مليئاً من حب الله، وكان يرى العالم من الذرة إلى الذرى مسؤولية مترابطة أمام الخالق العظيم، لذلك كان يشعر بمسؤولية كهذه أمام تعدي حدود الحقوق والواجبات الاجتماعية. ولو كان شخصية ثرية متنعمة متنفذة، لكان من المحال أن يشعر بمثل هذه المسؤولية.
وقد صرحت الروايات والأحاديث الإسلامية بهذه الفلسفة للزهد، وأكد عليها الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة.
جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (... وكل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط، وإنما أرادوا الزهد لتفرغ قلوبهم للآخرة..) (24).
إن الإمام الصادق (عليه السلام) - كما نراه في هذه الرواية - يعدّ عبادة الهوى بجميع أنواعها واللذائذ شكاً في الله أو شركاً مع الله، ويقول: إنما أراد الإسلام الزهد للمسلمين لتفرغ قلوبهم من كل ما سوى الله فترغب إلى الآخرة.
ولهذا نرى علياً (عليه السلام) حينما يسأل عن إزاره الخَلِق المرقّع يقول:
(يخشع له القلب، وتذل به النفس، ويقتدي به المؤمنون) (25).
ويقصد بذلك أن المؤمنين الذين لا يجدون لأنفسهم إزاراً أحسن من هذا الإزار الخلق المرقّّع، سوف لا يجدون فيه فورة حقد على المجتمع، أو شعوراً بعقدة الحقارة في النفس، وذلك لأنهم يجدون إمامهم قد اكتفى من دنياه بإزار كإزارهم.
ثم يقول (عليه السلام): (... إن الدنيا والآخرة عدوّان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماشٍ بينهما، كلما قرب من واحد بعد من الآخر. وهما بعد ضرّتان) (26).
ولذلك أيضاً نراه يقول في نهاية كتابه إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف):
(... وأيم الله! يميناً - أستثني فيها بمشيئة الله - لأروّض نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقتنع بالملح مأدوماً. ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغة دموعها. أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك وتشبع الربيضة من عشبها فتربض، ويأكل علي من زاده فيهجع؟! قرّت إذاً عينُه! إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهية الهاملة والسائمة المرعية).
ثم يقول (عليه السلام): (.. طوبى لنفس أدّت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفّها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)..).
وقد ذكرنا هذين المقطعين من كتاب الإمام (عليه السلام) متتاليين، إذ بهما معاً تتضح لنا العلاقة بين الزهد والمعنوية.
وخلاصة هذين القسمين من الكتاب: هو أنه لابدّ للإنسان المسلم من أن يختار أحد هذين الطريقين: إما الدنيا وإما الآخرة، فإما شهوة الأكل والشرب والغرام والمنام كالأنعام، وإما الإنسانية الإلهية، والنور الرباني الذي يخص القلوب والأرواح النيرة الطاهرة.
..........................................
الهوامش:
1- سورة النحل: 125.
2- سورة البقرة: 256.
3- نهج البلاغة، الخطبة 16.
4- نفس المصدر، 112.
5- نهج البلاغة، الخطبة 189.
6- نهج البلاغة، الخطبة 157.
7- نفس المصدر، 228.
8- الخطبة 189.
9- الخطبة 189.
10- نهج البلاغة، الخطبة 189.
11- سورة الحديد: 27.
12- راجع بحار الأنوار المجلد الخامس عشر، جزء الأخلاق، الباب الرابع عشر: (باب النهي عن الرهبانية).
13- سورة الإنسان: 8.
14- سورة الإنسان: 9.
15- سورة الحشر: 9.
16- الخطبة 207، أي لا يهيج به ألم الفقر فيهلكه.
17- الكتاب 45، تحن: أي تميل وتشتهي والقد: اللحم المجفف.
18- الخطبة 207.
19- أصول الكافي، ج1، ط آخوندي.
20- الحكمة 180.
21- الخطبة 158.
22- الحكمة 133.
23- الكتاب.
24- بحار الأنوار، المجلد 16، الجزء2، ص84.
25- الحكمة 100.
26- الحكمة 101.
-
[align=center] حـب الدنيا وتركها في نـهج الـبـلاغة[/align]
ومن مباحث نهج البلاغة التحذير عن الاغترار بالدنيا وعبادة المادة. وما قلناه في الهدف من الزهد في الإسلام يوضح لنا مفهوم ذم الدنيا أيضاً، إذ الإسلام إنما حث على الزهد لأنه المانع عما نهانا عنه من عبادة الدنيا والمادة، وبتوضيح أي واحد من هذين المفهومين يتّضح مفهوم آخر.
ولكن، لأهمية هذا البحث في نفسه، للتأكيد الكثير من الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة على التحذير من الدنيا وعبادتها، عقدنا لذلك فصلاً مستقلاً ليتضح الموضوع أكثر من ذي قبل، ويرتفع بذلك كل إبهام فيه.
ما نبحث عنه أولاً، هو: لما اعتنى الإمام أمير المؤمنين ومن قبله رسول الله ومن بعده سائر الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) بهذا الأمر كثيراً، فتكلموا الكثير في التحذير عن الاغترار بالدنيا وفي فنائها وزوالها وزلاتها وعثراتها وأخطار الاعتناء بجمع المال والثروة، والتوفر على النعم، والمتع المادية والانهماك بها؟ فنقول:
- الواجهة الخاصة لكلام الإمام (عليه السلام) وأخطار الغنائم على عهد الخلفاء
لم يكن هذا بمحض الصدفة، بل أن ذلك يرتبط بسلسلة من الأخطار العظيمة التي كانت قد أقبلت على العالم الإسلامي آنذاك من لدن عهد الخلفاء السابقين ولا سيما دور عثمان الذي انتهى الأمر بعده إلى الإمام (عليه السلام)، وذلك من قبل سياستهم المالية وكيفية إدارتهم لثروات الغنائم والفتوحات الإسلامية على عهدهم ونوعية توزيعهم لها وتداولها بينهم.
وكان الإمام (عليه السلام) قد أدرك هذه المخاطر فكافحها مكافحة عملية على عهده، حتى ضحى بنفسه في هذا السبيل، ومكافحة كلامية بالخطب والكتب وسائر كلماته (عليه السلام).
حظي المسلمون بفتوحات كبيرة، ممّا هطل على العالم الإسلامي بثروة كثيرة، ثروة استقرت في أيدي شخصياتها بدلاً من أن تقسم بالتساوي بين جميع الأفراد، أو تصرف في المصارف العامة لهم. واشتد هذا الأمر في زمن عثمان بقوة طاغية، ممّا أكسب أولئك الأفراد المعدودين الذين لم يكن لهم من قبل أية ثروة أو رأسمال، ثروة بغير حساب. وعملت الدنيا حينئذ عملها فأفسدت من الأمة الإسلامية أخلاقها. وكان نداء الإمام (عليه السلام) حينذاك بسبب الإحساس بهذا الخطر العظيم!
كتب المسعودي في أحوال عثمان يقول: (.. وكان عثمان في نهاية الجود والكرم والسماحة والبذل في القريب والبعيد (من بيت المال طبعاً!) فسلك عماله وكثير من أهل عصره طريقته وتأسوا بفعله. وبنى داره بالمدينة وشيدها بالحجر والكلس، وجعل أبوابها من الساج والعرعر، واقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة. وذكر عبد الله بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال: خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف خيلاً وإبلاً كثيرة).
ثم كتب يقول: (... وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الدور والضياع، منهم الزبير بن العوام، بني داره بالبصرة - وهي المعروفة في هذا الوقت وهو سنة 332 ينزلها التجار وأرباب الأموال وأصحاب الجهاز من البحرين وغيرهم. وابتنى أيضاً دوره بالكوفة، ومصر، والإسكندرية. وما ذكرنا من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية. وبلغ ثمن ملك الزبير بعد وفاته: خمسين ألف دينار، وخلّف الزبير ألف فرس وألف عبد وأمة، وخططاً بحيث ذكرنا من الأمصار.
وكذلك طلحة بن عبيد الله التيمي ابتنى داره بالكوفة في الكناسة، المشهورة في هذا الوقت بدار الطلحيين. وكانت غلته من العراق في كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك، وبناحية الشراة أكثر ممّا ذكرنا، وشيد داره بالمدينة وبناها بالجس والآجر والساج.
وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري، ابتنى داره ووسعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم، وبلغ بعد وفاته الربع من ماله: أربعة وثمانين ألف دينار.
وابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، فرفع سمكها ووسع فضاها، وجعل أعلاها شرفات.
وقد ذكر سعيد بن المسيب: أن زيد بن ثابت حين مات خلّف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس، غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة: مائة ألف دينار.
وابتنى المقداد داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة وجعل أعلاها شرفات وصيّرها مجصّصة الظاهر والباطن.
ومات يعلي بن منبه وخلف خمسمائة ألف دينار، وديوناً على الناس وعقارات، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار.
ثم قال: (وهذا باب يتسع ذكره ويكثر وصفه فيما تملك من الأموال في أيامه..)(1).
وواضح أن هذه الثروات الطائلة لا تنبع من الأرض ولا تنزل من السماء، وما لم يكن هناك إلى جانبها حقوق مضيّعة من فقراء مدقعين لا تتيسّر هذه الثروات.
فلهذا يحذر الإمام (عليه السلام) الناس عن عبادة الدنيا ويقول في الخطبة: 127: (.. وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، ولا الشر إلا إقبالاً، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً، فهذا أو أن قويت عُدته، وعمّت مكيدته، وأمكنت فريسته. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً، أو متمرداً كأن بإذنه عن سمع المواعظ وقراً. أين خياركم وصلحاؤكم وأين أحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم والمتنزهون في مذاهبهم)؟
أجل! إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وقد رزق المسلمين من سيل النعم بغير حساب، ولكن توزيعه غير العادل على أساس التمييز الطبقي هو الذي أصاب المسلمين بداء (سكر النعم)!
وكان الإمام (عليه السلام) يكافح هذا الخطر العظيم الذي كان قد أصاب الإسلام وأخذ يجر ويلاته على المسلمين، وكان يتفقد كل من كان مساهماً في إيجاد هذا الداء الوبيل! وكان (عليه السلام) يسير هو في حياته العملية الفردية الخاصة على ضد هذه السيرة غير المرضية، وحينما بلغ إلى الخلافة جعل ذلك في رأس قائمته الإصلاحية الجادة.
وكان (عليه السلام) يشير إلى هذه النقطة الهامة: (سكر النعم) ويقول: (ثم أنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النعمة واحذروا بوائق النقمة).
ويذكّرهم عواقب هذه السكرات، ويرى أن لهم منها مستقبلاً وخيماً: (... ذاك حيث تسكرون من غير شراب، بل من النعمة والنعيم..).
قدمنا هذا الكلام هنا لتتضح لنا الواجهة الخاصة لكلمات الإمام (عليه السلام) في ذم الدنيا، وهي أنها كانت متجهة إلى ظاهرة اجتماعية خاصة في ذلك العصر العصيب.
وإذا تجاوزنا هذه الواجهة الخاصة لكلماته (عليه السلام) نجد لها - ولا شك - واجهة عامة لا تختص بذلك العصر، بل تشمل جميع الأعصار والقرون، بل هي من التعاليم التربوية العامة في الإسلام، نابعة من القرآن الكريم وكلمات الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله). ويجب أن تتضح لنا هذه الواجهة العامة لكلامه (عليه السلام) أيضاً بل نحن نولي في كلامنا هنا بهذه الواجهة العامة اهتماماً أكثر وأكبر، إذ هي الواجهة التي يخاطب بها الإمام (عليه السلام) جميع الناس في جميع العصور.
- الواجهة العامة لكلام الإمام
لكل مدرسة فكرية أسلوبها الكلامي الخاص، ولابد لمن يريد أن يدرك مفاهيمها كاملة من أن يتعرف على أسلوبها في البيان، ولابد لمن يريد أن يتعرف على أسلوبها من أن يدرك وجهتها الخاصة في نظرتها العامة إلى الإنسان والوجود.
وللإسلام وجهة نظره الواضحة إلى الحياة، فهو ينظر إلى الكون وحياة الإنسان بنظرة خاصة، من أصول هذه النظرة: أن لا ثنوية في العالم، فلا ينقسم العالم في نظر الإسلام إلى قسمين خير وشر، حسن وقبيح، ينبغي أن يكون وينبغي أن لا يكون، بل أن منطق الإسلام يقول: إن القول بهذا كفر ومجوسية: (اعملوا.. فكل ميسّر لما خلق له) من خير وحكمة وغاية، ولا شيء من غير غاية: (الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى)(2).
إذن، فلا يمكن أن يكون ذم الدنيا في منطق الإسلام متوجهاً إلى الحياة، إذ أن منطق الإسلام المبني على أساس التوحيد الخالص بما يشمل التوحيد القوة الفاعلة في العالم، والنافي لأي شريك لله في الخلقة والتكوين، لا يمكن أن ينظر إلى العالم نظرة سيئة مقيتة، وإن فكرة (الفلك الظالم) و(ظلم الدهر) فكرة غير إسلامية.
إذن فماذا يعني ذم الدنيا في القرآن ونهج البلاغة؟
- ما هي الدنيا المذمومة
قد يقول البعض أن ذلك يعني العلاقة القلبية.
وأقول، إن أراد هؤلاء بالعلاقة القلبية الارتباط العاطفي بالدنيا، فلا يمكن أن يكون كلاماً صحيحاً، إذ أن هذه العلاقة حلقة من سلسلة من العواطف المخلوقة معه في فطرته الطبيعية الأولى، وهي من طينته في الصميم، وهي ممّا لم يكتسبه الإنسان بنفسه، وكما أنه ليس في بدن الإنسان عضو زائد خلق عبثاً، كذلك ليس في عواطفه وأحاسيسه شيء زائد عبث، بل أن عواطفه كلها مخلوقة لغاية حكيمة عبّر عنها القرآن الكريم بآيات حكمة الخالق الحكيم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(3). إن هذه العواطف روابط تربط الإنسان بالحياة، سعياً نحو التكامل، وكما لا نستطيع أن نحكم على العالم بالطرد واللائمة، كذلك لا نستطيع أن نعد هذه العواطف الطبيعية زائدة بدون فائدة، فإنها من أجزاء الحياة.
إذن، فليس المقصود من ذم الدنيا، ذم الحياة، ولا ذم العلاقات الطبيعية والفطرية.
بل أن المقصود من ذلك، هو ذم العلاقة القلبية الموجبة لأسر الإنسان بيد الدنيا ومن في يده شيء منها. وهذا هو الذي يسميه الإسلام، عبادة الدنيا، وهو الذي يكافحه الإسلام مكافحة شديدة والإسلام في هذا يريد أن يردّ الإنسان إلى حالته الطبيعية في ضمن ناموس الحياة، فإن الإفراط في علاقة الإنسان بالدنيا خروج عن حالته الطبيعية.
- هل الدنيا سجن المؤمن
هناك العديد من المذاهب الفلسفية تنظر إلى الحياة نظرة ملؤها الشر والغضب، وهي تحسب أن هناك نقصاً في العالم أو تناقضاً، وإن الإنسان أسمى من أن يعيش في هذه العالم، فليست هناك أية رابطة - في نظرها - تربط الإنسان بهذه الحياة إلا علاقة السجين بسجنه أو الواقع في البئر، فلا نجاة له إلا أن يتخلص من شرور هذه الحياة.. فهل الإسلام ينظر إلى الحياة بهذه النظرة أيضاً؟ كلا.
إن الإسلام - المتمثل في نهج بلاغة الإمام (عليه السلام) - يرى علاقة الإنسان بالدنيا كعلاقة الزارع بزرعه: (الدنيا مزرعة الآخرة) أو علاقة التاجر بالمتجر: (إن الدنيا متجر أولياء الله)(4) أو علاقة المسابق بميدان السباق: (ألا وإن اليوم المظمار وغداً السباق، والسبقة الجنة والغاية النار)(5) أو علاقة العابد بالمسجد: (الدنيا.. مسجد أحباء الله)(6).
ويمكننا أن نلخص القول في وجهة نظر نهج البلاغة إلى الحياة في الحكمة 131 من كلمات ردّ بها الإمام (عليه السلام) على من سمعه يذم الدنيا (غداة الندامة) وهو يحسبها (متجرمة عليه)، بناء على فكرة (الفلك الظالم) و(جور الدهر) كما يتبين هذا من مطاوي كلامه (عليه السلام):
(أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها ثم تذمها! أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟! متى استهوتك أم متى غرتك! أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟! كم عللت بكفيك وكم مرضت بيديك؟ أتبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنهم بقوتك. قد مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك.
إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها.
مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة.
فمن ذا يذمها وقد أذنت بينها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها؟ فمثلت لهم ببلائها البلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيباً، وترهيباً، وتخويفاً، وتحذيراً.
فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا).
وخلاصة ما يستفاد من كلام الإمام (عليه السلام)، هو أنه سمع رجلاً قد اغتر بغرور الدنيا وخدع بأباطيلها، فلما ندم ذمها غداة الندامة، وهو يحسب أنها هي المتجرمة عليه، فرد الإمام: بأنك أنت المتجرم عليها، لأنك أنت المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها، ولكن ليست هي التي استهوتك وغرتك، بل قد أذنت ببينها ونادت بفراقها ونعت أهلها ونفسها، تخويفاً وتحذيراً وترهيباً فما تخوفت وما حذرت، بينما تذكر رجال آخرون فصدقوها واتعظوا بها، فجعلوها مسجداً ومصلى، ومكسباً ومتجراً ترددوا منه فربحوا الجنة، وسيحمدها هؤلاء يوم القيامة، وتذمها أنت يوم الندامة. فأنت المتجرم عليها لا هي المتجرمة، وليست عليها بل عليك الملامة!
إذن، فالإسلام لا يرى العالم عبثاً، ولا وجود الإنسان فيه خطأً، ولا عواطفه الفطرية غلطاً.. وإذن: فماذا يعني ذم الدنيا في نهج البلاغة؟
ونقول: من غرائز الإنسان الطبيعية غريزة التعبّد والتقديس، والسعي وراء السعادة والكمال، وما يرتبط به ويعتمد عليه أكثر من ارتباط عادي، يجعله منتهى مناه وكل أمله. وهنا إذا لم يهتد الإنسان إلى الصراط المستقيم في قدسه وأمله، فسوف يضل عن الصراط السوي ويتيه في متاهات الضلالة، سادراً في الغي يخبط في عمياء لا يهدي سبيلاً، وحينذاك تتبدل (الوسيلة بالغاية) و(الطريق بالهدف) و(وسيلة النجاة بسلاسل الأسر والعبودية) وحينئذ تتبدل حرية حركته ونشاطه ومساعيه إلى أسر وعبودية وجمود. وهذا هو الذي ينبغي أن لا يكون، وهو على خلاف نظام التكامل في الحياة، بل هو نقص ونوع من الفناء لا البقاء، وهو آفة الإنسان في معاشه، ويراه الإمام والإسلام خطراً ينبه للحذر منه. ولا شك أن الإسلام يعد الإنسان إزاء هذه الحياة بحياة أخرى أفضل منها بمراتب، ولا يرى لهذه الحياة الدنيا ما ينبغي أن تكون غاية مناه ومنتهى آماله، بل يراها مجالاً لأعمال صالحة تصبح وسيلة إلى السعادة الدائمة، ويرى الإنسان أمسى وأعز من أن يكون عبداً لها ولمن في يده شيء منها!
ولهذا نرى الإمام (عليه السلام) يؤكد عل حسن هذه الحياة، ولكن ليس ذلك إلا لمن لم يرض بها دار مقر دائم، فيقول: (ولنعم دار لمن لم يرض بها داراً..) ويكرر: (الدنيا دار مجاز لا دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم) والإنسان حر طليق، ولهذا فإن كل أسر أو قيد أو حدّ، يحدّ من شخصيته وعظمته.
- ما هي الدنيا المذمومة؟
قلنا فيما سبق: إن ما يراه الإسلام ممّا لا ينبغي أن يكون في علاقة الإنسان بالدنيا هو: أن يتعلق بها قلبه حتى يصبح أسيراً لها ولمن في يده شيء منها، ولا تسري هذه النظرية السلبية إلى الدنيا من هذا الإطار إلى حياة الإنسان فيها حتى ولو كانت حرة كريمة هادفة واعية.
وقلنا، إن الذي يحاربه الإمام والإسلام في تعاليمه وإرشاداته حرباً لا هوادة فيها هو أن يجعل المرء هذه الحياة هدفاً وغاية لا طريقاً ووسيلة.
وذلك، لأنه لو أصبحت علاقة الإنسان بهذه الحياة بصورة يكون معها طفيلياً على الحياة تابعاً لها ولمن في يده شيء منها، أصبحت الحياة له موتاً وسموماً! وحطمت كل ما في نفسه من المثل الإنسانية السامية، إذ أن قيمة كل امرئ بهدفه في الحياة، فلو لم يكن له أي هدف في الحياة سوى ملء بطنه وكانت مساعيه كلها في هذه الحدود، لم يكن له قيمة سوى ما يهدف له: (من كانت همتهم بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه)!
إذن، فالكلام كله حول كيفية علاقة الإنسان بهذه الحياة كيف يجب أو كيف ينبغي أن تكون؟ إن هناك صورة يصبح الإنسان فيها بهدفه في (أسفل السافلين) وأخسّ موجود في الحياة: (إِنْ هُمْ إِلاَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(7) وتتحطم فيها جميع قيمه ومثله الإنسانية السامية، ويخرج فيها بصورة حيوانية منكوسة!
وهناك صورة أخرى لهذه العلاقة على العكس من الصورة السابقة تماماً، أي بدل أن يكون الإنسان يضحي بإنسانيته في سبيل الحياة، تنحسر هاهنا الدنيا وما فيها أمام الإنسان، ويصبح كل ما فيها في سبيل خدمة المصالح الإنسانية، ويكون كما في الحديث القدسي: (.. يا بن آدم! خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي..).
وقد أتينا فيما سبق بشواهد من نهج البلاغة على هذا، وهنا نأتي بشواهد أخرى من نهج البلاغة والقرآن الكريم، ونبدأ بشواهد القرآن، فنقول:
تنقسم الآيات القرآنية الكريمة التي تتعلق بعلاقة الإنسان بالدنيا إلى قسمين:
القسم الأول: آيات تدل على فناء الدنيا وزوالها، وعدم ثباتها، وتغيرها وتنكرها، وانتقالها بأهلها حالاً بعد حال.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)(8).
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ)(9).
وبديهي أن الإنسان في حياته المادية ليس بأكثر من النباتات التي ينتظرها هذا المصير المحتوم، أراد أم كره. إذن، فلو أراد أن يكون واقعياً في نظرته إلى الحياة لا شاعراً خيالياً والإنسان إنما ينال السعادة بالواقعية لا بالأوهام والخيالات - فلابدّ له من أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه، ثم لا يغفل عنها أبداً، (وكفى بالموت واعظاً لمن اتعظ).
ولكن هذا القسم من الآيات القرآنية إنما هو في الحقيقة مقدمة تمهيدية، بل صغرى وكبرى قياس واحد لنتيجة تالية في القسم الثاني من الآيات، فإن هذه الطائفة من الآيات تحاول أن تخرج الحياة الدنيا من تصاويرها هدفاً وغايةً للإنسان في الحياة، وأن تشير إلى أن هذه الحياة الزائفة الزائلة لا ينبغي أن تكون هدفاً للإنسان وغاية له، ولو كانت هي الهدف لكانت الحياة كلها فارغة جوفاً، ولكن هناك من بعد هذه الحياة حياة أخرى دائمة باقية خالدة، هي عالم الآخرة، ينبغي أن يكون هو الهدف والغاية.
والقسم الثاني من الآيات: يسلط الأضواء واضحة صريحة على مشكلة علاقة الإنسان بهذه الحياة، بما نرى فيها صريحاً، أن الذي يحكم الإسلام عليه بأن لا يكون هو: أن يتعلق الإنسان بهذه الحياة تعلق أسر وذلة وقناعة. والآيات هي:
1ـ (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)(10).
فهذه الآية الكريمة بينما تنتقد المال والبنين بأنها ليست بأكثر من زينة في الحياة الدنيا، تجعل بمكانها الأمل الوحيد للإنسان في هذه الحياة: الباقيات الصالحات إذ هي خير ثواباً وخير أملاً، أي ترى أن تكون هي الأمل لا الزينة.
2ـ (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)(11).
وهذه الآية أيضاً إنما تنتقد أن يرضى الإنسان بالحياة الدنيا ويطمئن إليها ويغفل عن آيات الله ولا يرجو لقاء الله سبحانه، فإما أن لا يغفل عن آيات الله ويرجو لقاء الله، فلا بأس.
3ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(12).
وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد من يتولى عن ذكر الله ولم يرد إلا الحياة الدنيا، فأما من لم يتول عن ذكر الله وأراد الآخرة وسعى لها سعيها، فلا بأس عليه.
4ـ (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَ مَتَاعٌ)(13).
وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد الذين يفرحون بهذه الحياة الدنيا ولا يضمرون للآخرة أي حزن أو سرور، بل لا يعدون للآخرة أي إعداد، إذ لا يعدونها في الحياة الدنيا إلا قليلاً، فأما من لا يعد الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليلاً. ولا يعد للحياة الدنيا إلا قليلاً أيضاً، بل إنما يضمر فرحته ويعد عدته ويسعى سعيه للآخرة، فلا بأس عليه أيضاً.
5ـ (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(14).
وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ثم هم يغفلون بها عن الآخرة فلا يعلمون عنها أي شيء، أما من يعلم الآخرة علماً قطعياً، ويعلم واقع الحياة - كما في القسم الأول من الآيات - عن يقظة وشعور، فلا بأس عليه أيضاً.
فأنت ترى: أن الذي حكم عليه في جميع هذه الآيات بالنفي والتنفيذ وأن لا يكون، هو أن تصبح الدنيا أمل الإنسان الذي يرضاه، وزاده الذي يقنع به، وطمأنينته التي يفرح بها. وهكذا علاقة من الإنسان بالحياة هي التي تجعل الإنسان في خدمة الحياة وضحية ساقطة في ميادينها، بدلاً من أن تجعل الدنيا في خدمة الإنسان.
هذه هي نظرية الإسلام المتمثلة في القرآن الكريم في شأن علاقة الإنسان بالدنيا.
والإمام علي (عليه السلام) أيضاً يتبع نفس هذا الأسلوب القرآني في نهج البلاغة:
فنرى أن كلماته (عليه السلام) بهذا الصدد تنقسم أيضاً إلى نفس القسمين:
* قسم شرح فيه الإمام: فناء الدنيا وزوالها وتغيرها وانتقالها، بأوصاف دقيقة وتشبيهات وكنايات واستعارات بليغة.
* وفي القسم الثاني: يستنتج نفس النتيجة القرآنية السالفة:
ففي الخطبة 32 يقسم الإمام الناس إلى قسمين، أبناء الدنيا وأبناء الآخرة. ثم يرجع إلى أبناء الدنيا فيصنفهم على أربعة أصناف.
يقول (عليه السلام): (... فالناس على أربعة أصناف:
أ) منهم من لا يمنعه من الفساد إلا مهانة نفسه وكلالة حده ونضيض وفره.
ب) ومنهم المصلت سيفه والمعلن بشرّه، والمجلب بخيله ورجله، قد أشرط نفسه وأوبق دينه، لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه.
ج) ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية.
د) ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصّرته الحال عن حاله، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة. وليس من ذلك في مراح ولا مغدى)(15).
فالإمام (عليه السلام) يعد هؤلاء الأصناف الأربعة - على رغم اختلاف وجهات نظرهم في الحياة - فرقة واحدة، هم من أهل الدنيا. وذلك، لأنهم يشتركون في وجهة واحدة هي ما عبر عنها بقوله: (.. ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً، وعما لك عند الله عوضاً).
إذن، فالمسالة مسألة تضحية الإنسانية في سبيل خدمة الدنيا، والعكس من ذلك.
وقد كتب (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) أو محمد بن الحنفية - كما في تحف العقول وابن ميثم البحراني - يقول: (أكرم نفسك عن كل دنية، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك ثمناً)(16).
وفي (تحف العقول) عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه سئل: من أعظم الناس خطراً؟ فقال (عليه السلام): (من لم ير الدنيا خطراً لنفسه)(17).
ويتضح لنا من هذه النظرة الفاحصة في القرآن ونهج البلاغة، أن الإسلام لم يبخس من قيمة الدنيا شيئاً، بل إنما استهدف من ذلك إحياء القيم والمثل الإنسانية السامية، وإن تكون الحياة في خدمة الإنسان لا الإنسان في خدمة الحياة، وبالتالي ما أراده الله إذ قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(18).
وفي تاريخ حياة الإمام الصادق (عليه السلام) في (بحار الأنوار): أن له (عليه السلام) من الشعر قوله:
أنا من بالنفس النفيسة ربها***وليس لها في الخلق كلهم ثمن(19)
ومن هذا القبيل أحاديث كثيرة نمسك عن نقلها هنا خوف التطويل.
- هل الدنيا والآخرة ضرتان
روى السيد الشريف الرضي (رضي الله عنه) في الجزء الثالث من نهج البلاغة في باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) ومواعظه، أنه قال:
(إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها. وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما، كلما قرب من واحد بعد من الآخر، وهما بعد ضرتان).
وهنا يتجه أن نتساءل ما معنى هذا؟ وكيف نجمع بينه وبين ما سبق ممّا استفدناه من منطق القرآن ونهج البلاغة في شأن الدنيا؟
وللإجابة نقول: أولاً، إن من الضروري أن الإسلام لا يمنع من الجمع بين العمل للآخرة وللدنيا بمعنى الاستفادة منها، وإنما الممنوع منه في الإسلام هو الجمع بينهما بمعنى الهدف والغاية.
وبعبارة أخرى نقول، إن الاستفادة من الدنيا ليست ممّا يوجب الحرمان من نعم الآخرة قطعاً، وإنما الذي يوجب ذلك هو ارتكاب الذنوب والآثام لا الاستفادة المباحة من نعم الله الحلال في الدنيا: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(20).
والعكس صحيح أيضاً، فليس الإيمان والعمل الصالح ممّا يوجب حرمان العبد من الدنيا وما فيها أبداً، إذ كان كثير من الأنبياء والمرسلين والأئمة وعباد الله الصالحين الذين لا يشك في إيمانهم وصلاحهم متنعمين بكثير من حلال الله في الدنيا.
إذن فنقول، لنفترض أنا فهمنا من هذه الرواية ما يوهم أن بين الدنيا والآخرة عداوة ومنافرة، فإنا سنرفع اليد عنه بحكم تلك الأدلة القطعية المخالفة.
وثانياً نقول: نحن لو أمعنا النظر في هذا التعبير توصلنا إلى نقطة بليغة لا يبقى معها منافرة بين هذا التعبير مع تلك الأصول المسلّمة القطعية. ولكي تتضح لنا تلك النقطة نقدم مقدمة، فنقول:
إن علاقة الإنسان بالدنيا لا تخلو من إحدى حالات ثلاث:
1ـ أن يجعل الدنيا أكبر همّه، والآخرة - مع ذلك - نصب عينيه!
2ـ أن يجعل الدنيا أمام عينيه، والآخرة خلف ظهره.
3ـ أن يجعل الدنيا وسيلة، والآخرة غاية.
فالحالة الأولى: هي حالة العداوة والمنافرة، وهي الحالة التي يكون فيها مثلهما كمثل الضرّتين، أو المشرقين والمغربين والماشي بين هذين.
وأما الحالة الثانية: فهي - والأولى - التي ورد النهي عنها في الآيات والروايات.
وأما الحالة الثالثة: فهي - فقط - التي ارتضاها الله لنا ورسوله (صلّى الله عليه وآله).
إن المضادة بين الدنيا والآخرة إذ تجعل أحدهما هدفاً والآخر وسيلة تكون من نوع المضادة بين الناقص والكامل، فإذا كان الهدف هو الناقص لزم الحرمان عن الكامل، أما إذا كان الهدف هو الكامل لم يلزم الحرمان عن الناقص، بل لازم الاستفادة من الناقص في سبيل الوصول إلى الكامل بصورة إنسانية معقولة وسامية، كما أن الأمر كذلك في النسبة بين كل تابع ومتبوع، إذ لو كان غرض الإنسان الاستفادة من التابع لزم حرمانه عن المتبوع، أما إذا كان غرضه الاستفادة من المتبوع تابعه التابع بنفسه.
وفي الحكمة 269 من نهج البلاغة إشارة واضحة إلى هذا، حيث يقول (عليه السلام):
(الناس في الدنيا عاملان:
عامل في الدنيا للدنيا، قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلف الفقر ويأمنه على نفسه، فيفني عمره في منفعة غيره.
وعامل عمل في الدنيا لما بعدها، فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأحرز الحظين معاً، وملك الدارين جميعاً، فأصبح وجيهاً عند الله لا يسأل الله حاجة فيمنعه).
وقد جاءت هذه النسبة بين الدنيا والآخرة: أن الآخرة هي المتبوعة وأن الدنيا هي التابعة لها، وأن تبعية الدنيا تبعية للتابع تستلزم الحرمان عن المتبوع الأصل وهو الآخر، ولكن تبعية الآخرة تبعية للمتبوع تستلزم تبعية الدنيا لها.. جاءت هذه النسبة في القرآن الكريم، في الآيات 145-148 من سورة آل عمران بالصراحة، وفي آيات، 18 و19 من سورة الإسراء، والآية 20 من سورة الشورى بتلويح كالتصريح.
- اعمل لدنياك.. واعمل لآخرتك..
وهناك حديث آخر كثر السؤال والنقاش حوله:
روي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) تارة، وعن الإمام (عليه السلام) أخرى، وعن ابنه الإمام المجتبى (عليه السلام) في وصيته لجنادة بن أمية أيضاً، بألفاظ مختلفة ومضمون واحد: (كن لدنياك كأنك تعيش أبداً، وكن لآخرتك كأنك تموت غداً).
فقال البعض: إن معنى هذا الحديث هو أن يتسامح الإنسان في عمل الدنيا ولا يعجل، فكلما عرض له عمل للدنيا يقول: إني أعيش هنا أبداً، فلا داعي لي أن أقوم به الآن. فسأفعله بعد، فإنه لا يفوتني... ولكنه بالنسبة إلى عمل الآخرة يقول: سأموت غداً وليس لي سوى هذا اليوم، فالوقت ضيق وسيفوتني إن لم أقم به الآن.
ولم يصدق الآخرون أن يأمر الإسلام وأئمته بالتساهل والمسامحة، ولم يروا في سيرتهم (عليهم السلام) ذلك. فقالوا: إن معنى هذا الحديث هو: أن يقول الإنسان في العمل للدنيا: إني أعيش هنا أبداً، فلا ينبغي لي أن احتقر الأعمال فأفعلها بصورة مؤقتة بحجة عدم وفاء الدنيا وعدم وفاء العمر فيها، بل يجب علي أن أقوم بها بصورة أساسية أضمن فيها المستقبل لنفسي فإني سأعيش هنا أبداً، وعلى فرض عدم بقائي بها أبداً سيستفيد من عملي الآخرون بعدي فيها. وبالنسبة إلى عمل الآخرة يقول: سأموت غداً فلا فرصة في للقيام به بعد هذا، فيصلي - مثلاً - صلاة المودع للحياة، ويصوم كذلك، ويؤدي الديون وحقوق الناس كذلك، وهكذا..
وأقول: إن هذا الحديث من ألطف الأحاديث في الدعوة إلى العمل وترك الإهمال، سواء في الأمور الدينية والأخروية أو الدنيوية.
وللمثال نقول: إذا كان الشخص يعيش في دار يعلم بأنه سوف ينتقل منها إلى دار أخرى يعيش فيها أبداً، ولكنه لا يعلم متى يكون هذا الانتقال لا اليوم ولا الشهر ولا السنة.. فهو يعيش حالة التردد في تعهد العمران بالنسبة إلى كلا الدارين، إذ لو كان يعلم أنه سينتقل من هذه الدار في القريب العاجل جداً كان يصرف همّه للعمل لتلك الدار ويهمل العمل لهذه، وبالعكس إذا كان يعلم أنه سوف لا ينتقل من هذه الدار إلا بعد لأي من الزمن فإنه سيصرف همه لتعهد العمران في الدار التي هو فيها ويهمل العمل للأخرى ويقول في نفسه: يجب عليّ الآن أن أعمل لهذه الدار أنا فيها، وأما الأخرى فسوف نصل للعمل لها فيما سيأتي من الأيام، فإن الفرص كثيرة، والأقرب يمنع الأبعد.
وفي حالة التردد - الأولى - يأتي دور هذا الحديث ليقول له: بالنسبة إلى هذه الدار التي أنت بها الآن افترض أنك تعيش فيها دهراً من الزمن، فإن كانت بحاجة إلى العمران فتعهدها بالتشييد والإتقان.. وبالنسبة إلى تلك الدار الأخرى افترض بالعكس إنك ستنتقل إليها غداً، فعجل عمرانها وتشييدها قبل الفوت وقبل الموت.
والنتيجة الحتمية لهذه النظرة إلى الحياة الدنيا والأخرى: أنه سيعمل بجد لكلا الدارين.. فلنفترض أن إنساناً مسلماً يريد أن يطلب علماً أو يؤلف كتاباً أو يؤسس مؤسسة خيرية تستغرق ردحاً من الزمن، فإن كان يعلم أن عمره لا يكفي للقيام بهذا العمل وأنه سيبقى أثراً ناقصاً، فهنا يقال له: افترض أن عمرك أطول من جميع هذه الأعمال. ولكن نفس هذا الشخص إذا أراد أن يقوم بعمل من عمال الآخرة من التوبة والصلاة والزكاة وأداء الحقوق التي عليه لله وللناس وقضاء ما فات منها، فإنه يقال له: افترض أنك تموت غداً (فعجل بالتوبة قبل الموت، وبالصلاة قبل الفوت) و(صل صلاة المودع) إذ لو كان هنا أيضاً يفترض أنه سيعيش أبداً فإنه سوف يسوّف في الأعمال حتى تبلغ به الآجال.
وتبين من هذا المثال: أن افتراض بقاء الوقت في بعض الموارد يستلزم الإقدام على العمل، وافتراض قلة الوقت يستلزم الإحجام عنه. وفي بعض الموارد الأخرى يكون الأمر على عكس هذا تماماً، أي أن افتراض بقاء الوقت يستلزم الإهمال والإحجام عن العمل، وافتراض قلة الوقت يستلزم الإقدام عليه. إذن فالفرق بين الفرضين هو الفرق ين الموردين، فاللازم أن نفترض في كل مورد ما ينتهي بالإنسان إلى الإقدام على الأعمال، سواء كان من عمل الدنيا أو الآخرة.
ويصطلح الأصوليون هنا بقولهم: إن لسان الدليل هنا إنما هو لسان التنزيل والتمثيل، فلا مانع من أن يكون التنزيلان متضادين من جهتين.
ويكون ملخص معنى الحديث هو: القول في بعض الأعمال بأصالة الحياة وبقائها ودوام العمر فيها. وفي البعض الآخر القول بأصالة عدم بقاء العمر وقلته فيها. والضابط هو: القيام بالأعمال وعدم الإهمال سواء في عمل الدنيا أم الآخرة.
وليس ما قلناه من المعنى هنا توجيهاً بلا دليل، بل أن هناك عدة روايات أخرى توضح لنا مفهوم هذا الحديث على ما قلناه هنا، وإنما وقع الخلاف فيه لعدم الالتفات إلى تلك الروايات:
1ـ فقد نقل المرحوم المحدث القمي (رحمه الله) في كتابه (سفينة البحار) في مادة (رفق): أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: (إن هذا الدين لمتين، فأوغل فيه برفق.. فاحرث حرث من يظن أنه لا يموت، واعمل عمل من يخاف أن يموت غداً)(21).
2ـ وفي (الكافي) فيما أوصى به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) قال: (إن هذا الدين متين، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، وأحذر حذر من يتخوف أنه يموت غداً)(22).
يعني: إذا عرض لك عمل نافع يحتاج القيام به إلى وقت كثير فظن أن عمرك سيطول حتى تقوم به، وإذا خطر ببالك أن الوقت كثير فأردت أن تؤخر العمل النافع فظن أنك تموت غداً، فلا تؤخر العمل ولا تفوت الفرص.
3ـ وفي (نهج الفصاحة) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه كان يقول:
(أصلحوا دنياكم، وكونوا لآخرتكم كأنكم تموتون غداً).
4ـ وفيه عنه أيضاً: (اعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبداً، وأحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غداً).
5ـ وفيه عنه أيضاً: (أعظم الناس هماً المؤمن، يهتم بأمر دنياه وأمر آخرته).
6ـ وفي (تحف العقول) عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: (ليس منا من ترك دنياه لدينه، أو ترك دينه لدنياه).
-
- العبوديات والحريات
طال البحث في عبودية الدنيا والمادة في (نهج البلاغة). وقد بقي موضوع لا نستطيع أن نتعداه بلا قول فيه، وهو:
إشكال:
إذا كانت العلاقة الروحية بشيء نوعاً من المرض والمسخ للقيم الإنسانية، وموجباً للجمود والركود والوقوف عن الحركة والنشاط، فما الفرق بين أن يكون ذلك الشيء من المادة أو المعنى؟ من الآخرة أو الدنيا؟ من الخالق أو من المخلوق؟ ولو كان الإسلام في تحذيره عن التعلق القلبي بالدنيا والمادة ينظر إلى صيانة الشخصية الإنسانية الأصيلة و(تحريرها) عن أسر الركود والجمود والتوقف، لكان عليه أن يدعو إلى (الحرية المطلقة) وأن يعد جميع القيود أنواعاً من الكفر والجحود! كما نرى ذلك في بعض المدارس الفلسفية الحديثة التي ترى (الحرية) ركناً أساسياً في تكوين الشخصية الإنسانية، (كالوجوديين).
ويرى بعض أرباب هذه المدارس الفلسفية الحديثة: أن الشخصية في الإنسان تساوي العصيان والتمرد على جميع القيود والتحرر من كل ألوانها وأشكالها بلا استثناء، ويعدون كل قيد وانقياد من أضداد الشخصية الواقعي للإنسان، وموجباً لبعده عن واقعه الإنساني! ويقولون: إن الإنسان لا يكون إنساناً ولا يتمتع بالإنسانية إلا بمقدار ما يفقد في نفسه التسليم والتمكين والخضوع! إذ أن من خواص العلاقة والإعجاب بالشيء أن يجذب ذلك الشيء انتباهه إليه ويسلبه انتباهه إلى نفسه بل ينسيه نفسه، وبالتالي يتبدل هذا الموجود (الحي الواعي) الذي يسمى إنساناً وتتلخص شخصيته في هاتين الكلمتين: إلى موجود (أسير غافل) وعلى أثر نسيانه لذاته ينسى قيمة الإنسانية، ويقف بأسره وعلاقته عن الحركة والرقي، في نقطة الجمود والركود!
فلو كانت فلسفة مكافحة الإسلام لعبودية الدنيا والمادة هي: إحياء شخصية الإنسان المسلم، لكان عليه أن يمنع عن كل عبادة وكل قيد. بينما لا نشك أن الإسلام إنما يريد تحريره عن المادة والدنيا لتقييده بالمعنى والآخرة، وإنما يريد تركه للمخلوق لعبادة الخالق!
فالعرفان الإسلامي يرى: أنه يجب على الإنسان أن يتحرر عن قيد العالمين، ولكن يجب عليه أن يتقيد بقيد عبودية (الإله) ويجب أن يكون لوح الضمير غير مسود بأي خط أو رسم أو قلم أو رقم، إلا رقم (الواحد)، ولا ينبغي أن يتعلق خاطره بأي شيء سوى ذلك القمر المنير الذي لا يضر معه أي حزن أو ألم، وهم يعنون به: (الله)!
فالتحرر العرفاني الإسلامي لا يعالج شيئاً من مشاكل الإنسان في نظر الفلسفات الإنسانية (الوجودية) إذ هو تحرر نسبي، تحرر من أشياء لعبودية شيء آخر. والعلاقة هي العلاقة، والأسر هو الأسر، وإن اختلف السبب.
ولا شك عند المدارس الفلسفية الإنسانية في القول بأن كل شيء يربط الإنسان بنفسه هو ممّا يتناقض والشخصية الإنسانية، إذ هو يجمده ويوقفه. ومسيرة التكامل في الإنسان مسيرة لا نهاية لها فكل ركود فيها يضادها ويناقضها.
ولا بحث لنا في هذا، أي نحن أيضاً نقبل هذا الكلام بصورة عامة. إنما الكلام في أمرين:
الأول: هل أن القرآن ومعه نهج البلاغة ينظران إلى علاقة الإنسان بالدنيا هكذا؟ فهل الذي يدينه القرآن هي العلاقة الرابطة التي تجعل الدنيا أكبر الهم؟ وهذا يضاد تكامل الإنسان وحركته وتقدمه واطراده، وهذا هو السكون والركود والوقوف بل الفناء! فهل أن القرآن لا يدين جميع أنواع العلاقة بالدنيا حتى ما لا يكون منها موجباً للوقوف؟
والثاني: لو كانت العلاقة التامة بشيء بحيث تجعله هدفاً تستلزم القيد والأسر وبالتالي الجمود والركود فما الفرق بين أن يكون ذلك الشيء خالقاً أم مخلوقاً؟
إن القرآن ينفي كل عبودية ويدعو إلى الإنسانية والحرية المعنوي، ولكنه لا ينفي عبودية الله والعلاقة به، ولا يدعو إلى التحرر عن الرب بلوغاً إلى الحرية التامة المطلقة، بل إن دعوة القرآن إنما تبتنى على أساس التحرر عما سوى الله، والتمرد عن إطاعة غير الله والاستسلام لله.
إن كلمة (لا اله إلا الله) التي هي أساس بناء الإسلام، تبتني على نفي وإثبات، سلب وإيجاب، كفر وإيمان، تمرد وإذعان، فالنفي والسلب والكفر والتمرد بالنسبة إلى غير الحق المطلق، والإثبات والإيجاب والإيمان والإذعان بالنسبة إلى ذات الحق المطلق. إن أولى الشهادتين في الإسلام ليست (لا) فقط، كما أنها ليست (نعم) فحسب، بل هي مركبة من (لا) إله (إلا الله).
فلو كان تكامل الشخصية الإنسانية يوجب تحرره عن كل قيد وطاعة وتسليم وعبودية، وتوجب عصيانه لكل شيء ونفيه لكل إثبات طلباً للاستقلال بكماله الإنساني، والحرية المطلقة - كما يقول الوجوديون - فأي فرق بين أن يكون ذلك الشيء خالقاً أو غير خالق؟ وإذا كان على الإنسان أن يقبل نوعاً من الأسر والطاعة والقيد والعبودية والتوقف والركود، فما الفرق أيضاً بين أن يكون ذلك (الإله) هو (الله) أو غير (الله)؟!
أم أن هناك فرقاً بينهما إذا كان الهدف هو (الله) عما إذا كان الهدف غير (الله)؟ وإذا كان كذلك فما هو المبنى والأساس في ذلك؟ وما هو توجيهه وتفسيره؟
ونصل في مقام الإجابة هنا إلى أجلى وأرقى المعارف الإسلامية الإنسانية، وهذا البحث من الموارد التي يتجلى فيها عظمة منطق الإسلام من ناحية وضمور الأفكار الأخرى من ناحية أخرى.
هذا هو الإشكال الذي يطرح نفسه في ذهن بعض المنتمين إلى المدارس الفلسفية الحديثة.
والجواب:
ولكي نوضح الموضوع لابدّ لنا من الإشارة إلى بعض المباحث الفلسفية، فنقول: لقائل أن يقول: إن افتراض نوع من الشخصية للإنسان بصورة عامة، والإصرار على صيانة الشخصية الإنسانية وعدم تبدّلها عما هي عليها. إن هذا هو ممّا يستلزم نوعاً من توقيف حركة الإنسان نحو تكامله، إذ أن الحركة: تستلزم التغيّر والتحول والتبدّل وهي كونه شيئاً ثم كونه شيئاً آخر، إنه إنما يمكن صيانة النفس عن التبدل والتحول في ظل السكون والوقوف.
وبعبارة أخرى، إن من لوازم الحركة للتكامل هو التحول والتبدل، ولهذا عرف بعض قدماء الفلاسفة الحركة بالتغيّر.
إذن، فافتراض الشخصية للإنسان والإصرار على صيانتها وعدم تبدّلها إلى غيرها من ناحية، والتكامل له من ناحية أخرى، هو نوع من التناقض الذي لا يقبل الحل.
وقد قال بعضهم للخروج عن هذا التناقض: إن شخصية الإنسان أن لا تكون له شخصية خاصة تحده! فهو - على مصطلح الفلاسفة - لا تعيّني مطلق! فحده أن لا يكون له حد خاص يحده، ولونه أن لا يكون له لون خاص يصوره ويقيده بنفسه، وشكله أن لا يكون له شكل خاص يشكل عليه الخروج منه، وقيده أن لا يكون عليه قيد يقيده ويأسره، وماهيته أن لا تكون له ماهية! والإنسان موجود لا طبيعة له، فاقد لكل نوع من أنواع الاقتضاء الذاتي، لا لون له ولا شكل ولا ماهية، وإذا نحن حمّلناه أي حد أو قيد أو طبيعة أو لون أو شكل سلبناه شخصيته الواقعية!
وهذا الكلام أشبه بالشعر منه بالفلسفة! فإن اللاتعيينية المطلقة واللالونية واللاشكلية المطلقة إنما تمكن بإحدى صورتين:
- إحداهما: أن يكون ذلك الموجود منتهى الكمال الفعلي بلا نهاية، أي نوع وجوداً لا حد له، محيطاً بجميع الأزمنة والأمكنة، قاهراً لجميع الموجودات - كما أن الله هكذا - وحينئذ يكون لتكامل على هذا محالاً، إذ التكامل هو الانطلاق من النقص إلى الكمال، ولا نقص في هذا.
- والأخرى: أن يكون الموجود فاقداً لكل كمال وفعلية، أي يكون إمكاناً واستعداداً صرفاً، فهو في هامش الوجود وفي ظل العدم، وهذا ما لا حقيقة له ولا ماهية، فهو يقبل كل حقيقة وكل ماهية وكل تعيين. وهكذا موجود - مع أنه لا تعيّن له في ذاته - يكون موجوداً دائماً في ضمن تعين خاص، ومع أنه لا لون له في ذاته ولا شكل ولكنه يكون مستقراً إلى ظل موجود له لونه وشكله. وهذا النوع من الوجود هو الذي يسميه الفلاسفة: (الهيولى الأولية) أو (مادة المواد) وهو مستقر في مراتب الوجود المتدرجة إلى الأسفل في هامش الوجود، كما أن ذات الباري سبحانه مستقرة في مراتب الكمال الوجودي في الطرف الآخر المحيط بجميع الوجود.
والإنسان - كسائر الموجودات - مستقر في وسط هذين الطرفين، فلا يمكن أن يكون فاقداً لجميع أنواع التعيّنات. وإنما يتفاوت الإنسان عن سائر موجودات العالم بأن لا حد لتكامل الإنسان يوقفه عنه، بينما تقف سائر الموجودات عند حدودها المعينة لها فلا تستطيع أن تتعداها، من دون أن يكون للإنسان حد يقف دونه.
وعلى خلاف نظر الفلاسفة أصحاب (أصالة الماهية) الذين كانوا يرون أن ذات كل شيء تساوي ماهيته، فكانوا يقولون باستحالة التغيير الذاتي والماهوي، وكانوا يرون أن جميع التغيرات إنما يمكن تصورها والتصديق بها في عوارض الأشياء، لا ذواتها وماهياتها.. على خلاف هؤلاء نقول: أن للإنسان طبيعة وجودية خاصة، إنها كسائر الطبائع المادية الموجودة سيّالة متغيرة، مع فرق أن لا حد لحركة الإنسان.
وقد حمل بعض المفسرين في تأويلاته الخاصة في قوله سبحانه: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) على وجود الإنسان وقال: هذا هو الإنسان الذي ليس له منزل معيّن ولا مقام معلوم، فكلما تقدم استطاع أن يسمو أكثر فأكثر وهكذا..
وإنما نقصد من هذا أن علماء المسلمين يرون الإنسان هكذا. ولا علينا الآن أيحق لنا أن نأوّل آيات القرآن الكريم إلى تأويلات كهذه؟ أم لا؟
وأنا أرى أن في حديث المعراج رمزاً إلى هذه الحقيقة، حيث يقف جبرئيل ويقول: إن تقدمت أنا أكثر من هذا قيد أنملة احترقت! ويتقدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو إنسان، وجبرائيل ملك.
وللعلماء بحث حول الصلوات على رسول الله وآل الأطهار وجوباً أو استحباباً. هل أن في هذه الصلوات نفعاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو أكمل إنسان؟ فهل يمكن أن يتقرب رسول الله أكثر من الكمال الأعلى دون الله؟ أم أن نفع هذه الصلوات إنما يرجع إلينا فقط؟ وإن ذلك لرسول الله وآله طلب لتحصيل الحاصل. فبعضهم على أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دائماً في حال التكامل والتقرب، ولا يتوقف عن هذه الحركة أبداً، كما جاء هذا في شرح الصحيفة السجادية للسيد علي خان (قدس سره).
والذي جعل الإنسان هكذا هو (اللاتعين الصرف) بل نوع من التعين الذي يعبر عنه (بالفطرة) ونحوها.
فليس للإنسان حد.. ولكن له طريق..
والقرآن يؤكد على الطريق المعيّن للإنسان الذي يعبّر عنه (بالصراط المستقيم). وليس للإنسان مرحلة توقف، بل يجب عليه إذا توصل إلى مرحلة أن ينطلق إلى مرحلة أخرى.. ولكن له (مدار معين) يجب عليه أن يتحرك في ذلك المدار المعين، فإن تكامله هو حركته في مداره الإنساني، لا في مدار آخر كمدار الكلب والخنزير مثلاً.. وليس خارجاً عن كل مدار أي ليس في هرج ومرج!
وهذا هو الانتقاد الحق على منطق (الوجوديين) الذين ينكرون كل تعين للإنسان وكل لون وشكل له، ويرون أن كل قيد - حتى قيد الطريق والمدار الخاص - يضاد إنسانية الإنسان، ويؤكدون على تمرده وعصيانه وتحرره عن جميع القيود فقط.. فإن هذا يستلزم سلب جميع المسؤوليات، ونفي جميع الأخلاقيات، والهرج والمرج.
والآن نرجع إلى كلامنا الأول، فنتساءل: هل أن حركة التكامل تستلزم نسيان الذات وفقدان الشخصية؟ وهل أن الموجود يجب عليه إما أن يسلك سبيل التكامل أو يبقى هو هو؟ والإنسان هل يجب أن يتكامل فيتحول وتتبدل شخصيته أو يبقى هو هو؟
والجواب: أن حركة التكامل الواقعي أي الحركة إلى الكمال الطبيعي، أو قل: من الطريق الطبيعي والصراط الطبيعي للخلقة وغايتها، لا تستلزم أن تتبدل شخصية الإنسان الواقعية إلى شخصية أخرى.
والشخصية الواقعية لأي موجود هي (وجوده) وليست (ماهيته)، فالتغيير في الماهية والنوعية لا يستلزم تبدل شخصيته أبداً.
ويصرح المرحوم الشيخ صدر الدين الشيرازي (المولى صدرا) - وهو بطل هذه المسألة - بأن الإنسان ليست له نوعية خاصة، وهو يدعي: أن كل موجود حينما يطوي مراحل كماله لا يبقى على نوعه الأولي الواحد بل يتبدل إلى أنواع في حين أن وجوده نفس ذلك الوجود أولي. وإن رابطة الموجود الناقص بغايته وكماله الطبيعي ليست رابطة شيء أجنبي بشيء أجنبي آخر، بل هي رابطة شيء بنفسه، رابطة شيء ضعيف بقوته، فالشيء حينما يتحرك نحو كماله يتحرك من نفسه إلى نفسه، أو قل من نفسه التي لم تصل إلى شخصيتها إلى أن تجد شخصيتها الواقعية بكمالها. فالنبات الذي يشق الأرض وينمو ويجد لنفسه عوداً وفرعاً وورقاً، لم يتحرك في سيره هذا من نفسه إلى غير نفسه، ولو كان شاعراً بنفسه لم يشعر ببعد عن نفسه أو شخصيته.
وبعد هذه المقدمات نستطيع الآن أن نصل إلى: أن بين العلاقة بالله والحركة نحوه وعبوديته والتسليم له وبين أي حركة أخرى وعلاقة أخرى وعبودية أخرى وتسليم آخر، تفاوتاً كثيراً وبعداً كبيراً كبعد المشرقين، فإن العبودية لله هي الحرية، وإن العلاقة به هي العلاقة الوحيدة التي ليس فيها جمود وتوقف، وعبودية وحيدة ليس فيها فقدان للشخصية ونسيان الذات.
والدليل على ذلك: هو أن الله سبحانه هو كمال كل موجود، وهو المعبود الفطري لجميع الموجودات: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) إذن، فالعبودية له هي الحرية، وفقدان الشخصية فيه هو وجدان للشخصية الواقعية.
وقد توصلنا هنا إلى نقطة نستطيع معها أن نوضح ما يشير إليه القرآن الكريم: بأن نسيان الله هو نسيان للذات، وفقدان الله هو فقدان الذات، والانقطاع عن الله هو الانقطاع والسقوط.
- خسران الذات ونسيانها
إن القرآن يستعمل كلمات خاصة في شأن بعض البشر، فيقول مثلاً:
(قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)(23).
(قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ..)(24).
(نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(25).
ويفكر المتفلسف هنا ويتساءل: هل يمكن للإنسان أن يخسر نفسه؟! إذ الخسران هو الفقدان والضياع، وهو لا يكون إلا بشيئين: خاسر فاقد، والآخر مفقود ضائع. فكيف يمكن للإنسان أن يخسر نفسه ويفقدها ويضيّعها؟! أليس هذا من التناقض؟!
ثم هل يمكن للإنسان أن ينسى نفسه؟ إذ الإنسان الحي غارق في ذات نفسه، لا يرى شيئاً إلا بإضافته ونسبته إلى نفسه، فهو يلتفت إلى نفسه قبل كل شيء إذن، فما معنى نسيانه لها؟!
والتفت بعد ذلك إلى أن لهذه المسألة سابقة قديمة في المعارف الإسلامية، من الأحاديث والأدعية والعرفان والأدب العرفاني الإسلامي. وعلمت أن الإنسان قد تلتبس عليه نفسه بغيرها فيحسبها نفسه، وبما أنه يحسب غيره نفسه فما يفعله ويحسبه لنفسه يكون قد فعله لغيره في الحقيقة والواقع، ويكون قد ترك نفسه وهجرها ونسيها بل مسخها!
مثلاً: حيث يحسب الإنسان أن شخصيته الواقعية هي (شخصية الجسماني). فما يفعله، يفعله لجسمه، يكون قد ضيع نفسه ونسيها، وحسب غيره نفسه.
وللإمام (عليه السلام) في هذا المقام مقال جميل يقول فيه:
(عجبت لمن ينشد ضالته وقد أضل نفسه فلا يطلبها)(26).
ولا ينحصر ضياع النفس ونسيانها في خطأ الإنسان في هويته وماهيته، بل قد تلتبس عليه نفسه بجسمه أو بدنه البرزخي أحياناً، كما قد يتفق هذا لبعض أرباب السلوك.
وقد قلنا في الفصل السابق: أن كل موجود حينما يطوي في مسير تكامله الفطري طريق الكمال يكون في الحقيقة يسير من نفسه الضعيفة إلى نفسه القوية.
وعلى هذا فإن انحراف أي موجود عن مسير تكامله الواقعي يكون انحرافاً عن نفسه إلى غيره وهذا الانحراف يتحقق في مورد الإنسان أكثر من أي موجود آخر، لأنه حر مختار، فكل ما يختاره لنفسه غاية يكون قد جعله في الحقيقة في مكان نفسه وشخصيته الواقعية، فإن كانت غاية منحرفة يكون مبدلاً غيره بنفسه. فكل ما جاء في ذم الفناء في الماديات إنما ينظر إلى هذا الخطأ والالتباس.
إذن، فاختيار الغايات والأهداف المنحرفة عامل في خطأ الإنسان في نفسه وشخصيته الواقعية، وبالتالي ينسى شخصيته الواقعية ويفقدها.
وليس اختيار الأهداف والغايات المنحرفة موجباً لإصابة الإنسان بمرض نسيان ذاته وفقدانها فقط، بل قد يصل به الأمر أحياناً إلى أن يمسخ ماهيته الواقعية ويبدلها بذلك الهدف المنحرف.
وفي المعارف الإسلامية باب واسع في أن المرء يحشر مع من أحب.
فقد ورد في أحاديثنا: (من أحب حجراً حشره الله معه)(27).
وبالالتفات إلى المسلمات من المعارف الإسلامية التي تقول بأن ما اكتسبه الإنسان في هذه الحياة سيظهر في يوم القيامة مجسّماً، يتضح لنا أن السبب في حشر الإنسان مع ما أحب هو: أن حب الإنسان للشيء يجعله في مرحلة الغاية والهدف له، فيقع ذلك الشيء في مسير تكوين شخصية الإنسان، وتنتهي تلك الغاية المنحرفة بالإنسان بالتالي إلى تبدل واقعية الإنسان إلى ذلك الشيء.
فهذا شرطان في وجدان الإنسان لنفسه وشخصيته الواقعية:
الشرط الأول: أن لا تتبدل شخصيته الواقعية ونفسه بجسمه وجسده وبدنه.
والشرط الثاني: أن لا تتبدل غايته الواقعية وهدفه بهدف منحرف وغاية منحرفة:
ولذلك - بالإضافة إلى هذين الشرطين - شرط آخر، هو:
- من عرف نفسه فقد عرف ربه
الشرط الثالث: وهو وجدانه لخالقه وموجده وعلته الواقعية..
إذ يستحيل على الإنسان أن يدرك ويعرف شخصيته الواقعية منفصلة عن علتها وخالقها، فإن علة كل موجود مقدمة على وجود ذلك الشيء، فهي أقرب إليه من نفسه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(28). و(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(29).
وقد أكد العرفاء المسلمون على عدم الفصل بين معرفة الله ومعرفة النفس، وقالوا بالملازمة بين معرفة النفس على ما هي عليه: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ومعرفة الحق المطلق (الله سبحانه)، وهم يخطئون الحكماء المسلمين في مسائل معرفة النفس ولا يرون كلامهم فيها كلاماً وافياً بالمعنى.
ونكتفي بالقول: بعدم الفصل بين معرفة النفس ومعرفة الخالق، كما جاء في كلام رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما: (من عرف نفسه فقد عرف ربه).
وهذا هو معنى كلام الإمام (عليه السلام) حينما سأله ذعلب اليماني: (هل رأيت ربك)؟ فقال: (أفأعبد ما لا أرى)؟ ثم يوضح مراده فيقول: (لا تراه العيون بمشاهدة العيون، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان).
وهنا نقطة جميلة نستفيدها من تعبير القرآن الكريم، هي أن الإنسان لا يكون فاقداً نفسه إذا كان واجداً ربه، ولا يكون ناسياً نفسه إذا كان غير غافل عن خالقه، إذ أن نسيان الله يلازم نسيان الذات وفقدانها وضياعها: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(30).
ومن هنا يعلم أنا لماذا نقول: أن ذكر الله حياة القلوب ونورها، وطمأنينة الروح وصفاؤها، وبهجة الضمير الإنساني ورقة له وخشوع، ويقظة له وانتباه.
وما أجمل وأعمق ما قاله الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة بهذا الصدد:
(إن الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة وفي أزمات الفترات رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة).
- دور العبادة في الإحساس بالشخصية
والكلام في أبواب العبادات كثير بحيث إذا أردنا نحن هنا أن نبسط القول فيها كان علينا أن نخصص لها عشرات الكلمات والمقالات. فنحن نشير هنا إلى موضوع واحد من مواضيعها، وهي: تثمين العبادة من حيث إحساسها الإنسان نفسه وذاته وشخصيته، فنقول:
كما أن العلاقة بالماديات والغرق فيها تفصل الإنسان عن شخصيته الواقعية وتجعله بعيداً عن نفسه، كذلك وبنفس النسبة ترجع العبادة بالإنسان إلى نفسه وذاته وشخصيته الواقعية، فإن العبادة يقظة للإنسان وانتباهه له وهي تنقذ الإنسان الغريق والفاني في الأشياء من أعماق بحار الغفلات كما تنقذ الملائكة الغريق من لجج البحار وإن الإنسان في ظل العبادة وذكر الله يرى نفسه كما هي عليه، وينتبه إلى نقصانها وانكسارها، وينظر من خلال أضواء العبادة إلى الحياة والزمان والمكان، فهناك يدرك دناءة آماله وحقارة مناه المادية المحدودة، فيحاول أن يفر منها إلى قلب الوجود!
وإني لأنظر بإعجاب كثير إلى كلمة بهذا المعنى لعالم عصرنا الشهير: آينشتاين. والذي يبعثني على العجب هو أن هذا العالم إنما هو أخصائي في الفيزياء والرياضيات العالية لا في المسائل النفسية والإنسانية والدينية والفلسفية! إنه يقسم الأديان إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: الأديان التي منبعها الخوف من حوادث الطبيعية! والنوع الثاني: الأديان التي منشأها الخصائص الاجتماعية! والنوع الثالث: الدين الواقعي - غير الوهمي - العميق والمعقول، وهو الذي يسميه: الإحساس الديني للوجود أو الخلقة. ثم يشرح إحساس الإنسان في هذا الدين الحقيقي فيقول:
(في هذا الدين: يحس الإنسان بصغر آمال وأهداف البشر، والجلال والمعظمة التي تتظاهر من ما وراء ظواهر الطبيعية في الطبيعة والأفكار. فيرى نفسه في قفص كالسجن بحيث يريد أن يطير من قفص جسمه فيدرك جميع الوجود كحقيقة واحدة..).
ويقول الدكتور ويليام جيمز: (إن التوجه إلى الخالق هو النتيجة الضرورية لإحساسه بأن أعمق أقسام وجوده الاختياري وجود من النوع الاجتماعي، ولكنه - مع ذلك - إنما يستطيع أن يجد أنيسه ومؤنسة الكامل المطلق في عالم الفكر فقط. وإن أكثر الناس - سواء بالصدف أو على الدوام - يرجعون إليه في قلوبهم وضمائرهم وأفكارهم. وأن أحقر الناس في الأرض يجد بهذا التوجه إلى الخالق نفسه الواقعية ويهبها الشخصية).
ولإقبال اللاهوري كلام قيم في تثمين العبادة من حيث إحساس الشخص بها بنفسه، لا أود تركه هنا، إنه يقول:
(إن العبادة والتوجه إلى الله بإشراقة النفس: عمل حيوي متعارف عليه، تكتشف بها جزر شخصياتنا الصغار وجودها في ضمن الإطار الكبير من الحياة)(31).
..................................................
الهوامش:
1- المسعودي ـ مروج الذهب، ج2، ص341-343، ط مصر. وج4، ص252 - 255، ط أوربا.
2- سورة السجدة: 32.
3- سورة الروم: 21.
4- الحكمة: 131.
5- الخطبة: 28.
6- الحكمة: 131.
7- سورة الفرقان: 44.
8- سورة الكهف: 45.
9- سورة الحديد: 20.
10- سورة الكهف: 48.
11- سورة يونس: 7.
12- سورة النجم: 29-30.
13- سورة الرعد: 26.
14- سورة الروم: 7.
15- الخطبة 32.
16- تحف العقول، ص200.
17- تحف العقول، ص200.
18- سورة الإسراء: 70.
19- بحار الأنوار.
20- سورة الأعراف: 32.
21- سفينة البحار، ج1، مادة رفق.
22- بحار الأنوار، المجلد 15، قسم الأخلاق، الباب 29.
23- سورة الأعراف: 53.
24- سورة الزمر: 15.
25- سورة الحشر: 19.
26- الغرر والدرر للآمدي، ج4، ص340.
27- سفينة البحار، مادة: حب.
28- سورة ق: 16.
29- سورة الأنفال: 24.
30- سورة الحشر: 19.
31- إحياء فكر ديني.
-
[align=center]
حدود العقل والقلب[/align]
كان عليُّ بن أبي طالب شديداً، قاصفاً، مزمجراً، كالرعد في ليالي الويل!
والينبوعُ هو الينبوعُ لا حسابَ في جرْيهِ لليلٍ أو نهار!
مَن تتبَّع سيرَ العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرقَ بين شرقي منهم أو غربي، ولا قديم ومُحْدَث، أدرك ظاهرةً لا تخفى وهي أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تبايُن مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة والضعف. فهم بين منتج خلاّق، ومتذوّق قريب التذوّق من الإنتاج والخلق. حتى لكأنّ الحس الأدبي، بواسع معانيه وأشكاله، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم!
هذه الحقيقية تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب، فإذا هو الإمام في الأدب، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علّم وهدى، وآيته في ذلك (نهج البلاغة) الذي يقوم في أسُس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أُسُس، وتتّصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرناً فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيّدُها في نطاقٍ من بيانه الساحر.
أما البيان فقد وصل عليٌّ سابقَه بلاحقِه، فضمّ روائع البيان الجاهلي الصافي المتّحد بالفطرة السليمة اتحاداً مباشراً، إلى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة والمنطق القويّ اتحاداً لا يجوز فيه فصلُ العناصر بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية، ومن سحر البيان النبويّ، ما حَدَا بعضهم إلى أن يقول في كلامه أنه (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق).
ولا عجب في ذلك، فقد تهيّأت لعليّ جميع الوسائل التي تعدّه لهذا المكان بين أهل البلاغة. فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد الله، وتلقّى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة وقوة. أضف إلى ذلك استعداداته الهائلة ومواهبه العظيمة، فإذا بأسباب التفوّق تجتمع لديه من الفطرة ومن البيئة جميعاً!
أما الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له في كل عبارة من (نهج البلاغة) عملاً عظيماً. وهو ذكاء حيّ، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار. إذا هو عمل في موضوع أحاط به بُعداً فما يُفلت منه جانبٌ ولا يُظلَم منه كثيرٌ أو قليل، وغاص عليه عمقاً، وقَلَّبَه تقليباً، وعركه عركاً، وأدرك منه أخفى الأسباب وأمعَنها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتّبة على تلك الأسباب: ما قرُبَ منها أشدّ القرب، وما بعُد أقصى البُعد.
ومن شروط الذكاء العلويّ النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّى اتجهت. وهذا التماسُك بين الفكرة والفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية لما قبلها وعلّة لما بعدهما. ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يُستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه. بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه. وهو، لاتّساع مداه، لا يستخدم لفظاً إلا وفي هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل وتمعن في التأمل، ولا عبارة إلا وتفتح أمام النظر آفاقاً وراءها آفاق.
فعن أيّ رحب وسيعٍ من مسالك التأمّل والنظر يكشف لك قوله: (الناس أعداء ما جهلوا) أو قوله: (قيمة كل امرئٍ ما يُحسنه). أو (الفجور دارُ حصنٍ ذليل!).
وأيّ إيجاز معجز هو هذا الإيجاز: (مَن تخفّف لَحِق!) وأيّ جليل من المعنى في العبارات الأربع وما تحويه من ألفاظ قلائل فُصّلتْ تفصيلاً، بل قُلْ أُنزلتْ تنزيلا!
ثم عن أي حدّة في الذكاء واستيعاب للموضوع وعمق في الإدراك، يشفّ هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد وصفة نفسه وحقيقة حاله: (ما رأيت ظالماً أشبه بمظلومٍ من الحاسد: نفَسٌ دائم وقلبٌ هائم وحزن لازم. مغتاظٌ على مَن لا ذَنْبَ له، بخيل بما لا يملك!).
ويستمر تولد الأفكار في (نهج البلاغة) من الأفكار، فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي. وهي مع ذلك لا تتراكم، بل تتساوق ويترتّب بعضها على بعض. ولا فرق في ذلك بين ما يكتبه عليّ وما يُلقيه ارتجالاً. فالينبوع هو الينبوع ولا حساب في جَرْيهِ لليل أو نهار.
ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم. وإنك لتدهش، أمام هذا المقدار من الإحكام والضبط العظيمين، حين تعلم أن علياً لم يكن ليعدّ خُطَبَه ولو قُبَيل إلقائها بدقائق أو لحظات.
فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفْوَ الخاطر لا عنتَ ولا إجهاد، كالبرق إذ يلمع ولا خبرَ يأخذ أو يعطيه قبل وميضه. وكالصاعقة إذ تزمجز ولا تُهيّئ نفسَها لصعقٍ أو زمجرة. وكالريح إذ تهبّ فتلوي وتميل وتكسح وتنصبُّ على غاية ثم إلى مَدَاورها تعود ولا يدفعها إلى أن تروح وتجيء إلاّ قانونُ الحادثة ومنطقُ المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل ولا بعد!
ومن مظاهر الذكاء الضابط القويّ في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان عليّ يضبط بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه وتعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تُغرقه في محيط من الأحزان والكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء ومضاء، فإذا هو آمر مطاع.
ومن ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوّع البحث والوصف فأحكم في كل موضوع ولم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سُبل البحث. فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا وشؤون الناس، وطبائع الأفراد والجماعات. وهو يصف البرق والرعد والأرض والسماء. ويسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف خفايا الخلق في الخفاش والنملة والطاووس والجرادة وما إليها. ويضع للمجتمع دساتير وللأخلاق قوانين. ويبدع في التحدث عن خلق الكون وروائع الوجود. وإنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم والمنطق المحكم، في مثل هذا الأسلوب النادر.
أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفّاق الجوانح في كل أفق. وبفضل هذا الخيال القويّ الذي حُرم منه كثير من حكماء العصور ومفكري الأمم، كان عليّ يأخذ من ذكائه وتجاربه المعاني الموضوعيّة الخالصة، ثم يطلقها زاهيةً متحركة في إطار تثبُتُ على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون. فالمعنى مهما كان عقلياً جافاً، لا يمرّ في مخيّلة عليّ إلاّ وتنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود وتمدّه بالحركة والحياة.
فخيال عليّ نموذجٌ للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع، فيحيط بهذا الواقع ويُبْرزه ويجليّه، ويجعل له امتدادات من معدنه وطبيعته، ويصبغه بألوان كثيرة من مادته ولونه، فإذا الحقيقة تزداد وضوحاً، وإذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه!
وقد تميّز عليّ بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن وتتّسع. وقد مرّ من أطوار حياته بعواطف جرّها عليه حقد الحاقدين ومكر الماكرين، ومرّ منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين وإخلاص المخلصين. فتيسّرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذّي خياله المبدع. فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال وتتساوق في لوحات رائعة حيّة، شديدة الروعة والحيوية، تتركز على واقعية صافية تمتدّ لها فروعٌ وأغصان، ذات أوراق وأثمار!
ومن ثَمّ يمكنك، إذا أنت شئت، أن تحوّل عناصر الخيال القويّ في نهج البلاغة إلى رسوم مخطوطة باللون، لشدّة واقعيّتها واتّساع مجالها وامتداد أجنحتها وبروز خطوطها. ألا ما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة وكان بنفسه ألمٌ منهم بعد موقعة الجمل، قائلاً: (لتَغْرِقَنَّ بلدتُكم حتى كأنني أنظرُ إلى مسجدها كجؤجؤ طيرٍ في لجّة بحر (1)!).
أو في مثل هذا التشبيه الساحر: (فِتَنٌ كقِطَع الليل المظلم).
أو هذه الصورة المتحركة : (وإنما أنا كقُطب الرحى: تدور عليّ وأنا بمكاني!).
أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبّه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة، وتبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور: (ويل لِسِكَكِكُم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحةٌ كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيَلة!).
ومن مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل. والتمثيل في أدب الإمام وجهٌ ساطع بالحياة. وإن شئت مثلاً على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس ويتمنون ما هو فيه من حال، ولكنه أعلم بموضعه من الخوف والحذر، فهو وإن أخافَ بمركوبه إلاَّ أنه يخشى أن يغتاله. ثم انظر بعد ذلك إلى عليّ كيف يمثّل هذا المعنى يقول: (صاحب السلطان كراكب الأسد: يُغبَط بموقعه، وهو أعلم بموضعه).
وإن شئت مثلاً آخر فاستمع إليه يمثّل حالة رجل رآه يسعى على عدوّ له بما فيه إضرارٌ بنفسه، فيقول: (إنما أنت كالطاعن نفسَه ليقتلَ رِدْفَه!) والرّدف هو الراكب خلف الراكب. ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب: (إياك ومصادقةَ الكذّاب فإنه كالسراب: يقرّب عليك البعيد ويُبعد عنك القريب!).
أما النظرية الفنيّة القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلاً في الفن، فهي إن صحّت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا. فما أهولَ الموت وما أبشع وجهه. وما أروع كلام ابن أبي طالب فيه وما أجملَ وقْعَه. فهو قولٌ آخذٌ من العاطفة العميقة نصيباً كثيراً، ومن الخيال الخصب نصيباً أوفر. فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلاّ لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوّروا الموت وهَوْلَه لوناً ونغماً وشعراً.
فبعد أن يُذكّر عليٌّ الأحياء بالموت ويقيم العلاقة بينهم وبينه، يوقظهم على أنهم دانون من منزلة الوحشة بقولٍ فيه من الغربة القاسية لونٌ قاتمٌ ونغَمٌ حزين: (فكأنّ كل امرئٍ منكم قد بلغ من الأرض منزل وَحدْتهِ، فيا له من بيت وحدة، ومنزل وحشة، ومَفْرَد غربة!) ثم يهزّهم بما هم مسرعون إليه ولا يدرون، بعبارات متقطّعة متلاحقة وكأنّ فيها دويّ طبولٍ تُنذر تقول (ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر!) بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل، وتُشعلها العاطفة، ويجسّم الخيال الوثّاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة وهي بين عيون تدمع وأصوات تنوح وجوارح تئنّ، قائلاً: (وإنما الأيام بينكم وبينهم بواكٍ ونوائحُ عليكم). ثم يعود فيطلق لعاطفته وخياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحيّ:
(ولكنهم سُقُوا كأساً بدّلتهم بالنُطق خَرَساً، وبالسمع صمماً، وبالحركات سكوناً. فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سُبات (2)! جيرانٌ لا يتآنسون، وأحبّاء لا يتزاورون، بَليتْ بينهم عُرى التعارف، وانقطعتْ منهم أسباب الإخاء. فكلُّهم وحيدٌ وهُمْ جميعٌ، وبجانب الهجر وهم أخلاّء، لا يتعارفون لليلٍ صباحاً، ولا لنهارٍ مساءً. أيّ الجديدين (3) ظَعَنوا فيه كان عليهم سَرْمَدا (4)).
ثم يقول هذا القول الرهيب: (لا يعرفون مَن أتاهم، ولا يحفِلون مَن بكاهم، ولا يجيبون مَن دعاهم!).
فهل رأيت إلى هذا الإبداع في تصوير هَوْل الموت ووحشة القبر وصفة سكّانه في قوله: (جيرانٌ لا يتآنسون وأحبّاء لا يتزاورون!) ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية عليّ: (أيّ الجديدين ظَعَنُوا فيه كان عليهم سرمدا!) ومثل هذه الروائع في (النهج) كثير.
هذا الذكاء الخارق وهذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة، مع العاطفة الهادرة التي تمدّهما بوهج الحياة. فإذا الفكرة تتحرك وتجري في عروقها الدماء سخيَّةً حارّة. وإذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمدّه العاطفة بالدفء. وقد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في ميادين الأدب وسائر الفنون الرفيعة، إن لم تكن للعاطفة مشاركةٌ فعّالة في إنتاج هذا الأثر. ذلك أن المركّب الإنساني لا يرضيه، طبيعياً، إلا ما كان نتاجاً لهذا المركّب كله. وهذا الأثر الأدبي الكامل، هو ما نراه في نهج البلاغة. وإنك لتحس نفسك مندفعاً في تيّار جارف من حرارة العاطفة وأنت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر.
أفلا يشيع في قلبك الحنان والعطف شيوعاً وأنت تصغي إلى عليّ يقول: (لو أحبّني جبلٌ لتَهَافت) أو (فقْد الأحبّة غربة!) أو (اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي، وقالوا: (ألاَ إنَّ في الحق أنْ تأخذه وفي الحق أنْ تمنعه، فاصبر مغموماً أو مت متأسفاً! فنظرتُ فإذا ليس لي رافدٌ ولا ذابٌّ ولا مساعد إلاّ أهل بيتي!).
وإليك كلاماً له عند دفن السيدة فاطمة، يخاطب به ابن عمّه الرسول:
(السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك! قَلَّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، ورقّ عنها تجلُّدي، إلاّ أن لي في التأسّي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزّ!) ومنه (أمّا حزني فَسَرْمَد، وأمّا ليلي فمسهَّد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم!).
ثم إليك هذا الخبر:
روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال:
خَطَبَنَا هذه الخطبةَ بالكوفة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو قائم على حجارة نَصَبَهَا له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، فقال (عليه السلام)، في جملة ما قال:
(ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبراً. وأزمعَ الترحالَ عبادُ الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى! ما ضرّ إخواننا الذين سُفكتْ دماؤهم وهم بصفّين أنْ لا يكونوا اليومَ أحياء يسيغون الغَصَص، ويشربون الرَّنِق؟! قد، والله، لقوا الله فوفّاهم أجورهم وأحلَّهم دار الأمن بعد خوفهم! أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمّار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة؟).
قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء!
وأخبر ضرار بن حمزة الضابئ قال: فأشهد لقد رأيته - يقصد الإمام - في بعض مواقفه، وأقد أرخى الليل سدوله وهو قائمٌ في ظلامه قابضٌ على لحيته يتململ ويبكي بكاء الحزين ويقول: (يا دنيا يا دنيا، إليك عني! أبي تعرّضت؟ أم إليّ تشوَّقت؟ لا حان حينُك، هيهات! غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتُكِ ثلاثاً لا رجعة فيها! فعيشُك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير! آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبُعد السفر وعظيم المورد!).
هذه العاطفة الحارّة التي عرفها الإمام في حياته، تُواكبُه أنّى اتّجه في نهج البلاغة، وحيث سار. تُواكبه في ما يحمل على الغضب والسخط، كما تواكبه في ما يثير العطف والرضا.
حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل ويحيطونه بالسلاح وبالأرواح، تألّم وشكا، ووبّخ وأنّب، وكان شديداً قاصفاً، مزمجزاً، كالرعد في ليالي الويل! ويكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله: أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفةُ أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمَّ الصلاب الخ)، لتدرك أية عاطفة متوجّعة ثائرة هي تلك التي تمدّ هذه الخطبة بنَبْض الحياة وجَيَشَانها!
وإنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفّق العاطفة الحية التي تبث الدفء في مآثر الإمام. فهي في أعماله، وفي خُطَبه وأقواله، مقياسٌ من المقاييس الأسُس. وما عليك إلاّ أن تفتح هذا الكتاب، كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب، ذات القوة الدافقة والعمق العميق!
[align=left]جورج جرداق[/align]
...................................
الهوامش:
1 - الجؤجؤ : الصدر.
2 - ارتجال الصفة: وصف الحال بلا تأمل، فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعى من السبات، أي النوم.
3 - الجديدان: الليل والنهار.
4 - سرمد: أبدي.
-
[align=center]
الأسلوب والعبقرية الخطابية[/align]
بيانٌ لو نطَقَ بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضا! ولو هدّد الفسادَ والمفسدين لتَفَجّرَ براكينَ لها أضواء وأصوات! ولو دَعَا إلى تأمُّلٍ لَرَافَقَ فيك مَنْشَأَ الحسّ وأَصْلَ التفكير فساقَك إلى ما يريده سوقاً وَوَصَلك بالكون وصلاً!
ويندمج الشكل بالمعنى اندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما أنت إزاءَه إلاّ ما يكون المرءُ قبالةَ السيلِ إذ ينحدر والبحرِ إذ يتموّجُ والريحِ إذ تطوف!
أما إذا تحدّث إليك عن بهاء الوجود وجمال الخلق، فإنما يكتب على قلبك بمداد من نجوم السماء!
ومن اللفظ ما له وميض البرق، وابتسامة السماء في ليالي الشتاء؛!
هذا من حيث المادة. أما من حيث الأسلوب، فعليّ بن أبي طالب ساحر الأداء. والأدب لا يكون إلاّ بأسلوب، فالمبنى ملازمٌ فيه للمعنى، والصورة لا تقلّ في شيء عن المادة. وأيّ فنّ كانت شروط الإخراج فيه أقل شأناً من شروط المادة!
وإن قسْط علي بن أبي طالب من الذوق الفني، أو الحسّ الجمالي، لمَمّا يندر وجوده. وذوقه هذا كان المقياس الطبيعي الضابط للطبع الأدبي عنده. أما طبعه هذا فهو طبع ذوي الموهبة والأصالة الذين يرون فيشعرون ويدركون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم وتنكشف عنه مداركهم انطلاقاً عفوياً. لذلك تميّز أدب عليّ بالصدق كما تميّزت به حياته.
وما الصدق إلاّ ميزة الفن الأولى ومقياس الأسلوب الذي لا يخادع.
وإن شروط البلاغة، التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعلي بن أبي طالب. فإنشاؤه مثلٌ أعلى لهذه البلاغة، بعد القرآن. فهو موجز على وضوح، قويّ جيّاش، تامّ الانسجام لِمَا بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف، حلو الرنّة في الأذن موسيقيّ الوقع. وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدة. ويشتدّ ويعنف في غيرها من المواقف، ولاسيما ساعةَ يكون القول في المنافقين والمراوغين وطلاّب الدنيا على حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة. فأسلوب عليّ صريح كقلبه وذهنه، صادق كطويته، فلا عجب أن يكون نهجاً للبلاغة.
وقد بلغ أسلوب عليّ من الصدق حدّاً تَرَفّع به حتى السجعُ عن الصنعة والتكلُّف. فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجّعة، أبعد ما يكون عن الصنعة، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر.
فانظر إلى هذا الكلام المسجّع وإلى مقدار ما فيه من سلامة الطبع: (يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النينان في البحار الغامرات، وتلاطُمَ الماء بالرياح العاصفات!) أو إلى هذا القول من إحدى خطبه: (وكذلك السماء والهواء، والرياح والماء، فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات والشجر، والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار، وتَفَجُّر هذه البحار، وكثرة الجبال، وطول هذه القلال، وتفرُّق هذه اللغات، والألسن المختلفات الخ...) وأوصيك خيراً بهذا السجع الجاري مع الطبع: (ثم زَيّنها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب (1) وأجرى فيها سراجاً مستطيراً (2) وقمراً منيراً، في فلك دائر، وسقف سائر الخ). فإنك لو حاولت إبدال لفظ مسجوع في هذه البدائع جميعاً، بآخر غير مسجوع، لعرفتَ كيف يخبو إشراقها، ويبهت جمالها، ويفقد الذوق فيها أصالته ودقّته وهما الدليل والمقياس. فالسجع في هذه الأقوال العلوية ضرورة فنية يقتضيها الطبع الذي يمتزج بالصناعة امتزاجاً حتى لكأنهما من معدن واحد يبعث النثرَ شعراً له أوزانٌ وأنغامٌ تُرْفِق المعنى بصوَرٍ لفظية من جوّها ومن طبيعتها.
ومن سجع الإمام آياتٌ تردّ النغمَ على النغم ردّاً جميلاً، وتُذيب الوقع في الوقع على قرارات لا أوْزَنَ منها على السمع ولا أحَبَّ ترجيعاً. ومثال ذلك ما ذكرناه من سجعاته منذ حين، ثم هذه الكلمات الشهيات على الأذن والذوق جميعاً: (أنا يومٌ جديد، وأنا عليك شهيد. فأعملْ في خيراً، وقل خيرا!).
وإذا قلنا إن أسلوب عليّ تتوفّر فيه صراحة المعنى وبلاغة الأداء وسلامة الذوق، فإنما نشير إلى القارئ بالرجوع إلى (روائع نهج البلاغة) هذا ليرى كيف تتفجّر كلمات عليّ من ينابيعَ بعيدةِ القرار في مادّتها، وبأيّة حُلّةٍ فنيّةٍ رائعة الجمال تمورُ وتجري. وإليك هذه التعابير الحسان في قوله: (المرءُ مخبوءٌ تحت لسانه)، وفي قوله: (الحلم عشيرة) أو في قوله: (مَن لان عوده كثفتْ أغصانه) أو في قوله: (كلّ وعاءٍ يضيق بما جُعل فيه إلاّ وعاء العلم فإنّه يتّسع) أو في قوله أيضاً: (لو أحبّني جبلٌ لتهافت). أو في هذه الأقوال الرائعة: (العلم يحرسك وأنت تحرس المال. رُبّ مفتون بحسن القول فيه. إذا أقبَلتِ الدنيا على أحدٍ أعارته محاسنَ غيره، وإذا أدبرتْ عنه سلبتْه محاسنَ نفسه. ليكن أمر الناس عندك في الحق سواء. افعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئاً فإنّ صغيره كبيرٌ وقليله كثير. هلك خُزّان المال وهم أحياء. ما مُتِّع غنيٌّ إلاّ بما جاع به فقير!).
ثمّ استمعْ إلى هذا التعبير البالغ قمّةَ الجمال الفنّي وقد أراد به أن يصف تَمَكّنَه من التصرف بمدينة الكوفة كيف شاء، قال: (ما هي إلاّ الكوفة أقبِضُها وأبسطُها..).
فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير والتعبير، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحقّ بصورةٍ مطلقة ولا تفوته إلاّ إذا فاتتْه الشخصية الأدبية ذاتها.
ويبلغ أسلوب عليّ قمّة الجمال في المواقف الخطابية، أي في المواقف التي تثور بها عاطفته الجيّاشة، ويتّقد خياله فتعتلج فيه صوَرٌ حارّةٌ من أحداث الحياة التي تَمرّس بها. فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه وتتدفّق على لسانه تدفُّق البحار. ويتميّز أسلوبُه، في مثل هذه المواقف، بالتكرار بُغيةَ التقرير والتأثير، وباستعمال المترادفات وباختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين. وقد تتعاقب فيه ضروب التعبير من إخبار إلى استفهام إلى تعجّب إلى استنكار، وتكون مواطن الوقف فيه قويّة شافية للنفس. وفي ذلك ما فيه من معنى البلاغة وروح الفن. وإليك مثلاً على هذا خطبة الجهاد المشهورة، وقد خطب عليٌّ بها الناسَ لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على مدينة الأنبار بالعراق وقتل عاملَه عليها:
(هذا أخو غامد (3) قد بلغت خيله الأنبار وقتل حسّان بن حسّان البكري وأزال خيلَكم عن مسالحها وقتل منكم رجالاً صالحين.
(وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينزع حِجْلَها، وقُلبها، ورِعاثَها، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلمٌ، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرئً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً.
(فيا عجباً! واللهِ يميتُ القلبَ ويجلب الهمَّ اجتماعُ هؤلاء على باطلهم وتفرُّقُكم عن حقكم. فقُبحاً لكم حين صرتم غرضاً يُرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزَون ولا تَغزُون، ويُعصى الله وترضون!).
فانظر إلى مقدرة الإمام في هذه الكلمات الموجزة. فإنه تَدرَّج في إثارة شعور سامعيه حتى وصل بهم إلى ما يصبو إليه. وسلك إلى ذلك طريقاً تتوفّر فيه بلاغة الأداء وقوة التأثير. فإنه أخبر قومه بغزو سفيان بن عوف الأنبارَ، وفي ذلك ما فيه من عار يلحق بهم. ثم أخبرهم بأن هذا المعتدي إنما قتل عاملَ أمير المؤمنين في جملة ما قتل، وبأن هذا المعتدي لم يكتف بذلك بل أغمد سيفه في نحورٍ كثيرة من رجالهم وأهليهم.
وفي الفقرة الثانية من الخطبة توجّه الإمام إلى مكان الحميّة من السامعين، إلى مثار العزيمة والنخوة من نفس كل عربي، وهو شرف المرأة. وعليّ يعلم أن مِن العرب مَن لا يبذل نفسه إلاّ للحفاظ على سمعة امرأة وعلى شرف فتاة، فإذا هو يعنّف هؤلاء القوم على القعود دون نصرة المرأة التي استباح الغزاةُ حِماها ثم انصرفوا آمنين، ما نالت رجلاً منهم طعنة ولا أريق لهم دم.
ثم إنه أبدى ما في نفسه من دهش وحيرة من أمر غريب: (فإنَّ أعداءه يتمسكون بالباطل فيناصرونه، ويدينون بالشر فيغزون الأنبار في سبيله، فيما يقعد أنصاره حتى عن مناصرة الحق فيخذلونه ويفشلون عنه.
ومن الطبيعي أن يغضب الإمام في مثل هذا الموقف، فإذا بعبارته تحمل كل ما في نفسه من هذا الغضب، فتأتي حارّة شديدة مسجّعة مقطّعة ناقمة: فقبحاً لكم حين صرتم غرضه يُرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزُون. ويُعصى الله وترضون!).
وقد تثور عاطفته وتتقطّع فإذا بعضها يزحم بعضاً على مثل هذه الكلمات المتقطّعة المتلاحقة: (ما ضعفتُ، ولا جبنْتُ، ولا خنْتُ، ولا وهنْتُ!) وقد تصطلي هذه العاطفة بألم ثائر يأتيه من قوم أراد لهم الخير وما أرادوه لأنفسهم لغفلة في مداركهم ووهَنٍ في عزائمهم، فيخطبهم بهذا القول الثائر الغاضب، قائلاً: (ما لي أراكم أيقاظاً نُوّماً، وشهوداً غُيّباً، وسامعةً صمّاء، وناطقةً بكماء... الخ).
والخطباء العرب كثيرون، والخطابة من الأشكال الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام ولاسيّما في عصر النبي والخلفاء الراشدين لما كان لهم بها من حاجة. أمّا خطيب العهد النبويّ الأكبر فالنبيّ لا خلافَ في ذلك. أمّا في العهد الراشدي، وفي ما تلاه من العصور العربية قاطبةً، فإنّ أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه عليّ بن أبي طالب في هذا النحو. فالنطق السهل لدى عليٍّ كان منْ عناصر شخصيته وكذلك البيان القويّ بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعاً. ثم إنّ الله يسّر له العدّة الكاملة لمِا تقتضيه الخطابة من مقوّمات أخرى على ما مرّ بنا. فقد مَيّزَه الله بالفطرة السليمة، والذوق الرفيع، والبلاغة الآسرة، ثم بذخيرةٍ من العلم انفردَ بها عن أقرانه، وبحجّةٍ قائمة، وقوّة إقناع دامغة، وعبقريّة في الارتجال نادرة. أضفْ إلى ذلك صدقَه الذي لا حدود له وهو ضرورةٌ في كلِّ خطبةٍ ناجحة، وتجاربَه الكثيرة المرّة التي كشفتْ لعقله الجبّار عن طبائع الناس وأخلاقهم وصفات المجتمع ومحرِّكاته. ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق، وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية.
وإنّه من الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ مَن اجتمعت لديه كلّ هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيباً فذّاً، غير علي بن أبي طالب ونفَرٍ من الخلق قليل، وما عليك إلاّ استعراض هذه الشروط، ثم استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي والغربي، لكي تدرك أنّ قولنا هذا صحيح لا غلوّ فيه.
وابن أبي طالب على المنبر رابط الجأش شديد الثقة بنفسه وبعدْل القول. ثم إنه قويّ الفراسة سريع الإدراك يقف على دخائل الناس وأهواء النفوس وأعماق القلوب، زاخرٌ جنانُه بعواطف الحريّة والإنسانية والفضيلة، حتى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه أدركَ القومَ بما يحرّك فيهم الفضائل الراقدة والعواطف الخامدة.
أمّا إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفُهُ إلاّ بأنه أساسٌ في البلاغة العربية. يقول أبو الهلال العسكري صاحب (الصناعتين): ليس الشأن في إيراد المعاني - وحدها - وإنّما هو في جودة اللفظ، أيضاً، وصفاته وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب والخلوّ من أود النظم والتأليف.
من الألفاظ ما هو فخمٌ كأنه يجرّ ذيول الأرجوان أنفَةً وتيهاً. ومنها ما هو ذو قعقعةٍ كالجنود الزاحفة في الصفيح. ومنها ما هو كالسيف ذي الحدّين. ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يُلقى على بعض العواطف ليستر من حدّتها ويخفّف من شدّتها. ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء! من الكلام ما يفعل كالمقرعة، ومنه ما يجري كالنبع الصافي.
كل ذلك ينطبق على خطَب عليّ في مفرداتها وتعابيرها. هذا بالإضافة إلى أنّ الخطبة تحسن إذا انطبعتْ بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين؛ فكيف بها إذا كانت، كخطب ابن أبي طالب، تجمع روعةَ هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى وقوّته وجلاله!
نهجٌ للبلاغة آخذٌ من الفكر والخيال والعاطفة آياتٍ تتّصل بالذوق الفنّي الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيالٌ وعاطفةٌ وفكر؛ مترابطٌ بآياته متساوق؛ متفجّر بالحسّ المشبوب والإدراك البعيد، متدفِّقٌ بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع؛ متآلفٌ يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج حتى ليَندمج التعبيرُ بالمدلول، أو الشكلُ بالمعنى، اندماجَ الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء؛ فما أنت إزاءه إلاّ ما يكون المرء قبالةَ السيل إذ ينحدر والبحر إذ يتموّج والريح إذ تطوف. أو قبالةَ الحَدَثِ الطبيعي الذي لابدّ له أنْ يكون بالضرورة على ما هو كائنٌ عليه من الوحدة لا تفرّق بين عناصرها إلاّ لتمحو وجودَها وتجعلها إلى غير كَوْن!
بيانٌ لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضاً! ولو هدّد الفساد والمفسدين لتَفجّر براكينَ لها أضواءٌ وأصوات! ولو انبسط في منطقٍ لَخاطَبَ العقولَ والمشاعر فأقفلَ كلَّ بابٍ على كلّ حجّةٍ غير ما ينبسط فيه! ولو دعا إلى تأمّلٍ لَرافقَ فيك منشأ الحسّ وأصل التفكير، فساقك إلى ما يريده سَوْقاً، ووصَلك بالكون وصْلاً، ووحّد فيك القوى للاكتشاف توحيداً. وهو لو راعاك لأدركت حنانَ الأب ومنطق الأبوّة وصدْقَ الوفاء الإنساني وحرارَةَ المحبّة التي تبدأ ولا تنتهي! أمّا إذا تحدّثَ إليك عن بهاء الوجود وجمالات الخلق وكمالات الكون، فإنّما يكتب على قلبك بمدادٍ من نجوم السماء!
بيانٌ هو بلاغةٌ من البلاغة، وتنزيلٌ من التنزيل. بيان اتّصل بأسباب البيان العربي ما كان منه وما يكون، حتى قال أحدهم في صاحبه أن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق!
وخطَب علي جميعاً تنضح بدلائل الشخصية حتى لَكأنّ معانيها وتعابيرها هي خوالج نفسه بالذات، وأحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما تشتعل النار في موقدها تحت نفخ الشمال. فإذا هو يرتجل الخطبة حسّاً دافقاً وشعوراً زاخراً وإخراجاً بالغاً غايةَ الجمال.
وكذلك كانت كلمات عليّ بن أبي طالب المرتجلة، فهي أقوى ما يمكن للكلمة المرتجلة أن تكون من حيث الصدق، وعمق الفكرة، وفنّية التعبير، حتى أنها ما نطقتْ بها شفتاه ذهبتْ مثلاً سائراً.
فمن روائعه المرتجلة قولهُ لرجلٍ أفرط في مدحه بلسانه وأفرط في اتّهامه بنفسه: (أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك).
ومن ذلك أنه لمّا اعتزم أن يقوم وحده لمهمّة جليلةٍ تَردّد فيها أنصاره وتخاذلوا، جاءَه هؤلاء وقالوا له وهم يشيرون إلى أعدائه: يا أمير المؤمنين نحن نكفيكَهم. فقال من فوره: (ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفوني غيركم؟ إن كانت الرعايا قبلي لتشكوا حَيْفَ رُعاتها، فإنني اليومَ لأشكو حَيْفَ رعيّتي، كأنّني المقود وهم القادة).
ولمّا قتل أصحاب معاوية محمداً بن أبي بكر فبلغه خبر مقتله قال: (إن حزننا عليه قدر سرورهم به، ألاَ إنّهم نقصوا بغيضاً ونقصْنا حبيباً).
وسئل: أيهما أفضل: العدل أم الجود؟ فقال: (العدل يضع الأمور مواضعَها، والجودُ يُخرجها من جهتِها، والعدلُ سائسٌ عامّ، والجود عارضٌ خاصّ، فالعدل أشرفهما وأفضلهما).
وقال في صفة المؤمن، مرتجلاً:
(المؤمن بشرُه في وجهه، وحزنُه في قلبه، أوْسعُ شيء صدراً، وأذّل شيء نفساً. يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويلٌ غمّه، بعيدٌ همّه، كثيرٌ صمتُه، مشغولٌ وقتُه، شكور صبور، سهل الخليقة ليّن العريكة!).
وسأله جاهل متعنّتٌ عن معضلة، فأجابه على الفور: (اسألْ تفقّهاً ولا تسألْ تعنّتاً فإنّ الجاهل المتعلم شبيهٌ بالعالم، وإنّ العالم المتعسّف شبيهٌ بالجاهل المتعنّت!).
والخلاصة أنّ عليّ بن أبي طالب أديبٌ عظيمٌ نشأ على التمرّس بالحياة وعلى المرانة بأساليب البلاغة فإذا هو مالكٌ ما يقتضيه الفنّ من أصالةٍ. في شخصية الأديب، ومن ثقافة خاصّة تنمو بها الشخصية وتتركز الأصالة.
أما اللغة، لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها مرشلوس في المجلد الأول من كتابه (رحلة إلى الشرق) هذا القول الذكيّ: (اللغة العربية هي الأغنى والأفصح والأكثر والألطف وقعاً بين سائر لغات الأرض. بتراكيب أفعالها تتبع طيران الفكر وتُصوّره بدقّة، وبأنغام مقاطعها الصوتية تقلِّد صراخَ الحيوانات ورقرقةَ المياه الهاربة وعجيجَ الرياح وقصْفَ الرعد)، أمّا هذه اللغة، بما ذكره مرشلوس من صفاتها وبما لم يذكر، فإنّكَ واجدٌ أصولها وفروعَها، وجمالَ ألوانها وسحْرَ بيانها، في أدب الإمام عليّ!
وكان أدباً في خدمة الإنسان والحضارة!
[align=left]
جورج جرداق[/align]
.....................................
الهوامش:
1 – الثواقب: المنيرة المشرقة.
2 - سراجاً مستطيراً: منتشر الضياء. ويريد به الشمس.
3- إذا شئت شرحاً للمفردات والتعابير الغريبة الواردة في هذه الخطبة، فارجع إليها في مكانها من هذا الكتاب.
-
[align=center]
العدالة الكونية[/align]
- تكافؤ الوُجوْد
وأحسَّ عليٌّ أن هذا الكون العظيم متعاونٌ متكافلٌ فكان من ذلك أن الريحَ إذا اشتدّت حرّكت الأغصانَ تحريكاً شديداً، وإذا أجفلت قَلَعَت الأشجارَ وهاجت لها العناصر، وأنها إذا لانتْ وجرَتْ فُوَيْقَ الأرضِ جرْياً خفيفاً سكرتْ بها صفحات الماء وسكنتْ تحتَها الأشياء!
وأدرك كذلك أن قوة الوجود الشاملة ترعى هشيِمَ النبْت بقانون ترعى به الورقَ الأخضر والزرع الذي استوى على سُوقِه واهتزّ للريح!
وأسقط ابنُ أبي طالبٍ نظرية التجّار بقولٍ تَنَاوَله من روح الوجود وكأنه يشارك به الكونَ في التعبير عمّا في ضميره!
نظرةٌ واحدة يلقيها المرء على الكون الخارجي وأحواله: على النجوم الثابتة في سَعة الوجود والكواكبِ السابحة في آفاق الأبد، وعلى الشمس المشرقة والسحاب العارض والريحِ ذاتِ الزفيف، وعلى الجبال تشمخُ والبحارَ تقصفُها القواصفُ أو يسجو على صفحاتها الليل، تكفيه لأن يثق بأنّ للكون قانوناً وأنّ لأحواله ناموساً واقعاً كلٌّ منهما تحت الحواسّ وقائماً بكل مقياس.
ونظرةٌ واحدةٌ يُلقيها المرء على ما يحيط به من الطبيعة القريبة وأحوالها: على الصيف إذ يشتدّ حَرّه وتسكن ريحُه، والخريف إذ يكتئبُ غابُه وتتناوحُ أهواؤه وتعبسُ فيه أقطارُ السماء، والشتاء إذ ترعد أجواؤه وتضطربُ بالبروقِ وتندفع أمطارُه عُباباً يزحمُ عُباباً وتختلط غيومهُ حتى لتُخفي عليك معالمَ الأرض والسماء، والربيعِ يبسطُ لك الدنيا آفاقاً ندّية وأنهاراً غنيّة وخصباً ورُواءً وجناناً ذات ألوان، كافيةٌ لأن تجعلهُ يثقُ بأنّ لهذه الطبيعة قانوناً وأنّ لأحوالها ناموساً واقعاً كلٌّ منهما تحت الحواسّ وقائماً بكل مقياس.
ونظرةٌ فاحصةٌ واحدة يُلقيها المرء على هذي وذاك، كافيةٌ لتدلَّه على أنّ هذه النواميس والقوانين صادقة ثابتة عادلة، يقومُ منطقُها الصارمُ بهذه الصفات. وفيها وحدَها ما يُبرّر وجودَ هذا الكون العظيم!
ألقى ابنُ أبي طالب تلك النظرةَ على الكون فوَعَى وَعْياً مباشراً ما في نواميسه من صدقٍ وثباتٍ وعدل، فهزّه ما رأى وما وعى، وجرى في دمه ومشى في كيانه واصطخب فيه إحساساً وفكراً، فتحرّكتْ شفتاه تقولان: (ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض). ولو حاولتَ أن تجمع الصدق والثبات والعدل في كلمة واحدة، لمَا وجدَت لفظةً تحويها جميعاً غير لفظة (الحق). ذلك لما يتّحد في مدلولها من جوهر الكلمات الثلاث!
وأدرك ابنُ أبي طالب في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلاً وفرعاً بين السماء والأرض اللتين قامَتا بالحقّ واستَوَتا بوجوهه المتلازمة الثلاثة: الصدق والثبوت والعدل، وبين الدولة التي لابدّ لها أن تكون صورة مصغّرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة، فإذا به يحيا في عقله وضميره هذه المقايسةَ على صورة عفوية لا مجال فيها لواغلٍ من الشعور أو لغريبٍ من التفكير، ثم لا يلبث أن يقول:
(وأعظمُ ما افترض من تلك الحقوق حقُّ الوالي على الرعية، وحقّ الرعية على الوالي فريضةٌ فرَضَها الله لكلّ على كلّ، فجعلها نظاماً لألفَتهم، فليست تصلح الرعيّةُ إلاّ بصلاح الوُلاة، ولا يصلح الولاةُ إلاّ باستقامة الرعيّة. فإذا أدّت الرعيّةُ إلى الوالي حقّه.
وأدّى الوالي إليها حقّها، عَزّ الحقّ بينهم، واعتدلتْ معالمُ العدل وجرَتْ على أذلالها السّنَنُ(1) فصلُحَ بذلك الزمانُ وطُمِعَ في بقاء الدولة. وإذا غلبت الرعيّةُ واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفتْ هنالك الكلمة وظهرتْ معالمُ الجور وتُركتْ مَحاجّ السّنن فعُمِلَ بالهوى وعُطّلتِ الأحكام وكثرتْ علل النفوس، فلا يُستْوَحَشُ لعظيمِ حقٌّ عُطّلَ (2) ولا لعظيمِ باطلٍ فُعِل! فهنالك تذلّ الأبرار وتعزّ الأشرار وتعظم تَبِعاتُ الله عند العباد!).
وأوصيك خيراً بهذا الإحكام للروابط العامة الكبرى بين عناصر الدولة على لسان علي، ثم بين الأعمال الخيّرة المنتجة وبين ثبوت هذه العناصر على أُسُسٍ من الحق، أو قلْ من الصدق والثبوت والعدل: وجوه الحق الثلاثة التي تقوم بها السماوات والأرض.
وأحسّ عليّ أن هذا الكون العظيم متعاونٌ متكافلٌ فكان من ذلك أنّ الريح إذا اشتدت حرّكتْ الأغصان تحريكاً شديداً، وإذا أجفلتٌ قلعتِ الأشجارَ وهاجت لها العناصر، وأنّها إذا لانت وجرتْ فُوَيْقَ الأرضِ جرياً خفيفاً سكرتْ بها صفحاتُ الماء وسكنتْ تحتها الأشياء.
وأحسّ أن الشمس إذا ألقت على الأرض نورها بدتْ معالمُ الأرض للعيون والأذهان، وإذا خلّتْها خلّتْ عليها من الظلمة ستاراً. وأنّ النبتة تنمو وتزهو وتورق وقد تثمر، وهي شيءٌ يختلف في شكله وغايته عن أشعّة النهار وجسم الهواء وقطرة الماء وتراب الأرض، ولكنها لا تنمو ولا تورق إلاّ بهذه الأشعة وهذا الجسم وهذه القطرة وهذا التراب.
وأحسّ أن الماء الذي (تلاطَمَ تيّارهُ وتّراكم زَخّارُه) كما يقول، إنّما (حُمل على متْن الريح العاصفة والزعزع القاصفة). وأنّ الريح التي (أعصفَ الله مجراها وأبعد مَنشأها) مأمورةٌ - على بُعد هذا المنشأ - (بتصفيق الماء الزخّار وإثارة موج البحار، تعصفُ به عصْفَها بالفضاء وتردّ أوّلَه إلى آخره، وساجيَه إلى مائره (3) حتى يعبّ عُبابُه). ومن زينة الأرض وبهجة القلوب هذه النجوم وهذي الكواكب، وضياءُ الثواقب (4) والسراج المستطير (5) والقمر المنير!
أحسّ ابن أبي طالب من وراء ذلك جميعاً أنّ هذا الكون القائم بالحقّ، إنّما ترتبط عناصرُه بعضُها ببعض ارتباطَ تعاوُن وتسانُد، وأنّ لقواه حقوقاً افتُرِضَتْ لبعضها على بعض، وأنّها متكافئةٌ في كلّ وجوهها متلازمة بحُكم وجودها واستمرارها.
فأدرك في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلاً وفرعاً بين هذه العناصر المتعاونة المتكافئة، وبين البشر الذين لابدّ لهم أن يكونوا متعاونين متكافئين بحكم وجودهم واستمرارهم، فهم من أشياء هذا الكون يجري عليهم ما يجري على عناصره جميعاً من عبقريّة التكافل الذي يراه عليّ فرضاً عليهم لا يحيون إلاّ به ولا يبقون. فإذا به يلفّ عالمَ الطبيعة الجامدة وعالمَ الإنسان بومضةِ عقلٍ واحدة، وانتفاضة إحساس واحدة، ليستشفّ عدالة الكون القائم على وَحْدَةِ من الصدق والثبات والعدل، مطلقاً هذا الدستور الذي يشارك به الكونَ في التعبير عن ضميره، قائلاً:
(ثم جعل من حقوقه حقوقاً افترضَها لبعض الناس على بعض، فجعلَها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضُها بعضاً، ولا يُسْتَوْجَبُ بعضُها إلاّ ببعض!).
ومن هذا المعين أيضاً قولٌ له عظيمٌ يقرّر به أنّ دوام نعمة من النعم مرهونٌ بما فُرض على صاحبها من واجب طبيعيّ نحو إخوانه البشر، وأن عدم القيام بهذا الواجب كافٍ وحده لأن يزيلها ويُفنيها:
(مَن كثرتْ النِّعَمُ عليه كثرت الحوائج إليه. فمن قام فيها بما يجب عَرّضَها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عَرّضَها للزوال والفناء).
ففي هذين القولين من التعبير عن عدالة الكون، والناسُ من موجوداته، ما لا يحتاج إلى كثيرٍ من الإيضاح. فحقوق العباد - على لسان عليّ - يكافئ بعضها بعضاً. فهي أشبه ما تكون بحقّ الماء علي الريح، والنبتة على الماء، والماء على الشمس، والشمس على قانون الوجود. وهذه السنة التي تفرض على الإنسان ألاّ يستحقّ شيئاً من الحقوق إلاّ بأدائه حقوقاً عليه، ليست إلاّ سُنّة الكون العادلة القائمة بهذا العدل.
ولينظر القارئ في هذا الأمر نظراً سديداً ثم ليقلْ رأيه في ما رأى. فإنّه إن فعل أدرك لا شكَ أنّ هذه القاعدة التي بلغ ابن أبي طالب بها إلى جذور العدالة الكونية، ثابتةٌ تغيّر نفسها ولا شذوذ ينقضها.
فعناصر هذا الكون لا تأخذ إلا قدر ما تعطي، ولا يكسب بعضُها إلاّ ما يخسره بعضها الآخر. فإذا أخذت الأرض من الشمس نوراً ودفئاً، أعطت الوجودَ من عمرها قدر ما أخذت. وكذلك إذا أخذتْ من الليل ظلاًّ يغمرها. وإذا تناولت الزهرةُ من عناصر الكون الكثيرة ما يحييها وينميها ويعطيها عبيراً شهيّاً، فلسوف يأخذ النورُ والهواءُ من لونها وعطرها بمقدار ما أعطَيَاها، حتى إذا تكامَلَ انعقَادها وبلغت قمةَ حياتها، تَعاظمَ مقدارُ ما تدفعه من عمرها، فإذا بالحياة والموت يتنازعانها حتى تُسلم إليه أوراقَها وجذْعَها. أما الأرض فتبتلع منها كل ما كانت قد منحتْها إياه.
والبحر لا يستعيد إلى جوفه إلاّ ما أعطى السماءَ من غيومٍ والبرَّ من أمطار.
وكذلك الإنسان في حياته الخاصة. فهو لا يحظى بلذة إلاّ بفراق أخرى يدفعها، قاصداً أو غير قاصد، عوضاً عمّا أخذ. وهو لا يولد إلاّ وقد تقرّر أنه سيموت. يقول عليّ: (ومالك الموت هو مالك الحياة!).
وعن هذا التوازن الحكيم في قانون الكون برحابه وأفلاكه، وأرضه وسمائه، وجماداته وأحيائه، يعبّر ابنُ أبي طالب بهذه الكلمة التي تجمع سداد الفكر إلى عنف الملاحظة إلى عبقرية البساطة: (ولا تُنال نعمةٌ إلاّ بفراق أخرى!).
ولينظر الناظرون في هذا القول فإنّهم إن فعلوا وثقوا بأنّه الواقع الذي يرتسم كلماتٍ هي أشبه بالقاعدة الرياضية التي لا يمكن الخروج عليها.
أمّا في الحياة العامة، فليس بين شؤون الإنسان شأنٌ واحدٌ يشذّ عن هذه القاعدة التي انتزعها عليّ بن أبي طالب من مادّة الكون العظيم. فحقّك على مجتمعك هو أن يقيّم هذا المجتمعُ ما تعطيه، كميّةً ونوعاً، ثم أن تأخذ منه بمقدار ما أعطيتَ. أمّا إذا حصلتَ من المكافأة على أقلّ مما أعطيتَ، فإنّ نصيبك عند ذاك ذاهبٌ إلى سواك، وإن سواك يتمتّع بخيرٍ أنتَ صاحبه ولا شك، وإنك في النتيجة مغصوبٌ مظلوم. وأما إذا أخذت من المكافأة فوق ما أعطيتَ، فإنّ نصيب غيرك منها ذاهبٌ إليك، وإن سواك من الخلق يجوع بما أكلتَ، وإنك بذلك غاصبٌ ظالم، ووجود المظلوم والظالم في المجتمع مَفْسدةٌ له ومنقصةٌ في موازين العدالة الاجتماعية التي لا تستقيم إلاّ إذا دخلتْ في نطاق مُريحٍ من العدالة الكونية. والباطل لا يمكن أن يكون قاعدةً بل الحقّ هو القاعدة. و(الحق لا يُبطله شيء) في قانون الكون! وهو كذلك في مذهب ابن أبي طالب.
والنظر في الساطع العظيم من مظاهر العدالة الكونية، لم يكن ليُلهي عليّاً عن النظر في ما خفي منها ودَقّ. وشأنه في ذلك شأن عباقرة الشعراء الذين تولّف دقائقُ الأشياء لديهم، في المادّة والمعنى، ما تولّفه عظائمُها فهم لا يفرقون فيها بين كبيرٍ وصغير، فهي بالمنشأ واحدةٌ وهي كذلك بالدلالة.
وليس للذي يبهر الأنظار حسابٌ في عقولهم وقلوبهم يعلو على حساب ما ينزوي في المخابئ وبين الظلال. ورُبّ نظرةٍ تُجري من الأحاسيس في كيان هؤلاء ما لا تُجريه ينابيعُ الكلام! ورُبّ إشارةٍ يُدركون فيها من التصريح ما لا يرونه بألف إعلان! وربّ زهرةٍ في كَنَف صخرةٍ ينعمون لديها من الشعور بعظمة الوجود بما لا ينعمون به لدى الدوحة العاتية. بل ربّ صغيرٍ في نظرهم أجلّ من كبير، وقليل أكثر من كثير! وأرى من الموافق أن أذكر في هذا المجال نُتْفةً من حديث طويلٍ سُقتُه بصدَد الكلام على موقف صاحب الإحساس العظيم والفكر المحيط من الكون الذي يستوي خفيُّه وظاهره في الدلالة على ما فيه من جليلٍ، قلت:
(وكأنّي بهذه الطبيعة تمثّل للشاعر جمالَ الحريّة التي يشتهي، إذ تُرسل الريحَ حين تشاء وكيف تشاء لا يهمّها أسَخِطَ الناسُ عليها أم رَضوا قانعين! وتُفجّر الينابيعَ من الصخرِ، حين ترومُ، ومن رَخِيِّ التراب، وتُجريها هادئةً في السهلِ أو تقذف بها من عالي الجبال. وتُبرزُ من صدرها أشجاراً وصخوراً وقمماً وودياناً على طريقتها التي تريد، لا يعنيها أن تنبُتَ الزنابقُ إلى جانب الشوك أو تعلَقَ إبرُ السمّ ورداً أخضرَ العود طيّبَ الريح. ولا تتقيّد بمعرفة تقوم بتحقير الهشيم اليابس وتعظيم الأخضر الفَينان، وبالسخرية من صغار الهوامّ تُطِلّ من ثقوب الصخور، تمجيدا لشراسة القويّ من الوحش يفترسُ الضعيف (6)).
بهذه النظرة وبهذا الشعور واجهَ ابنُ أبي طالب مظاهرَ الوجود الواحد في الطبيعتين الصامتة والحيّة، وأحسّ إحساساً بديهيّاً وعميقاً معاً بأنّ قوّة الوجود الشاملة ترعى هشيم النبْت بقانون ترعى به الورقَ الأخضرَ والزرْعَ الذي استوى على سُوقهِ واهتزّ للريح. وأنّها تُعنَى بالفسيلِ (7) الضئيلِ من شجر الأرض كما تُعنى بالعتيِّ من الدوح العظيم. أمّا البَهْم والحشرات والغوغاء (8) وصغار الطير، فإنّ الطبيعة لم تبذل في رعايتها نصيباً أقلّ مما تبذله في رعاية الهائل من الوحش ونسر الفضاء. فلكلّ من المخلوقات مكانُه في سعة الوجود ولكلٍّ حقُّه بهذا الوجود. لذلك لم يمنع الطودُ الشامخُ عن ابن أبي طالب رؤيةَ الحصاة وذرّة التراب. ولم يفتْه وهو ينظر إلى الطاووس أن يلتفت إلى النملة المتواضعة الدابّةِ في خفايا الأرض بين حطامها وحصاها، فإذا هي في الوجود خلقٌ جليلٌ وشيءٌ كثير. وما كان عليّ ليرى في الطاووس والنملة اللذين يبسطهما النهار، شيئاً يزيد في معنى الوجود وفي قيمته عمّا كان يراه في الخفافيش (9) التي جُعل لها الليلُ نهاراً وقَبَضَها الضياءُ الباسطُ لكلّ شيء. وإنما كان يرى من غوامض الحكمة فيها ما يراه في عظائم المخلوقات.
ويكفي هذا المخلوق، في نهج عليّ، أن يكون ذا رَمَقٍ - أي أن يكون حيّاً - لتكفل له قوّةُ الوجود الشاملة كفْلاً أساسيّاً ما يقيه خطر الموت قبل حينه. فإنّ العدالة الكونية ما أقامت حيّاً من الأحياء إلاّ وعدلتْ وجودَه بما يُمسك عليه مدّة بقائه. وهذا ما يعنيه عبقريّ الملاحظة الدقيقةِ الضابطة عليّ بن أبي طالب بقوله: (ولكلِّ ذي رمَقٍ قوتٌ، ولكل حبةٍ آكل).
أمّا إذا حيل بين ذي الرمق وقوْته، والحبّةِ وآكلها، فإنّ في هذا المنع اعتداءً على موازين العدالة الكونية وافتراءً على قيمة الحياة ومعنى الوجود. يقول عليّ: (والله لو أعطيتُ الأقاليم السبعة على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبُها لبّ شعيرةٍ، ما فعلتُ!).
أما الاعتداء على موازين العدالة الكونية، فإن العقاب عليه قائمٌ بطبيعة هذه العدالة العامّة نفسها التي تقاضي الفاعلَ مقاضاةً لا لين فيها ولا قسوة، وإنما عدلٌ ومجازاة.
ومن ثمّ كانت النظرة العلوية الجليلة إلى معنى الحياة الواحدة بكثيرها وقليلها، بكبيرها وصغيرها. فالعدالة الكونية التي وازت بين الأحياء ورعتْهم في مختلف حالاتهم وأقامت بينهم أعمالاً مشتركة وحقوقاً متبادلة وواجبات متعادلة، لم تفرّق بين مظهرٍ من مظاهر الحياة وآخر، ولم تأمر بأن يعتد قويّ على ضعيف لِما خُصّ به القويّ من أداة العتوّ؛ ولم تأذن للكثير بأن يغبن القليلَ حقّه بما خُصّ به من صفات الكثرة. وهي من ثم لا تغتفر ظلْمَ القليل بحجّة مصلحة الكثير. فالذي يغبن كائناً حيّاً في نهج ابن أبي طالب فكأنّما غَبَنَ الكائنات الحيّة جميعاً. ومَن قتل نفساً بغير حقّ فكأنّما قتل النفوس جملة. ومن آذى ذا رمَق فكأنّما آذى كلّ ذي رمَقٍ على وجه الأرض. فالحياة هي الحياة في نهجهِ واحترامُها هو الأصلُ وعليه تنمو الفروع.
ففي نظريات عددٍ كبير من المفكرين والمشترعين، وفي (آراء) معظم هؤلاء الذين يسمون أنفسهم رجال سياسة، يجوز الاعتداء على العدد القليل من الناس في سبيل العدد الكثير. وفي حساب هؤلاء، لا يقاس الخير إلاّ بسلامة العدد الكثير، ثم في بلوغه ما يصبو إليه من حال. فإذا قُتل بحادث اعتداءٍ ألفٌ من الخلق، فالأمر فظيع. وإذا قُتل ألفان فالأمر أفظع. وهكذا دواليك. أمّا إذا قُتل إنسانٌ واحد، بمثل هذا الحادث، فالقضيّة هيّنة والأمر بسيط. فإنّ دفاتر تجّار الأرواح عند ذاك لا يسقط منها الكثير. أمّا جداول الضرب وعمليّات الجمع والقسمة، فإن الميسور تعديلها بعمليّة حساب بسيطة.
أمّا ابن أبي طالب فيسحق نظريات هؤلاء التجّار، بقولٍ يتناوله مباشرةً من روح الوجود الذي لا قيمة لديه للأرقام في معنى الحياة، بل للحياة نفسها:
(فو اللهِ لو لم يُصيبوا من الناس إلاّ رجلاً واحداً معتمدين (10) لقتله، بلا جُرمٍ جَرّه، لَحَلّ لي قتلُ ذلك الجيش كلّه).
والواضح هنا أنّ الموضوع ليس (قتل الجيش كلّه) بل تمكين فكرة احترام الحياة في أذهان أصحاب السلطة، ولفْت أنظارهم إلى أن قتْل نفسٍ واحدة، قصداً واعتماداً، إنما يساوي قتْل الخلق جميعاً.
ولو أنّنا قسْنا نظرةَ عليِّ بن أبي طالب في هذا المجال بنظراتِ كثيرةٍ من المفكرين الذين رأوا أنّ موازين العدالة لا تتحرك إلاّ بالقوّة والكثرة، لبَدَا لنا كيف ينحدرون حيثُ يسمو، وكيف يتزمّتون ويغلظون حيثُ يرحبُ أُفقُه وتعلو على يديه قِيَمُ الحياة. ففيما يطبّل بعض هؤلاء ويزمّرون لِمَا (اكتشفوه) من آراء ونظريات تُبيح للقويّ أن يعتزّ بقوّته وحَسْب، وللكثير أن تتّسع آمالُه بهذه الكثرة وحدها - وفي كلِّ ذلك اعتداءٌ على قانون الحياة العادل، وعلى إرادة الإنسان القادرة المطوّرة الخيّرة - نرى ابنَ أبي طالب يكشف عمّا هو أسمى بمقياس الحياة نفسها لأنه حقيقة، وبمقياس الإرادة الإنسانية لأنه خير، فيقول ببساطة العظيم: (ورُبّ يسيرٍ أغنى من كثير!) ثم يوضح بقولٍ أجلّ وأجمل:
(وليس امرؤٌ، وإنْ عظُمَتْ في الحقّ منزلتُه، بفَوْقِ أن يُعان على ما حَمّلَه الله من حقّه (11) ولا امرؤٌ، وإن صغّرتْه النفوسُ واقتحمتْه العيون (12) بدون أن يعين على ذلك أو يُعان عليه!).
وفي هذين القولين ينقل ابنُ أبي طالب للناس مظهراً من مظاهر العدالة الكونية البادية حيثُ أمعنتَ النظر، ويقرّر حقيقة طالما خفيتْ عن العقول التي تحصر نفسها في أضيق نطاق.
يقرّر عليّ أنّ المظاهر البرّاقة الفضفاضة ليست في حُكم الواقع الوجوديّ إلاّ غَثّاً من الوجود تافهاً لا قيمة له ولا شأن؛ وقد يُبهرَ بها العاديّون من الخلق وأهل الحماقات والأغبياء والمصفّقون لكلِّ لمّاعٍ تافهٍ فارغ، ولكنّ هذا الانهيار لا يلبث أن يتلاشى فجأةً حين تطلّ شمس الحقيقة، وحين يكنس نورُها العظيمُ ما خالَه العاديّون نوراً وهو غشٌّ للعيون، وحين تعصف رياحُ الوجود العادل بعصافة التبن الخفيف. ومن التاريخ والحاضر دلائل لا تُحصى على هذا الاضطراب في المقاييس لدى الأفراد والجماعات، وهو اضطرابٌ يستلزم نتائجَ تُؤذي الحضارةَ والحياةَ والإنسان لِمَا فيها من انحرافٍ عن موازين العدالة الكونية.
فلو كنتَ تعيش في فترةٍ من العصور الوسطى بأوروبا، مثلاً، لشاهدتَ في بعض أيامك مواكب من الناس تتلوها مواكبُ بإحدى الساحات العامّة من هذه المدينة أو تلك، وذلك قصْدَ التهليل والتصفيق لمخلوقٍ من الناس مزركش الألبسة عاصب الرأس بالزمرّد والزبرجد والحجارة الكريمة المنظومة. ولشاهدتَ رجلاً يسير على الرصيف وحيداً، عصبيّ الخطوة عنيفَ النظرة، لا يعنيه أمرُ المهلّلين ولا يعنيهم أمرُه. فهم يهتفون بحياة (عظيمٍ) وهو إذ ذاك (ليس بعظيم). ثم أشرقت الشمس بعد زمنٍ فطغتْ على الظلمة وأبرزت الأشياء في مواضعها الحقيقية. فماذا ترى عند ذاك؟ ترى أنّ هؤلاء الناس المهلّلين المصفّقين - وهم بهذا المقام بمنزلة اللاشيء - إنّما كانوا يهتفون لمخلوقٍ تافهٍ يدعى لويس الرابع عشر مثلاً، أو لنذلٍ من الأنذال يدعى شارل الخامس، أو لصغير كلّ الصغار يدعى شارل الأول، أو لغيرهم ممّن يحملون أسماءً تليها أرقامٌ... دلالةً على الصغارة. ثم ماذا يتّضح لك بعد ذاك؟ يتّضح أنّ رجل الرصيف الذي لم يهلّل له القوم ولم يهتفوا بحياته، إنّما هو عظيمٌ حقّ يدعى موليير، أو ملتون، أو غاليليو. وتجري الأيام، فإذا بأصحاب الأسماء التي تليها الأرقام، ليسوا إلاّ التفاهة كلّها. وإذا بالمشاة على الرصيف ولا أرقام لأسمائهم، ولا مهلِّلين لهم، ليسوا إلاّ العظمة كلّها. ويطوي النسيانُ التافهين، ويطوي معهم أولئك (اللاشيء) من المصفّقين الهاتفين. ويبرز هؤلاء على هامة الوجود، وتُنزلهم الإنسانيةُ من نفسها منازلَ الشموس من الظلمات. ويبرز معهم نفرٌ قليلٌ من الخلق مع الذين فهموهم، وقدروهم قدَرهم العظيم، وتدفّأوا بحراراتهم كما تتدفأ الأرض بنور الظهيرة، وأدركوا ما أدركه عليّ بن أبي طالب إذ قال: (رُبّ يسيرٍ أنمى من كثير!).
إنها العدالة الكونية التي تزن كلّ حيّ بميزانها العظيم، وتضعه موضعَه، لا غشّ في ذلك ولا خداع، ولا مجاملة! العدالة الكونية التي لا تهون لديها قيمة ولا تعلو تفاهة!
وإن ابن أبي طالب لم يسمِّ هذا (اليسير) يسيراً إلاّ لأنه هكذا كان في أنظار الناس بزمانه وفي آرائهم. ولم يسمِّ هذا (الكثير) كثيراً إلاّ للعلّة ذاتها. وهو يعلم أنهم مخطئون، وأن ما يرونه يسيراً قد لا يكون كذلك. وأن ما يرونه كثيراً قد يخف في ميزان الحق. أما هو، فقد كان يستشعر قيمة الحياة في قوة وجلاء، ويستشعر إمكاناتها العظيمة بجميع الأحياء، ويستشعر أن للكون إرادة عادلة في تقييم الحياة حيث كان، وفي احترام الأحياء حيث هم، فيطلق العبارات الحكيمة التي أشرنا إليها. ويطلق الكثيرات غيرها. حتى إذا غالى المغالون وأنكروا أن لليسير مثل هذه القيمة وهذه الإمكانات على النموّ، توجّه إليهم يقول: (وإن أكثر الحق في ما تنكرون!).
ثم إن حقيقة أخرى يقررها عليّ بكلمته هذه: (.. وليس امرؤٌ وإن صغرتْه النفوس واقتحمتْه العيون، بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه)، هي أن كل إنسان يمكنه أن ينفع مجتمعه وينتفع به، أيّةً كانت موهبته، وبالغةً إمكاناتُه ما بلغتْ من الضآلة.
وفي هذه النظرة إلى الإنسان الضئيل الحظ من المواهب، توضيحٌ لِمَا في خاطر عليّ من الإيمان العميق بالعدالة الكونية التي تجعل من قطرات الماء بحراً خضمّاً ومن ذُرَيرات الرمال صحارى وفلوات، كما تجعل كلّ قليلٍ داخلاً في الكثير، وكلّ صغيرٍ مستنَداً للكبير.
وفيها توضيحٌ لطبيعة الحياة الخيّرة تحنو على أبنائها وتجعل كلاً منهم في إطارٍ من خيرها فلا تغبنه ولا تقسو عليه.
وفيها الدليل على هذا الحنان العميق الذي كان عليّ يغمر به الأحياء فلا يرى فيهم إلاّ بشراً جديرين بأن يحيوا الحياة كلّها، ويُفيدوا من خيرها، ويُعاونوا ويُعانوا.
وإنّكَ واجدٌ صورةً لهذه النظرة العلوية الواثقة بعدالة الكون وخير الحياة، المؤمنة بإمكانات الإنسان - أيّاً كان - على أن يكون شيئاً كريماً، في أدب جان جاك روسّو الذي يدور حول محورٍ من الثقة بعدالة الطبيعة وخير الحياة.
وكأني بابن أبي طالب قد خصّ هؤلاء الذين (تصغرهم النفوس وتقتحمهم العيون) بالسهم الأوفر من اهتمامه ساعةَ خاطَبَ الناس قائلاً: (إنّ الله لم يخلقكم عبثاً) أو ساعةَ أبدع في وصف ثقته بالطبيعة البشرية الخيّرة مواجهاً الخلقَ بهذا الرأي الكريم: (وخَلاكم ذَمٌّ ما لم تشردوا). أي أنكم، جميعاً، خيّرون ونافعون أصلاً وفرعاً، ما لم تميلوا عن الحقّ عامدين.
وتأكيداً لثبوت هذا الجانب من العدالة الكونية في مذهب ابن أبي طالب، وأعني به التسوية التامّة في كلّ حقٍّ وواجبٍ بين مَن قَلّ ومَنْ كثُر، ومَن صغُر ومَن كبُر، يشير إلى أنّ مركز هذه العدالة إنّما يتساوى لديه الجميع لا فرقَ فيهم بين إنسان وإنسان. فصِفَتُهم الإنسانية واحدة، وقضيّتهم بميزان الوجود واحدة كذلك، وهم لا يتمايزون إلاّ بما يعملون وما ينفعون. أما مَن عمل ونفَع فإنّ قانون الوجود نفسه يُثيبه. وأمّا مَن تَبَطّلَ وبطِر واغتصب، فإنّ هذا القانون نفسه يعاقبه بما يستحقّه. يقول عليّ: (ولا يلويه شخصٌ عن شخص، ولا يُلهيه صوتٌ عن صوت، ولا يشغَله غضبٌ عن رحمة، ولا تولهه رحمةٌ من عقاب!).
وبهذا الصدَد نعود بشيءٍ من التفصيل على ما ذكرناه من أنّ عليّ بن أبي طالب كشف النقاب عن العبقريّة الوجودية التي تجعل من طبيعة الأشياء ذاتها حاكماً أعلى يُعطي ويمنع ويعاقب ويُثيب، فإذا الكائنات تحمل، بطبيعة تكوُّنها، القدرةَ على أن تقاضي نفسها بنفسها امتثالاً لإرادة الكون العادلة.
يرى عليّ بن أبي طالب أن الوجود متكافئٌ ما نَقَصَ منه شيءٌ هنا إلاّ وزاد فيه شيءٌ هناك. وكِلا النقص والزيادة متساويان لا زيادةَ إلاّ بمقدار النقص ولا نقصَ إلا بقدر الزيادة. وجديرٌ بالقول أنّ النظريّة القائلة بهذا التكافؤ في أشياء الوجود، إنّما هي إحدى النتائج الكبرى التي بلغ إليها نشاط الفكر البشري في زحفه العظيم إلى اكتشاف أسرار الكون، كما أنّها نقطة انطلاقٍ في هذا المجال.
وجديرٌ بالقول أيضاً أنّ عدداً من المفكرين الأوائل لم يتمكّنوا من الالتفاف إلى هذه الحقيقة، وأنّ عدداً أنكروها، وأنّ هنالك فريقاً من هؤلاء المفكّرين رأوها وأدركوا كثيراً من تفاصيلها وآمنوا بها ودعوا إليها. وأبناء هذا الفريق يتفاوتون هم أيضاً في قوّة الملاحظة وقوّة التمثيل ثمّ في قوّة البيان عمّا شاهدوه ووثقوا به. فمنهم مَن لحظَ هذا التكافؤ في بعض مظاهر الكائنات فأعلن عن ذلك إعلاناً فيه بعض البيان عن الحقيقة. ومنهم مَن رآه في مظاهر الكون الصامت جميعاً ولكنه لم يستشعر له نتائجَ محسوسة في مجرى الوجود ولم يجد له خطّاً موازياً في مظاهر الكون الحيّ. ومنهم مَن لحظَه في الطبيعة الصامتة واستشعر له نتائج محسوسة في مجرى الوجود ورأى له خطّاً موازياً في الكائنات الحيّة وأعلن عنه بأجلى بيان وأوثق كلام. من هذا الفريق عليّ بن أبي طالب. بل قُلْ إنه في طليعة هذا الفريق من المفكرين الأوائل لأنه كاد يُثبت هذه النظرية على نهجٍ سليمٍ قويم لا يتعارض ولا يتناقض ولا مهربَ لبعضه من بعض. بل قُلْ إنّه فعل ذلك وأبدع.
ولعلّ موقف ابن أبي طالب ممّا لحظَه ورآه من مظاهر التكافؤ في الوجود أجلّ من مواقف زملائه المفكّرين من الناحية العملية. وذلك بما ألحّ عليه من تأكيد لهذه الحقيقة، توصّلاً إلى ما يترتّب عليها من نتائج في حياة الناس أفراداً وجماعة. وهذا الواقع ينسجم كلّ الانسجام مع محور الفلسفة العلوية الذي هو: الإنسان.
قلنا إنّ عليّاً يرى الوجود متكافئاً ما نقصَ منه شيءٌ هنا إلا وزاد فيه شيءٌ هناك، وأن هذا النقص وهذه الزيادة يتساويان لا زيادة إلاّ بمقدار النقص ولا نقص إلا بقدر الزيادة. فيقول أوّل ما يقول، منبّهاً الإنسان إلى هذه الحقيقة عن طريقِ ألصقِ الأشياء به، أي عن طريق وجوده ذاته:
(ولا يستقبل يوماً من عمره إلاّ بفراقِ آخر من أجَله!).
وهل من خاطرةٍ في ذهن إنسان يمكنها أن تدحض هذه الحقيقة التي تعرض تعادليّةَ الوجود بأبسط ما يراه المرء من حال الوجود؟ ثم هل من قاعدة رياضية من قواعد الهندسة والجبر ألصقُ بالحقائق الثابتة، وأدلّ على الواقع المطلَق، وأوجز في تبيان الثابت والمطلَق، من هذه الآية التي يصوِّر بها ابن أبي طالب تعادليّة الوجود من خلال الكائن الحيّ، ومن أيامه؟
وإذا قال لي قائلٌ إنّ هذه الفكرة معلومةٌ يعرفها الناس كلّ الناس، فعن أيّةِ حقيقةٍ جديدةٍ يكشف ابنُ أبي طالب في زعْمك إذن؟ قلتُ: إنّ الكشف عن الحقائق الخافيةً لا يستلزم السكوت عن الحقائق الظاهرة إذا كانت هذه أصلاً لتلك، أو تلك أصلاً لهذه، أو إذا كان المنهج العامّ يستلزم ضبْطَ التفاصيل سواءٌ ما خفيَ منها وما ظهر. فإنّ علي بن أبي طالب الذي تتماسك آراؤه في كلّ مذهب، ثمّ تتماسك مذاهبه جميعاً في وحدةٍ فكريّة رائعة، لم يقل هذا القول (المعلوم الذي يعرفه الناس كلّ الناس)، ولم يقلْ بمعناه قولاً أروعَ وهو: (نَفَسُ المرء خُطاه إلى أجَله)، إلاّ ليعود ويبني على ما قاله بناءً مفصّلاً في إثبات نظرية تكافؤ الوجود.
فالذي قال: (لا يستقبل يوماً من عمره إلاّ بفراق آخر من أجَله)، (ونفسُ المرء خُطاه إلى أجَله)، إنما قال ذلك ليعود إلى الكشف عن حقيقة أبعد عن أذهان الناس وأخفى عن ملاحظتهم، ولكنها تجري من القولين السابقين: (ولا ينال الإنسان نعمةً إلاّ بفراق أُخرى!).
وأراك استوضحت ما في هذا القول من قوة الملاحظة، والقدرة على الكشف، وصراحة الفكر، وجلاء البيان. وضبطاً لمضمون هذه العبارة في صور وأشكال تختلف مظهراً وتتحد معنىً وجوهراً، يقول عليّ: (كم من أكلةٍ منعت أكلات) و(من ضيّعَه الأقرب أُتيح له الأبعد) و(ربّ بعيد هو أقرب من قريب) و(المودة قرابة مستفادة).
و(مَن حمْل نفسه ما لا يُطيق عجز) و(لن يضيع أجر مَن أحسن عملاً) و(ما كسبتَ فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك). فإن في هذه العبارات، وفي عشرات غيرها، إيجازاً واضحاً لتفاصيل نظرية التكافؤ الوجودي كما يراه عليّ بن أبي طالب. فهي على اختلاف موضوعاتها القريبة، تدور في مداها ومأخذها القصيّ على محور واحد من تعادُليّة الكون، فلا نقص هنا إلا وتعدلُه زيادة هناك. والعكس بالعكس.
أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة الوجودية في قوة وعمق. وعاشها، وأعلن عنها في كلّ فصلٍ من حياته أو قولٍ من قوله، سواءٌ أكان ذلك بالأسلوب المباشر أو غير المباشر. وهو لا يدرك هذا الوجه من وجوه العدالة الكونيّة إلاّ ليدرك وجهاً آخر يعكسه على شكلٍ خاصّ، أو قلْ ينبثق عنه انبثاقاً، وهو ما نحن بصدَده من الكلام على أنّ الطبيعة تحمل بذاتها المقياس فتُعاقب أو تُثيب، وليس بين مظاهر العدالة الكونية ما هو أبرز من هذا المظهر في الدلالة عليها.
رأى عليّ أنّ شيئاً واحداً من أشياء هذا الكون لم يوجد عبثاً، بل إنّ لوجوده غايةً وهدفاً. ورأى أنّ لكلٍّ من الكائنات وظيفةً يقوم بها، وأنّ على كلّ جارحةٍ من جوارح الإنسان فريضةً يحتجّ بها الكونُ العادل عليه، ويسأله عنها، ويحاسبه عليها. وبناءً على هذا الواقع، تكون أشياء الوجود متساويةً بحُكم وجودها. أمّا الصغيرة والكبيرة فشبيهتان بهذا المقياس. يقول عليّ: (ويحاسبك على الصغيرة قبل الكبيرة). وإنّما قال ذلك لأن الأكثرية من الناس لا يأبهون لـ(الصغيرة)، فإذا به يلفت أنظارهم إلى هذه الصغيرة بتقديمها على الكبيرة في ما تستلزم من عقاب أو ثواب، لكي يطمئنّ إلى حدوث عمليّة التسوية بينهما في الأذهان والقلوب.
أمّا إذا احتجّ الكونُ على الإنسان بما فَرضه على جوارحه، وسأله عنه، وحاسبه على الصغيرة والكبيرة، وجازاه بما عمل خيراً كان أو شرّاً، فليس من الضروريّ في ملاحظة عليّ وفي نهجه أن تتمّ عمليّةُ الاحتجاج والمحاسبة والمجازاة هذه خارجَ نطاق الإنسان نفسه. وإنّ هذه العمليّة المركّبة، الواحدة على ما فيها من تركيب، لتتمّ أبداً - كما يلحظ عليّ - في حدود الكائن أيّاً كان. وهكذا تتمّ في ما يتعلّق بالإنسان وهو أحد الكائنات. يقول عليّ: (إنّ عليكم رَصَداً من أنفسكم وعيوناً من جوارحكم). والرصد الرقيب. وهذا الرقيب لا يألو جهداً في أن يرى ويسجّل ويعاقب أو يُثيب.
وفي لحظاتٍ فذّة من تألّق العقل المكتشف والفكر النافذ، تبدو لعينَيْ ابن أبي طالب ألوانٌ ساطعة من هذا الوجه من وجوه العدالة الكونية، لا يسعك إزاءها إلاّ أن تُعجَب بهذا العقول وهذا الفكر. أفَلا ينطق ابن أبي طالبٍ بلسان علماء العصر الحديث كما ينطق بلسان هذه العدالة نفسها ساعةَ يقرّر هذه الحقيقة: (مَن أساء خلقَه عذّب نفسه!) ثمّ، لا ينطق بهذين اللسانين معاً إذ يقول: (يكاد المريب يقول: خذوني) وإذ يقول أيضاً: (فأكرِمْ نفسَك عن كلّ دنيّةٍ وإن ساقَك رغَبٌ فإنّك تعتاض بما ابتذلتَ من نفسك!).
ومثل هذه الآيات كثيرٌ كثير. ومنها هذه الروائع: (موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجَل) و(لا مروءَة لكَذوب ولا راحة مع حسد، ولا سؤدد مع انتقام، ولا صواب مع ترك المشورة). و(إذا كانت في رجلٍ خلّةٌ رائقة فانتظروا أخواتها!).
وهكذا أدرك عليّ بن أبي طالب أنّ الكون واحد، عادلٌ، ثابتٌ في وحدته وعدله، جاعلٌ في طبيعة الكائنات ذاتها قوّةَ الحساب والقدرةَ على العقاب والثواب. وهكذا عبّر عمّا أدركه أروع تعبير.
بَيْدَ أنّ وجوهاً غير هذه من وجوه العدالة الكونية تَفَحّصها عليّ وضَبَطَ أشكالها وألوانها. فما هي هذه الوجوه؟
[align=left]جورج جرداق[/align]
...................................
الهوامش:
1 - أذلال، جمع ذل - بكسر الذال - وذل الطريق: محجّته، وهي جادته، أي وسطه. وجرت السنن أذلالها، أو على أذلالها: جرت على وجوهها.
2 - أي، إذا عطل الحق لا تأخذ النفوس وحشة أو استغراب لتعوّدها تعطيل الحقوق وأفعال الباطل، ولاستهانتها بما تفعل.
3 - الساجي: الساكن. والمائر: الذي يذهب ويجيء، أو المتحرك مطلقاً. وعبّ عبابه: ارتفع علاه.
4 - الثواقب: المنيرة المشرقة.
5 - المستطير: المنتشر الضياء. والسراج المستطير: الشمس.
6 - باختصار عن كتاب (فاغنز والمرأة) للمؤلف صفحة : 163 - 164.
7 - الفسيل: صغار الشجر.
8 - البهم: صغار أولاد الضأن والمعز. الغوغاء: صغار الجراد.
9 - راجع، في هذا الكتاب، روائع علي في وصف الطاووس والخفاش.
10 - معتمدين: قاصدين.
11 - بفوق أن يعان: أي بأعلى من أن يحتاج إلى الإعانة.
12 - اقتحمته العيون: حقرته. بدون أن يعين: بأعجز من أن يساعد غيره.
-
[align=center]
الحنان العميق[/align]
وأدرك علي أن منطق الحنان أرفع من منطق القانون، وأن عطف الإنسان على الإنسان وسائر الكائنات، إنما هو حجة الحياة على الموت، والوجود على العدم!
ولم يكن موقف عليّ من المرأة لك الموقف الذي صَوَّروه!
إذا كان من عدالة الكون وتكافؤ الوجود أن تلتقي على صعيد واحد بَوارحُ الصيف ومُعْصِرات الشتاء، وأن تَفْنى في حقيقةٍ واحدةٍ السوافي والأعاصير والنُّسَيمات اللّينات، وأن تحملَ الطبيعةُ بذاتها، بكلّ مظهر من مظاهرها، قانونَ الثواب والعقاب، فمن هذه العدالة أيضاً ومِن هذا التكافؤ أنْ تتعاطى قوى الطبيعة وتتداخل سواءٌ في ذلك عناصرُ الجماد وعناصر الحياة. وسواءٌ في ذلك ما انبثق عن هذه أو انسلخ عن تلك.
ولما كانت صفات الإنسان وأخلاقه وميوله وأحاسيسه منبثقة عن عناصر الحياة التي تتّحد فتؤلّف ما نسميه شخصية الإنسان، فهي متعاطية متداخلة، تُثبتُ ذلك الملاحظةُ الطويلة والموازنةُ الدقيقةُ ثمّ قواعدُ العلم الحديث الذي لاحَظَ ووازن وأَرسى مكتَشفاتِه على أسُسٍ وأركان.
وقد مرّ معنا أنّ الإنسان في مذهب علي بن أبي طالب هو الصورة المثلى للكون الأمثل. وممّا يُعزى إليه هذا القولُ يخاطب به الإنسان:
وتحسبُ أنّك جرمٌ صغيرٌ***وفيك انطوى العالَمُ الأكبر
فمن الطبيعيّ في هذه الحال أنْ يُلحّ عليّ في طلب كلّ ما يتعلّق بالإنسان ممّا يطاله زمانُه وإمكاناتُ عصره. ومن الطبيعيّ كذلك أنْ يُلحّ في الكشف عمّا في هذا (الجرم الذي انطوى فيه العالَم الأكبر) مِن مظاهر العدالة الكونية وتكافؤ الوجود ضمْن الإطار الذي دارت آراؤه فيه.
أحسّ عليّ إحساساً مباشراً عميقاً أنّ بين الكائنات روابطَ لا تزول إلاّ بزوال هذه الكائنات. وأنّ كلّ ما يُنقص هذه الروابط يُنقص مِن معنى الوجود ذاته. وإذا كان الإنسانُ أحد هذه الكائنات، فإنّه مرتبطٌ بها ارتباطَ وجود. وإذا كان ذلك - وهو كائنٌ - فإنّ ارتباطَ الكائن بشبيهه أجدرُ وأولى. أما إذا كان هذا الكائنُ من الأحياء، فإنّ ما يشدّه إلى الأحياء من جنسه أثبتُ وأقوى. وأما الإنسان - رأس الكائنات الحيّة - فإنّ ارتباطه بأخيه الإنسان هو الضرورة الأولى لوجوده فرداً وجماعة.
وحين يقرّر عليّ أن المجتمع الصالح هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها وأشرف أشكالها، إنّما يسن قانوناً أو ما هو من باب القانون. ولكنّ هذا القانون لا ينجلي في ذهنه ولا يصبح ضرورة، إلاّ لأنه انبثاقٌ طبيعيّ عمّا أسميناه روح العدالة الكونية الشاملة، التي تفرض وجودَ هذا القانون. لذلك نرى ابنَ أبي طالب ملحّاً شديد الإلحاح على النظر في ما وراء القوانين، وعلى رعايتها بما هو أسمى منها: بالحنان الإنساني.
وما يكون الحنان إلاّ هذا النزوع الروحيّ والماديّ العميق إلى الاكتمال والسموّ. فهو بذلكٍ ضرورةٌ خلقيّة لأنه ضرورةٌ وجودية.
الصفحة الأولى التي ينشرها عليّ من صفحات الحنان تبدأ بأن يذكر الناس بأنهم جميعاً أخوة فينعتهم بـ(إخواني) نعتاً صريحاً وهو أميرٌ عليهم. ثم يردف ذلك بتذكير الوُلاة بأنهم إخوان الناس جميع الناس، وبأنّ هذا الإخاء يستلزم العطف بالضرورة، قائلاً إلى أمرائه على الجيوش: (فإنّ حقّاً على الوالي أنْ لا يُغيّره فضلٌ ناله، ولا طَولٌ خُصّ به، وأنْ يزيده ما قسم الله له من نِعَمه دنوّاً من عباده وعطفاً على إخوانه). وما يذكره لنفسه وللولاة بأنّهم والناس إخوانٌ بالمودّة والحنان، يعود فيقّرره بحكمة شاملة يتّجه بها إلى البشر جميعاً دون تفرقة أو تمييز، قائلاً: (وإنما أنتم إخوانٌ ما فرّق بينكم إلاّ خبث السرائر وسوء الضمائر). وهو بذلك يضع خبثَ السريرة وسوءَ الضمير في طرف، وحنانَ القلب ومودّةَ النفس في طرفٍ آخر. ولمّا كان من الحقِّ الوجوديّ للإنسان أن ينعم بحنان الإنسان، فإنّ الطبيعة التي تحمل بذاتها القيَمَ والمقاييس لابدّ لها من التعويض على صالحٍ ضَيّعَه الجيرانُ والأقربون والأهل فما لفّوه برداءٍ من حنان، بعطفٍ وحنانٍ كثيرين بإتيانه من الأباعد، فيقول عليّ: (مَن ضيّعَه الأقربُ أُتيح له الأبعد!).
وهو في سبيل رعاية هذه الأخوّة القائمة بالحنان الإنساني، لا يقبل حتى بالهَنات الهيّنات لأنّ فيها انحرافاً مبدئياً عن كرَم الحنان: (أمّا بعد، فلولا هَناتٌ كنّ فيك لكنتَ المقدّمَ في هذا الأمر).
وإذا كانت القوانين المتعارَف عليها تسمح عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يحارب المتآمرين به، فإنّه لا يفعل إلاّ بعد أن يراعي كلّ جوانب الحنان في نفسه وقلبه، وبعد أن يستشير كلّ روابط الإخاء البشريّ في نفوس مقاتليه وقلوبهم. وهو إنْ فعل في خاتمة الأمر فإنّما يفعل مُكرَهاً لا مختاراً، حزيناً باكياً فرِحاً ضاحكاً، فإذا شعوره بالنصر بعد القتال آلَمُ وأوجعُ من شعور مناوئيه بالهزيمة!
وإذا كانت القوانين المتعارَف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يترك المعتدين عليه، بعد موته، بين يدي أنصاره وبنيه يقاتلونهم ويقتصّون منهم لضلال مشَوا به وإليه، فإنّ الرأفة بالإنسان وهي لديه وراء كلّ قانون، تحمله حمْلاً على أن يخاطب أنصاره وبنيه بهذا القول العظيم: (لا تقاتلوا الخوارج من بعدي، فليس مَن طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه).
وهو بعامل هذا الحنان العميق يربط سعادة المرء بسعادة جاره، أي بسعادة الإنسانية كلّها، لأنّ لجار المرء جيراناً، وما يجوز عليه بالنسبة له يجوز عليهم بالنسبة لسائر الناس. ومن سعادته أيضاً أن يطغى عليه هذا الحنان فإذا بأبناء الآخرين يحظون منه بالعطف الذي يحظى به أبناؤه: (أدِّبِ اليتيم بما تؤدِّب به وُلْدَك). وأنّ يستشعر الجميع روحَ العدالة الأساسية التي تفوق القوانينَ الوضعية قيمةً وجمالاً لأنها تحمل الدفءَ الإنسانيّ وتصل الخلقَ بمنطق القلب لا بمنطق الخضوع لقانون: (ليتأسّ صغيركم بكبيركم، وليرأفْ كبيركم بصغيركم).
وإذا كان العجز عن إتيان المكرمات نقصاً، فإنّ منطق الحنان على لسان عليّ يجعل العاجز عن اكتساب أخوّة الناس أكثرهم نقصاً: (أعجز الناس مَن عجز عن اكتساب الإخوان). ويضيفُ عليٌّ إلى هذا العجز عجزاً آخر هو الميل إلى المراء والخصومة قائلاً: (إيّاكم والمِراء والخصومة) بل إنّ الأولى هو لين الكلام لِما فيه من شدّ الأواصر بين القلب، منبع الحنان، والقلب: (وإنّ من الكرَم لين الكلام). وليس بين نزعات القلب ما هو أدعى إلى الراحة من شعور المرء بأنّ له في جميع الناس إخواناً أحبّاء، فإذا تألّم ابنُ أبي طالب من سيئات زمانه، جَعَلَ الخبزَ وهو آلة البقاء، والصدقَ وهو ركيزة البقاء، ومؤاخاةَ الناس في منزلة واحدة، فقال في ناس زمانه: (يوشك أن يفقد الناس ثلاثاً: درهماً حلالاً، ولساناً صادقاً، وأخاً يُستراح إليه).
وإذا كانت الغربةُ قساوةً كبرى لأنها تستدعي الوحدة، فإنّ أشدّها يكون ساعةَ يفقد الإنسان إخوانه وأحبّاءَه لأنه يفقد إذ ذاك قلوباً يعزّ بعطفها ويحيا بحنانها: (والغريبِ من لم يكن له حبيب) و(فقْدُ الأحبّة غربة).
ولابدّ لنا أن نشير إلى موقف ابن أبي طالب من المرأة على هذا الصعيد. فالمرأة نصف الإنسان، فهل يخلو هذا النصف من العطف على نصفه الآخر؟ وهل النصف الآخر مدعوٌّ إلى أن يجوز على مقاييس العدالة الكونية القاضية بحنان الإنسان على الإنسان؟
لقد أوّلَ الكثيرُ بعضَ أقوال عليّ في المرأة تأويلاً شاءوا به الطرافة والترفيه فوق ما شاءوا به أن يُبرزوا موقفَ عليّ منها. فألحّوا على كلماتٍ له قالها في ظروفٍ كان أبرز ما فيها عداء امرأةٍ معيّنةٍ له وهو لم يُسئ ولم يأمر إلاّ بمعروف. وفاتَهم أنّ مثل هذه الأقوال الخاضعة لظرفٍ محدودٍ بذاته، والرامية إلى إيضاح الأسباب في صراعٍ بين عقليتين مختلفتين كلّ الاختلاف، إنّما قال في بعض الرجال أشدّ منها وأقسى. وهو بذلك لا يعني الرجال قاطبةً وفي كلّ حالاتهم. كما أنه، حين أطلق تلك الأقوال في المرأة، لم يكن ليعني النساء قاطبة وفي كل حالاتهن. فإن مسبّبي الويلات التي ألمّت به وبالخير عن طريقه، تعرّضوا لمثل هذه الأقوال سواءً أكانوا رجالاً أو نسوةً لهنّ قوة الرجال ونفوذهم. وهو إنْ هاجم هؤلاء وهؤلاء من نسوة ورجال، فإنّما كان يهاجم فيهم مواقفَ معيّنةً وقفوها من الحقّ والعدل وأصحابهما. وفي ذلك ما ينفي الادّعاء بالإساءة إلى المرأة مِن قِبَل عليّ. وإنّي لأسأل مَن يعنيهم الأمر أن يوافوني بكلمةٍ واحدةٍ يسيء بها عليّ إلى المرأة ولم تكن موجّهةً إلى إنسان معيّنٍ في ظرفٍ معيّن، أو من وحي هذا الإنسان في هذا الظرف! لقد هاجم المرأة عندما كانت سبباً في الفتنة، وهاجم الرجل في مثل هذه الحال. فهو بذلك يهاجم الفتنة وحسب!
أمّا موقف عليّ من المرأة كإنسان، فهو موقفه من الرجل كإنسان، لا فرق في ذلك ولا تمييز. أوَ ليس في حزنه على زوجه فاطمة وقد توفيّت، دليلٌ على إحساسه بقيمة المرأة كإنسان له كلّ حقوق الإنسان وعليه كلّ واجباته، وفي أساس هذه الحقوق والواجبات أن يَنعَم بالحنان الإنسانيّ ويُنْعِم به الآخرين؟
أوَلم يكن الناس في الجاهلية وبعد الجاهلية يتفاءَلون بمولد الذكَر ويفرحون، ويتشاءَمون بمولد الأنثى ويحزنون!
أوَلم يكن موقف الفرزدق تعبيراً عن نظرة عصره إلى المرأة، وهو عصرٌ متّصِلٌ بزمن ابن أبي طالب، ساعةَ ماتت زوجته، وكان يحبّها على ما زعموا، فقال فيها هذا القول العجيب:
وَأهْوَنُ مفقودٍ، إذا الموتُ نالَه،***على المرء مِن أصحابه، مَن تقنّعا
أي أنّ أهوَن فقيدٍ على المرء من أصحابه ومعارفه فقيدٌ يلبس القناع، ويريد به المرأة. فالمرأة في قلبه وعلى لسانه لا تستحقّ أن تُبكى، ولا أن يُحزَن عليها. لماذا؟ لا لشيء إلاّ لأنها امرأة!
وعليّ، ألم يكن من أبناء ذلك الزمان؟ ولكنّه كان أنفذَهم تفكيراً وأشرفهم نظراً وأعمقهم إحساساً، فقال في جملة ما قال بهذا الشأن متلوّماً على أصحاب تلك العقلية الرعناء: (وإن بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث... إلخ). إذن، فالذكور والإناث بمنزلة واحدة عند عليّ تجمعهم صفة الإنسان وحسب.
أضف إلى ذلك أن علياً الذي يعطف على الناس عموماً، وعلى الضعفاء منهم خصوصاً، يفرض على الخُلق الكريم أن يكون أشدّ حناناً على المرأة لأنها مستضعفة إن لم تكن ضعيفة، فيقول: (وانصروا المظلوم وخذوا فوق يد الظالم المريب وأحسنوا إلى نسائكم). ويقول في مكان آخر: (آمركم بالنهي عن المنكر والإحسان إلى نسائكم).
ويتابعُ ابنُ أبي طالب حلقات هذا المسلك المتماسك في دعوته أن يلتفّ الناس جميعاً، ثم الناس وسائر الكائنات، بدفء الحنان، فيقول في العلم - وقد عرفنا قيمة العلم في مذهبه - : (رأس العلم الرفق). وهو لا يرى في كثرة الذنوب ما يهول أكثرَ من أنها مدعاةٌ إلى القسوة بحُكم تَعَوُّدها، ومن ثمّ فهي سببٌ في نفورٍ باردٍ يحلّ في القلوب محلّ حنانٍ دافئ، فيقول: (ما جفّت الدموع إلاّ لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب!) وإذا لم تكن من أهل الذنوب فأنت من أهل الحنان ومن حقك أنْ تبذل - بهذا الحنان - كلّ ما تملك لنصرة أخيك الإنسان: (فإن كنتَ من أخيك على ثقةً فابذلْ له مالك ويدك، وأعنْه، وأظهِرْ له الحسن).
وأخيراً يُطلقُ عليٌّ مجموعة من الأقوال تدور في مدار الدعوة إلى تفاني الناس في الناس عطفاً وحناناً. وهي تُعتبر بحقٍّ من أسمى ما يملكه الإنسان من تراث خلقيٍّ عظيم. ومنها هذه الروائع: (صِلْ مَنْ قطعك وأعطِ مَن حرمك. أحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يُحس إليك. أحسن إلى مَن أساءَ إليك. عودوا بالفضل على من حرمكم إلخ..).
وإنجازاً لهذه الدعوة الكريمة يُشْرِك ابنُ أبي طالب البهائمَ والبقاعَ والناس في حقٍّ لها مشتَرَك في الحنان فيقول: (اتّقوا اللهَ في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم!).
وهكذا، فإنّ عطف الإنسان على الإنسان وسائر الكائنات إنّما هو حجّةُ الحياة على الموت، بل هو إرادةٌ من إرادة الوجود العادل!
[align=left]
جورج جرداق[/align]
-
[align=center] صدق الحياة[/align]
وهذا الصدقُ عهدٌ منك وعليك، لأنه روح الجمال والحق، وإرادةُ الحياةِ القادرةِ الغلاّبة!
لعلَّ أبرز مظاهر العدالة الكونية في عالم الجماد وعالم الحياة، وفي كل ما يتَّصل بطبيعة الوجود وخصائص الموجودات، هو الصدق الخالص المطلق. فعلى الصدق مدارُ الأرض والفلك والليل والنهار. وبالصدق وحده تتلاحق الفصول الأربعة ويسقط المطر وتسطع شمس. وبه كذلك تفي الأرض بوعدها حين تُنبت ما عليها كلاٍّ في حينه لا تقديمَ ولا تأخير. وبه تقوم نواميس الطبيعة وقوانين الحياة. والريح لا تجري إلا صادقة، والدماء لا تطوف العروقَ إلا بصدق، والأحياء لا يولدون إلا بقانون صادق أمين.
هذا الصدق الخالص المطلق الذي تدور عليه قاعدة البقاء، هو الينبوع الأول والأكبر الذي تجري منه عدالة الكون وإليه تعود!
ولمّا كان عليّ بن أبي طالب شديد الملاحظة لصدق الوجود، شديد التفاعُل معه، فقد جعل من همّه الأوّل في الناس تهذيبَ الناس استناداً إلى ما يعقل ويحسّ ويرى. والتهذيب في معناه الصحيح ومدلوله البعيد ليس إلاّ الإحساس العميق بقيمة الحياة وشخصيّة الوجود. ولمّا كان هذا المعنى هو المعنى الأوحد للتهذيب العظيم، كان الصدق مع الذات ومع كلّ موجود مادّيٍ أو معنويّ، هو المحور الذي يدور عليه التهذيب، كما رأيناه محور العدالة الكونية. وبذلك ينتفي من التهذيب السليم كثيرٌ من القواعد التي تَوَاطأ عليها البشرُ دونما نظرٍ في نواميس الوجود الكبرى، وهم يحسبون أنّها قواعد تهذيبيّة لمجرّد اتّفاقهم عليها. وبذلك أيضاً ينتفي من التهذيب السليم كلُّ ما يخالف روحَ الحقّ وروحَ الخير وروحَ الجمال. والتهذيب على غير أصوله الكبرى تَواطؤٌ سطحيّ على الكذب القبيح. وهو على أصوله البعيدة إحساسٌ عميق بالصدق الجميل، ممّا يجعله اندماجاً خالصاً بثوريّة الحياة الجارية الفاتحة.
لذلك كان مدار التهذيب عند ابن أبي طالب، حماية الإنسان من الكذب، أو قُلْ حمايته وهو حيٌّ من برودة الموت!
وحماية الإنسان من الكذب تستوجب أولَ الأمر تعظيمَ الصدق نصّاً مباشراً في كلّ حال، وإبرازَه ضرورةً حياتيّةً لا مفرّ منها لكل حيِّ، وتوجيهَ الناس نحوه أفراداً يَخْلُون إلى أنفسهم أو يعيشون جماعات. وفي هذا الباب يبرز عليّ بن أبي طالب عملاقاً يرى ما لا يراه الآخرون، ويشير إلى ما يجهلون، ويعمل ما لا يستطيعونه الآن ويريدهم أن يستطيعوه. يقول عليّ: (إيّاكم وتهزيعَ الأخلاق وتصريِفَها واجعلوا اللسانَ واحداً). وتهزيع الشيء تكسيره. وتصريفه قلْبُه من حال إلى حال. يريد بذلك تذكيرَ الصادق بالخطر الذي يتعرّض له صدقُه إنْ هو كذب ولو مرّةً واحدة. فالصادق إذا كذب مرةً انكسر صدقه كما ينكسر أيّ شيء وقع على الأرض مرةً واحدة. وكذلك النفاق والتلوّن فهما لونان من ألوان الكذب. ويقول أيضاً: (وكونوا قوماً صادقين. واعملوا في غير رياء. وأعَزّ الصادقَ المحقّ وأذَلّ الكاذبَ المبطل. واصدُقوا الحديث وأدّوا الأمانة وأوفوا بالعهد. من طلب عزاً بباطل أورثه الله ذلاً بحق. إن كنت صادقاً كافيناك وإن كنت كاذباً عاقبناك. إنّ مَن عدمَ الصدق في منطقه فقد فُجع بأكرم أخلاقه. ما السيف الصارم في كفّ الشجاع بأعزّ له من الصدق). وما هذه الآيات في الصدق إلاّ نماذج من مئاتٍ أُخرَيات يؤلف ابنُ أبي طالب بها أساسَ دستوره الأخلاقي العظيم.
ثم إليك هذه الآية التي يكثر في نسجها نصيبُ العقل النافذ الواعي. يقول: (الكذب يهدي إلى الفجور). ولسنا في حاجة إلى الإسهاب في إظهار ما تخفي هذه الكلمة من حقيقة تجرّ وراءها سلسلة لا تنتهي من الحقائق. كما أننا لسنا في حاجة إلى الإسهاب في تصوير ما تشير إليه من حقيقة نفسية لا تزيدها الأيام إلا رسوخاً. ومثل هذه الآية آيات، منها: (لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أنْ يَعِدَ أحدُكم صبيَّه ثم لا يفي له!) أما المعنى الذي يشير إليه الشق الأول من هذه الآية العلوية، فقد كان موضوع جدل كثير بين فلاسفة الأخلاق ولاسيما الأوروبيين منهم. والواقع أن هؤلاء أجمعوا على أن الصدق حياة والكذب موت. غير أنهم اختلفوا في هل يجوز الكذب في حالة الضرورة أم لا؟ فمنهم الموافق ومنهم المخالف. ولكلٍّ من الفريقين حجته.
أمّا عليّ بن أبي طالب، فيقف من هذا الموضوع الذي تثيره عبارته، موقفاً حاسماً ينسجم مع مذهبه العظيم في الأخلاق، هذا المذهب الذي نعود فنذكّر القارئ بأنه منبثقٌ عمّا أحسّه عليّ ووعاه من عدالة الكون الشاملة، فيقول غير متردّد: (علامة الإيمان أن تُؤْثر الصدقَ حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك، وأن لا يكون في حديثك فضلٌ عن عملك!) ومن الواضح أن ابن أبي طالب لا يرى أن في الكذب ما ينفع وأن في الصدق ما قد يضرّ، فيتحدث إلى الناس في نطاقٍ من مدى تصوُّرهم ليبلغ كلامُه منهم مبلغاً ذكياً. وتأكيداً لذلك يقول: (عليك بالصدق في جميع أمورك). ويقول أيضاً: (جانبوا الكذب فإن الصادق على شَفَا مَنْجاة وكرامة، والكاذب على شَفَا مَهْواةٍ وهلكة!).
أما المعنى الذي يذكره الشقّ الثاني من العبارة: (ولا أنْ يعد أحدُكم صبيّه ثم لا يفي له)، فالتفاتةٌ عظيمة إلى حقيقةٍ تربويّة تقرّرها الحياةُ نفسها، كما تقرّرها الأصولُ النفسية التي ينشأ عليها المرء ويتدرّج. ويكفيك منها هذه الإشارة إلى أن الطفل يتربَّى بالمثَل - القدوة - لا بالنصيحة. وهذا الرأي هو محور فلسفة جان جاك روسّو التربويّة!
والصدق مع الحياة يستلزم البساطة وينفر من التعقيد، لأن كل حقيقة هي بسيطة بمقدار ما الشمس ساطعة والليل بهيم. ودلالةً على هذه البساطة الدافئة لأنها انبثاقٌ حيّ وعفوي عن الصدق، نقول إن ابن أبي طالب كرهَ التكبر لأنه ليس طبعاً صادقاً بل الكبْر هو الصدق، فإذا بالمتكبر في رأيه شخصٌ يتعالى على جبلته ذاتها. يقول: (لا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه). وهو في الوقت نفسه يكره التواضع إذا كان مقصوداً فإنه عند ذاك لا يكون طبعاً صادقاً بل الشعور بأن الإنسان مساوٍ لكل إنسان في كرامته هو الصدق. لذلك يخاطب مَن يقوده تواضعُه إلى أن يذلُ نفسه، قائلاً له: (إياك أن تتذلّل للناس). ثم يردف ذلك بقول أروع: (ولا تَصْحَبَنَّ في سفرٍ مَن لا يرى لك من الفضل عليه مثلَ ما ترى له من الفضل عليك!).
وإني لا أعرف في مبادئ المحافظين على كرامة الإنسان كإنسان لا يتكبر ولا يتواضع بل يكون صادقاً وحسب، ما يفوق هذه الكلمة لابن أبي طالب أو ما يساويها قيمةً: (الإنسان مرآة الإنسان!).
ومن أقواله الدالّة على ضرورة أخْذ الحياة أخذاً بسيطاً: (ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى. الثناء بأكثر من الاستحقاق مَلَقٌ والتقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد. لا تقل ما لا تعلم. لا تعمل الخير رياءً ولا تتركه حياء. يا ابن آدم، ما كسبتَ فوق قوتك فأنت فيه خازنٌ لغيرك. لا ينصف للخير ليفخر به، ولا يتكلّم ليتجبّر على من سواه. مَن حمّل نفسه ما لا يُطيق عجز. لا خير في معينٍ مهين). وكأنّي بابن أبي طالب لا يترك جانباً ممّا وعاه فكرُه وشعورُه من أمور الحياة والإنسان إلاّ أطلق فيه رائعةً تختصر دستوراً كاملاً. وهذا ما فعله ساعة شاءَ أن يوجّه الناس إلى أخذ الحياة أخذاً صادقاً بسيطاً، فقال هذه الكلمة الدافئة بعفْويّة الحياة: (إذا طَرقَك إخوانك فلا تدّخر عنهم ما في البيت، ولا تتكلّف لهم ما وراء الباب!).
وإذ يفرغ عليّ من حديثه الكثير الدائر حول ضرورة الصدق مع الحياة بصورةٍ مباشرة، ثم حول البساطة التي لا يكون صدقٌ بدونها ولا تكون بغير صدق، يواصل طريقه في مفاهيم التهذيب التي تتلازم في مذهبه وتترابط حتى لكأنّها صورةٌ عن كلّ موجودات الكون، والتي يظلّ الصدقُ مدارَها الأوّلَ وإن تناولتْ وجوهاً أخرى من وجوه الأخلاق. فيوصي بأن يتغافل المرءُ عن زلاّت غيره فإنّ في ذلك رحمةً من المتغافل وتهذيباً للمسيء بالسيرة والمثَل أبلغَ من تهذيبه بالنصيحة أو بالبغضاء، يقول: (من أشرف أعمال الكريم غفلتُه عمّا يعلم). كما يوصي بالحلم والأناة لأنهما نتيجةٌ لعلوّ الهمّة ثمّ مَدْرَجَةٌ لكرَم النفس: (الحلم والأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمّة. ويكره الغيبة لأنها مذهبٌ من النفاق والإساءة والشرّ جميعاً: (اجتنب الغيبة فإنّها إدام كلاب النار). والخديعة مثل الغيبة وكلتاهما من خبث السرائر: (إيّاك والخديعة فإنّها من خلق اللئام). وكما رأى أنّ كذبةً واحدةً لا تجوز لأنّ الصدق ينكسر بها، يرى أن كل ذنبٍ مهما كان في زعم صاحبه خفيفاً قليل الشأن إنّما هو شديدٌ لأنه ذنبٌ، بل إنه أشدّ وقعاً على كرامة الإنسان إذا استخفّ به صاحبه، من ذنبٍ عظيمٍ عاد مقترفُه إلى الرجوع عنه في الحال: (أشدّ الذنوب ما استخفّ به صاحبه). وينهاك علي عن التسرّع في القول والعمل لأنه مدعاةٌ إلى السقوط وعلى الإنسان المهذّب ألاّ يُبيح نفسَه لأيّة سقطة: (أنهاك عن التسرّع في القول والعمل).
وهو يريدك أن تعتذر لنفسك من كلِّ ذنب أذنبتَ إصلاحاً لخلقك، ولكنّه ينبّهك تنبيهاً عبقريَّ الملاحظة والبيان إلى أنّ الإنسان لا يعتذر من خير، فعليه إذن ألاّ يفعل ما يضطّره إلى الاعتذار: (إياك وما تعتذر منه فإنه لا يُعتَذَر من خير. ومنعاً للاشتغال بعيوب الناس وإغفال عيوب النفس، وفي ذلك ما يدعو إلى سوء الخلق والمسلك سلباً وإيجاباً، يقول علي: (أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله)، و(مَن نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره). وإذا أتى القبيح من مصدر عليك أن تُنكره أوّلاً، فإن لم تستطع ذلك تحَتّم عليك ألاّ تستحسنه لئلاً تصبح شريكاً فيه: (مَن استحسن القبيح كان شريكاً فيه). وإذا كان التعاطف بين الناس ضرورةً أخلاقية لأنه ضرورةٌ وجودية على ما مرّ معنا في الفصل السابق، فإنّ منطق العقل والقلب يأمر بأن يكون عطفك على من أنطقك وأحسن إليك أكثرَ وأوسع. وفي ذلك يقول عليّ: (لا تجعلنّ ذربَ لسانك على من أنطقك وبلاغةَ قولك على من سدّدك). ثم يقول: (وليس جزاء من عظّم شأنك أن تضع من قدره، ولا جزاء مَن سرّك أن تسوءه).
ويهاجم الحرص والكبرياء والحسد لأنّها سبيلٌ إلى الانحدار الخلقي: (الحرص والكبر والحسد دواعٍ إلى التقحّم في الذنوب). وإذا كان الأخلاقيون القدماء يذمّون البخل فلأنه في نظرهم صفةٌ مذمومةٌ لذاتها. أمّا عند ابن أبي طالب الذي يرصد الأخلاق بنظرةٍ أشمل وفكرٍ أعمق، فالبخل ليس مذموماً لذاته قدر ما هو مذموم لجمعه العيوب كلّها، ولدفْعه صاحبَه إلى كل سوءة في الخلق والمسلك. فالبخيل منافق، معتدٍ، مغتاب، حاسد ذليل، مزوّر، جشع، أناني، غير عادل. يقول علي: (البخل جامع لمساوئ العيوب).
ويطول بنا الحديث ويتّسع إذا نحن شئنا أن نورد تفاصيل مذهب ابن أبي طالب في الأخلاق وتهذيب النفس، فهي كثيرةٌ لم تترك حركةً من حركات الإنسان إلاّ صوّرتْها ووجّهتْها. وإذا قلتُ إن مثل هذا العمل طويلٌ واسعٌ شاقّ فإنّي أعني ما أقول. وما على القارئ إلاّ أن يطّلع على الروائع التي أخذناها من أدب ابن أبي طالب في هذا الكتاب، حتى يثق بأنّ المجلّدات قد تضيق عن دراسة مذهبه في الأخلاق وتهذيب النفس، وعمّا تستوجبه هذه المختارات من شرحٍ وتعليق. ويكفي أن نشير إلى أنّ هذه الروائع العلويّة من أشرف ما في تراث الإنسان، ومن أعظمه اتّساعاً وعمقاً.
على أنه لابد لنا الآن من التلميح إلى آية الآيات في التهذيب العظيم بوصْفه إحساساً عميقاً بقيمة الحياة وكرامة النفس وكمال الوجود. وإنّ نفراً قليلاً من المتفوّقين كبوذا والمسيح وبتهوفن وأشباههم هم الذين أدركوا أنّ آية التهذيب إنّما تكون في الدرجة الأولى بين الإنسان ونفسه. ولا تكون بين الإنسان وما هو خارجٌ عنه إلاّ انبثاقاً بديهيّاً طبيعيّاً عن الحالة الأولى. وقد أدرك ابنُ أبي طالب هذه الحقيقة إدراكاً قويّاً واضحاً لا غموضَ فيه ولا إبهام. وعبّر عنها تعبيراً جامعاً. يقول عليّ في ضرورة احترام الإنسان نفسَه وأعماله دون أن يكون عليه رقيب: (اتَّقوا المعاصي في الخلوات). ويقول في المعنى ذاته: (إيّاك وكلّ عملٍ في السرّ يُستحى منه في العلانية. وإيّاك وكلّ عملٍ إذا ذُكر لصاحبه أنكره). وإليك ما يقوله في الرابطة بين السرّ والعلانية، أو بين ما أسميناه (آية التهذيب) وما أسميناه (انبثاقاً) عنها: (مَن أصلح سريرتَه أصلح الله علانيّته).
ومن بدائع حكيم الصين كنفوشيوس في تهذيب النفس هذه الكلمة: (كلْ على مائدتك كأنك تأكل على مائدة ملك). وجليٌّ أنه يريد منك أن تحترم نفسك احتراماً مطلقاً غير مرهون بظرف أو مناسبة، حتى ليجدر بك أن تتصرف حين تخلو إلى نفسك كما تتصرف وأنت بين يدي ملك. ومثل هذا المعنى يقوله علي بن أبي طالب على هيئة جديدة: (ليتزيّنْ أحدكم لأخيه كما يتزيّن للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة!).
وهو يريدك في كلِّ حال أن تعظ أخاك لتعينه في الانتقال من حَسَنٍ إلى أحسن في الخلق والذوق والمسلك. ولكنّ روح التهذيب الأصيل يأبى عليك أن تجرحه أو تؤذيه بنُصحه علناً، بل إنّ هذا الروح يقضي عليك أن تكون ليّناً رفيقاً فلا تنصح إلاّ خفيةً ولا تعِظ إلاّ سراً. يقول علي: (مَن وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومَن وعظَه علانيةً فقد شأنه).
وأيّةً كانت حالك فعليك أن تصدق مع نفسك والحياة والناس. فبهذا الصدق تحيى وبغيره تهلك. وبه تحفظ سلامةَ روحك وقلبك وجسدك. وبغيره تفقدها. وبالصدق تُحِبّ وتُحَبّ ويوثَق بك، وبغيره تجلب لنفسك المقْتَ والكراهية والسّيئاتِ جميعاً وير ذلك الناس تافهاً حقيراً. وهذا الصدق عهدٌ منك وعليك لأنه إرادة الحياة القادرة الغلاّبة وهي إرادةٌ تقضي عليك بأنّ تنظر في عهدك كلّ يوم. وابنُ أبي طالبٍ يقول: (على كلّ إنسان أن ينظر كلّ يومٍ في عهده!).
[align=left]جورج جرداق[/align]
-
[align=center]
خير الوجود وثورية الحياة[/align]
لَشَدَّ ما رأيناه يجعل ثوريّةَ الحياة كُلاًّ من خير الوجود، وخيرَ الوجود كِّلاًّ من ثورية الحياة!
وقالت الثورة: أنا الهادمة البانية!
وليس من حقّ الوجود العادل إلاّ أن يكون خيّراً كريماً. وليس من طبيعته إلاّ العطاءُ. وهو لا يأخذ ما يعطيه إلاّ ليعودَ إلى بذْلِه طيّباً جديداً. وخيرُ الوجود كيانٌ من كيانه وجوهرٌ من جوهرِه. وعهْدُ عليٍّ به هو هذا العهد. وإحساسُه بخيره هو إحساسه بعدْله لا يقلّ ولا يزيد. وعلى ذلك تَحَدّث عن هذا الخير فأكثر الحديثَ وقد روينا من أقواله في خير الوجود شيئاً غيرَ قليل. ولعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة قالها وكأنّه يوجز بها مذهبَه المؤمنَ بخير الوجود: (وليس الله بما سُئل بأجودَ منه بما لم يُسألْ). فإذا عرفنا أنّ لفظة (الله) تعني في أقصى ما تعينه عند القدماء من أصحاب الأصالة الذهنية والروحية: مركزَ الوجودِ والروابطِ الكونية، عرفْنا أيّ خير شامل عميم هو خير الوجود الذي يمنحك ما تسألُ ضمن شروطٍ، ثمّ يعطيك فوق ما تسأل، ثمّ يزيد!
ولمّا كان الإنسان الذي يحسب أنّه جرمٌ صغير، ممثّلاً لهذا العالم الأكبر على ما يقول ابنُ أبي طالب، فلابدّ أن يكون هو أيضاً صورةَ عن الوجود بخيره كما هو صورةٌ عنه بعدله. فإذا أعطاك الوجودُ فوقَ ما تسأله من خيره، يكون قد بَدَأك لحاجةٍ في طبيعته إلى أن يكون خيّراً. وإذا كنتَ صورةً عنه، فأنتَ أحْوَج إلى اصطناع الخير من أهل الحاجة إليه. وهذا ما يؤكّده عليّ بقوله هذا: (أهل المعروف إلى اصطناعه أحوَجُ من أهل الحاجة إليه!) وهذا ما يؤكّده أيضاً في عبارةٍ يرجع إليها كلّما تحدّث عن اصطناع الخير بين الناس: (والفضل في ذلك للبادئ).
وإذ ننتقل إلى النظر في الخير ومعناه على صعيد العلاقات بين الناس، أمكننا أن نُجريَ آراء ابن أبي طالب في المجاري التالية:
• أولاً، الخير بين الناس يكمن في أن يتعاونوا ويتساندوا، وأنْ يعمل واحدُهم من أجل نفسه والآخرين سواءٌ بسواء، وألاّ يكون في هذا العمل رياءٌ من جانب هذا ولا إكراهٌ من جانب ذاك لكي (يُعمَل في الرغبة لا في الرهبة) على حدّ ما يقول عليّ، ثم أن يضحّي بالقليل والكثير توفيراً لراحة الآخرين واطمئنان الخلق بعضهم إلى بعض، وأن تأتي هذه التضحية مبادرةً لا بعد سؤال ولا بعد قسرٍ وإجبار. وكلّ ما من شأنه أن ينفع ويفيد، سواءٌ أكان ذلك على صعيدٍ مادّي أو روحيّ، كان خيراً.
• ثانياً: يرى عليٌّ الخير لا يأتي إلاّ عملاً أولاً، ثم قولاً، لأن الإنسان يجب أن يكون واحداً كالوجود الواحد، وأن يساند بعضُه بعضاً وفاءً لهذه القاعدة، فإن قال فعل، وإن فعل قال. ومن روائع ابن أبي طالب كلمةٌ قالها في رجلٍ يرجو الله في أمرٍ ولا يعمل من أجل هذا الرجاء: (يدّعي بزعمه أنّه يرجو الله! كذبٌ والعظيم! ما باله لا يتبيّن رجاءه في عمله، فكلّ مَن رجا عُرف رجاؤه في عمله!) أمّا إذا عملتَ خيراً، فمن حقك عند ذاك أن تقول خيراً: (قلْ خيراً وافعلْ خيراً!).
• ثالثاً، يفسح عليّ في المجال أمام قوى الخير لأن تنطلق أبعدَ ما يكون الانطلاق، وذلك بأن يجعل قبولَ التوبة عن الشرّ قاعدة يُعمل بها. فإذا أثِمَ المرء مسيئاً إلى الآخرين، فإنّ في التوبة باباً يلجه من جديد إلى عالَم الخير إذا شاء. يقول عليّ: (اقبل عذر من اعتذر إليك، وأخّر الشرّ ما استطعت). ويعرف التاريخ مقدار الإساءة التي لحقتْ بعليّ عن طريق أبي موسى الأشعري، ويعرف كذلك أنّ علياً لا ينزع إلاّ عن مذهبه أيّةً كانت الظروف والصعوبات، لذلك نراه يبعث إلى أبي موسى قائلاً: (أمّا بعد، فإنّك امرئٌ ضلّلك الهوى، واستدرجك الغرور، فاستقلِ اللهَ يقِلْك عثْرتَك، فإنّ من استقال الله أقاله!).
• رابعاً: يؤمن علي بأن قوى الخير في الإنسان تتداعى ويشدّ بعضها بعضاً شدّاً مكيناً. فإذا وُجد في إنسان جانبٌ من الخير فلابد من ارتباطه بجوانب أخرى منه، ولابدّ من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات. وفي هذه النظرة إشارةٌ صريحة إلى أنّ الوجود واحد متكافئٌ عادلٌ خيّرٌ سواءٌ أكان وجوداً عامّاً كبيراً، أو وجوداً خاصّاً مصغّراً يتمثّل بالإنسان: (إذا كان في رجلٍ خلّةٌ رائقة فانتظروا أخواتها!).
• خامساً، ومثل هذه العدوى الخيّرة بين الخلال الرائقة، عدوى مماثلة تنتقل من الخير إلى الشر بين الناس والناس: (جالس أهل الخير تكن منهم!) و(اطلبوا الخيرَ وأهلَه).
• سادساً، الإيمان العميق بأنّ في طاقة الإنسان أيّاً كان أن ينهج نهج الخير، وأنّه ليس من إنسان أجدر من إنسانٍ آخر بهذا النهج: (ولا يقولَنّ أحدُكم إنّ أحداً أولى بفعل الخير منّي!).
• سابعاً: على المرء ألاّ يستكثر من فعل الخير كثيراً. بل إنّ ما يفعله من خير يظلّ قليلاً مهما كان كثيراً لأنّ في الاكتفاء بقدرٍ من الخير جحوداً بخير الوجود العظيم وإنكاراً لطاقة الإنسان الذي ينطوي فيه العالم الأكبر. يقول عليّ في أهل الخير: (ولا يرضَون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون (1)).
• ثامناً، لابدّ من الإشارة إلى النظرة العميقة التي يلقيها عليٌّ على مفاهيم النزوع الإنساني إلى ما يجعل الناسَ، كلّ الناس، في نعيم.
فإذا نحن نظرنا في آثار معظم المفكرين الذين أعاروا شؤونَ الناس اهتمامَهم، رأينا أنّ لفظة (السعادة) هي التي تتردّد في هذه الآثار، وأنّ مدلول هذه اللفظة إنّما، هو بالذات، مدار أبحاثهم وغاية ما يريدون. أمّا عليّ فقد استبدل بلفظة (السعادة) هذه ما هو أبعدُ مدىً، وأعمق معنى، وأرحبُ أفقاً، وأجلّ شأناً في ما يجب أن تتصف به الطبيعة الإنسانية وتصبو إليه. لقد استبدل بـ(السعادة) هذه، لفظة (الخير) فما كان يوجّه القلوبَ إليها بل إليه. لأنّ في السعادة ما هو محصورٌ في نطاق الفرد، ولأنّ الخير ليس بمحصور في مثل هذا النطاق. فالخير إذَن أعظم! ثمّ إنّ الخير يحتوي السعادة ولا تحتويه، فهو أشمَل! أضِفْ إلى ذلك أنّ بعض الناس قد يسعدون بما لا يشرّف الإنسان، وأنّهم قد يسعدون بما يؤذي الآخرين، وأنّم قد يَتْفَهون ويترهَلون وهم يحسبون أنّهم بذلك سعداء. أما الخير فهو غير السعادة إذ يكون معدنها هذا المعدن. فهو السعادةُ منُوطةٌ بسعادة الناس جميعاً. وهو الرضى عن أحوال الجسد والعقل والضمير! لذلك أكثر عليٌّ من استخدام هذا اللفظ في دعوته الحارّة إلى كلّ ما يرفع من شأن الإنسان!
ولم أعثر في آثار ابن أبي طالب على لفظة (السعادة) إلاّ مرةً واحدة. ولكنه لا يخرج بمعناها الذي يقصد عن مفهوم الخير بما يُحمّلها من حدوده ومعانيه. أمّا العبادة التي وردتْ فيها لفظة (السعادة) فهي هذه: (مِن سعادة الرجل أنْ تكون زوجته صالحة وأولاده أبراراً وإخوانه شرفاء وجيرانه صالحين ورزقه في بلده). فانظر كيف ربط سعادة المرء بسعادة المحيطين به من أفراد عائلته ثم بسعادة إخوانه وجيرانه جميعاً. بعد ذلك ناط سعادة هذا الرجل بسعادة بلاده مستنداً إلى أنها بلادٌ تُنتج الرزقَ لجميع أبنائها وهو واحدٌ منهم!.
• تاسعاً: إنّ خير الوجود وخير الإنسان يستلزمان، بالضرورة، الثقةَ بالضمير الإنسانيّ ثقةً تجعله حَكَماً أخيراً في ما يضرّ وينفع. ولنا في هذا الموضوع رأيٌ نُفصّله نقول:
من روائع ابن أبي طالب ما يخاطب به العقلَ وحده. ومنها ما يخاطب به الضمير، وأكثرها ممّا يتوجه به إلى العقل والضمير مجتمعين. أماّ تلك التي يخاطب بها العقلَ، فقلْ إنّها الغاية في الأصالة، وإنّها نتيجةٌ محتومة لنشاط العقل الذي لاحظ ودقّق وتمرّس بخير الزمان وشرّه، وعرف من التجارب كلّ ما يكشف له عن الحقائق ويجليّها، فإذا هي مصوغةٌ على قواعدَ هندسيّة ذات حدود وأبعاد لشدّة ما ترتبط بالحقائق، ومُظْهَرةٌ في أروع إطار فنّي لشدّة ما ترتبط بالجماليّة التعبيرية، مما يجعلها، من حيث المادة والشكل، في أصول الأدب الكلاسيكي العربي.
وفي هذا النوع من الحِكَم الموجّهة إلى العقل، نرى عليّاً يصوّر تاركاً للناس أن يحكموا بما يرون. فيأخذوا إذا شاءوا أو يتركوا. لذلك لا نرى في هذا النوع من الحِكَم صيَغَ الطلب. إنّما نرى حِكَماً صيغتْ بقالبٍ خبريٍّ خالصٍ جُرّد من صُوَر الأمر والنهي جميعاً. حِكَماً تتبلور فيها طبائع الصديق والعدوّ، والمحسن والمسيء، والأحمق والعاقل، والبخيل والكريم، والصادق والمنافق، والظالم والمظلوم، والمعوِز والمتخَم، وصاحب الحقّ وصاحب الباطل، ومفهوم الخلق السليم والخلق السقيم، وشؤون الجاهل والعالم، والناطق والصامت، والأرعن والحليم، وصفات الطامع والقانع، وأحوال العُسْر واليُسر، وتقلبّات الزمان وما لها من أثرٍ في أخلاق الرجال، وما إلى ذلك من أمورٍ لا تُحصى في فصلٍ أو باب.
أما تلك التي يخاطب بها الضمير، والعقلَ والضميرَ مجتمعين، فإليكَ ما هي وما حولها:
من الثابت أنّ الذين رأوا في الأنظمة والتشريعات وحدَها سلامةَ الإنسان وكفايةَ المجتمع، قد أخطأوا خطأً عظيماً. فإن هذه الأنظمة والتشريعات التي تعلن عن حقوق الإنسان وتأمر برعايتها والمحافظة عليها، لا يضبطها في النتيجة، كما لا يُخلص في اكتشافها وابتداعها، إلاّ عقلٌ سليم ونفسٌ مهذّبة وضميرٌ راقٍ. فإنّ دنيا الناس هذه يرتبط كلّ ما فيها، ضمنَ حدودٍ معيّنةٍ طبعاً، بأخلاق القيّمين على دساتيرها وأنظمتها، وبمدى الخير الذي يتّسع في نفوسهم أو يضيق، بقدر ما يرتبط بضمير الجماعة التي تؤلّف ميدان هذه الأنظمة والدساتير وتبرر وجودَها. هذا، مع الاعتراف بأنّ الأنظمة الاجتماعية الحديثة تتفاوت تفاوتاً عظيماً في سماحها للقيّمين عليها بمسايرتها أو بالخروج عليها. وذلك بحكم طبيعتها وبنسبة ما تحويه أصولها من إمكانات التنفيذ. أمّا الأنظمة والدساتير القديمة، فقد كانت أكثر تأثُّراً بأخلاق القيّمين عليها المشرفين على إقامة ما تقتضيه من حدود. ولذلك أسبابٌ ليست من موضوع حديثنا هذا.
وبالرغم من أنّ الأنظمة والتشريعات الصالحة من شأنها أن توجّه الناس وتفرض عليهم ما يؤدي إلى نفعهم فرضاً، فإنّ هذا التوجيه وهذا الفرض يظلاّن خارج حدود القيمة الإنسانية إن لم يوافقهما العملُ النابع من الوجدان بالذات. وفي مذهبنا أنّ كلّ عملٍ يأتيه الإنسان لابدّ أنه فاقدٌ الدفء الإنساني، وهو أثمنُ وأعظم ما يوافق الصنيعَ الإنساني، إن لم يحمل وهجَ الضمير وعبقَ النفس وإرادة العطاء على غير قسْرٍ وإكراه. ولا تنجح الأنظمة والتشريعات في إقامة العلاقات الإنسانية إلاّ بمقدار ما يمكنها أنْ تتوجّه إلى العقل والضمير فتقنعهما بالخير، فتخلق الانسجام الرائع بين إتاحة الفرصة للعمل النافع وإرادة العامل في وحدةٍ تكفل للفرد وللجماعة الصعودَ في طريق الحضارة.
وما يصدقُ، بهذا الصدَد، في نطاق الأفراد والجماعات، يصدُق كذلك في تاريخ المفكّرين والمشترعين والعلماء والمكتشفين ومَن إليهم. فإنك لترى، إذا أنتَ استعرضتَ تاريخ هؤلاء الذين خدموا الإنسان والحضارة، أنّ العقل الذي دَلّهم على الطريق الصحيح في كلّ ميدان، لم يكن وحده في تاريخهم. فالعقل بارد، جافّ، لا يتعرف إلاّ إلى الأرقام والأقسام والوجوه ذات الحدود. فهو لذلك يدلّك على الطريق ولكنّه لا يشدّك إلى سلوكه ولا يدفعك في سهله ووعره. أما الدافع، فالضمير السليم والعاطفة الحارة. فما الذي حمل ماركوني على العزلة القاسية والانفراد الموحش الكئيب، إن لم يكن الضمير الذي يحسّن له الانصراف عن مباهج الحياة إلى كآبة الوحدة في سبيل الحضارة والإنسان؟ وإن لم يكن العاطفة التي تغمر هذا الضميرَ السليم بالحرارة والدفء فلا يفترُ أبداً.
وما يقال في ماركوني يقال في باستور، وغاليليو، وغاندي، وبتهوفن، وبوذا، وأفلاطون، وغيتي، وفي غيرهم من أصحاب المركّب الإنساني القريب من الكمال.
والدليل الإيجابي على هذه الحقيقة يستتبع دليلاً سلبياً لزيادة الإيضاح. فهذا ادولف هتلر، وجانكيزخان، وهولاكو، والحجاج بن يوسف الثقفي، وقيصر بورجيا بطل كتاب (الأمير) المشؤوم لمكيافيللي (2)، وبعض علماء الذرة المعاصرين الذين يوافقون على تجربتها على الآدميين، ألم يتميز هؤلاء جميعاً بعقول واسعة ومدارك قد تهون أمامها مدارك الآخرين؟ ومع ذلك، فما كان من شأنهم إلا التقتيل والتدمير والاعتداء على مقدسات الحضارة ومخلّفات الجهود الإنسانية، وعلى كرامة الحياة والأحياء وخير الوجود! ذلك أن عقولهم لم تواكبها الضمائر السليمة والعواطف الكريمة! فحيث لا ضمير ولا عاطفة، لا نفع من العقل، بل قل إنه إلى المضرّة أقرب.
ولا أريد هنا التفصيلَ بين مختلف قوى الإنسان من عاطفة وضميرٍ وعقلٍ وما إليها، فهي ولا شكّ تتفاعل وتتعاون. غير أن ما أردتُه بالعقل هو القوّة التي تعقل الأمور على صعيدٍ يربط السببَ بالنتيجة ويُحْكم بين العلّة والمعلول، فيدور في نطاقٍ من الأرقام والحدود التي لا تتأثّر، بحدّ ذاتها، بالبيئة الإنسانية الخاصّة والعامّة. وعلى هذا الضوء أجزتُ هذا التفصيل.
إذن، فالعقل المكتشف لابدّ لصاحبه من ضميرٍ وعاطفة يدفعانه في طريق الخير. وما يصحّ بهذا الشأن في المشترع يصحّ في المشترع له. فالأفراد الذين يُطلَب إليهم أن يسيروا على هذا النظام الخيّر أو ذاك، لابدّ لهم من اقتناعٍ وجدانيّ، إلى جانب الاقتناع العقلي المجرّد، يدفعهم في طريق التهذيب الإنسانيّ الرفيع، لبناء المجتمع الصالح. لابدّ لهم من التمرّس بالفضائل الأخلاقية التي تحيط الأنظمة والتشريعات بحصونٍ رفيعةٍ منيعة. لابدّ لهم من أن يكونوا خيّرين!
لذلك راح عليّ يحرّك في الأفراد عواطف الخير على ما رأينا، ويوقظ فيهم ما غشّتْه الأيامُ من الضمائر السليمة. ويعمل على إنمائها وينصح برعايتها.
توجّه علي إلى الضمائر بتوصياته وخطبه وعهوده وأقواله جميعاً. لأنه لم يفتْه أنّ لتهذيب الخلق شأناً في رعاية النظم العادلة، وفي بثّ الحرارة في المعاملات بين الناس. ولم يفْته كذلك، أن هذا التهذيب يُطلب لذاته بما هو من القيم الإنسانية، كما يُطلب لحماية العدالة الاجتماعية وسُنَنها بما هو ضبطٌ لنوازعَ وتوجيهٌ لأخرى. وقد ساعده في ذلك ما أوتي من مقدرة خارقة ينفذ بها إلى أعماق الناس أفراداً وجماعات، فيدرك ميولهم وأهواءهم، ويعرف طباعهم وأخلاقهم، فيزن خيرَها وشرَّها، ثم يصوّر، ويطوّر، ويأمر وينهى، على ضوء ثقته الراسخة بالضمير الإنساني الذي يتوجه إليه.
كانت ثقة ابن أبي طالب بالضمير الإنساني ثقة العظماء الذين تآلفَ فيهم العقل النيّر والقلب الزاخر بالدفء الإنساني، النابض بالحب العميق الذي لا يعرف حدوداً.
كانت ثقته بهذا الضمير ثقةَ بوذا وبتهوفن وروسّو وغاندي وسائر العظماء الذين مدّهم القلبُ بنور يخبو لديه كلّ نور. وعلى أساس هذه الثقة أرسى ابنُ أبي طالب حِكمَه وأمثاله، وعلى أساسها تترابط الأفكار والتوجيهات التي يخاطب بها وجدانات الناس.
وإذا كان للإمام علي مثلُ هذه الثقة بنواحي الخير في الناس، على ما مُني به على أيديهم من نكبات وفواجع، فإنه يأبى إلاّ أنْ يلقي بذور هذه الثقة في قلوبهم جميعاً. فهو يعرف (أنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وكذباً وصدقاً). ولكنّ الأولى بالمرء أن يفتح عينيه وقلبه على نواحي الخير هذه، فلعلّها هي التي تنمو دون نواحي الشر. ولعلّ التعليم بالمثَل والسيرة يكون أجلّ وأجدى. وقد طالما كرّر عليّ وصاياه بضرورة هذه الثقة بالضمير الإنساني، وفي جملة ما يقوله: (مَن ظنّ بك خيراً فصدّق ظنه). ويقول في مكان آخر: (لا تظننّ بكلمةٍ خرجتْ من أحدٍ سوءً وأنت تجد لها في الخير محتَملاً) و(ليس من العدل القضاءُ بالظنّ على الثقة) و(وإذا استولى الصلاحُ على الزمان وأهلهِ ثمّ أساء رجلٌ الظنَّ برجلٍ لم تظهر منه خَزْيةٌ، فقد ظلم) و(أسوأ الناس حالاً مَن لم يثق بأحدٍ لسوء ظنّه، ولم يثق به أحدٌ لسوء فعله!).
وقد أخطأ دارسو الإمام علي ساعة رأوا أنه متشائمٌ بالناس شديد التشاؤم، متبرّمٌ بهم كثير التبرّم. وساعة احتجّوا لرأيهم ذا بأقوال له يهاجم بها أبناء زمانه بشدّةٍ وعنف. أمّا رأينا نحن فعلى العكس من ذلك تماماً. رأينا أنّ علياً لم ينقضْ ثقتَه بالإنسان ساعةً واحدة وإنّ نقَضَها ببعض الناس في بعض الظروف. فمَن عرف طاقة ابن أبي طالب على احتمال المكاره تأتيه من الناس، وجلَدَه العجيب في مقاساة الأهوال الناجمة عن الغدر والخيانة والفجور في الكثير من خصومه وأنصاره، ثم ما كان من أموره معهم جميعاً إذ يأخذهم بالرفق والعطف ما أمكنه أنْ يرفق وأنْ يعطف؛ أقول: مَن عرف ذلك أدرك أنّ عليّاً عظيم التفاؤل بحقيقة الإنسان، وبفطرته التي أضلّها المجتمع في بعض أحواله. لا يختلف في ذلك عن أخيه روسّو.
وإذا كان له في ذمّ أهل الخيانة والغدر والظلم قولٌ كثير، فما ذاك إلاّ لأنه يعترف، ضمناً، أنّ الإنسان ممكناً إصلاحُه ولو طال على ذلك الزمن. فإنّ المتفائل وحده هو الذي يزجر المسيء كما يُثيب المحسن أملاً منه بتقويم الاعوجاج في الخلق والمسلك. ولو لم يكن لابن أبي طالب مثل هذا الأمل، لمَا استطاع احتمال ما لا يُحْتَمَل من مكاره الدهر التي جرّها عليه المسيئون، ولما صبر على ما يكره! وهو إن قال في الدنيا وأهلها: (فإنّما أهلها كلابٌ عاوية وسباعٌ ضارية، يهرّ بعضُها بعضاً، ويأكل عزيزُها ذليلَها، ويقهر كبيرُها صغيرها)، فإنّما يقول ذلك لأنه قاسى من غدر الغادرين وفجور الفاجرين ما آلمه وآذاه. فوبّخهم هذا التوبيخَ الموجع إيثاراً منه لمن لا يفجر ولا يغدر ولا يكون كلباً عاوياً ولا سبعاً ضارياً ولا عزيزاً يأكل ذليلاً أو كبيراً يقهر صغيراً! يقول ذلك ثم يحارب السبع الضاري والعزيز الظالم والكبير الجائر كما يحارب الطبيبُ الجراثيم إيثاراً منه لسلامة البدن والروح، بل إيثاراً منه للحياة على الموت، وتفاؤلاً بحسن النجاة!
إذن، فالإمام عليّ، وهو الذي يحترم الحياة: أعظم ما خلق الله، ويحترم الناس الأحياء: أجمل نماذج هذه الحياة، عظيمُ الثقة بالخير الإنساني. عظيم التفاؤل بالإنسان يريده حرّاً كما يجب أن يكون!
ولولا هذه الثقة وهذا التفاؤل لمَا كان من أمره مع الناس ما كان، ولمَا قال: (لا تظنّنّ بكلمةٍ خرجتْ من أحدٍ سوءً وأنت تجد لها في الخير مُحْتَمَلاً!) ثمّ لمَا تَوجّه إلى الضمير الفرديّ والجماعي بوصاياه التي تجمع عمق الفهم وحرارة العاطفة إلى سموّ الغاية ونبل المقصد. هذه الوصايا التي أرادها حصناً منيعاً للأخلاق العامّة، والعاطفة الإنسانية، وتركيز العمل النافع على أسس الإيجابية في العقل والضمير. واستناداً إلى هذه الثقة بالضمير الإنساني، وتحصيناً للعمل الخيّر الشريف، نراه يقيم على الناس أرصاداً من أنفسهم وعيوناً من جوارحهم فيخاطبهم قائلاً: (اعلموا أن عليكم رَصَداً من أنفسكم وعيوناً من جوارحكم وحُفّاظَ صدقٍ يحفظون أعمالكم وعدد أنفساكم!).
***
واستناداً إلى هذه الثقة بخير الوجود وعدله، وإلى عظمة الحياة والأحياء، يخاطب عليّ ابن أبي طالب أبناء زمانه بما يوقظهم على أنّ الحياة حرّةٌ لا تُطيق من القيود إلاّ ما كان سبباً في مجراها وواسطةً لبقائها وقبَساً من ضيائها وناموساً من نواميسها. وأنّها لا يطيب لها البقاء في مهد الأمس. فعليهم ألاّ يحاولوا غلّها وتقييدها وإلاّ أسِنتْ وانقلبت إلى فناء. فالحياة جميلة، كريمة، حرّة، خيّر كالوجود أبيها، تحفظ نفسها بقوانينها الثابتة لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين.
وهي متجدّدة أبداً، متطوّرة أبداً، لا ترضى عن تجدّدها وتطوّرها بديلاً وهما أسلوب تنهجه في فتوحاتها التي تستهدف خيراً أكثر وبقاءً أصلح. وملاحظةُ ابن أبي طالب الدقيقة العميقة للحياة ونواميسها وهي أعظم موجودات الوجود الخيّر، مكّنتْ في نفسه الإيمانَ بثوريّة الحياة المتطلّعة أبداً إلى الأمام، المتحرّكة أبداً في اتّجاه الخير الأكثر. وثوريّة الحياة أصلُ تَحَرّكها وسببُ تطوّرِها من حسنٍ إلى أحسن. ولهذا كانت الحياة حرّةً غير مقيّدة إلاّ بشروطِ وجودها. وثوريّة الحياة أصلُ تحرّكِ المجتمع الإنساني وسببُ تطوّره. ولولا هذه الخاصّة لكانت الحياة شيئاً من الموت والأحياء أشياء من الجماد.
آمن ابنُ أبي طالب بثوريّة الحياة إيماناً أشبه بالمعرفة، أو قُلْ هو المعرفة. فترتّب عليه إيمانٌ عظيمٌ بأنّ الأحياء يستطيعون أن يُصلحوا أنفسهم وذلك بأن يماشوا قوانين الحياة. ويستطيعون أن يكونوا أسياد مصائرهم وذلك بأن يخضعوا لعبقريّة الحياة. وقد سبق أنْ قلنا في حديثٍ مضى إنّ ثوريّة الحياة ألصقُ مزايا الحياة بها وأعظمها دلالةً على إمكاناتها العظيمة. وهي تستلزم من المؤمنين بها أن يعملوا على أساسٍ من الثقة المطلقة بالتطوّر المحتوم، وأن ينبّهوا الخواطر إليه، وأن يستخدموا الدليلَ والبرهان في زجْر المحافظين عن كلّ تصرّفٍ غبيٍّ يتوهّم أصحابه أنّهم يستطيعون الوقوف في وجه الحياة الثائرة المتطوّرة بثورتها.
بهذه الثقة وبهذا الإيمان خاطب ابن أبي طالب الإنسانَ بقوله: (فإنك أوّلَ ما خُلقتَ جاهلاً ثمّ عُلِّمتَ، وما أكثر ما تجهلُ من الأمر، ويتحيّر فيه رأيك، ويضِلّ فيه بصرُك، ثم تُبصره بعد ذلك!) ففي هذا القول اعترافٌ بأنّ الحياة متطوّرة، وأنّ التعلّم إنّما هو الانتفاع بما تخزن الحياة من عبقريتها في صدور أبنائها، على ما قلنا سابقاً. وفيه إيمانٌ بالقابلية الإنسانية العظيمة للتقدّم، أو قُل للخير. وما دعوته الحارّة إلى المعرفة التي تكشف كلّ يومٍ عن جديد، وتبني كلّ يومٍ جديداً، إلاّ دليلٌ عن الإيمان بثوريّة الحياة الخيّرة وإمكانات الأحياء. فالمعرفة لديه كشفٌ وفتحٌ لا يهدآن.
وهو بهذا الإيمان وهذه الثقة يخاطب أبناء زمانه يقول: (لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم). فلولا تفاؤله العظيم بأنّ في الحياة جمالاً، وبأنّ في الناس قابليّة التطوّر إلى الخير، لَما أطلق هذا القولَ الذي يوجز علمَه بثوريّة الحياة، ويوجز تفاؤلَه بإمكانات الإنسان المتطوّر مع الحياة، كما يوجز روحَ التربية الصحيحة، ويخلّص كلّ جيلٍ من الناس من أغلال العُرف والعادة إلى ارتضاها لنفسه جيلٌ سابق.
ولابن أبي طالب في هذا المعنى قولٌ كثيرٌ منه هذه الآيات الخالدة التي يمجّد بها العملَ بوصْفِه حقيقةً وثورةً وخيراً: (مَن أبطأ به عملُه لم يُسرع به نَسَبُه) و(قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسنه) و(اعلموا أنّ الناس أبناء ما يُحسنون) و(لكلّ امرئٍ ما اكتسب).
ومن أقواله ما يدفع به المرء إلى أن يطلب التقدّم بالعمل، وألاّ يُحجم أو يتراجع إذا هو أخفق كثيراً أو قليلاً، لأنّ الوجود الخيّر لا يحرم أبناءه ما يستحقّون. وإذا هو حرَمَهم فبعضَ الحرمان لا كلّه. وقد يُسَوّى الأمرُ في دفعةٍ ثانية من الطلب بواسطة العمل. ومن قوله في ذلك هذه الآية: (مَن طالب شيئاً ناله أو بعضه). وأظن أن القارئ فطن إلى روح هذه العبارة التي تتألق وكأنها انبثاقٌ عن كلمة المسيح الشهيرة: (اقرعوا اقرعوا يُفْتَحْ لكم).
ولعلَّ أجمل ما في المذهب العلويّ بهذا الشأن، أنّ صاحبه كان يوحّد ثوريّة الحياة وخيرَ الوجود نصّاً كما كان يوحّدهما روحاً ومعنى. فَلَشَدّ ما نراه يوحِّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى خير الوجود توحيداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك، ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثوريّةَ الحياة كُلاًّ من خير الوجود، وخيرَ الوجود كُلاًّ من ثورية الحياة. وإن في آياته هذه لدليلاً كريماً على صحة ما نقول فليس فيها ما يحتاج إلى شرحٍ أو تعليق. وإليك نموذجاً عنها: (العاقلُ مَن كان يومه خيراً من أمسه) و(مَن كان غده شرّاً من يومه فهو محروم) و(مَن اعتدل يوماه فهو مغبون).
....................................
الهوامش:
1 - من أعمالهم مشفقون: خائفون من التقصير فيها.
2 - مكيافيللي: نابغة إيطالي عاش في عصر الرسام العظيم رافاييل، وكان صديقاً له ومعيناً. وقد دفعه عقله الفذّ وخلقه الكريم إلى مهاجمة أساليب الظلم والبربرية عند حكام التاريخ، فألف كتابه الشهير (الأمير) الذي يصف فيه وقاحة أولئك الحكام، وشخصياتهم المبتذلة، بطريقة غير مباشرة إذ دفع إلى الناس صورة عن شخصية الأمير الذي يخلو من كل ضمير وكل عقل وكل ذوق ويلجأ لشتى وسائل العنف في التقتيل والترويع والتشريد وسائر الفظائع تثبيتاً لمركزه.. مشيراً إلى أن إمارات التاريخ والعصر الذي هم فيه إنما (تركزت) على هذا الأسلوب السمج. وقد أخذ مكيافيلي صفات (الأمير) في كتابه هذا من شخصية قيصر بورجيا ابن اسكندر بورجيا، صاحب المظالم المعروفة. ويطلق على المبدأ القائل باللجوء إلى هذا الأسلوب توسّلاً إلى الحكم ثم إلى تركيزه، اسم المكيافيلية، نسبة لمكيافيللي صاحب الكتاب.
[align=left]جورج جرداق[/align]
-
[align=center]
مشكلة الفقر والغنى في نظر الإمام علي (عليه السلام)[/align]
إن الفقر الذي هو عجز إنسان أو جماعة من الناس في المجتمع عن وجدان ما يوفر مستوى الكفاية في العيش - إن الفقر بهذا المعنى ظاهرة حار بها الإسلام في تشريعه ووصاياه كما سنرى ذلك فيما يأتي من أبحاث - واعتبرها شراً إنسانياً باعتباره يسبب حرمان الإنسان من أحد حقوقه الذي هو الكفاية في العيش، وشراً اجتماعياً باعتباره يعوق المجتمع عن التقدم المادي والمعنوي، واعتبر الإسلام أن المجتمع الأمثل الذي يسعى إلى تكوينه هو المجتمع الذي لا فقر فيه ولا فقراء.
ومن هنا فإننا حين نستعمل كلمة (طبقات) في سياق الحديث عن الإسلام فإنما نقصد بذلك الفئات الاجتماعية، وليس الطبقات بالمعنى الذي شاع استعماله في الأدب السياسي في العصر الحاضر، وإنما حرصنا على استعمال كلمة طبقات لأنها وردت في كلام الإمام علي بمعنى فئات اجتماعية، ولم تكن في ذلك الحين قد تضمنت معناها الذي تعنيه الآن.
***
لقد اعترف الإسلام كما اعترف الإمام بالطبقات الاجتماعية (الفئات) القائمة على أساس اقتصادي أو مهني أو عليهما معاً، وذلك لأن وجود هذه الطبقات (الفئات) ضرورة لا غنى عنها ولا مفر منها في المجتمع، فلابد أن يوجد تصنيف مهني يقوم بسدّ حاجات المجتمع المتجددة، ولابد أن يوجد أناس لديهم مال كثير وآخرون لا يملكون من المال إلاّ قليلاً لأن التحكم التام في توزيع الثروات على نحو متساوٍ أمر مستحيل إطلاقاً. وإذا اختلفت المهن وتفاوتت الثروات فلابد أن يختلف مستوى المعيشة ويتفاوت طراز الحياة المادي والنفسي وحينئذ توجد الطبقات.
وقد رأينا أن التفاوت الطبقي يصير منبعاً للصراع الطبقي إذا جعل الاقتصاد مثلاً أعلى للحياة. وإذن، فالتفاوت الطبقي الناشئ عن التفاوت الاقتصادي خطر بقدر ما هو ضروري، وإذا لم يوضع للمجتمع نظام يذهب بالخطر من هذا التفاوت ويستبقي جانب الخير فيه فإنه خليق بأن يسبب للمجتمع بلبلة تقوده إلى الدمار.
وهنا تتجلى عبقرية الإسلام وعبقرية الإمام.
فقد تدارك الإسلام هذه الثغرة فسدها بنظام من القوانين عظيم، وجاء الإمام فوضع قيوداً أخرى تحول بين التفاوت في مستوى الدخل وبين أن يخلّف في المجتمع عقابيله الضارة، وآثاره الوبيلة.
وعند الحديث عن التدابير الحكيمة التي وضعها الإسلام لوقاية المجتمع من شرور التفاوت في المستوى الاقتصادي يجيء الحديث عن المثل الأعلى للحياة في للإمام قبل كل حديث.
وحديثنا عن المثل الأعلى للحياة في الإسلام يسوقنا إلى الحديث عن المثل الأعلى للحياة عند الإمام. وما نهج البلاغة إلا انعكاس الإسلام في نفس الإمام. ومن هنا كان الحديث عن أحدهما يلزمه الحديث عن الآخر كما تستهدى العين بخيوط الشعاع على مركز الإشراق.
***
إن المثل الأعلى للحياة في الإسلام وعند الإمام هو التقوى. فقلّ أن ترد سورة في القرآن لم يرد فيها الأمر بالتقوى، تقوى الله. وقل أن ترد خطبة أو كلام في نهج البلاغة لم يرد فيه الأمر بالتقوى، تقوى الله. فالقرآن أمر بالتقوى، وفصلها، ومدح المتقين، والإمام أمر بالتقوى، ووصفها، ومدح المتقين.
قال (عليه السلام):
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم، وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله، فإن التقوى في اليوم الحرز والجُّنَّة (1) وفي غد الطريق إلى الجنة. مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ، لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين والغابرين، لحاجتهم إليها غداً.. فاهطعوا بأسماعكم إليها، وكظوا بجدكم عليها، واعتاضوها من كل سلف خلفاً) (2).
وقال (عليه السلام):
(أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله.. فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواء ظلمتكم.. فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعدد، نوها، واحلوّت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وسهلت له الصعاب بعد إنصابها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدّبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه الكرامة بعد إرذاذها) (3).
وقال (عليه السلام):
(.. فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب) (4).
ولكن ما هي التقوى؟
إن الإمام (عليه السلام) يتعرض لوصف التقوى من داخل إذا صح التعبير. انه اكتفى - على كثرة ما قاله فيها - بوصفها من خارج : ميزاتها، وفضلها، وثمرتها، وأصحابها، أما هي بذاتها: مقوماتها، طبيعتها، فأمر لم يتعرض له الإمام (عليه السلام) وإنما تعرض له القرآن.
ولعل الإمام ترك الكلام في هذه الجهة اعتماداً على ما جاء في القرآن، واعتماداً على أن المسلمين إذ ذاك كانوا ولا شك يعون ما هي التقوى، فاكتفى بتشويقهم إلى الأخذ بها والاعتصام بحبلها. أو أن الإمام قد تكلم في هذا الموضوع وأعطاه حقه من البيان ولكن الشريف (رحمه الله) لم يقع على شيء منه، أو وقع عليه ولم يكن بين ما اختاره. وعلى أي حال ففيما قدمه لنا القرآن غنى وكفاية.
قال الله تعالى:
(..ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (5).
وقال تعالى:
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (6).
وقال تعالى:
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَماوَات وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (7).
وقال الله تعالى:
(وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (8).
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: جماع التقوى في قوله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (9).
من هذه النصوص الإلهية، وغيرها أكثر منها، نعرف طبيعة التقوى: إنها الفضيلة في أرفع معانيها وأجلّ صورها.
إنها الإيمان بالله في أطهر حالاته وأسمى معانيه.
وبذل المال لمن أعوزه المال... ولكن كيف..؟ إنها بذل المال على حبه.. حب الله تعالى، فلا امتنان على المعطى ولا إفضال، ومتى؟ إنها بذله في السراء والضراء.
وهي الصبر في جميع المواطن وفي جميع الأحوال. وهي كظم الغيظ، وهي العفو عن الناس، وهي العدل فيهم والإحسان إليهم إلى غير ذلك من حميد الأخلاق وجميل الخصال.
هذه هي التقوى. فإذا حققت التقوى في نفسك: وعيت وجود الله وأمره ونهيه في كل ما تلمُّ به من فعل أو قول، وتحريت الفضيلة أنى كانت فأخذت بها وأخضعت نفسك لها، وجعلت من نفسك وجميع إمكاناتك خلية إنسانية حية، تعمل بحرارة وإخلاص على رفع مستوى الكيان الاجتماعي الذي تضطرب فيه، وصدرت في ذلك كله عن إرادة الله المتجلية فيما شرع من أحكام، تكون قد حققت في نفسك المثل الأعلى الذي نصبه الإسلام.
فالمال لا يكسب قيمة إلاّ إذا بذل حيث أجاز الله أن يبذل، وإلا إذا اتخذ وسيلة إلى رضوان الله. أما أولئك الذين لا يبذلون أموالهم فلا جدوى منهم للجماعة، ولذلك فلا مزية لهم على غيرهم من الناس الذين لا مال لهم.
والسلالة لا قيمة لها حين لا يكون صاحبها متقياً لله.
والقوة لا قيمة لها حين لا يستخدمها صاحبها في مرضاة الله.
والسلطان لا يكسب صاحبة قيمة إلا إذا كان ذا تقوى.
هناك أغنياء وفقراء، وحاكمون ومحكومون، وأقوياء وضعفاء، وأناس تحدروا من سلالات لها ماض عريق وآخرون ليس لهم ماض مذكور، ولكن كل هذا لا يرفع من صاحبه ولا يضع إلا إذا اقترن بالتقوى أو عري عنها. وتعاليم الإسلام صريحة في ذلك لا لبس فيها ولا غموض، فهي تنص على أن القطب الذي يدور عليه التفاضل ليس شيئاً غير التقوى.
قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (10).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى).
وقال الإمام (عليه السلام): (لا تضعوا من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا) (11).
وإذن، فالقيم الاجتماعية تتفرع عن هذا الأصل، وتنبثق من هذا الينبوع.
وهكذا تكون الرغبة في الخير، ورضوان الله، ومساعدة الضعفاء، وتكريس المواهب في سبيل الجماعة تقرباً إلى الله، هي رائد كل إنسان وعى مبادئ الإسلام. وهكذا يكون المجتمع متحاباً متراحماً متآزراً متعاوناً على البر والتقوى، بدل أن يكون في صراع يؤدي به إلى التفسخ والانحلال.
هذا هو المثل الأعلى للحياة في الإسلام وعند الإمام.
***
ولكن الإسلام حين جعل الفضيلة مصدر القيمة الاجتماعية، وأراد أتباعه أن يحملوا أنفسهم على هذا المركب، صوناً للمجتمع من أخطار التفاوت الطبقي لم يغفل أمر الواقع النفسي والشعوري للإنسان.
فإن القوي الغني يتغنى بالفضيلة في كل آن، ولكنه عندما تستيقظ فيه نوازع العدوان يمضي في سبيل الشر دون أن يصغي إلى نداء فضيلة أو تقريع ضمير. وعندئذٍ تغدو الفضيلة ضلالاً أثر له في صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي.
لذلك لم يكل أمر تحقيق القيمة العليا إلى الإنسان وحده، وإنما جعل لها سنداً من القانون، ليكون لها من القوة ما يجعل الأغنياء الأقوياء، وغير الأغنياء على التمسك بها. وكان من ذلك أن ساوى بين جميع الطبقات في الحقوق والواجبات، فالجميع سواء أمام الله، والجميع سواء أمام القانون، وجريمة الغني هي جريمة الفقير، وجريمة الرفيع هي جريمة الصعلوك، لا يمتهن هؤلاء لضعفهم ولا يحابى أولئك لشرفهم.
وبهذا حال بين الطبقات العليا وبين أن تطغى وتعتز، لأنه أثبت لها أن الغنى والسلالة والماضي العريق لن تجدي شيئاً أمام القانون. وحال بين الطبقات السفلى وبين أن تشعر بالحيف والضعة والاستغلال، لأنه أثبت لها أن عدم الغنى وأن ضعة النسب لا تجعل من القانون لها عدواً، وإنما هي أدعى لأن تجعله أرفق بها، وأحنى عليها، وأرعى لشؤونها في السراء والضراء.
***
وحين تحتد الفروق الاقتصادية، فتتسع وتعمق، تغيض منابع الفضيلة من المجتمع وتسوده نوازع الحيوان.
فأنت لا تستطيع أن تطلب من جائع لا يجد القوت أن يصير فاضلاً، لأن الحرمان لا يدفع إلى الفضيلة وإنما يخلق تصورات الحرمان التي تدفع إلى التمرد والإجرام حين لا يجد المحروم اليد البارّة الوصول.
إن الجائع الذي لا يجد ما يسد جوعته وإن خشن وهان، والعاري الذي يجد للريح مثل لسع السياط، وللشمس مثل مس الحميم، والمريض الذي لا يجد ثمن الدواء ولا الخلاص من اللأواء - هؤلاء لا يستطيعون أن يتغنوا بالفضيلة حين يرون الغني الكاسي الصحيح الذي لا يعرف معنى للجوع، فالفضيلة ليست طعاماً ولا كساء ولا دواء، إن هؤلاء ينقلبون إلى قتلة ومجرمين ولصوص حين لا يجدون ما يسدون به حاجاتهم الأولية من طريق مشروع.
وهكذا يظهر إلى العيان الصراع الطبقي بالرغم من أن المثل الأعلى هو الفضيلة ومكارم الأخلاق.
وعى الإسلام هذا الواقع فلم يكل أمر صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي إلى المثل الأعلى وحده، وإنما أولى الاقتصاد ما له من الأهمية في أمر الصيانة والعلاج.
فشرع الله تعالى أحكاماً تحول دون تكوُّن الثروات بطريق غير عادل وغير مشروع وتحول بين أصحاب الثروات بعد أن تتكون لديهم الثروة بطريق مشروع وبين أن يستخدموها في استغلال الآخرين.
وشرع نظاماً للضرائب (الزكاة، الخمس) والمواريث يفتت هذه الثروات تدريجياً، ويحول بينها وبين التراكم والتعاظم، وأعطى للحاكم حق وضع اليد على ما تقضي به المصلحة العامة من أموال الأغنياء إذا قضت بذلك حاجة طارئة تعجز عن الوفاء بها المصادر التقليدية لتمويل النفقات العامة.
وشرع نظاماً للأموال العامة يغذّى من الضرائب ومصادر الثروة العامة، يضمن مستوى الكفاية في العيش لجميع الناس. وبذلك يحول بين المجتمع الإسلامي وبين أن توجد فيه ظاهرة الفقر بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي المعروف، وإن كان هذا لا يعني أن يتساوى الناس في دخلهم وفيما يملكون، لأن هذا أمر مستحيل في أي مجتمع يتخيله الإنسان على الإطلاق. ويدخل في باب الأحلام والتصورات الطوباوية التي تاباها واقعية الإسلام.
وبذلك يشعر الفقراء أنهم ليسوا مهملين: لا عين ترعاهم، ولا يد تمسح جراحهم، وتقيلهم عثرات الزمان.. بل يشعرون أنهم ملء سمع المجتمع وبصره، فتختفي دوافع الإجرام من أنفسهم، وحينذاك يقول لهم الإسلام: إن المثل الأعلى هو الفضيلة، ويطلب إليهم أن يكونوا فضلاء... وأن يجعلوا الأرض أختاً للسماء.
***
فقد وعى الإمام أن الإنسان الجائع، المستغل، المحروم، المصفد بالأغلال لا يستطيع أن يكون فاضلاً، وأن من اللغو أن يوعظ بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وإن إنساناً كهذا ينقلب كافراً: كافراً بالقيم، والفضائل والإنسان.
إن معدته الخاوية، وجسده المعذّب، ومجتمعه الكافر بإنسانيته، المتنكر له، وشعوره بالاستغلال، وميسم الضعة الذي يلاحقه أنى كان - هذه كلها تجعله لصاً، وسفاحاً، وعدواً للإنسانية التي لم تعترف له بحقه في الحياة الكريمة.
ووعى أن المجتمع القائم على سيادة فريق وعبودية فريق، وعلى استغلال الأسياد للعبيد، والأحرار للمصفدين بالأغلال، مجتمع لا يمكن أن توجد فيه فضيلة ولا يمكن أن يوجد فيه فضلاء. إنه ليس إلا مجتمع لصوص ومجرمين وعبيد، تسيّر أفراده الأحقاد والمكر والاستغلال، وما كانت اللصوصية والعبودية وما إليها يوماً فضائل تشرف الإنسان.
على أساس من هذا الوعي جعل الإسلام الإصلاح الاقتصادي أساساً للإصلاح الاجتماعي.
ولقد كان من الطبيعي جداً - حتى عند المفكرين والمصلحين - في عصر الإمام وقبله أن يوجد أناس جائعون فقراء، وأن يوجد أغنياء يحارون كيف ينفقون أموالهم، فلم يكن الفقر بذاته والغنى بذاته مشكلة اجتماعية تطلب حلاً، لأنها في نظرهم أمر طبيعي لا محيد عنه. إنما المشكلة هي: كيف السبيل إلى إسكات الفقراء وحماية الأغنياء؟ فكان الإمام - بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو أول من كشف أن الفقر والغنى مشكلة اجتماعية خطيرة، ونظر إليها على أساس أفاعيلها الاجتماعية.
إن فلسفة الفقر عنده تجتمع في هاتين الكلمتين:
(إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما متع به غني) (12).
و (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع).
ومن هنا أصبح من أبرز المشاكل التي حفل بها منهجه الإصلاحي يوم وليَ الحكم، مشكلة الفقر والغنى.
ولقد كان مجتمعه إذ ذاك يعاني جراحاً عميقة بسبب هذه المشكلة، فقد وليَ الإمام الحكم والتفاوت الطبقي في المجتمع الإسلامي على أشد ما يكون عمقاً واتساعاً.
ففي العهد السابق على ولاية الإمام (عليه السلام) للحكم كانت الطريقة المتبعة في التقدير وإظهار الكرامة هي التفضيل في العطاء. وقد اتبعت هذه الطريقة في بعض الحالات بصورة خارجة عن حدود المعقول والمقبول، ففُضِّلَ من لا سابقة له في الدين ولا قِدم له في الإسلام على ذوي السوابق والأقدار.
وقد أوجد هذا اللون من السياسة المالية طبقة من الأشراف لا تستمد قيمتها من المثل الأعلى للإسلام، وإنما تستمدها من السلالة والغنى والامتيازات التي أسبغها عليها الحكم القائم، وطبقة الشعب التي ليس لديها مال، ولا امتيازات، ولا ماض عريق، وكان من عقابيل ذلك أن أحس الفقراء الضعفاء بالدونية واستشعر الأشراف الاستعلاء، وحرم الفقراء المال الذي تدفق إلى جيوب الأغنياء.
فلما ولي الإمام الحكم ألفى بين يديه هذا الإرث المخيف الذي يهدد باستئصال ما غرسه النبي في نفوس المسلمين.
وقد عالج هذا الواقع الذي سبق إليه بالتسوية بين الناس في العطاء، فالشريف والوضيع، والكبير والصغير، والعربي والعجمي، كلهم في العطاء سواء. فلم يجعل العطاء مظهراً للتفاضل بين الأفراد والأفراد والطبقات والطبقات. وبهذا أظهر للناس أن القيمة ليست بالمال، وحال بين الفقراء والضعفاء وبين الشعور بالدونية، وبين الأشراف والأقوياء وبين أن يشعروا بالاستعلاء. وأهاب بالناس أن يثوبوا إلى الله فيجعلوا التقوى مناط التفاضل ومقياس التقويم.
وقد ثارت الطبقة الأرستقراطية لسياسة المساواة المالية التي قام بها الإمام فأشاروا عليه أن يصطنع الرجال بالأموال، فقال:
(أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمِّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله. ألا وأن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف..) (13).
ولم يكن هذا كل ما ينتظر الطبقة الأرستقراطية على يديه يوم أمسك بالزمام، لقد كانت أموال الأمة تتدفق - تحت عينيه - قبل أن يتولى الحكم إلى جيوب فريق من الناس، فأخذ على نفسه عهداً بمصادرتها، بردها إلى أهلها، وكان أن أعلن للناس يوم ولي الحكم مبدأ من جملة المبادئ التي أعدها لمحاربة الفقر الكافر في مجتمعه الموشك على الانهيار، فقال:
(ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال. فإن الحق لا يبطله شيء. ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفرق في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق) (14).
وكم كان يقض مضجعه عدم التوازن في توزيع الثروات في زمانه (عليه السلام)، فتراه يصرخ أكثر من مرة، من على منبر الكوفة، بمثل هذا القول:
(.. وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، والشر فيه إلاّ إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً.. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً؟ أو غنياً بدل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً؟ أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرأ، أين خياركم وصلحاؤكم، وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم، والمتنزهون في مذاهبهم؟) (15).
ولا يعالج الفقر عند الإمام بالمواعظ والخطب، وإنما يعالج بحماية مال الأمة من اللصوص والمستغلين، ثم بصرفه في موارده.
وبهذا عالجه الإمام، فكان عيناً لا تنام عن مراقبة ولاته على الأمصار، وعن التعرف على أموال الأمة وطرق جبايتها وتوزيعها.
وكم من وال عزل وحوسب حساباً عسيراً لأنه خان أو ظلم أو استغل.
وكم من كتاب كتبه (عليه السلام) إلى ولاته يأمرهم أن يلزموا جادة العدل فيمن ولوا عليهم من الناس (16).
وبينما هو يأمرهم بهذا يضع عليهم العيون والرقباء ليرى مدى طاعتهم وتنفيذهم لأوامره.
لقد كان (عليه السلام)، بهذا، أول من اخترع نظام التفتيش.
ولقد كان يكتب إلى ولاته: (إن أعظم الخيانة خيانة الأمة) (17). وليس الولاة أعضاء في شركة مساهمة هدفها أن تستغل الأمة وإنما هم كما كان يكتب إليهم (خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة) (18).
وكون الأموال العامة هي أموال الأمة مفهوم لم يأخذ صيغته الحقة إلا على لسان الإمام (عليه السلام) وفي أعماله. لقد جاءه أخوه عقيل يطلب زيادة عن حقه فرده محتجاً بأن المال ليس له وإنما هو مال الأمة (19)، وجاءه ثان يطلب إليه أن يعطيه مالاً، بما بينهما من رابطة الحب فرده قائلاً: (إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو فيء للمسلمين) (20).
* * *
بهذا كله لم يكفل الإسلام ولا الإمام أمر التزام الفضيلة في السلوك إلى الضمير وحده وإنما جعلا لها سنداً من القانون يكفل لها أن تصير واقعاً اجتماعياً تنبني عليه العلاقات الاجتماعية والسلوك الإنساني. ولكنهما لم يجعلا القانون كل شيء في حياة الإنسان لئلا يكون آلة مسيَّرة لا تملك اختيار ما تريد، وإنما أناطا جانباً من سلوكه بملزمات الضمير بعد أن أيقظا هذا الضمير. ولم يكلا أمر صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي إلى الفضيلة وحدها، لأنها لا تسد حاجات الإنسان التي لا يقوى بدونها على التزام الفضيلة ومكارم الأخلاق، وإنما أناطا جانباً من مهمة الصيانة بالاقتصاد لأنه هو الذي يسد حاجات الإنسان.
وهكذا، بين الضمير اليقظ والقانون الواعي لحاجات الفرد والمجتمع ينمو الإنسان المسلم، ويأخذ سبيله إلى الكمال النسبي الذي يتاح للإنسان.
.......................................
الهوامش:
1- الجنة: الدرع الواقية.
2- نهج البلاغة - رقم الخطبة : 186.
3- المصدر السابق - رقم الخطبة : 193.
4- المصدر السابق: رقم الخطبة : 225.
5- سورة البقرة: 2-5.
6- سورة البقرة: 177.
7- سورة آل عمران: 133 - 134.
8- سورة المائدة: 8.
9- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج 1 ص 37. سورة النحل: 90.
10- سورة الحجرات: 13.
11- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 189.
12- نهج البلاغة - باب المختار من حكم أمير المؤمنين - رقم: 328.
13- نهج البلاغة - رقم النص: ص 124.
14- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 15، وهذا الكلام جزء من خطبة خطبها في اليوم الثاني من بيعة الناس له بالخلافة، ولم يذكر الرضي (رحمه الله) النص بكامله.
15- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 127.
16- نهج البلاغة - راجع مثلاً كتابه على الأشعث بن قيس عامل آذربيجان، رقم النص: 5، وكتابه إلى زياد بن سمية وهو متول على البصرة، رقم النص: 20 - 21، وكتابه إلى بعض عماله، رقم النص: 46، وغير ذلك كثير نجده في باب المختار من كتب أمير المؤمنين في القسم الأخير من نهج البلاغة.
17- نهج البلاغة - من عهد له إلى بعض عماله على الخراج، رقم النص: 26.
18- نهج البلاغة - من كتاب له إلى عماله على الخراج، رقم النص: 26.
19- نهج البلاغة - رقم النص: 222.
20- نهج البلاغة - من كلام له مع عبد الله بن زمعة، رقم النص: 230.
-
[align=center] التنبؤ بالمستقبل عند الإمام[/align]
قد دلت الأبحاث الحديثة كما عرفت على أن كل إنسان يملك مقداراً من هذه القوة الخارقة التي تكشف له عما خبأته أحشاء المستقبل، ولكن الناس إذا تساووا في نوع هذه القوة فإنهم يختلفون في مقدارها.
فقد ثبت أن هذه الحاسة توجد عند بعض الناس بقوة تثير الدهشة، بينما توجد في بعض آخر على حال من الضعف والوهن لا تكاد تبين معه، فما السبب في هذا التفاوت؟
لقد تبين للباحثين أن قوة هذه الحاسة تتناسب تناسباً طردياً مع درجة الصفاء الروحي والنقاء الداخلي التي يتمتع بها الشخص، فكلما كان الإنسان صافي النفس، نقي الضمير، منعتقاً من أسر التقاليد الاجتماعية الضارة، متفلتاً من قيد الضرورة وما إليها، خالي النفس من العقد والأحقاد والمطامع، كانت هذه الحاسة فيه قوية بالغة القوة، وكلما كان الإنسان مشوش النفس موزع الضمير مستغرقاً في حواسه، أسيراً لضرورات جسده وشهواته، غارقاً في مجتمعه، كانت هذه الحاسة فيه ضامرة لا تكاد تبين (1).
فهذه الحاسة لا تنشط إلا في ساعات الصفاء العقلي والروحي والوجداني، فعند ذلك تبلغ أقصى قوتها.
فإذا شئنا أن نبحث عن هذه الظاهرة في حياة الإمام (عليه السلام) طالعتنا فيه على أتم وأكمل ما تكون، فلقد بلغ من الصفاء الروحي حداً لم يدانِه فيه إنسان على الإطلاق ولم يَزدْ عليه فيه إلا النبي (صلّى الله عليه وآله).
وتاريخ حياته (عليه السلام) سلسلة ذهبية من هذه الظواهر الرائعة الفاتنة.
وإذا صحّ أن تجرداً وصفاءً وقتيين يقوم بهما إنسان عادي يتيحان له إطلاق قواه الخارقة، فما قولك فيمن كانت حياته كلها تجرداً روحياً وصفاء لا يعدله في بني الإنسان صفاء؟
إن هذه الظاهرة التي تبدو لأعيننا في تاريخ حياته لتدلّ على أنه كان يدخل في وسعه أن يُطلق قواه الخارقة متى أراد، وإن يعي ما غاب عنه في أحشاء الزمان وطوايا المكان متى شاء.
ويصدق قولنا هذا ما أثبته المؤرخون وتسالموا عليه من إخباراته بالمغيّبات وصدق ما أخبر به ووقوعه بعده بأزمان.
لم يعن الشريف رحمه الله، حين آلى على نفسه أن يجمع كلامه (عليه السلام)، بهذه الناحية عناية تستحق الذكر، فما في نهج البلاغة من إخباراته بالمغيبات لا يبلغ عشر ما نسب إليه وصح عنه.
وهذه الطائفة التي ذكرها الشريف من إخباراته تجيء على أقسام:
1- غرق البصرة.
2- تسلط الظالمين على الكوفة.
3- تغلب معاوية على الخلافة.
4- مصير الخوارج ونهاية أمرهم.
5- مروان وخلافته.
6- حرب الزنج.
7- ولاية الحجاج.
8- الأتراك.
9- بنو أمية: ظلمهم ونهايتهم.
10- خروج المهدي عجل الله فرجه.
11- فتن تشمل الدنيا وتهلك الحرث والنسل.
في هذه العناوين ينحصر ما ذكره الشريف في نهج البلاغة من الأخبار بالمغيبات، وسنتكلم في كل واحد من أولئك على حدة. ذاكرين بعد ذلك ما أهمله الشريف ولم يعن به.
لقد تحدث الإمام (عليه السلام) عن علمه بالمغيبات في مناسبات كثيرة منها قوله:
(.. فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها (2) وقائدها، وسائقها، ومُنَاخ (3) ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني، ونزلت بكم كرائه الأمور (4) وحوازب الخطوب (5)، لأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين) (6).
وقد ذكر (عليه السلام) أنه استقى علمه هذا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد أتى في كلام له بعد أن هزم أصحاب الجمل في البصرة، على ذكر بعض ما يلمّ بالبصرة من الخطوب، فذكر فتنة الزنج وذكر التتر، فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك الإمام وقال للرجل:
(ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ..) (7) فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله لنبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم (8) عليه جوانحي) (9).
وقال مخاطباً أصحابه في موقف آخر:
(والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه (10) وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ألا وإني مفضيه (11) إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه. والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما أنطق إلا صادقاً، وقد عهد إليّ بذلك كله، وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمر على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ) (12).
وقال:
(أيها الناس لا يجرمنكم شقاقي (13) ولا يستهوينكم (14) عصياني، ولا تتراموا بالأبصار (15) عندما تسمعونه مني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة (16)، إن الذي أنبأكم به عن النبي الأمي (صلّى الله عليه وآله)، ما كذب المبلغ ولا جهل السامع) (17).
في هذه النصوص يصرح الإمام (عليه السلام) بأن علمه بالمغيبات جاءه عن طريق رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
والذي يستوقفنا في هذا هو أننا لا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى إلى الإمام بكل حادثة من الحوادث المقبلة على نحو التفصيل، لأن الظرف الزماني الذي جمع بين النبي والإمام لا يسع شيئاً مثل هذا حتى لو فرضنا أن الإمام قد اختص بأوقات فراغ النبي كلها، فهو (عليه السلام) يقول:
(فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلا أنبأتكم بناعقها..) (18).
ويقول:
(سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض..) (19).
ويقول:
(.. والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت... وقد عهد إليّ بذلك كله وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمرُّ على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ) (20).
فهذا علم واسع بالغ السعة متراحب الآفاق، ومهما يكن الظرف الزماني الذي قضاه الإمام مع النبي طويلاً، ومهما تكن الأوقات الخاصة التي يفرغ فيها النبي للإمام وحده طويلة وكثيرة، فإن ذلك كله لا يسع الإفضاء ببعض هذا العلم إلى الإمام على نحو التفصيل، بحيث يتناول التعليم الجزئيات الدقيقة، والتفصيلات الكثيرة، فضلاً عن أن يسع الإفضاء إليه بكل هذا العلم على هذا النحو من الإفضاء.
وإذ كانت الحال على هذا فلا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى إلى الإمام بكل حادثة من الحوادث المقبلة إلى قيام الساعة على نحو التفصيل، ولكن الإمام (عليه السلام) يصرح بما لا يدع مجالاً للشك بأنه قد استقى علمه هذا من النبي (صلّى الله عليه وآله)، فكيف السبيل إلى ملاءمة هذا الذي يقوله الإمام مع ما تبين لنا من عدم استيعاب الظرف الزماني للإفضاء بكل هذه العلوم؟
الذي أراه هو أن النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يُفضِ إلى الإمام بالمغيبات على نحو التفصيل الذي يلمّ بجميع الجزئيات، فقد رأينا أن العقل يحيل ذلك لأن الزمان مهما يطلْ لا يتسع له. وإنما أفضى إليه بهذه المغيبات على نحو الإجمال لا التفصيل.
فقد رأينا أن نشاط هذه القوى الخفية المودعة في الإنسان والتي تَصِله بالمجهول المحجوب في أحشاء الزمان أو ثنايا المكان يتوقف على الحالة العقلية والروحية والوجدانية التي يكون عليها الإنسان، فكلما كان الإنسان على حال رفيعة من الصفاء العقلي والطهارة الروحية والنقاء الوجداني كانت هذه القوى أنشط وأبلغ في النفوذ إلى المغيب المحجوب، والذي نراه بالنسبة إلى الإمام (عليه السلام) هو أن النبي قد أخبره بالمغيبات على نحو الإجمال ثم هداه إلى أقوم السبل التي تؤدي به إلى أرفع درجات هذه الحالة الروحية التي تتيح لقواه الخفية أن تعمل عملها الخارق فيعي بسببها تفصيل ما أجمله له رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وبهذا التفسير وحده نستطيع أن نلائم بين علم الإمام الواسع بالمغيبات الذي يسنده إلى الرسول وبين الظرف الزماني الضيق نسبياً الذي جمع بينه وبين الرسول، وليس هذا التفسير اعتباطياً فلدينا عليه شاهد مقبول.
وهذا الشاهد الذي نعني هو أن النبي (صلّى الله عليه وآله) خلى بالإمام فأدخل في ثوبه وناجاه في اللحظات القليلة الأخيرة التي قبض بعدها، فلما فرغ من نجواه خرج الإمام من عنده فسأله الناس عما أفضى به إليه فقال: (علمني ألف باب ينفتح لي من كل باب ألف باب).
فمهما كانت اللحظات التي خلا بها النبي مع الإمام كثيرة لا نستطيع أن نتصور كيف أفضى إليه فيها بألف باب من العلم على نحو التفصيل، لأنها مهما طال مداها لا تتسع للإفضاء ببعض هذا العد الكبير، فلابدّ من القول بأنه أفضى إليه بهذه الألف باب على نحو الإجمال وذلك بإعطاء الضوابط الكبرى التي تشمل كثيراً من الأبواب.
ولعل قوله: (ينفتح لي من كل باب ألف باب) أبلغ دلالة على ما نقول من أنه علمه على نحو الإجمال لا على نحو التفصيل، وأنه اتكل في معرفة الجزئيات والتفاصيل إلى ما يتمتع به الإمام من مواهب تسعفه في معرفة ما غاب وتهديه إلى شريعة الصواب.
قلنا إن إخباراته التي ذكرها الشريف تجيء على أقسام، منها إخباره بما يلم بالبصرة من الخطوب.
فأخبر بعد فراغه من أصحاب الجمل، عن غرق البصرة كلها بقوله:
(.. وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة) (21).
وقد صدقت الحوادث هذه النبوءة، فقد ذكر ابن أبي الحديد أن البصرة غرقت مرتين: مرة في أيام القادر بالله (22)، ومرة في أيام القائم بأمر الله (23)، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزاً كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين.. وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها وهلك كثير من أهلها. وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم) (24).
وأخبر عن هلاك البصرة بالزنج، فقال مخاطباً الأحنف بن قيس بعد حرب الجمل:
(يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجَب (25) ولا قعقعة لجم (26) ولا حَمْحَمة خيل (27)، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام. ويل لسككِكم العامرة (28) والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور (29)، وخراطيم كخراطيم الفيلة (30)، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم ولا يفتقد غائبهم (31)، أنا كابّ الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها) (32).
هذه النبوءة صدقتها الحوادث، ففي سنة خمس وخمسين ومائتين ظهر المدعو علياً بن محمد بن عبد الرحيم وجمع الزنوج وخرج بهم على المهتدي العباسي (33)، واستشرى أمره، وكاد يبيد البصرة ويفني أهلها، واستمرت الحرب بينه وبين السلطة المركزية خمسة عشر عاماً، فقد قتل في سنة سبعين ومائتين، وقد كتب ابن أبي الحديد فصلاً كبيراً عن هذه النبوءة (34).
ولا يفوتنا التنبيه على تنبؤه (عليه السلام) في النص الآنف، بما ستكون عليه حال البصرة من الناحية العمرانية.
وأخبر عن هلاك البصرة بالتتر فقال:
(.. كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المَجانّ المطرّقة (35) ويلبسون السّرَقَ (36) والديباح، ويعتقبون الخيل العتاق (37) ويكون هناك استحرار (38) قتل حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور) (39).
هذه النبوءة تحققت بظهور التتار واكتساحهم لممالك حتى وصلوا إلى العراق فلقيت البصرة منهم أعظم البلاء وأشنعه، فقد تكدست الجثث في الشوارع والأزقة وحل بالناس منهم خوف عظيم. وقد وقعت هذه الأحداث في زمن ابن أبي الحديد فكتب عنها فصلاً كبيراً (40).
وقد تنبأ (عليه السلام) بما سيحلّ بالكوفة من الظالمين فقال:
(كأني بك يا كوفة تُمدّين مدّ الأديم العكاظي (41)، تُعركين بالنوازل (42) وتُركبين بالزلازل (43)، وإني لأعلم أنه ما أراد بك جبار سوءاً إلا ابتلاه الله بشاغل، ورماه بقاتل) (44).
وقد صدقت الحوادث نبوءته، فقد تعاقب على الكوفة سلسلة من ولاة الجور، وأعوان الظلمة، أذاقوها وساموها العذاب، فزياد ابن أبيه، وعبيد الله ابن زياد، والحجاج، ويوسف بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وخالد بن عبد الله القسري وأضرابهم... كلهم أقاموا الحكم في الكوفة على ركام من الجماجم وأنهار من الدماء (45).
وقد تنبّأ (عليه السلام) بتغلب معاوية على الخلافة وسيطرته على الكوفة وأنه سيأمر أهل الكوفة من الشيعة بسبّ الإمام والبراءة منه، فقال:
(أمّا أنه سيظهر (46) عليكم بعدي رجل رحب البلعوم (47)، مندحق البطن (48)، يكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه. ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة مني، أما السبّ فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرءوا مني (49)، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة) (50).
هذه النبوءة تحققت بتمامها، فقد غلب معاوية بعد صلح الحسن وأمر الناس بسبّ الإمام صلوات الله وسلامه عليه، والبراءة منه، وقتل طائفة من عظماء أصحابه (عليه السلام) لأنهم ثبتوا على ولائه فلم يتبرءوا منه، منهم حجر بن عدي الكندي وجماعته. وقال قوم إن المعنى بهذا الكلام زياد بن أبيه، وقال قوم إنه المغيرة بن شعبة، وكلٌّ ولِيَ الكوفة، وأمر بالسبّ والبراءة (51).
وتنبأ (عليه السلام) بما سيصير إليه أمر الخوارج من بعده فقال:
(.. أما إنكم ستلقون من بعدي ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً وأثَرَةً (52) يتخذها الظالمون فيكم سنة) (53).
وهكذا كان، فإن الخوارج، بعد العدل الذي لاقوه من حكومته والحرية التي تمتعوا بها، لم يعاملوا في جميع العهود التالية إلا بالاضطهاد والحرب والمطاردة.
وقال لما قتل الخوارج وقيل له: هلك القوم بأجمعهم:
(كلا والله، إنهم نُطَفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء (54)، كلما نَجمَ منهم قرن قطع (55) حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين) (56).
وقد صحّت نبوءته، فلم يمضِ زمن طويل حتى نجم أمرهم مرة أخرى واستمرت بينهم وبين السلطات المركزية المتعاقبة حروب طاحنة، وكانت نهايتهم أن صاروا قطّاع طرق ولصوصاً سلابين..
وقد تنبأ بعدد من يقتل من أصحابه وبقدر من يبقى من الخوارج قبل أن يشتبك معهم في النهروان، فقال:
(مصارعهم دون النطفة (57)، والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة) (58).
فلم يقتل من أصحاب الإمام إلا ثمانية، ولم ينج من الخوارج إلا تسعة (59).
وقد كثر كلامه عما سيحل بالناس من بني أمية وظلمهم، وكأنه يعد بذلك أنفس الناس لتلقي فادح الظلم.
وقد تنبأ بخلافة مروان بن الحكم وبما سيحل بالأمة منه ومن أولاده، وتنبأ عن نهاية بني أمية متى تحين.
قال متنبأ بمصير الخلافة إلى مروان:
(أما أن له إمرة كعلقة الكلب أنفه (60) وهو أبو الأكبش الأربعة (61)، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر) (62).
وقد تم كل ما قال، فقد كانت إمرة مروان قصيرة جداً إذ لم تزد على تسعة أشهر، وقد كان له من الأبناء أربعة هم: عبد الملك، وعبد العزيز، وبشر، ومحمد. ولي عبد الملك الخلافة، وولي محمد الجزيرة، وولي عبد العزيز مصر، وولي بشر العراق. وقد حل بالمسلمين منهم ظلم عظيم (63).
وقال في ظلم بني أمية:
(.. والله لا يزالون حتى لا يدعو الله محرماً إلا استحلوه (64)، ولا عقداً إلا حلوه، وحتى لا يبقى بيت مَدر ولا وَبَر (65) إلا دخله ظلمهم، ونبأ به سوء رعيهم (66)، وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه. وحتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه) (67).
ولا يجهل أحد مبلغ ما نزل بالناس من ظلم بني أمية وانتهاكهم للحرمات، واستهتارهم بالفضيلة حتى صار خلفاؤهم مثلاً في الظلم والفسق والتهتك (68).
وقد تحدث (عليه السلام) كثيراً عن نهاية بني أمية وأن الأمر سيصير إلى أعدائهم بعدهم في الوقت الذي يحسب الناس فيه أنهم مخلدون.
قال (عليه السلام):
(حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بني أمية (69)، تمنحهم درّها (70) وتوردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظانّ لذلك. بل هي مجّة (71) من لذيذ العيش يتطعمونها برهة ثم يلفظونها جملة) (72).
وقال:
(فأقسم بالله يا بني أمية عما قليل لتعرفنها في أيدي غيركم وفي دار عدوكم) (73).
هذه النبوءات بزوال ملك بني أمية على يد العباسيين، وما يصنعه العباسيون من القتل والتشريد قد تحققت بحذافيرها (74).
وقد تنبأ بولاية الحجاج وبما سيحل بالعراق من بلوائه فقال:
(أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيّال الميّال (75)، ويأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم، إيه أبا وَذحة) (76)، (77).
وقال فيما رواه ابن أبي الحديد من تتمة خطبة أخرى تنبأ فيها بولاية الحجاج بن يوسف الثقفي ويوسف بن عمرو الثقفي:
(..وستليكم من بعدي ولاة يعذبونكم بالسياط والحديد. وسيأتيكم غلام ثقيف: أخفش وجعبوب، يقتلان ويظلمان وقليل ما يمكثان).
قال ابن أبي الحديد:
(.. الأخفش الضعيف البصر خلقة، والجعبوب القصير الدميم، وهما الحجاج ويوسف بن عمرو وفي كتاب عبد الملك إلى الحجاج: قاتلك الله أخيفش العينين أصك الجاعرتين. ومن كلام الحسن البصري (رحمه الله) يذكر فيه الحجاج: أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان ما عرق فيها عنان في سبيل الله. وكان المثل يضرب بقصر يوسف بن عمرو كان يغضب إذا قيل له قصير) (78).
***
قلنا أن الشريف رحمه الله لم يذكر في نهج البلاغة كل ما صح عن أمير المؤمنين من إخباره بالمغيبات، ولكن ابن أبي الحديد قد سد هذا النقص حين أفاض في ذكر ما صح عنه (عليه السلام) في هذا الباب.
ومما يحسن ذكره هنا أن ابن أبي الحديد لم ينقل كلما وقع إليه من أخبار الإمام بالمغيبات، بل حقق فيما وقع إليه من ذلك فطرح المشتبه أمره، وذكر ما صح عنه (عليه السلام).
قال ابن أبي الحديد:
(.. وقد وقفت له على خطب مختلفة فيها ذكر الملاحم (79) فوجدتها تشتمل على ما يجوز أن ينسب إليه وما لا يجوز أن ينسب إليه، ووجدت في كثير منها اختلالاً ظاهراً. وهذه المواضع التي أنقلها ليست من تلك الخطب المضطربة بل من كلام وجدته متفرقاً في كتب مختلفة) (80).
وعلل ابن أبي الحديد هذه الظاهرة الفذة في الإمام بقوله:
(واعلم أنه غير مستحيل أن تكون بعض الأنفس مختصة بخاصية تدرك بها المغيبات، وقد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه الكفاية (81)، ولكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كل المغيبات، لأن القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية، وكل قوة في نفس حادثة فهي متناهية. فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا على أن يريد به عموم العالمية، بل يعلم أموراً محدودة من المغيبات، ممّا اقتضت حكمة الباري سبحانه أن يؤهله لعلمه..) (82).
ولابن أبي الحديد هذا نص طويل ذكر فيه طائفة كبيرة من إخبارات الإمام بالمغيبات، نذكره لطرافته، ولما له من الصلة ببحثنا هذا، على أن نتبعه بذكر ما أهمل ابن الحديد ذكره في هذا النص وذكره في مناسبات أخرى. قال:
(.. وهذه الدعوى ليست منه (عليه السلام) ادعاء الربوبية ولا ادعاء النبوة، ولكنه كان يقول أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخبره بذلك، ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة.
كإخباره عن الضربة التي يضرب في رأسه فتخضب لحيته).
وإخباره عن قتل الحسين ابنه (عليهما السلام)، وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها.
وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده.
وإخباره عن الحجاج وعن يوسف بن عمرو.
وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان.
وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم وصلب من يصلب.
وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص (عليه السلام) إلى البصرة لحرب أهلها.
وإخباره عن عبد الله بن الزبير وقوله فيه: (خب ضب، يروم أمراً ولا يدركه، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش).
وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة أخرى بالزنج...
وكإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان، وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون بـ(بني رزيق) وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم، وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية.
وكإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة وقوله إنه يقتل عند أحجار الزيت.
وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباخمرا: (يقتل بعد أن يظهر ويُقهَر بعد أن يَقهَر).
وقوله أيضاً: (يأتيه سهم غرب تكون فيه منيته، فيا بؤساً للرامي شُلّتْ يده ووهنَ عضده).
وكإخباره عن قتلى وجّ وقوله فيهم: (هم خير أهل الأرض).
وكإخباره عن المملكة العلوية بالمغرب، وتصريحه بذكر كتامة، وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم. وكقوله، وهو يشير إلى أبي عبد الله المهدي، وهو أولهم: (ثم يظهر صاحب القيروان الغض النض ذو النسب المحض المنتخب من سلالة ذي البداء المسجي بالرداء). وكان عبيد الله المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة، رخص البدن، تارّ الأطراف، وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد (عليهما السلام) وهو المسجي بالرداء لأن أباه أبا عبد الله جعفر أسجاه بردائه لما مات وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره.
وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم: (ويخرج من ديلمان بنو الصياد) إشارة إليهم، وكان أبوهم صياد السمك، يصيد منه بيده ما يتقوّت هو وعياله بثمنه، فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم. وكقوله (عليه السلام) فيهم: (ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء)، فقال له قائل: فكم مدتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: (مائة أو تزيد قليلاً). وكقوله فيهم: (والمترف بن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة) وهو إشارة إلى عزّ الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين، وكان معز الدولة أقطع اليد، قطعت يده في الحرب، وكان ابنه عزّ الدولة بختيار مترفاً صاحب لهو وطرب، وقتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمه بقصر الجص على دجلة في الحرب وسلبه ملكه. فأما خلعه للخلفاء، فإن معز الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتب عوضه القادر. وكانت مدة ملكهم كما أخبر به (عليه السلام).
وكإخباره (عليه السلام) لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده، فإن علي بن عبد الله لما ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى علي (عليه السلام)، فأخذه وتفل في فيه وحنّكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك.
وكم له من الأخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ممّا لو أردنا استقصاءه لكسرنا كراريس كثيرة، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة (83).
وقال:
(.. والمراد بقوله: فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض، ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور ولا سيما في الملاحم والدول، وقد صدّق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الأخبار بالغيوب المتكررة لا مرة ولا مائة مرة حتى زال الشك والريب في أنه إخبار عن علم وليس عن طريق الصدفة والاتفاق) (84).
ونأخذ الآن في ذكر ما أهمل ابن أبي الحديد ذكره في النص السابق وأتى على ذكره في مناسبات أخرى.
1- لما شجرهم (85) - الخوارج - علي (عليه السلام) بالرماح قال: (اطلبوا ذا الثدية) فطلبوه طلباً شديداً حتى وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى فأتي به وإذا رجل على ثديه مثل سبلات السنور، فكبّر علي (عليه السلام) وكبّر الناس معه (86).
2- قال (عليه السلام) لمن قال له: أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة الشعر، بعد كلام: (.. وإن في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)).
قال ابن أبي الحديد: وكان ابنه، قاتل الحسين (عليه السلام) طفلاً يحبو، وهو سنان بن أنس النخعي (87).
3- وخطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال: يا أمير المؤمنين، إني مررت بوادي القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له، فقال (عليه السلام): والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار، فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال: يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حمار وإني لك شيعة ومحب، فقال: انت حبيب بن حمار؟ قال: نعم، فقال له ثانية: والله إنك لحبيب بن حمار، فقال: إي والله، قال: أما والله إنك لحاملها ولتحملنها ولتدخلن بها من هذا الباب، وأشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة. قال ثابت - وهو راوي الحديث -: فوالله ما مات حتى رأيت ابن زياد وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي (عليهما السلام)، وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل (88).
4- كان جالساً في مسجد الكوفة وبين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي (عليه السلام): يا من قتل الرجال وسفك الدماء وأيتم الصبيان وأرمل النساء، فقال علي (عليه السلام): (وإنها لهي هذه السلقلقة الجلعة الجعة، وإنها لهي هذه الشبيهة بالرجال والنساء التي ما رأت دماً قط)، قال يزيد الأحمسي - وهو راوي الحديث -: فولت هاربة منكسة رأسها، فتبعها عمرو بن حريث، فلما صارت بالرحبة قال لها: والله لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا الرجل فادخلي منزلي حتى أهب لك وأكسوك، فلما دخلت منزله أمر الجواري بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها، فبكت وسألته أن لا يكشفها وقالت: أنا والله كما قال، لي ركب النساء وأنثيان كأنثيي الرجال، وما رأيت دماً قط، فتركها وأخرجها، ورجع إلى مجلسه مع الإمام (عليه السلام) فحدث بذلك (89).
5- قام أعشى باهلة وهو يومئذ غلام حدث إلى علي (عليه السلام)، وهو يخطب ويذكر الملاحم، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة.
فقال علي (عليه السلام):
(إن كنت آثماً فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف)، ثم سكت.
فقام رجال فقالوا: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟
قال: (غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك حرمة إلا انتهكها يضرب عنق هذا الغلام بسيفه).
فقالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟
قال: عشرين إن بلغها.
قالوا: فيقتل قتلاً أم يموت موتاً؟
قال: بل يموت حتف أنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه.
قال إسماعيل بن رجاء - وهو الراوي - فوالله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة وقد أحضر في جملة الأسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج فقرعه ووبخه واستنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس (90).
6- قال (عليه السلام) لعمرو بن الحمق الخزاعي في حديث:
(يا عمرو إنك لمقتول بعدي، وإن رأسك لمنقول، وهو أول رأس نقل في الإسلام، والويل لقاتلك، أما إنك لا تنزل بقوم إلا أسلموا برمتك، إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك).
قل شمير بن سدير الأزدي - وهو الراوي - فوالله ما مضت الأيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفاً مذعوراً حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه، فقتل، وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد (91).
7- دخل جويرية بن مسهر العبدي على علي (عليه السلام) يوماً وهو مضطجع وعنده قوم من أصحابه، فناداه جويرية:
أيها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب بها لحيتك.
قال حبة العرني - وهو الراوي - فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: (وأحدثك يا جويرية بأمرك، أما والذي نفسي بيده لتتلنّ إلى العتل الزنيم، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر).
قال حبة العرني: فوالله ما مضت الأيام على ذلك، حتى أخذ زياد جويرية فقطع يده ورجله وصلبه إلى جانب ابن مكعبر وكان جذعاً طويلاً فصلبه على جذع قصير إلى جانبه (92).
8- قال الإمام لميثم التمار يوماً بمحضر من خلق كثير من أصحابه وفيهم الشاك والمخلص:
(يا ميثم إنك تؤخذ بعدي وتُصلب، فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دماً حتى يخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثالث طُعنت بحربة تقضي عليك فانتظر ذلك، والموضع الذي تُصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث، إنك لعاشر عشرة أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، يعني الأرض، ولأرينك النخلة التي تُصلب على جذعها). ثم أراه إيّاه بعد ذلك بيومين.
وقد تحققت هذه النبوءة بحذافيرها كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في حديث طويل يضيق به المقام (93).
9- روى إبراهيم بن العباس النهدي في سند ينتهي إلى زياد بن النضر الحارثي أنه قال:
كنت عند زياد وقد أتي برشيد الهجري وكان من خواص أصحاب علي (عليه السلام)، فقال له زياد: ما قال لك خليلك إنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال زياد: أما والله لأكذبن حديثه، خلو سبيله، فلما أراد أن يخرج، قال: ردوه، لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال لك صاحبك، إنك لا تزال تبغي لنا سوءً إن بقيت، اقطعوا يديه ورجليه، فقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم. فقال: اصلبوه خنقاً في عقنه، فقال رشيد: قد بقي لكم عندي شيء ما أراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه، فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال: نفّسوا عني أتكلم كلمة واحدة، فنفسوا عنه فقال: هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين بقطع لساني، فقطعوا لسانه وصلبوه (94).
10- حدث سعد بن وهب، فقال في حديث:
فأتيته - يعني علياً (عليه السلام) - في كربلاء، فوجدته يشير بيده ويقول: هاهنا هاهنا فقال له رجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: (ثقل لآل محمد (صلّى الله عليه وآله) ينزل هاهنا، فويل لهم منكم وويل لكم منهم). فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: (ويل لهم منكم تقتلونهم وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار) (95).
11- ذكر ابن أبي الحديد تتمة خطبته في الملاحم تنبأ فيها الإمام بأن السلاح سيحمل على الظهر بقوله: (... وحتى يكون موضع سلاحكم على ظهوركم..) وكأنه يشير بذلك إلى البندقية وما إليها من الأسلحة الحديثة، وتنبأ فيها بولاية الحجاج ويوسف بن عمر (96).
12- قال ابن الحديد: .. ومن عجيب ما وقفت عليه من ذلك قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم وهو يشير إلى القرامطة: (ينتحلون لنا الحب والهوى ويضمرون لنا البغض والقلى، وآية ذلك قتلهم وراثنا وهجرهم أحداثنا).
قال ابن أبي الحديد: وصح ما أخبر به، لأن القرامطة قتلت من آل أبي طالب خلقاً كثيراً وأسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني. وفي هذه الخطبة قال، وهو يشير إلى السارية التي كان يستند إليها في مسجد الكوفة: (كأني بالحجر الأسود منصوباً هنا، ويحهم إن فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه وأُسه، يمكث هنا برهة، ثم هاهنا برهة - وأشار إلى البحرين - ثم يعود إلى مأواه وأم مثواه). ووقع الأمر في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به (97).
............................................
الهوامش:
1- الدكتور علي الوردي، خوارق اللاشعور.
2- ناعقها: الداعي إليها مأخوذ من (نعق بغنمه) إذا صاح بها لتجتمع.
3- مناخ... في الأصل: محل بروك الإبل، استعمل هنا للتعبير عن مصير الفئة الضالة أو الهادية ونهايتها.
4- كرائه الأمور: جمع كريهة، المصائب الكبرى.
5- الحازب: الخطب الشديد، يقال: (حزبه الأمر) إذا اشتد عليه.
6- نهج البلاغة، رقم الخطبة 91.
7- سورة لقمان: 34.
8- تضطم: افتعال، من الضم، أي وتنظم عليه جوانحي، والجوانح: الأضلاع تحت الترائب ممّا يلي الصدر، وانضمامها عليه: اشتمالها على قلب يعيها.
9- نهج البلاغة، رقم الخطبة 146.
10- المخرج: محل الخروج، والمولج: محل الولوج، الدخول، أي: أخبره من أين يخرج، وأين يدخل.
11- مفضيه: أصله من (أفضى إليه) إذا خلا به. والمراد أنه موصله إلى أهل اليقين ممن لا تخشى عليهم الفتنة.
12- نهج البلاغة، رقم الخطبة 173.
13- لا يجرمنكم: لا يحملنكم ويكسبنكم، (شقاقي) عصياني. أي لا يكسبنكم عصياني الخسران والضياع.
14- لا تقعوا في هوى العصيان.
15- تتراموا بالأبصار.. ينظر بعضكم إلى بعض تعجباً واستنكاراً.
16- أنبت الحبة، وخلق الروح.
17- نهج البلاغة، رقم الخطبة 99، ولاحظ في النص رقم 16، قوله: (ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم).
18- نهج البلاغة، رقم النص 91.
19- نهج البلاغة، رقم النص 187.
20- نهج البلاغة، رقم النص 173.
21- نهج البلاغة، رقم النص 13. جؤجؤ السفينة: صدرها. جثم الطائر، تلبد بالأرض، وهيئة النعامة الجاثمة على الأرض كهيئة السفينة من مقدمها.
22- القادر بالله، أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر. بويع بالخلافة في يوم 12 رمضان سنة 381هـ. 3 أكتوبر تشرين الأول 991م واستمر خليفة إلى أن توفي في نهاية ذي الحجة سنة 42هـ 18 ديسمبر كانون الأول 1031م.
23- القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن القادر. بويع بالخلافة في ذي الحجة سنة 422هـ (1031م) واستمر خليفة إلى 13 شعبان سنة 467هـ 3 ابريل نيسان سنة 1075م.
24- ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج1، ص84.
25- اللجب: الصياح.
26- اللجم، جمع لجام. وقعقعة اللجم ما يسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل.
27- الحمحمة: صوت البرذون عند الشعير.
28- السكك: جمع سكة، وهي الطريق المستوي الممهد، وهو إخبار عما يصيب تلك الطرق وما حولها من المنازل من الخراب والتهديم.
29- أجنحة الدور: رواشنها جمع روشن، بمعنى شرفة (برندة) وذلك على التشبيه بأجنحة الطير.
30- خراطيم الدور: هي الميازيب تطلى بالقار.
31- أصحاب الزنجي، وإنما لا يندب قتيلهم، لأن ليس لهم زوجات وأهل يبكون عليهم لأنهم كانوا عبيداً ليست لهم أسر.
32- نهج البلاغة، رقم النص 126.
33- المهتدي بالله، محمد بن هارون الواثق، ابن المعتصم بن الرشيد بويع له بالخلافة يوم 27، رجب سنة 255هـ، يوليو تموز 869م، وخلع في 14 رجب سنة 256، 17 يونيو سنة 870م.
34- ابن أبي الحديد، شرح النهج، 2، ص310-361.
35- المجان، جمع مجن ـ بكسر الميم ـ وهو الترس، وسمي مجناً لأنه يستتر به عن العدو، والجنة ـ بالضم ـ السترة، والمطرقة، هي التي ألزق بها الطراق ـ ككتاب ـ وهو جلد يفصل على مقدار الترس ثم يلزق به.
36- السرق: شقق الحرير الأبيض.
37- يعتقبون الخيل.. أي يحتبسون كرائم الخيل لأنفسهم ويمنعون غيرهم منها.
38- استحرار قتل: اشتداد قتل.
39- نهج البلاغة، رقم النص 126.
40- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص361-371.
41- الأديم: الجلد المدبوغ، والعكاظي نسبة إلى عكاظ ـ كغراب ـ وهو سوق كانت تقيمه العرب في صحراء بين نخلة والطائف، يجتمعون إليه من بداية شهر ذي القعدة ليتعاكظوا، أي يتفاخروا، وأكثر ما كان يباع الأديم بتلك السوق فنسب إليها. وقوله: (تمدين مد الأديم العكاظي) استعارة لما ينالها من العسف والشدائد، كأن ما ينزل بها من الظلم يشبه ما ينزل بالجلد حين يراد أن يدبع من الخبط والدق.
42- تعركين مأخوذ من (عركتهم الحرب) إذا مارستهم حتى أتعبهم، والنوازل: الشدائد.
43- الزلازل: المزعجات من الخطوب.
44- نهج البلاغة، رقم النص 47.
45- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص286-287.
46- سيظهر: سيغلب.
47- الرحب: الواسع.
48- مندحق البطن: عظيم البطن بارزه، كأنه لعظمه مندلق من بدنه يكاد يبين عنه.
49- قد يكون السب نتيجة للإكراه من الظالم مع إبطان الحب والولاء، وأما البراءة من إنسان فهي الانسلاخ من مذهبه.
50- نهج البلاغة، رقم النص 57.
51- ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج1، ص355.
52- الأثرة: الاستبداد بفوائد الملك، وحرمان الآخرين منه.
53- نهج البلاغة، رقم النص 58.
54- قرارات النساء: كناية عن الأرحام.
55- كلما نجم منهم قرن قطع: كلما ظهر منهم رئيس قتل.
56- نهج البلاغة، رقم النص 59.
57- يعني بالنطفة ماء النهر، وقد جرت المعركة معهم عند النهروان.
58- نهج البلاغة، رقم النص 59.
59- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص379-380 و424-427 و445-446.
60- تصوير بالحركة لقصر ملك مروان بن الحكم.
61- كناية عن أولاده.
62- نهج البلاغة، رقم النص 71.
63- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص53-60.
64- استحلال المحرم: استباحته.
65- بيوت المدر: المبنية من حجر، وبيوت الوبر: الخيام، أي أن ظلم بني أمية يشمل جميع الناس حيث كانوا.
66- أصله من (نبأ به المنزل) إذا لم يوافقه، فارتحل عه. أي أن ظلم بني أمية وسوء سياستهم في الناس، يجعل المجتمع مضطرباً غير مستقر ولا آمن.
67- نهج البلاغة، رقم النص 96.
68- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص466-467، وراجع ح2، ص193-194، و408-409 في شأن عبد الملك بن مروان والفتن في عهده.
69- معقولة على بني أمية: مقصورة عليهم، مسخرة لهم، كأنهم شدوها بعقال الناقة.
70- درها: لبنها.
71- مجة: مصدر من (مج الشراب من فيه) إذا رمى به.
72- نهج البلاغة، رقم النص 185 آخر النص.
73- نهج البلاغة، رقم النص 103، ولاحظ النص رقم 167.
74- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص132-133 و178 و200-202 و466-467.
75- الذيال: الطويل القد، الطويل الذيل، المتبختر في مشيته، والميال: الجائر المائل عن طريق الحق والعدل.
76- الوذحة: قال الشريف الرضي رحمه الله بعد أن أورد هذا النص: الوذحة الخنفساء. وهذا القول يرمي به إلى الحجاج، وله مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره. وقد أورد ابن أبي الحديد عند شرح هذه الفقر عدة روايات عن الحجاج الثقفي في شأن الوذحة. راجع الجزء 7، ص279-280، من شرح نهج البلاغة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار إحياء الكتب العربية، سنة 1960م.
77- نهج البلاغة، رقم النص 114.
78- شرح نهج البلاغة، 2، ص132-133 257-258.
79- الملاحم، جمع ملحمة، وهي الواقعة العظيمة.
80- ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج2، ص508.
81- تقدم منه كلام في هذا في ج1، ص425-427.
82- المصدر السابق، ج2، ص508.
83- المصدر السابق، ج1، ص175-176.
84- المصدر السابق.
85- شجرهم: حاربهم أو رماهم.
86- المصدر السابق، ج1، ص205.
87- المصدر السابق، ج1، ص208.
88- المصدر السابق، نفس الصفحة.
89- المصدر السابق، ج1، ص208-209.
90- المصدر السابق، ج1، ص209.
91- المصدر السابق، ج1، ص209.
92- المصدر السابق، ج1، ص209-210.
93- المصدر السابق، ج1، ص210-211.
94- المصدر السابق، ج1، ص211.
95- المصدر السابق، ج1، ص278.
96- المصدر السابق، ج2، ص133.
97- المصدر السابق، ج2، ص508، وذكر ابن أبي الحديد، في ج2، ص49-50، عن المدائني في كتاب صفين خطبة للإمام في الملاحم خطبها بعد النهروان.
-
[align=center][align=center] الديمقراطية في نهج البلاغة[/align]
بقلم: السيد محسن الأمين[/align]
إنّ النزعة الديمقراطية في نهج البلاغة أوضح من أن تحتاج إلى بيان.. فها هو الإمام علي (عليه السلام) يأمر الوالي بأن يجلس لذوي الحاجات دون جند أو حرس لكيلا يتعتوا في توضيح مسائلهم. فهو (عليه السلام) في قضائه بين الناس قد فضل العامة على الخاصة وإن سخط الخاصة.
يقول الإمام علي (عليه السلام):
(إن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يفتقر إلى رضى العامة، وليس أحد أثقل على الوالي من الرعية مؤونة في الرخاء وأقل معونة في البلاء، وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقل شكراً على الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء: العامة من الأمة فليكن صفوك لهم وميلك معهم).
وهذا كلام صريح في تفضيلهم والاعتماد عليهم، وأنا شخصياً أميل إلى الظن بأن هذا الكلام كان له تأثير في سلوك بعض زعمائنا الذين عرفوا بميلهم إلى الإمام علي والتشبه بكلامه في أكثر من موضع، ولن نطيل في تفصيل هذه الديمقراطية، ولنردد في سرور قول الإمام الجامع: (إن أعظم الخيانة خيانة الأمة وأفضع الغش غش الأئمة).
وقوله الذي يذكرنا بالقول السائر: صوت الشعب من صوت الله (إنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده). وإذا كان الإمام (عليه السلام) قد أخذ بالديمقراطية كما وضح فمن الطبيعي أن نراه نصير الحرية يهيب بابنه (ولا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرّاً) وأن نراه رافع لواء المساواة لا يزال يذكرها ويوصي بها ويقول لمن يوليه:
(وآس - وساو - بينهم في اللحظة والنظر حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم).
وقول في موضع آخر:
(إن المال لو كان ماله لساوى بين الناس فكيف والمال مال الأمة).
ولكن للجمهور سيئاته كما أن له حسناته فلنسمع كلمة الإمام في الغوغاء، قال:
(الناس ثلاثة فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق).
ووصف الغوغاء في موضع آخر من أنّهم إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا).
وقيل وصفهم بأنهم إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا، لأنّ كل صانع ينصرف إلى عمله فيحصل النفع، وقد وضع الإمام إصبعه على آفة وطبيعة من آفات وطبائع الجماهير هي سرعة التقلب، تلك الخاصة الجماهيرية التي وضحها (شكسبير) أبلغ إيضاح في (يوليوس قيصر) وكذلك أصاب في أن اجتماعها غلبة وتفرقها ضياع، وفي أن اجتماعها قد يكون في بعض الأحايين مجلبة للضرر، كما أنّ تفرقها مجلبة للنفع لانصراف كل عامل إلى عمله، وهذه النظرة إلى الجماهير قد تبدو متعارضة بعض التعارض مع ما سبق من رأيه فيهم ولكن بيان نقص الغوغاء لا يستلزم استبعاد رأيهم.
ثمّ عرض (عليه السلام) الصفات الواجب توفرها في الإمام فقال: (من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه).
وحدد العلاقة بين الراعي والرعية فقال: (أيها الناس إن لكم عليّ حقاً ولي عليكم حق، فأمّا حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأمّا حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم).
ولنلاحظ هنا أنه (عليه السلام) يجعل من حقه على الشعب أن ينصحه الشعب، وهذا مبالغة في السعي وراء الكمال، وكم هو نبيل قوله لقومه رداً على من أثنى عليه:
(فلا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بنفسي يفوق أن أخطئ).
وأدلى (عليه السلام) بآراء قيمة في الولاة فقال أنّهم ملزمون بأن يعيشوا عيشة جمهور الشعب لكيلا (يتبيّغ بالفقير فقره) أي لكيلا يسخط الفقير لفقره، وليتعزّى بحال أميره:
(أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش).
ونصح علي الولاة بقوله مؤكداً لأحدهم: (ولا يطولن احتجابك عن رعيتك).
وتلك نصيحة حق فإن كثرة ظهور الحاكم بين الرعية استئلاف لقلوبها وإشعار بها أن الحاكم مهتم بمصالحها، ثمّ هو منير للحاكم سبيل حكمه ومعطيه الصورة الواضحة لحال شعبه فيعمل على نورها.
وقال (عليه السلام): (إنه ليس شيء أدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم) أي الراعي حين يحسن لرعيته يطمئن قلبه ويأمن خيانتهم. وأمر باحترام التقاليد الشعبية فكان حيكماً بعيد النظر: (ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية).
ووجه علي (عليه السلام) نصيحة غالية صادقة كل الصدق في قوله: (إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شاركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الآثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير خلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم. ثمّ ليكن عندك آثرهم أقولهم بمرّ الحق لك).
ونظرية الإمام (عليه السلام) صحيحة تماماً فإنّ إثم أحدهم فيما مضى لا يؤمن إثمه فيما حضر، ومن اتصل بالظلمة بالأمس لا يؤمن اتصاله بهم اليوم وإعانتهم على كيدهم بماله من سلطة الوزارة. وكان حكيماً في قوله: (فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة وداولهم بين القسوة والرأفة).
وأمر الوالي أن لا يرغب عن رعيته وتفضيلاً بالإمارة عليهم فإنهم الأخوان في الدين والأعوان على استخراج الحقوق ثمّ قال له: (وإنا موفوك حقك فوفق حقوقهم وإلاّ فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، بؤساً لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين). ودعاه إلى أن يساوي نفسه بهم فيما الناس فيه سواء، وهذا القيد يظهر بعد نظره وفهمه لحقيقة المساواة الممكنة. ودعا (عليه السلام) إلى تشجيع المحسن وعقاب المسيء قائلاً: (ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء).
ولفت نظر جباة الضرائب إلى الرفق بالآهلين، وعدم بيع شيء ضروري - وهذا ما فعلته القوانين الحديثة إذ منعت الحجز على الملابس ومرتبات الموظفين، وبالغ في الرفق الحكيم فقال: (فإن شكوا ثقلاً أو علة وانقطاع شرب أو إحالة أرض اعتمرها غرق أو أجحف بها عاطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم).
وهذا بعد نظر حكيم وسياسة مالية محكمة تزيد وضوحاً في قوله: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد). وإذا تذكرنا ما جرّ التعسف في جبي الضرائب في فرنسا وولايات تركيا وغيرها عرفنا قيمة هذه النصيحة التي يؤيدها المنطق ويسندها التاريخ. وقد أدى بعد نظر الإمام (عليه السلام) به إلى أن يدعو إلى تقسيم العمل ذلك المبدأ الذي لم نعرفه إلاّ حديثاً فقد قال ناصحاً: (واجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه به فإنه أحرى ألاّ يتواكلوا في خدمتك).
وقال في رسالة إلى الأشتر النخعي أيضاً:
(واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها إلاّ من بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلاً قد سمّى الله سهمه) ثم فصل بعد ذلك وظيفة كل فرقة.
وتمشياً مع قاعدته في تقسيم العمل واختصاص كل بما يحسنه، ردّ على من قال له: إنك تأمرنا بالسير إلى القتال فلم لا تسير معنا؟: أنه لا يجوز أن يترك مهماته من قضاء وإدارة وجباية ضرائب.. و.. (لأن الأمير كالنظام من الخرز يجمعه).
إن هذا الإمام (عليه السلام) ما كان ليغفل الدعوة إلى الاتعاظ بالتجارب في الحكم فها هو إذ يقول: (إن الأمور إذا اشتبهت اعتبر آخرها أولها).
ويقول في مكان آخر: (استدل على ما لم يكن بما كان) ثمّ يقول أيضاً: (العقل حفظ التجارب) ولست أحمل هذا القول الأخير أكثر مما يحتمل إذا قلت أنه الرأي الفلسفي المعارض للرأي القائل بأنّ العقل يتفاوت عند الأشخاص بطبيعته، والذاهب إلى العكس إلى أن العقل ليس إلاّ عمل التجارب والتهذيب والدافع لحجة الرأي الأول القائلة بأنا لو ربينا أشخاصاً ذوي أعمار واحدة تربية واحدة في بيئة واحدة لنشأوا رغم ذلك مختلفي العقليات، بأنهم إنما يختلفون لسبق تأثرهم بمزاج وراثي مختلف.
وتكلّم الإمام (عليه السلام) في رسالته إلى الأشتر عن القضاة كلاماً قال عنه الأستاذ العشماوي أستاذ القانون الدستوري بكلية حقوق القاهرة: إن كلاماً غيره في أي دستور من دساتير العالم لم يفصل مهمة القضاة وطرق اختيارهم مثل ما فعل. قال الإمام: (ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلل ولا يحصر في الفيء إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بإدغامهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، من لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتياب الرجال له عندك).
وهذا دستور حكيم بل هو أحكم ما نعرفه وحسبه أنه انتبه إلى وجوب إجزال العطاء المالي للقضاة ليستغنوا بذلك عن الارتشاء، وأنه شدد في إعطائهم منزلة قريبة من الوالي ليقطع بذلك الطريق على الوشاة وليعمل القضاء في جو هادئ.
وفي غير هذه الرسالة ذم من يتصدى للحكم وليس أهلاً له قائلاً: (جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً من رأيه ثمّ قطع به، جاهل خباط جهالات عاش ركاب عشوات، تصرخ من جور قضائه الدماء وتعج منه المواريث إلى الله).
وفي موضع آخر يقول: (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها).
ومعنى هذا أنّ على الخواص مهمة هي عدم الصبر على الظلم بل مجاهدته ولو لم يقع عليهم.
والآن وقد سرنا في نهج البلاغة شوطاً يغرينا بالاستزادة فلنقف، وإذا كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قد نهى قومه عن أن يمدحوه فلا يخافن اليوم اغتراراً وهو بعيد عن حياة الغرور، إن نحن انحنينا أمام عبقريته، لقد حبانا نهج البلاغة فأحسن ما حبانا، فلنطبق عليه قوله: (قيمة كل امرئ ما يحسنه).
-
[align=center]التربية في نهج البلاغة[/align]
- مفهوم التربية عند الإمام علي (عليه السلام):
لعل من المفيد أن نستهل هذا الموضوع بتبيان المدلول اللغوي لمفهوم التربية. فالتربية في اللغة مأخوذة من ربى ولده، والصبي يربه، رباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك (1).
فالتربية بمدلولها اللغوي، تعني تعهد الطفل بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يشب. ولقد اهتم الفلاسفة والعلماء بهذا المفهوم، وجهدوا في الكشف عن مضامينه العلمية وأوجدوا له عدداً من التفسيرات التي إن اختلفت في شكلها، فهي متفقة في جوهرها، وسنعرض فيما يلي أقوال بعض المفكرين القدامى والمحدثين، لنرى موقع (النهج) منها.
يقول أفلاطون (427-347ق.م):
(التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال) (2). وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية المؤدية لكمال الفرد.
ويقول أرسطو (384-322ق.م):
(الغرض من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم، وإن يقوم بما هو نبيل وخير من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة) (3). وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في دنياه.
ويقول جولز سيمون، الفيلسوف الفرنسي (1814-1896م):
(التربية هي الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حراً، ويكون القلب قلباً حراً) (4). وهذا يتم بالنواحي الروحية من التربية. ولعل أوثق تعريفين للتربية هما: ما قاله الغزالي (450-505):
(ومعنى التربية، يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه) (5).
وما قاله جون ديوي: (إنها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة ـ أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة) (6).
وهناك تعريفات كثيرة لا مجال لذكرها لعدم الحاجة إليها ـ وهي في أكثرها مشابهة لما سبق ـ وما يهمنا هو استعراض ما مر منها ومقابلتها بما صدر عن الإمام (عليه السلام)، من أفكار تربوية تفسر حقيقة مفهوم التربية.
يرى (عليه السلام) أن الإنسان هو غاية الوجود، ومن أجله خلق الله ما خلق إذ بعد أن خلق تعالى الكون ورتبه أحسن ترتيب، ونظمه أجمل تنظيم، وأتم مرافقه، على أكمل وجه، وجمع فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، أخرج إليه الإنسان، وأسكنه فيه على أن يكون خليفته في أرضه، يحيا في كنفها ويعيش من خيراتها، ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه، ومقاصده، وفق أحكام الله وإرادته مطيعاً، مذعناً، شاكراً، إلا أنه خالف أمر الله، وسلك بوحي من نفسه الأمارة بالسوء، فجذبته الدنيا إليها وحجبت عنه الرؤية السليمة فبات أسير أوهامه وشهواته.
إن ضعف الإنسان أمام إغراء المادة والإيمان بأن الشيطان الذي أغواه في الجنة لن يتوانى عن إغوائه مرة أخرى وهو على الأرض، وبالتالي سوف لن يتمكن من ممارسة الخلافة كما أوجبها الله ما دام ضعيف الحجة، مسلوب الإرادة، قليل الإيمان. هذه الأمور أوجبت أخذه بالتربية والتعليم حتى تستقيم نفسه ويقوى على مقاومة الضلالة والفساد. إلا أن هذه التربية، لا تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً يعضده العلم والعمل والإيمان بهدف منفعة العباد وخيرهم.
وكثيرة هي الخطب والكلمات التي تضمنها (النهج) وهي تدعو إلى طلب العلم وأخذه من أي مصدر كان، كما وتحث على العمل حتى لا تبقى التربية مجرد نظريات لا فائدة منها في عالم الواقع. لذلك فإن الإمام (عليه السلام) يدعم القول بالعمل وهذا هو الحق الذي يشهد به العمران والتقدم والتطور الحاصل في المجتمعات من ذلك (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل) (7).. إذ لا خير في علم بلا عمل. ولابد للعارف من أن يكون عاملاً حتى لا يكون علمه حجة عليه.
ولقد أدرك الإمام علي (عليه السلام) هذا الأمر وطبقه على سائر مجريات حياته، يبدو ذلك في حديثه عن العلماء الذين يتعلمون، برأيه ـ لغايات ثلاث (8):
ـ للمراء والجدل.
ـ للاستطاعة والحيل.
ـ للفقه والعمل.
- أما الأول (فإنك تراه ممارياً للرجال في أندية المقال، قد تسربل بالتخشع وتخلى من الورع. فدق الله من هذا حيزومه وقطع منه خيشومه).
- وأما الثاني (فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله، ويتواضع للأغنياء، من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا بصره، ومحى من العلماء أثره).
- وأما الثالث (فتراه ذا كآبة وحزن، قام الليل في حندسه، وانحنى في برنسه، ويعمل ويخشى، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه).
فليس المهم بنظر الإمام (عليه السلام) كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، ولا كثرة العلماء، ما دام البعض منهم قد اتخذ العلم وسيلة للهدم، أو أداة للرياء والنفاق، في حين أن البقية الباقية منهم، ممن آمنوا بربهم وخشعوا له، قد اتخذوه للعمل الحر الشريف. فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها ليست مقبولة ما دامت لا تستند إلى الكيفية والنوعية. إلا أن هذه النوعية لا فائدة منها إذا لم تقترن بالفاعلية فالعلم لا يراد لذاته، بل لأجل التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول (عليه السلام): (لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا) (9).
إلا أن العمل قد يجر الويل على المجتمع، إذا لم يستند إلى أساس روحي خلقي وما نراه اليوم دليلاً على ذلك، فالذرة قد تستعمل للبناء وقد تستعمل للفناء والدمار والذي ينحى بها هذا المنحى أو ذاك، هو الإنسان ذاته الذي اكتشفها، لذلك كانت التربية الروحية الخلقية لابدّ منها في صياغة كيان الفرد وتفكيره وخلقه. ولقد جمع الإسلام بين التربية الدينية والدنيوية بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (10).
هذه النظرية للتربية التي انفرد بها الإمام علي (عليه السلام) هي أكثر شمولاً وعمقاً من تلك التي أوحت بها التعريفات السالفة الذكر، فبينما نرى أن فلاسفة التربية قد قصروا نشاطها على جانب معين من حياة الفرد (أفلاطون ـ ارسطو ـ جولز سيمون) يتوسع الإمام (عليه السلام) في هذا النشاط ليشمل جميع نواحيه الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والدنيوية كما سنرى فيما بعد وذلك من أجل إيجاد الإنسان الفاضل القريب من الكمال. هذا المضمون نفسه هو الذي أكده كل من (الغزالي) و(جون ديون) ممّا يثبت بأن هذا الكتاب، كان وما يزال في صميم المعرفة التي تحدث عنها الفلاسفة والعلماء في كل عصر وجيل.
-
[align=center]التربية في نهج البلاغة[/align]
سمات المنهج التربوي العلوي:
ينطلق الإمام (عليه السلام) من مسلمات بديهية على أساسها يضع المنهج في تربية الإنسان وإعداده منها:
1ـ حقيقة الإنسان وطبيعته
سبق في علمنا أن حقيقة الإنسان هي الروح والجسد معاً. ولقد اختلف المتكلمون في هذا الأمر، فقال (العلاف): (إن الإنسان هو الشخص الظاهر المرئي الذي له يدان ورجلان) (11)، أي هو الجسد فقط دون الروح واحتج على ذلك بقوله تعالى: (خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (12). وقال النظام: (الإنسان هو الروح ولكنها مداخلة للبدن.. وإن البدن آفة عليه وحبس وضاغط له) (13) أما (بشر بن المعتمر) فقد وافق الإمام (عليه السلام) على أن (الإنسان جسد وروح وأنهما جميعاً إنسان، وأن الفعال هو الإنسان الذي هو جسد وروح) (14) وقد دمج (النظام) بين الروح والنفس والجسم فقال: (الروح هي جسم وهي النفس) (15) في حين ميز بينهما (العلاف) وقال، (النفس معنى غير الروح) (16) أما (الأصم) فقد اعتبر أن (النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد لحقيقة الشيء، لا على أنها معنى غير البدن) (17).
وحقيقة القول، أن كلا منهما مختلف عن الآخر، فالروح أمر إلهي لا علم لنا به وهو بمثابة القوة التي تبعث الحياة في الجماد. أما النفس، فهي كناية عن طبيعة الإنسان المختلفة باختلاف قواها النفسية. ولقد قسم الإمام علي (عليه السلام) هذه الطبائع النفسية إلى أربعة، لكل منها خمس قوى وخاصيتان، وما أثر عنه في هذا المجال ما نحن بصدد الحديث عنه:
قال كميل: سألت أمير المؤمنين فقلت له: أريد أن تعرفني نفسي.
فقال (عليه السلام): يا كميل، وأي الأنفس تريد أن أعرفك.
قلت: يا مولاي، هل هي إلا نفس واحدة؟
قال (عليه السلام): يا كميل إنما هي أربع: النامية النباتية، والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والكلية الإلهية، ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان.
فالنامية النباتية لها خمس قوى: جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومربية، ولها خاصيتان، الزيادة والنقصان وانبعاثهما من الكبد وهي أشبه الأشياء بنفس الحيوان.
والحسية الحيوانية لها خمس قوى: سمع وبصر وشم وذوق ولمس، ولها خاصيتان، الشهوة والغضب، وانبعاثهما من القلب، وهي أشبه الأشياء بنفس السباع.
والناطقة القدسية: ولها خمس قوى، فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة، وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية، ولها خاصيتان، النزاهة والحكمة.
والكلية الإلهية ولها خمس قوى: بقاء في فناء، ونعيم في شقاء، وعز في ذل، وغنى في فقر، وصبر في بلاء، ولها خاصيتان، الرضا والتسليم، وهذه هي التي مبدؤها من الله، واليه تعود.
قال الله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (18) وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (19)، والعقل وسط الكل، لكيلا يقول أحدكم شيئاً من الخير والشر إلا بقياس معقول) (20).
وهكذا يقسم (عليه السلام) النفس إلى أربعة أنواع: النباتية، والحيوانية، والناطقة، والإلهية ويرى أن هذه الأخيرة مبدؤها من الله وإليه تعود، بينما تتمحور جميعها حول العقل الذي يسيطر عليها ويشردها إلى طريق الاعتدال، ولولا ذلك لبلغت حد الإفراط والتفريط وكلاهما رذيلة كما قال الإمام علي (عليه السلام): (العقل ملك والخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها) (21) لهذا جاء التأكيد على ضرورة معرفة النفس لأنها تؤدي إلى معرفة الله، لأن (من عرف نفسه فقد عرف ربه) (22). و(من عجز عن معرفة نفسه، فهو عن معرفة خالقه أعجز) (23).
كما أنه يؤكد على أهمية شأن العقل ويعتبره من المصادر الأساسية للمعرفة، وكل ما يتنافى معه فهو باطل. أما الحواس فهي كاذبة ولا تصلح للرؤية، وإنما الرؤية الحقيقية للعقل: (ليست الرؤية مع الأبصار، فقد تكذب العيون أهلها ولا يغش العقل من استنصحه) (24). ويكفي العقل فضلاً وشرفاً أنه يميز بين الحق والباطل، ويفرق بين الغي والرشاد، لذا كان من أبلج المناهج وأقوم المسالك وأكثر مصادر المعرفة رشداً، وأقله ضلالاً، ومن استرشد بغيره، فقد أخطأ سواء السبيل. يقول (عليه السلام): (من استرشد غير العقل أخطأ منهاج الرأي) (25).
وتنمية القوى العقلية للإنسان لا تكون إلا في طلب العلم، لأن العلم غذاء العقل، به ينشط وقوى على ممارسة الوظائف العقلية لأنه (ليس شيء أحسن من عقل زانه علم) (26) كما يقول الإمام (عليه السلام).
إلا أن الإنسان يجمع إلى حد القوة حد الضعف، فهو القوي بعقله وفعاليته وهو الضعيف الذي (تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة) (27) والإنسان مجمع الأضداد، في داخله تتصارع العواطف والأهواء والغرائز وحياته تعتورها حالات متضادة نتيجة للصراع بين قواه العقلية والعاطفية، فيرتفع إلى المستوى اللائق به بعقله، وينحدر إلى مستوى البهيمية بغرائزه، والتوازن بينهما هو ما يحفظ كيانه ويصون كرامته وإنسانيته كما عبر الإمام (عليه السلام) بقوله: (لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك أن له مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ وإن غاله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر استلبته الغرّة، وإن أصابته مصيبة فضحة الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد) (28).
أما غرائزه فهي متعددة، ومتلونة تختلف من شخص لآخر بحسب الفطرة التي أرادها الله سبحانه، كما يذكر (عليه السلام) بقوله: (فأقام من الأشياء أودها ونهج حدودها، ولاءم بقدرته بين متضادها، ووصل أسباب قرائنها، وفرقها أجناساً مختلفات في الحدود والأقدار والغرائز والهيئات، بدايا خلائق أحكم صنعها، وفطرها على ما أراد وابتدعها) (29).
هذه الغرائز تتغير بتغير بيئة الإنسان وثقافته، ولا يخفى أثر البيئة القوي في التنشئة والإعداد. فالإنسان يتأثر بالأحوال والظروف المحيطة به فهو ابن بيئته وعوائده كما يقول ابن خلدون، فيكون لذلك شأنه في صياغة أفكاره وأخلاقه وعاداته سلباً أو إيجاباً بحسب ما يكتنفه من أمور تؤثر في مجرى حياته، ونظراً لتعدد البيئات واختلاف مقوماتها وعناصرها الثقافية والاجتماعية والطبيعية فإن لذلك أثره القوي في اختلاف أفراد النوع الإنساني وتباين سماتهم العقلية والبدنية. يقول الإمام (عليه السلام): (إنما فرق بينهم مبادئ طينهم، وذلك أنهم كانوا فلقة من سبخ الأرض وعذبها وحزن تربتها وسهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون) (30).
إن الإمام علي (عليه السلام) يقطع من خلال عرضه للمبادئ التي تحكم طبيعة الإنسان وتبيانه للميول والأهواء والغرائز المتناقضة والمتصارعة، تلك التي تتحكم في نفسه، وتوجه سلوكه وتحدد سماته الخلقية والفكرية، بضرورة أن نأخذ جميع هذه الأمور بعين الاعتبار ونراعي ما يظهر من الفروق الفردية، فيما لو حاولنا حل مشكلات المتعلم النفسية والاجتماعية والتربوية وإعداده للحياة الحرة الفاعلة الفاضلة. ذلك لأن مراعاة هذه الأسباب في العملية التربوية تضفي عليها شيئاً من الرغبة، وتساهم في صلاح المتعلم وحل عقده. في حين إن إكراهه على ما يناقض مزاياه الخلقية والنفسية، إنما هو قتل لشخصيته وهدر لطاقاته ودفعه إلى المشاغبة والنفور، ذلك أن (للقب شهوة وإقبالاً وإدباراً فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عمي) (31) ولا يعني هذا مسايرة رذائل الإنسان وشهواته، وإنما مقاومتها بأسلوب يخلو من العنف والقهر والسمو بها إلى مصاف الخلق النبيل. وسوف نرى أن الإمام علي (عليه السلام) كان يؤكد على التسامي بشهوات الإنسان ورغباته الشريرة واستبدالها بما ترضى عنها الذات والمجتمع.
نستنتج ممّا تقدم، أن هذا الكائن البشري يجمع إلى جانب قوى الخير قوى أخرى تجنح به نحو الشر. وهذا يوصلنا إلى فكرة الخطيئة التي شغلت بها أذهان المفكرين عبر العصور. فقد اعتبرت المسيحية أن الإنسان مذنب ومخطئ بطبعه وأن الشر متأصل في فيه (وليس في استطاعته الوصول إلى النجاة بقوته وجده، وإنما ينال النجاة بالغفران وذلك الغفران تمنحه الكنيسة بطريقة استبدادية محضة) (32).
في الجانب المقابل، مال البعض إلى القول بخيرية هذا الكائن وميله الأصيل إلى الفضيلة والخير. أما الشر الصادر عنه فهو من الوسط الذي يعيش فيه. ومن أبرز القائلين بذلك جان جاك روسو الذي اعتبر أن الطفل يولد خيراً بطبعه، ولكن المجتمع هو الذي يفسده.
وما أثر عن الإمام علي (عليه السلام) كان موقفاً وسطاً بين هؤلاء وأولئك، فالإنسان لا يميل بطبعه إلى الخير أو إلى الشر، لأنه قادر على فعل الخير كقدرته على فعل الشر، ذلك: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وكذباً وصدقاً) (33). ونوع التربية التي تتعهده بها البيئة التي يعيش فيها، هو الذي يجنح به نحو الخير أو الشر. كذلك فإنه مزود بالغرائز والأعضاء والحواس والجوارح التي تأتمر بأمره وتتأثر بالجو المحيط به، وبقدر تهذيبها وإرشادها يسهل توجيهها الوجهة الصالحة. أما إذا أهملت وتركت وشأنها، فإنها تنحا به نحو الرذيلة والفساد.
ولقد أكد الغزالي قابلية الإنسان للخير والشر بقوله: (... فإن الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً، وإنما أبواه يميلان به إلى حد الجانبين) واستشهد بقول الرسول الكريم: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) (34).
ولن يؤتي الفكر ثماره إلا إذا استند إلى الخبرة والعمل. فالخبرة هي التي تصقله وتهذبه والعمل هو الذي يخرجه إلى حيز الواقع. ولقد أقام (عليه السلام) نظامه الفكري على هذا الأساس. فربط بين العلم والعمل ودعى إلى استفادة الخبرة من رسالة الإسلام، ومن تدبر أحوال الماضين، واتباع آثارهم واختيار الصالح منها وترك ما لا فائدة منه. وهذا ما عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لولده الحسين (عليه السلام): (أي بني! إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم، قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله) (35).
وهكذا فالتفكير الذي يتحدث عنه الإمام (عليه السلام) يرفض التقليد إلا في أضيق نطاق وعن الذين يمكن الوثوق بكلامهم وأفكارهم والركون إلى أخلاقهم وسجاياهم. وحتى هؤلاء لم يخرجهم (عليه السلام) من دائرة الاجتهاد، حتى لا يشكلوا ضغطاً فكرياً على الآخرين فهو يؤثر الاجتهاد في كل شيء حتى في الدين. والغاية من ذلك الإقناع لا الإكراه بهدف إيجاد المفكر الذي يحاول أن يتفهم دينه ودنياه بوحي من بصيرته. لذا فهو يدعو إلى إعمال الفكر في كل خطوة نخطوها وفي كل رأي نبديه ونعلنه، بل وفي كل خبر نسمعه حتى نتجنب الخطأ والعذر في كل ما يصدر عنا من آراء فالتفكير المستند إلى التركيز والانتباه هو ما يعبر عنه الإمام (عليه السلام) فيقول: (اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل) (36).
تلك هي أبرز سمات المنهج التربوي في (نهج البلاغة) فهي تنطلق من مفهوم شامل للتربية تتناول الإنسان بمختلف أبعاده وتنظر إليه كوحدة متكاملة تبرز حقيقته وطبيعته التي فطره الله عليها وتظهر ما فيه من غرائز وقوى تتراوح بين القوة والضعف وما للبيئة من أثر في تحديدها وتنوعها.
-
سمات المنهج التربوي العلوي:
2ـ المعرفة: طبيعتها، مصدرها
المقصود بالمعرفة هو بعمومها وأنواعها المتعددة، العلمية والبديهية والميتافيزيقية، وهي تتضمن دائماً الإشارة إلى عنصرين متكاملين: الذات والموضوع، أي الذات العارفة والشيء المعروف.
لقد اختلفت الآراء حول طبيعة المعرفة وسببها. فقال العقليون الذين يؤمنون بقوة غير حسية، قادرة على إدراك ماهيات الأشياء أو المعقولات وهي العقل (إن تلك الماهيات أو المعقولات التي في أذهاننا، ليست إلا نماذج مماثلة تماماً لما في خارج الذهن من أشياء، أو صورة مطابقة لها، وهذا ما يعبر عنه الفلاسفة بقولهم إن الحقيقة هنا هي نسخة لما في خارج الذهن) (37). هذا يعني أن المعرفة ليست سوى مجرد تصورات ذهنية مطابقة لما في خارج الذهن ولا علاقة لها بالحياة. لقد ظهر هذا المذهب عند كل السقراطيين واستمر حتى بداية الفلسفة الحديثة وهو متعدد من حيث تفاصيله ولكنه واحد من حيث المبدأ. وقد قام محل الحواس التي اعتبرها أداة وهم تقف في طريق المعرفة الحقيقية. يقول (مالبرنش): (إن نماذجكم الحسية ليست إلا ظلاماً فاذكروا هذا وارقوا إلى أعلى حيث العقل وسترون النور. ألزموا حواسكم وخيالكم وانفعالاتكم بالصمت، وستسمعون حينئذ صوت الحقيقة الباطنية النقي، وإجابات عقلنا المشترك الجلية الواضحة، إياكم أن تخلطوا هذه البينة التي تنجم عن المقارنة بين الأفكار، بحيوية المشاعر التي تتحرك وتمسكم. يجب علينا أن نتبع العقل رغم تلطفات البدن الذي نلتصق به، ورغم تهديداته وإهاناته، ورغم تأثير الموضوعات التي تحيط بنا.. إنني لأهيب بكما أن تقروا بأن ثمة فارقاً بين أن نعرف وأن نحس بين أفكارنا الواضحة وإحساساتنا الغامضة المختلطة على الدوام (38).
وقال العمليون ـ المعبر عنهم في العصر الحديث (بالبرجماتيين) Pragmatism في مذهبهم الذي يمزج الفكر بالحياة، إن غاية المعرفة هي الحياة وإن قيمة كل فكرة أو نظرية تقاس بمدى ما تحققه من نفع، حين نطبقها في حل المشكلات التي تواجهنا (ولذلك فلكي نستوثق من قدر نظرية من النظريات نحاول أن نتخيل أنها مطبقة فعلاً في العمل حتى يتسنى لنا رؤية ما عسى أن يكون هنالك من نتائج لتطبيقها، ونحتفي بها على قدر ما تأتي من نتائج عملية خالصة) (39).
إن معيار حقيقة الفكرة عند العقليين، هو مطابقتها للواقع أي لما هو خارج الفكر. هذه المطابقة تجعل من الحقيقة واضحة وثابتة، أما في المذهب العملي فإن الفكرة لا توصف بالحقيقة لمطابقتها للواقع، بل لكونها تؤدي عملاً نافعاً، أي بالنظر لنتائجها وغاياتها العملية. وباختصار فإن المذهب الأول يقول بأننا نعيش لنفكر أما الآخر فيقول بأننا نفكر لنعيش.
إن ربط الفكر بالعمل يتضمن انقلاباً في نظرية المعرفة، فبدلاً من النظر في الأصول البعيدة للحقيقة، كما كانت تفعل الفلسفات المجردة، فإن الفلسفات العملية حولت النظر إلى النتائج والغايات العملية، وجعلت قيمة الحقيقة بما تؤديه من نتائج عملية ونفعية.
هذا الانقلاب الذي أحدثه المذهب العملي كان الإمام (عليه السلام) قد طرحه كأحد المسلمات التي لابدّ منها لحياة أفضل. فالمعرفة القائمة على التصورات فقط لا قيمة لها بل يصنفها في عداد المعارف الوضعية التي لا يترتب عليها أدنى منفعة. في حين أن المعرفة التي تظهر في أعمال تنفع البشر وتؤدي لهم خدمات مفيدة هي التي يقول بها ويضعها في مستوى المعارف الرفيعة. فصفة الحقيقة فيه ليست ملازمة للفكرة كفكرة وإنما هي تكتسبها بما تحققه من عمل نافع. والواقع ينطق بذلك، إذ ما قيمة قوانين (نيوتن) مثلاً لو لم تقدم خدمات عملية على أرض الواقع بتفسيرها حركة الأجسام هذا الربط عبّر عنه الإمام (عليه السلام) يقول: (فإن خير القول ما نفع، واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع) (40). و(أوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان) (41).
وهكذا يكون كتاب (النهج) في صميم الفلسفة الحديثة التي قرنت الفكر بالعمل ممّا أتاح للبشرية فرصة سانحة للسير في طريق التقدم والعمران.
أما عن مصدر المعرفة، فقد وقع فيه اختلاف كالذي حصل في طبيعة المعرفة.
إن المشكلة في الفلسفة الحديثة ليست إمكان الوصول إلى الحقيقة أو عدم إمكانها وإنما أصبحت تدور في أصل الحقيقة ومنبعها، أهو العقل أم الحس والتجربة، أو هما معاً، أم الحدس أم الوحي؟
لقد تعددت آراء الفلاسفة حول الطريقة التي تحصل بها المعرفة فديكارت (1596-1650م) يعترف بأن لا سبيل إلى الوصول إلى الحقيقة إلا بممارسة أفعال العقل الطبيعية.. ولتلك الغاية ليس هناك إلا فعلان أحدهما الحدس intuition أو النظر المباشر، والآخر الاستدلال Deduction. (42)
أما جون لوك (1632-1704م) (فقد أعلن بهدوء أن جميع أنواع المعرفة تأتينا من التجارب عن طريق حواسنا، وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له الحواس) (43) في حين أن (عمانوئيل كانت) جمع بين العقل والتجربة في الحصول على المعرفة وكان يقول: (إن التجربة ليست الميدان الوحيد التي تحدد فهمنا، لذلك فهي لا تقدم لنا إطلاقاً حقائق عامة، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتم بهذا النوع من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه) (44).
وخرج (هنري برجسون) (ولد سنة 1859م) عما اعتبره (كانت) مصدراً للمعرفة، وقال بأن: (العقل ليس هو الأداة الصالحة لإدراك الحياة، لأن هذا مطلب فوق مقدوره.. فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير الوجود أي أنها تتناول الوجود في ظاهره، ولكنها لا تنفذ إلى باطنه. ولما كانت المعرفة الحقيقية هي التي تتمشى مع الوجود في تحوله، وتغلغل في بواطن الأشياء وتحسها إحساساً مباشراً كما يحس الحمل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب، فالبصيرة وحدها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة لأنها حاسة الحياة التي تنقل إلينا الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود) (45).
أين كان موقع الإمام علي (عليه السلام) من هذه الآراء؟
إن الإمام (عليه السلام) يعتبر أن مبادئ الوجود ثلاثة: الله والروح والمادة، وعليه فطرق المعرفة تتعدد بتعدد الموجودات الثلاثة. فبالحواس ندرك الظواهر الخارجية والجزئيات، إلا أنها لا تصلح للرؤية الحقيقية لأنها كاذبة كما سبق في علمنا فلابدّ من إثباتها بالتجربة لإصلاح ما ينجم عنها من خطأ في الإدراك، لأن (في التجارب علم مستأنف) (46).
أما العقل، فهو لإدراك الكليات وما وراء الطبيعة، وقد سبق في علمنا أنه (عليه السلام) استدل على وجود الله بالنظر في مخلوقاته وما فيها من نظام محكم وتدبير متقن، ومعنى هذا أنه يؤمن بالعقل الذي يدرك ما وراء الكون بالاستنتاج والانتقال من المعلوم إلى المجهول.
أما إذا عجزت الحواس والعقل عن إدراك ما يمكن وراء هذه الظواهر الحسية ـ فلا سبيل أمامنا سوى القرآن أو الوحي، نستعين به لكشف ما غاب عنا، يقول إخوان الصفاء: (إن الوحي هو أنباء عن أمور غائبة عن الحواس، يقدح في نفس الإنسان من غير قصد منه ولا تكلف) (47). إلا أن الوحي الذي يعنيه أخوان الصفاء، ليس كما صرّح به الإمام (عليه السلام) إنما هو أقرب إلى الحدس الصوفي القائم على الكشف والذوق. فهل يعتبر هذا الحدث الصوفي طريقاً آخر للإدراك يمكن الركون إليه كما هو الحال عند المتصوفة؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نوضح أن هناك فكرتين تتحدثان عن علاقة الله بالعالم. الأولى، و(يصح أن نسميها بالاثنينّية، وهي تعتقد في الله أنه مستقل عن الخلق يشرف عليه من فوق، ويمد كل مخلوق بإمداداته، ويدير نظام الكون من أصغره إلى أكبره، وهو فوق الأرض، وفوق السماء وفوق كل شيء. وإن في الكون موجودين متميزين عن بعضهما كل التمييز، مخلوق وخالق، ومدبَّر ومدبِّر، ومحكوم وحاكم. ووسيلة الإنسان في إدراك الله حسب هذه الفكرة هو العلم وقضايا المنطق.
أما الفكرة الثانية، وهي الواحدية، أو بعبارة أخرى، وحدة الوجود، ترى أن الله والخلق واحد، والحاكم والمحكوم شيء واحد، كما قال الحلاج:
[align=center]أنا مــــن أهـوى ومن أهوى أنا***نحـــــن روحـــــان حللـــنا بدنا
فـــإذا أبصــــرته أبصــــــرتني***وإذا أبصـــرتني أبصرتـنا(48)[/align]
وإدراك الله هنا، يتم بالتروّض والكشف.
وما ذكره الإمام (عليه السلام) ينفي عن الله الحلول والاتحاد كما سبق وأشرنا إليه في حينه، ولا يقول بوحدة الوجود، بل يميز بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، ويؤمن بأن الإسلام يضع الإنسان أمام خالقه دون حجاب أو ترجمان أو وساطات تشفع له عند الله كما جاء في القول: (لم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه) (49).
ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره المظلة الواقية من الخطأ في الإدراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الإيمان بوجود الله، إلا تلك التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة.
إذا أخذنا جميع هذه الأمور بعين الاعتبار، أمكننا الإجابة عن السؤال السابق بأن الإمام (عليه السلام) لم يأخذ بالحدس الصوفي كمصدر للمعرفة، ما دام العلم بالله حاصل بالفطرة والنظر العقلي، دون الوصول إلى تلك الحالة الخاصة التي يبلغها الإنسان بالوجد والكشف حيث يدرك عندها الله إدراكاً مباشراً. وما أشبه هذه التجربة العقلية التي يدعو إليها هذا الكتاب بتجربة (برغسون) التي تغلغل في صميم الواقع وتغوص في أعماقه وتتصل به اتصالاً مباشراً من غير واسطة تحول بين العارف والمعروف.
-
سمات المنهج التربوي العلوي:
3ـ التفكير
التفكير بمعناه الواسع (اصطلاح عام يشمل كل أنواع النشاط الرمزي فيشمل الاستدلال والتخيل، وتكوين المعاني الكلية والابتكار، ويستخدم التفكير بديلات للأشياء الحقيقية والمواقف الواقعية، أي أنه يستخدم رموزاً تقوم مقام الأشياء أو الظروف. والرمز هو أي شيء ـ فكرة، معنى أو صورة يقوم مقام شيء آخر، فنستجيب له بنفس الأسلوب الذي نستجيب به للشيء نفسه) (50).
إن عملية التفكير ترجع إلى التفاعل بين العوامل العضوية أو البيولوجية المتمثلة بالجهاز العصبي المعقد، والعوامل الاجتماعية المتمثلة بالمؤثرات الاجتماعية المختلفة. فهو إذن عملية بيولوجية اجتماعية عن طريقه توصل الإنسان إلى بناء حضارة عظيمة تزخر بالتقدم العلمي والتنظيم الاجتماعي.
والتفكير ضرورة تربوية هامة يعتمد عليه الإنسان في تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها، فهو في صراع دائم مع الحياة للحفاظ على استمرارية وجوده كما أنه محتاج، لكي يدافع عن نفسه ويؤمن حاجياته ويزيل الصعوبات والمشكلات التي تعترض طريقه، إلى أن يفكر ويختار نسب الحلول الملائمة. لذلك (يخطئ إذن من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية. إنما هو كائن مدرك، حر الإرادة، قادر على اختيار سلوك معين، والاختيار خلق وإنشاء، فليس الإنسان رتيباً في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه) (51). كما قول برغسون.
وهو في محاولته حل مشاكله، إنما يستعين على ذلك بالمحاولة والخطأ والتجربة والاختيار والابتكار والإبداع، لذلك كان التفكير نشاط ديناميكي هادف. ولا يعني هذا أن العقل لا يفكر إلا إذا اعترضته المشكلات الواقعية. فهو في نشاط مستمر، في حالة اليقظة أو الغفلة وما أحلام اليقظة إلا (استجابات بديلة للاستجابات الواقعية يتخذها الفرد عندما يفشل في أن يستجيب استجابات واقعية لما يواجهه من مثيرات فيلجأ إلى أوهامه يحقق فيها ما عجز عن تحقيقه في عالمه الواقعي، وهكذا نستطيع أن نعتبر الأحلام إحدى صور التفكير الذاتي) (52).
ثم إن ارتباط التفكير بالعمل يساعد الفرد على تحقيق آماله والوصول إلى غاياته. وكلما ارتفع مستوى الإنسان الفكري، اتجه بصورة أفضل نحو إحلال الأعمال بالأفكار أي يختبر صحة ما يصل إليه بصورة عقلية قبل أن يقوم بعمل معين، ويصبح التفكير بديلاً للعمل، وذلك لفاعليته واقتصاديته. لهذا كانت نتيجة التفكير هي الاقتصاد في الوقت والمجهود، وتوفير فرص أكبر للحياة والبقاء.
أما إذا لم يكن للتفكير أثر في زيادة كفايتنا العملية وتوسيع معرفتنا بأنفسنا وبالعالم الذي نعيشه فيه، وإذا لم يكن مساعداً على توفير الوقت والجهد، كان تفكيراً ناقصاً ومختلاً، لأن (الأفكار تبقى ناقصة إذا ما ظلت مجرد فكار، وأن خير ما يقال عنها أنها مؤقتة من قبيل الاقتراحات والدلالات. فهي أساليب وجوه لمعالجة أوضاع الخبرة، وإذا لم تطبق في مثل هذه الأوضاع، وبقيت ناقصة في معناها وواقعيتها، فالتطبيق وحده هو الذي يمتحنها، والامتحان وحده هو الذي يكسوها رداء الحقيقة، ويكسبها كمال المعنى. أما إذا بقيت الأفكار من غير استعمال فإنها تجنح إلى الانعزال وتكوين عالم خاص بها) (53). وإذا كانت للخبرة أهميتها في عملية التفكير فإنه لا سبيل إلى وجود خبرة ذات معنى، ودون أن يكون فيها عنصر من التفكير الذي هو (التعبير الصريح عن عنصر الذكاء في خبرتنا) (54).
على أن خبرتنا التي نصوغها في قوالب تفكيرنا، لا تعني الاهتمام بكل ما ورد فيها، وليس هذا من التفكير في شيء، ما نفكر به يجب أن نتدبره تدبيراً سليماً، بحيث يكون له أثر في مدى تفاعل الفرد مع بيئته، وفي حل المشكلات التي تعترضه، وهذا ما أكده جون ديوي بقوله: (فالتفكير في الأشياء كما ترد إلينا هو محاولتنا تعرّف ما تدلنا عليه من النتائج المحتملة أو المرجحة. أما أن نملأ رؤوسنا كما نملأ الدفاتر بشتى المعلومات الجزئية باعتبار أنها أشياء كاملة مفروغ منها، فليس ذلك من التفكير في شيء، إن هو إلا تحويل أنفسنا أجهزة تسجيل. ولكننا إذا تدبرنا تأثير الحوادث فيما قد يقع وإن لم يقع بعد، فذلك هو التفكير) (55).
وهكذا فالتفكير هو إحدى المكونات الرئيسية للتنظيم المعرفي للفرد وأهميته تكمن في إعطائه القدرة على امتلاك البيئة والتحكم فيها، كما يمكّنه من العمل المثمر الخلاق ويفتح أمامه فرصاً واسعة للنجاح. لذا كان التفكير عملية لابدّ منها في تنمية الفكر الإنساني وانطلاقه وتحريره من الجهل والجمود والتقليد.
ويعتبر الإمام علي (عليه السلام) من المفكرين الأوائل الذين أدركوا أهمية التفكير عند الإنسان فأشاد بالعقل ودعا إلى تنميته بالفكر، لأن الفكر جلاء للعقول، كما أنه يفيد الهداية والرشد واليقظة والاستبصار، ويعصم عن الضلال والشك. وكثيرة هي العبارات التي صدرت عنه بخصوص هذا الأمر يقول (عليه السلام): (الفكر يهدي) و(الفكر عبادة)، و(الرأي بالفكر) و(الفكر رشد) و(الفكر ينير القلب) (56).
وهكذا فإن الإمام علي (عليه السلام) يجد في التفكير القدرة على كشف الحقائق وتخليص العقل من الأوهام والأساطير، كما وأنه يرى فيه الهداية والرشد والرأي السديد ليس ذلك فحسب، بل أن العلم الحاصل عن التفكير هو من أشرف العلوم وأكثرها ثباتاً ودقة، وذلك بالقياس إلى ما ندعي امتلاكه بالحفظ والتلقين بلا وعي ودراية. وما العبرة في علم إذا لم يكن جزءاً من كياننا ومثار سلوكنا ومحقق أهدافنا وغاياتنا في الحياة؟ فالملاحظة السطحية وغير الكاملة تعيق نمو العقل بل وتفسده، وعدم التركيز الفكري يعرقل نضوجه وتطوره. لذلك كان التفكير أحد العوامل الرئيسية في ديناميكية العقل وزيادة إنتاجه، فيجب والحالة هذه أن يكون نمو هذه الملكة عند الإنسان، هو الهدف الأسمى لعملية التربية والتعليم. لقد قرن (عليه السلام) بين الفكر والرشد والهداية ـ كذلك فقد قرن بين رفيع العلم وما بني منه على أساس متين من التفكير عندما قال: (لا علم كالتفكير) (57).
إن اهتمام الإمام (عليه السلام) بهذا الجوهر الثمين عند الإنسان، بالإضافة إلى ما تضمنه من نشاطات فكرية تجلت في الحديث عن الله والعالم العلوي، والكون بما فيه من مخلوقات يغلب عليها التعقيد والغموض، إنما يدعو إلى ضرورة أن يتمتع الإنسان بعمق في التفكير وسعة في الاطلاع حتى تكون النتائج يقينية بحيث لا يتطرق إليها الخطأ أو الزلل.
كما أنها تكشف عن طبيعته الفكرية وما للعقل من أهمية كبرى في صياغة تفكيره وإبداء وجهات نظره في الكون والحياة وفي نفسه وكيفية إسعادها من خلال استناد الفكر إلى الخبرة الواسعة والربط بينه وبين العمل.
هذه السمات الفكرية التي أبرزها الإمام (عليه السلام) إنما ترتكز في أساسها على الإسلام، الأمر الذي يجعل من هذا الكتاب، إحدى الذخائر الإسلامية الهامة التي لا يمكن الاستغناء عنها في البحث عن الوسائل والطرق المؤدية إلى حسن إعداد الإنسان للحياة.
إن اهتمامه (عليه السلام) بهذا الجوهر الثمين عند الإنسان، بالإضافة إلى ما أثر عنه من نشاطات فكرية متعددة، إنما ينم عن عمق في التفكير، وسعة في الاطلاع ودقة في الملاحظة، بها امتاز وتفوّق على سائر معاصريه، ومن أبرز مظاهر تفكيره ذاك التسلسل المنطقي والتماسك الفكري الذي نراه بادياً في (النهج) بحيث أن كل فكرة هي نتيجة طبيعية لما قبلها وعلّة لما بعدها. ولقد كانت غايته من وراء ذلك ليس إبراز مقدرته الفكرية واللغوية والعلمية، وإنما تشجيعاً لقومه على التفكير، وتحريرهم من رقدة الجهالة، وتنويرهم بالعبر والأحداث حتى يثوبوا إلى رشدهم ويعيشوا في رحاب العلم والمعرفة وما ذلك إلا لأن الفكرة تورث النور والغفلة تورث الظلام.
- التربية والتعليم:
تربية الإنسان وتعليمه، عملية أساسية اضطلعت بها الأسرة أولاً، وتولت مهمة القيام عليها منذ نعومة أظفار هذا الكائن الحي، ثم توالت على ممارستها مؤسسات مختلفة لهذه الغاية.
ولقد اختلفت الآراء حول مضمون هذه العملية، وذلك لاختلاف الأنماط الثقافية والحضارية والتربوية لكل أمة من الأمم، لكنها اتفقت جميعها على كونها طريقة إعداد للحياة، كما اختفت في معنى كل من التربية والتعليم، فمنهم من استعملها بمعنى واحد، ومنهم من ميز بينهما.
والواقع أن مفهوم التربية يختلف عن مفهوم التعليم. وعدم التمييز بينهما يؤدي إلى تفكك الأساليب التربوية وتشويش شخصية الطفل، لأن تزويده بأنواع العلوم والثقافات قبل تهيئة التربة الصالحة لها، إنما معناه البنيان على الرمال.
ولقد ميز (دي نوي) بين التربية والتعليم فقال: (فتربية الولد تقوم على تهذيب سجاياه الخلقية وتعليمه المبادئ الأساسية الثابتة التي يعترف بها الإنسان في كل البلدان، وإنماء الكرامة الإنسانية فيه منذ نعومة أظفاره. أما تعليمه فهو تغذيته بالمدنية التي جمعها الإنسان في مختلف الحقول. والتربية تصوب أعماله وتوحي إليه سلوكه في علاقاته مع الناس، وتساعده على تملك زمام نزواته. أما التعليم فيوفر له عناصر نشاطه الفكري ويعرفه بحالة التمدن الحديث. تعطيه التربية أسس الحياة التي لا تتبدل، ويمكنه العلم من التكيف حسب تبدلات محيطه، ومن ربط هذه التبدلات بالحوادث الماضية والمستقبلية) (58).
فتربية الطفل إذن تبدأ قبل تعليمه، ولا يخفى أثر هذه التربية الأولى على شخصيته، إذ على مبادئها ومعطياتها يدرج وينمو ويبني كياناً مستقبلاً فاعلاً. وهذا ما يفسر ضخامة البناء الفكري الذي يشيده خلال سنيه الأولى، حيث تعمد التربية إلى كشف وإبراز ما يتمتع به من ميول ومواهب وقدرات وأهداف ليمارسها فيما بعد بالتعليم والعليم اللذين ليساهما، كما يقول أخوان الصفاء، (سوى إخراج ما في القوة يعني الإمكان، إلى الفعل يعني الوجود) (59).
--------------------------------------------------------------------------------
[align=center]أولاً: التربية[/align]
إن تربية الطفل إذن، يجب أن تبدأ منذ المهد، وذلك بتنشئته على الأخلاق الفاضلة والعادات الحسنة، قبل أن يبدأ باكتساب العلوم أو يتشوه سلوكه بالعادات السيئة. يقول (دي نوي): (وعلى التربية الأولى أن تكيف أخلاق الولد ما دام دماغه ليناً خلواً من كل أثر وينبغي أن يتم هذا العمل الإعدادي قبل أن يكون احتكاك شخصيته بالعلم قد كوّن عادات يصبح من الضروري محاربتها يوماً ما) (60).
ولا شك في أن هذه الفترة، من حياة الطفل إنما هي من أنسب الفترات وأخصبها وأكثرها أثراً على حياته ومستقبله، وذلك أنه (بقدر ما يكون الولد حديث السن، يسهل الحصول على نتيجة تربيته، فتنطبع القواعد فيه انطباعاً لا يمحى، وتأتي التأثيرات الأخرى الناتجة عن احتكاكه بالمحيط فلا تزيل أثرها. أما إذا جاءت القواعد الخلقية المعقدة وفرضت على الولد، بعد أن يكون سلك سلوكاً شخصياً، فلسنا نتمكن من محو الارتكاسات الذاتية) (61).
ولقد تحدث الإمام علي (عليه السلام) عن هذا الأمر قبل ذلك بآلاف السنين. إذ يرى وجوب مباشرة الحدث بالتربية وتعهده بها، قبل أن يقسو قلبه أو ينشغل عقله بالعقائد والعادات السيئة التي تهجم عليه وتطبع سلوكه إذا ما وجدت سبيلاً لها إلى عقله، الذي يصوره الإمام (عليه السلام) بقوله: كـ(الصفحة البيضاء) أو كـ(الأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء إلا قبلته) (62).
وهكذا، فقلب الحدث خال من الانتقاش بالعقائد مع استعداده لتقبل ما يلقى إليه من خير أو شر كما يقول الغزالي: (وقلب الطفل الطاهر، جوهرة نفيسة ساذجة عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة.. وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك) (63).
نستنتج من ذلك أن المعرفة لا تولد مع الشخص، وإنما يولد معه الاستعداد لتحصيلها، وهذا هو معنى وجود العلم بالقوة في النفس الإنسانية. وهو قابل للتعلم منذ صغره، لأن حواسه ومداركه تكون منفتحة ومتيقظة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها، (فإنه في الوقت والساعة تدرك حواسه محسوساتها) (64).
-
[align=center]التربية في نهج البلاغة [/align]
- وظائف التربية:
ولا تقتصر وظيفة التربية على إعداد الإنسان أخلاقياً صالحاً بل هي تمتد لتلعب دورها في تطور البناء الاجتماعي من خلال: نقل التراث الثقافي وتغيير كيان الفرد والمجتمع.
ـ نقل التراث الثقافي
إن تحليل معنى التراث الثقافي وعلاقة الإنسان به، يوضح مدى أهمية العملية الاجتماعية التي يتم بواسطتها نقل الأنماط الثقافية من جيل إلى آخر يأتي بعده.
فالثقافة تعني مختلف وسائل التعبير وأنماط السلوك التي تبرز خصوصية شعب من الشعوب، لذلك فهي تشمل، استناداً إلى رأي الأنثروبولوجين الأميركيين بشكل خاص (على كل أنماط السلوك التي يعبر بها الإنسان عن نفسه والتي يشاركه فيها الآخرون، فهي تشمل الأدب والفن والديانات والميثولوجيات والأخلاق أو الآداب القومية والشعبية ومظاهر الحياة الاجتماعية من لباس وتزيين وكيفية طبخ وأكل.. الخ، فهذه كلها تعابير ورموز وآيات يعبر بها الإنسان عن نفسه، فهي ثقافته حتى لو كانت تقتصر على بعض المظاهر الفلكلورية) (65).
وإذا كان التراث الثقافي مبعث آمال الأئمة وملهم مشاعرها وعنوان تقدمها والانقطاع عنه يؤدي إلى هدم الأساس الذي تقوم عليه حضارتها، فإن إعادة نبش هذا التراث من بطون التاريخ، ونفض الغبار عنه وصياغته صياغة جديدة تقتضيها الحال عملية تربوية شاقة يضطلع بها الجيل السابق لتقديمه غذاءً سائغاً إلى الناشئة من الأجيال اللاحقة. ومن هذا المنطق، فقد عرفت التربية بحسب دلالتها وعلاقتها بالحياة الاجتماعية. وهذا ما فعله المفكر الاجتماعي المشهور (اميل دوركهايم) في أوائل القرن الحالي، بقوله أنها (التأثير الذي يجزيه الجيل الراشد في الجيل الناشئ) (66)، وهذا ما كان قد عبر عنه ابن خلدون في الربع الأخير من القرن الرابع عشر، عندما نظر إلى القضية، نظرة المفكر الاجتماعية ولاحظ أن الجيل الناشئ يتشوق إلى تلقي العلوم والمعارف من الجيل الذي سبقه فيقول: (وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم) (67). وقول ابن خلدون هذا لا يختلف معنى ومدلولاً عن قول (إميل دوركهايم) السالف الذكر.
ولقد تحدث الإمام (عليه السلام) عن هذا التفاعل الثقافي والاتصال الفكري بين الماضي والحاضر، انطلاقاً من تراث الإسلام المشرق، الذي صوره أقوالاً وأفعالاً ومبادئ تربوية يمكن الاستفادة منها في بناء الإنسان الفاضل، ومن تأكيده على أهمية هذا التراث وأثره الفعال في شحذ الهمم، نراه يتوجه إلى كل إنسان بما يراه صالحاً له في الدنيا والآخرة، فينقل إليه آثار الأولين والآخرين، نقية صافية من الأخطاء والشوائب من خلال السير في ديارهم وتتبع آثارهم وتمييز ما ينفع وما يضر منها. فالاتصال بالجذور لا ينبغي أن يكون عشوائياً بحيث يجذبنا التراث ويأسر أفئدتنا فنأخذ منه الغث والثمين. لهذا وحرصاً على صلاحية الهدف الذي نتوخاه من التربية يجب (أن لا يكون الاتصال بالماضي ضرباً من التبعية أو العبودية لهذا الماضي إذ لابدّ لنا من أن نجتهد على الماضي فنتجنب السلبيات ونؤكد على الإيجابيات) (68).
كذلك، فإن محتوى النقل الثقافي يجب أن يكون هادفاً بحيث يتحدد بنوع المواطنة الصالحة التي نريدها ونوع المجتمع الذي ينبغي بناؤه وتكوينه بحيث تكون أهداف التربية منسجمة مع أهداف المجتمع حتى لا يحصل التناقض بينهما فتكون النتيجة خلاف ما نتوخاه ونعمل له. وليس أدل على ذلك من الاضطراب والتفكك الذي يظهر في المجتمعات التي تنشد التطور بينما هي ترزح تحت عبء القيم التربوية البالية والمتأخرة. لهذا (.. فالتربية ملزمة بهذه الوظيفة وعلى عاتقها يقع عبء الاختيار من بين الاتجاهات والقيم والعادات والمعارف والعلوم التي توجد في المجتمع على أساس التمييز بين المرغوب فيها والمرغوب عنها، ذلك أن كل مجتمع يتضمن الكثير من العناصر المختلطة والأفكار المتنوعة، والقيم المتعارضة المتشابكة. فوظيفة التربية في هذا المجال تكمن في تنمية الاتجاهات والقيم المنتقاة على ضوء الأهداف العليا لذلك المجتمع) (69).
من أجل ذلك فإن أول ما يجب أن تنقله التربية إلى الأجيال الناشئة، هو كتاب الله، تنقله إليهم نقباً صافياً، خالياً من الشوائب باعتباره من أهم الركائز التي يجب أن يستند إليها الإنسان طيلة حياته لتقويم اعوجاج سلوكه وتنقية نفسه من الأدران التي علقت بها من جراء الابتعاد عن السبيل الصالح الذي رسمه الله في كتابه الكريم. وهذا ما أكده (عليه السلام) حيث اعتبر القرآن الأداة الفعالة في بناء الفرد والجماعة، فقال في وصية الحسن (عليه السلام)، المولود البكر لأمير المؤمنين والإمام الثاني من أئمة أهل البيت: (وأن ابتدئُك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ، وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه لا أجاوز ذلك بك إلى غيره) (70).
لقد كانت الغاية من وراء ذلك، أن يزود الحسن (عليه السلام) ومن خلاله أهل الإسلام جميعهم بمقومات التغيير قبل أن تلتبس عليه أهواء الناس وآرائهم ومعتقداتهم الباطلة فيقول، (ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم فكان أحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة ورجوت أن يوفقك الله لرشدك، وإن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيتي هذه) (71).
هذا المبدأ التربوي الهام الذي قرره الإمام (عليه السلام) منذ أمد بعيد إنما يقضي باستغلال نقاوة الفكر الإنساني لزرعه بالمعلومات الصحيحة. قبل أن تهجم عليه الأخلاق الذميمة والآراء الفاسدة الأمر الذي يجعل من الصعب على التربية أن تعيد تشكيله من جديد، وهذا يتوافق مع أحدث المناهج التربوية في يومنا هذا.
ـ التغيير الفردي والاجتماعي
ويقصد به كل تحول يحدث في كيان الفرد والمجتمع، وهذا التحول ينتج عن الصراع بين القديم والجديد، وعلى أساس هذا الصراع تتحدد وجهة سير هذا التغيير وسرعته. ذلك أن كل نمط ثقافي جديد يقابل بموقفين متعارضين أحدهما يدفعها إلى الأمام، والآخر يشده إلى الوراء. لهذا فالثقة الاجتماعية، إما أن تكون متطورة (ديناميكية) ترحب بالجديد وتتفاعل معه، وإما أن تكون جامدة (استاتيكية) تحافظ على القديم وتصدر رياح التغيير عنه. من هذا المنطق، فإن موضوع التغيير الذي تحدثه التربية، أصبح من أهم موضوعات علم الاجتماع ممّا يفرضه على الأفراد والمجتمعات من تحولات متفاوتة بين القوة والضعف، ولها أثرها في إعادة ترتيب الحياة من جديد. إلا أن هذا التغيير لن يؤتي ثماره ما لم تتوفر له القيادة المتميزة بالصلابة والتماسك والتي لا ترضخ لعنف الرفض والمقاومة.
أ) التغير على مستوى الفرد
إن التغير الذي تحدث التربية في نفسية الفرد، إنما هو بداية للتحول العظيم الذي سيطال المجتمع ككل. وبما أن للقيادة دورها الهام في إحداث التغيير المطلوب، فإن الاقتداء بها أمر يساهم في سرعة هذا التغيير. ولقد أعطى (عليه السلام) القدوة التي يجب أن تحتذى لحسم صراع النفس مع شهواتها لصالح الإنسان الفاضل وكانت وصاياه ومواعظه تصب في هذا الإطار فيقول في وصية إلى (شريح بن هانئ): (واعلم أنك لم تردع نفسك عن كثير ممّا تحب مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزواتك عند الحفيظة واقماً قامعاً) (72).
وردع النفس عن شهواتها يستلزم الزهد في الدنيا، وما أكثر الخطب والمواعظ التي أوردها الإمام في الزهد تشبهاً بحياة الرسول والاقتداء به حتى قال فيه عمر بن عبد العزيز: (ما علمنا أن أحداً كان في هذه الأمة بعد النبي أزهد من علي بن أبي طالب) (73).
ولا شك أن السيطرة على أهواء النفس والزهد في الدنيا من أكثر الأمور المشجعة على السلوك الفاضل. والتربية التي نعتمدها، إنما تساهم في تنمية الحس الخلقي للفرد وصياغة فكره قوالب معينة وبفضل التربية ينتقل الإنسان من بيداء الجهل إلى ميادين العلم والمعرفة كما في وصية الحسن (عليه السلام): (فإنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك) (74).
ب) التغير على مستوى المجتمع
إن التغير على مستوى المجتمع لا يتم بالصورة التي يتمناها رواد التربية فقد يكون سهل المنال وقد يقاوم بمعارضة شديدة، والمقاومة هي الأكثر حصولاً لتشبث القديم بقدمه، ورغبة الجديد في التطور والتقدم. وهذه حال رواد الصلاح والتغيير في العالم. وقس على ذلك حال الأنبياء والرسل والأئمة، والتاريخ يشهد بذلك. لقد جاوبه الإمام علي (عليه السلام) بمقاومة عنيفة من الفئات التي كانت تفضل الركود والجمود حرصاً على مصالحها وامتيازاتها فوقفت سداً منيعاً أمام رياح التغيير وحاولت منعه من تنفيذ برنامجه في الإصلاح، وقبل ذلك وقف النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ومعه الإيمان كله يصد موجات الكفر والضلال التي رفضت دعوته وأبت عليه مهمته في قهر الشرك ورسم معالم التوحيد.
إن روح الإصلاح والتغيير التي تنبعث من كلمات الإمام علي (عليه السلام) وتتأكد في مواقف ومناسبات عديدة، تقابل بالإصرار على العنف والرفض والمعاناة كما يقول (عليه السلام): فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب) (75).
إن حسم الصراع لن يتم إلا بالثبات في المواقف والتماسك في النفس حتى في أحلك الظروف، فلا يفت اليأس من عضد القائد أو يتسرب إلى قلبه ولا يرهبه عنف الصراع واحتدامه، فالتربية التي يتحدث عنها الإمام (عليه السلام) هي تلك التي تبني كياناً للإنسان يلزمه باتخاذ المواقف الأكثر صلابة تجاه الحق، فلا تؤثر فيه الإغراءات، ولا تخيفه الأعاصير كما جاء في قوله إلى أخيه عقيل: (لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولا تحسبنّ ابن أبيك ـ ولو أسلمه الناس ـ متضرعاً متخشعاً، ولا مقراً للضيم واهناً، ولا سلسل الزمام للقائد ولا وطئ الظهر للراكب المقتعد) (76).
ولا شك من أن لهذا الثبات والتصميم في إزالة كل العوائق التي تحول دون بلوغ التغيير الاجتماعي الهادف، دوراً هاماً في تحقيق النصر النهائي بهدم صروح الحضارة البالية والتشييد لبناء حضارة خالدة (فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكتب وأنزل علينا النصر) (77).
.................................................. ....
الهوامش:
1- باقر شريف القرشي، النظام التربوي في الإسلام، ص41، عن تاج العروس، ج1، ص261.
2- سليمان، كامل والعبد الله، علي: التربية، مطبعة صادر، بيروت، 1965، ص176-177.
3- نفسه، ص176-177.
4- نفس المصدر.
5- الغزالي، رسالة أيها الوالد، ترجمة توفيق الصباغ، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، سنة 1951، ص37.
6- ديوي، جون، الديمقراطية والتربية، ترجمة متى عقراوي، وزكريا ميخائيل، طبعة محددة لأغراض دراسية، بيروت، 1970، ج1، ص12.
7- أنظر ح، ج19، ص284.
8- مستدرك نهج البلاغة، ص177.
9- انظر ح، ج19، ص164.
10- سورة القصص، آية 77.
11- مقالات الإسلاميين، ج2، ص329.
12- سورة الرحمن، آية 14.
13- المصدر نفسه، ص 329.
14- المصدر نفسه، ص 331.
15- المصدر نفسه، ص 333.
16- المصدر نفسه، ص 337.
17- المصدر نفسه، ص 336.
18- سورة الحجر، آية 29.
19- سورة الفجر، آية 27-28.
20- مستدرك نهج البلاغة، ص160.
21- انظر ح، ج20، ص194.
22- انظر ح، ج20، ص292.
23- المصدر نفسه، ج20، ص292.
24- المصدر نفسه، ج19، ص173.
25- المصدر نفسه، ج20، ص260.
26- المصدر نفسه، ج20، ص267.
27- المصدر نفسه، ج20، ص260.
28- انظر ح، ج18، ص271.
29- المصدر نفسه، ج6، ص416.
30- المصدر نفسه، ج13، ص18.
31- انظر ح، ج19، ص11.
32- أ. س. زابوبرت، مبادئ الفلسفة، ترجمة أحمد أمين، ط7، القاهرة، 1964، ص80.
33- انظر ح، ج11، ص38.
34- إحياء علوم الدين، ج3، ص74.
35- انظر ح، ج16، ص67.
36- انظر ح، ج18، ص254.
37- الفندي، محمد ثابت، مقدمات في الفلسفة، مكتب كريدية أخوان، بيروت، 1971، طبعة محددة لأغراض دراسية، ص43.
38- مالبرانش، أحاديث في الميتافيزيقا، الحديث الثالث، عن كتاب (بعض مشكلات الفلسفة) لـ(وليم جيمس) ص94.
39- وليم جيمس، بعض مشكلات الفلسفة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، دار الطلبة العرب، بيروت، سنة 1669، ط2، ص20-21.
40- انظر ح، ج16، ص64.
41- المصدر نفسه، ج18، ص245.
42- بلدي، نجيب ديكارت، دار المعارف، بمصر سنة 1968، ص65.
43- ويل ديورانت: قصة الفلسفة، ص319-320.
44- المصدر نفسه، ص334-335.
45- المصدر نفسه، ص561.
46- انظر ح، ج20، ص259.
47- الرسائل، ج4، ص84.
48- أحمد أمين، ظهر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، ط3، القاهرة، سنة 1962م، ج2، ص60.
49- انظر ح، ج16، ص86.
50- حلمي المليجي، علم النفس المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، ص1970، ص209.
51- قصة الفلسفة، ص559.
52- عبد السلام عبد الغفار، مقدمة في علم النفس العام، دار مكتبة الجامعة العربية، بيروت، 1969، ص268.
53- الديمقراطية والتربة، ج1، ص181.
54- نفسه، ج1، ص165.
55- الديمقراطية والتربية، ج1، ص166.
56- جميع هذه الأقوال أخذت من كتاب (الغرر والدرر) للآمدي، ص43.
57- انظر ح، ج18، ص276.
58- مصير الإنسان، ص301.
59- أخوان الصفاء، الرسائل، ج1، ص262.
60- مصير الإنسان، ص305-307.
61- المصدر نفسه، ص305-307.
62- انظر ح، ج16، ص66.
63- إحياء علوم الدين، ج3، ص72.
64- رسائل أخوان الصفاء، ج3، ص414.
65- العروي، عبد الله، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت، 1973، ص70.
66- الحصري، ساطع: دراسات في مقدمة ابن خلدون، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، ص1967، ص444.
67- ابن خلدون، المقدمة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط5، د. ت. ص433.
68- لبنان الحضارة الواحدة، لمجموعة من الأستاذة، صدر عن النادي الثقافي العربي في بيروت، وهذا النص أخذ من مقال الدكتور معن زيادة في هذا الكتاب، ص21.
69- علي محمد الحسين الأديب، منهج التربية عند الإمام علي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1979، ص53.
70- انظر ح، ج16، ص68.
71- نفسه، ج16، ص68.
72- انظر ح، ج17، ص138.
73- فضائل أمير المؤمنين وإمامته، ج2، ص345.
74- انظر ح، ج16، ص74.
75- انظر ح، ج14، ص47.
76- المصدر نفسه، ج16، ص148.
77- المصدر نفسه، ج4، ص33.
-
[align=center]أنواع التربية[/align]
أولاً: التربية الاجتماعية
1) الأسرة وأثرها في إعداد الإنسان
الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى في نسيج المجتمع لذلك كانت محور دراسات الفلاسفة منذ القدم، وموضع اهتمام الديانات السماوية وجميع النظم والدساتير السياسية، وهي تعتبر بحق من أهم عوامل تقدم المجتمعات وتطورها واستقرارها بفعل العناصر الخيرة والفاضلة والمؤثرة التي ترفدها بها.
وهي مجتمع صغير تتكون من زوج وزوجة والأولاد والخدم وربما شملت أيضاً الجدود والأحفاد والأقارب على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة.
ولقد لعبت الأسرة، وما تزال دوراً مهماً في تنشئة الأجيال وإعدادها. ومهما قيل عن تراجع دورها بفعل المؤسسات المختلفة التي استحدثها المجتمع لتحل محلها، فإنها ما زالت تمارس وظيفتها في التناسل والتنشئة الدينية والخلقية والاجتماعية بشكل يدعو إلى صعوبة الاستغناء عنها أو التقليل من أهميتها باعتبارها أكثر التصاقاً ومعرفة بالطفل وأدق تنظيماً وإحكاماً من سائر المؤسسات التربوية التي من المفترض أن تحل محلها.
والأسرة من الفعاليات الاجتماعية الديناميكية التي تنزع إلى مسايرة التطور ولا تستنكف التأثر بالنظم والتغيرات الحضارية لتعود وتؤثر في باقي أجزاء البناء الاجتماعي. فالتفاعل بينها وبين سائر أنظمة ومؤسسات المجتمع متبادل وهي لا تفتأ تؤثر التكيف والنمو والتجديد وفي ذلك يكمن سر تقدم المجتمعات وتطورها.
وإذا كان للأسرة دورها في التقدم فإنها من جهة ثانية، يمكن أن تلعب دوراً هداماً تكون نتيجته التفكك والاضطراب. ذلك أن المجتمع يتكون من مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف والقيم والنظم والقواعد، ولا بد أن يمثلها أفراده في تصرفاتهم وعلاقاتهم بعضهم مع بعض حفاظاً على السلامة والاستقرار الاجتماعي. وعلى عاتق الأسرة تقع مهمة تزويد الأطفال بها، وتعويدهم عليها، وإلا فإن الشواذ منهم يكونون عامل هدم وتخريب وعدم استقرار.
كذلك فإن أثرها في احترام قوانين المجتمع ونظمه وأحكامه، لا يقل أثراً عن اهتمامها بتزويده بالعناصر الفاعلة. وهذا الأمر يتوقف على القيم السائدة بين الآباء والأبناء، لذلك يؤكد علماء النفس الاجتماعي على ضرورة أن تتسم العلاقة فيما بينهم بالاتزان والانسجام والتعاون والاحترام المتبادل.
ولا شك في أن الأسرة مسؤولة عن سلامة الأطفال النفسية وانحرافهم وشذوذهم والسبب يكمن في عدم الاستقرار العاطفي بين الآباء من جهة، وبينهم وبين الأبناء من جهة ثانية أو بني الأبناء أنفسهم.
وهي من جهة أخرى، مسؤولة عن تزويدهم بالاتجاهات والنماذج السلوكية المقبولة، إذ في داخلها يتعلم الطفل قيم الأخلاق وقواعد الآداب ونماذج السلوك الحسن وأساليب الثواب والعقاب ومناحي الحق والخير والجمال والتعاون والمحبة والعمل وغير ذلك. لهذا يمكن اعتبارها إحدى العوامل الأساسية في بناء الكيان التربوي وتحقيق عملية التطبيع الاجتماعي. فالعائلة رغم كونها مؤسسة اجتماعية صغيرة، إلا أنها كبيرة الأهمية وعليها تتوقف قوة المجتمع ومنعته.
ويمكن تلخيص أثرها في الطفل بأمور ثلاثة ذكرها (جون ديوي) وهي:
أ. تكوين العادات اللغوية
إن أساليب الكلام الأساسية والجانب الأكبر من المفردات اللغوية إنما تتكون في سياق الحياة داخل الأسرة. فالطفل يتعلم لغة أمه. يقول (ديوي): (أجل إن التعليم المقصود في المدارس قد يصلح من هذه العادات اللغوية أو يبدلها، ولكن ما أن يتهيج الأفراد حتى تغيب عنهم في كثير من الأحيان الأساليب الحديث التي تعلموها عن عمد، ويرتدون إلى لغتهم الأصلية الحقيقية).
ب. الآداب الاجتماعية
إن القدوة الحسنة أفضل من النصيحة، والعمل الطيب أبلغ أثراً من الكلمة المجردة والتربوية الفاضلة إنما تكتسب برياضة النفس على العمل الصالح لا باكتساب المعلومات عنها. يقول (ديوي): (وعلى الرغم من الجهود المقصودة المستديمة في تعليم الأفراد وتقويم سلوكهم، فإن الجو والروح المحيطين بهم يبقيان أقوى العوامل المؤثرة في تكوين آدابهم. وما الآداب الاجتماعية سوى الأخلاق مصغرة، أما في السمت الأعلى من الأخلاق فالتعليم المقصود لا يكاد يكون قوي الأثر إلا على قدر مطابقته لسيرة الأفراد الذين يكوّنون بيئة الطفل الاجتماعية).
ج. في الذوق السليم وتقدير الجمال
إن الطفل يأخذ أول فكرة عن الجمال والذوق من الأسرة، من خلال مشاهدته لأثاث البيت وتنسيقه، والترتيب الحاصل في الملابس التي يرتديها، أو التي يرتديها باقي أفراد أهله.
كما أنه يكتسب من الأسرة، أول فكرة عن النظافة والثواب والعقاب، والحكم على الأشياء، واتخاذ القرارات وغيرها من النماذج السلوكية التي تساعده على حسن التكيف، والتفاعل مع غيره من أعضاء المجتمع الكبير الذي سينتقل إليه فيما بعد) (1).
ونظراً لهذا الدور الهام الذي تلعبه الأسرة في بناء كيان الفرد والجماعة فقد عني الإسلام بدراسة شؤونها وتنظيمها وتشكيلها في صورة فاضلة وراقية، تتفق مع أحدث التشريعات وكانت عنايته بها حقيقة انفرد بها عن سائر الشرائع السماوية والأرضية. ومن يتدبر القرآن، يجد تركيزه وبجدية على ضرورة الالتزام بشروطها ومتطلباتها، بما يؤدي إلى ترابطها وتماسكها لما للطلاق من آثار سيئة عليها وعلى المجتمع ـ لذلك فقد (جعل للزواج أحكاماً، ووضع للطلاق وتعدد الزوجات قيوداً، وقرر للزوجين من الحقوق والواجبات المتبادلة ما به تحسن المعاشرة، وتقوى الرابطة وتطيب الحياة. ولا نكاد نجد في تشريع ما، أرضي أو سماوي، مثل هذه القاعدة الجليلة التي جعلها القرآن أساساً للحياة الزوجية ولفت بها الأنظار إلى ما بين الزوجين من الحقوق والواجبات، تلك القاعدة التي وردت في قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (2).
2) موقف الإمام (عليه السلام) من الأسرة:
يشير الإمام (عليه السلام) إلى أهمية هذه المؤسسة وأثرها على الفرد والمجتمع فيقول: (أيها الناس، إنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه وألمّهم لشعثه وأعطفهم عليه عند نازلة إن نزلت به ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره) (3).
إلى أن يقول: (إلا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته، فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة) (4).
إن مفهوم الإمام (عليه السلام) للعائلة، لا يقتصر على الآباء والأولاد، بل هو يمتد ليشمل العشيرة بأكملها وما تتضمنه من الأحفاد والأجداد والأقارب. ونظراً للدور الهام الذي تلعبه في بناء كيان الأفراد وحمايتهم من الأخطار التي تحدق بهم، فإنه يحث الأغنياء منهم على مواساة أقاربهم الفقراء وصلتهم بالمال ويرغب إليهم هذا الأمر بالذكر الجميل والاعتضاد بالعشيرة ودوام محبتها لهم.
والواقع أن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن عائلته وخاصة في صغره كما أن المال لا يوفر له بدلاً عنها، فهي بالنسبة إليه ضرورة ملحة طيلة حياته ووظيفتها لا تقتصر على حماية أبنائها من خطر الآخرين بل أنها تتعدى ذلك إلى أخذهم بمختلف أنواع التربية حتى يشبوا صالحين. كما أنها المكان الذي يجد فيه الطفل الرعاية اللازمة لنموه وتطوره. يقول (جون ديوي) إن بني الإنسان يولدون قليلي النضج إلى درجة أنهم لو خلوا وأنفسهم بدون توجيه الآخرين وعونهم ما تمكنوا من الحصول حتى على أيسر الكفايات اللازمة لحياتهم المادية فصغار البشر يظهرون قليلي الحظ من الكفايات الأصلية إذا ما وزنوا بصغار الحيوانات الدنيا حتى أنهم لا قبل لهم باكتساب القوى التي تكفل حصولهم على ما يسد رمقهم إلا بحياطة غيرهم، فما أشد حاجتهم للرعاية إذاً، في محيط بلغت فيه الإنسانية مبلغها من الصناعة والفن والعلم والخلق) (5).
3) روابط الأسرة
إن روابط الأسرة كما حددها الإمام (عليه السلام) تتسامى عن تلك التي جمعت بين أفراد القبيلة في الجاهلية. فالعصبية القائمة على صلة الرحم، هي من النزعات الطبيعية في البشر فرضتها الحمية على الأهل والأقارب كما يقول ابن خلدون: (وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر، إلا في الأقل. ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك، نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا) (6).
هذه النزعة الطبيعية في البشر، تؤدي إلى (الاتحاد والالتحام) فيما بين أفراد النسب الواحد، لأنها تحملهم على (التعاضد والتناصر) وتستلزم (استماتة كل واحد منهم دون صاحبه) (7).
إلا أن هذه العصبية لم تستبعد الظلم الناجم عن الغزو، ولم تتخلص من الأحقاد التي زرعت الدماء والتنافر بين القبائل المختلفة بما نجم عنها من حروب اكتوى الناس بنارها.
وإذا كان لصلة الرحم دورها الهام في توثيق عرى الاتصال بين أفراد الأسرة الواحدة. فإن هذا لا يعني التغافل عما يصدر عنهم من مظالم ومساوئ يلحق ضررها بالآخرين. ولقد تدارك (عليه السلام) هذا الظلم الناجم من استغلال البعض لهذه الصلة من أجل تحقيق مآرب شخصية ولم يتسامح في أي عمل يستحق المؤاخذة ومن أي مصدر كان قريباً أم بعيداً، فلا يدعو إلا إلى الحق الذي على أساسه يفاضل بين الأعمال. فعندما تنكر عبد الله بن عباس والي البصرة لابن عمه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقابله بالعداوة بعد الصداقة، وسرق أموال المسلمين مدعياً حقه فيما أخذ، كتب إليه الإمام يعنفه ويوبخه ويتوعده بالقتل إن لم يرجع للناس أموالهم التي سرقها، فيقول: (فاتق الله واردد إلى هؤلاء أقوم أموالهم، فإنك لم تفعل، ثم أمكنني الله منك، لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار) (8).
وهكذا فالإمام علي (عليه السلام) لم تمنعه قرابته لابن عباس من أن يدفع الظلم الذي ارتكبه، إن هذا التماسك في شخصيته دفعه إلى تطبيق ما يؤمن به قولاً وعملاً، وحتى على أقرب الناس إليه. لقد أقسم أن ولديه، على قربهما منه وكرامتهما عليه، لو فعلا ما فعله ابن عباس من الخيانة، لما كانت لهما عنده هوادة في أخذ الحق منهما، لأنه لا يخشى فيه لومة لائم. فيقول: (والله لو أن الحسن والحسين فعلاً مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتهما) (9).
لقد أراد الإمام (عليه السلام) من الإنسان أن يكون نصيراً للحق، ثابتاً عليه، فلا تأخذه فيه شفقة أو رحمة أو عاطفة أو عصبية. ومهما تكن لهذه الروابط من تأثير في النفوس فإنه لا ينبغي أن تحد من رؤية الحق ونصرته، وإذا كان للعصبية شأنها في تقوية الصلة بين أفراد العشيرة فإن الإمام (عليه السلام) يسمو بها إلى درجة تحد ممّا يلحق بها من مظالم وأحقاد ويجعلها سبباً لمكارم الأخلاق.
فهو إذ يوبخ الناس على تعصبهم للباطل الذي تثور به الفتن، وتسفك بسببه الدماء، لسبٍ واهٍ، كتعصب إبليس على آدم لأصله، ويقول لهم: (ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة) (10). فإنه يحذرهم من هذا الأمر الذي لا طائل منه وينبههم إلى مواقع العصبية وما ينبغي أن تكون له، وهي مكارم الأخلاق ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، تلك التي تفاضل بها أهل المجد والشرف والنجدة من بيوتات العرب وسادات القبائل فيقول: (فإن كان لابدّ من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأخلاق، ومحاسن الأمور، فتعصبوا لخلال الحمد، من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والأخذ بالفضل، والكف عن البغي والإعظام للقتل والإنصاف للخلق والكظم للغيظ واجتناب الفساد في الأرض) (11).
فروابط العشيرة إذاً ليست العصبية العمياء، ولكنها روابط الحق والعدل والعمل الصالح ومكارم الأخلاق. وكل ما عدا ذلك فهو باطل، وما قول الإمام (عليه السلام): (فإن كان لابد من العصبية..) إلا تأكيد على أصالة قوى الشر والعدوان عند الإنسان إلى جانب قوى الخير. تلك القوى التي لو تركت دون توجيه وإرشاد لشب عليها الإنسان وأصبح من العناصر الشاذة في المجتمع. لذلك فلقد حاول أن يصرفها بطريقة تكفل السلامة النفسية. إذ لا يمكن كبت تلك القوى لأنها سوف ترتد إلى اللاشعور أو الجانب المظلم من النفس، وتصبح من الدوافع اللاشعورية والرغبات المكبوتة التي (لا تستقر ولا تهدأ بل تحاول جاهدة أن تعبر عن نفسها بشتى الصور وتنجح في ذلك حينما يغفل الرقيب فتظهر في صورة متنكرة كما في أحلام النوم كتعبير رمزي عن محتويات اللاشعور، كما تعبر عن نفسها في صورة أمراض عصابية) (12).
وهكذا فالكبت وإن كان يحول دون التعبير الطبيعي والمباشر عن الدوافع اللاشعورية، إلا أنه لا يمنعها من أن تعبر عن نفسها في صور تنكرية ملتوية.
كما أنه لا يمكن قمعها واستبعادها بالقوة لأنها ستعود من جديد إذا خف عليها الضغط ولم تجد من يردعها. وفي كلتا الحالتين تتحول تلك القوى إلى عقد نفسية وأمراض عصابية لها أثرها السيئ على الإنسان.
لذلك فقد استبعد الإمام (عليه السلام) هذا الأسلوب السلبي، وقال بوجوب الإعلاء والتسامي بها وصرفها في أمور يرضى عنها المجتمع. فبدلاً من أن يتعصب القوم لعشائرهم لأسباب يغلب عليها الجهل والعداوة والأحقاد مع ما ينتج عن ذلك من المآسي والشرور، فليكن التعصب لما فيه خير الفرد والمجتمع معاً.
وللإمام (عليه السلام) أسلوب آخر في توجيه دوافع الفرد، تمثل في مبدأ الثواب والعقاب ولقد اعتمده من أجل تشجيع الإنسان على فعل الخير ونهيه عن فعل الشر، لما في الثواب أو العقاب، المادي أو المعنوي، من أثر في إصلاح رغباته ودوافعه، وسوف نرى ذلك في مكانه.
أ. العواطف
وهي من أكثر الروابط فعالية بني أفراد الأسرة، فالعاطفة (نظام يتألف من عدة ميول وجدانية مركزة حول شيء ما (شخص أو جماعة أو فكرة مجردة) تكيف الشخص لاتخاذ اتجاه معين في شعوره وتأملاته وسلوكه الخارجي) (13).
وهي، من هذا المنطلق، تتميز عن الميول الفطرية، بالرغم من أنها ولدت منها، كذلك فإنها تتأثر بالعوامل الاجتماعية وتنمو وتتهذب بالتفكير والتأمل والتجارب الانفعالية المختلفة، كما أنه لها أثرها في تنظيم الحياة الانفعالية للفرد، وتوجيه السلوك والدوافع الفطرية توجيهاً حسناً بحيث تصبح أكثر ثباتاً واستقراراً ممّا يساعد على التنبؤ بسلوكه. والعاطفة، وإن كانت من الروابط الهامة بين أفراد الأسرة الواحدة إلا أنه لا ينبغي أن تصل إلى حد الإفراط أو التفريط لأن كلاهما مضر ومفسد لنفسية الإنسان كما يقول (عليه السلام): (فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد) (14).
إن عدم رعاية الطفل والاهتمام به وحرمانه من المحبة والعاطفة يؤدي إلى تبرمه بأسرته وانعزاله عنها وسوء الظن بها، ومن ثم التطرف في أقواله وأفعاله، كما أن إحاطته بجو من العطف المفرط المشوب بالقلق واللهفة يجبره على الارتكاس إلى طفولته الأولى حيث كان يجد لذته ويجعله اتكالياً في شتى أموره، ويبذر بذور القلق في نفسه. فالعلاقة العاطفية التي تسود جو الأسرة، لها أثرها في سلامة الطفل النفسية وفي تحديد سلوكه الاجتماعي المقبل، ذلك لأن الطفل إن كان (غير واثق من عطف والديه وكانت علاقته بهما مشوبة بالقلق والخوف، فلن يبدي استعداداً للتعاون الإيجابي مع الآخرين، وإن كانت الرابطة العاطفية التي تربطه بهما هي رابطة العطف المفرط من جانبهما والاعتماد المطلق من جانبه فلن يسعى إلى التعلق عاطفياً بأفراد من خارج الأسرة. وإنما يقنع بالارتباط الطفلي اللذيذ، ويعرض عن كل ما من شأنه أن يفض هذا الارتباط) (15).
أما إذا ألف الطفل من والديه قدراً كافياً من الحب المتزن، فإنه لن يتوانى عن المشاركة في شتى أمور الأسرة، ومن ثم يصبح من العناصر المقبولة اجتماعياً بسبب هذه العاطفة المتوازنة التي كفلت الأمن والطمأنينة له، ذلك لأن (الحب الوحيد الكفيل بإشاعة الأمن في نفس الطفل هو الحب الثابت المتزن، وهو وحده الذي يطبع علاقات الطفل الاجتماعية المقبلة بطابع الثقة) (16).
هذا الجو المتسم بالمحبة الصادقة والعواطف النبيلة المتزنة، هو ما يدعو إليه الإمام (عليه السلام) على أن يكون الطابع الذي يطبع علاقة الآباء بباقي أفراد أسرتهم. لقد كانت الروح الحاكمة في الأسرة التي تكلم عنها، هي روح التواضع والمحبة والصداقة والاحترام المتبادل. فالعاطفة الأبوية التي تربط بين الآباء والأبناء، ينبغي أن تتأكد بتقديم النصائح والتوجهات والمعاملة الحسنة.
لذا كان من الواجب على الأبوين أن يخلقا في البيت جواً عائلياً مشبعاً بروح المودة والحب. فإذا ما درج الأولاد على هذه الروح في حياتهم البيتية، سهل عليهم نقلها إلى حياتهم الاجتماعية الواسعة، ولقد عبر (عليه السلام) عن هذه العاطفة النبيلة بقوله: (ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي) (17).
كذلك فإن الرباط العاطفي بين الآباء له أثره على الأبناء، لأن السعادة العائلية تبعث الطمأنينة في نفس الطفل، في حين أن عدم الاستقرار العائلي له ضرره في تعقيد نفسيته وهروبه من الواقع المؤلم الذي يعيشه ممّا يسهم في سوء تكيفه الاجتماعي. فإذا عجز الآباء عن تأمين هذا الجو العاطفي، فلا مجال للتحدث عن أطفال أسوياء. لذا كانت (مودة الآباء قرابة بين الأبناء) (18).
لقد دخلت كلمات الإمام (عليه السلام) إلى أعماق النفس البشرية وسبرت أغوارها وكشفت عن مكنون أسرارها، ووقفت على ما يلائمها من الفضائل والمعارف والعواطف والانفعالات ودعت إلى تنشئتها عليها حتى يستقيم نهجها وتسمو في مدارج العلم والأخلاق.
ب. الحقوق والواجبات
إن العيش ضمن نطاق الأسرة يفرض جملة من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الآباء والأبناء، حيث لا يمكن بدونها حفظ كيان الأسرة وضمان استمرارها. فالآباء الذين لا يكترثون بأبنائهم ولا يعبأون برعايتهم وتربيتهم، وكذلك الأبناء الذين يظلمون آباءهم ولا يحترمونهم ولا يقدمون يد المساعدة لهم، إنما يقترفون خطأ فادحاً في ضمير الإنسانية وشرحاً واسعاً في كيان الدين والمجتمع. وكم نحن بحاجة اليوم إلى تدعيم الأسرة وتمتين وشائجها في عصر طغت على أبنائه المادية الهدامة وقل أثر الدين في النفوس، فتنكر الابن لأبيه وشغل الأب عن ابنه.
ولقد أدرك الإمام (عليه السلام) هذا العصر ومنذ آلاف السنين وكشف عما يعتوره من رذائل ومفاسد فيقول: (يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل ولا يظرف فيه إلا الفاجر ولا يضعف فيه إلا المنصف يعدون الصدقة فيه غرماً، وصلة الرحم منّاً، والعبادة استطالة على الناس) (19).
ونظراً لأهمية الأسرة كإحدى الركائز الثابتة في بناء المجتمعات وتقدمها فإن ما تحدث به الإمام (عليه السلام) يدعو إلى تدعيمها وتوثيق الصلة بين أفرادها من خلال ربطها بحقوق وواجبات تكفل لها الاستمرار والتقدم فجعل للأبناء حقاً على الآباء، وكذلك للآباء على الأبناء، وألزم كلاً منهما واجبات تجاه الآخر. وإذا تأكد حق القرابة والرحم فأخص الأرحام أفضلهم بذلك.
إن طاعة الوالدين وبرهما من علامات المؤمن لقوله تعالى: (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) (20)، ولقد أوصى سبحانه ببر الوالدين وصلتهما في قوله الكريم: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) (21) ومعاملتهما في الدنيا بالمعروف حتى وإن خالفا قول الحق لقوله عزّ وجلّ: (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (22)، وقوله عزّ القائل: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (23).
وهكذا فحق الآباء على الأبناء هو البر والطاعة في كل شيء إلا في معصية الله سبحانه، وحتى في هذه الحالة الأخيرة، فإن الله سبحانه يوجب الإحسان إلى الوالدين وعدم زجرهما أو التأفف منهما (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (24).
أما حق الأبناء على الآباء فيتجلى في أمور ثلاثة:
ـ في تحسين الاسم: إن للاسم أثراً على نفسية الطفل في مستقبل حياته، فبعض الأطفال يخجلون من ذكر أسمائهم ويرفضون مناداتهم بها وقد يفتعلون المشاكل بسبب ذلك، وربما يحاولون تغييرها بأسماء يرتاحون إليها. في حين أن البعض الآخر يطربون لسماعها وقد يعتزون بها ويشمخون. من هنا وجب الحرص والتمهل والاعتناء في اختيار الأسماء حفظاً على سلامة الطفل النفسية وحسن تكيفه الاجتماعي.
ومن حق الولد على والديه أيضاً حسن اختيار مرضعته. ويرى الإمام علي (عليه السلام) أن لبن الأم هو أكثر فائدة للصبي من لبن أية مرضعة أخرى كما يقول: (ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه) (25)، وإذا تعذر ذلك فإنه يوجب النظر في اختيار المرضعة فيقول: (انظروا من يرضع أولادكم فإن الولد يشب عليه) (26). ولذا فقد استبعد الحمقاء عن الرضاعة، لأن لبنها يؤثر على طباع الطفل، (ولا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يغلب الطباع) (27).
وقد عبر عن ذلك ابن سينا في قوله: (إن من حق الولد على والديه إحسان تسميته ثم اختيار ظئرة كي لا تكون حمقاء ولا ردهاء ولا ذات عاهة فإن اللبن يعدي كما قيل) (28).
ـ في تحسين الأدب: والطفل أمانة والديه، ونفسه جوهرة نقية خالية من كل نقش، لذلك وجب أخذه بالآداب الصالحة والأخلاق النبيلة والعلوم النافعة، لما لها من مردود خير عليه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه، وذلك قبل أن تستفحل فيه الأخلاق والآداب الذميمة. وعلى كاهل الأسرة يقع عبء تعهد الطفل بالرعاية والتثقيف والتأديب والتهذيب وتمكينه من ممارسة الفضائل الخلقية والأدبية. وهذا ما أثبته ابن سينا بقوله: (فإذا فطم الصبي عن الرضاع بدئ بتأديبه، ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة وتفاجئه الشيم الذميمة، فإن الصبي تتبادر إليه مساوئ الأخلاق وتنثال عليه الضرائب الخبيثة فما تمكن منه من ذلك غلب عليه فلم يستطع له مفارقة ولا عنه نزوعا) (29).
ـ في تعليمهم القرآن: وما ذلك إلا لأن القرآن يأمر بالخير، وينهى عن الشر ويجنب قبائح الأخلاق ويدعو إلى محاسن الفضائل والآداب وفيه شفاء من النفاق وهداية من الضلال. وقد عبر الإمام (عليه السلام) عن فضل القرآن بقوله: (واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدّث الذي لا يكذب وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، ونقصان من عمى.
واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء. وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فاسألوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه وإنه ما توجه العباد إلى الله تعالى بمثله.
واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق، وإنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة، ألا أن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواءكم) (30).
وإذا كانت للقرآن هذه المزايا الهامة، كان لابدّ من تنشئة الطفل عليه حتى يتمثله قولاً وعملاً. وهذا ما دعا إليه ابن سينا عندما قال: (فإذا اشتدت مفاصل الصبي، واستوى لسانه وتهيأ للتلقين ووعى سمعه أخذ في تعلم القرآن وصور له حروف الهجاء ولقن معالم الدين) (31).
ولقد ذكر (عليه السلام) هذه الحقوق المتبادلة بين الآباء والأبناء فقال: (إن للوالد على الولد حقاً، وإن للولد على الوالد حقاً، فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء إلا في معصية الله سبحانه، وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه ويعلمه القرآن) (32).
ولا شك من أن المسؤولية الأولى في تربية الطفل إنما تقع على عاتق الأسرة فإذا كان العقل، كما يقول جون لوك: (صفحة بيضاء أو لوحة شمع خالية من النقش عند الميلاد) (33) مع استعداده لتقبل ما يلقى إليه، استطعنا أن نبلغ به ما نريد بتسليط المؤثرات الملائمة عليه. ولقد أظهرت الأبحاث والدراسات تأثر الطفل بصفات آبائه الخلقية والعقلية، باعتباره مطبوع على الاقتداء بهم والسيرة على نهجهم. ذلك لأن (أكثر أخلاق الطفل وسجاياه يأخذها من الوسط الذي يعيش فيه، فتنمو فيه وتترسخ لكثرة استعمالها والمداومة عليها، فترة طويلة، إلى أن تصبح عادة متأصلة في طبعه) (34).
ونظراً لهذه المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق الأسرة، فلا عجب أن يمتدحها الإمام (عليه السلام) ويوصي بها خيراً فيقول: (وأكرم عشيرتك فإنهم جناحيك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول) (35) . ويدعو إلى حسن معاملة كل فرد من أفرادها.
4) سياسة الأسرة
وتتضمن أسلوب الرجل في تعامله مع زوجته وولده وخدمه باعتباره سيد الأسرة ومدبرها ومنظم شؤونها.
أ. سياسة المرأة
وفي ذلك نشير إلى موقف الإمام علي (عليه السلام) من المرأة وقضاياها وحقوقها وكيفية التعامل معها.
إن موقف الإمام (عليه السلام) من المرأة هو موقف الإسلام بالذات. يقول محمد جواد مغنية (إن أقوال الإمام وآراءه، وواقعه هو واقع الإسلام وأقواله هي أقوال القرآن، لا يفترقان أبداً، حتى يردا الحوض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كما جاء في الحديث الشريف. وبالتالي فإن الإمام لم يخلق لنفسه، وإنما وجد وخلق ليمثل الإسلام على حقيقته، فإذا فكر، أو قال، أو فعل فلا يخرج في جميع ذلك عن دائرة الإسلام) (36).
لقد ساوى الإسلام بين المرأة والرجل رغم اختلافهما بيولوجياً، ولم يفاضل بينهما إلا بالتقوى كما قال سبحانه: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (37). وضمن للمرأة حقوقاً ورتب عليها واجبات لقوله عزّ وجلّ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (38) فكفل لها حق العم والكسب والعشرة الحسنة، والملكية وحق اختيار الزوج.. وهاجم الذين يفضلون الرجل على المرأة ويتشاءمون من الأنثى لقوله تعالى: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (39).
لكن المرأة هي العنصر الأضعف وكونها إنساناً لها مثل الذي عليها فإن هذا لا يمنع من أن تكون سائرة في فلك الرجل، ولقد وصفها الإسلام من خلال تصرفاتها التي تصدر عن طبيعتها وفطرتها. قال تعالى: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) (40). ولا ينقص هذا من شخصية المرأة لأن (حق القوامة مستمد من التفوق الطبيعي في استعداد الرجل، ومستمد كذلك من نهوض الرجل بأعباء المجتمع وتكاليف الحياة الأسرية) (41).
وقال تعالى: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (42)، وحتى أنه تعالى جعل كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لقوله سبحانه: (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (43).
تلك هي طبيعة المرأة كما عبر عنها الإسلام في كتابه الكريم، ولم يتخلف الإمام علي (عليه السلام) عن هذه الصورة التي وضعها القرآن للمرأة. فقد حصلت على كامل حقوقها التي أقرها لها الإسلام، ولم يذكر التاريخ حادثة واحدة أهان بها الإمام المرأة أو غمط بعض حقوقها حتى اللواتي أضمرن له العداوة عملاً بوصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال موصياً ولده الحسن (عليه السلام): (الله الله في النساء وما ملكت أيمانكم، فإن آخر ما تكلم به نبيكم أن قال: (أوصيكم بالضعيفين: النساء وما ملكت أيمانكم) (44).
وليس أدل على ذلك من معاملته لعائشة التي ألّبت عليه الرجال وحشدت ضده الجيوش ودخلت معه في حرب ضروس كانت الأشد خطراً على الإسلام والمسلمين، ومع ذلك، لم يتصرف معها بما يشين كرامتها ويعدو شرفها بل أذن لها بالرحيل وجهزها بما تحتاجه من مركب وزاد ومتاع وسار في وداعها عدة أميال، وهو يدعو لها بالمغفرة.
أما كلماته (عليه السلام) في حق المرأة، فهي تتراوح بين الاهتمام بها، وعدم الإساءة إليها أو التعرض لها بأذى، والكشف عن طبيعتها فيقول: (... ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول) (45) وليس هذا قدحاً في شخصية المرأة بقدر ما هو دليل على طبيعتها. لذلك فهو يحذر منهن بقوله: (فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر) (46).
ومن الغريب حقاً، أن يسند ابن أبي الحديد هذا الكلام بموقف الإمام (عليه السلام) من عائشة حيث يقول: (وهذا الفصل كله رمز إلى عائشة). وليس هذا من الصواب في شيء لأن المنطق يقضي بعدم الحكم على الكل من خلال الجزء، إضافة إلى أن هذا يتنافى ومنطق الإسلام الذي يقول: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (47).
وإذا كانت المرأة أداة للشر والفساد فإن المسؤولية في ذلك لا تقع عليها بقدر وقوعها على المجتمع الذي استغل غرائزها وضعفها وجعلها أداة للشر، ولم يهتم بتعديل هذه الغرائز وتوجيهها لما فيه خيرها وسعادتها.
لقد كانت المرأة على قدر كبير من الجهل بحيث تمنعها ضآلة ثقافتها من إبداء الرأي السديد والحكم الصائب. أما اليوم فقد فتحت أمامها أبواب العلوم المختلفة ودخلت في أكثر المجالات التي دخلها الرجل وأصبحت قدرتها على المشاركة الإيجابية الفعالة في الحياة لا تقل عن قدرة الرجل، بل أصبحت تلعب دوراً هاماً في صنع الأحداث واتخاذ القرارات. فلا يمكن بعد ذلك عزلها في البيت وقصر وظيفتها على التربية فقط كما قال محمد عبده. (48) كما أن دعوة الإمام (عليه السلام) إلى عدم مشاورتها بقوله (وإياك ومشاورة النساء..) (49) لا يمكن أن ينسحب إلا على المرأة الجاهلة كما فعل النبي (صلّى الله عليه وآله)، يقول مغنية: (أما نهي النبي وعلي عن مشورة النساء، فيحمل على مشورة الجاهلة وكان أكثر النساء آنذاك في معزل عن العلم وتجارب الحياة ولا ذنب للمرأة في ذلك إذا قصر الرجل في تربيتها مع العلم بأنها من طينة الرجل، وطبيعتهما واحدة (يشتركان في المسؤولية على قدم المساواة) (50). فإذا عملنا على تثقيف المرأة وتهذيب غرائزها وتزويدها بالفضائل الخلقية والاجتماعية، لم يعد هناك من مبرر لحصرها في المنزل دون الانتفاع بمواهبها ومؤهلاتها شرط أن لا يتعارض ذلك مع واجبها المنزلي. ففي هذه الحالة يكون ضررها أكثر من الفائدة المرجوة منها، ويكون احتجابها في البيت، وقيامها على راحة زوجها وأولادها أفضل بكثير من اندماجها في المجتمع وهذا هو جهاد المرأة الحقيقي الذي عبر عنه الإمام بقوله: (جهاد المرأة حسن التبعّل) (51).
ب. سياسة الولد
أما الولد فهو أمانة والديه، ونفسه الطاهرة خالية من كل نقش وقابلة لكل نقش، فإن عُوّد الخير نشأ عليه وإن عوّد الشر مال إليه. لذلك وجب أخذه بالتربية قبل أن تهجم عليه الأخلاق الذميمة وتستحكم منه. ونظراً لضعف قواه العقلية والجسدية فإن الشفقة واجبة عليه، فلا ينبغي الإسراف في معاقبته: (حصّن عقوبتك من الإفراط) (52) كما قال (عليه السلام).
أما في مجال الحياة العامة، فإن الإمام (عليه السلام) يوصي بعدم تنشئة الولد على الرفاهية والسخاء لا، من شأن هذه التربية أن تفسده وتسبب له الهلاك لحرصه عليها. فالسخاء صفة جميلة يحمد عليها الإنسان، لكنها تصبح عادة مهلكة إذا اعتادها وتجاوزت الحد المعقول، فيقول: (لا تحمدن الصبي إذا كان سخياً، فإنه لا يعرف فضيلة السخاء، وإنما يعطي ما في يده ضعفاً) (53).
وفيما يتعلق بمهنة الولد، فإنه يؤكد على ضرورة الاهتمام بميوله واهتماماته ورغباته، إلا أنه يتعلم مهنة أبيه بسرعة لشغفه في تقليده ومحاكاته في عمله، لذا فإن (من عمل عمل أبيه كفى نصف التعب) (54).
ج. سياسة العبيد
الرقيق ظاهرة اجتماعية عرفتها مختلف الأمم والشعوب منذ أقدم العصور فكان اتخاذ الخدم منتشراً عند اليهود والنصارى والمسلمين، ولقد واجه الإمام (عليه السلام) سوء معاملة الخدم وأكد على حقهم في الرعاية والرفق والمعاملة الحسنة فإذا كانت ظروف الحياة، وليس الطبع، قد أجبرتهم على العيش معنا، يؤدون لنا من الأعمال والخدمات الكثيرة، إن هذا لا يعني الحط من أقدارهم وهدر إنسانيتهم.
لقد آمن (عليه السلام) بإنسانية الإنسان، وألقى في نفسه ما يوقظه على أصل من أصول وجوده، وهو أن طبيعة الكون جعلته حراً لا يتمرد ولا يطيع ولا يعمل ولا يقول إلا على أساس من هذا الحق الطبيعي. وهو بذلك إنما يلقي في نفسه بذور الثورة على كل ما من شأنه أن يضيق عليه ويسلبه حقه في أن يكون حراً. لذلك فهو يتوجه إليه بقوله: (لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حراً) (55).
هذا المفهوم العميق للحرية جعلت رجال الدين والإصلاح يهتمون بعتق العبيد في وقت كان يعتبر فيه الرق نظاماً طبيعياً، ويحد العبد بأنه آلة للحياة ضرورية لضرورة الأعمال الآلية المنافية لكرامة الإنسان الحر. إن عتق العبيد حاجة إنسانية فرضتها كرامة الإنسان وطبيعته الحرة. هذه الحاجة تجسدت في فكر الإمام علي (عليه السلام) وعمله ووجدانه وأصالته ووعيه بعدم أحقية الفوارق والامتيازات بين البشر، تلك التي نتجت عن عهود طويلة من الظلم والإقطاع وممارسة أبشع ألوان استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. فليس غريباً إذن أن يعتق الإمام (عليه السلام) العديد من هؤلاء بكده وعرق جبينه كي يعيد إليهم حقهم في حياة حرة كريمة. لهذا فقد (أعتق ألف عبد من كد يده، كل منهم يعرق فيه جبينه وتحفى فيه كفه) (56) كما ذكر جعفر ابن محمد في شرح النهج.
5) سياسة الأصحاب والأعداء
حاجة المصاحبة طبيعية بين البشر، بل وحتى في الحيوان ولكنها في البشر أولى لتشعب علاقاتهم وتنوع حاجاتهم ـ وقد اعتبرها الغزالي ثمرة حسن الخلق فقال: (اعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق والتفرق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر. ومهما كان المثمر محموداً كانت الثمرة محمودة) (57).
والمصاحبة أوصت بها الكتب السماوية والسنن النبوية، وكما كانت من وصايا الأولياء والحكماء والأدباء ورجال الإصلاح لما فيها من أثر مباشر على تماسك المجتمع وصلاحه. إذ لا حياة لقوم إلا بوحدة أبنائه وألفتهم وإنه متى تحققت هذه الوحدة والألفة، تضافرت الجهود والعقول إلى العمل لحياة أفضل، إذ لا شيء وراء الشتات سوى المذلة والهوان، ولقد حذر الإمام (عليه السلام) من الفرقة والاختلاف ودعا إلى اجتماع الكلمة ولملمة الصفوف من خلال وحدة وطنية متراصة دون اعتبار لدين أو لون أو أي اعتبار آخر في سبيل تحقيق الهدف المشترك في التقدم والتطور (فإن جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة فيما تحبون من الباطل) (58).
والمصاحبة تتطلب الانسجام في الخلق والمواقف، وهذا لن يكون إلا بحسن اختيار الأخوان والتأكيد على صلاحيتهم لهذا الأمر. وبقدر ما يكون الاختيار مصيباً بقدر ما تكون المصاحبة أكثر ثباتاً واستقراراً، إذ ليس كل أحد من الناس يصلح لأن يكون صديقاً لذا فإن الإمام علي (عليه السلام) يحدد نوع المصاحبة وأثرها فيقول شعراً:
[align=center]فلا تصـــــحب أخـــــا الجــــهلِ *** وإيّــــــــــــاك وإيّـــــــــــــــــاه
فكم مـــــــــن جــــــــاهل أردى *** حَلِيـــــــــماً حيـــــــــنَ آخـــــاه
يقــــــــــاس المـــــــرءُ بالمرء *** إذا مـــــــا المــــــــــــرء ماشاه
وللشـــــــيء مـــــن الشـــــيء *** مقايـــــــــيس وأشــــــــــــــباه
وللقــــــــلب علــــــــى القــــلب *** دليل حـــــــين يلــــــقاه(59)[/align]
ويقول أيضاً:
[align=center]إن أخـــــاك الحــــــقّ من كان معك *** ومن يضـــــــرّ نفســــــه لينفــــعك
ومن إذا ريــــــبُ زمــــــان صدعك *** شتّت فـــــيه شمله ليجمعك(60)[/align]
إن ندرة الصديق الوفي تقضي بوجوب المحافظة عليه واحترام كافة حقوق الصداقة وذلك من أجل ترسيخ جذورها بحيث لا يؤثر عليها أي طارئ، صغيراً كان أم كبيراً.
فالصداقة وذلك من أجل ترسيخ جذورها بحيث لا يؤثر عليه أي طارئ، صغيراً كان أم كبيراً. فالصداقة صنو الوفاء، والوفاء توأم الصدق، والصدق من الإيمان، ولن يصلح إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولقد دعا (عليه السلام) إلى نشر هذه القيمة الإنسانية السامية بين البشر لأهميتها في رص الصفوف ووحدة الكلمة ووضع الأسس الصالحة لممارستها بما يكفل لها الديمومة والاستمرار، ولن يتم لها ذلك إلا بضمان حقوقها المستندة إلى الوفاء والإخلاص والمحبة ونكران الذات كما جاء في وصية الحسن (عليه السلام): (.. ومن ظن بك خيراً فصدّق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه) (61).
أما العداوة فلا معنى لها في منطق الإمام (عليه السلام)، لأنها من شيم النفوس الخبيثة الداعية إلى الحقد والكراهية. لذلك فهو يرفضها حتى في أضيق حدودها ويدعو إلى اعتماد العفو عند المقدرة تيمناً بكتاب الله القائل: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (62) فقال: (إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه) (63).
6) سياسة الجار
في هذا الباب يدعو الإمام إلى حسن الجوار واحترام حق الجيرة لأن جيران الأسرة من عوامل هناءتها أو شقوتها وعلى قدر ما يكون بينهما من ألف أو خلف، تحلو الحياة أو تسوء، لذا فقد تعوذ الناس بالله من جار السوء، وقال (عليه السلام): (سل عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار) (64).
والوصية بالجار من الأمور التي دعا إليها الإسلام ووضع لها الشرائع والسنن. فقد أحل الله الجيران محلهم من ضمن الذين يتوجب الإحسان إليهم، فقال عزّ وجلّ: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (65)، وقال الرسول الكريم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) (66).
فليس من الإسلام في شيء من يسيء معاملة جاره أو يهضم حقاً من حقوقه أو يطمع في أشيائه أو يشمت وينكل به. لذلك قال الإمام علي (عليه السلام): (وأحسن مجاورة جارك تكن مسلماً) (67).
بهذا يكون الإمام علي (عليه السلام) قد صاغ نشاطات الإنسان الفكرية والعملية في قوالب اجتماعية سليمة من خلال تربية عمادها القيم والمبادئ السامية، بهدف خلق جيل يؤمن بالحق والخير والتضحية والفضيلة، (وهل التربية الاجتماعية سوى تعريف الولد بأصول المعاشرة وحسن المعاملة والأمانة والصدق والغيرية ونكران الذات ومحبة الآخرين وحسن السلوك والتعاون والتضحية) (68).
...................................
الهوامش
1- الديمقراطية والتربية، ج1، ص20.
2- سورة البقرة، الآية 228.
3- انظر ح، ج1، ص312.
4- انظر ح، ج1، ص313.
5- الديمقراطية والتربية، ج1، ص4.
6- المقدمة، ص128.
7- المصدر نفسه، ص154.
8- انظر ح، ج16، ص168.
9- المصدر نفسه، ج16، ص168.
10- المصدر نفسه، ج13، ص166.
11- انظر ح، ج13، ص166.
12- علم النفس المعاصر، ص115.
13- علم النفس المعاصر، ص166.
14- انظر ح، ج18، ص271.
15- عبد المنعم وحلمي المليجي، النمو النفسي، دار النهضة العربية، بيروت، ط4، ص224.
16- النمو النفسي، ص220.
17- انظر ح، ج16، ص75.
18- المصدر نفسه، ج19، ص214.
19- انظر ح، ج18، ص260.
20- سورة النور، الآية 51.
21- سورة لقمان، الآية 14.
22- سورة لقمان، الآية 15.
23- سورة الإسراء، الآية 23.
24- سورة الإسراء، الآية 24.
25- مستدرك نهج البلاغة، ص171.
26- المصدر نفسه، ص170.
27- المصدر نفسه، ص171.
28- ابن سينا، السياسة، نشرة الأب لويس معلوف اليسوعي، ص1073.
29- نفسه، ص1073.
30- انظر ح، ج10، ص18-19.
31- ابن سينا، السياسة، ص1074.
32- انظر ح، ج19، ص365.
33- الديمقراطية والتربية، ج2، ص298.
34- قاسم جابر، أخوان الصفاء وآراؤهم السياسة، ص23، دراسة أعدت لنيل شهادة الماجستير في الفلسفة، 1979.
35- انظر ح، ج16، ص221.
36- علي والفلسفة، ص121.
37- سورة الحجرات، الآية 13.
38- سورة البقرة، الآية 228.
39- سورة النحل، الآيتان، 58-59.
40- سورة النساء، الآية 34.
41- مجلة عالم الفكر، م7، ع1، 1976، ص54.
42- سورة يوسف، الآية 28.
43- سورة النساء، الآية 76.
44- تحف العقول، ص140.
45- انظر ح، ج15، ص104.
46- المصدر نفسه، ج15، ص214.
47- سورة الأنعام، الآية 164. فلابدّ والحالة هذه من أن يكون هذا الكلام نابعاً من الخبرة بطبيعة المرأة والمعرفة بدقائق نفسيتها، تلك الخبرة التي استقى أصولها من الإسلام.
48- انظر م، ج1، ص129.
49- انظر ح، ج16، ص122.
50- انظر ح، ج3، ص531.
51- تحف العقول، ص79.
52- انظر ح، ج20، ص318.
53- المصدر نفسه، ج20، ص330.
54- المصدر نفسه، ج20، ص335.
55- انظر ح، ج16، ص93.
56- المصدر نفسه، ج4، ص110.
57- إحياء علوم الدين، ج2، ص157.
58- المصدر نفسه، ج2، ص171.
59- إحياء علوم الدين، ج2، ص171.
60- نفس المصدر.
61- انظر ح، ج16، ص105.
62- سورة البقرة، الآية 237.
63- المصدر نفسه، ج18، ص109.
64- المصدر نفسه، ج16، ص163.
65- سورة النساء، الآية 36.
66- إحياء علوم الدين، ج2، ص212، تحف العقول، ص140.
67- تحف العقول، ص138.
68- التربية، ص189.
-
ثانياً: التربية الدينية والأخلاقية
الأخلاق، علم يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه الإنسان وما ينبغي أن يعمل، وبأي شكل يشكل حياته، ولقد مر هذا العلم بفترات طويلة من النمو والتطور قبل أن تحتضنه الفلسفة ويصبح علماً له قواعده وأصوله.
خلق الإنسان، وهو مجهز بكثير من القوى والملكات، وبالعديد من الميول والرغبات والحاجات، فهو المخلوق الحر الذي يعمل ما يشاء وكما يشاء، وله السلطان التام على أعماله وأفعاله تجاه نفسه أو غيره من بني نوعه. ولم يكن له من حاكم يحكم به على أمور سوى ذاته. لذا اختلفت الأحكام وتعددت المقاييس وأصبح العمل الواحد أخلاقياً في مكان أو زمان، ومستهجناً في مكان أو زمان آخرين.
ويظهر أن في الإنسان صوتاً باطناً يوحي إليه بما ينبغي أن يفعل، ويساعده على التمييز بين الحسن والسيئ، الحق والباطل، الضار والنافع، وهو ما يسمى بالوجدان أو الضمير. هذا الشعور هو الذي كان يحمل الناس على السير في طرق خاصة قبل بحث النظريات الأخلاقية بحثاً فلسفياً بأزمان طويلة. وهو ينشأ إما من غريزة في الإنسان وإما من معتقدات دينية وإما من أحكام تواضع الناس عليها وقرروا العمل بها لما وجدوا فيها الخير والمنفعة لهم في حياتهم العملية. وتأكدت هذه الأحكام بالجري عليها، ثم أجبر الناس على العمل بمقتضاها حتى صارت عرفاً وعادات وأصبح العمل بحسبها أخلاقياً وانتهاكها مخالفاً للأخلاق، قال زجلو: (العرف مجموعة أعمال محدودة تواضع الناس عليها اعتباطاً، ونمت في أوساط خاصة، سيما في المجتمعات الطبيعية والجنسية كالعشيرة والقبيلة ثم صار انتهاكها تعدياً على الآداب واتباعها فضيلة) (1).
وعندما وجه سقراط فكر اليونان إلى البحث في الإنسان كانت الأحكام الأخلاقية منثورة في أقوال الشعراء على شكل حكم وأمثال، ولم يكن ثَمّ علم خاص بها. لذا قال الفيلسوف الفرنسي (بول جبانيه): (إن الشعراء كانوا أول لاهوتي عند اليونان كما كانوا أول واعظ) (2).
أما البحث الحقيقي في الحقائق الأخلاقية، فأول من بدأ به عند اليونان، أفلاطون وأرسطو ولاسيما أرسطو.
أما في الشرق، مهبط الأديان السماوية، فقد تولى هذه المهمة إلى جانب الفلاسفة رجال الدين والكهان والوعاظ. لذا اصطبغت فلسفتهم الأخلاقية بالدين الذي أصبح معيار الحكم الأخلاقي. ولقد كان الإسلام من جملة الأديان التي اهتمت بالأخلاق، فجمع بين الدين والدنيا.
من خصائص التربية الإسلامية هي كونها دينية وأخلاقية وهي تهدف إلى تكوين الإنسان الفاضل الذي يكتسب من الفضائل بما يضمن له السعادة في الدارين. وهذا ما نلمسه بوضوح لدى التربويين المسلمين القدماء جميعهم، من خلال عرضهم لأهداف التربية والتعليم. إذ يرى هؤلاء أن الغرض الأسمى للتربية هو إحياء الشريعة وإتمام مكارم الأخلاق. يقول الغزالي في رسالة (أيها الولد): (أيها الولد كم من ليال أحييتها بتكرار العلم، ومطالعة الكتب وحرمت على نفسك النوم، لا أعلم ما كان الباعث فيه؟ إن كان نيل عرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصبها والمباهاة على الأقران والأمثال، فويل لك ثم ويل لك، وإن كان قصدك فيه إحياء شريعة النبي، وتهذيب أخلاقك وكسر النفس الأمارة بالسوء، فطوبى لك ثم طوبى لك) (3).
إن اهتمام التربية بتكوين الإنسان الفاضل، إنما هو تمهيد لخلق المجتمع الفاضل، بقيمة الروحية والخلقية. ولقد عمل الإسلام على تخليص المجتمع ممّا علق به من أدران الجاهلية. وجاء النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي قال فيه تعالى مثنياً عليه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4)، ليبعث الروح في جسد هذه الأمة، ويتمم مكارم الأخلاق كما قال (صلّى الله عليه وآله): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (5).
ولا شك أن للعبادة وذكر الله أثرها في الوجدان الخلقي للإنسان، إذ تكثر فيه الرغبة إلى الخيرات والعمل الصالح، وتقل فيه الرغبة إلى الشر والفساد والذنوب. هذا يعني أن الدين يزيل النزعات الشريرة من النفوس ويستبدلها بالميل إلى الخير والبر والعمل الصالح.
ولقد حفل (نهج البلاغة) بكثير من خطب الإمام علي (عليه السلام) الداعية إلى الالتزام بحدود الله، لأنها تعصم عن الرذائل. جاء في إحدى هذه الخطب بعد تأكيد شديد على الصلاة (وإنها لتحت الذنوب حتّ الورق، وتطلقها إطلاق الربق) (6). وجاء في خطبة أخرى بعد الإشارة إلى عدد من رذائل الأخلاق من قبيل، الطغيان والظلم والكبر: (وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات تسكيناً لأطرافهم وتخشيعاً لأبصارهم وتذليلاً لنفوسهم وتخفيضاً لقلوبهم وإذهاباً للخيلاء عنهم) (7).
فالصلاة عامود الدين وأساس اليقين تنقي القلوب وتغسل الخطايا وتذهب بالذنوب وتقرب إلى الله تعالى، فيجب تعهدها والقيام بها، فإنها كانت على المؤمنين كتاباً موقتاً، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (8).
وهكذا فالصلاة تحت الذنوب حت الورق وتطلقها إطلاق الربق. ولقد شبهها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالحمة تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن. وقد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ولا قرة عين، من ولد ولا مال كما قال تعالى: (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) (9). وقد أمر تعالى رسوله الكريم بها فقال جل القائل: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) (10).
وبالإجمال فالصلاة عامود الدين، وقربان كل تقي وعلم الإيمان كما قال (عليه السلام): (علم الإيمان الصلاة من فرغ لها قلبه، وقام بحدودها فهو المؤمن) (11).
أما الزكاة، فهي كالصلاة من القرابين التي يتقرب بها العبد إلى الله. وهي فريضة اجتماعية واجبة، فرضها الله تأكيداً لمبدأ التعاون بين الناس من أجل الصالح العام وخاصة الأغلبية الفقيرة منهم، على أن يكون بذلها عن طيب خاطر.
أما الصوم، فهو إحدى العبادات الكبرى التي فرضها الله في جميع رسالاته على البشر وعلى مدى التاريخ، يشهد بذلك قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (12). وللصوم كغيره من العبادات، هدف تربوي يتمثل في تنمية الضمير الأخلاقي في داخلهم، والحس الإنساني في سلوكهم، من أجل التضامن الاجتماعي في علاقاتهم داخل المجتمع، وإيجاد روح الانضباط والنظام في حياتهم العامة. وقد عبر الله تعالى عن هذا الهدف التربوي بالتقوى فقال: (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (13). والتقوى ذات مضمون اجتماعي وسياسي إلى جانب مضمونها الروحي، إذ لا تعبر فقط عن الحالة الروحية وحدها بل هي في الحقيقة نظرة إلى ما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان في المجتمع.
فالصوم من هذا المنظور، عمل تجريبي يقوم به الإنسان ليتحسس آلام الآخرين، ويدرك من خلال التجربة الشخصية حاجتهم، فيكون أكثر استعداداً للعمل بنفسه والتعاون مع الآخرين في المجتمع والدولة لتنمية هذا الإحساس ونشره بين فئات المسلمين. والصوم في الوقت ذاته عمل انضباطي يمارس الصائم ضبط النفس والطاعة الواعية أمام الإغراءات التي تقدمها له الحياة اليومية فتدعوه إلى العدل وعدم الظلم. وهذه النقطة عظيمة الأهمية في التربية الحضارية، لأن مقياس قدرة أمة من الأمم على صنع حضارة، تتناسب طرداً مع قدرة أفرادها وجماعاتها على الانضباط والتقيد بالنظام. ومن المعلوم أن نمو الروح الفردية يشجع على انطلاق الرغبات الأنانية في المجتمع لدى الأفراد والجماعات، ويؤثر بالتالي على التماسك الاجتماعي، ومن ثم فإنه في المدى البعيد، يؤثر على قدرة الأمة وعلى مدى ثباتها أمام التحديات والنكبات.
من هذا المنطلق، فإن الصوم ضرورة تربوية لمواجهة تيار الترف وما يؤدي إليه انحلال يطبع حياتنا شيئاً فشيئاً، ويطغى عليها بتأثير نمط الحياة الغربي، الذي يجعل المتعة الشخصية والرفاه والراحة غايات مقدسة على حساب الشعور بالمسؤولية الإنسانية تجاه الآخرين وتجاه المجتمع الذي نعيش فيه.
1) معنى حسن الخلق
تكلم كثير من الفلاسفة والحكماء في حقيقة حسن الخلق ولم يتوصلوا إلا لبعض نتائجه دون أن يستوعبوا حقيقته بل ذكر منهم ما خطر له منها وما كان حاضراً في ذهنه. ولقد اعتبر الغزالي نفسه ممن توصلوا إلى الكشف عن هذه الحقيقة فقال: (فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية. فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجملية المحمودة عقلاً وشرعاً، سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً) (14).
هذا المعنى الذي تكلم عنه الغزالي، لا يوضح فيما إذا كان الخلق أمر مركوز ومطبوع في الجبلة مذ الميلاد، أم أنه مكتسب بالمران والعادة طيلة أيام الدنيا ومع ذلك فإن إيجابيته تكمن في جعل الخلق شيء طبيعي يصدر عن النفس تماماً كصدور النور عن الشمس من غير فكر ولا روية لأن التكلف يوحي بالرياء والمراوغة وغير ذلك من الأفعال القبيحة.
ولقد كان الإمام علي (عليه السلام) أبدع تصويراً وأشكل إحاطة بحقيقة حسن الخلق من خلال شرحه لحال العارف المطلق الذي خصه الله بألطاف بحيث تصدر عنه الأفعال بالفطرة ومن غير فكر وروية تتأكد بالممارسة العملية الصادقة. من ذلك قوله: (عباد الله، إن من أحب عباد الله إليه، عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى ليومه النازل به فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد، نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده، فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى عن الهموم إلا هماً واحداً انفرد به. فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى، وقد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبل بأمتنها. فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور، من إصدار كل وارد عليه، وتصيير كل فرع إلى أصله، مصباح ظلمات، كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه، فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه. قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمها، ولا مضنة إلا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله) (15).
هذا النص يفسر حقيقة حسن الخلق بكونه لطفاً إلهياً أمد الله به أخلص عباده إليه، يختار عنده الحسن ويتجنب القبيح من غير روية وإعمال فكر. ولقد حدد الطرق التي ينبغي أن يسلكها العارف كي يخصه الله بلطفه، وهذه الطرق تتمثل بالعبادة والزهد وطلب العلم وقول الحق.
أما العبادة، فهي في الإخلاص لله والتورع عن محارمه والاستكثار من ذكره والتفرد بمناجاته ومطالعة أنوار عزته حتى تتكيف نفسه بتلك الكيفية العظيمة الإشراق.
ويظهر الزهد في قطع علائقه بالدنيا والتخلي عن همومها إلا هماً واحداً وهو أن يلقى الله راضياً مرضياً، وأن يطلب العلم ويهتدي بنوره لنهج السبيل الحق حتى يصبح قادراً على كشف المبهمات وحل المعضلات. ويتمكن من دينه ويسلك بوحي منه ويجيب بالحق عن كل سؤال وإن يحكم بالعدل ويلزم نفسه به ويقول الحق ولو كان عليه.
هذه الطرق إذا سلكها الإنسان استخلصه الله وأيده بلطفه فصارت تصدر عنه الأفعال بالطبع لا بالتكلف. وهكذا فإن حسن الخلق يتأكد بالممارسة الدينية والدنيوية السليمة ويصبح من سجايا النفس الطبيعية فيصدر عنها بعون الله من غير فكر أو روية.
تلك هي أبرز معالم التربية الخلقية التي اعتمدها الإمام علي (عليه السلام) في سبيل إعداد الإنسان العالم المؤمن الذي اهتدى بنور العلم والإيمان إلى نهج السبيل الحق وتغلب على نفسه الأمارة بالسوء وسلك طريق العلم والعمل بوحي من ضميره الخلقي وحق له أن يكون من خلفاء الله في أرضه، الذي يخضع فكراً وسلوكاً لأحكامه وتعاليمه الداعية إلى عمارة الأرض وصلاحها لخير العباد وصلاحهم.
2) طرق التهذيب المسلكي
إن طبيعة الإنسان قابلة للتغير والتكيف بالتربية والتعليم، وقد زعم البعض بعدم القدرة على تعديل الخلق نظراً لعدم تغير الطباع ولو كان الأمر كذلك (لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (حسنوا أخلاقكم) (16).
ومن الطرق التي اعتمدها (عليه السلام) في التهذيب المسلكي هي:
أ. القدوة الحسنة
وأعني بها مواجهة الناس بالسلوك الحسن بحيث نكون قدوة لهم في ممارسة الفضائل والمكرمات والطاعات واجتناب الرذائل والمحرمات، لأن من يروم إصلاح غيره وجب أن يبدأ بنفسه أولاً. فإذا كان المرشد مناقضاً لنفسه ودينه، تابعاً لأهوائه وميوله ذهب إرشاده مع الريح وهذا نوع من السفه، بل هو السفه كله. فيقول: (من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره. وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم) (17).
ولقد كان الإمام علي (عليه السلام) يعطي المثل من نفسه في كل عمل يدعو إليه أو كلام يأمر به لأنه يكره التلون في الأخلاق والتناقض بين الأعمال والأقوال، وما ظلم من ساوى الناس بنفسه فيقول: (إني لأرفع نفسي عن أن أنهى الناس عما لست انتهي عنه أو آمرهم بما لا أسبقهم إليه بعملي أو أرضى منهم بما لا يرضي ربي، إني لا أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها) (18).
ب. المربي الجيد:
لشخصية المربي دورها الهام في تشكيل نفوس المتعلمين، وقد أوصى الحكماء والمربون بضرورة أن يتولى مهمة التربية والتهذيب ممن تتوفر فيهم الصفات الحسنة والخصال الحميدة لأن (من لم يصلح خلائقه لم ينفع الناس تأديبه) (19) ما قال الإمام (عليه السلام). فالمربي الجيد يستطيع أن يسمو بأمته ويضعها في مصاف الأمم المتحضرة والمتقدمة من خلال تزويدها بالطاقات البشرية الصالحة. لذا فإن أهميته تتعدى أهمية المناهج والقوانين والأنظمة المتبعة. يقول الأبراشي: (ليست المناهج والقوانين المدرسية والأبنية الفخمة والأجهزة العظيمة بأكثر أهمية في التربية والتعليم من المدرّس، فإن له أثراً كبيراً في التلميذ، في عمله وأدبه وفي عمله ومهارته، فمن المحال أن يرتقي مستوى التعليم إلا إذا أوجد له مدرسون قديرون، مخلصون في عملهم، خبيرون بمهنتهم واستفادوا من تجاربهم وإرشادات غيرهم) (20).
من هذا المنطلق فقد اشترط (عليه السلام) على من يتولى هذه المهمة الصعبة أن يكون له (قوة في دين وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وعلماً في حلم.. الخير منه مأمول، والشر منه مأمون.. يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه.. لا يضار بالجار ولا يشمت بالمصائب ولا يدخل في الباطل.. نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة..) (21). إلى غير ذلك من القيم الخلقية والأدبية والدينية والاجتماعية.
ج. العِشرة
وللعشرة دورها في تكوين خلق الإنسان، لأن الصاحب معتبر بصاحبه، والسجايا والخصال إنما تتأثر وتتكون بجو العشرة وما يكتنفه من قيم ومبادئ، لذلك كان الأبرار قرناء الخير والخلق الحسن وكان الأشرار قرناء الشر والخلق السيئ، وما ذلك إلا لأن (سوء الخلق يعدى، وذاك أنه يدعو صاحبك إلى أن يقابلك بمثله) (22) كما يقول الإمام (عليه السلام).
د. الثواب والعقاب
ونعني به التهذيب بالترغيب والترهيب، وهو من المبادئ التربوية الهامة التي تأخذ بها التربية الحديثة، لأن الثواب يرغب بعمل الخير ويدعو صاحبه إلى المثابرة عليه. أما العقاب فإنه ينهي عن الشر ويردع عن فعل السوء.
جاء في عهد الأشقر: (ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء..، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه) (23).
3) معرفة أخلاق النفس
لكي يتمكن الإنسان من معرفة أخلاق نفسه، لابدّ له من سلوك طريقين: معرفة نفسه بنفسه، ومعرفة نفسه بالآخرين.
أ. معرفة نفسه بنفسه
إن من أبغض خلائق الله رجلاً استسلم إلى نفسه فشغل بها ونسي خالقه، فجاء عن قصد السبيل وخبط في الباطل، فكان من نفسه في عناء والناس منه في بلاء.
والنفس أمارة بالسوء لما جبلت عليه من حب الشهوات، فلابدّ من زجرها بالعقل ومراقبتها باستمرار حتى لا تستحوذ علينا الرغبات والأهواء فتؤدي بنا إلى الهلاك. لذا (فمن شغل نفسه بغير نفسه، تحير في الظلمات وارتبك في الهلكات، ومدت به شياطينه في طغيانه، وزينت له سيئ أعماله) (24) كما يقول الإمام (عليه السلام).
وكلما أمعن المرء في مراقبتها وحاسبها على أخطائها واستدرك ذلك بالتوبة والمغفرة، وقوم اعوجاجها بالعقل والضمير والوجدان، كلما انقادت إليه بسلاسة وتمكن من السيطرة عليها فلا ترديه في مهاوي البؤس والرذيلة فيكون اتعاظه بنفسه أقوى أثراً وأبلغ حجة من وعظ الناس له لأن: (من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها لا زاجر ولا واعظ) (25) كما يقول الإمام (عليه السلام) أيضاً. ومن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، ويرى أحدهم القذى في عين أخيه، ويعمى عن رؤية العصي في عين نفسه، وكفى بالمرء جهلاً ألا يعرف قدره.
ب. معرفة نفسه بالآخرين
إن معرفة أخلاق النفس بالغير، أفضل من معرفتها بنفسها لما في طباع الإنسان من التغاضي عن عيوبه والتسامح عن كثير من أخطائه. لذا كان لابدّ من الاستعانة بمن يصدقونه، الحديث عن نفسه ويبصرونه بعيوبها حتى ينظر إليها منعكسة في مرآة نفوسه. ومن هؤلاء الأصدقاء والأعداء، لأن الأولين يظهرون له بصدق ما يعتمل في نفسه من محاسن ومساوئ والآخرين يطنبون في ذكر معايبها فيتجنبها. ومنهم أيضاً أهل الورع والحكمة وأصحاب العلم والأدب، فيحاكمهم في نفسه حتى يطلع على خفايا الآفات ومطايا الزلل، فيبتعد عنها ويعمل بوحي آرائهم ومشورتهم، قال الإمام علي (عليه السلام): (جالس العلماء يكمل عقلك وتشرق نفسك وينتف عنك جهلك) (26). وهكذا تظهر نزعة الإمام علي (عليه السلام) الاعتزالية في تقديمه للعقل.
4) علامات حسن الخلق
إن الإمام علي (عليه السلام) يمثل الأخلاق الإسلامية بأروع معانيها وبكل ما تنطوي عليه من القيم والمبادئ السامية. ولعل قوله السالف الذكر (قيمة كل امرئ ما يحسنه) هو خير تعبير عن الإنسان الفاضل الذي يريده. والناس أبناء ما يحسنون، وما يحسنه الإنسان يجب أن يكون منطلقه الإيمان لأن الدين يقدس الفضائل كلها وحكمه تؤخذ من حكم العقل لذا كان (التقي رئيس الأخلاق) (27) كما يقول الإمام علي (عليه السلام).
والتقوى تتعارض والنفاق في الأخلاق وتتماشى مع الطبع وكل ما يبدر من الإنسان يجب أن يكون انقياداً للطبع والسجية دون تكلف أو رياء. والرجل التقي لا يأخذ الحياة كغاية في حد ذاتها بل وسيلة لغاية أسمى هي إثبات جدارته بخلافة الله في أرضه فيتورع عن البغي ويجهر بالحق ويصبر على الشدائد ويمقت التكلف ولا يتصنع في رأي يراه أو نصيحة يسديها أو رزق يهبه أو مال يمنحه ويتواضع ولا يتكبر وتكون علاقته بغيره مبنية على الصراحة والخلق والصدق وسلامة القلب فلا يحسد ولا يبخل ولا يكره ولا يحقد.
لذلك فإن الإمام حدد (عليه السلام) مكارم الأخلاق في عشر خصال هي (28):
أ. السخاء
ب. الحياء
ج. الصدق
د. أداء الأمانة
هـ. التواضع
و. الغيرة
ز. الشجاعة
ح. الحلم
ط. الصبر
ي. الشكر
5) أما الخصال المذمومة التي نهى عنها الإمام علي (عليه السلام) وحذر منها فهي كما يلي:
أ. الغضب
ب. الخوف
ج. الحسد
د. الحرص
ه. البخل
و. الجبن
ز. الطمع
ح. الكذب
ط. الحقد
ي. العجب
ك. الرياء
ل. الغيبة
م. النميمة
ن. الفخر
س. كثرة المزاح
-
ثالثاً: التربية الوطنية
للتربية الوطنية مكانتها الرئيسية في دساتير الأمم والشعوب، ومهمتها تكمن في إعداد النشء على محبة الوطن وخدمته بصدق ووعي وإيمان والذود عنه والعمل على رفعته وتطوره في سائر المجالات بالتعاون مع سائر أبنائه. والشعوب منذ فجر حياتها، وحتى يومنا الحاضر، ما زالت تعتبرها إحدى الركائز الهامة لبناء مجدها ومستقبلها (فالأقوام البدائية مثلاً كانت وما تزال في بعض البقاع النائية المنعزلة، تعطي أولادها عند البلوغ دروساً نظرية وعملية عن أسرار القبيلة وتقاليدها، وعاداتها قبل إدخالهم في عضويتها، كما أن الرومانيين كانوا يحفّظون أبناءهم مجموعة من أهم قوانين البلاد أطلق عليها اسم الألواح الاثني عشر) (29).
ولقد كان لخطب الإمام (عليه السلام) دورها في تنمية هذا الحس الوطني والشعور القومي، بعيداً عن العصبية والقبلية الجاهلية، بل في إطار التعاون بين سائر الشعوب ضمن حدود الحق والعدل والأخوة، فلم يعد الوطن هو المحدد بمساحته وحدوده وشعبه (القطري) ولا المحدد بلغته ودينه وتاريخه (القومي) فهذه الأوطان هي من الضيق بحيث لا تسع أفق الإمام ومداركه. إن نظرته (عليه السلام) للوطن تلغي الحدود وتتجاوز الحواجز الروحية كانت أم مادية، وتمتد لتشمل الوطن الإنساني (ليس بلد بأحق بك من بلدك، خير البلاد ما حملك) (30). فالوطن الذي يقصده هو حيث يطمئن فيه الإنسان إلى وجوده ومصيره وحقوقه، لأن (وطن الإنسان هو راحة الإنسان وأمنه وحريته وكرامته وحقوقه ومصيره، فكل بلد يؤمن له ذلك هو وطنه الذي يخلص له، ويستميت في سبيله سواء أكان بلد الآباء والأجداد أو لم يكن، أما الأسماء والألفاظ فوسيلة لا غاية) (31).
والوطن هو حيث يكفي حاجة الإنسان ويرفع عنه كابوس الفقر والعوز فيعيش بكرامة وغباء ويتجنب ذل السؤال لأن (الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة) (32). إن ما نستنتجه من هذه الكلمات هو الإيمان بوحدة الأمة والعمل على تكريس هذه الوحدة من خلال تربية الفرد وإعداده إعداداً وطنياً صالحاً. والمواطنة الصالحة تقضي ببناء كيان الفرد الفكري والعاطفي والخلقي.
أ. البناء الفكري
وهي تتضمن تنمية ثقافة الفرد بشؤون الحكم ومعناه وسلطاته ووظائفه وعلاقة إحداها بالأخرى، وما له من حقوق وما عليه من واجبات تجاه وطنه وأهله لذلك فهو يوصي بضرورة الاهتمام بالشرائع العادلة، والسنن الفاضلة، والوصايا الخيرة للتزود منها بالخبرات التي تساعد على حسن سير الأمور بحيث تجرى على سنن ثابتة فاضلة بدلاً من الخبط في الجهالات، وهذا من شأنه أن يضفي على علاقة الحاكم بالمحكوم طابع الأخوة والثقة والمحبة والاحترام، فتتأصل الوطنية في النفوس وتتزاحم تلقائياً لخدمة الوطن.
ب. البناء العاطفي
ويقصد بها تغذية شعور الفرد بكل عاطفة نبيلة نحو وطنه وشعبه. فالمواطنة الصالحة لا تكتفي بالقيم والمبادئ الفكرية المجردة، بل لابدّ من ممارستها عملياً على أرض الواقع لذلك كان الوجدان همزة وصل بني الفكر والسلوك. وكان العمل هو الضمانة الوطنية الخالصة. فالوطن لا تحميه الدموع ولا تتعمق جذوره إلا بسواعد أبنائه وأصحاب المصلحة العليا في الذين يتقاعسون عن نصرة بلادهم فيقول: (يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزَون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون) (33). فالوطنية إذن ليست نشيداً حماسياً ولا تغنياً بالأمجاد، ولكنها وفاء وتضحية والتزام.
ج. البناء الخلقي
وهي الهدف الأسمى للتربية الوطنية وبدونها تبقى الأفكار والعواطف لا ضابط لها ولا وازع.. لذلك فإن الإمام (عليه السلام) يؤكد على الناحية المسلكية من شخصية الإنسان فيرى ضرورة قيام العلاقة بين البشر على المحبة والأخوة والاحترام المتبادل يظهر ذلك في القول: (يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك، وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم واحسب كما تحب أن يحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وارض من الناس بما ترضى لهم من نفسك) (34).
هذا التفاعل الوطني الخير الذي بذره (عليه السلام) في نفوس الناس كان وسيلة لغاية أكبر هي وحدة الوطن ورص الصفوف والتعاون من أجل الصالح العام. وكثيراً ما كان يدعم هذه العاطفة النبيلة بحثّ الرعية على التآلف والتآخي فيقول: (ليتأس صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية، لا في الدين يتفقهون ولا عن الله يعقلون، كقيض بيض في أداح، يكون كسرها وزراً، ويخرج حضانها شراً) (35). كما كان يدعو إلى تقوى الله والعمل الصالح والأخذ بالمكارم والفضائل والسعي في حوائج الناس والمصادقة والتعاطف والتزاور وغير ذلك من القيم الاجتماعية التي تنمي روح الأخوة والتعاون بين أبناء الشعب الواحد كما في الحديث إلى كميل: (مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ويدلجوا في حاجة من هو نائم) (36).
تلك هي الروح الوطنية التي بعثها الإمام علي (عليه السلام) في نفوس الرعية فإذا ما درجوا عليها كانت لهم عوناً على صلاح أنفسهم وجمع شتات كلمتهم لحماية بلادهم من العدو الداخلي المتمثل بالفساد والضلال والعدو الخارجي المتربص بالبلاد، يغتنم فرصة ضعفها وتفككها للانقضاض عليها.
-
رابعاً: في القضاء
القضاء، ويراد به منصب الفصل بين الناس في الخصومات، قديم قدم الإنسان، إذ كان بحاجة إليه منذ وجوده على الأرض لحماية حقوقه من تعديات الآخرين، ولقد اهتم الإمام علي (عليه السلام) بهذا المنصب وجعله تحت مراقبة شديدة ليكون صورة من عدل السماء على الأرض فلم يصانع أو يداري أو يداهن في الحق، بل كان حرباً شعواء على الظلم والظالمين، فزهت العدالة في عصره، واطمئن الناس إلى حقوقهم ووجودهم ومصيرهم، وتغير مفهوم القضاء فلم يعد (مؤسسة تضاف إلى سائر المؤسسات التي أنشأها الأقوياء لأكل الضعفاء، والظالمون لإرهاق المظلومين، وأصحاب السلطان لأخذ السبيل على الناس بالعدوان والتنكيل) (37). ولكنه (إنصاف لمظلوم، ورحمة بالناس، وحكم بحق) (38). فنظم أصوله ورتب قواعده، وجعله مبادئ وقوانين تأخذ طابعاً إنسانيا بعيداً عن العبارات الجامدة الجافة، فإذا القضاء رحمة بالناس وتصريف عادل لشؤونهم، وإذا القاضي أخ رؤوف رحوم والناس لديه آمنون مطمئنون من وصول الحق إليهم.
والمساواة إمام القانون أمر لابدّ منه في دستوره (عليه السلام)، لأن الناس سواء لا فرق بينهم أمام الحق. إن الإيمان المطلق بهذه القاعدة والشعور العميق بما قد يساور أحد المتقاضيين من المذلة ساعة يحس أن في القضاء أدنى إيثار لإنسان على إنسان، جعل الإمام (عليه السلام) يلتزم الحياد فلا ينحاز إلى جانب دون الآخر بل هو يساوي بينهما في المعاملة حتى يصدر الحكم عن نزاهة وصدق فيقول (عليه السلام) للأشتر: (فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك بهم) (39).
هذا الاهتمام الذي يوليه (عليه السلام) لهذه القاعدة دفعته إلى أن يكون أكثر تشدداً وصرامة في تطبيقها حتى على نفسه في عصر كان القانون بخدمة الحاكم وضد مصالح المحكوم فصار الحاكم ليس بفوق أن يمثل أمام القضاء مع أي إنسان آخر، وأن يقبل الحكم له كما يقول في نهجه: (وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد) (40).
ومبدأ المساواة أمام القانون يفترض الاعتراف بحرية القاضي المطلقة في أن يحكم بموجب القانون والضمير بعيداً عن الضغط والهوى، كي يكسب القضاة حصانة تمكنهم من الحكم بالعدل، ولتأكيد ذلك، أوجد الإمام (عليه السلام) ـ كما في عهد الأشتر ـ جهازاً للشرطة كي يكون عوناً للقانون وللقاضي في البحث عن أهل الريبة واعتقالهم ومعاقبتهم ولم يسبقه في ذلك إلا نظام (العسس) (الذي أوجده عمر بن الخطاب، وهو الطواف ليلاً للبحث عن المنحرفين).
إن الحديث عن طبائع البشر وعن حقيقة التعامل بينهم، بتسخير أنفسهم وضمائرهم ومحاولة سيطرة الأقوياء منهم على الضعفاء، أمور انطلق منها (عليه السلام) للكشف عن حقيقتين تساعدان على انحراف القضاة:
- الأولى ضغط السلطة التنفيذية بحيث يحكم القاضي بما تمليه عليه لا بما يراه.
- الحاجة إلى المال التي قد تضطره إلى قبول الرشوات واستقلال منصبه بالاستفادة منه.
فقضى على هذين السببين وأوصى بضرورة مراقبة القاضي باستمرار وتقريبه وحمايته والبذل له والتوسعة عليه. وهذه خطوة هامة في استقلال القضاء، وفصله عن السلطة التنفيذية بحيث لا تتدخل في شؤونه أو تؤثر عليه. كما أنها محاولة جادة لتحرير القضاة من ضغط الحاجة التي قد تجبرهم على الحكم بغير الحق، جاء في عهد الأشتر: (ثم أكثر من تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك) (41).
ولما كان منصب القضاء من الأهمية بمكان، فإن من يتولى هذا المنصب يجب أن تتوفر فيه بعض الصفات التي تساعد على أن يحكم بوحي من ضميره وخلقه واستقامته فيستبعد كل ما من شأنه أن يؤثر على سلامة الحكم الصادر عنه حتى لا يفسر سلوكه المشين بعدم نزاهة القضاء جاء في عهد الأشتر: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتف بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرّماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأحرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء وأولئك قليل) (42).
هذه المثالية التي يتحدث عنها الإمام (عليه السلام) توضح مدى الاهتمام البالغ بالقضاء في تصريف الأمور وحفظ الحقوق، كما تفسر ما كان يعانيه من أزمة أخلاقية حادة انحرفت به عن جادة الحق. وحتى تأتي هذه السياسة نتائجها المرجوة منها فإنه (عليه السلام) يمنع أن يتولى أمور القضاء، الأقرباء والأصدقاء، لما في ذلك من تشجيع لهم على التساهل بإحكامه، واعتماداً على ما بينهم وبين الحكام من صلات.
بهذا يكون الإمام علي (عليه السلام) قد سما بالقضاء إلى مستوى إنساني، هو من الرفعة بحيث لا يستطيع أحد أن يطاله أو ينال منه، أو يفكر بالانحراف عنه، لما له من مكانة سامية في هيئة الحكومة التي تحدث عنها كتاب (النهج). ولقد شهد الإسلام نخبة من أنزه القضاة وأكثرها صدقاً في جنب الله، فكان لممارستها العادلة، ولأعلميتها الشاملة الدور البارز في وضع أصول التشريع الإسلامي وفي مقدمة هؤلاء علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي كان ميزان القضاء والإفتاء ذخيرته حكمة قبسها من نبع النبوة، واتساع أفق وعلم فياض، لا يباريه في ميدانه صاحب ولا رفيق، حتى أصبح في المستعصيات ذا الرأي الحاسم الأخير، وكتب بأحكامه الفذة أصول التشريع الإسلامي في كل نواحيه، وألقى أضواء لامعة من ذخيرة معرفته على مشكلات الحياة ومسائل القضاء حتى كان ابن الخطاب وهو صاحب القضاء على عهد أبي بكر يقول فيه: (لا بقيت معضلة ليس لها أبو الحسن) (43).
...........................................
1- مبادئ الفلسفة، ص64-65.
2- المصدر نفسه، ص68-69.
3- رسالة (أيها الولد) للغزالي، ص17.
4- سورة القلم، الآية 4.
5- إحياء علوم الدين، ج3، ص49.
6- انظر ح، ج10، ص202.
7- المصدر نفسه، ج13، ص163.
8- سورة المدثر، الآيتان 42-43.
9- سورة النور، الآية 37.
10- سورة طه، الآية 132.
11- انظر ح، ج10، ص206.
12- سورة البقرة، الآية 183.
13- سورة الحج، الآية 37.
14- إحياء علوم الدين، ج3، ص53.
15- انظر ح، ج6، ص363-364.
16- إحياء علوم الدين، ج3، ص55-56.
17- انظر ح، ج18، ص22.
18- الغرر والدرر، ص93.
19- انظر ح، ج20، ص263.
20- التربية والحياة، ص171.
21- انظر ح، ج10، ص148-149.
22- انظر ح، ج20، ص290.
23- المصدر نفسه، ج17، ص44
24- انظر ح، ج9، ص209.
25- المصدر نفسه، ج6، ص395.
26- الغرر والدرر، ص119.
27- انظر ح، ج29، ص47.
28- المصدر نفسه، ج20، ص275.
29- جورج شهلا، وجربلي عبد السميع وحنانيا، الماس شهلا، الوعي التربوي ومستقبل البلاد العربية، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ط4، ص245-246.
30- انظر ح، ج20، ص90.
31- علي والفلسفة، ص179.
32- انظر ح، ج18، ص190.
33- المصدر نفسه، ج2، ص75.
34- انظر ح، ج16، ص84.
35- المصدر نفسه، ج9، ص282.
36- المصدر نفسه، ج19، ص99.
37- جورج جرداق، بين علي والثورة الفرنسية، دار الحياة، بيروت، 1970، ص252-254.
38- المصدر نفسه، ص252-254.
39- انظر ح، ج15، ص163.
40- انظر ح، ج17، ص97، انظر مقاضاة أحدهم لعلي إمام الخليفة عمر بن الخطاب.
41- انظر ح، ج18، ص59.
42- المصدر نفسه، ج1، ص58-59.
43- الإمام علي بن أبي طالب، ص210-211.
-
الاخ المسيباوي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شبكة العراق نورت بهذا الجهد الكبير
شكرا على هذا الموضوع الجميل والعمل الرائع ، اسأل الله ان يوفقك في الدنيا والاخرة
-
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أخي العزيز iraqcenter
و شكراً على إطرائك و تعطفك علينا بالدعاء جزاك الله خيراً
تقبل خالص تحياتي
-
[align=center]التعليم في نهج البلاغة[/align]
ثانياً: التعليم
الفكر خاصية الإنسان وحده، به تجلى وتميز عن سائر الخلق، فهو في مواجهته للواقع لا يفتر عن الفكر طرفة عين، حيث تنشأ العلوم والصنائع المختلفة. وحاجة الإنسان لا تستقر على نوع معين من العلوم، لذلك فهو يرغب في تحصيل ما ليس عنده منها، من أجل إشباع ما تستدعيه طباعه من الحاجات والرغبات. ولن يتم له ذلك إلا بأخذه ممن سبقه أو زاد عليه في العلم والمعرفة. ومن هنا جاء العليم. فالعلم والتعليم حاجة طبيعية، فرضها العمران البشري، كما يقول ابن خلدون (فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر) (1).
وبالرغم من أن للعوامل الوراثية دورها في تحديد مواهب الفرد وميوله واستعداداته فإن مدى تحقيق هذه الإمكانيات يتوقف على البيئة، بما تتيحه من وسائل التعلم والتدريب. لذا فقد أعطت الأمم والشعوب للتعليم مكانة بارزة في دساتيرها، وأفسحت بالمجال لدور العلم فيها، وشجعت على طلبه بوسائل عدة، لما كانت تأمله فيه من تقدم وازدهار يطال جميع مرافقها ومؤسساتها.
ولقد كان الإسلام في طليعة الأديان الداعية إلى تعلم العلم والتشدد في طلبه وأخذه من أي مصدر كان. وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يشجع التعليم قولاً وعملاً، فيطلق سراح أسرى الحروب إذا علموا المسلمين القراءة والكتابة، ممّا يدل على الأهمية التي كان يعطيها للعلم والتعليم في بناء الفرد والجماعة. يقول الابراشي: (إن التربية أساس النجاح للفرد والمجتمع. لذلك تنفق الحكومات في الأمم المتمدنة بسخاء على التعليم، موقنة أن في التعليم قوة، وقوة كبيرة في ترقية الفرد والنهوض بالمجتمع إلى حياة راقية وعيشة راضية، والتاريخ خير دليل على أن بالتربية والتعليم تحيا الشعوب من موتها، وتنتبه من غفلتها، وتقلل سجوتها) (2).
ولم يتخلف الإمام علي (عليه السلام) عن الدعوة التي أطلقها النبي (صلّى الله عليه وآله) في طلب العلم وممارسته في الحياة، وهو الذي كان يعتبر الجهل الفقر الأكبر الذي يقود إلى العمى والضلال في حين أن العلم يحلق بالإنسان في رحاب المعرفة والفضيلة ويسمو به عن الصغائر ليعيش في ملكوت الحق، فقال: (اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به) (3).
1) طلب العلم
يورد (عليه السلام) طرقاً مختلفة، على طالب العلم أن يسلكها للحصول عليه منها:
أ. الفقه في القرآن
الإسلام يؤمن بالعلم وبقدرته الفائقة على الخلق والإبداع. ولقد رفع إلله في كتابه العزيز، من شأن الذين آمنوا وعملوا، فقال عزّ القائل: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (4) وميز بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون فقال سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (5).
والقرآن، كلام الله، وموضع علمه ومحط رسالته، فيه علم الأولين والآخرين، فهو الدواء الشافي من الأمراض والعلل، والمرشد الأمين إلى الهداية والاستقامة. لذلك فقد دعا الإمام علي (عليه السلام) إلى تعلمه والتفقه فيه والعمل به فقال: (وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص) (6).
ب. المحاكاة
وهي تعني التشبه بأقوال وأفعال الصالحين، ممن تتوفر فهيم ملكات العلم والأخلاق وهذا ما تحدث عنه (عليه السلام) حين أمر بـ(الأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك) (7).
إلا أن المحاكاة، وإن كانت من طبيعة الفكر الانساني، فهي غير مأمونة من الخطأ كما يقول ابن خلدون (والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة وتخرجه مع الذهول والغفلة، عن قصده وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيراً، فيقع في مهواة من الغلط) (8).
من هذا الباب، فإن الإمام علي (عليه السلام) لم يدع إلى محاكاة الأولين دون إمعان النظر فيما نأخذه منهم، وما إذا كان يتناسب مع الظروف الحالية أم لا، فالتقليد الأعمى مرفوض وما نأخذه عن الماضين يجب أن يكون مستنداً إلى التفهم حتى لا نقع في الشبهات والخصومات كما يقول: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات) (9).
ج. مجالسة العلماء والحكماء وأصحاب التجارب
والعلم لا يحصل بمجرد قراءته أو حفظه، بل لابدّ من المناقشة والمناظرة في مواضعه وذلك بارتياد المجالس العلمية والمحافل الأدبية، وبحضور مشاهير المعلمين من العلماء والحكماء وأصحاب التجارب الحياتية، حتى تحصل الملكة العلمية، ولن تكون إلا (بالمحاورة، والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها) (10)، كما قال ابن خلدون.
وكان الإمام (عليه السلام) يوصي بضرورة مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء للاستفادة منهم فيقول: (أكثر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء) (11). كما كان يحث على مجالسة أصحاب التجارب للاعتبار والاتعاظ بهم فيقول: (عليك بمجالسة أصحاب التجارب) (12)، ولم يفرق في هذا الأمر، بين صديق أو عدو، فالعلم لا ينبغي أن يكون حكراً لأحد، بل هو مشاع للجميع، يطلبه أياً كان مصدره، فيقول: (جالس العقلاء، أعداء كانوا أم أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل) (13).
وهكذا فالتعلم بالمناقشة والمناظرة أفضل بكثير من التلقين والحفظ، وهو من المبادئ التربوية الهامة التي أقرت بها التربية الحديثة.
ولقد أعطى (عليه السلام) الأهمية الكبرى للسؤال باعتباره العامل الذي يضفي على المناظرة الحيوية والنشاط، وهذا ما تعتمده التربية الحديثة التي تنظر إلى التعليم على أنه عملية ديناميكية تراهن على إيجابية التعلم وفاعليته بعيداً عن التلقين. إلا أن فلسفة طرح السؤال ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، بحيث يفضي التساؤل إلى المعرفة لا إلى الجدل والسفسطة الكلامية. فالسؤال هو لإثارة العقل على التفكير والبحث، وبالتالي ليس أداة للهزل وإضاعة الوقت أو للتساؤل عن أشياء لا يبلغها العقل، فهذا من باب التعنت لا التعلم: (سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وإن العالِم المتعنت شبيه بالجاهل) (14).
والمناظرة تحتاج إلى تدوين المعلومات حتى يتسنى للمتعلم مراجعتها عندما تدعو الحاجة إليها، كي يتمكن من حسن الاستفادة منها ـ فما يجود به العقل، يترجمه القلم، لأن (عقل الكاتب في قلمه) (15). فالكتابة حاجة ضرورية للمتعلم، وعدم معرفته بها تحرمه من فرصة النجاح التام في عملية التعلم، وتفقده أهم وسيلة لجمع المعلومات، لذلك فإن: (عدم المعرفة بالكتابة زمانة خفية) (16).
والكتابة تستلزم الخط الجميل، من حيث تحسين شكل الحروف والفصل بين الكلمات والسطور، ممّا يكون له أثره في سرعة القراءة والفهم. ويصور الإمام (عليه السلام) ذلك بقوله: (الق دواتك واطل جلفة قلمك وفرّج بين السطور، وقرمط بين الحروف فإن ذلك أجدر بصباحة الخط) (17).
وليس المهم تنميق الكلام وتزويقه وجذالته، فهذه أمور قد تشغل من يعمد إليها عن فحوى الكلام ومضمونه، فيظهر غنياً بالشكل لا بالمضمون، لذلك: (من اشتغل بتفقد اللفظة وطلب السجعة، نسي الحجة) (18).
2) أنواع العلوم
والتربية، كما يتحدث عنها الإمام (عليه السلام)، دينية ودنيوية والأولى تمهيد للثانية وغايتهما واحدة، هي صلاح الإنسان في الدارين، أما العلوم المؤدية إليهما، فهي: الشرعية والزمنية، وقد جمعهما (عليه السلام) معاً عندما قال: (أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض) (19). وعندما يتحدث الإمام علي (عليه السلام) عن طرق السماء، فإنما يقصد (العلوم الشرعية)، ويعني بطرق الأرض (العلوم الزمنية).
والعلوم الزمنية تنقسم إلى قسمين:
أ. بديهية: يوحي بها العقل، ولا تتطلب التعلم والسماع، بل هي مطبوعة في غريزة العقل حيث يولد الإنسان مفطوراً عليها كعلمه بأن الكل أكبر من الجزء، أو أن الشيء الواحد لا يكون قديماً وحادثاً معاً. فهذه الأمور تصدر عن الإنسان العاقل بالبداهة فلا يحتاج لاكتسابها إلى التعلم.
ب. مكتسبة: وهي العلوم المستفادة بالتعلم والنظر العقلي. إن هذا التقسيم للعلوم إلى فطرية ومكتسبة يظهر عند الإمام علي (عليه السلام) أيضاً في قوله شعراً:
[align=center]رأيــــــــت العـــــــقل عقلـــــين *** فمــــــطـــــبوع ومسمـــــــوع
ولا ينـــــــــــفع مســــــــــموع *** إذا لـــــــم يــــــك مطــــــــبوع
كمـــــــا لا تنــــــــفع الشمــس *** وضــــــوء العـين ممنوع(20)[/align]
ولا يمكن التقرب من الله بالعلوم الفطرية أو الضرورية، بل بالمكتسبة وليس كل أحد ممن جمع العلوم المكتسبة يستطيع هذا الأمر لصعوبة إدراك القديم بالعلم الحادث (ولكن مثل علي، رضي الله عنه، هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من العالمين) (21) كما قال الغزالي.
أما العلوم الدينية فهي تلك التي تؤخذ من الأنبياء تقليداً عن القرآن الكريم، ومن الأئمة تقليداً عن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، فهي إذن تحصل للإنسان بالتعلم عن كتاب الله تعالى وسنّة نبيه وحكمة أئمته، وبها تكون سلامة القلب من الأدواء والأمراض لأن العلوم العقلية، منها ما يكون محموداً كالطب والحساب والزراعة وغير ذلك، ومنها ما يكون مذموماً كالسحر والطلسمات والنجوم. لذلك فإن مباشرة الإنسان بتعلم العلوم الدينية، تفتح بصيرته وتنمي فيه ملكة التمييز بين الصالح والطالح من العلوم فيختار منها ما يفيده في دنياه وآخرته.
3) فضيلة العلم
إن تشبع الإمام (عليه السلام) بالعلوم الدينية والدنيوية يدل على مدى الاهتمام بالعلم وتفضيله على سائر مغريات الحياة ومنها المال، فالعلم، مقياس تطور الأمم والشعوب ومعيار تفاضل البشر. والقلوب البشرية باعتبارها مستودع العواطف والمشاعر والنزعات، إنما تتفاضل بمدى وعيها وإدراكها لقيم الحق والخير كما جاء في قوله (عليه السلام) (إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها) (22) لذلك هو يقسم الناس في العلم إلى ثلاثة أقسام:
ـ عالم رباني.
ـ ومتعلم على سبيل نجاة.
ـ وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.
ثم يفاضل بني العلم والمال، مبيناً ميزات كل منهما حتى يخلص إلى تقديم الأول على الآخر، فيقول: (العلم خير من المال) (23).
وما يرثه الإنسان من علم هو أفضل ما يرثه من مال لأن (العلم وراثة كريمة) (24). وقد تسامى بهذه الوراثة وجعلها من أشرف الأشياء، (أشرف الأشياء العلم) (25)، وقصر السعادة التامة عليها (السعادة التامة بالعلم) (26) وجعلها الأداة التي يصول بها الإنسان ويجول (العلم سلطان من وجده صال به، ومن لم يجده صيل عليه) (27) والعلم هو الملكة التي يفتخر بها العالم على أهل الجهل. كما يقول الإمام علي شعراً:
[align=center]ما الفــــــخر إلا لأهــــــل العلـــــم إنّهم *** على الهدى لمــــــن استهــــــدى أدلاّء
وقدر كلّ امــرئ ما كــــان يحـــــــسنه *** والجاهلــــــــــون لأهــــــل العلم أعداء
ففز بعلــــم تعـــــش حـــــــيّاً بـــه أبداً *** الناس مــوتى وأهل العلم أحياء(28)[/align]
من أجل ذلك كانت دعوته إلى ضرورة الاهتمام بالعلم، والعمل على أخذه من أي مصدر كان، لأن العلم لا حدود له ولا يعترف بالتعصب والقبلية لذا وجب على الإنسان أن ينشده من الأعداء الأصدقاء على السواء (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق) (29).
فالحياة لا تطلب لذاتها، ولكن لأجل أن يثبت الإنسان وجوده، ويحقق إنسانيته ولن يتسنى له ذلك بممارسة الشهوات والانغماس في الملذات، فهذه أمور الغاية منها تنمية الجسم ومساعدته على مباشرة الحياة السامية، (لا تطلب الحياة لتأكل، بل اطلب الأكل لتحيا) (30).
أما من اقتصر في حياته على الشهوات كان أشبه بالبهيمة التي همها علفها، فانحدر مستواه الخلقي إلى درجة لا يحمد عقباها، فصار عبداً لها تقوده إلى ما فيه هدر كرامته وضياع إنسانيته، لهذا فإن (من ترك الشهوات كان حراً) (31). كما يقول الإمام علي ولا سبيل له إلى التخلص من عبوديته إلا بطلب العلم الذي ينير قلبه، ويفتح بصيرته. لذا كان العلم أشرف مطلوب، والاهتمام به يفوق سائر الاهتمامات ومن زهد به وشغف بالشهوات، إنما يحكم عليه بالبوار والخسران المبين وينعي (عليه السلام) على أولئك الذين بإمكانهم أن يكونوا أناساً شرفاء، مخلدين في الحياة بعلومهم، ولكنهم انحدروا، لسوء ما اختاروه من زخرف الحياة وبهرجتها إلى مستوى البهائم السافلة فيقول: (قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنساناً، وقد أمكنه أن يكون ملكاً، وأن يرضى لنفسه بقنية معارة وحياة مستردة وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياة مؤبدة) (32).
والكرامة التي يستمدها الإنسان من ماله أو سلطانه، إنما هي مزيفة لأنها متوقفة عليهما فإذا زالا زالت معهما. أما الكرامة الحقيقية، فهي تلك التي يوجبها العلم والأب سواء كان الإنسان غنياً أم فقيراً، قوياً أم ضعيفاً، فهي حق مكتسب ومفروض، لذا كان الاعتبار للعلم وليس للمال فيقول: (إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان، فلا يعجبنك ذاك، فإن زوال الكرامة بزوالها، ولكن ليعجبك أن أكرمك الناس لدين أو أدب) (33). من هنا: (يجب على العاقل أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف منه بما أحيا جسمه من الغذاء) (34). لذا فإن قيمة الإنسان، هي بما يحسنه من العلوم الآداب التي بها يتفاضل الناس لا بالحسب والنسب والجاه والسلطان وغير ذلك من الاعتبارات التي لا توازي العلم قيمة وشرفاً واعتباراً. قال ابن عبد البر: (إن قول علي بن أبي طالب (قيمة كل امرئ ما يحسنه) لم يسبقه إليه أحد. قال: (وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها، وقالوا: ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأول للآخر شيئاً). قال ابن عبد البر: قول علي هذا من الكلام المعجب الخطير، وقد طار له الناس كل مصير ونظمه جماعة من الشعراء إعجاباً به، وكلفاً بحسنه) (35).
4) آفة العلم
وإذا كان للعلم هذه الفضائل الجمة التي تستوجب طلبه وأخذه من أي مصدر كان، فإنه من ناحية أخرى قد يكون وبالاً على حامله، ومصدر شر له ولأبناء جنسه، فالعلم سلاح ذو حدين، قد يستعمل للخير والصلاح وقد يستعمل للشر والفساد والإنسان هو الذي يحدد وجهة سيره. وما يميز الإنسان هو وجود القيم الخلقية والفكرية فيه، تلك التي تعطي للحياة معنى وقيمة. وكم نحن بحاجة اليوم إلى مثل هذه القيم، وخاصة الخلقية منها، في عصر طغت عليه الفلسفة المادية وفصل الدين عن الحياة. يقول محمد قطب (ونشأت على أنقاض الكنيسة والدين فلسفة مادية بحتة، تستمد وحيها من الأرض، من واقع الحواس، ولا ترتفع ببصرها لحظة واحدة إلى السماء) (36).
لقد أخضعت هذه الفلسفة، الكون والإنسان لأحكام القياس والتجريب تماماً كما تخضع العلوم الطبيعية والفيزيائية لقوانين عامة وثابتة، دون تمييز بين المادة الجامدة والمادة الحية. يقول طلال عتريسي: (هذه الفلسفة (المادية) لم تكتف بإخضاع الكون وحركته ووجوده لمفاهيم العقل وقدرته، وللحواس وحدودها ولأحكام القياس والتجريب، دون الاعتقاد بأية قوة خارجة عن الإدراك المباشر والمحسوس، بل أخضعت كذلك وجود الإنسان بكل أبعاده لأحكام القياس والتجريب نفسها، ونشطت الأبحاث والنظريات التي تفصل مشاعر الإنسان وأحاسيسه عن بعضها لدراستها دراسة (علمية) ومخبرية، هذا، رغم الحركة الدقيقة والمتشابكة لهذه المشاعر والأحاسيس) (37).
لذلك فإن خلاص البشرية يكمن في تخليص العلم من آفاته وتنمية الحس الخلقي من خلال تعزيز أثر الدين في النفوس.
هذه الحقيقة تبدو في (نهج) الإمام علي جلية واضحة. فهو من جهة يدعو إلى احترام العلم، وإجلاله، ويعتبره (أفضل الكنوز وأجملها، خفيف المحمل، عظيم الجدوى، في الملأ جمال، وفي الوحدة أنس) (38)، إلا أنه من جهة ثانية يوصي بحسن الخلق فيقول: (ما من شيء في الميزان أثقل من خلق حسن) (39) و(عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه) (40) و(عليكم بحسن الخلق فإنه في الجنة، وإياكم وسوء الخلق فإنه في النار) (41).
إن الربط بين القيم الخلقية والفكرية، كفيل بتقدم البشرية وسيرها في ركب الحضارة، في حين أن الفصل بينهما، آفة تقضي عليها وتهبط بها إلى الحضيض.
ومن آفات العلم، العجب، وهي نقيصة تدعو إلى الكبر وتجاهل الأخطاء، والذنوب، والاستبداد بالرأي وترك المشورة، واستجهال الناس واحتقارهم والأنفة عن المساواة بهم ولذلك فقد نهى عنه، وحذر منه بقوله: (حصن علمك من العجب) (42). في حين أن التواضع زين للعالم وشرف له (التواضع إحدى مصايد الشرف) (43).
ومن آفات العلم أيضاً الطمع والاسترسال في الشهوات والملذات ممّا يؤدي إلى الاهتمام بأحوال الجسد وعدم الالتفات إلى العلم كغذاء للعقل فيذبل ويموت. فيقول (أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع) (44) لذلك فقد حذر من الشهوات لأنها تأسر العقل وتلهيه عن الفكر والنظر وحث الإنسان على السمو بلذائذه والارتفاع بها عن حضيض المادة: (فإن كنت شاغلاً نفسك بلذة، فلتكن لذتك في محادثة العلماء ودرس كتبهم) (45) وما ذلك، إلا لأن تقييد العقل حد لطاقته وشل لنشاطه وفاعليته، ودفعه في مهاوى الشر والرذيلة. وبقدر ما يكون حراً، يكون أغزر إنتاجاً، وأسلس قيادة وأكثر أماناً من الوقوع في الهلاك، ذلك أنه: (إذا خلى عنان العقل، ولم يحبس على هوى نفس، أو عادة دين، أو عصبية لسلف ورد بصاحبه على النجاة) (46).
وهكذا يدعو الإمام (عليه السلام) إلى تحرير العقل وتخليصه من آفاته لفسح المجال أمامه للعمل الخلاق. ثم يربط بين العلم والأخلاق، ويجد في هذا التحالف بينهما تمام السعادة وحصانة من الشر والفساد. فيقول: (ملاك العقل ومكارم الأخلاق، صون للعرض والجزاء بالفرض والأخذ بالفضل، والوفاء بالعهد والإنجاز للوعد) (47).
5) فضل العلماء
إن فضل العلماء لا يخفى، وهو يظهر في شتى الكتب السماوية وخاصة الإسلام وكذلك على لسان الأنبياء والأئمة والصالحين من بني البشر. نذكر من ذلك قوله تعالى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) (48). وقال الرسول الكريم، (العلماء ورثة الأنبياء) (49).
ويقول الإمام علي (عليه السلام): (العالِم مصباح الله في الأرض، فمن أراد الله به خيراً اقتبس عنه) (50). فالعالِمُ مصباح زمانه، به يستضاء من الظلمات والجهالات، وبه نبلغ منازل الأبرار والدرجات العلى، ولقد فضله الإمام علي (عليه السلام) على المؤمن العابد المجاهد فقال: (العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا غيره) (51).
وللعلماء فضل في تجويد الحياة وجعلها مستساغة من قبل الناس، وهم وحدهم الذين يكتشفون أسرارها، ويبددون المخاوف الناجمة منها، ولن يكون ذلك إلا بتخليص الناس من علائق الدنيا الزائفة وترغيبهم بنعيم الآخرة الخالد، عند ذلك تهون عليهم كل لذة دنيوية مقابل ما يرجونه منها في الآخرة، لهذا صار حق العالم يفوق حق الوالدين، فإذا كان هؤلاء هم السبب في وجود الحياة الفانية فإن العالم هو المفيد للحياة الأخروية.
6) فضيلة التعلم والتعليم
يقول تعالى: (فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (52)، وقال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (لأن تغدو فتتعلم باباً من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة)، وقال: (باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها) (53). وسبق قول الإمام علي (عليه السلام) في الحث على التعلم.
يتبين من ذلك، أن التعلم فريضة فرضها الله والرسول والأئمة على المسلمين جميعاً دون استثناء، وهو يبدأ بعد سنوات التربية ويحدده الإمام بالسن السابعة فيقول: (اترك ولدك سبعاً، وعلمه سبعاً، وصاحبه سبعاً) (54). وهذا هو السن الأنسب الذي ذهب إليه أهل الاختصاص في عمر التربية، حيث تتوفر للطفل القدرة على الفهم وتركيز الانتباه بسبب نضجه، وزيادة قاموسه اللغوي، ولا تخفى أهمية العلاقة الطردية، بين النضج والتعلم.
وتحديد سن التعلم بالسابعة، لا يعني إغفال سنوات ما قبلها، بل ينبغي أن تستغل لتقويم سلوك الطفل وتزويده بالقيم الخلقية، والروحية حتى يكون مستعداً لمباشرة التعلم بنفس صافية من الأمراض والشوائب الخلقية. ولقد أجمع علماء النفس على أن السنوات الأولى من عمر الطفل، ذات أثر كبير يكاد يكون حاسماً في تعيين شخصيته المستقبلية وتحديد اهتماماته واتجاهاته. ولا شك من أن لهذه السنوات الفضل الأكبر في تمكين الطفل من اكتساب العديد من المعلومات التي سوف يظهر بها، فيما بعد، على غيره (تعلموا العلم صغاراً تسودوا به كباراً) (55) كما يقول (عليه السلام).
وما يجب أن يتعلمه الحدث هو ما ينفعه في مستقبل حيته. والعلوم التي تنفعه هي: الدين وشرائعه كي يعمر قلبه بالتقوى والإيمان والخشية من الله في كل عمل يقوم به، وحتى يزهد في الدنيا ولا يغتر بمفاتنها فتأخذ عليه نفسه وتسلبه عقله وتنسيه آخرته.
وما ينفعه أيضاً علم الأخلاق حتى يميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وحتى تتحسن علاقته بالآخرين ويشعر بالمسؤولية على كل عمل يقوم به ومدى ارتباط هذه المسؤولية بالحرية والثواب والعقاب.
وما ينفعه أيضاً تلك العلوم التي لابدّ منها لقوام أمور الدنيا. إذ على المعلم أن يبث فيه مبادئ هذه العلوم لأنها ضرورية له كالطب لبقاء الأبدان، والحساب لتسهيل المعاملات والمواريث والزراعة والصناعة والتجارة والحياكة، والسياسة وغير ذلك من العلوم النافعة له في دنياه.
مثل هذه العلوم لابدّ للولد من أن يقف عليها منذ صغره فترسخ في ذهنه وتنمو بنموه، وتتطور بتطور عقليته. وهكذا يكون الإمام علي (عليه السلام) قد زود الطفل بخامة علمية لا بأس بها، فيشب وعقليته متفتحة، ونفسه تتوق إلى المزيد منها لمواجهة تيار الحياة المتجدد باستمرار. ولن تحصل له هذه العلوم بدون تعلم، لذا فإن بذل العلم وهو فرض على كل عالم، فلا ينبغي له أن يضن به أو يمنعه سائليه، فهو ملك للجميع وليس له فقط، يتصرف به كما يشاء، ومن يفعل ذلك إنما يعارض إرادة الله التي قضت بطلب العلم وبذله لمحو آثار الجهل والضلال: (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا) (56) كما يقول الإمام (عليه السلام).
لذلك فقد ربط (عليه السلام) بين العلم والعمل. هذا الجمع بينهما أدى إلى ما وصلت إليه الأمم من تقدم وعمران. فالعلم لا يطلب لذاته، بل لأجل الاستفادة منه، ولن يتم ذلك إلا بممارسته وبذله في شتى ميادين الحياة. من هنا يكتسب العلم فضله وشرفه بينما يبقى ناقصاً لو أجرى على اللسان فقط ولم يأخذ مجراه إلى الحياة العملية، وكلما أبحر الإنسان فيه كلما ازداد عمقاً واتساعاً كما يقول لكميل بن زياد: (العلم يزكو على الإنفاق) (57). فالغرض الأول للعلم هو العمل به، كما أن تبليغ الدعوة، لا ينفصل عن العمل بأحكامها على أن لا يطلب فيصبح وسيلة للإثراء والمتاجرة ممّا يحط من شرفه ورفعته ولكن بأن يقصد به وجه الله تعالى يقول ابن جماعة: (حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتحلية باطنه) (58).
وعلى العالِم أن يعمل وفق علمه وحسب ما يمليه عليه عقله، لأن العالِم المنافق يستحيل أن يكون قدوة لغيره طالما أنه يغش بعلمه، ويعطي صورة مغايرة لما يدعيه من العلم فيكون الضرر الناجم عنه أبلغ من الفائدة المرجوة منه. فالتناقض بين العلم والعمل مرفوض في عرف الإمام (عليه السلام)، لأن ذلك يؤدي إلى فساد الزرع ورداءة الإنتاج في الحقل التربوي ممّا يكون له أثره المدمر على عقلية ونفسية المتعلمين، فيقولك (يا حملة العلم، أتحملونه؟ فإنما العلم لمن علم ثم عمل، ووافق عمله وعلمه) (59).
وبما أن الوظيفة الأساسية للعالم هي الإرشاد والتوجيه، فلابدّ أن يكون صادقاً مع نفسه، فلا يخالف قوله عمله. أما إذا حصل العكس، فلا سبيل إلى أن يكون قدوة ومرشداً لغيره بسبب فقدان الثقة بينه وبين المتعلم.
ولا يجب على العالم أن يقول كل ما يعلم، لأن هناك من العلوم ما لا تستسيغه عقول العامة، فلا ينبغي عليه أن يفشي كل ما يعلم إلى كل أحد، بل عليه أن يحدث به ما هو أهلاً له، لأن الجاهل لا يأبه به ولا يفهمه، والسفيه يسخر منه ولا يقدره، وبذل العلم لهما لا طائل منه.
ولن يتمكن العالِم من محادثة الناس بعلمه، إذا لم يكن هو نفسه متعلماً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، من هنا أكد الإمام (عليه السلام) على ضرورة تعليم النفس قبل تعليم الغير فقال: (من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها، أحق بالإجلال، من معلم الناس ومؤدبهم) (60). بل أوجب على المعلم أن يكون ملماً بعلمه، حاذقاً فيه، خبيراً بأصوله وقواعده وشوارده، فلا يخفى عليه منه شيء ولا يضعف عن تناول مسألة من مسائله، فقال: (إذ سمعتم العلم فاكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب) (61). لأن خلط العلم بالهزل تزهيداً للناس بطلبه، وانتفاء للفائدة منه، لهذا قال (عليه السلام): (قصم ظهري، رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك) (62).
7) أسلوب التعليم
إن التعليم بنظر الإمام علي (عليه السلام)، لا يقوم على التلقين، ولا يعتمد على الكمية بقدر اعتماده على الكيفية كما سبق وأوضحنا فهو في جملته يستند إلى المناظرة والمناقشة.
لقد أحاط المتعلم بجو تعبق فيه روح الحرية والنشاط، فمكان الدرس (الجامع يومذاك)، ليس سجناً تمارس فيه شتى أنواع الإرهاب والتنكيل، بل هو منتزهاً يرتاده المتعلمون بشوق، تحدوهم إليه العلاقة الأخوية الصادقة بين العالِم والمتعلم. فالانفعالات الحادة الناجمة عن الجو التعليمي المتسم بالرهبة، تعرقل العملية التربوية وتترك المتعلم عرضة لكثير من الاضطرابات والعقد النفسية لأن الانفعال (ضرب من السلوك تعمّ آثاره الإنسان كله نفساً وجسماً، يحدث أثناءه تغيرات في داخل الجسم وخارجه، فتؤدي إلى إعطائه صورة معينة) (63). وإذا كانت للانفعالات الحادة هذه التغيرات التي تؤثر سلباً على شخصية المتعلم، فإن الحد منها يكمن في إيجاد جو من التعليم يكفل له قسطاً وافياً من الرغبة والطمأنينة والانفعالات الهادئة التي تساعد على تأدية وظائفه العقلية بنظام وتنسيق، فكأن هناك شبه تناقض بين التعليم والانفعال.
لقد دعا (عليه السلام) إلى تربية سمحة تبتعد عن الضغط والإكراه، لأن الطفولة تختلف في مفاهيمها واهتماماتها عن الرجولة، وما ينجم عنها من أخطاء ينبغي أن لا نقيسها بمقياس الرجل البالغ، فهي تتصرف بوحي من ذاتها التي لا تعرف الحدود والموانع، وأي تصد لها بالعنف إنما هو إحراج لها وقمع لرغباتها. يقول (دي نوي): (فمن المهم حقاً ألا نحكم على ذنب يقترفه الولد بالنظر إلى نتائجه. فالذنب عند الولد خطير لذاته ـ مطلقاً لا نسبياً ـ لأن ذلك قد تقرر على هذا الوجه. وخفة الذنب المطلقة وحدها قادرة على تعويد الطفل نظاماً خلقياً لا سبيل إلى التقدم بدونه ويختلف هذا المعيار لدى البالغين) (64).
إن الشطط في العقاب أمر غير مرغوب فيه في التربية لأنه يورث الكسل ويحمل على الكذب والخبث والتظاهر بغير ما في النفس خوفاً من القهر ومن شأن الاستمرار على ذلك أن يؤدي إلى اعتياد المتعلم على ذلك، فتكسل نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل. لذلك فلا ينبغي للعقاب أن يتبع الذنب مباشرة قبل التعرف على الدوافع الكامنة وراءه حتى لا يكون عن ظلم وذلك بعدم إتاحة الفرصة للولد كي يدافع عن نفسه ويبرر خطأه أو يقدم اعتذاره لهذا: (لا تتبع الذنب العقوبة، واجعل بينهما وقتاً للاعتذار) (65). كما قال الإمام (عليه السلام) فالتربية التي يسودها التوتر والانفعال يستبعدها (عليه السلام) بل ويرى فيها هدراً لكرامة الإنسان وإفساداً لمعاني الإنسانية لديه وإضعافاً لقواه العقلية والخلقية وإماتة لقيم الألفة والمحبة والتعاون في نفسه، لذلك فهو يحذر منها ويقول: (أحذروا الكلام في مجالس الخوف، فإن الخوف يذهل العقل الذي منه نستمد، ويشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي نروم نصرته وأحذر الغضب ممن يحملك عليه، فإن مميت للخواطر مانع من التثبت أحذر من تبغضه فإن بغضك له يدعوك إلى الضجر به، وقليل الغضب كثير في أذى النفس والعقل، والضجر مضيق للصدر، مضعف لقوى العقل. أحذر المحافل التي لا إنصاف لأهلها في التسوية بينك وبين خصمك في الإقبال والاستماع ولا أدب لهم يمنعهم من جور الحكم لك وعليك. وأحذر حين تظهر العصبية لخصمك بالاعتراض عليك وتشييد قوله وحجته، فإن ذلك يهيج العصبية والاعتراض على هذا الوجه يخلق الكلام ويذهب بهجة المعاني، وأحذر كلام من لا يفهم عنك فإنه يضجرك، وأحذر استصغار الخصم، فإنه يمنع من التحفظ، ورب صغير غلب كبيراً) (66).
8) حق العالِم على المتعلم
وإذا كان للمتعلم على المعلم حق تربيته، وتأديبه وتزويده بالعلوم والمعارف حتى تستقيم نفسه وتتوق إلى ممارسة الفضائل لتصبح ملكة تطبع سلوكه في مجريات حياته فإن للعالم على المتعلم حقوقاً ينبغي احترامها والتقيد بها تقديراً له ولمهنته التي هي من أشرف المهن وأصعبها على الإطلاق. من هذه الحقوق ما رواه الإمام (عليه السلام) حيث قال: (من حق العالِم على المتعلم ألاّ يكثر عليه السؤال ولا يعنّته في الجواب، ولا يلحّ عليه إذا كسل، ولا يفشي له سراً، ولا يغتاب عنده أحداً، ولا يطلب عثرته، فإذا زل تأنيت أوبته، وقبلت معذرته، وإن تعظمه وتوقره ما حفظ أمر الله وعظّمه، وألا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت غيرك إلى خدمتها فيها. ولا تضجرن من صحبته، فإنّما هو بمنزلة النخلة ينتظر متى يسقط عليك منها منفعة. وخصّه بالتحية واحفظ شاهده وغائبه وليكن ذلك كله لله عزّ وجلّ) (67).
.......................
1- المقدمة، ص403.
2- التربية والحياة، ص24.
3- تحف العقول، ص141.
4- سورة المجادلة، الآية 11.
5- سورة الزمر، الآية 9.
6- انظر ح، ج7، ص221.
7- المصدر نفسه، ج16، ص70.
8- المقدمة، ص29.
9- انظر ح، ج16، ص70.
10- المقدمة، ص431.
11- انظر ح، ج17، ص47.
12- انظر ح، ج20، ص335.
13- المصدر نفسه، ج20، ص312.
14- المصدر نفسه، ج19، ص232.
15- المصدر نفسه، ج20، ص328.
16- المصدر نفسه، ج20، ص297.
17- المصدر نفسه، ج19، ص223.
18- انظر ح، ج20، ص317.
19- المصدر نفسه، ج13، ص101.
20- إحياء علوم الدين، ج3، ص16-17.
21- المرجع نفسه.
22- انظر ح، ج18، ص346.
23- المصدر نفسه، ص346.
24- المصدر نفسه، ص93.
25- المصدر نفسه، ج20، ص488.
26- المصدر نفسه، ج20، ص307.
27- المصدر نفسه، ج20، ص319.
28- إحياء علوم الدين، ج1، ص7.
29- انظر ح، ج18، ص229.
30- المصدر نفسه، ج10، ص333.
31- تحف العقول، ص65.
32- انظر ح، ج20، ص306.
33- المصدر نفسه، ج10، ص313.
34- انظر ح، ج20، ص322.
35- الدمشقي، جمال الدين، تاريخ الجهمية والمعتزلة، مطبعة المنار بمصر، 1331هـ، ص83.
36- محمد قطب، الإنسان بين المادية والإسلام، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط4، ص1965، ص16.
37- مجلة الفكر العربي، ع21، أيار/حزيران/تموز1981، ص441.
38- انظر ح، ج20، ص339.
39- المصدر نفسه، ج6، ص340.
40- المصدر نفسه، ج6، ص340.
41- المصدر نفسه، ج6، ص340.
42- المصدر نفسه، ج20، ص318.
43- المصدر نفسه، ج20، ص290.
44- المصدر نفسه، ج19، ص41.
45- المصدر نفسه، ج20، ص266.
46- المصدر نفسه، ج20، ص343.
47- انظر ح، ج20، ص267.
48- سورة آل عمران، الآية 18.
49- إحياء علوم الدين، ج1، ص11، أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي في كتاب (تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول) لابن البديع الشيباني المتوفى 944هـ، ج3، ص52.
50- انظر ح، ج5، ص326.
51- إحياء علوم الدين، ج1، ص7-8.
52- سورة النحل، الآية 43.
53- المصدر نفسه، ج1، ص7-8.
54- منهج التربية عند الإمام علي (عليه السلام)، ص160.
55- انظر ح، ج20، ص267.
56- انظر ح، ج20، ص247.
57- المصدر نفسه، ج18، ص346، كميل هو من أكابر أصحاب علي (عليه السلام) من اليمن، شهد صفين معه، وكان شريفاً عابداً، قتله الحجاج الثقفي، سنة 83هـ.
58- ابن جماعة الكناني، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، تحقيق محمد هاشم الندوي، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1354هـ، ص42.
59- انظر ح، ج20، ص267.
60- انظر ح، ج18، ص220.
61- إحياء علوم الدين، ج1، ص76.
62- المصدر نفسه، ج1، ص58.
63- علم النفس المعاصر، ص157.
64- مصير الإنسان، ص302-303.
65- انظر ح، ج20، ص328.
66- المصدر نفسه، ج20، ص281.
67- انظر ح، ج20، ص269.
.......................
تم بعون الله