-
محمد باقر الصدر: المدرسة الإسلامية
-
كلمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل ثلاث سنوات قمنا بمحاولة متواضعة: لدراسة أعمق الأسس التي تقوم عليها الماركسية والإسلام، وكان كتاب فلسفتنا تعبيراً عن هذه المحاولة، ونقطة انطلاق لتفكير متسلسل يحاول أن يدرس الإسلام من القاعدة الى القمة.
وهكذا صدر «فلسفتنا»، وتلاه بعد سنتين تقريباً «اقتصادنا»، ولا يزال الشقيقان الفكريان بانتظار أشقاء آخرين، لتكتمل المجموعة الفكرية التي نأمل تقديمها الى المسلمين.
وقد لاحظنا منذ البدء ـ بالرغم من الإقبال المنقطع النظير الذي قوبلت به هذه المجموعة، حتى نفد كتاب فلسفتنا خلال عدة أسابيع تقريباً ـ أقول لاحظنا مدى التفاوت بين الفكر الإسلامي في مستواه العالي، وواقع الفكر الذي نعيشه في بلادنا بوجه عام، حتى صعب على كثير مواكبة ذلك المستوى العالي إلاّ بشيء كثير من الجهد. فكان لا بد من حلقات
{6}
متوسطة يتدرج خلالها القارئ الى المستوى الأعلى، ويستعين بها على تفهم ذلك المستوى. وهنا نشأت فكرة: «المدرسة الإسلامية» أي محاولة إعطاء الفكر الإسلامي في مستوى مدرسي، ضمن حلقات متسلسلة تسير في اتجاه موازي للسلسلة الرئيسية: «فلسفتنا، واقتصادنا»، وتشترك معها في حمل الرسالة الفكرية للإسلام وتتفق وإياها في الطريقة والأهداف الرئيسية، وإن اختلفت في الدرجة والمستوى.
وحددنا خلال التفكير في إصدار «المدرسة الإسلامية» خصائص الفكر المدرسي، التي يتكون منها الطابع العام والمزاج الفكري للمدرسة الإسلامية التي نحاول إصدارها.
وتتلخص هذه الخصائص فيما يلي:
1 ـ ان الغرض المباشر من «المدرسة الإسلامية» الاقناع أكثر من الإبداع، ولهذا فهي قد تستمد موادها الفكرية من «فلسفتنا» و«اقتصادنا» وأشقائهما الفكريين، وتعرضها في مستواها المدرسي الخاص، ولا تلتزم في أفكارها أن تكون معروضة لأول مرة.
2 ـ لا تتقيد «المدرسة الإسلامية» بالصيغة البرهانية للفكرة دائماً، فالطابع البرهاني فيها أقل بروزاً منه في أفكار «فلسفتنا» وأشقائها، وفقاً لدرجة السهولة والتبسيط المتوخاة في الحلقات المدرسية.
{7}
3 ـ تعالج «المدرسة الإسلامية» نطاقاً فكرياً أوسع من المجال الفكري الذي تباشره «فلسفتنا» وأشقاؤها، لأنها لا تقتصر على الجوانب الرئيسية في الهيكل الإسلامي العام، وإنما تتناول أيضاً النواحي الجانبية من التفكير الإسلامي، وتعالج شتى الموضوعات الفلسفية أو الاجتماعية أو التاريخية أو القرآنية التي تؤثر في تنمية الوعي الإسلامي وبناء وتكميل الشخصية الإسلامية، من الناحية الفكرية والروحية.
وقد قدر الله تعالى أن تلتقي فكرة «المدرسة الإسلامية» بفكرة أخرى عن تمهيد فلسفتنا، فتمتزج الفكرتان وتخرجان الى النور في هذا الكتاب.
وكانت الفكرة الأخرى من وحي الإلحاح المتزايد من قرائنا الأعزاء على إعادة طبع كتاب فلسفتنا، وكنت استميحهم فرصة لإنجاز الحلقة الثالثة: «اقتصادنا»، والقيام بمحاولة توسعة وتبسيط البحوث التي عالجناها في «فلسفتنا» قبل أن نستأنف طبعه للمرة الثانية، الأمر الذي يتطلب فراغاً لا أملكه الآن.
وعلى هذا الأساس أخذت رغبة القراء الأعزاء تتجه نحو تمهيد كتاب «فلسفتنا»، بالذات، لأن إعادة طبعه لا تكلف الجهد الذي يتطلبه استئناف طبع الكتاب كله. وكانت الطلبات التي ترد لا تدع مجالاً للشك في ضرورة استجابة الطلب.
{8}
وهنا التقت الفكرتان، فلماذا لا يكون تمهيد كتاب فلسفتنا هو الحلقة الأولى من سلسلة المدرسة الإسلامية؟.
وهكذا كان.
ولكنا لم نكتف بطبع التمهيد فحسب، بل ادخلنا عليه بعض التعديلات الضرورية، وأعطينا بعض مفاهيمه شرحاً أوسع، كمفهومه عن غريزة حب الذات، وأضفنا اليه فصلين مهمين: أحدهما: «الإنسان المعاصر وقدرته على حل المشكلة الاجتماعية»، وهو الفصل الاول في الكتاب، يتناول مدى امكانات الإنسانية لوضع النظام الاجتماعي الكفيل بسعادتها وكمالها. والآخر: موقف الإسلام من الحرية والضمان، وهو الفصل الأخير من الكتاب قمنا فيه بدراسة مقارنة لموقف الإسلام والرأسمالية من الحرية، وموقف الإسلام والماركسية من الضمان.
وبهذا تضاعف التمهيد واكتسب إسمه الجديد، «الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية»، بوصفه «الحلقة الأولى» من «المدرسة الإسلامية» والله ولي التوفيق.
محمد باقر الصدر
-
الإنسان المعَاصِر وَقُدرته عَلّى حَل المشكلة الاجتماعيّة
{11}
بسِم اللهِ الرحمَن الرحّيم
مشكلة الإنسانية اليوم:
إن مشكلة العالم التي تملأ فكر الإنسانية اليوم، وتمس واقعها بالصميم، هي مشكلة النظام الاجتماعي التي تتلخص في إعطاء أصدق إجابة عن السؤال الآتي:
ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟.
ومن الطبيعي أن تحتل هذه المشكلة مقامها الخطير، وأن تكون في تعقيدها وتنوع ألوان الاجتهاد في حلها مصدراً للخطر على الإنسانية ذاتها. لأن النظام داخل في حساب الحياة الإنسانية، ومؤثر في كيانها الاجتماعي بالصميم.
وهذه المشكلة عميقة الجذور في الأغوار البعيدة من تاريخ البشرية، وقد واجهها الإنسان منذ نشأت في واقعة الحياة
{12}
الاجتماعية، وانبثقت الإنسانية الجماعية تتمثل في عدة أفراد تجمعهم علاقات وروابط مشتركة. فان هذه العلاقات في حاجة ـ بطبيعة الحال ـ الى توجيه وتنظيم شامل، وعلى مدى انسجام هذا التنظيم مع الواقع الإنساني ومصالحه، يتوقف استقرار المجتمع وسعادته.
وقد دفعت هذه المشكلة بالإنسانية في ميادينها الفكرية والسياسية.. الى خوض جهاد طويل وكفاح حافل بمختلف ألوان الصراع، وبشتى مذاهب العقل البشري، التي ترمي الى إقامة الصرح الإجتماعي وهندسته، ورسم خططه ووضع ركائزه. وكان جهاداً مرهقاً يضج بالمآسي والمظالم، ويزخر بالضحكات والدموع، وتقترن فيه السعادة بالشقاء. كل ذلك لما كان يتمثل في تلك الألوان الاجتماعية من مظاهر الشذوذ والانحراف، عن الوضع الاجتماعي الصحيح. ولولا ومضات شعت في لحظات من تاريخ هذا الكوكب، لكان المجتمع الإنساني يعيش في مأساة مستمرة، وسبح دائم في الأمواج الزاخرة.
ولا نريد أن نستعرض الآن أشواط الجهاد الإنساني في الميدان الاجتماعي، لأننا لا نقصد بهذه الدراسة أن نؤرخ للإنسانية المعذبة، وأجوائها التي تقلبت فيها منذ الآماد
{13}
البعيدة، وإنما نريد أن نواكب الإنسانية في واقعها الحاضر وفي أشواطها التي انتهت اليها، لنعرف الغاية التي يجب أن ينتهي اليها الشوط، والساحل الطبيعي الذي لا بد للسفينة أن تشق طريقها اليه وترسو عنده، لتصل الى السلام والخير وتؤوب الى حياة مستقرة، يعمرها العدل والسعادة.. بعد جهد وعناء طويلين وبعد تطواف عريض في شتى النواحي ومختلف الاتجاهات.
والواقع إن إحساس الإنسان المعاصر بالمشكلة الاجتماعية أشد من إحساسه بها في أي وقت مضى من أدوار التاريخ القديم. فهو الآن أكثر وعياً لموقفه من المشكلة وأقوى تحسساً بتعقيداتها، لأن الإنسان الحديث أصبح يعي أن المشلكة من صنعه. وأن النظام الاجتماعي لا يفرض عليه من أعلى بالشكل الذي تفرض عليه القوانين الطبيعية، التي تتحكم في علاقات الإنسان بالطبيعة. على العكس من الإنسان القديم الذي كان ينظر في كثير من الأحايين الى النظام الاجتماعي وكأنه قانون طبيعي، لا يملك في مقابله اختياراً ولا قدرة. فكما لا يستطيع أن يطور من قانون جاذبية الأرض، كذلك لا يستطيع أن يغير العلاقات الاجتماعية القائمة. ومن الطبيعي أن الإنسان حين بدأ يؤمن بأن هذه العلاقات مظهر من مظاهر السلوك، التي يختارها الإنسان نفسه، ولا يفقد إرادته في
{14}
مجالها.. أصبحت المشكلة الاجتماعية تعكس فيه ـ في الإنسان الذي يعيشها فكرياً ـ مرارة ثورية بدلاً من مرارة الإستسلام.
والإنسان الحديث من ناحية أخرى أخذ يعاصر تطوراً هائلاً في سيطرة الإنسانية على الطبيعة لم يسبق له نظير. وهذه السيطرة المتنامية بشكل مرعب وبقفزات العمالقة، تزيد في المشكلة الاجتماعية تعقيداً وتضاعف من أخطارها، لانها تفتح بين يدي الإنسان مجالات جديدة وهائلة للاستغلال، وتضاعف من أهمية النظام الاجتماعي، الذي يتوقف عليه تحديد نصيب كل فرد من تلك المكاسب الهائلة، التي تقدمها الطبيعة اليوم بسخاء للإنسان.
وهو بعد هذا يملك من تجارب سلفه ـ على مر الزمن ـ خبرة أوسع وأكثر شمولاً وعمقاً من الخبرات الاجتماعية، التي كان الإنسان القديم يمتلكها ويدرس المشكلة الاجتماعية في ضوئها. ومن الطبيعي أن يكون لهذه الخبرة الجديدة أثرها الكبير في تعقيد المشكلة، وتنوع الآراء في حلها والجواب عليها.
-
الإنسانية ومعالجتها للمشكلة:
نريد الآن ـ وقد عرفنا المشكلة، أو السؤال الأساسي الذي واجهته الإنسانية منذ مارست وجودها الاجتماعي الواعي، وتفننت في المحاولات التي قدمتها للجواب عليه عبر تاريخها المديد ـ نريد وقد عرفنا ذلك.. أن نلقي نظرة عى ما تملكه الإنسانية اليوم، وفي كل زمان، من الامكانات والشروط الضرورية لإعطاء الجواب الصحيح على ذلك السؤال الأساسي السالف الذكر: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية.
فهل في مقدور الإنسانية أن تقدم هذا الجواب؟.
وما هو القدر الذي يتوفر ـ في تركيبها الفكري والروحي ـ من الشروط اللازمة للنجاح في ذلك؟.
وما هي نوعية الضمانات التي تكفل للإنسانية نجاحها في الامتحان، وتوفيقها في الجواب الذي تعطيه على السؤال، وفي الطريقة التي تختارها لحل المشكلة الاجتماعية، والتوصل الى النظام الأصلح الكفيل بسعادة الإنسانية وتصعيدها الى أرفع المستويات؟.
وبتعبير أكثر وضوحاً: كيف تستطيع الإنسانية المعاصرة
{16}
أن تدرك مثلاً: ان النظام الدمقراطي الرأسمالي، او دكتاتورية البروليتاريا الاشتراكية أو غيرهما.. هو النظام الأصلح وإذا أدركت هذا او ذاك، فما هي الضمانات التي تضمن لها أنها على حق وصواب في إدراكها؟
ولو ضمنت هذا أيضاً، فهل يكفي إدراك النظام الأصلح ومعرفة الإنسان به لتطبيقه وحل المشكلة الاجتماعية على أساسه، أو يتوقف تطبيق النظام على عوامل اخرى قد لا تتوفر بالرغم من معرفة صلاحه وجدارته؟.
وترتبط هذه النقاط التي أثرناها الآن الى حد كبير بالمفهوم العام عن المجتمع والكون، ولذلك تختلف طريقة معالجتها من قبل الباحثين، تبعاً لاختلاف مفاهيمهم العامة عن ذلك ولنبداً بالماركسية.
-
رأي الماركسية:
ترى الماركسية أن الإنسان يتكيف روحياً وفكرياً وفقاً لطريقة الانتاج، ونوعية القوى المنتجة. فهو بصورة مستقلة عنها لا يمكنه أن يفكر تفكيراً اجتماعياً، أو أن يعرف ما هو النظام الأصلح؟. وإنما القوى المنتجة هي التي تملي عليه هذه المعرفة، وتتيح له الجواب على السؤال الأساسي الذي طرحناه
{17}
في فاتحة الحديث، وهو بدوره يردد صداها بدقة وأمانة. فالطاحونة الهوائية مثلاً، تبعث في الإنسانية الشعور بأن النظام الاقطاعي هو النظام الأصلح، والطاحونة البخارية التي خلفتها تلقن الإنسان: أن النظام الرأسمالي هو الأجدر بالتطبيق ووسائل الانتاج الكهربائية والذرية اليوم، تعطي المجتمع مضموناً فكرياً جديداً يؤمن بأن الأصلح هو النظام الاشتراكي.
فقدرة الإنسانية على ادراك النظام الأصلح، هي تماماً قدرتها على ترجمة المدلول الاجتماعي للقوى المنتجة وترديد صداها.
واما الضمانات التي تكفل للإنسانية صوابها وصحة ادراكها ونجاحها في تصورها للنظام الأصلح.. فهي تتمثل في حركة التاريخ السائرة الى الامام دوماً. فما دام التاريخ في رأي الماركسية يتسلق الهرم، ويزحف بصورة تصاعدية دائماً، فلابد أن يكون الإدراك الاجتماعي الجديد للنظام الأصلح هو الادراك الصحيح. واما الادراك التقليدي القديم فهو خاطئ، ما دام قد تكوّن ادراك اجتماعي أحدث منه. فالذي يضمن للإنسان السوفياتي اليوم صحة رأيه الاجتماعي، هو ان هذا الرأي يمثل الجانب الجديد من الوعي الاجتماعي، ويعبر عن مرحلة جديدة من التاريخ، فيجب أن يكون صحيحاً دون غيره من الآراء القديمة.
صحيح ان بعض الأفكار الاجتماعية قد تبدو جديدة
{18}
ـ بالرغم من زيفها ـ كالفكر النازي في النصف الأول من هذا القرن، حيث بدا وكأنه تعبير عن تطور تاريخي جديد. ولكن سرعان ما تنكشف أمثال هذه الأفكار المقنعة، ويظهر خلال التجربة انها ليست إلا رجعاً للأفكار القديمة، وتعبيراً عن مراحل تاريخية بالية، وليست أفكاراً جديدة بمعنى الكلمة.
وهكذا تؤكد الماركسية: على ان جدة الفكر الاجتماعي (بمعنى انبثاقه عن ظروف تاريخية جديدة التكون) هي الكفيلة بصحته ما دام التاريخ في تجدد ارتقائي.
وهناك شيء آخر وهو: ادراك الإنسانية اليوم مثلاً للنظام الاشتراكي ـ بوصفه النظام الأصلح -، لا يكفي في رأي الماركسية لإمكان تطبيقه، مالم تخض الطبقة التي تنتفع بهذا النظام اكثر من سواها ـ وهي الطبقة العاملة في مثالنا ـ صراعاً طبقياً عنيفاً، ضد الطبقة التي من مصلحتها الاحتفاظ بالنظام السابق. وهذا الصراع الطبقي المسعور يتفاعل مع ادراك النظام الأصلح، فيشتد الصراع كلما نمى هذا الإدراك وازداد وضوحاً، وهو بدوره يعمّق الادراك وينميه كلما اشتد واستفحل.
***
{19}
ووجهة النظر الماركسية هذه تقوم على أساس مفاهيم المادية التاريخية، التي نقدناها في دراستنا الموسعة للماركسية الاقتصادية (1).
وما نضيفه الآن تعلية على ذلك هو: ان التاريخ نفسه يبرهن على ان الأفكار الاجتماعية بشأن تحديد نوعية النظام الأصلح.. ليست من خلق القوى المنتجة، بل للإنسان اصالته وابداعه في هذا المجال، بصورة مستقلة عن وسائل الانتاج وإلاّ فكيف تفسر لنا الماركسية ظهور فكرة التأميم، والاشتراكية وملكية الدولة في فترات زمنية متباعدة من التاريخ؟!. فلو كان الايمان بفكرة التأميم ـ بوصفه النظام الأصلح كما يؤمن الإنسان السوفياتي اليوم ـ نتيجة لنوعية القوى المنتجة السائدة اليوم فما معنى ظهور الفكرة نفسها في أزمنة سحيقة لم تكن تملك من هذه القوى المنتجة شيئاً.
أفلم يكن افلاطون يؤمن بالشيوعية ويتصور مدينته الفاضلة على أساس شيوعي؟!، فهل كان ادراكه هذا من معطيات الوسائل الحديثة في الانتاج التي لم يكن الاغريق يملك منها شيئاً؟!.
ماذا أقول؟!، بل ان الأفكار الاشتراكية بلغت قبل الفين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع اقتصادنا ص 3 ـ 196.
{20}
من السنين، من النضج والعمق في ذهنية بعض كبار المفكرين السياسيين: درجة أتاحت لها مجالاً للتطبيق كما يطبقها الإنسان السوفياتي اليوم، مع بعض الفروق. فهذا (وو ـ دي) أعظم الأباطرة الذين حكموا الصين من أسرة (هان)، كان يؤمن في ضوء خبرته وتجاربه بالاشتراكية، باعتبارها النظام الأصلح. فقام بتطبيقها عام (140 ـ 187 ق م): فجعل موارد الثروة الطبيعية ملكاً للأمة، وأمم صناعات استخراج الملح والحديد وعصر الخمر. وأراد أن يقضي على سلطان الوسطاء والمضاربين في جهاز التجارة: فأنشأ نظاماً خاصاً للنقل والتبادل تشرف عليه الدولة، وسعى بذلك للسيطرة على التجارة، حتى يستطيع منع تقلب الأسعار الفجائي. فكان عمال الدولة هم الذين يتولون شؤون نقل البضائع وتوصيلها إلى أصحابها في جميع أنحاء البلاد، وكانت الدولة نفسها تخزن ما زاد من السلع على حاجة الأهلين، وتبيعها إذا أخذت أثمانها في الإرتفاع فوق ما يجب، كما تشتريها إذا انخفضت الأسعار. وشرع يقيم المنشآت العامة العظيمة، ليوجد بذلك عملاً لملايين الناس الذين عجزت الصناعات الخاصة عن استيعابهم.
وكذلك اعتلى العرش في بداية التاريخ المسيحي (وانج مانج) فتحمس بايمان لفكرة الغاء الرق، والقضاء على العبودية ونظام الاقطاع، كما آمن الأوروبيون في بداية العصر الرأسمالي..
{21}
والغى الرق، وانتزع الأراضي من الطبقة الاقطاعية، وأمم الأرض الزراعية، وقسمها قسماً متساوية ووزعها على الزراع وحرم بيع الأراضي وشراءها ليمنع بذلك من عودة الأملاك الواسعة الى ما كانت عليه من قبل، وأمم المناجم وبعض الصناعات الكبرى.
فهل يمكن أن يكون (وو ـ دي) أو (وانج مانج).. قد استوحيا ادراكهما الاجتماعي ونهجهما السياسي هذا من قوى البخار، أو قوى الكهرباء أو الذرة، التي تعتبرها الماركسية اساساً للتفكير الاشتراكي.
وهكذا نستنتج: إنّ ادراك هذا النظام أو ذاك ـ بوصفه النظام الأصلح ـ ليس صنيعة لهذه الوسيلة من وسائل الإنتاج أو تلك.
كما ان الحركة التقدمية للتاريخ، التي تبرهن الماركسية عن طريقها على: ان جدة الفكر تضمن صحته.. ليست إلاّ اسطورة اخرى من أساطير التاريخ، فان حركات الانتكاس وذوبان الحضارة كثيرة جداً.
-
رأي المفكرين غير الماركسيين:
وأما المفكرون غير الماركسيين فهم يقررون عادة: أن قدرة الإنسان على ادراك النظام الأصلح.. تنمو عنده من خلال التجارب الإجتماعية التي يعيشها. فحينما يطبق الإنسان الإجتماعي نظاماً معيناً ويجسده في حياته.. يستطيع أن يلاحظ من خلال تجربته لذلك النظام: الأخطاء ونقاط الضعف المستترة فيها، والتي تتكشف له على مر الزمن، فتمكنه من تفكير اجتماعي أكثر بصيرة وخبرة.. وهكذا يكون بامكان الإنسان أن يفكر في النظام الاصلح، ويضع جوابه على السؤال الأساسي في ضوء تجاربه وخبرته. وكلما تكاملت وكثرت تجاربه أو الأنظمة التي جرّبها، ازداد معرفة وبصيرة، وصار اكثر قدرة على تحديد النظام الأصلح وتصور معالمه.
فسؤالنا الأساسي: ما هو النظام الأصلح؟.. ليس إلاّ كسؤال: ما هي أصلح طريقة لتدفئة السكن؟.. هذا السؤال الذي واجهه الإنسان منذ أحس بالبرد، وهو في كهفه أو مغارته، فأخذ يفكر في الجواب عليه، حتى اهتدى في ضوء ملاحظاته أو تجاربه العديدة الى طريقة إيجاد النار. وظل يثابر ويجاهد في سبيل الحصول على جواب أفضل عبر تجاربه
{23}
المديدة، حتى انتهى أخيراً الى اكتشاف الكهرباء واستخدامه في التدفئة.
وكذلك آلاف المشاكل التي كانت تعترض حياته، فأدرك طريقة حلها خلال التجربة، وازداد إدراكه دقة كلما كثرت التجربة: كمشكلة الحصول على أصلح دواء للسل، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط، أو أسرع واسطة للنقل والسفر أو أفضل طريقة لحياكة الصوف... وما الى ذلك من مشاكل وحلول.
فكما استطاع الإنسان أن يحل هذه المشاكل، ويضع الجواب عن تلك الأسئلة من خلال تجاربه.. كذلك يستطيع أن يجيب على سؤال: ما هو النظام الأصلح؟!، من خلال تجاربه الاجتماعية، التي تكشف له عن سيئات ومحاسن النظام المجرّب، وتبرز ردود الفعل له على الصعيد الاجتماعي.
-
الفرق بين التجربة الطبيعية والاجتماعية:
وهذا صحيح الى درجة ما: فان التجربة الاجتماعية تتيح للإنسان أن يقدم جوابه على سؤال: ما هو النظام الأصلح؟ كما أتاحت له تجارب الطبيعة أن يجيب على الأسئلة الأخرى العديدة، التي اكتنفت حياته منذ البداية.
{24}
ولكننا يجب أن نفرّق ـ إذا أردنا أن ندرس المسألة على مستوى أعمق ـ: بين التجارب الاجتماعية التي يكون الإنسان خلالها إدراكه للنظام الأصلح، وبين التجارب الطبيعية التي يكتسب الإنسان خلالها معرفته بأسرار الطبيعة وقوانينها وطريقة الاستفادة منها: كأنجح دواء، أو أسرع واسطة للسفر، أو أفضل طريقه للحياكة، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط، او انجع طريقة لفلق الذرة مثلاً.
فإن التجارب الاجتماعية ـ أي تجارب الإنسان الاجتماعي للأنظمة الاجتماعية المختلفة ـ لا تصل في عطائها الفكري الى درجة التجارب الطبيعية ـ: وهي تجارب الإنسان لظواهر الطبيعة ـ، لأنها تختلف عنها في عدة نقاط. وهذا الاختلاف يؤدي الي تفاوت قدرة الإنسان على الاستفادة من التجارب الطبيعية والاجتماعية. فبينما يستطيع الإنسان أن يدرك أسرار الظواهر الطبيعية، ويرتقي في ادراكه هذا الى ذروة الكمال على مر الزمن، بفضل التجارب الطبيعية والعلمية.. لا يسير في مجال ادراكه الاجتماعي للنظام الأصلح إلاّ سيراً بطيئاً ولا يتأتى له بشكل قاطع أن يبلغ الكمال في ادراكه الاجتماعي هذا، مهما توافرت تجاربه الاجتماعية وتكاثرت.
ويجب علينا ـ لمعرفة هذا ـ أن ندرس تلك الفروق
{25}
المهمة، بين طبيعة التجربة الاجتماعية والتجربة الطبيعية.. لنصل الى الحقيقة التي قررناها وهي: أن التجربة الطبيعية قد تكون قادرة على منح الإنسان عبر الزمن فكرة كاملة عن الطبيعة، يستخدمها في سبيل الاستفادة من ظواهر الطبيعة وقوانينها، وأما التجربة الاجتماعية: فهي لا تستطيع أن تضمن للإنسان ايجاد هذه الفكرة الكاملة، عن المسألة الاجتماعية.
وتتلخص أهم تلك الفروق فيما يلي:
أولا: أن التجربة الطبيعية يمكن أن يباشرها ويمارسها فرد واحد، فيستوعبها بالملاحظة والنظرة، ويدرس بصورة مباشرة كل ما ينكشف خلالها من حقائق وأخطاء، فينتهي من ذلك الى فكرة معينة ترتكز على تلك التجربة.
وأما التجربة الاجتماعية فهي عبارة عن تجسيد النظام المجرب في مجتمع وتطبيقه عليه، فتجربة النظام الاقطاعي أو الرأسمالي مثلاً تعني: ممارسة المجتمع لهذا النظام فترة من تاريخه وهي لاجل ذلك لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد ويستوعبها وإنما يقوم بالتجربة الاجتماعية المجتمع كله، وتستوعب مرحلة تاريخية من حياة المجتمع أوسع كثيراً من هذا الفرد أو ذاك. فالإنسان حين يريد أن يستفيد من تجربة اجتماعية، لا يستطيع
{26}
أن يعاصرها بكل أحداثها، كما كان يعاصر التجربة الطبيعية حين يقوم بها، إنما يعاصر جانباً من أحداثها، ويتحتم عليه أن يعتمد في الاطلاع على سائر ظواهر التجربة ومضاعفاتها.. على الحدس والاستنتاج والتاريخ.
ثانياً: ان التفكير الذي تبلوره التجربة الطبيعية، أكثر موضوعية ونزاهة، من التفكير الذي يستمده الإنسان من التجربة الاجتماعية.
وهذه النقطة من أهم النقاط الجوهرية، التي تمنع التجربة الاجتماعية من الارتفاع الى مستوى التجربة الطبيعية والعلمية فلا بد من جلائها بشكل كامل.
ففي التجربة الطبيعية، ترتبط مصلحة الإنسان ـ الذي يصنع تلك التجربة ـ باكتشاف الحقيقة، الحقيقة كاملة صريحة دون مواربه، وليس له ـ في الغالب ـ أدنى مصلحة بتزوير الحقيقة أو طمس معالمها، التي تتكشف خلال التجربة. فإذا أراد ـ مثلاً ـ أن يجرب درجة تأثر جراثيم السل بمادة كيماوية معينة، حين القائها في محيط تلك الجراثيم، فسوف لا يهمه إلاّ معرفة درجة تأثرها، مهما كانت عالية أو منخفضة، ولن ينفعه في علاج السل ومكافحته أن يزور الحقيقة، فيبالغ في درجة تأثرها أو يهوّن منها. وعلى هذا الأساس يتجه تفكير المجرب ـ في العادة ـ اتجاهاً موضوعياً نزيهاً.
{27}
وأما في التجربة الاجتماعية، فلا تتوقف مصلحة المجرّب دائماً على تجلية الحقيقة، واكتشاف النظام الاجتماعي الأصلح لمجموع الإنسانية، بل قد يكون من مصلحته الخاصة: ان يستر الحقيقة عن الأنظار. فالشخص الذي ترتكز مصالحه على نظام الرأسمالية والاحتكار، أو على النظام الربوي للمصارف مثلاً. سوف يكون من مصلحته جداً أن تجيء الحقيقة مؤكدة لنظام الرأسمالية والاحتكار والربا المصرفي، بوصفه النظام الأصلح حتى تستمر منافعه التي يدرها عليه ذلك النظام. فهو إذن ليس موضوعياً بطبيعته، ما دام الدافع الذاتي يحثه على اكتشاف الحقيقة باللون الذي يتفق مع مصالحه الخاصة.
وكذلك الشخص الآخر، الذي تتعارض مصلحته الخاصة مع الربا او الاحتكار، لا يهمه شيء كما يهمه ان تثبت الحقيقة بشكل يدين الأنظمة الربوية والاحتكارية. فهو حينما يريد أن يستنتج الجواب على المسألة الاجتماعية: (ما هو النظام الأصلح؟) من خلال دراسته الاجتماعية، يقترن دائماً بقوة داخلية تحبذ له وجهة نظر معينة، وليس شخصاً محايداً بمعنى الكلمة.
وهكذا نعرف: ان تفكير الإنسان في المسألة الاجتماعية لا يمكن ـ عادة ـ أن تضمن له الموضوعية والتجرد عن الذاتية بالدرجة التي يمكن ضمانها في تفكير الإنسان حين يعالج تجربة طبيعية، ومسألة من مسائل الكون.
{28}
ثالثاً: وهب ان الإنسان استطاع أن يتحرر فكرياً من دوافعه الذاتية، ويفكر تفكيراً موضوعياً، ويكشف الحقيقة وهي: ان هذا النظام أو ذاك هو النظام الأصلح لمجموع الإنسانية.. ولكن من الذي يضمن اهتمامه بمصلحة مجموع الإنسانية إذا لم تلتق بمصلحته الخاصة؟!، ومن الذي يكفل سعيه في سبيل تطبيق ذلك النظام الأصلح للإنسانية اذا تعارض مع مصالحه الخاصة؟!. فهل يكفي ـ مثلاً ـ ايمان الرأسماليين بأن النظام الاشتراكي أصلح سبباً لتطبيقهم للاشتراكية ورضاهم عنها، بالرغم من تناقضها مع مصالحهم؟!، أو هل يكفي ايمان الإنسان المعاصر (انسان الحضارة الغربية) ـ في ضوء تجاربه التي عاشها ـ بالخطر الكامن في نظام العلاقات بين الرجل والمرأة، القائم على أساس الخلاعة والأباحية.. هل يكفي ايمانه بما تشتمل عليه هذه العلاقات من خطر الميوعة والذوبان على مستقبل الإنسان وغده.. لاندفاعه الى تطوير تلك العلاقات بالشكل الذي يضمن للإنسانية مستقبلها ويحميها من الذوبان الجنسي والشهوي، ما دام لايشعر بخطر معاصر على واقعه الذي يعيشه، وما دامت تلك العلاقات توفر له كثيراً من ألوان المتعة واللذة؟؟!!
نحن اذن وفي هذا الضوء، نشعر بحاجة لا الى اكتشاف النظام الأصلح لمجموع الإنسانية فحسب، بل الى دافع يجعلنا
{29}
نعنى بمصالح الإنسانية ككل، ونسعى الى تحقيقها، وان اختلفت مع مصالح الجزء الذي نمثله من ذلك الكل.
رابعاً: ان النظام الذي ينشئه الإنسان الاجتماعي، ويؤمن بصلاحه وكفاءته، لا يمكن أن يكون جديراً بتربية هذا الإنسان، وتصعيده في المجال الإنساني الى آفاق أرحب.. لأن النظام الذي يصنعه الإنسان الاجتماعي، يعكس دائماً واقع الإنسان الذي صنعه، ودرجته الروحية والنفسية. فاذا كان المجتمع يتمتع بدرجة منخفضة من قوة الارادة وصلابتها مثلاً لم يكن ميسوراً له أن يربي ارادته وينميها، بايجاد نظام اجتماعي صارم، يغذي الارادة ويزيد من صلابتها.. لأنه ما دام لا يملك ارادة صلبة، فهو لا يملك القدرة على ايجاد هذا النظام ووضعه موضع التنفيذ وانما يضع النظام الذي يعكس ميوعة ارادته وذوبانها. وإلا فهل ننتظر من مجتمع لا يملك ارادته ازاء إغواء الخمورة ـ مثلاً ـ واغراءها، ولا يتمتع بقدرة الترفع عن شهوة رخيصة كهذه.. هل ننتظر من هذا المجتمع: ان يضع موضع التنفيذ نظاماً صارماً يحرّم أمثال تلك الشهوات الرخيصة، ويربي في الإنسان ارادته، ويرد اليه حريته ويحرره من عبودية الشهوة واغرائها؟!!. كلا طبعاً. فنحن لا نترقب الصلابة من المجتمع الذائب، وان أدرك اضرار هذا الذوبان ومضاعفاته. ولا نأمل من المجتمع الذي تستعبده شهوة الخمرة
{30}
ان يحرر نفسه بارادته، مهما احس بشرور الخمرة وآثارها.. لأن الاحساس انما يتعمق ويتركز لدى المجتمع إذا استرسل في ذوبانه وعبوديته للشهوة واشباعها، وهو كلما استرسل في ذلك اصبح أشد عجزاً عن معالجة الموقف، والقفز بانسانيته الى درجات أعلى.
وهذا هو السبب الذي جعل الحضارات البشرية التي صنعها الإنسان، تعجز عادة عن وضع نظام يقاوم في الإنسان عبوديته لشهوته، ويرتفع به إلى مستوى انساني أعلى. حتى لقد اخفقت الولايات المتحدة ـ وهي أعظم تعبير عن اضخم الحضارات التي صنعها الإنسان ـ في وضع قانون تحريم الخمرة موضع التنفيذ لأن من التناقض أن نترقب من المجتمع الذي استسلم لشهوة الخمرة وعبوديتها، أن يسن القوانين التي ترتفع به من الحضيض الذي اختاره لنفسه. بينما نجد ان النظام الاجتماعي الإسلامي الذي جاء به الوحي، قد استطاع بطريقته الخاصة في تربية الإنسانية ورفعها الي اعلى أن يحرم الخمرة وغيرها من الشهوات الشريرة، ويخلق في الإنسان الارادة الواعية الصلبة .
***
ولم يبق علينا ـ بعد أن أوضحنا جانباً من الفروق الجوهرية بين التجربة الاجتماعية التي يمارسها المجتمع بأسره والتجربة
{31}
الطبيعية التي يمارسها المجرب نفسه ـ إلا ان نثير السؤال الأخير في مجال المسألة التي ندرسها (مسألة مدى قدرة الإنسان في حقل التنظيم الاجتماعي، واختيار النظام الأصلح.)، وهذا هو السؤال: ما هي قيمة المعرفة العلمية في تنظيم حياة الجماعة وإرساء الحياة الاجتماعية، والنظام الاجتماعي على أساس علمي من التجارب الطبيعية، التي تملك من الدقة ما تتسم به التجارب في مجال الفيزياء والكيمياء، ونتخلص بذلك من نقاط الضعف التي درسناها في طبيعة التجربة الاجتماعية؟؟.
وبكلمة اخرى: هل في الامكان الاستغناء ـ لدى تنظيم الحياة الاجتماعية والتعرف على النظام الأصلح ـ عن دراسة تاريخ البشرية، والتجارب التي مارستها المجتمعات الإنسانية عبر الزمن، والتي لا نملك تجاهها سوى الملاحظة عن بعد، ومن وراء ستائر الزمن التي تفصلنا عنها.. هل في الامكان الاستغناء عن ذلك كله، باقامة حياتنا الاجتماعية في ضوء تجارب علمية نعيشها ونمارسها بأنفسنا على هذا أو ذاك من الأفراد، حتى نصل الى معرفة النظام الأصلح؟؟.
وقد يتجه بعض المتفائلين الى الجواب على هذا السؤال بالايجاب، نظراً الى ما يتمتع به انسان الغرب اليوم من امكانات علمية هائلة: أوَ ليس النظام الاجتماعي هو النظام الذي يكفل اشباع حاجات الإنسانية بأفضل طريقة ممكنة؟؟. أوليست
{32}
حاجات الإنسان اشياء واقعية قابلة للقياس العلمي والتجربة كسائر ظواهر الكون؟!. أوَ ليست اساليب اشباع هذه الحاجات تعني اعمالاً محدودة، يمكن للمنطق العلمي أن يقيسها ويخضعها للتجربة، ويدرس مدى تأثيرها في اشباع الحاجات وما ينجم عنها من آثار؟!. فلماذا لا يمكن ارساء النظام الاجتماعي على أساس من هذه التجارب؟!. لماذا لا يمكن ان نكتشف بالتجربة على شخص أو عدة اشخاص، مجموع العوامل الطبيعية والفسيولوجية والسيكولوجية، التي تلعب دوراً في تنشيط المواهب الفكرية وتنمية الذكاء، حتى إذا أردنا أن ننظم حياتنا الاجتماعية، بشكل يكفل تنمية المواهب العقلية والفكرية للافراد، حرصنا على أن تتوفر في النظام تلك العوامل لجميع الأفراد؟!!
وقد يذهب بعض الناشئة في التصور الى أكثر من هذا فيخيل له: أن هذا ليس ممكناً فحسب، بل هو ما قامت به أوروبا الحديثة في حضارتها الغربية، منذ رفضت الدين والأخلاق وجميع المقولات الفكرية والاجتماعية، التي مارستها الإنسانية في تجاربها الاجتماعية عبر التاريخ.. واتجهت في بناء حياتها على اساس العلم، فقفزت في مجراها التاريخي الحديث، وفتحت أبواب السماء، وملكت كنوز الأرض....
وقبل ان نجيب على السؤال الذي أثرناه: (السؤال عن مدى
{33}
امكان إرساء الحياة الاجتماعية على أساس التجارب العلمية) يجب ان نناقش هذا التصور الاخير للحضارة الغربية، وهذا الاتجاه السطحي الى الاعتقاد: بأن النظام الاجتماعي، الذي يمثل الوجه الأساسي لهذه الحضارة، نتيجة للعنصر العلمي فيها. فان الحقيقة هي: ان النظام الاجتماعي الذي آمنت به اوروبا والمبادئ الاجتماعية التي نادت بها وطبقتها، لم تكن نتيجة لدراسة علمية تجريبية، بل كانت نظرية أكثر منها تجريبية ومبادئ فلسفية مجردة أكثر منها آراء علمية مجربة، ونتيجة لفهم عقلي وايمان بقيم عقلية محدودة، أكثر من كونها نتيجة لفهم استنتاجي وبحث تجريبي في حاجات الإنسان وخصائصه السيكولوجية والفسيولوجية والطبيعية، فان من يدرس النهضة الاوروبية الحديثة ـ كما يسميها التاريخ الاوروبي ـ بفهم يستطيع ان يدرك: ان اتجاهها العام في ميادين المادة، كان يختلف عن اتجاهها العام في الحقل الاجتماعي والمجال التنظيمي للحياة. فهي في ميادين المادة كانت علمية، إذ أقامت افكارها عن دنيا المادة على أساس الملاحظة والتجربة، فأفكارها عن تركيب الماء والهواء او عن قانون الجذب او فلق الذرة افكار علمية مستمدة من الملاحظة والتجربة. وأما في الميدان الاجتماعي: فقد تكوّن العقل الغربي الحديث على أساس المذاهب النظرية، لا الأفكار العلمية. فهو ينادي مثلاً: بحقوق
{34}
الإنسان العامة، التي اعلنها في ثورته الإجتماعية، ومن الواضح ان فكرة الحق نفسها ليست فكرة علمية، لأن حق الإنسان في الحرية مثلاً ليس شيئاً مادياً قابلاً للقياس والتجربة، فهو خارج عن نطاق البحث العلمي، وانما الحاجة هي الظاهرة المادية التي يمكن أن تدرس علمياً.
وإذا لاحظنا مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع، الذي يعتبر ـ من الوجهة النظرية ـ أحد المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية الحديثة.. فاننا نجد أن هذا المبدأ لم يستنتج بشكل علمي من التجربة والملاحظة الدقيقة، لأن الناس في مقاييس العلم ليسوا متساوين، إلاّ في صفة الإنسانية العامة، ثمّ هم مختلفون بعد ذلك في مزاياهم الطبيعية والفسيولوجية والنفسية والعقلية، وانما يعبر مبدأ المساواة عن قيمة خلقية هي من مدلولات العقل لا من مدلولات التجربة.
وهكذا نستطيع بوضوح : ان نميز بين طابع النظام الإجتماعي في الحضارة الغربية الحديثة، وبين الطابع العلمي. وندرك أن الإتجاه العلمي في التفكير الذي برعت فيه أوروبا الحديثة.. لم يشمل حقل التنظيم الإجتماعي، وليس هو الأساس الذي استنبطت منه اوروبا انظمتها ومبادئها الإجتماعية، في مجالات السياسة والإقتصاد والإجتماع.
ونحن بهذا إنما نقرر الحقيقة، ولسنا نريد أن نعيب على الحضارة
{35}
الغربية اهمالها لقيمة المعرفة العلمية، في مجال التنظيم الاجتماعي أو نؤاخذها على عدم اقامة هذا النظام على أساس التجارب العلمية الطبيعية، فان هذه التجارب العلمية لا تصلح لأن تكون أساساً للتنظيم الإجتماعي.
صحيح أن حاجات الإنسان يمكن إخضاعها للتجربة في كثير من الأحايين، وكذلك أساليب اشباعها.. ولكن المسألة الاساسية في النظام الاجتماعي، ليست هي اشباع حاجات هذا الفرد او ذاك، وانما هي ايجاد التوازن العادل بين حاجات الافراد كافة وتحديد علاقاتهم ضمن الإطار الذي يتيح لهم اشباع تلك الحاجات. ومن الواضح ان التجربة العلمية على هذا الفرد او ذاك، لا تسمح باكتشاف ذلك الاطار، ونوعية تلك العلاقات، وطريقة ايجاد ذلك التوازن.. وانما يكتشف ذلك خلال ممارسة المجتمع كله لنظام اجتماعي، اذ تتكشف خلال التجربة الاجتماعية مواطن الضعف والقوة في النظام، وبالتالي ما يجب اتباعه لإيجاد التوازن العادل المطلوب، الكفيل بسعادة المجموع.
اضف الى ذلك: ان بعض الحاجات أو المضاعفات لا يمكن اكتشافها في تجربة علمية واحدة، فخذ اليك مثلاً هذا: الشخص الذي يعتاد الزنا، فقد لا تجد في كيانه ـ بوصفه انساناً سعيداً ـ ما ينقصه أو يكدره، ولكنك قد تجد المجتمع الذي عاش ـ كما يعيش هذا الفرد ـ مرحلة كبيرة من عمره، وأباح لنفسه
{36}
الانسياق مع شهوات الجنس.. قد تجده بعد فترة من تجربته الاجتماعية منهاراً، قد تصدع كيانه الروحي، وفقد شجاعته الادبية، وارادته الحرة وجذوته الفكرية.
فليست كل النتائج، التي لا بد من معرفتها لدى وضع النظام الاجتماعي الاصلح.. يمكن اكتشافها بتجربة علمية، نمارسها في المختبرات الطبيعية والفسلجية، او في المختبرات النفسية.. على هذا الفرد او ذاك وانما يتوقف اكتشافها على تجارب اجتماعية طويلة الأمد.
وبعد هذا استخدام التجربة العلمية الطبيعية، في مجال التنظيم الاجتماعي، يمنى بنفس النزعة الذاتية التي تهدد استخدامنا للتجارب الإجتماعية. فما دام للفرد مصالحه ومنافعه الخاصة التي قد تتفق مع الحقيقة التي تقررها التجربة وقد تختلف.. يظل ممكناً دائماً أن يتجه تفكيره اتجاهاً ذاتياً، ويفقد الموضوعية التي تتميز بها الافكار العلمية، في سائر المجالات الاخرى.
***
والآن وقد عرفنا مدى قدرة الإنسان على حل المشكلة الإجتماعية والجواب على السؤال الاساسي فيها.. نستعرض أهم المذاهب الاجتماعية التي تسود الذهنية الإنسانية العامة اليوم ويقوم بينها الصراع الفكري أو السياسي، على اختلاف مدى
{37}
وجودها الإجتماعي في حياة الإنسان. وهي مذاهب اربعة:
1 ـ النظام الديمقراطي الرأسمالي.
2 ـ النظام الاشتراكي.
3 ـ النظام الشيوعي.
4 ـ النظام الإسلامي.
والثلاثة الاولى من هذه المذاهب تمثل ثلاث وجهات نظر بشرية، في الجواب على السؤال الاساسي: ما هو النظام الاصلح؟. فهي أجوبة وضعها الإنسان على هذا السؤال، وفقاً لامكاناته وقدرته المحدودة التي تبينا مداها قبل لحظة.
وأما النظام الإسلامي فهو يعرض نفسه على الصعيد الاجتماعي، بوصفه ديناً قائماً على أساس الوحي ومعطى إلهياً، لا فكراً تجريبياً منبثقاً عن قدرة الإنسان وامكاناته.
ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الانظمة الاربعة: فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الارض، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة اخرى. وكل من النظامين يملك كياناً سياسياً عظيماً، يحميه في صراعه مع الآخر، ويسلحه في معركته الجبارة التي يخوضها أبطالها في سبيل الحصول على قيادة العالم، وتوحيد النظام الاجتماعي فيه.
وأما النظام الشيوعي والإسلامي، فوجودهما بالفعل فكري
{38}
خالص. غير ان النظام الإسلامي، مر بتجربة من أروع تجارب النظم الاجتماعية وانجحها، ثمّ عصفت به العواصف بعد ان خلا الميدان من القادة المبدئيين او كاد، وبقيت التجربة في رحمة اناس لم ينضج الإسلام في نفوسهم، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره فعجزت عن الصمود والبقاء، فتقوض الكيان الإسلامي، وبقي نظام الإسلام فكرة في ذهن الأمة الإسلامية وعقيدة في قلوب المسلمين، وأملاً يسعى الى تحقيقه ابناؤه المجاهدون.
واما النظام الشيوعي فهو فكرة غير مجربة حتى الآن تجربة كاملة، وانما تتجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم الى تهيئة جو اجتماعي له بعد ان عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم، فأعلنت النظام الاشتراكي، وطبقته كخطوة الى الشيوعية الحقيقية.
فما هو موضعنا من هذه الانظمة؟
وما هي قضيتنا التي يجب ان ننذر حياتنا لها، ونقود السفينة الى شاطئها؟.
-
{41}
الدّيمقراطيّة الرأسماليّة:
ولنبدأ بالنظام الديمقراطي الرأسمالي، هذا النظام الذي أطاح بلون من الظلم في الحياة الاقتصادية، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية، وبجمود الكنيسة وما اليها في الحياة الفكرية وهيأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة جديدة حلت محل السابقين وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في أسلوب جديد.
وقد قامت الديمقراطية الرأسمالية: على الايمان بالفرد ايماناً لا حد له، وبأن مصالحه الخاصة بنفسها تكفل ـ بصورة طبيعية ـ مصلحة المجتمع في مختلف الميادين.. وان فكرة الدولة انما تستهدف حماية الافراد ومصالحهم الخاصة، فلا يجوز لها أن تتعدى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها.
ويتلخص النظام الديمقراطي الرأسمالي: في إعلان الحريات الأربع: السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والشخصية.
فالحرية السياسية: تجعل لكل فرد كلاماً مسموعاً ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامة للأمة، ووضع خططها ورسم قوانينها، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها. وذلك لأن النظام الإجتماعي للامة، والجهاز الحاكم فيها، مسألة تتصل اتصالا
{42}
مباشراً بحياة كل فرد من أفرادها، وتؤثر تأثيراً حاسماً، سعادته او شقائه، فمن الطبيعي حينئذ ان يكون لكل حق المشاركة في بناء النظام والحكم.
واذا كانت المسألة الإجتماعية ـ كما قلنا ـ مسألة حياز موت، ومسألة سعادة او شقاء للمواطنين، الذين تسري عم القوانين والانظمة العامة. فمن الطبيعي، أيضاً ان لا الاضطلاع بمسؤوليتها لفرد. او لمجموعة من الأفراد ـ مهما كانت الظروف ـ ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في نزاهة؟؟؟ ورجاحة عقله، على الاهواء والاخطاء.
فلا بد إذن من اعلان المساواة التامة في الحقوق السياسية المواطنين كافة، لأنهم يتساوون في تحمل نتائج المسألة الاجتماعية والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعية والتنفيذية. وعلى هذا الاساس قام حق التصويت ومبدأ الانتخاب العام، الذي يفتن انبثاق الجهاز الحاكم ـ بكل سلطاته وشعبه ـ عن أكثرية المواطنين.
والحرية الاقتصادية ترتكز: على الإيمان بالاقتصاد الذي قامت عليه سياسة الباب المفتوح، وتقرر فتح جميع الأبواب وتهيئة كل الميادين. أمام المواطن في المجال الاقتصادي فيباح التملك للاستهلاك وللانتاج معاً، وتباح هذه المللة الانتاجية التي يتكون منها رأس المال من غير حد وقد
{43}
وللجميع على حد سواء. فلكل فرد مطلق الحرية في انتاج أي اسلوب وسلوك أي طريق، لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها، على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية.
وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرية الاقتصادية: ان قوانين الاقتصاد السياسي، التي تجري على أصول عامة بصورة طبيعية، كفيلة بسعادة المجتمع وحفظ التوازن الاقتصادي فيه.. وان المصلحة الشخصية، التي هي الحافز القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامة وان التنافس الذي يقوم في السوق الحرة، نتيجة لتساوي المنتجين والمتجرين في حقهم من الحرية الاقتصادية، يكفي وحده لتحقيق روح العدل والانصاف، في شتى الاتفاقات والمعاملات. فالقوانين الطبيعية للاقتصاد، تتدخل ـ مثلا ـ في حفظ المستوى الطبيعي للثمن، بصورة تكاد أن تكون آلية وذلك: أن الثمن اذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة، انخفض الطلب بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم: (بأن ارتفاع الثمن يؤثر في انخفاض الطلب.)، وانخفاض الطلب بدوره يقوم بتخفيض الثمن، تحقيقاً لقانون طبيعي آخر، ولا يتركه حتى ينخفض به الى مستواه السابق، ويزول الشذوذ بذلك.
والمصلحة الشخصية تفرض على الفرد دائماً التفكير في كيفية زيادة الانتاج وتحسينه، مع تقليل مصارفه ونفقاته. وذلك
{44}
يحقق مصلحة المجتمع، في نفس الوقت الذي يعتبر مسألة خاصة بالفرد أيضاً.
والتنافس يقضي ـ بصورة طبيعية ـ تحديد أثمان البضائع وأجور العمال والمستخدمين بشكل عادل، لا ظلم فيه ولا اجحاف لان كل بائع او منتج يخشى من رفع أثمان بضائعه او تخفيض اجور عماله، بسبب منافسة الآخرين له من البائعين والمنتجين.
والحرية الفكرية تعني أن يعيش الناس احراراً في عقائدهم وأفكارهم، يفكرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم ويعتقدون ما يصل اليه اجتهادهم أو ما توحيه اليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة. فالدولة لا تسلب هذه الحرية عن فرد، ولا تمنعه عن ممارسة حقه فيها والإعلان عن أفكاره ومعتقداته، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده.
والحرية الشخصية تعبر عن : تحرر الإنسان في سلوكه الخاص من مختلف الوان الضغط والتحديد. فهو يملك ارادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصة، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاص من مضاعفات ونتائج، ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكه. فالحد النهائي الذي تقف عنده الحرية الشخصية لكل فرد: حرية الآخرين. فما لم يمسها الفرد بسوء فلا جناح عليه أن يكيف حياته باللون الذي يحلو
{45}
له ويتبع مختلف العادات والتقاليد والشعائر والطقوس التي يستذوقها. لأن ذلك مسألة خاصة تتصل بكيانه وحاضره ومستقبله. وما دام يملك هذا الكيان فهو قادر على التصرف فيه كما يشاء.
وليست الحرية الدينية ـ في رأي الرأسمالية التي تنادي بها ـ إلاّ تعبيراً عن الحرية الفكرية في جانبها العقائدي، وعن الحرية الشخصية في الجانب العلمي، الذي يتصل بالشعائر والسلوك.
ويستخلص من هذا العرض: ان الخط الفكري العريض لهذا النظام ـ كما المحنا اليه ـ هو: ان مصالح المجتمع مرتبطة بمصالح الأفراد فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الإجتماعي، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يسخر لخدمة الفرد وحسابه، والأداة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها.
هذه هي الديمقراطية الرأسمالية في ركائزها الأساسية، التي قامت من أجلها جملة من الثورات، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والامم، في ظل قادة كانوا حين يعبرون عن هذا النظام الجديد ويعدونهم بمحاسنه: يصفون الجنة في نعيمها وسعادتها وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء وقد اجريت عليها بعد ذلك عدة من التعديلات، غير انها لم تمس جوهرها بالصميم بل بقيت محتفظة بأهم ركائزها واسسها.
-
الاتجاه المادي في الرأسمالية:
ومن الواضح: أن هذا النظام الاجتماعي نظام مادي خالص أخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه، وآخرته، محدوداً بالجانب النفعي من حياته المادية، وافترض على هذا الشكل. ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح المادية الطاغية.. لم يبن على فلسفة مادية للحياة وعلى دراسة مفصلة لها. فالحياة في الجو الاجتماعي لهذا النظام، فصلت عن كل علاقة خارجة عن حدود المادية والمنفعة، ولكن لم يهيأ لاقامة هذا النظام فهم فلسفي كامل لعملية الفصل هذه. ولا أعني بذلك ان العالم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادية وأنصار لها، بل كان فيه اقبال على النزعة المادية، تأثراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي (1) وبروح الشك والتبلبل الفكري
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فان التجربة اكتسبت أهمية كبرى في الميدان العلمي، ووفقت توفيقاً لم يكن في الحسبان الى الكشف عن حقائق كثيرة، وإزاحة الستار عن أسرار مدهشة، أتاحت للإنسانية أن تستثمر تلك الأسرار والحقائق في حياتها العملية. وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة، أشاد لها قدسية في العقلية العامة، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقلية، وعن كل الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحس والتجربة، حتى صار الحس التجريبي في عقيدة كثير من التجريبيين ـ الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم. وقد أوضحنا في (فلسفتنا): ان التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي، وأن الأساس الأول للعلوم والمعارف هو العقل، الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحس كما يدرك الحقائق المحسوسة.
{47}
الذي أحدثه انقلاب الرأي، في طائفة من الأفكار كانت تعد من أوضح الحقائق وأكثرها صحة (1) وبروح التمرد والسخط على الدين المزعوم، الذي كان يجمد الأفكار والعقول، ويتملق للظلم والجبروت، وينتصر للفساد الاجتماعي في كل معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين (2).
فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادية في كثير من العقليات الغربية...
كل هذا صحيح، ولكن النظام الرأسمالي لم يركز على فهم فلسفي مادي للحياة، وهذا هو التناقض والعجز، فان المسألة الاجتماعية للحياة، تتصل بواقع الحياة، ولا تتبلور في شكل
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فان جملة من العقائد العامة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العام، مع أنها لم تكن قائمة على أساس من منطق عقلي أو دليل فلسفي، كالإيمان بأن الارض مركز العالم. فلما انهارت هذه العقائد في ظل التجارب الصحيحة، تزعزع الإيمان العام، وسيطرت موجة من الشك على كثير من الأذهان، فبعثت السلطة اليونانية من جديد متأثرة بروح الشك، كما تأثرت في العهد اليوناني بروح الشك الذي تولد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدة الجدل بينها.
(2) فإن الكنيسة لعبت دوراً هاماً في استغلالاً الدين استغلالً شنيعاً وجعل اسمه أداة لمآربها وأغراضها وخنق الانفاس العلمية والاجتماعية، وأقامت محاكم التفتيش، وأعطت لها الصلاحيات الواسعة للتصرف في المقدرات، حتى تولد عن ذلك كله التبرم بالدين والسخط عليه، لان الجريمة ارتكبت باسمه مع أنه في واقعه المصفى وجوهره الصحيح لا يقل عن أولئك الساخطين والمتبرمين ضيقاً بتلك الجريمة واستفظاعاً لدوافعها ونتائجها.
{48}
صحيح إلاّ اذا أقيمت على قاعدة مركزية تشرح الحياة وواقعها وحدودها والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة، فهو ينطوي على خداع وتظليل، او على عجلة وقلة أناة، حين تجمد المسألة الواقعية للحياة وتدرس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها، مع ان قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية الى واقع الحياة، التي تمون المجتمع بالمادة الاجتماعية ـ وهي العلاقات المتبادلة بين الناس ـ وطريقة فهمه لها واكتشاف أسرارها وقيمها. فالإنسان في هذا الكوكب ان كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة عالمة بأسراره وخفاياه، بظواهره ودقائقه قائمة على تنظيمه وتوجيهه.. فمن الطبيعي ان يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوة الخالقة، لانها أبصر بأمره واعلم بواقعه، وانزه قصداً واشد اعتدالاً منه.
وأيضاً، فان هذه الحياة المحدودة ان كانت بداية الشوط لحياة خالدة تنبثق عنها، وتتلون بطابعها، وتتوقف موازينها على مدى اعتدال الحياة الاولى ونزاهتها.. فمن الطبيعي ان تنظيم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها وتقام على أسس القيم المعنوية والمادية معاً.
واذن فمسألة الايمان بالله وانبثاق الحياة عنه، ليست مسألة فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة، لتفصل عن مجالات الحياة ويشرع لها طرائقها ودساتيرها، مع اغفال تلك المسألة
{49}
وفصلها، بل هي مسألة تتصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً.
والدليل على مدى اتصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها: أن الفكرة فيها تقوم على أساس الايمان بعدم وجود شخصية او مجموعة من الافراد، بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها، الى الدرجة التي تبيح ايكال المسألة الاجتماعية اليها، والتعويل في اقامة حياة صالحة للامة عليها. وهذا الاساس بنفسه لا موضع ولا معنى له، إلاّ اذا اقيم على فلسفة مادية خالصة، لا تعترف بامكان انبثاق النظام إلاّ عن عقل بشري محدود.
فالنظام الرأسمالي مادي بكل ما للفظ من معنى، فهو اما أن يكون قد استبطن المادية، ولم يجرؤ على الاعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها. واما ان يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعي، بين المسألة الواقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية. وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة، التي لا بد لكل نظام اجتماعي أن يرتكز عليها. وهو ـ بكلمة ـ: نظام مادي، وان لم يكن مقاماً على فلسفة مادية واضحة الخطوط.
-
موضع الاخلاق من الرأسمالية:
وكان من جراء هذه المادية التي زخر النظام بروحها: أن اقضيت الاخلاق من الحساب، ولم يلحظ لها وجود في ذلك
{50}
النظام او بالاحرى تبدلت مفاهيمها ومقاييسها، واعلنت المصلحة الشخصية كهدف اعلى، والحريات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة. فنشأ عن ذلك أكثر ما ضج به العالم الحديث من محن وكوارث، ومآسي ومصائب.
وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية، عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية قائلين: أن الهدف الشخصي بنفسه يحقق المصلحة الاجتماعية، وان النتائج التي تحققها الأخلاق بقيمها الروحية تحقق في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي، لكن لا عن طريق الأخلاق بل عن طريق الدوافع الخاصة وخدمتها. فان الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقق بذلك مصلحة شخصية أيضاً، باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله وحين ينقذ حياة شخص تعرضت للخطر فقد افاد نفسه أيضاً لان حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية فيعود عليه نصيب منها، واذن فالدافع الشخصي والحس النفعي يكفيان لتأمين المصالح الإجتماعية وضمانها، ما دامت ترجع بالتحليل الى مصالح خاصة ومنافع فردية.
وهذا الدفاع أقرب الى الخيال الواسع منه الى الاستدلال. فتصور بنفسك ان المقياس العملي في الحياة لكل فرد في الامة اذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصة، على أوسع نطاق وابعد مدى، وكانت الدولة توفر للفرد حرياته وتقدسه بغير
{51}
تحفظ ولا تحديد. فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد؟! وكيف يمكن أن يكون اتصال المصلحة الاجتماعية بالفرد كافياً لتوجيه الأفراد، نحو الأعمال التي تدعو اليها القيم الخلقية؟!، مع ان كثيراً من تلك الاعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع، واذا اتفق ان كان فيها شيء من النفع باعتباره فرداً من المجتمع، فكثيراً ما يزاحم هذا النفع الضئيل، الذي لا يدركه الإنسان إلاّ في نظرة تحليلية، بفوات منافع عاجلة او مصالح فردية، تجد في الحريات ضماناً لتحقيقها، فيطيح الفرد في سبيلها بكل برنامج الخلق والضمير الروحي.
-
مآسي النظام الرأسمالي:
واذا أردنا أن نستعرض الحلقات المتسلسلة من المآسي الاجتماعية، التي انبثقت عن هذا النظام المرتجل لا على اساس فلسفي مدروس.. فسوف يضيق بذلك المجال المحدود لهذا البحث ولذا نلمح اليها:
فأول تلك الحلقات: تحكم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية. فان الحرية السياسية كانت تعني: ان وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حق الأكثرية، ولنتصور ان الفئة التي تمثل الأكثرية في الامة ملكت زمام الحكم والتشريع، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية وهي عقلية مادية خالصة
{52}
في اتجاهها، ونزعاتها وأهدافها فماذا يكون مصير الفئة الأخرى؟ أو ماذا ترتقب للاقلية من حياة في ظل قوانين تشرع لحساب الأكثرية ولحفظ مطالحها؟!، وهل يكون من الغريب حينئذ اذا شرعت الاكثرية القوانين على ضوء مصالحها الخاصة، واهملت مصالح الاقلية واتجهت الى تحقيق رغباتها اتجاهاً مجحفاً بحقوق الآخرين؟ فمن الذي يحفظ لهذه الاقيلية كيانها الحيوي ويذب عن وجهها الظلم، ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كل فرد وما دامت الاكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليتها الاجتماعية؟؟. وبطبيعة الحال: ان التحكم سوف يبقى في ظل النظام كما كان في السابق، وان مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم.. ستحفظ في الجو الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الاجواء الاجتماعية القديمة وغاية ما في الموضوع من فرق ان الاستهتار بالكرامة الإنسانية كان من قبل أفراد بامة، وأصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثل الاكثريات بالنسبة الى الاقليات، التي تشكل بمجموعها عدداً هائلاً من البشر.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، إذاً لكانت المأساة هينة ولكان المسرح يحتفل بالضحكات أكثر مما يعرض من دموع، بل ان الامر تفاقم واشتد حين برزت المسألة الاقتصادية من هذا النظام بعد ذلك، فقررت الحرية الاقتصادية على هذا النحو
{53}
الذي عرضناه سابقاً، واجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشاً، ومهما كان شاذاً في طريقته وأسبابه، وضمنت تحقيق ما أعلنت عنه في الوقت الذي كان العالم يحتفل بانقلاب صناعي كبير، والعلم يتمخض عن ولادة الآلة التي قلبت وجه الصناعة وكسحت الصناعات اليدوية ونحوها، فانكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب الاقلية من أفراد الامة، ممن أتاحت لهم الفرص وسائل الانتاج الحديث وزودتهم الحريات الرأسمالية غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها الى أبعد حد والقضاء بها على كثير من فئات الامة التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها، وزعزعت حياتها، ولم تجد سبيلاً للصمود في وجه التيار، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلحين بالحرية الاقتصادية وبحقوق الحريات المقدسة كلها، وهكذا خلا الميدان إلاّ من تلك الصفوة من أرباب الصناعات والانتاج وتضاءلت الفئة الوسطى واقتربت الى المستوى العام المنخفض وصارت هذه الاكثرية المحطمة تحت رحمة تلك الصفوة، التي لا تفكر ولا تحسب الا على الطريقة الديمقراطية الرأسمالية. ومن الطبيعي حينئذ ان لا تمد يد العطف والمعونة الى هؤلاء، لتنتشلهم من الهوة وتشركهم في مغانمها الضخمة. ولماذا تفعل ذلك؟! ما دام المقياس الخلقي هو المنفعة واللذة، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرية فيما تعمل، وما دام النظام الديمقراطي
{54}
الرأسمالي يضيق بالفلسفة المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصة؟!.
فالمسألة اذاً يجب ان تدرس بالطريقة التي يوحي بها هذا النظام، وهي: ان يستغل هؤلاء الكبراء حاجة الاكثرية اليهم ومقوماتهم المعيشية، فيفرض على القادرين العمل في ميادينهم ومصانعهم، في مدة لا يمكن الزيادة عليها، وبأثمان لا تفي إلاّ بالحياة الضرورية لهم. هذا هو منطق المنفعة الخالص الذي كان من الطبيعي أن يسلكوه، وتنقسم الامة بسبب ذلك الى: فئة في قمة الثراء، واكثرية في المهوى السحيق.
وهنا يتبلور الحق السياسي للامة من جديد بشكل آخر. فالمساواة في الحقوق السياسية بين أفراد المواطنين، وان لم تمح من سجل النظام، غير انها لم تعد بعد هذه الزعازع إلاّ خيالا وتفكيراً خالصاً: فان الحرية الاقتصادية حين تسجل ما عرضناه من نتائج، تنتهي الى الانقسام الفظيع الذي مر في العرض، وتكون هي المسيطرة على الموقف والماسكة بالزمام وتقهر الحرية السياسية أمامها. فان الفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع، وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية، وتمكنها من شراء الأنصار والاعوان.. تهيمن على تقاليد الحكم في الامة وتتسلم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعاً لسيطرة رأس المال، بعد ان كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية
{55}
انه من حق الامة جمعاء. هكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حكماً تستأثر به الاقلية، وسلطانا يحمي به عدة من الافراد كيانهم على حساب الآخرين، بالعقلية النفعية التي يتستوحونها من الثقافة الديمقراطية الرأسمالية.
ونصل هنا الى أفظع حلقات المأساة التي يمثلها هذا النظام فان هؤلاء السادة الذين وضع النظام الديمقراطي الرأسمالي في أيديهم كل نفوذ، وزودهم بكل قوة وطاقة.. سوف يمدون أنظارهم ـ بوحي من عقلية هذا النظام ـ الى الآفاق ويشعرون بوحي من مصالحهم وأغراضهم انهم في حاجة الى مناطق نفوذ جديدة وذلك، لسببين:
الأول: ان وفرة الانتاج تتوقف على مدى توفر المواد الاولية وكثرتها، فكل من يكون حظه من تلك المواد أعظم تكون طاقاته الإنتاجية أقوى واكثر. وهذه المواد منتشرة في بلاد الله العريضة. واذا كان من الواجب الحصول عليها فاللازم السيطرة على البلاد التي تملك المواد لامتصاصها واستغلالها.
الثاني: ان شدة حركة الانتاج وقوتها. بدافع من الحرص على كثرة الربح من ناحية، وانخفاض المستوى المعيشي لكثير من المواطنين، بدافع من الشره المادي للفئة الرأسمالية، ومغالبتها للعامة على حقوقها بأساليبها النفعية، التي تجعل المواطنين عاجزين
{56}
عن شراء المنتجات واستهلاكها... كل ذلك يجعل كبار المنتجين في حاجة ماسة الى أسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها وايجاد تلك الأسواق يعني التفكير في بلاد جديدة.
وهكذا تدرس المسألة بذهنية مادية خالصة. ومن الطبيعي لمثل هذه الذهنية التي لم يرتكز نظامها على القيم الروحية والخلقية ولم يعترف مذهبها الاجتماعي بغاية الا اسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع والشهوات.. أن ترى في هذين السببين مبرراً ومسوّغاً منطقياً للاعتداء على البلاد الآمنة، وانتهاك كرامتها والسيطرة على مقدراتها ومواردها الطبيعية الكبرى واستغلال ثرواتها لترويج البضائع الفائضة. فكل ذلك امر معقول وجائز في عرف المصالح الفردية التي يقوم على أساسها النظام الرأسمالي والاقتصاد الحر.
وينطلق من هنا عملاق يغزو ويحارب، ويقيّد ويكبل ويستعمر ويستثمر، إرضاء للشهوات واشباعاً للرغبات.
فانظر ماذا قاست الإنسانية من ويلات هذا النظام، باعتباره مادياً في روحه وصياغته واساليبه واهدافه، وان لم يكن مركزاً على فلسفة محدودة تتفق مع تلك الروح والصياغة وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف كما ألمعنا اليه؟!!.
وقدّر بنفسك نصيب المجتمع الذي يقوم على ركائز هذا
{57}
النظام ومفاهيمه من السعادة والاستقرار، هذا المجتمع الذي ينعدم فيه الايثار والثقة المتبادلة، والتراحم والتعاطف الحقيقي وجميع الاتجاهات الروحية الخيرة، فيعيش الفرد فيه وهو يشعر بأنه المسؤول عن نفسه وحده، وأنه في خطر من قبل كل مصلحة من مصالح الآخرين التي قد تصطدم به. فكأنه يحيى في صراع دائم ومغالبة مستمرة، لا سلاح له فيها إلاّ قواه الخاصة، ولا هدف له منها إلاّ مصالحه الخاصة.
-
{61}
الإشتراكيّة والشيُوعيّة:
في الاشتراكية مذاهب متعددة، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادية الجدلية، التي هي عبارة عن: فلسفة خاصة للحياة وفهم مادي لها على طريقة ديالكتيكية. وقد طبق الماديون الديالكتيكيون هذه المادية الديالكتيكية على التاريخ والاجتماع والاقتصاد، فصارت عقيدة فلسفية في شأن العالم، وطريقة لدرس التاريخ والاجتماع، ومذهباً في الاقتصاد وخطة في السياسة. وبعبارة أخرى: انها تصوغ الإنسان كله في قالب خاص، من حيث لون تفكيره ووجهة نظره الى الحياة وطريقته العلمية فيها. ولاريب في أن الفلسفة المادية، وكذلك الطريقة الديالكتيكية.. ليستا من بدع المذهب الماركسي وابتكاراته، فقد كانت النزعة المادية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي، سافرة تارة ومتوارية اخرى وراء السفسطة والانكار المطلق، كما ان الطريقة الديالكتيكية في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الإنساني، وقد استكملت كل خطوطها على يد (هيجل) الفيلسوف المثالي المعروف. وانما جاء (كارل ماركس) الى هذا
{62}
المنطق وتلك الفلسفة فتبناها، وحاول تطبيقها على جميع ميادين الحياة فقام بتحقيقين:
أحدهما: أن فسر التاريخ تفسيراً مادياً خالصاً بطريقة ديالكتيكية.
والآخر: زعم فيه انه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة، التي يسرقها صاحب المال في عقيدته من العامل(1).
وأشاد على أساس هذين التحقيقين ايمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي، واقامة المجتمع الشيوعي والمجتمع الاشتراكي، الذي اعتبره خطوة للإنسانية الى تطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملاً.
فالميدان الاجتماعي في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات، وكل وضع اجتماعي يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة مادية خالصة، منسجمة مع سائر الظواهر والاحوال المادية ومتأثرة بها، غير انه في نفس الوقت يحمل نقيضه في صميمه، وينشب حينئذ الصراع بين النقائض في محتواه، حق تتجمع المتناقضات وتحدث تبدلاً في ذلك الوضع وانشاءاً لوضع جديد.. وهكذا يبقى العراك قائماً حتى تكون الإنسانية كلها طبقة واحدة، وتتمثل مصالح كل فرد في مصالح تلك الطبقة الموحدة.. في تلك اللحظة يسود الوئام، ويتحقق السلام
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرحنا هذه النظريات مع دراسة علمية مفصلة في كتاب (اقتصادنا).
{63}
وتزول نهائياً جميع الآثار السيئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي لأنها انما كانت تتولد من تعدد الطبقة في المجتمع، وهذا التعدد انما نشأ من انقسام المجتمع الى منتج وأجير. واذاً فلابد من وضع حد فاصل لهذا الانقسام، وذلك بالغاء الملكية، وتختلف هنا الشيوعية عن الاشتراكية في الخطوط الاقتصادية الرئيسية وذلك لان الاقتصاد الشيوعي يرتكز:
أولاً: على الغاء الملكية الخاصة ومحوها محوا تاماً من المجتمع وتمليك الثروة كلها للمجموع وتسليمها الى الدولة، باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في ادارتها واستثمارها لخير المجموع. واعتقاد المذهب الشيوعي بضرورة هذا التأميم المطلق، انما كان رد الفعل الطبيعي لمضاعفات الملكية الخاصة في النظام الديمقراطي الرأسمالي. وقد برر هذا التأميم: بأن المقصود منه الغاء الطبقة الرأسمالية وتوحيد الشعب في طبقة واحدة ليختم بذلك الصراع ويسد على الفرد الطريق الى استغلال شتى الوسائل والاساليب لتضخيم ثروته، اشباعاً لجشعه واندفاعاً بدافع الاثرة وراء المصلحة الشخصية.
ثانيا: على توزيع السلع المنتجة على حسب الحاجات الاستهلاكية للافراد، ويتلخص في النص الآتي: «من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته». وذلك ان كل فرد له حاجات طبيعية لا يمكنه الحياة بدون توفيرها، فهو يدفع
{64}
للمجتمع كل جهده فيدفع له المجتمع متطلبات حياته ويقوم بمعيشته .
ثالثاً: على مناج اقتصادي ترسمه الدولة، وتوفق فيه بين حاجة المجموع والانتاج في كميته وتنويعه وتحديده، لئلا يمنى المجتمع بنفس الادواء والازمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي حينما اطلق الحريات بغير تحديد.
-
الانحراف عن العملية الشيوعية:
ولكن أقطاب الشيوعية الذين نادوا بهذا النظام، لم يستطيعوا ان يطبقوه بخطوطه كلها حين قبضوا على مقاليد الحكم، واعتقدوا انه لابد لتطبيقه من تطوير الإنسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها، زاعمين: ان الإنسان سوف يجيء عليه اليوم الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية والفردية، وتحيى فيه العقلية الجماعية والنوازع الجماعية، فلا يفكر إلاّ في المصلحة الاجتماعية ولا يندفع إلاّ في سبيلها.
ولأجل ذلك كان من الضروري ـ في عرف هذا المذهب الاجتماعي ـ إقامة نظام اشتراكي قبل ذلك، ليتخلص فيه الإنسان من طبيعته الحاضرة، ويكتسب الطبيعة المستعدة للنظام الشيوعي. وهذا النظام الاشتراكي أجريت فيه تعديلات مهمة على الجانب الاقتصادي من الشيوعية. فالخط الأول من
{65}
خطوط الاقتصاد الشيوعي، وهو الغاء الملكية الفردية، قد بدل الى حل وسط وهو: تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجية والتجارات الداخلية، ووضعها جميعاً تحت الانحصار الحكومي وبكلمة أخرى الغاء رأس المال الكبير مع اطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وتركها للافراد، وذلك لأن الخط العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانية الذي أشرنا اليه، حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم، ويتهربون من واجباتهم الاجتماعية، لأن المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسد حاجاتهم كما ان المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد مهما كان شديداً لأكثر من ذلك؟ فعلام إذن يجهد الفرد ويكدح ويجد، ما دامت النتيجة في حسابه، هي النتيجة في حالي الخمول والنشاط؟! ولماذا يندفع الى توفير السعادة لغيره، وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته، ما دام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة إلاّ القيمة المادية الخالصة؟؟!، فاضطر زعماء هذا المذهب الى تجميد التأميم المطلق. كما اضطروا أيضاً إلى تعديل الخط الثاني من خطوط الاقتصاد الشيوعي أيضاً: وذلك بجعل فوارق بين الأجور، لدفع العمال الى النشاط والتكامل في العمل، معتذرين بأنها فوارق موقتة سوف تزول حينما يقضي على العقلية الرأسمالية، وينشأ الإنسان إنشاءا جديداً. وهم
{66}
لأجل ذلك يجرون التغييرات المستمرة على طرائقهم الاقتصادية وأساليبهم الاشتراكية، لتدارك فشل كل طريقة بطريقة جديدة. ولم يوفقوا حتى الآن للتخلص من جميع الركائز الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي. فلم تلغ مثلاً القروض الربوية نهائياً، مع انها في الواقع أساس الفساد الاجتماعي في الاقتصاد الرأسمالي.
ولا يعني هذا كله. ان أولئك الزعماء مقصرون، أو أنهم غير جادين في مذهبهم وغير مخلصين لعقيدتهم.. وانما يعني انهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق، فوجدوا الطريق مليئاً بالمعاكسات والمناقضات، التي تضعها الطبيعة الإنسانية أمام الطريقة الانقلابية للاصلاح الاجتماعي الذي كانوا يبشرون به ففرض عليهم الواقع التراجع آملين أن تتحقق المعجزة في وقت قريب أو بعيد.
واما من الناحية السياسية: فالشيوعية تستهدف في نهاية شوطها الطويل الى محو الدولة من المجتمع، حين تتحقق المعجزة وتعم العقلية الجماعية كل البشر، فلا يفكر الجميع إلاّ في المصلحة المادية للمجموع وأما قبل ذلك مادامت المعجزة غير محققة، وما دام البشر غير موحدين في طبقة، والمجتمع ينقسم الى قوى رأسمالية وعمالية.. فاللازم أن يكون الحكم عمالياً خالصاً، فهو حكم ديمقراطي في حدود دائرة العمال، ودكتاتوري بالنسبة الى العموم. وقد عللوا ذلك: بأن الدكتاتورية العمالية في الحكم
{67}
ضرورية في كل المراحل، التي تطويها الإنسانية بالعقلية الفردية وذلك حماية لمصالح الطبقة العاملة، وخنقاً لأنفاس الرأسمالية ومنعاً لها عن البروز الى الميدان من جديد.
والواقع ان هذا المذهب، الذي يتمثل في الاشتراكية الماركسية ثمّ في الشيوعية الماركسية. يمتاز عن النظام الديمقراطي الرأسمالي: بأنه يرتكز على فلسفة مادية معينة، تنبنى فهماً خاصاً للحياة، لا يعترف لها بجميع المثل والقيم المعنوية ويعللها تعليلاً لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة المادية المحدودة وهذا على عكس الديمقراطية الرأسمالية، فانها وان كانت نظاماً مادياً، ولكنها لم تبن على أساس فلسفي محدد فالربط الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية، آمنت به الشيوعية المادية، ولم تؤمن به الديمقراطية الرأسمالية، أو لم تحاول ايضاحه.
وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقاً بالدرس الفلسفي، وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركز عليها وانبثق عنها، فان الحكم على كل نظام يتوقف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية في تصوير الحياة وادراكها.
ومن السهل ان ندرك في أول نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفف او الكامل: ان طابعه العام هو افناء الفرد في المجتمع وجعله آلة مسخرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها. فهو
{68}
على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحر الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخره لمصالحه. فكأنه قد قدّر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية ـ في عرف هذين النظامين ـ ان تتصادما وتتصارعا، فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في أحد النظامين، الذي أقام تشريعه على اساس الفرد ومنافعه الذاتية، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوه الحياة في جميع شعبها. وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر، الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق، فساند المجتمع وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء، فأصيب الافراد بمحن قاسية قضت على حريتهم ووجودهم الخاص، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير.
-
المؤاخذات على الشيوعية:
والواقع ان النظام الشيوعي وان عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرة، بمحوه للملكية الفردية؛ غير أن هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً، وطريقة تنفيذه شاقة على النفس لا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطرق والاساليب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كله، لانه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء، وتعيين النقطة التي انطلق منها
{69}
الشر حتى اكتسح العالم في ظل الانظمة الرأسمالية، فبقيت تلك النقطة محافظة على موضعها من الحياة الأجتماعية في المذهب الشيوعي. وبهذا لم تظفر الإنسانية بالحل الحاسم لمشكلتها الكبرى، ولم تحصل على الدواء الذي يطبب أدواءها ويستأصل أعراضها الخبيثة.
أما مضاعفات هذا العلاج فهي جسيمة جداً: فإن من شأنه القضاء على حريات الافراد، لاقامة الملكية الشيوعية مقام الملكيات الخاصة. وذلك لان هذا التحويل الاجتماعي الهائل على خلاف الطبيعة الإنسانية العامة، الى حد الآن على الاقل كما يعترف بذلك زعماؤه ـ باعتبار ان الإنسان المادي لا يزال يفكر تفكيراً ذاتياً، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود. ووضع تصميم جديد للمجتمع يذوب فيه الافراد نهائياً، ويقضي على الدوافع الذاتية قضاء تاماً.. موضع التنفيذ، يتطلب قوة حازمة تمسك زمام المجتمع بيد حديدية، وتحبس كل صوت يعلو فيه، وتخنق كل نفس يتردد في أوساطه، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشر، وتضرب على الامة نطاقاً لا يجوز أن تتعداه بحال وتعاقب على التهمة والظنة، لئلا يفلت الزمام من يدها فجأة.
وهذا أمر طبيعي في كل نظام يراد فرضه على الامة، قبل أن تنضج فيها عقلية ذلك النظام وتعم روحيته.
نعم لو أخذ الإنسان المادي يفكر تفكيراً اجتماعياً، ويعقل
{70}
مصالحه بعقلية جماعية، وذابت من نفسه جميع العواطف الخاصة والاهواء الذاتية والانبعاثات النفسية.. لأمكن أن يقوم نظام يذوب فيه الافراد، ولا يبقى في الميدان إلاّ العملاق الاجتماعي الكبير. ولكن تحقيق ذلك في الإنسان المادي، الذي لا يؤمن إلاّ بحياة محدودة ولا يعرف معنى لها إلاّ اللذة المادية يحتاج الى معجزة تخلق الجنة في الدنيا، وتنزل بها من السماء إلى الأرض. والشيوعيون يعدوننا بهذه الجنة، وينتظرون ذلك اليوم الذي يقضي فيه المعمل على طبيعة الإنسان، ويخلقه من جديد انساناً مثالياً في أفكاره وأعماله، وإن لم يكن يؤمن بذرة من القيم المثالية والاخلاقية. ولو تحققت هذه المعجزة فلنا معهم حينئذ كلام. وأما الآن، فوضع التصميم الاجتماعي الذي يرومونه يستدعي حبس الأفراد في حدود فكرة هذا التصميم، وتأمين تنفيذه بقيام الفئة المؤمنة به على حمايته، والاحتياط له بكبت الطبيعة الإنسانية والعواطف النفسية، ومنعها عن الانطلاق بكل أسلوب من الأساليب. والفرد في ظل هذا النظام وان كسب تأميناً كاملاً، وضماناً اجتماعياً لحياته وحاجاته، لأن الثروة الجماعية تمده بكل ذلك في وقت الحاجة.. ولكن أليس من الأحسن بحال هذا الفرد أن يظفر بهذا التأمين دون أن يخسر استنشاق نسيم الحرية المهذبة، ويضطر إلى إذابة شخصه في النار، وإغراق نفسه في البحر الاجتماعي المتلاطم؟!.
{71}
وكيف يمكن أن يطمع بالحرية ـ في ميدان من الميادين ـ انسان حرم من الحرية في معيشته. وربطت حياته الغذائية ربطاً كاملاً بهيئة معينة، مع أن الحرية الاقتصادية والمعيشية هي أساس الحريات جميعاً.
ويعتذرعن ذلك المعتذرون فيتساءلون. ماذا يصنع الإنسان بالحرية والاستمتاع بحق النقد والاعلان عن آرائه، وهو يرزح تحت عبء اجتماعي فظيع؟!. وماذا يجديه أن يناقش ويعترض وهو أحوج إلى التغذية الصحيحة والحياة المكفولة منه الى الاحتجاج والضجيج الذي تنتجه له الحرية؟!.
وهؤلاء المتسائلون لم يكونوا ينظرون إلاّ إلى الديمقراطية الرأسمالية، كأنها القضية الإجتماعية الوحيدة التي تنافس قضيتهم في الميدان، فانتقصوا من قيمة الكرامة الفردية وحقوقها، لأنهم رأوا فيها خطراً على التيار الإجتماعي العام.. ولكن من حق الإنسانية أن لا تضحي بشيء من مقوماتها وحقوقها، ما دامت غير مضطرة إلى ذلك، وأنها إنما تقف موقف التخيير: بين كرامة هي من الحق المعنوي للإنسانية، وبين حاجة هي من الحق المادي لها، إذا أعوزها النظام الذي يجمع بين الناحيتين ويوفق الى حل المشكلتين.
ان إنساناً يعتصر الآخرون طاقاته، ولا يطمئن إلى حياة طيبة وأجر عادل وتأمين في أوقات الحاجة.. لهو إنسان قد
{72}
حرم من التمتع بالحياة، وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرة كما أن إنساناً يعيش مهدداً في كل لحظة، محاسباً على كل حركة معرضاً للاعتقال بدون محاكمة، وللسجن والنفي والقتل لادنى بادرة.. لهو إنسان مروع مرعوب، يسلبه الخوف حلاوة العيش، وينغص الرعب عليه ملاذ الحياة.
والإنسان الثالث: المطمئن إلى معيشته، الواثق بكرامته وسلامته، هو حلم الإنسانية العذب، فكيف يتحقق هذا الحلم؟ ومتى يصبح حقيقة واقعة؟.
وقد قلنا: أن العلاج الشيوعي للمشكلة الإجتماعية ناقص مضافا إلى ما أشرنا اليه من مضاعفات. فهو: وان كان تتمثل فيه عواطف ومشاعر إنسانية، آثارها الطغيان الإجتماعي العام فأهاب بجملة من المفكرين إلى الحل الجديد، غير أنهم لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد ليقضوا عليه، وإنما قضوا على شيء آخر فلم يوفقوا في العلاج ولم ينجحوا في التطبيب.
ان مبدأ الملكية الخاصة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة، التي زعزعت سعادة العالم وهناءه، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من العمال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم، كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي ولا هو الذي يفرض التحكم في أجور الاجير وجهوده بلا حساب ولا هو الذي يفرض على الرأسمالي أن يتلف كميات كبيرة من
{73}
منتوجاته، تحفظاً على ثمن السلعة وتفضيلاً للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها، ولا هو الذي يدعوه الى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا، وامتصاص جهود المدينين بلا انتاج ولا عمل، ولا هو الذي يدفعه الى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الاسواق ليحتكرها ويرفع بذلك من أثمانها، ولا هو الذي يفرض عليه فتح اسواق جديدة، وإن انتهكت بذلك حريات الأمم وحقوقها وضاعفت كرامتها وحريتها...
كل هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكية الخاصة، وانما هي وليدة المصلحة المادية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي، والمبرر المطلق لجميع التصرفات والمعاملات. فالمجتمع حين تقام اسسه على هذا المقياس الفردي والمبرر الذاتي لا يمكن أن ينتظر منه غير ما وقع. فان من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الإنسانية كلها، لا من مبدأ الملكية الخاصة، فلو ابدل المقياس ووضعت للحياة غاية جديدة مهذبة، تنسجم مع طبيعة الإنسان.. لتحقق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الإنسانية الكبرى.
-
الإسلام والمشكلة الاجتماعية
التعليل الصحيح للمشكلة:
ولأجل أن نصل إلى الحلقة الأولى في تعليل المشكلة الاجتماعية علينا أن نتساءل: عن تلك المصلحة المادية الخاصة التي أقامها النظام الرأسمالي، مقياساً ومبرراً وهدفاً وغاية نتساءل: ما هي الفكرة التي صححت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به؟. فإن تلك الفكرة هي الأساس الحقيقي للبلاء الاجتماعي، وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته، وإذا استطعنا أن نقضي على تلك الفكرة، فقد وضعنا حداً فاصلاً لكل المؤامرات على الرفاه الاجتماعي، والالتواءات على حقوق المجتمع وحريته الصحيحة، ووفقنا الى استثمار الملكية الخاصة لخير الإنسانية ورقيها، وتقدمها في المجالات الصناعية وميادين الانتاج.
فما هي تلك الفكرة؟.
ان تلك الفكرة تتلخص في التفسير المادي المحدود للحياة الذي أشاد عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبار. فإن
{78}
كل فرد في المجتمع إذا آمن بأن ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو حياته المادية الخاصة، وآمن أيضاً بحريته في التصرف بهذه الحياة واستثمارها، وانه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلاّ اللذة التي توفرها له المادة.. وأضاف هذه العقائد المادية إلى حب الذات، الذي هو من صميم طبيعته، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليون وينفذ اساليبهم كاملة ما لم تحرمه قوة قاهرة من حريته وتسد عليه السبيل.
وحب الذات هو: الغريزة التي لا نعرف غريزة أعم منها وأقدم، فكل الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها، بما فيها غريزة المعيشة. فان حب الإنسان ذاته ـ الذي يعني حبه للذة والسعاة لنفسه، وبغضه للالم والشقاء لذاته ـ هو الذي يدفع الإنسان الى كسب معيشته، وتوفير حاجياته الغذائية والمادية. ولذا قد يضع حداً لحياته بالانتحار، اذا وجد أن تحمل ألم الموت اسهل عليه من تحمل الآلام التي تزخر بها حياته.
فالواقع الطبيعي الحقيقي اذن، الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلها ويوجهها بأصابعه هو: حب الذات، الذي نعبر عنه بحب اللذة وبغض الالم. ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمل مختاراً مرارة الالم دون شيء من اللذة، في سبيل أن يلتذ الآخرون ويتنعموا، إلاّ اذا سلبت منه انسانيته، وأعطي طبيعة جديدة لا تتعشق اللذة ولا تكره الالم.
{79}
وحتى الالوان الرائعة من الايثار، التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تاريخه.. تخضع في الحقيقة ايضاً لتلك القوة المحركة الرئيسية: (غريزة حب الذات). فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحي في سبيل بعض المثل والقيم.. ولكنه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحس فيها بلذة خاصة، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن ايثاره لولده وصديقه، او تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها.
وهكذا يمكننا أن نفسر سلوك الإنسان بصورة عامة، في مجالات الانانية والايثار على حد سواء. ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة: مادية كالالتذاذ بالطعام والشراب والوان المتعة الجنسية وما اليها من اللذائذ المادية. أو معنوية كالالتذاذ الخلقي والعاطفي، بقيم خلقية أو أليف روحي او عقيدة معينة، حين يجد الإنسان ان تلك القيم او ذلك الاليف أو هذه العقيدة جزء من كيانه الخاص. وهذه الاستعدادات التي تهيئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوعة، تختلف في درجاتها عند الاشخاص، وتتفاوت في مدى فعليتها.. باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثر فيه. فبينما نجد ان بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً، نجد ان ألواناً
{80}
اخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان، وتظل تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتحها. وغريزة حب الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات. فهي تدفع انساناً الى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع انساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه. لأن استعداد الإنسان الأول للالتذاذ بالقيم الخلقية والعاطفية الذي يدفعه الى الايثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته. بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية، فأصبح يلتذ بالقيم الخلقية والعاطفية، ويضحي بسائر لذاته في سبيلها.
فمتى أردنا ان نغير من سلوك الإنسان شيئاً، يجب ان نغير من مفهوم اللذة والمنفعة عنده، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العام لغريزة حب الذات.
فاذا كانت غريزة حب الذات بهذه المكانة من دنيا الإنسان وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة: عن طاقه مادية محدودة وكانت اللذة عبارة: عما تهيئه المادة من متع ومسرات.. فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بأن مجال كسبه محدود، وان شوطه قصير وان غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذة المادية. وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادية وهو المال، الذي يفتح امام الإنسان السبيل الى تحقيق كل
{81}
أغراضه وشهواته.
هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادية، الذي يؤدي إلى عقلية رأسمالية كاملة.
أفترى أن المشكلة تحل حلاً حاسماً إذا رفضنا مبدأ الملكية الخاصة، وأبقينا تلك المفاهيم المادية عن الحياة، كما حاول اولئك المفكرون؟!. وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم بالقضاء على الملكية الخاصة فقط، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره؟!، مع ان ضمان سعادته واستقراره يتوقف الى حد بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الاصلاحية، في ميدان العمل والتنفيذ. والمفروض في هؤلاء المسؤولين أنهم يعتنقون نفس المفاهيم المادية الخالصة، عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية، وانما الفرق أن هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة، ومن الفرض المعقول الذي يتفق في كثير من الأحايين، أن تقف المصلحة الخاصة في وجه مصلحة المجموع، وأن يكون الفرد، بين خسارة وألم يتحملهما لحساب الآخرين، وبين ربح ولذة يتمتع بهما على حسابهم، فماذا تقدر للامة وحقوقها، وللمذهب وأهدافه، من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة، التي تمر على الحاكمين؟!. والمصلحة الذاتية لا تتمثل فقط في الملكية الفردية، ليقضى على هذا الفرض الذي أفترضناه، بالغاء مبدأ الملكية الخاصة، بل هي
{82}
تتمثل في أساليب وتتلون بألوان شتى. ودليل ذلك ما أخذ يكشف عنه زعماء الشيوعية اليوم من خيانات الحاكمين السابقين والتوائهم على ما يتبنون من أهداف.
ان الثروة التي تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظل الاقتصاد المطلق، والحريات الفردية، وتتصرف فيها بعقليتها المادية.. تسلم ـ عند تأميم الدولة لجميع الثروات، وإلغاء الملكية الخاصة ـ الى نفس جهاز الدولة، المكون من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادية عن الحياة، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حب الذات، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذة ومصلحة بلا عوض. وما دامت المصلحة المادية هي القوة المسيطرة، بحكم مفاهيم الحياة المادية، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس، وسوف يعرض المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال.
فالخطر على الإنسانية يكمن كله في تلك المفاهيم المادية وما ينبثق عنها من مقاييس للاهداف والأعمال. وتوحيد الثروات الرأسمالية ـ الصغيرة أو الكبيرة ـ في ثروة كبرى يسلم امرها للدولة، من دون تطوير جديد للذهنية الإنسانية.. لا يدفع ذلك الخطر، بل يجعل من الأمة جميعاً عمال شركة واحدة، ويربط حياتهم وكرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها.
نعم ان هذه الشركة تختلف عن الشركة الرأسمالية. في أن
{83}
أصحاب تلك الشركة الرأسمالية هم الذين يملكون أرباحها ويصرفونها في أهوائهم الخاصة. وأما أصحاب هذه الشركة فهم لايملكون شيئاً من ذلك، في مفروض النظام، غير أن ميادين المصلحة الشخصية لا تزال مفتوحة، والفهم المادي للحياة ـ الذي يجعل من تلك المصلحة هدفاً ومبرراً ـ لا يزال قائماً.
-
كيف تعالج المشكلة:
والعالم أمامه سبيلان إلى دفع الخطر، وإقامة دعائم المجتمع المستقر:
أحدهما: أن يبدل الإنسان غير الإنسان، أو تخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحي بمصالحه الخاصة، ومكاسب حياته المادية المحدودة.. في سبيل المجتمع ومصالحه، مع ايمانه بأنه لا قيم إلا قيم تلك المصالح المادية، ولا مكاسب إلاّ مكاسب هذه الحياة المحدودة. وهذا إنما يتم إذا انتزع من صميم طبيعته حب الذات، وأبدل بحب الجماعة، فيولد الإنسان وهو لا يحب ذاته، إلاّ باعتبار كونه جزءاً من المجتمع، ولا يلتذ لسعادته ومصالحه، إلاّ بما انها تمثل جانباً من السعادة العامة ومصلحة المجموع. فان غريزة حب الجماعة تكون ضامنة حينئذ للسعي وراء مصالحها وتحقيق متطلباتها، بطريقة ميكانيكية واسلوب آلي.
والسبيل الآخر، الذي يمكن للعالم سلوكه لدرء الخطر عن
{84}
حاضر الإنسانية ومستقبلها هو: أن يطور المفهوم المادي للإنسان عن الحياة، وبتطويره تتطور طبيعياً أهدافها وما ييسها وتتحقق المعجزة حينئذ من أيسر طريق.
والسبيل الأول هو الذي يحلم أقطاب الشيوعيين بتحقيقه للإنسانية في مستقبلها، ويعدون العالم بأنهم سوف ينشؤونها انشاءاً جديداً، يجعلها تتحرك ميكانيكياً إلى خدمة الجماعة ومصالحها. ولأجل أن يتم هذا العمل الجبار، يجب أن نوكل قيادة العالم اليهم، كما يوكل أمر المريض إلى الجراح، ويفوض اليه تطبيقه وقطع الأجزاء الفاسدة منه، وتعديل المعوج منها. ولا يعلم أحد كم تطول هذه العملية الجراحية التي تجعل الإنسانية تحت مبضع جراح. وإن استسلام الإنسانية لذلك لهو أكبر دليل على مدى الظلم الذي قاسته في النظام الديمقراطي الرأسمالي الذي خدعها بالحريات المزعومة، وسلب منها أخيراً كرامتها وامتص دماءها، ليقدمها شراباً سائغاً للفئة المدللة التي يمثلها الحاكمون.
والفكرة في هذا الرأي، القائل: بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الإنسانية وانشائها من جديد.. ترتكز على مفهوم الماركسية عن حب الذات. فان الماركسية تعتقد: ان حب الذات ليس ميلا طبيعياً وظاهرة غريزة في كيان الإنسان، وانما هو نتيجة للوضع الإجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية، فإن
{85}
الحالة الإجتماعية للملكية الخاصة هي التي تكون المحتوى الروحي والداخلي للإنسان، وتخلق في الفرد حبه لمصالحه الخاصة ومنافعه الفردية. فاذا حدثت ثورة في الأسس التي يقوم عليها الكيان الإجتماعي وحلت الملكية الجماعية والإشتراكية محل الملكية الخاصة.. فسوف تنعكس الثورة في كل أرجاء المجتمع وفي المحتوى الداخلي للإنسان، فتنقلب مشاعره الفردية الى مشاعر جماعية، ويتحول حبه لمصالحه ومنافعه الخاصة الى حب لمنافع الجماعة ومصالحها، وفقاً لقانون التوافق: بين حالة الملكية الإسلاسية ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيف بموجبها.
والواقع أن هذا المفهوم الماركسي لحب الذات، يقدر العلاقة بين الواقع الذاتي (غريزة حب الذات)، وبين الأوضاع الإجتماعية بشكل مقلوب. وإلاّ فكيف نستطيع أن نؤمن: بأن الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصة، والتناقضات الطبقية التي تنجم عنها؟!. فان الإنسان لو لم يكن يملك سلفاً الدافع الذاتي لما أوجد هذه التناقضات، ولا فكر في الملكية الخاصة والاستئثار الفردي. ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين، ما دام لا يحس بالدافع الذاتي في أعماق نفسه؟!. فالحقيقة أن المظاهر الإجتماعية للانانية في الحقل الإقتصادي والسياسي.. لم تكن إلاّ نتيجة للدافع الذاتي، لغريزة حب الذات. فهذا
{86}
الدافع أعمق منها في كيان الإنسان، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بازالة تلك الآثار، فان عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالاً لآثار بأخرى قد تختلف في الشكل والصورة، لكنها معها في الجوهر والحقيقة.
أضف إلى ذلك: أنا لو فسرنا الدافع الذاتي: (غريزة حب الذات) تفسيراً موضوعياً، بوصفه انعكاساً لظواهر الفردية في النظام الإجتماعي، كظاهرة الملكية الخاصة ـ كما صنعت الماركسية. فلا يعني هذا أن الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الإجتماعي، بإزالة الملكية الخاصة لأنها وان كانت ظاهرة ذات طابع فردي، ولكنها ليست هي الوحيدة من نوعها ـ فهناك ـ مثلاً ـ ظاهرة الادارة الخاصة التي يحتفظ بها حتى النظام الإشتراكي. فان النظام الاشتراكي وان كان يلغي الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، غير أنه لا يلغي إدارتها الخاصة من قبل هيئات الجهاز الحاكم، الذي يمارس دكتاتورية البروليتاريا ويحتكر الاشراف على جميع وسائل الإنتاج وإدارتها. إذ ليس من المعقول أن تدار وسائل الإنتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية إشتراكية، من قبل أفراد المجتمع كافة. فالنظام الإشتراكي يحتفظ إذن بظواهر فردية بارزة ومن الطبيعي لهذه الظواهرالفردية أن تحافظ على الدافع الذاتي وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار، كما كانت تصنع
{87}
ظاهرة الملكية الخاصة.
وهكذا نعرف قيمة السبيل الاول لحل المشكلة: السبيل الشيوعي الذي يعتبر الغاء تشريع الملكية الخاصة ومحورها من سجل القانون.. كفيلاً وحده بحل المشكلة وتطوير الإنسان.
واما السبيل الثاني ـ الذي مر بنا ـ فهو الذي سلكه الإسلام، ايماناً منه بأن الحل الوحيد للمشكلة تطوير المفهوم المادي للإنسان عن الحياة. فلم يبتدر الى مبدأ الملكية الخاصة ليبطله، وانما غزا المفهوم المادي عن الحياة ووضع للحياة مفهوماً جديداً، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد، بل وضع لكل منهما حقوقه، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادية معاً. فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية، وما اليه من أنظمة.. فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانية. فان نقطة الارتكاز الاساسية لما ضجت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء والوان المآسي.. هي النظرة المادية الى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في: افتراض حياة الإنسان في هذه الدنيا هي كل ما في الحساب من شيء، وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكل فعالية ونشاط.
إن الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار
{88}
والفشل المحقق في نظر الإسلام، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته، وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصة في ذاتها، لان الإسلام يختلف في طريقته المنطقية، واقتصاده السياسي، وفلسفته الاجتماعية.. عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدلية ـ كما اوضحنا ذلك في كتابي: «فلسفتنا» و«اقتصادنا» ـ ويضمن وضع الملكية الفردية في تصميم اجتماعي، خال من تلك التناقضات المزعومة.
بل مراد الفشل والوضع الفاجع، الذي منيت به الديمقراطية الرأسمالية في عقيدة الإسلام.. الى مفاهيمها المادية الخالصة، التي لا يمكن أن يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها، ويستمد خطوطه العامة من روحها وتوجيهها.
فلابد إذن من معين آخر ـ غير المفاهيم المادية عن الكون ـ يستقي منه النظام الاجتماعي، ولا بد من وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة، ويتبنى القضية الإنسانية الكبرى، ويسعى الى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم، ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية. وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالم، واكتساحه لكل وعي سياسي آخر، وغزوه لكل مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية.. يمكن ان يدخل العالم في حياة جديدة، مشرقة بالنور عامرة بالسعادة.
ان هذا الوعي السياسي العميق هو رسالة السلام الحقيقي
{89}
في العالم، وأن هذه الرسالة المنقذة لهي رسالة الإسلام الخالدة التي استمدت نظامها الاجتماعي ـ المختلف عن كل ما عرضناه من أنظمة ـ من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون.
وقد أوجد الإسلام بتلك القاعدة الفكرية النظرة الصحيحة للإنسان الى حياته. فجعله يؤمن: بأن حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال، وانها اعداد للإنسان الى عالم لا عناء فيه ولا شقاء، ونصب له مقياساً خلقياً جديداً في كل خطواته وأدواره، وهو: رضا الله تعالى. فليس كل ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز، وكل ما يؤدي الى خسارة شخصية فهو محرم غير مستساغ.. بل الهدف الذي رسمه الإسلام للإنسان في حياته هو الرضا الإلهي والمقياس الخلقي الذي توزن به جميع الأعمال انما هو مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدس والإنسان المستقيم هو الإنسان الذي يحقق هذا الهدف، والشخصية الإسلامية الكاملة هي الشخصية التي سارت في شتى أشواطها على هدى هذا الهدف، وضوء هذا المقياس، وضمن إطاره العام.
وليس هذا التحويل في مفاهيم الإنسان الخلقية وموازينه وأغراضه.. يعني تغيير الطبيعة الإنسانية، وانشاءها انشاءاً جديداً كما كانت تعني الفكرة الشيوعية. فحب الذات ـ: أي حب الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصة ـ طبيعي في الإنسان، ولا نعرف استقراءاً في ميدان تجريبي، أوضح من
{90}
استقراء الإنسانية في تاريخها الطويل، الذي يبرهن على ذاتية حب الذات. بل لو لم يكن حب الذات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأول قبل كل تكوينة اجتماعية ـ الى تحقيق حاجاته، ودفع الأخطار عن ذاته، والسعي وراء مشتهياته .. بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده وبالتالي خوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين، تحقيقاً لتلك الحاجات ودفعاً لتلك الأخطار، ولما كان حب الذات يحتل هذا الموضع من طبيعة الإنسان. فأي علاج حاسم للمشكلة الإنسانية الكبرى يجب ان يقوم على اساس الإيمان بهذه الحقيقة. وإذا قام على فكرة تطويرها أو التغلب عليها، فهو علاج مثالي لا ميدان له في واقع الحياة العملية التي يعيشها الإنسان.
-
رسالة الدين:
ويقوم الدين هنا برسالته الكبرى التي لا يمكن أن يضطلع بأعبائها غيره، ولا ان تحقق أهدافها البناءة واغراضها الرشيدة إلاّ على اسسه وقواعده، فيربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان، وحب الذات المرتكزة في فطرته.
وفي تعبير آخر: ان الدين يوحد بين المقياس الفطري للعمل والحياة، وهو حب الذات، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة، ليضمن السعادة والرفاه والعدالة.
{91}
إن المقياس الفطري يتطلب من الإنسان: أن يقدم مصالحه الذاتية على مصالح المجتمع ومقومات التماسك فيه، والمقياس الذي ينبغي أن يحكم ويسود هو المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية.
فكيف يتم التوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين، لتعود الطبيعة الإنسانية في الفرد عاملاً من عوامل الخير والسعادة للمجموع بعد أن كانت مثار المأساة والنزعة التي تتفنن في الأنانية وأشكالها؟.
إن التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة، وتتخذ العملية اسلوبين:
الاسلوب الاول: هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح، كمقدمة تمهيدية إلى حياة اخروية يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه، في سبيل تحصيل رضا الله. فالمقياس الخلقي ـ أو رضا الله تعالى ـ: يضمن المصلحة الشخصية، في نفس الوقت الذي يحقق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى. فالدين يأخذ بيد الإنسان الى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد والمحافظة على قضايا العدالة فيه، التي تحقق رضا الله تعالى، لأن ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي، ما دام كل عمل ونشاط في هذا الميدان يعوض عنه باعظم العوض واجله.
{92}
فمسألة المجتمع هي مسألة الفرد أيضاً، في مفاهيم الدين عن الحياة وتفسيرها. ولا يمكن أن يحصل هذا الأسلوب من التوفيق في ظل فهم مادي للحياة، فإن الفهم المادي للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلاّ إلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة، على عكس التفسير الواقعي للحياة الذي يقدمه الإسلام، فانه يوسع من ميدان الإنسان، ويفرض عليه نظرة أعمق الى مصالحه ومنافعه ويجعل من الخسارة العاجلة ربحاً حقيقياً في هذه النظرة العميقة، ومن الارباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف:
«من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها». «ومن عمل صالحاً من ذكر أو انثى وهو مءؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب». «يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره». «ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ، ولا نصب، ولا مخصمة في سبيل الله ولا يطؤن موطناً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا.. إلاّ كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً.. إلاّ كتب لهم ليجزيهم أحسن ما كانوا يعملون».
هذه بعض الصور الرائعة التي يقدمها الدين مثالاً على الأسلوب
{93}
الأول، الذي يتبعه للتوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين فيربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة، ويطور من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن: بأن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للإنسانية ـ التي يحددها الإسلام ـ مترابطتان (1).
وأما الاسلوب الثاني: الذي يتخذه الدين، للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الإجتماعية: فهو التعهد بتربية أخلاقية خاصة، تعني بتغذية الإنسان روحياً، وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخلقية فيه. فان في طبيعة الإنسان ـ كما ألمعنا سابقاً ـ طاقات واستعدادات لميول متنوعة، بعضها ميول مادية تتفتح شهواتها بصورة طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس، وبعضها ميول معنوية تتفتح وتنمو بالتربية والتعاهد ولأجل ذلك كان من الطبيعي للإنسان ـ إذا ترك لنفسه ـ أن تسيطر عليه الميول المادية لأنها تتفتح بصورة طبيعية، وتظل الميول المعنوية واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة. والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله. فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة ويصبح الإنسان يحب القيم الخلقية والمثل التي يربيه الدين على
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر اقتصادنا ص 307.
{94}
احترامها ويستبسل في سبيلها ويزيح عن طريقها ما يقف امامها من مصالحه ومنافعه وليس معنى ذلك أن حب الذات يمحى من الطبيعة الإنسانية بل أن العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حب الذات فان القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للإنسان ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبراً عن لذة شخصية خاصة فتفرض طبيعة حب الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقاً للذة الخاصة بذلك.
فهذان هما الطريقان اللذان ينتج عنهما ربط المسألة الخلقية بالمسألة الفردية، ويتلخص أحدهما في: اعطاء التفسير الواقعي لحياة أبدية لا لأجل أن يزهد الإنسان في هذه الحياة، ولا لأجل أن يخنع للظلم ويقر على غير العدل.. بل لاجل ضبط الإنسان بالمقياس الخلقي الصحيح، الذي يمده ذلك التفسير بالضمان الكافي.
ويتلخص الآخر في: التربية الخلقية التي ينشأ عنها في نفس الإنسان مختلف المشاعر والعواطف، التي تضمن إجراء المقياس الخلقي بوحي من الذات.
فالفهم المعنوي للحياة والتربية الخلقية للنفس في رسالة الإسلام.. هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الإنسانية.
ولنعبر دائماً عن فهم الحياة على أنها تمهيد لحياة أبدية: بالفهم المعنوي للحياة ولنعبر أيضاً عن المشاعر والاحاسيس، التي
{95}
تغذيها التربية الخلقية: بالاحساس الخلقي بالحياة.
فالفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها، هما الركيزتان اللتان يقوم على اساسهما المقياس الخلقي الجديد، الذي يضعه الإسلام للإنسانية وهو: رضا الله تعالى. ورضا الله ـ هذا الذي يقيمه الإسلام مقياساً عاماً في الحياة ـ هو الذي يقود السفينة البشرية الى ساحل الحق والخير والعدالة.
فالميزة الاساسية للنظام الإسلامي تتمثل: فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها، والخط العريض في هذا النظام هو: اعتبار الفرد والمجتمع معاً، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن. فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر اليه الدولة وتشرع لحسابه.
وكل نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والاحساس فهو إما نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية، فتتعرض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات واشد الأخطار. وإما نظام يحبس في الفرد نزعته ويشل فيه طبيعته لوقاية المجتمع ومصالحه. فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته والأفراد ونزعاتهم بل يتعرض الوجود الاجتماعي للنظام دائماً للانتكاس على يد منشئيه ما دام هؤلاء يحملون نزعات فردية أيضاً، وما دامت هذه النزعات تجد لها ـ بكبت النزعات الفردية الاخرى وتسلم
{96}
القيادة الحاسمة ـ مجالاً واسعاً وميداناً لا نظير له للانطلاق والاستغلال.
وكل فهم معنوي للحياة احساس خلقي بها لا ينبثق عنهما نظام كامل للحياة يحسب فيه لكل جزء من المجتمع حسابه وتعطى لكل فرد حريته التي هذبها ذلك الفهم والاحساس والتي تقوم الدولة بتحديدها في ظروف الشذوذ عنهما.. أقول: أن كل عقيدة لا تلد للإنسانية هذا النظام فهي لا تخرج عن كونها تلطيفاً للجو وتخفيفاً من الويلات وليست علاجاً محدوداً وقضاء حاسماً على أمراض المجتمع ومساوئه. وانما يشاد البناء الاجتماعي المتماسك على فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها ينبثق عنهما نظام يملأ الحياة بروح هذا الاحساس وجوهر ذلك الفهم.
وهذا هو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها: فهو عقيدة معنوية وخلقية، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية، يرسم لها شوطها الواضح المحدد، ويضع لها هدفاً، اعلى في ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه.
واما ان يقضي على الفهم المعنوي للحياة، ويجرد الإنسان عن احساسه الخلقي بها، وتعتبر المفاهيم الخلقية أوهاماً خالصة خلقتها المصالح المادية، والعامل الاقتصادي هو الخلاق لكل القيم والمعنويات وترجى بعد ذلك سعادة للإنسانية، واستقرار اجتماعي لها، فهذا الرجاء الذي لا يتحقق إلاّ اذا تبدل البشر
{97}
الى أجهزة ميكانيكية يقوم على تنظيمها عدة من المهندسين الفنيين.
وليست اقامة الإنسان على قاعدة ذلك الفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها عملاً شاقاً وعسيراً، فان الاديان في تاريخ البشرية قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار وليس لجميع ما يحفل به العالم اليوم من مفاهيم معنوية، وأحاسيس خلقية، ومشاعر وعواطف نبيلة.. تعليل أوضح واكثر منطقية من تعليل ركائزها واسسها بالجهود الجبارة التي قامت بها الاديان لتهذيب الإنسانية والدافع الطبيعي في الإنسان، وما ينبغي له من حياة وعمل.
وقد حمل الإسلام المشعل المتفجر بالنور، بعد ان بلغ البشر درجة خاصة من الوعي، فبشر بالقاعدة المعنوية والخلقية على أوسع نطاق وأبعد مدى، ورفع على أساسها راية انسانية وأقام دولة فكرية، أخذت بزمام العالم ربع قرن، واستهدفت الى توحيد البشر كله، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم اسلوب الحياة ونظامها. فالدولة الإسلامية لها وظيفتان: احداهما : تربية الإنسان على القاعدة الفكرية، وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطابعها. والاخرى: مراقبته من خارج وارجاعه الى القاعدة الفكرية اذا انحرف عنها عملياً.
ولذلك فليس الوعي السياسي للإسلام وعياً للناحية الشكلية
{98}
من الحياة الاجتماعية فحسب، بل هو وعي سياسي عميق مرده الى نظرة كلية كاملة نحو: الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والاخلاق، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلامي الكامل.
وكل وعي سياسي آخر فهو اما ان يكون وعياً سياسياً سطحياً لا ينظر الى العالم إلاّ من زاوية معينة، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصة.. أو يكون وعياً سياسياً يدرس العالم من زاوية المادة البحتة، التي تمون البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه.
-
{101}
مَوقفُ الإسِلام مِنَ الحُرية وَالضّمان
الحرية في الرأسمالية والإسلام:
عرفنا ـ فيما سبق ـ أن الحرية هي النقطة المركزية في التفكير الرأسمالي، كما أن فكرة الضمان هي المحور الرئيس في النظام الاشتراكي والشيوعي.
ولأجل ذلك سندرس ـ بصورة مقارنة ـ موقف الإسلام والرأسمالية من الحرية، ونقارن بعد ذلك بين الضمان في الإسلام والضمان في المذهب الماركسي.
ونحن حين نطلق كلمة (الحرية)، نقصد بها معناها العام وهو: نفي سيطرة الغير، فإن هذا المفهوم هو الذي نستطيع أن نجده في كل من الحضارتين، وان اختلف إطاره وقاعدته الفكرية في كل منهما (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ولاجل ذلك وردت كلمة «الحرية» بمفهومها العام في نصوص اسلامية أصيلة، لا يمكن أن تتهم بالتأثر بمفاهيم الحضارة الغربية. فقد جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام : « لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً». وورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام انه قال: «خمس خصال من لم يكن فيه شيء منها لم يكن فيه كثير مستمتع: أولها ـ الوفاء ـ والثانية ـ التدبير، والثالثة ـ الحياء، والرابعة ـ حسن الخلق، والخامسة ـ وهي تجمع هذه الخصال ـ (الحرية)»
{102}
ومنذ نبدأ بالمقارنة بين الحرية في الإسلام، والحرية في الديمقراطية الرأسمالية.. تبدو لدينا بوضوح الفروق الجوهرية بين الحرية التي عاشها المجتمع الرأسمالي ونادت بها الرأسمالية وبين الحرية التي حمل لواءها الإسلام وكفلها للمجتمع الذي صنعه وقدم فيه تجربته على مسرح التاريخ. فكل من الحريتين تحمل طابع الحضارة التي تنتمي اليها، وتلتقي مع مفاهيمها عن الكون والحياة، وتعبر عن الحالة العقلية والنفسية التي خلقها تلك الحضارة في التاريخ.
فالحرية في الحضارة الرأسمالية: بدأت شكاً مريراً طاغياً واستحال هذا الشك في امتداده الثوري الى إيمان مذهبي بالحرية وعلى العكس من ذلك الحرية في الحضارة الإسلامية: فانها تعبير عن يقين مركزي ثابت (الإيمان بالله) تستمد منه الحرية ثوريتها، وبقدر ارتكاز هذا اليقين وعمق مدلوله في حياة الإنسان، تتضاعف الطاقات الثورية في تلك الحرية.
والحرية الرأسمالية ذات مدلول ايجابي، فهي تعتبر: أن كل إنسان هو الذي يملك بحق نفسه، ويستطيع أن يتصرف فيها كما يحلو له، دون أن يخضع في ذلك لأي سلطة خارجية. ولأجل ذلك كانت جميع المؤسسات الإجتماعية ـ ذات النفوذ في حياة الإنسان ـ تستمد حقها المشروع في السيطرة على كل فرد من الأفراد أنفسهم. وأما الحرية في الإسلام فهي: تحتفظ
{103
بالجانب الثوري من الحرية وتعمل لتحرير الإنسان من سيطرة الأصنام، كل الأصنام التي رزحت الإنسانية في قيودها عبر التاريخ، ولكنها تقيم عملية التحرير الكبرى هذه على أساس الإيمان بالعبودية المخلصة لله، وحده. فعبودية الإنسان لله في الإسلام ـ بدلاً عن امتلاكه لنفسه في الرأسمالية ـ هي الأداة التي يحطم بها الإنسان كل سيطرة وكل عبودية اخرى لأن هذه العبودية في معناها الرفيع تشعره بأنه يقف وسائر القوى الأخرى التي يعايشها على صعيد واحد، أمام رب واحد فليس من حق أي قوة في الكون أن تتصرف في مصيره، وتتحكم في وجوده وحياته.
والحرية في مفاهيم الحضارة الرأسمالية حق طبيعي للإنسان وللإنسان أن يتنازل عن حقه متى شاء، وليست كذلك في مفهومها الإسلامي، لأن الحرية في الإسلام ترتبط إرتباطاً أساسياً بالعبودية لله، فلا يسمح الإسلام للإنسان أن يستذل ويستكين ويتنازل عن حريته «لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً». فالإنسان مسؤول عن حريته في الإسلام وليست الحرية حالة من حالات انعدام المسؤولية.
هذا هو الفرق بين الحريتين في ملامحهما العامة وسنبدأ الآن بشيء من التوضيح:
-
الحرية في الحضارة الرأسمالية:
نشأت الحرية في الحضارة الرأسمالية تحت ظلال الشك الجارف المرير، الذي سيطر على تيارات التفكير الاوروبي كافة نتيجة للثورات الفكرية التي تعاقبت في فجر تاريخ أوروبا الحديثة، وزلزلت دعائم العقلية الغربية كلها.
فقد بدأت أصنام التفكير الأوروبي تتهاوى الواحد تلو الآخر بسبب الفتوحات الثورية في دنيا العلم، التي طلعت على الإنسان الغربي بمفاهيم جديدة عن الكون والحياة، ونظريات تناقض كل المناقضة بدهياته بالأمس، التي كانت تشكل حجر الزاوية في كيانه الفكري وحياته العقلية والدينية.
وأخذ الإنسان الغربي عبر تلك الثورات الفكرية المتعاقبة ينظر الى الكون بمنظار جديد، والى التراث الفكري الذي خلفته له الإنسانية منذ فجر التاريخ نظرات شك وارتياب. لانه بدأ يحسن ان عالم (كوبرنيكوس) الذي برهن على ان الأرض ليست إلاّ أحد توابع الشمس، يختلف كل الاختلاف عن العالم التقليدي الذي كان يحدثنا عنه (بطليموس)، وان الطبيعة التي بدأت تكشف عن اسرارها لجاليليو وأمثاله من العلماء، شيء جديد بالنسبة الى الصورة التي ورثها عن القديسين والمفكرين
{105}
السابقين أمثال القديس توماس الاكويني ودانتي وغيرهما. وهكذا ألقى فجأة وبيد مرعوبة كل بدهياته بالأمس، وأخذ يحاول الخلاص من الاطار الذي عاش فيه آلاف السنين.
ولم يقف الشك في موجه الثوري الصاعد عند حد، بل اكتسح في ثورته كل القيم والمفاهيم التي تواضعت عليها الإنسانية وكانت تعتمد عليها في ضبط السلوك وتنظيم الصلات. فما دام الكون الجديد يناقض المفهوم القديم عن العالم، وما دام الإنسان ينظر الى واقعه ومحيطه من زاوية العلم لا الأساطير.. فلا بد ان يعاد النظر من جديد في المفهوم الديني، الذي يحدد صلة الإنسان والكون بما وراء الغيب، وبالتالي في كل الأهداف والمثل التي عاشها الإنسان، قبل أن تتبلور نظرته الجديدة الى نفسه وكونه.
وعلى هذا الأساس واجه دين الإنسان الغربي محنة الشك الحديث، وهو لا يرتكز إلاّ على رصيد عاطفي، بدأ ينضب بسبب من طغيان الكنيسة وجبروتها. فكان من الطبيعي ايضاً أن تذوب في أعقاب هذه الهزيمة كل القواعد الخلقية، والقيم والمثل التي كانت تحدد من سلوك الإنسان، وتخفف من غلوائه. لأن الأخلاق مرتبطة بالدين في حياة الإنسانية كلها، فإذا فقدت رصيدها الديني الذي يمدها بالقيمة الحقيقية، ويربطها بعالم الغيب وعالم الجزاء أصبحت خواء وضريبة لا مبرر لها.
{106}
والتاريخ يبرز هذه الحقيقة دائماً، فقد كفر السفسطائيون الاغريق بالآلهية على اساس من الشك السفسطي، فرفضوا القيود الخلقية وتمردوا عليها، واعاد الإنسان الغربي القصة من جديد، حين التهم الشك الحديث عقيدته الدينية، فثار على كل مقررات السلوك والاعتبارات الخلقية واصبحت هذه المقررات والسلوك مرتبطة في نظره بمرحلة غابرة من تاريخ الإنسانية. وانطلق الإنسان الغربي كما يحلو له يتصرف وفقاً لهواه، ويملأ رئتيه بالهواء الطلق الذي احتل الشك الحديث فيه موضع القيم والقواعد حين كانت تقيد الإنسان في سلوكه الداخلي وتصرفاته.
ومن هنا ولدت فكرة الحرية الفكرية والحرية الشخصية: فقد جاءت فكرة الحرية الفكرية نتيجة للشك الثوري والقلق العقلي، الذي عصف بكل المسلمات الفكرية، فلم تعد هناك حقائق عليا لا يباح انكارها ما دام الشك يمتد الى كل المجالات. وجاءت فكرة الحرية الشخصية تعبيراً عن النتائج السلبية التي انتهى اليها الشك الحديث في معركته الفكرية مع الايمان والاخلاق، فقد كان طبيعياً للإنسان الذي انتصر على ايمانه وأخلاقه ان يؤمن بحريته الشخصية، ويرفض أي قوة تحدد سلوكه وتملك ارادته.
بهذا التسلسل انتقل الإنسان الحديث من الشك، الى الحرية الفكرية، وبالتالي الى الحرية الشخصية.
{107}
وهنا جاء دور الحرية الاقتصادية، لتشكل حلقة جديدة من هذا التسلسل الحضاري: فان الإنسان الحديث بعد أن آمن بحريته الشخصية، وبدأ يضع أهدافه وقيمه على هذا الاساس وبعد ان كفر عملياً بالنظرة الدينية الى الحياة والكون وصلتها الروحية بالخالق وما ينتظر الإنسان من ثواب وعقاب.. عادت الحياة في نظره فرصة للظفر بأكبر نصيب ممكن من اللذة والمتعة المادية، التي لا يمكن أن تحصل إلاّ عن طريق المال.. وهكذا عاد المال المفتاح السحري والهدف، الذي يعمل لاجله الإنسان الحديث، الذي يتمتع بالحرية الكاملة في سلوكه. وكان ضرورياً لأجل ذلك ان توطد دعائم الحرية الاقتصادية، وتفتح كل المجالات بين يدي هذا الكائن الحر للعمل في سبيل هذا الهدف الجديد (المال) الذي أقامته الحضارة الغربية صنماً جديداً للإنسانية: وأصبحت كل تضحية يقدمها الإنسان في هذا المضمار عملاً شريفاً وقرباناً مقبولاً، وطغى الدافع الاقتصادي كلما ابتعد ركب الحضارة الحديثة، عن المقولات الروحية والفكرية التي رفضها في بداية الطريق، واستفحلت شهوة المال فأصبح سيد الموقف، واختفت مفاهيم الخير والفضيلة والدين، حتى خيل للماركسية في ازمة من أزمات الحضارة الغربية: ان الدافع الاقتصادي هو المحرك الذي يوجه تاريخ الانسان في كل العصور.
ولم يكن من الممكن ان تنفصل فكرة الحرية الاقتصادية
{108}
عن فكرة أخرى، وهي فكرة الحرية السياسية، لأن الشرط الضروري لممارسة النشاط الحر على المسرح الاقتصادي: ازاحة العقبات السياسية والتغلب على الصعاب التي تضعها السلطة الحاكمة أمامه وذلك بامتلاك اداة الحكم وتأميمها، ليطمئن الفرد إلى عدم وجود قوة تحول بينه وبين مكاسبه واهدافه التي يسعى اليها.
وبذلك اكتملت المعالم الرئيسية أو الحلقات الأساسية، التي الف الإنسان الغربي منها حضارته، وعمل مخلصاً لاقامة حياته على أساسها، وتبنى دعوة العالم اليها.
وعلى هذا الضوء نتبين الحرية في هذه الحضارة بملامحها التي ألمعنا اليها في مستهل هذا الفصل، فهي ظاهرة حضارية بدأت شكاً مراً قلقاً، وانتهت، إلى إيمان مذهبي بالحرية. وهي تعبير عن: ايمان الإنسان الغربي بسيطرته على نفسه وامتلاكه لارادته بعد أن رفض خضوعه لكل قوة. فلا تعني الحرية في الديمقراطية الرأسمالية: رفض سيطرة الآخرين فحسب، بل تعني اكثر من هذا سيطرة الإنسان على نفسه وانقطاع صلته عملياً بخالقه وآخرته.
***
وأما الإسلام فموقفه من الحرية يختلف بصورة أساسية عن
{109}
موقف الحضارة الغربية فهو يعني بالحرية بمدلولها السلبي أو بالأحرى معطاها الثوري الذي يحرر الإنسان من سيطرة الآخرين ويكسر القيود والأغلال التي تكبل يديه. ويعتبر تحقيق هذا المدلول السلبي للحرية هدفاً من الأهداف الكبرى للرسالة السماوية بالذات: «ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم»( الاعراف : 156 ). ولكنه لا يربط بين هذا وبين مدلولها الايجابي في مفاهيم الحضارة الغربية، لأنه لا يعتبر حق الإنسان في التحرر من سيطرة الآخرين والوقوف معهم على صعيد واحد نتيجة لسيطرة الإنسان على نفسه، وحقه في تقرير سلوكه ومنهجه في الحياة ـ الأمر الذي نطلق عليه : المدلول الايجابي للحرية في مفهوم الحضارة الغربية ـ وانما يربط بين الحرية والتحرر من كل الأصنام والقيود المصطنعة، وبين العبودية المخلصة لله. فالإنسان عبد الله قبل كل شيء، وهو بوصفه عبداً لله لا يمكن أن يقر سيطرة لسواه عليه، أو يخضع لعلاقة صنمية مهما كان لونها وشكلها، بل أنه يقف على صعيد العبودية المخلصة لله، مع المجموعة الكونية كلها على قدم المساواة.
فالقاعدة الأساسية للحرية في الإسلام هي: التوحيد والايمان بالعبودية المخلصة لله، الذي تتحطم بين يديه كل القوى الوثنية التي هدرت كرامة الإنسان على مر التاريخ.
«قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم:
{110}
ألا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله»( آل عمران: 64).
«أتعبدون ما تنحتون؟!، والله خلقكم وما تعملون»( الصافات: 95، 96).
«إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم»( الأعراف 192 ).
«أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟!»( يوسف: 39 ).
وهكذا يقيم الإسلام التحرر من كل العبوديات على أساس الاقرار بالعبودية المخلصة لله تعالى، ويجعل من علاقة الإنسان بربه الاساس المتين الثابت لتحرره في علاقاته مع سائر الناس ومع كل أشياء الكون الطبيعية.
فالإسلام والحضارة الغربية، وان مارسا معاً عملية تحرير الإنسان، ولكنهما يختلفان في القاعدة الفكرية التي يقوم عليها هذا التحرير. فالإسلام يقيمها على أساس العبودية لله والايمان به والحضارة الغربية تقيمها علىأساس الايمان بالإنسان وحده وسيطرته على نفسه، بعد ان شكت في كل القيم والحقائق وراء الابعاد المادية لوجود الإنسان.
ولاجل ذلك كان مرد فكرة الحرية في الإسلام الى عقيدة ايمانية موحدة بالله، ويقين ثابت بسيطرته على الكون. وكلما
{111}
تأصل هذا اليقين في نفس المسلم، وتركزت نظرته التوحيدية الى الله.. تسامت نفسه وتعمق احساسه بكرامته وحريته وتصلبت ارادته في وجه الطغيان والبغي واستعباد الآخرين: «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون»(الشورى: 39 ).
وعلى العكس من ذلك فكرة الحرية في الحضارة الغربية: فانها كانت وليدة الشك لا اليقين، ونتيجة القلق والثورة لا اليقين والاستقرار، كما عرفنا سابقاً.
***
ويمكننا ان نقسم الحريات الديمقراطية الرأسمالية للمقارنة بينها وبين الإسلام الى قسمين:
احدهما: الحرية في المجال الشخصي للإنسان، وهي: ما تطلق عليه الديمقراطية اسم: الحرية الشخصية.
والآخر: الحرية في المجال الاجتماعي، وهي تشمل الحريات: الفكرية والسياسية والاقتصادية.
فان الحرية الشخصية تعالج سلوك الإنسان بوصفه فرداً سواء كان يعيش بصورة مستقلة او جزءاً من مجتمع. واما الحريات الثلاث الاخرى فهي تعالج الإنسان بوصفه فرداً يعيش في ضمن جماعة، فتسمح له بالاعلان عن افكاره للآخرين كما يحلو له، وتمنحه الحق في تقرير نوع السلطة الحاكمة، وتفتح أمامه السبيل لمختلف الوان النشاط الاقتصادي تبعاً لقدرته وهواه.
-
الحرية في المجال الشخصي:
حرصت الحضارة الغربية الحديثة على: توفير اكبر نصيب ممكن من الحرية لكل فرد في سلوكه الخاص، وهو القدر الذي لا يتعارض مع حريات الآخرين، فلا تنتهي حرية كل فرد إلاّ حيث تبدأ حريات الأفراد الآخرين.
وليس من المهم لديها ـ بعد توفير هذه الحرية لجميع الأفراد ـ طريقة استعمالهم لها، والنتائج التي تتمخض عنها، وردود الفعل النفسية والفكرية لها.. ما دام كل فرد حراً في تصرفاته وسلوكه، وقادراً على تنفيذ ارادته في مجالاته الخاصة. فالمخمور مثلاً لا حرج عليه ان يشرب ما شاء من الخمر، ويضحي بآخر ذرة من وعيه وادراكه، لأن من حقه ان يتمتع بهذه الحرية في سلوكه الخاص، ما لم يعترض هذا المخمور طريق الآخرين، أو يصبح خطراً على حياتهم بوجه من الوجوه.
وقد سكرت الإنسانية على انغام هذه الحرية، وأغفت في ظلالها برهة من الزمن، وهي تشعر لاول مرة أنها حطمت كل القيود وان هذا العملاق المكبوت في أعماقها آلاف السنين قد انطلق لأول مرة، وأتيح له ان يعمل كما يشاء في النور، دون خوف او قلق.
{113}
ولكن لم يدم هذا الحلم اللذيذ طويلاً، فقد بدأت الإنسانية تستيقظ ببطء، وتدرك بصورة تدريجية، ولكنها مرعبة: ان هذه الحرية ربطتها بقيود هائلة، وقضت على آمالها في الانطلاق الإنساني الحر، لانها وجدت نفسها مدفوعة في عربة تسير باتجاه محدد، لا تملك له تغييراً ولا تطويراً، وانما كل سلوتها وعزائها ـ وهي تطالع مصيرها في طريقها المحدد ـ: ان هناك من قال لها: ان هذه العربة هي عربة الحرية.. بالرغم من هذه الاغلال وهذه القيود التي وضعت في يديها.
اما كيف عادت الحرية قيداً؟!، وكيف أدى الانطلاق الى تلك الاغلال، التي تجر العربة في اتجاه محتوم، وأفاقت الإنسانية على هذا الواقع المر في نهاية المطاف؟!. فهذا كله ما قدره الإسلام قبل اربعة عشر قرناً، حين لم يكتف بتوفير هذا المعنى السطحي من الحرية للإنسان، الذي مني بكل هذه التناقضات في التجربة الحياتية الحديثة للإنسان الغربي.. وانما ذهب الى أبعد حد من ذلك، وجاء بمفهوم أعمق للحرية، واعلنها ثورة، لا على الاغلال والقيود بشكلها الظاهري فحسب بل على جذورها النفسية والفكرية وبهذا كفل للإنسان أرقى وأنزه اشكال الحرية التي ذاقها الناس على مر التاريخ.
ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والاغلال، كما سنوضح.. فان
{114}
الحرية الرحيبة في الإسلام على العكس، لأنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى. لتنتهي الى التحرر من كل أشكال العبودية المهينة.
يبدأ الإسلام عمليته في تحرير الإنسانية من المحتوى الداخلي للإنسان نفسه، لأنه يرى أن منح الإنسان الحرية ليس أن يقال له: هذا هو الطريق قد أخليناه لك فسر بسلام.. وإنما يصبح الإنسان حراً حقيقة، حين يستطيع أن يتحكم في طريقه ويحتفظ لإنسانيته بالرأي في تحديد الطريق ورسم معالمه واتجاهاته. وهذا يتوقف على تحرير الإنسان قبل كل شيء من عبودية الشهوات التي تعتلج في نفسه، لتصبح الشهوات أداة تنبيه للإنسان الى ما يشتهيه، لا قوة دافعة تسخر ارادة الإنسان دون ان يملك بازائها حولا أو طولاً، لأنها إذا أصبحت كذلك خسر الإنسان حريته منذ بداية الطريق. ولا يغير من الواقع شيئاً أن تكون يداه طليقتين، ما دام عقله وكل معانيه الإنسانية التي تميزه عن مملكة الحيوان معتقلة ومجمدة عن العمل. ونحن نعلم أن الشيء الأساسي الذي يميز حرية الإنسان عن حرية الحيوان بشكل عام، أنهما وان كانا يتصرفان بإرادتهما. غير أن إرداة الحيوان مسخرة دائماً لشهواته وإيحاءاتها الغريزية، وأما الإنسان فقد زود بالقدرة التي تمكنه من السيطرة على شهواته وتحكيم منطقه العقلي فيها. فسر حريته ـ بوصفه إنساناً إذن ـ
{115}
يكمن في هذه القدرة. فنحن إذا جمدناها فيه واكتفينا بمنحه الحرية الظاهرية في سلوكه العلمي ووفرنا له بذلك كل إمكانات ومغريات الإستجابة لشهواته، كما صنعت الحضارات الغربية الحديثة.. فقد قضينا بالتدريج على حريته الإنسانية، في مقابل شهوات الحيوان الكامن في أعماقه، وجعلنا منه أداة تنفيذ لتلك الشهوات، حتى اذا التفت الى نفسه في أثناء الطريق وجد نفسه محكوماً لا حاكماً، ومغلوباً على أمره وإرادته.
وعلى العكس من ذلك: اذا بدأنا بتلك القدرة التي يكمن فيها سر الحرية الإنسانية. فأنميناها وغذيناها وأنشأنا الإنسان إنشاء إنسانياً لا حيوانياً، وجعلناه يعي أن رسالته في الحياة أرفع من هذا المصير الحيواني المبتذل، الذي تسوقه اليه تلك الشهوات وأن مثله الأعلى الذي خلق للسعي في سبيله أسمى من هذه الغايات التافهة والمكاسب الرخيصة، التي يحصل عليها في لذاذاته.. أقول: اذا صنعنا ذلك كله حتى جعلنا الإنسان يتحرر من عبودية شهواته، وينعتق من سلطانها الآسر، ويمتلك ارادته.. فسوف يخلق الإنسان الحر القادر على أن يقول لا أو نعم، دون أن تكمم فاه أو تغل يديه هذه الشهوة الموقوتة او تلك اللذة المبتذلة.
وهذا ما صنعه القرآن حين وضع للفرد المسلم طابعه الروحي الخاص، وطور من مقاييسه ومثله، وانتزعه من الأرض وأهدافها
{116}
المحدودة، إلى آفاق أرحب وأهداف أسمى:
«زين للناس حب الشهوات: من النساء، والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام، والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟: للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأزواج مطهرة ورضوان من الله. والله بصير بالعباد»( آل عمران 14، 15).
هذه هي معركة التحرير في المحتوى الداخلي للإنسان، وهي في نفس الوقت الأساس الأول والرئيس لتحرير الإنسانية في نظر الإسلام، وبدونها تصبح كل حرية زيفاً وخداعاً، وبالتالي أسراً وقيداً.
ونحن نجد في هذا الضوء القرآني: ان الطريقة التي استعان بها القرآن على انتشال الإنسانية من ربقة الشهوات وعبوديات اللذة.. هي الطريقة العامة التي يستعملها الإسلام دائماً في تربية الإنسانية في كل المجالات: طريقة التوحيد. فالإسلام حين يحرر الإنسان من عبودية الارض ولذائذها الخاطفة، يربطه بالسماء وجنانها ومثلها ورضوان من الله، لان التوحيد عند الإسلام هو سند الإنسانية في تحررها الداخلي من كل العبوديات كما انه سند التحرر الإنساني في كل المجالات.
ويكفينا مثل واحد ـ مر بنا في فصل سابق ـ لنعرف
{117}
النتائج الباهرة التي تمخض عنها هذا التحرير، ومدى الفرق بين حرية الإنسان القرآني الحقيقية، وتلك الحريات المصطنعة التي تزعمها شعوب الحضارات الغربية الحديثة. فقد استطاعت الامة التي حررها القرآن ـ حين دعاها في كلمة واحدة الى اجتناب الخمر ـ ان تقول لا، وتمحو الخمر من قاموس حياتها بعد ان كان جزءاً من كيانها وضرورة من ضروراتها، لأنها كانت مالكة لاراداتها، حرة في مقابل شهواتها ودوافعها الحيوانية. وبكلمة مختصرة: كانت تتمتع بحرية حقيقية تسمح لها بالتحكم في سلوكها.
واما تلك الامة التي أنشأتها الحضارة الحديثة، ومنحتها الحرية الشخصية بطريقتها الخاصة.. فهي بالرغم من هذا القناع الظاهري للحرية، لا تملك شيئاً من ارادتها ولا تستطيع ان تتحكم في وجودها، لانها لم تحرر المحتوى الداخلي لها.. وانما استسلمت الى شهواتها ولذاذاتها تحت ستار من الحرية الشخصية حتى فقدت حريتها ازاء تلك الشهوات واللذاذات، فلم تستطع اكبر حملة للدعاية ضد الخمر جندتها حكومة الولايات المتحدة الامريكية ان تحرر الامة الامريكية من الخمر، بالرغم من الطاقات المادية والمعنوية الهائلة التي جندتها السلطة الحاكمة ومختلف المؤسسات الاجتماعية في هذا السبيل. وليس هذا الفشل المريع إلاّ نتيجة فقدان الإنسان الغربي للحرية الحقيقية
{118}
فهو لا يستطيع ان يقول: لا، كلما اقتنع عقلياً بذلك كالإنسان القرآني وانما يقول الكلمة حين تفرض عليه شهوته أن يقولها. ولهذا لم يستطع ان يعتق نفسه من أسر الخمر، لانه لم يكن قد ظفر في ظل الحضارة الغربية بتحرير حقيقي في محتواه الروحي والفكري (1).
وهذا التحرير الداخلي او البناء الداخلي لكيان الإنسان هو في رأي الإسلام حجر الزاوية في عملية اقامة المجتمع الحر السعيد. فما لم يملك الإنسان ارادته، ويسيطر على موقفه الداخلي ويحتفظ لإنسانيته المهذبة بالكلمة العليا في تقرير سلوكه لا يستطيع أن يحرر نفسه في المجال الاجتماعي تحريراً حقيقياً يصمد في وجه الاغراء، ولا أن يخوض معركة التحرير الخارجي بجدارة وبسالة: «ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»( الرعد: 11 ). « واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا»( الاسراء: 16 ).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ مقالنا: الحرية في القرآن. الاضواء ع 1 س 2.
-
الحرية في المجال الاجتماعي:
كما يخوض الإسلام معركة التحرير الداخلي للإنسانية، كذلك
{119}
يخوض معركة اخرى لتحرير الإنسان في النطاق الاجتماعي فهو يحطم في المحتوى الداخلي للإنسان أصنام الشهوة التي تسلبه حريته الإنسانية، ويحطم في نطاق العلاقات المتبادلة بين الأفراد الأصنام الاجتماعية، ويحرر الإنسان من عبوديتها، ويقضي على عبادة الإنسان للإنسان: «قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله». فعبودية الإنسان لله تجعل الناس كلهم يقفون على صعيد واحد بين يدي المعبود الخالق: فلا توجد أمة لها الحق في استعمار أمة اخرى واستعبادها ولا فئة من المجتمع يباح لها اغتصاب فئة اخرى ولا انتهاك حريتها، ولا انسان يحق له ان ينصب نفسه صنماً للآخرين.
ومرة أخرى نجد أن المعركة القرآنية الثانية من معارك التحرير قد استعين فيها بنفس الطريقة التي استعملت في المعركة الأولى: ( معركة الإنسانية داخلياً من الشهوات )، وتستعمل دائماً في كل ملاحم الإسلام.. وهي: التوحيد. فما دام الإنسان يقر بالعبودية لله وحده، فهو يرفض بطبيعة الحال كل صنم وكل تأليه مزور لأي إنسان وكائن، ويرفع رأسه حراً أبياً ولا يستشعر ذل العبودية والهوان أمام أي قوة من قوى الارض او صنم من أصنامها. لان ظاهرة الصنمية في حياة الإنسان نشأت عن سببين: احدهما: عبوديته للشهوة التي تجعله يتنازل
{120}
عن حريته الى الصنم الإنساني، الذي يقدر على إشباع تلك الشهوة وضمانها له. والآخر: جهله بما وراء تلك الأقنعة الصنمية المتألهة من نقاط الضعف والعجز. والإسلام حرر الإنسان من عبودية الشهوة كما عرفنا آنفاً، وزيف تلك الأقنعة الصنمية الخادعة: «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم» فكان طبيعياً أن ينتصر على الصنمية، ويمحو من عقول المسلمين عبودية الأصنام بمختلف أشكالها والوانها.
وعلى ضوء الأسس التي يقوم عليها تحرير الإنسان من عبوديات الشهوة في النطاق الشخصي، وتحريره من عبودية الأصنام في النطاق الاجتماعي، سواء كان الصنم امة، ام فئة أم فرداً.. نستطيع ان نعرف مجال السلوك العملي للفرد في الإسلام، فان الإسلام يختلف عن الحضارات الغربية الحديثة التي لا تضع لهذه الحرية العملية للفرد حداً إلاّ حريات الأفراد الآخرين، لان الإسلام يهتم؛ قبل كل شيء ـ كما عرفنا ـ بتحرير الفرد من عبودية الشهوات والأصنام، ويسمح له بالتصرف كما يشاء علي ان لا يخرج عن حدود الله. فالقرآن يقول: «خلق لكم ما في الأرض جميعاً»(البقرة: 39)«وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه»(الجاثية: 13 )وبذلك يضع الكون بأسره تحت تصرف الإنسان وحريته ولكنها حرية محدودة بالحدود التي تجعلها تتفق مع تحرره الداخلي من
{121}
عبودية الشهوة وتحرره الخارجي من عبودية الأصنام. واما الحرية العملية في عبادة الشهوة والالتصاق بالأرض ومعانيها، والتخلي عن الحرية الإنسانية بمعناها الحقيقي.. واما الحرية العملية في السكوت عن الظلم والتنازل عن الحق، وعبادة الأصنام البشرية والتقرب اليها، والانسياق وراء مصالحها، والتخلي عن الرسالة الحقيقية الكبرى للإنسان في الحياة.. فهذا ما لا يأذن به الإسلام لانه تحطيم لاعمق معاني الحرية في الإنسان، ولان الإسلام لا يفهم من الحرية ايجاد منطلق للمعاني الحيوانية في الإنسان، وانما يفهمها بوصفها جزءاً من برنامج فكري وروحي كامل، يجب ان تقوم على أساسه الإنسانية.
***
ونحن حين نبرز هذا الوجه التحريري الثوري للإسلام في النطاق الاجتماعي.. لا نعني بذلك انه على وفاق مع الحريات الاجتماعية الديمقراطية في اطارها الغربي الخاص. فان الإسلام كما يختلف عن الحضارة الغربية في مفهومه عن الحرية الشخصية ـ كما عرفنا قبل لحظة ـ كذلك يختلف عنها في مفهومه عن الحرية السياسية والاقتصادية والفكرية.
فالمدلول الغربي للحرية السياسية: يعبر عن الفكرة الأساسية في الحضارة الغربية القائلة: ان الإنسان يملك نفسه، وليس
{122}
لأحد التحكم فيه. فان الحرية السياسية كانت نتيجة لتطبيق تلك الفكرة الأساسية على الحقل السياسي، فما دام شكل الحياة الاجتماعية ولونها وقوانينها يمس جميع أفراد المجتمع مباشرة فلابد للجميع ان يشتركوا في عملية البناء الاجتماعي بالشكل الذي يحلو لهم، وليس لفرد ان يفرض على آخر ما لا يرتضيه، ويخضعه بالقوة لنظام لا يقبله.
وتبدأ الحرية السياسية تتناقض مع الفكرة الأساسية منذ تواجه واقع الحياة، لأن من طبيعة المجتمع ان تتعدد فيه وجهات النظر وتختلف، والاخذ بوجهة نظر البعض يعني سلب الآخرين حقهم في امتلاك ارادتهم والسيطرة على مصيرهم. ومن هنا جاء مبدأ الأخذ برأي الأكثرية، بوصفه توفيقاً بين الفكرة الأساسية والحرية السياسية. ولكنه توفيق ناقص: لأن الاقلية تتمتع بحقها في الحرية وامتلاك ارادتها كالأكثرية تماماً، ومبدأ الأكثرية يحرمها من استعمال هذا الحق فلا يعدو مبدأ الاكثرية ان يكون نظاماً تستبد فيه فئة بمقدرات فئة اخرى، مع فارق كمي بين الفئتين.
ولا ننكر ان مبدأ الأكثرية قد يكون بنفسه من المبادئ التي يتفق عليها الجميع، فتحرص الاقلية على تنفيذ رأي الاكثرية باعتباره الرأي الأكثر أنصارا، وان كانت في نفس الوقت تؤمن بوجهة رأي اخرى، وتعمل لكسب الاكثرية الى
{123}
جانبه. ولكن هذا فرض لا يمكن الاعتراف بصحته في كل المجتمعات، فهناك توجد كثيراً الأقليات التي لا ترضى عن رأيها بديلاً، ولو تعارض ذلك مع رأي الأكثرية.
ونستخلص من ذلك: ان الفكرة الأساسية في الحضارة الغربية لا تأخذ مجراها في الحقل السياسي، حتى تبدأ تتناقض وتصطدم بالواقع، وتتجه الى لون من الوان الاستبداد والفردية في الحكم، يتمثل على افضل تقدير في حكم الأكثرية للاقلية.
والإسلام لا يؤمن بهذه الفكرة الاساسية في الحضارة الغربية لانه يقوم على العقيدة بعبودية الإنسان لله، وان الله وحده هو رب الإنسان ومربيه، وصاحب الحق في تنظيم منهاج حياته «أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ان الحكم إلاّ الله أمر ألا تعبدوا إلاّ إياه»( يوسف: 39، 40 )وينعى على الافراد الذين يسلمون زمام قيادهم للآخرين، ويمنحونهم حق الامامة في الحياة والتربية والربوبية: « اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله»( التوبة: 31 ). فليس لفرد ولا لجموع أن يستأثر من دون الله بالحكم، وتوجيه الحياة الاجتماعية ووضع مناهجها ودساتيرها.
وفي هذا الضوء نعرف ان تحرير الإسلام للإنسان في المجال السياسي، انما يقوم على اساس الايمان بمساواة أفراد المجتمع في تحمل أعباء الأمانة الالهية، وتضامنهم في تطبيق احكام الله
{124}
تعالى: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». فالمساواة السياسية في الإسلام تتخذ شكلاً يختلف عن شكلها الغربي، فهي مساواة في تحمل الامانة وليست مساواة في الحكم.
ومن نتائج هذه المساواة تحرير الإنسان في الحقل السياسي من سيطرة الآخرين، والقضاء على الوان الاستغلال السياسي واشكال الحكم الفردي والطبقي.
ولذلك نجد ان القرآن الكريم شجب حكم فرعون والمجتمع الذي كان يحكمه، لأنه يمثل سيطرة الفرد في الحكم وسيطرة طبقة على سائر الطبقات: « ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم»(القصص: 4 )فكل تركيب سياسي يسمح لفرد او لطبقة باستضعاف الافراد او الطبقات الاخرى والتحكم فيها.. لا يقره الإسلام، لأنه ينافي المساواة بين أفراد المجتمع في تحمل الامانة، على صعيد العبودية المخلصة لله تعالى.
***
واما الحرية الاقتصادية فهي بمفهومها الرأسمالي حرية شكلية تتلخص في: فسح المجال امام كل فرد ليتصرف في الحقل الاقتصادي كما يريد، دون ان يجد من الجهاز الحاكم أي لون من ألوان الاكراه والتدخل. ولا يهم الرأسمالية بعد ان تسمح للفرد بالتصرف كما يريد. ان تخمن له شيئاً مما يريد، وبتعبير آخر
{125}
لا يهمها ان تتيح له ان يريد... شيئاً. لهذا نجد ان الحرية الاقتصادية في مفهومها الرأسمالي خاوية، لا تحمل معنى بالنسبة الى من لم تسمح له الفرص بالعيش، ولم تهيئ له ظروف التنافس والسباق الاقتصادي مجالاً للعمل والانتاج. وهكذا تعود الحرية الرأسمالية شكلاً ظاهرياً فحسب، لا تحقق لهؤلاء شيئاً من معناها إلاّ بقدر الحرية التي تمنحها للافراد الذين يعجزون عن السباحة اذ قلنا لهم: انتم احرار فاسبحوا كما يحلو لكم، اينما تريدون. ولو كنا نريد حقاً ان نوفر لهؤلاء حرية السباحة ونعطيهم فرصة التمتع بهذه الرياضة كما يتمتع القادرون على السباحة.. لكفلنا لهم حياتهم خلالها، وطلبنا من الماهرين فيها الحفاظ عليهم ومراقبتهم وعدم الابتعاد عنهم في مجال السباحة، لئلا يغرقوا، فنكون بذلك قد وفرنا الحرية الحقيقية والقدرة على السباحة للجميع، وان حددنا شيئاً من نشاط الماهرين لضمان حياة الآخرين.
وهذا تماماً ما فعله الإسلام في الحقل الاقتصادي: فنادى بالحرية الاقتصادية وبالضمان معاً، ومزج بينهما في تصميم موحد فالكل أحرار في المجال الاقتصادي، ولكن في حدود خاصة. فليس الفرد حراً حين يتطلب ضمان الافراد الآخرين والحفاظ على الرفاه العام.. التنازل عن شيء من حريته.
وهكذا تآلفت فكرتا الحرية والضمان في الإسلام (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاجل التوسع لاحظ دراستنا للحرية الرأسمالية في كتاب اقتصادنا: ص 247 ـ 269.
{126}
واما الحرية الفكرية فهي تعني في الحضارة الغربية: السماح لأي فرد ان يفكر ويعلن افكاره ويدعو اليها كما يشاء، على ان لا يمس فكرة الحرية والأسس التي ترتكز عليها بالذات ولهذا تسعى المجتمعات الديمقراطية الى مناوأة الأفكار الفاشستية والتحديد من حريتها او القضاء عليها بالذات، لان هذه الافكار تحارب نفس الافكار الأساسية والقاعدة الفكرية، التي تقوم عليها فكرة الحرية والاسس الديمقراطية.
والإسلام يختلف عن الديمقراطية الرأسمالية في هذا الموقف نتيجة لاختلافه عنها في طبيعة القاعدة الفكرية التي يتبناها وهي: التوحيد وربط الكون برب واحد. فهو يسمح للفكر الإنساني ان ينطلق ويعلن عن نفسه، مالم يتمرد على قاعدته الفكرية التي هي الاساس الحقيقي لتوفير الحرية للإنسان في نظر الإسلام، ومنحه شخصيته الحرة الكريمة التي لا تذوب امام الشهوات، ولا تركع بين يدي الاصنام. فكل من الحضارة الغربية والإسلام يسمح بالحرية الفكرية بالدرجة التي لا ينجم عنها خطر على القاعدة الاساسية، وبالتالي على الحرية نفسها.
ومن المعطيات الثورية للحرية الفكرية في الإسلام: الحرب التي شنها على التقليد وجمود الفكر، والاستسلام العقلي للاساطير أو لآراء الآخرين، دون وعي وتمحيص. والهدف الذي يرمي اليه الإسلام من ذلك: تكوين العقل الاستدلالي او البرهاني
{127}
عند الإنسان، فلا يكفي لتكوين التفكير الحر لدى الإنسان ان يقال له: فكر كما يحلوا لك، كما صنعت الحضارة الغربية لان هذا التوسع في الحرية سوف يكون على حسابها، ويؤدي في كثير من الاحايين الى ألوان من العبودية الفكرية تتمثل في التقليد والتعصب وتقديس الخرافات، بل لا بد في رأي الإسلام لانشاء الفكر الحر أن ينشئ في الإنسان العقل الاستدلالي او البرهاني الذي لا يتقبل فكرة دون تمحيص ولا يؤمن بعقيدة مالم تحصل على برهان ليكون هذا العقل الواعي ضماناً للحرية الفكرية وعاصماً للإنسان من التفريط بها، بدافع من تقليد او تعصب أو خرافة. وفي الواقع ان هذا جزء من معركة الإسلام لتحرير المحتوى الداخلي للإنسان فهو كما حرر الارادة الإنسانية من عبودية الشهوات كما عرفنا سابقاً، كذلك حرر الوعي الإنساني من عبودية التقليد والتعصب والخرافة. وبهذا وذاك فقط اصبح الإنسان حراً في تفكيره وحراً في إرادته.
«.. فبشر عبادِ * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.»(الزمر: 17 ـ 18 ). «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون»(النحل: 44 ). «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أولو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون»(البقرة: 170 ). «تلك أمانيهم
{128}
قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»(البقرة: 111 ).
-
الضمان في الإسلام والماركسية:
يختلف الضمان في الإسلام عن الضمان الاشتراكي القائم على الاسس الماركسية في ملامح عديدة، مردها الى اختلاف الضمانين في الاسس والاطارات والاهداف.
ولا يمكننا في هذا المجال إلاّ استعراض بعض جوانب الاختلاف اكتفاءاً بدراستنا الموسعة لذلك في كتاب «اقتصادنا».
1 ـ الضمان الاجتماعي في الإسلام: حق من حقوق الإنسان التي فرضها الله تعالى، وهو بوصفه حقاً انسانياً لا يتفاوت باختلاف الظروف والمستويات المدنية. واما الضمان لدى الماركسية فهو حق الآلة، وليس حقاً انسانياً. فالآلة: (وسائل الانتاج) متى وصلت الى درجة معينة، يصبح الضمان الاشتراكي شرطاً ضرورياً في نموها واطراد انتاجها، فما لم تبلغ وسائل الانتاج هذه المرحلة، لا معنى لفكرة الضمان. ولأجل ذلك تعتبر الماركسية الضمان خاصاً بمجتمعات معينة في دورة محددة من التاريخ.
2 ـ مفهوم الإسلام عن تطبيق الضمان الاجتماعي: انه نتيجة للتعاطف الأخوي الذي يسود أفراد المجتمع الاسلامي. فالاخوة الإسلامية هي الاطار الذي تؤدى فريضة الضمان ضمنه. وقد جاء في
{129}
الحديث: «المسلم أخ المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرمه» فيحق على المسلمين الإجتهاد والتواصل والتعاون والمواساة لأهل الحاجة.
واما الماركسية فهي: ترى ان ايجاد الضمان الاشتراكي ليس إلاّ ثمرة لصراع هائل مرير، يجب إيقاده وتعميقه، حتى اذا قامت المعركة الطبقية وأفنيت إحدى الطبقتين وتم الإنتصار للطبقة الاخرى.. ساد الضمان الإشتراكي المجتمع. فالضمان عند الماركسية ليس تعبيراً عن وحدة مرصوصة واخوة شاملة، وإنما يرتكز على تناقض مستقطب وصراع مدمر.
3 ـ ان الضمان في الإسلام ـ بوصفه حقاً إنسانياً ـ لا يختص بفئة دون فئة. فهو يشمل حتى أولئك الذين يعجزون عن المساهمة في الانتاج العام بشيء، فهم مكفولون في المجتمع الإسلامي ويجب على الدولة توفير وسائل الحياة لهم. واما الضمان الماركسي فهو يستمد وجوده من الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية، الذي يكلل بظفر الطبقة العاملة وتضامنها واشتراكها في تلك الثورة. لأجل ذلك لا يوجد مبرر ماركسي لضمان حياة اولئك العاجزين الذين يعيشون بعيدين عن الصراع الطبقي، ولا يساهمون في الإنتاج العام لأنهم لم يشتركوا في المعركة لعدم انتمائهم الى الطبقة العاملة ولا
{130}
الى الطبقة الرأسمالية، فليس لهم حق في مكاسب المعركة وغنائمها.
4 ـ ان الضمان في الماركسية من وظيفة الدولة وحدها، واما في الإسلام فهو من وظيفة الافراد والدولة معاً، وبذلك وضع الإسلام المبدأين: أحدهما: مبدأ التكافل العام، والآخر: مبدأ الضمان الاجتماعي.
فمبدأ التكافل يعني: أن كل فرد مسلم مسؤول عن ضمان معيشة الآخرين وحياتهم في حدود معينة، وفقاً لقدرته، وهذا المبدأ يجب على المسلمين تطبيقه حتى في الحالات التي يفقدون فيها الدولة التي تطبق أحكام الشرع. فقد جاء في الحديث: «أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج اليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره.. أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه مزرقة عيناه، مغلولة يداه الى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ثمّ يؤمر به الى النار».
ومبدأ الضمان الاجتماعي يقرر مسؤولية الدولة في هذا المجال، ويحتم عليها ضمان مستوى من العيش المرفه الكريم للجميع، من موارد ملكية الدولة والملكية العامة وموارد الميزانية (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاجل التفصيل راجع اقتصادنا ( المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام وحلولها) ص: 328.
{131}
وقد جاء في الحديث لاستعراض هذا المبدأ: « إنّ الوالي يأخذ المال فيوجهه الوجه الذي وجهه الله له على ثمانية أسهم: للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة، وفي الرقاب والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل. ثمانية اسهم يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق ولا تقية، فان فضل من ذلك شيء رد الى الوالي، وان نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به، كان على الوالي ان يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنون».
النجف الاشرف
محمد باقر الصدر
-
ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي:
بسِم اللّهِ الرحمَنِ الرّحيم
منذ مدة، وأنا أواجه طلباً متزيداً على المدرسة الإسلامية والحاحاً من القراء الاعزاء على اصدار حلقات جديدة منها.
وكنت أتماهل في تلبية هذا الطلب، رغبة في انجاز الكتاب الثاني من اقتصادنا، والتوفر على اكماله، وكان صدور هذا الكتاب سبباً جديداً لازدياد الطلب على اصدار حلقات صغيرة تتناول بحوثه بالتوضيح والتبسيط بقدر الإمكان، لكي تكون متيسرة ومفهومة لعدد أكبر.
وعلى هذا الاساس كتبت هذه الحلقة، متوخياً فيها التبسيط ومتجنباً ذلك المستوى الذي التزمته من الدقة والتعمق في بحوث اقتصادنا. فقد آثرت في عدة مواضع توضيح الفكرة، على اعطائها صيغتها الدقيقة التي حصلت عليه في كتبنا الموسعة.
وسوف أحاول هنا، وأنا أعرّف هذه الحلقة للقراء، ان ألخص لهم أفكارها، وأفهرس بحوثها، ليساعدهم ذلك على فهمها ومتابعة فصولها.
{138}
ان هذه الحلقة تشتمل على اثارة سؤال واحد ومحاولة الاجابة عليه.
والسؤال هو: هل يوجد في الإسلام مذهب اقتصادي؟
ونجيب في هذه الحلقة، على هذا السؤال بالإيجاب، نعم يوجد في الإسلام مذهب اقتصادي.
ونسير من السؤال الى الجواب، بتدرج، فبعد أن نطرح السؤال نشغل بايضاحه، وتوضيح ما يتصل به. ثمّ ندرس الجواب، في ضوء مفهومنا عن الإسلام. وندعم الجواب بالشواهد ونناقش ما يثار عادة من اعتراضات.
توضيح السؤال:
نقصد بالمذهب الإقتصادي، ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، وفقاً للعدالة. فنحن حين نتساءل عن المذهب الإقتصادي في الإسلام، نريد ان نعرف هل جاء الإسلام بطريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، كما جاءت الرأسمالية مثلاً، بمبدأ الحرية الإقتصادية، واتخذت منه طريقتها العامة، في تنظيم الحياة الإقتصادية.
حاجتنا الى هذا السؤال:
وحاجتنا الى هذا السؤال، نابعة من اسباب عديدة، قد يكون من أهمها سلبية الإسلام تجاه الرأسمالية والماركسية ـ
{139}
النظامين الحاكمين في العالم اليوم ـ. فان رفض الإسلام لهما يجعل الإنسان المسلم ينتظر من الإسلام الاتيان بطريقة أخرى في تنظيم الحياة الاقتصادية، لان المجتمع الإسلامي لا يستغني عن طريقة في التنظيم، مهما كان شكلها.
الخطأ في فهم السؤال:
وبعد أن نطرح السؤال، ونوضحه، ونشرح أهميته نستعرض الخطأ الذي قد يقع فيه بعض الناس في فهم السؤال اذ لا يميزون بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد في الإسلام مع اننا نريد المذهب الاقتصادي لا علم الاقتصاد.
تصحيح الخطأ بالتمييز بين المذهب والعلم:
ولأجل تصحيح هذا الخطأ في فهم السؤال، توسعنا في توضيح الفرق بين المذهب الاقتصادي، وعلم الاقتصاد. والحقيقة ان الفرق بينهما كبير، فان المذهب الاقتصادي، كما عرفنا يتكفل ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية، وفقاً للعدالة وأما علم الاقتصاد، فهو لا يوجد طريقة للتنظيم، وانما يأخذ طريقة من الطرق المتبعة في المجتمعات، فيدرس نتائجها وآثارها كما يدرس العالم الطبيعي نتائج الحرارة وآثارها.
مثال على الفرق بين المذهب والعلم:
وقد استعملنا الامثلة العديدة، لتوضيح الفرق بين المذهب الاقتصادي، وعلم الاقتصاد. فالمذهب الرأسمالي مثلاً ينظم الحياة الإقتصادية، على أساس مبدأ الحرية الإقتصادية، ولذلك فهو ينظم السوق، على أساس حرية البائعين في تعيين أثمان السلع. وعلم الإقتصاد لا يحاول الاتيان بطريقة أخرى، لتنظيم السوق وانما مهمته أن يدرس وضع السوق في ظل الطريقة الرأسمالية، ويبحث عن حركة الثمن، وكيف يتحدد، ويرتفع وينخفض، في السوق الحرة، التي نظمت بالطريقة الرأسمالية.
فالمذهب يوجد طريقة للتنظيم، وفقاً لتصوره للعدالة، والعلم يدرس نتائج هذه الطريقة، حين تطبق على المجتمع.
التأكيد على ان الاقتصاد الإسلامي مذهب:
وبعد أن سردنا الأمثلة العديدة، لتوضيح الفرق بين المذهب والعلم، أكدنا على أن المذهب الإقتصادي الذي نتساءل عن وجوده في الإسلام، ونجيب بالإيجاب، لا نعني به علم الإقتصاد لأن الإسلام بوصفه ديناً ليس من وظيفته أن يتكلم في علم الإقتصاد، أو علم الفلك والرياضيات. وإنما هو عن إيجاد الإسلام، طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، لا عن قيام الإسلام بدراسة علمية للطرق الموجودة، في عصره، ولما ينجم عنها
{141}
من نتائج، كما يفعل علماء الإقتصاد.
وجهة النظر في الجواب:
وتصل الحلقة، بعد ذلك، إلى شرح وجهة النظر في الجواب فتعطي المفهوم الصحيح عن الشريعة، واستيعابها وشمولها لشتى الميادين. وتستدل على ذلك، من طبيعة الشريعة ونصوصها. ثمّ نستعرض بعد ذلك، بعض الشبهات التي تثار في وجه الإيمان بالإقتصاد الإسلامي، ونجيب عليها. وأخص بالذكر، الشبهة التي تقول: أن الإسلام جاء بتعاليم أخلاقية، ولم يجئ باقتصاد ينظم الحياة، فهو واعظ وليس منظماً. وقد أوضحنا، كيف أن هذه الشبهة استغلت الجانب الأخلاقي في الإسلام، لطمس معالم التنظيم الإجتماعي، مع أن الشريعة عالجت كلا المجالين. فقد مارست الجانب الأخلاقي، بوصفها ديناً، لتربية الفرد ومارست التنظيم الإجتماعي، باعتبارها النظام المختار من السماء للمجتمع البشري.
هذه صورة عن بحوث الرسالة وموضوعاتها، واليكم الآن تفصيلات تلك البحوث والموضوعات.
-
هَل يُوجَد في الإسلام اقتِصَاد:
{145}
قد يكون من أكثر الأسئلة، التي تتردد في كل فكر، وعلى كل لسان، ومع كل مشكلة تمر بها الأمة في حياتها، ويزداد الحاحاً باستمرار، هو السؤال عن المذهب الاقتصادي في الإسلام.
فهل يوجد في الإسلام اقتصاد؟
وهل يمكننا أن نجد حلاً لهذا التناقض المستقطب، بين الرأسمالية والماركسية، الذي يسود العالم اليوم. في بديل جديد مستمد من الإسلام، ومأخوذ من طريقته في التشريع وتنظيم الحياة؟.
وما هو مدى قدرة هذا البديل الجديد الإسلامي، على توفير الحياة الكريمة، واداء رسالته للامة، التي تعاني اليوم محنة عقائدية قاسية، في خضم ذلك التناقض الشديد، بين الرأسمالية والماركسية.
وليس التفكير في هذا البديل الجديد، او التساؤل عن حقيقته ومحتواه الإسلامي، مجرد ترف فكري، يمارسه الإنسان المسلم للمتعة، وانما هو تعبير عن يأس الإنسان المسلم، من النقيضين المتصارعين، واحساسه من خلال مختلف التجارب التي
{146}
عاشها، بفشلهما، ـ أي فشل النقيضين المتصارعين وهما الرأسمالية والماركسية ـ، في ملء الفراغ العقائدي والمبدئي للأمة.
والتفكير في البديل الإسلامي، أو التساؤل عنه، اضافة إلى تعبيره عن يأس الإنسان المسلم، من النقيضين المتصارعين. يعبر كذلك أيضاً، عن بوادر اتجاه جديد إلى الإسلام، ويعكس وعياً اسلامياً بدأ يتبلور، ويتخذ مختلف المستويات الفكرية في الأذهان، تبعاً لمدى استعدادها، ونوع تجاوبها مع الإسلام. فبذور الوعي الإسلامي، تعبر عن وجودها في بعض الأذهان على مستوى تساؤل عن الإسلام، وفي نفوس آخرين على مستوى ميل اليه، وعاطفة نحوه. وفي عقول أخرى، على مستوى الايمان به، وبقيادته الرشيدة، في كل المجالات، ايمانها بالحياة.
فالوعي الإسلامي، الذي يتحرك الآن في عقول الأمة ويتخذ مختلف المستويات، هو الذي يطرح الأسئلة تارة، ويوحي بالجواب في صالح الإسلام أخرى، ويتجسد حيناً آخر، صرحاً ايمانياً واعياً شامخاً، في التربة الصالحة من عقول الأمة، التي تمثل الإسلام بين المسلمين.
ومن ناحية أخرى، فان الإسلام بنفسه، يضطر المسلمين الى القاء هذا السؤال على الإسلام، أو على علمائه الممثلين له ومطالبتهم بتقديم البديل الأفضل، للنقيضين المتخاصمين ـ الرأسمالية والماركسية ـ. لأن الإسلام، اذ يعلن في قرآنه، ونصوصه
{147}
التشريعية، ومختلف وسائل الإعلان التي يملكها، وبشكل صريح، عدم رضاه عن الرأسمالية والماركسية، معاً، فهو مسؤول بطبيعة الحال، أن يحدد للأمة موقفاً إيجابياً، الى صف ذلك الموقف السلبي، وأن يأخذ بيدها في طريق آخر يتفق مع وجهة نظره، وإطاره العام. لأن الموقف السلبي، إذا فصل عن إيجابية بناءة، ترسم الأهداف، وتحدد معالم الطريق يعني الإنسحاب من معترك الحياة، والتميع الإجتماعي نهائياً، لا المساهمة من وجهة نظر جديدة.
فلابد للإسلام إذن، ما دام لا يقر الإندماج في إطارات رأسمالية واشتراكية وماركسية أن يوفر البديل او يرشد اليه ويصبح من الطبيعي، أن يتساءل المسلمون الذين عرفوا موقف الإسلام السلبي من الرأسمالية والماركسية، وعدم رضاه عنهما أن يتساءلوا عن مدى قوة الإسلام، وقدرته على اعطاء هذا البديل، ومدى النجاح الذي يحالفنا، إذا أردنا أن نكتفي بالإسلام ذاتياً، ونستوحي منه نظاماً اقتصادياً.
وجوابنا على كل ذلك، ان الإسلام قادر على امدادنا بموقف إيجابي غني بمعالمه التشريعية، وخطوطه العامة، وأحكامه التفصيلية التي يمكن أن يصاغ منها إقتصاد كامل، يمتاز عن
{148}
سائر المذاهب الإقتصادية، باطاره الإسلامي، ونسبه السماوي وانسجامه مع الإنسانية، كل الإنسانية، بأشواطها الروحية والمادية، وأبعادها المكانية والزمانية.
وهذا ما سوف نراه في البحوث الآتية.
-
مَا هُوَ نوع الاقتصاد الإسلامي:
ماذا نعني بوجود إقتصاد في الإسلام؟
وما هي طبيعة هذا الإقتصاد الإسلامي، الذي تساءلنا في البدء عنه، ثمّ أكدنا وجوده وإيماننا به؟
ان هذا هو ما يجب أن نبدأ بتوضيحه قبل كل شيء. لأننا حين ندّعي وجود إقتصاد في الإسلام، لا يمكننا البحث عن إثبات الدعوى، مالم تكن محددة ومفهومة، وما لم نشرح للقارئ، المعنى الذي نريده من الإقتصاد الإسلامي.
اننا نريد بالإقتصاد الإسلامي، المذهب الإقتصادي لا علم الإقتصاد.
والمذهب الإقتصادي، هو عبارة عن: إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، تتفق مع وجهة نظر معينة عن العدالة.
فنحن حين نتحدث عن اقتصاد الإسلام، انما نعني طريقته في تنظيم الحياة الإقتصادية، وفقاً لتصوراته عن العدالة.
ولا نريد بالإقتصاد الإسلامي، أي لون من الوان البحث العلمي في الإقتصاد.
وهذا النوع من التحديد للاقتصاد الإسلامي، يجعلنا نواجه مسألة التمييز بين المذهب الإقتصادي وعلم الإقتصاد. فما دام الإقتصاد الإسلامي مذهباً إقتصادياً، وليس علماً للإقتصاد فيجب أن نعرف بوضوح اكبر، ما معنى المذهب الإقتصادي وما معنى علم الإقتصاد، وما هي معالم التمييز بينهما؟ وما لم
{152}
يتضح ذلك وضوحاً كافياً، مدعماً بالأمثلة، فسوف تظل هوية الإقتصاد الإسلامي، مكتنفة بالغموض.
اننا حين نصف شخصاً بأنه مهندس، وليس طبيباً. يجب أن نعرف معنى المهندس، وما هي وظيفته، وثقافته، وما هو نوع عمله، وبماذا يفترق عن الطبيب، لكي نتأكد من صدق الوصف، على ذلك الشخص، وكونه مهندساً حقاً لا طبيباً. وكذلك حين يقال: ان الإقتصاد الإسلامي، مذهب اقتصادي وليس علماً للاقتصاد، يجب أن نفهم معنى المذهب الاقتصادي بصورة عامة، والوظيفة التي تمارسها المذاهب الإقتصادية وطبيعة تكونها، والفوارق بين المذهب الإقتصادي، وعلم الإقتصاد. لكي نستطيع أن نعرف في ضوء ذلك، هوية الإقتصاد الإسلامي، وكونه مذهباً اقتصادياً، لا علماً للاقتصاد.
وفي عقيدتي، ان ايضاح هوية الإقتصاد الإسلامي، على أساس التمييز الكامل، بين المذهب الإقتصادي وعلم الإقتصاد وادراك ان الإقتصاد الإسلامي مذهب، وليس علماً. ان هذا الايضاح، سوف يساعدنا كثيراً، على اثبات الدعوى ـ أي اثبات وجود اقتصاد في الإسلام ـ. وينقض المبررات التي يستند اليها جماعة ممن ينكرون وجود الإقتصاد في الإسلام ويستغربون من القول بوجوده.
{153}
وعلى هذا الاساس، سوف نقوم بدراسة للمذهب الإقتصادي وعلم الاقتصاد، بصورة عامة وللفوارق بينهما.
-
المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد:
كل انسان منا يواجه لونين من السؤال في حياته الاعتيادية ويدرك الفرق بينهما. فحين نريد ان نسأل الاب عن سلوك ابنه مثلا: قد نسأله كيف ينبغي ان يسلك ابنك في الحياة؟ وقد نسأله كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته؟.
وحين نوجّه السؤال الاول الي الاب، ونقول له كيف ينبغي ان يسلك ابنك في الحياة؟ يستوحي الاب جوابه، من القيم والمثل والأهداف، التي يقدسها، ويتبناها في الحياة. فيقول مثلاً: ينبغي ان يكون ولدي شجاعاً جريئاً طموحاً أو يقول ينبغي ان يكون مؤمناً بربه، واثقاً من نفسه، مضحياً في سبيل الخير والعقيدة.
وأما حين نوجّه السؤال الثاني للاب، ونقول له: كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته؟ فهو لا يرجع الى قيمه ومثله ليستوحي منها الجواب. وانما يجيب على هذا السؤال، في ضوء اطلاعاته عن سلوك ابنه، وملاحظاته المتعاقبة له. فقد يقول: هو فعلاً مؤمن واثق شجاع. وقد يقول: انه يسلك سلوكاً
{154}
متميعاً، ويتاجر بايمانه، ويجبن عن مواجهة مشاكل الحياة.
فالأب يستمد جوابه على السؤال الأول من قيمه ومثله، التي يؤمن بها. ويستمد جوابه على السؤال الثاني، من ملاحظاته وتجربته لابنه في معترك الحياة.
ويمكننا أن نستخدم هذا المثال، لتوضيح الفرق بين المذهب الإقتصادي، وعلم الإقتصاد. فإننا في الحياة الاقتصادية، نواجه سؤالين متميزين، كالسؤالين اللذين واجههما الأب عن سلوك ابنه فتارة نسأل: كيف ينبغي أن تجري الأحداث في الحياة الإقتصادية؟ وأخرى نسأل: كيف تجري الاحداث فعلاً في الحياة الاقتصادية.
والمذهب الإقتصادي، يعالج السؤال الاول، ويجيب عليه ويستلهم جوابه من القيم والمثل التي يؤمن بها، وتصوراته عن العدالة، كما استلهم الأب جوابه على السؤال الأول، من قيمه ومثله.
وعلم الاقتصاد يعالج السؤال الثاني، ويجيب عليه، ويستلهم جوابه من الملاحظة والتجربة. فكما كان الاب يجيب على السؤال الثاني، على أساس ملاحظته لسلوك ابنه، وتجربته له، كذلك علم الاقتصاد، يشرح حركة الاحداث في الحياة الإقتصادية، على ضوء الملاحظة والخبرة.
وهكذا نعرف، ان علم الإقتصاد، يمارس عملية الإكتشاف لما يقع في الحياة الإقتصادية من ظواهر اجتماعية وطبيعية، ويتحدث
{155}
عن اسبابها وروابطها، والمذهب الاقتصادي يقيم الحياة الاقتصادية ويحدد كيف ينبغي أن تكون، وفقاً لتصوراته عن العدالة وما هي الطريقة العادلة في تنظيمها؟.
العلم يكتشف، والمذهب يقيِّم.
العلم يتحدث عما هو كائن، وأسباب تكونه. والمذهب يتحدث عما ينبغي أن يكون، وما لا ينبغي ان يكون.
ولنبدأ بالأمثلة، للتمييز بين وظيفة العلم، ومهمة المذهب بين الاكتشاف والتقييم.
المثال الأول:
ولنأخذ هذا المثال: من ارتباط الثمن في السوق، بكمية الطلب فكلنا نعلم من حياتنا الاعتيادية، أن السلعة اذا كثر عليها الطلب، وازدادت الرغبة في شرائها لدى الجمهور، ارتفع ثمنها. فكتاب نؤلفه في الرياضيات، قد يباع بربع دينار، فاذا قررت المعارف تدريسه، وأدى ذلك الى كثرة الطلب عليه، من التلاميذ، ارتفع ثمنه في السوق، تبعاً لزيادة الطلب. وهكذا سائر السلع، فان ثمنها، يرتبط بكمية الطلب عليها في السوق فكلما زاد الطلب ارتفع الثمن.
وارتباط الثمن هذا، بالطلب، يتناوله العلم والمذهب معاً. ولكن كلاً منهما يعالجه من زاويته الخالصة.
{156}
فعلم الاقتصاد يدرسه، بوصفه ظاهرة، تتكون وتوجد في السوق الحرة، التي لم يفرض عليها أثمان السلع من جهة عليا كالحكومة. ويشرح كيفية تكون هذه الظاهرة، نتيجة لحرية السوق ويكتشف مدى الارتباط بين الثمن، وكمية الطلب. ويقارن بين الزيادة النسبية في الثمن، والزيادة النسبية في الطلب فهل يتضاعف الثمن، اذا تضاعف الطلب، او يزداد بدرجة أقل. ويشرح ما اذا كان ارتباط الثمن بكمية الطلب، بدرجة واحدة في جميع السلع، او ان بعض السلع، يؤثر عليها ازدياد طلبها، على ارتفاع ثمنها اكثر، مما يؤثره في سلع أخرى.
كل هذا يدرسه العلم، لاكتشاف جميع الحقائق التي تتصل بظاهرة ارتباط الثمن بالطلب، وشرح ما يجري في السوق الحرة، وما ينجم عن حريته، شرحاً علمياً، قائماً على اساليب البحث العلمي والملاحظة المنظمة.
والعلم في ذلك كله، لا يضيف منه شيئاً الى الواقع، وانما هدفه الاساسي، تكوّن فكرة دقيقة عما يجري في الواقع، وما ينجم عن السوق الحرة، من ظواهر، وما بين تلك الظواهر من روابط، وصياغة القوانين التي تعبر عن تلك الروابط وتعكس الواقع الخارجي، بمنتهى الدقة الممكنة.
وأما المذهب الإقتصادي: فهو لا يدرس السوق الحرة ليكتشف نتائج هذه الحرية، واثرها على الثمن ، وكيف يرتبط
{157}
الثمن بكمية الطلب في السوق الحرة. ولا يلقي على نفسه سؤال لماذا يرتفع ثمن السلعة في السوق الحرة اذا زاد الطلب عليها؟.
ان المذهب لا يصنع شيئاً من ذلك، وليس من حقه هذا لان اكتشاف النتائج والاسباب، وصياغة الواقع في قوانين عامة تعكسه وتصوره، من حق العلم، بما يملك من وسائل الملاحظة والتجربة والاستنتاج.
وانما يتناول المذهب، حرية السوق، ليقيِّم هذه الحرية ويقيِّم ما تسفر عنه من نتائج، وما تؤدي اليه من ربط الثمن بكمية الطلب الذي يغزو السوق.
ونعني بتقييم الحرية، وتقييم نتائجها، الحكم عليها من وجهة نظر المذهب، إلى العدالة. فإن كل مذهب اقتصادي، له تصوراته العامة عن العدالة. ويرتكز تقييمه لأي منهج من مناهج الحياة الإقتصادية، على أساس القدر الذي يجسده ذلك المنهج من العدالة، وفقاً لتصور المذهب لها.
فحرية السوق، اذا بحثت على الصعيد المذهبي، فلا تبحث باعتبارها ظاهرة موجودة في الواقع، لها نتائجها، وقوانينها العلمية بل بوصفها منهجاً اقتصادياً، يراد اختبار مدى توفر العدالة فيه.
فالسؤال القائل: ما هي نتائج السوق الحرة، وكيف يرتبط الثمن بكمية الطلب فيها، ولماذا يرتبط أحدهما بالآخر
{158}
يجيب عليه علم الإقتصاد.
والسؤال القائل: كيف ينبغي أن تكون السوق، وهل أن حريتها كفيلة بتوزيع السلع توزيعاً عادلاً، وإشباع الحاجات بالصورة التي تفرضها العدالة الإجتماعية؟ إن هذا السؤال، هو الذي يجيب عليه المذهب الإقتصادي.
وعلى هذا الأساس، فمن الخطأ أن نترقب من أي مذهب إقتصادي، أن يشرح لنا، مدى ارتباط الثمن، بكمية الطلب في السوق الحرة، وقوانين العرض والطلب، التي يتحدث عنها علماء الإقتصاد، في دراستهم لطبيعة السوق الحرة.
المثال الثاني:
من رأي ريكاردو، أن أجور العمال، اذا كانت حرة وغير محدودة من جهة عليا، كالحكومة، تحديداً رسمياً، فلا تزيد عن القدر الذي يتيح للعامل معيشة الكفاف. ولو زادت أحياناً عن هذا القدر، كان ذلك شيئاً موقتاً، وسرعان ما ترجع إلى مستوى الكفاف مرة أخرى.
ويقول ريكاردو، في تفسير ذلك، أن أجور العمال، اذا زادت عن الحد الأدنى من المعيشة، أدى ذلك الى ازديادهم نتيجة لتحسن أوضاعهم، وإقبالهم على الزواج والإنجاب. وما دام عمل العامل سلعة في سوق حرة، لم تحدد فيها الأجور والأثمان
{159}
فهو يخضع لقانون العرض والطلب. فاذا ازداد العمال، وكثر عرض العمل في السوق انخفضت الأجور.
وهكذا، كلما ارتفعت الأجور عن مستوى الكفاف، وجدت العوامل التي تحتم انخفاضها من جديد، ورجوعها الى حدها المحتوم. كما انها اذا نقصت عن هذا الحد. نتج عن ذلك، ازديات بؤس العمال، وشيوع المرض والموت فيهم، حتى ينقص عددهم وإذا نقص عددهم، ارتفعت الأجور، ورجعت إلى مستوى الكفاف لأن كل سلعة اذا نقصت كميتها، وقلَّت، ارتفع ثمنها في السوق الحرة.
وهذا ما يطلق عليه ريكاردو، اسم القانون الحديدي للاجور.
وريكاردو في هذا القانون، انما يتحدث عما يجري في الواقع اذا توفرت السوق الحرة للاجراء. ويكتشف المستوى الثابت للاجور، في كنف هذه السوق، والعوامل الطبيعية والاجتماعية التي تتدخل في تثبيت هذا المستوى، والحفاظ عليه، كلما تعرض الاجر لارتفاع او هبوط استثنائيين.
فريكاردو، انما يجيب في هذا القانون، على سؤال: ماذا يجري في الواقع؟ لا عما ينبغي أن يجري. ولأجل هذا كان بحثه في نطاق علم الاقتصاد، لأنه بحث يستهدف اكتشاف ما يجري من احداث وما تتحكم فيها من قوانين.
{160}
والمذهب الاقتصادي، حين يتناول أجور العمال، لا يريد أن يكتشف ما يقع في السوق الحرة. وانما يوجد طريقة لتنظيمها، تتفق مع مفاهيم العدالة عنده. فهو يتحدث عن الاساس الذي ينبغي أن تنظم بموجبه الاجور، ويبحث عما اذا كان مبدأ الحرية الاقتصادية، يصلح ان يكون أساساً لتنظيم الاجور، من وجهة نظره عن العدالة أولاً.
وهكذا لا نرى، ان المذهب الإقتصادي، يحدد كيف ينبغي أن تنظم السوق من وجهة نظره الى العدالة. هل تنظم على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية، او على أساس آخر؟ وعلم الاقتصاد، يدرس السوق المنظمة، على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية، مثلاً، ليتعرف على ما يحدث في السوق المنظمة وفقاً لهذا المبدأ، من أحداث، وكيف تحدد فيها أثمان السلع واجور العمال، وكيف ترتفع وتنخفض.
وهذا معنى قولنا: ان العلم يكتشف، والمذهب يقيِّم ويقدر.
المثال الثالث:
ولنأخذ المثال الثالث من الانتاج، ولنحدد الزاوية التي منها يدرس علم الإقتصاد الانتاج، والزاوية التي منها يدرس الانتاج في المذهب الإقتصادي. ونتبين الفارق بين الزاويتين.
{161}
فعلم الإقتصاد، يدرس من الانتاج الوسائل العامة، التي تؤدي الى تنمية الانتاج، كتقسيم العمل، والتخصص، فيقارن مثلاً، بين مشروعين لإنتاج الساعات، يشتمل كل منهما على عشرة عمال، يكلف كل عامل في أحد المشروعين، بانتاج ساعة كاملة. وأما في المشروع الآخر، فيقسم العمل، ويوكل الى كل عامل نوع واحد من العمليات، التي يتطلبها انتاج الساعة. فهو يكرر هذا النوع الواحد من العملية، باستمرار، دون أن يمارس العلميات الاخري، التي تمر بها الساعة، خلال انتاجها. ان البحث العلمي في الاقتصاد، يدرس هذين المشروعين وطريقتيهما المختلفتين، وأثر كل منهما على الانتاج وعلى العامل.
وهكذا يدرس علم الاقتصاد أيضاً، كل ما يرتبط بالانتاج الإقتصادي، من قوانين طبيعية، كقانون تناقص العلة في الإنتاج الزراعي، القائل أن نسبة زيادة الإنتاج الزراعي من الأرض تقل عن نسبة زيادة النفقات (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بمعني أن الشخص الذي ينفق مئة دينار، على استثمار أرضه، ويحصل منها على عشرين أردباً من القمح. لو أراد أن يضاعف النفقات، فأنفق على الأرض مئتين، بدلاً من مئة دينار، لم يحصل على ضعف الناتج السابق. أي أنه لا يظفر بأربعين أردباً من القمح، بل يحصل على أقل من الضعف. ولو أنفق ثلاثمائة لم يحصل على ثلاثة أضعاف من القمح، بل على زيادة أقل نسبياً من الزيادة التي يحصل عليها، بإنفاق مئتين. وهكذا تظل الزيادة الناتجة عن مضاعفة النفقات، تتناقض نسبياً، حتى تندعم نهائياً، ويعود الانفاق عبثاً باطلاً.
وسبب هذا، أن الأرض نفسها، هي عامل أساسي في الانتاج، فمضاعفة النفقات، لا تكفي لمضاعفة الانتاج، ما دامت كمية العامل الأساسي في الانتاج أي الأرض، ثانية لم تضاعف.
{162}
كل هذا يدرسه علم الإقتصاد. لأنه يعبر عن اكتشاف الحقائق على الصعيد الاقتصادي، كما تجري، ويحدد العوامل التي تؤثر بطبيعتها على الانتاج، تأثيراً موافقاً او معاكساً.
وأما المذهب، فهو يبحث الأمور التالية.
هل ينبغي أن يبقى الانتاج حراً، أو يجب اخضاعه لتخطيط مركزي من قبل الدولة؟
هل ينبغي اعتبار تنمية الانتاج، هدفاً أصيلاً، او وسيلة لهدف أعلى؟
واذا كانت تنمية الإنتاج، وسيلة لهدف أعلى، فما هي الحدود والإطارات التي تفرضها طبيعة ذلك الهدف الأعلى، على هذه الوسيلة؟ وهل يجب أن تكون سياسة الإنتاج، أساساً لتنظيم التوزيع، أو العكس؟ بمعنى، أن أيهما يجب أن ينظم لمصلحة الآخر؟ فهل ننظم توزيع الثروة، بالشكل الذي يوفر الإنتاح ويساعد على تنميته، فتكون مصلحة الإنتاج، أساساً للتوزيع «فإذا اقتضت مصلحة الإنتاج، تشريع الفائدة على القروض
{163}
التجارية، لجذب رؤوس الأموال، الى مجال الإنتاج. اتخذت الإجراءات بهذا الشأن، ونظم التوزيع، على أساس الإعتراف بحق رأس المال في الفائدة.» أو تنظم توزيع الثروة، وفقاً لمقتضيات العدالة التوزيعية، ونحدد تنمية الإنتاج، بالمناهج والوسائل التي تتفق مع مقتضيات العدالة التوزيعية.
كل هذا يدخل في نطاق المذهب الإقتصادي، لا علم الإقتصاد لأنه يرتبط بتنظيم الإنتاج، وكيف ينبغي أن تصمم سياسته العامة.
استخلاص من الأمثلة السابقة:
يمكننا أن نستخلص من الأمثلة السابقة، الخطين المتميزين للعلم والمذهب: خط الاكتشاف والتعرف على أسرار الحياة الإقتصادية، وظواهرها المختلفة، وخط التقييم، وايجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، وفقاً لتصورات معينة عن العدالة.
وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نميز بين الأفكار العلمية والأفكار المذهبية. فالفكرة العلمية، تدور حول اكتشاف الواقع، كما يجري، والتعرف على أسبابه ونتائجه، وروابطه. فهي بمثابة منظار علمي، للحياة الإقتصادية، فكما أن الشخص حين يضع منظاراً على عينيه، يستهدف رؤية الواقع، دون أن يضيف اليه، أو يغير فيه شيئاً، وكذلك التفكير العلمي
{164}
يقوم بدور منظار للحياة الإقتصادية، فيعكس قوانينها وروابطها. فالطابع العام للفكرة العلمية هو الإكتشاف.
وأما الفكرة المذهبية، فهي ليست منظاراً للواقع، بل هي تقدير خاص للموقف، على ضوء تصورات عامة للعدالة. فالعلم يقول: هذا هو الذي يجري في الواقع. والمذهب يقول: هذا هو الذي ينبغي أن يجري في الواقع.
-
علم الاقتصاد والمذهب كالتاريخ والأخلاق:
وهذا الفرق الذي تبيناه، بين علم الإقتصاد والمذهب الإقتصادي، ـ بين البحث عما هو كائن والبحث عما ينبغي أن يكون ـ، يمكننا أن نجد نظيره بين علم التاريخ والبحوث الاخلاقية. فان علم التاريخ، يتفق مع علم الإقتصاد في خطه العلمي العام. والبحوث الأخلاقية، كالمذهب الإقتصادي، في التقييم والتقدير.
والناس يتفقون عادة، على التفرقة بين علم التاريخ والبحوث الاخلاقية. فهم يعرفون ان علماء التاريخ، يحدثونهم مثلاً عن الأسباب التي أدت الى سقوط الامبراطورية الرومانية، في أيدي الجرمان. والعوامل التي دعت الى شن الحملات الصليبية على فلسطين، وفشلها جميعاً. والظروف التي ساعدت على اغتيال قيصر، وهو في قمة انتصاره ومجده، او على قتل عثمان
{165}
ابن عفان والثورة عليه.
كل هذه الاحداث، يدرسها علم التاريخ، ويكتشف أسبابها وروابطها، مع سائر الاحداث الاخرى، وما تمخضت عنه من نتائج، وتطورات، في مختلف الميادين. وهو بوصفه علماً، يقتصر على اكتشاف تلك الاسباب، والروابط، والنتائج، بالوسائل العلمية. ولا يقيم تلك الاحداث من الناحية الخلقية.
فعلم التاريخ، لا يحكم في نطاقة العلمي، بأن اغتيال قيصر أو قتل عثمان، كان عملاً صحيحاً، خلقياً، او منحرفاً عن المقاييس التي تحتم القيم العليا، اتباعها في السلوك. وليس من شأنه، أن يقيم الحملات الصليبية، أو غزو البرابرة الجرمان للرومان، ويحكم بأنها حملات عادلة أو ظالمة. وانما يرتبط تقييم تلك الاحداث، جميعاً، بالبحوث الاخلاقية. فعلى ضوء ما تتبنى من مقاييس للعمل، في البحث الاخلاقي، نحكم بأن هذا عدل او ظلم، وان هذه استقامة أو انحراف.
فكما ان علم التاريخ يصف السلوك والحادثة، كما وقعت ويأتي البحث الخلقي، بمقاييسه العامة، فيقيمها. كذلك علم الاقتصاد، يصف احداث الحياة الاقتصادية، والمذهب يقيم تلك الأحداث، ويحدد الطريقة، التي ينبغي تنظيم الحياة الاقتصادية على أساسها، وفقاً لتصوراته العامة عن العدالة.
علم الاقتصاد كسائر العلوم:
وما قلناه، في تحديد وظيفة علم الاقتصاد، وانها مقتصرة على الاكتشاف، دون التقدير والتقييم. لا يخص علم الاقتصاد فحسب. فان الوظيفة الاساسية، لجميع العلوم، هي الاكتشاف خاصة. ولا فرق بين العالم الاقتصادي، وعلماء الفيزياء والذرة والفلك والنفس، سوى انه يمارس وظيفته في الحقل الاقتصادي من حياة الإنسان، واولئك يمارسون نفس الوظيفة، وهي اكتشاف الحقائق، وروابطها وقوانينها، في حقول اخرى متنوعة طبيعية او بشرية.
فالعالم في الفيزياء الاعتيادية، يدرس مثلاً السرعات المختلفة للنور والصوت وغيرهما، ويكتشف المعادلات الدقيقة لها.
والعالم الذري، يدرس تركيب الذرة، وعدد كهاربها ونوع شحناتها المخبوءة فيها، والقوانين التي تتحكم في حركتها.
والعالم الفلكي، يدرس الاجرام الكبيرة في الفضاء، والقوانين التي تنظم حركتها.
والعالم النفسي: يدرس مثلاً عملية الابصار، ومحتواها السيكولوجي والعوامل المؤثرة فيها.
والعالم الاقتصادي، يكتشف من ناحيته أيضاً، قوانين الظواهر الاقتصادية، سواء كانت طبيعية، كظاهرة تناقص
{167}
الغلة او اجتماعية، كظاهرة انخفاض الثمن وارتفاعه، في السوق الحرة، وفقاً لكمية الطلب.
فكل هؤلاء بوصفهم العلمي، يكتشفون ولا يقيمون.
الفارق في المهمة لا الموضوع:
في ضوء ما تقدم، تعرف أن الفارق بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي، ينبع من اختلافهما في المهمة، نظراً الى ان مهمة علم الاقتصاد، اكتشاف ظواهر الحياة الاقتصادية وروابطها. ومهمة المذهب، ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية كما ينبغي ان تنظم، وفقاً لتصوراته عن العدالة.
وعلى هذا الاساس، ندرك الخطأ في المحاولات التي ترمي الى التمييز بين علم الاقتصاد، والمذهب الاقتصادي، من ناحية الموضوع. عن طريق القول، بأن علم الاقتصاد، يبحث في الانتاج وقوانينه، والعوامل التي تساعد تنميته. والمذهب الاقتصادي يبحث في التوزيع، وأحكامه، والروابط التي تنشأ بين أفراد المجتمع على أساسه.
ان هذه المحاولات خاطئة، لاننا رأينا في الأمثلة السابقة التي قدمناها للتفرقة بين العلم والمذهب، ان المذهب الاقتصادي يتناول الانتاج، كما يتناول التوزيع، (راجع المثال الثالث). وعلم الاقتصاد يتناول التوزيع، كما يتناول الانتاج، (راجع
{168}
المثال الاول والثاني). فقانون الاجور الحديدي، الذي سبق في المثال الثاني، قانون علمي، بالرغم من انه يتصل بالتوزيع وتنظيم الانتاج، على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية، أو على اساس التوجيه المركزي من الدولة، يعتبر قضية من قضايا المذهب، بالرغم من كونه بحثاً في الانتاج.
فمن الخطأ، ان نحكم على أي بحث، بأنه علمي، اذا كان يتناول الانتاج. وانه مذهبي، اذا كان يتناول التوزيع.
بل العلامة الفارقة للبحث العلمي، عن البحث المذهبي، هي علاقة البحث بالواقع، او العدالة. فان كان بحثاً عن الواقع في الحياة الإقتصادية، وكيف هو، فالبحث علمي. وان كان بحثاً عن العدالة، وكيف ينبغي ان تحقق، فالبحث مذهبي. أي ارتباط الفكرة بالعدالة، هو العلامة الفارقة، للمذهب بشكل عام، عن البحوث العلمية التي يضمها علم الاقتصاد.
المذهب قد يكون اطاراً للعلم:
عرفنا، ان علم الإقتصاد، كما يبحث في الانتاج، ويكتشف قانون الغلة المتناقصة، مثلاً، كذلك يبحث في التوزيع ويكشف قانوناً، كالقانون الحديدي للاجور.
ولكن بالرغم من ذلك، يوجد أحياناً فرق بين البحث العلمي، في الانتاج، والبحث العلمي في التوزيع. ولنأخذ
{169}
قانون الغلة المتناقصة، والقانون الحديدي للاجور مثالاً ذلك.
فالقانون الاول، يمثل البحث العلمي، في الانتاج. والقانون الثاني، يمثل البحث العلمي في التوزيع.
ونحن، اذا لاحظنا قانون الغلة المتناقصة، نجد انه يشتمل على حقيقة عن الانتاج الزراعي، تصدق على الارض في مجتمع بشري، مهما كان نوع المذهب الإقتصادي الذي يتبناه، فالارض في المجتمع الرأسمالي، تتناقص غلتها وفقاً لذلك القانون كما تتناقص في المجتمع الاشتراكي او الإسلامي. وهذا يعني، ان قانون الغلة المتناقصة، ليس متوقفاً على وضع مذهبي معين، بل يعبر عن حقيقة علمية مطلقة.
واما القانون الحديدي للاجور، الذي مر شرحه في المثال الثاني. فهو يكتشف، كما رأينا المستوى الثابت لاجور العمل في مجتمع تسوده الحرية الاقتصادية، ويقرر ان المجتمع الذي تسوده الحرية، تظل فيه اجور العمال على مستوى الكفايه واذا ارتفعت، او انخفتضت، لسبب طارئ عادت مرة اخر وبصورة طبيعية، الى ذلك المستوى.
وهذا القانون علمي بطبيعته، ومضمونه، وهدفه. لانه يحاول اكتشاف الواقع، والتعرف على حركة الاجور واتجاهها كما يحدث في المجتمع. ولكنه يقرر، في نفس الوقت، أن هذه
{170}
الحقيقة التي يتحدث عنها، انما تصدق، على مجتمع تسوده الحرية الإقتصادية الرأسمالية، ولا تنطبق على مجتمع موجه إقتصادياً تفرض الدولة فيه تحديداً عالياً للاجور.
فالحرية الرأسمالية، شرط لصدق القانون العلمي، عن الأجور، او هي الإطار العام، الذي يتحقق القانون الحديدي ضمنه. وهذا معنى أن القانون مضمونه علمي، واطاره العام ـ شرط صدقه ـ، مذهبي.
وأكبر الظن، ان عدم التمييز بين المضمون والإطار، او بين القانون العلمي، وشروطه، هو الذي أدى الى القول، بأن بحوث التوزيع، كلها مذهبية، وليس للعلم، ان يبحث في حقل التوزيع. فان اشراط القوانين العلمية في التوزيع، باطار مذهبي معين، جعل أصحاب هذا القول يتخيلون ان تلك القوانين مذهبية بطبيعتها.
النتائج المستخلصة:
نستخلص مما سبق، النتائج التالية:
أولاً: ان علم الإقتصاد والمذهب الإقتصادي، يختلفان في مهمتهما الاساسية، لأن مهمة العلم، اكتشاف الحياة الإقتصادية وظواهرها، كما توجد في الواقع، ومهمة المذهب، ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، كما ينبغي أن توجد، وفقاً لتصوراته
{171}
العامة عن العدالة. فالعلم يعمل لتجسيد الواقع، والمذهب يعمل لتجسيد العدالة.
ثايناً: ان علم الإقتصاد، يبحث في الإنتاج والتوزيع معاً كما ان المذهب الإقتصادي، يبحث في الإنتاج والتوزيع أيضاً، ولا اساس للتفرقة بينهما، على أساس الموضوع، يجعل الإنتاج موضوعاً للعلم، والتوزيع موضوعاً للمذهب. لأن العلم والمذهب يختلفان في مهمة البحث وطريقته، لا في موضوعه.
وثالثاً: ان قوانين علم الإقتصاد، في الانتاج، تعبر عن حقائق ثابتة، في مختلف المجتمعات، مهما كان نوع المذهب الاقتصادي المطبق عليها. واما قوانين علم الإقتصاد، في التوزيع فهي تشرط عادة باطار مذهبي معين، بمعنى ان العالم الإقتصادي يفترض مجتمعاً يطبق مذهباً كالرأسمالية، والحرية الإقتصادية ثمّ يحاول أن يكتشف قوانينه، وحركة الحياة الإقتصادية فيه.
-
المذهب لا يستعمل الوسائل العلمية:
عرفنا، من التحليلات السابقة للمذهب والعلم، أن مهمة المذهب، التعبير عن مقتضيات العدالة، بينما يكون على العلم مهمة اكتشاف الأحداث الإقتصادية، كما تقع، باسبابها وروابطها.
وهذا الإختلاف في المهمة الأساسية بينهما، يفرض اختلافهما
{172}
في وسائل البحث، حتماً. بمعنى أن علم الإقتصاد، بوصفه علماً، يكتشف ما يقع في الكون والمجتمع، مما يتصل بالحياة الإقتصادية يستعمل الوسائل العلمية، من الملاحظة أو التجربة وتتبع الأحداث التي تزخز بها الحياة الإقتصادية، لكي يستنبط على ضوء ذلك، روابطها وقوانينها العامة. ومتى كانت قضية من القضايا موضعاً للشك، ولم يعلم مدى صدقها وتصويرها للواقع، أمكن للعالم الإقتصادي، أن يرجع الى المقاييس العلمية وملاحظاته المنظمة، للاحداث المتعاقبة، لكي يكتشف مدى صحة تلك القضية وصدقها في تصوير الواقع.
ان العالم الإقتصادي، كالعالم الطبيعي، من هذه الناحية (1) فالعالم الطبيعي، اذا أراد أن يكتشف درجة الغليان في الماء امكنه أن يقيس حرارة الماء قياساً علمياً، بوصفها ظاهرة طبيعية، ويلاحظ درجة الحرارة، التي تبدأ عندها الغليان.
والعالم الإقتصادي، اذا أراد ان يكشف دورية الأزمات الإقتصادية، المشهورة، التي تنتاب المجتمع الرأسمالي، بين حين وآخر، فعليه أن يرجع إلى أحداث الحياة الإقتصادية، كما تسلسلت ووقعت، ليحدد الفاصل التاريخي، بين كل ازمة واخرى
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لا نعني بذلك، ان الوسائل العلمية، التي يستعملها العالم الطبيعي، هي نفس الوسائل التي يستعملها العالم الإقتصادي، وانما نعني ان الوسائل التي يستعملها العالمان، موضوعية وليست ذاتية.
{173}
فاذا وجد ان الفاصل التاريخي، بين كل أزمة وسابقتها واحد استطاع أن يحدد دورة تلك الأزمات، وبالتالي يبحث عن أسبابها، والعوامل المؤثرة فيها.
وعلى العكس من ذلك، المذهب الإقتصادي، فانه لا يمكنه أن يقيس الموضوعات التي يعالجها، قياساً علمياً، لأنه يدرس تلك الموضوعات، من زاوية العدالة، ويحاول ايجاد طريقة للتنظيم، وفقاً لمقتضيات العدالة. ومن الواضح، ان العدالة تختلف عن حرارة الماء وغليانه، وعن الازمات الاقتصادية ودورتها، لأنها ليست من الظواهر الكونية، أو الإجتماعية التي تقبل الملاحظة الموضوعية، والقياس العلمي، وأساليب التجربة المتعارفة في العلم. ففي المذهب الإقتصادي، لا يكفي أن نطل برأسنا على الواقع، ونلاحظ الاحداث، ملاحظة علمية، لنعرف ما هي العدالة، في التنظيم، كما يطل العالم الإقتصادي ويدرس الازمات الاقتصادية ليعرف ودورتها وقانونها.
ولنأخذ العدالة في التوزيع، مثلاً على ذلك، فهناك من يقول ان العدالة في التوزيع، تتحقق في نظام يكفل المساواة بين أفراد المجتمع، في الحرية، بدلاً عن الرزق، هي الاساس العادل للتوزيع، وان أدت ممارسة الافراد لحقهم في الحرية الى اختلافهم في الرزق، وزيادة ثروة بعضهم، على ثروة الآخرين
{174}
ما دام الآخرون، يتمتعون بنفس الحرية، الممنوحة للجميع بدرجة واحدة. وهناك من يرى عدالة التوزيع، تتحقق في ضمان مستوى عام من الرزق، للجميع، ومنح الحرية لهم خارج حدود ذلك المستوى، كما يصنع الإسلام:
فاذا أردنا ان نعرف، ما هو طريق تحقيق العدالة في التوزيع هل هو التسوية في الرزق والثروة، أو اعطاء كل فرد الحرية في ممارسة مختلف الوان النشاط الاقتصادي، وتحديد نصيبه من الرزق، وفقاً لطريقة ممارسته للحرية، او اسلوب ثالث بين هذا وذاك.
اذا أردنا أن نعرف، ما هو طريق العدالة، من هذه الأساليب فلا يمكننا ان نقيس، ونستعمل وسائل البحث العلمي. لان العدالة، ليست ظاهرة طبيعية، كالحرارة والغليان، لكي نحس بها، ببصرنا او لمسنا او سائر حواسنا، وليست ظاهرة اجتماعية كالازمات الاقتصادية، في المجتمع الرأسمالي، لتقاس وتلاحظ وتجرب.
ان العلم، يمكنه ان يقيس الناس أنفسهم، فيعرض مدى تساويهم او اختلافهم، في صفاتهم الجسدية والنفسية. ولكنه لا يستطيع، ان يقيس حقهم في الرزق، ليعرف ما اذا كان من العدل أن يتساووا في الرزق، أو لا. لأن العدالة والحق ليس من الصفات الموضوعية، الخاضعة للقياس العلمي والحس كصفات الجسد وظواهر الحياة.
{175}
خذ اليك رأسمالياً، يؤمن بأن الناس سواسية في حق الحرية وان اختلفت أرزاقهم، واشتراكياً، يؤمن بأن الناس سواسية في حق الرزق، واسألهما: هل يوجد مقياس زئبقي، للعدالة كالمقياس الزئبقي للحرارة، لكي أعرف درجة العدالة، في مجتمع تتساوى ارزاق أفراده، ومجتمع تتساوى حريات أفراده وان اختلفت أرزاقهم؟ وهل ان الحق الذي يتمتع به أفراد المجتمع، ظاهرة من الظواهر، التي يمكن الاحساس بها، كما نحس بألوانهم وطول قامتهم، ومدى نباهتهم، ونوع أصواتهم لكي ندرس الحق، بأساليب البحث العلمي، القائمة على أساس الحس والتجربة.
ان الجواب على كل هذا، بالنفي طبعاً. فليس للعدالة مقياس زئبقي، لانها ليست من الظواهر، التي يمكن ادراكها بالحس والمشاهدة. وليس حق الناس في الرزق، او حق الناس في حرية اكتسابه، ظاهرة من ظواهرهم، كطول قامتهم او سرعة بديهتهم، لنحكم العلم في تحديد ذلك الحق.
ونخرج من ذلك كله، بأن المذهب، لا يمكنه ما دام يدرس القضايا من زاوية العدالة والحق، ان يكتفي بأساليب البحث العلمي. بل لا بد له، أن يستلهم الطريقة التي يفضلها، في تنظيم الحياة الإقتصادية، من تصوراته الذاتية للعدالة، وقيمه ومثله، التي يؤمن بها، ونظرته العامة الى الحياة.
-
الإقتصاد الإسلامي كما نوعظ به:
{179}
أحسب ان البحث السابق، يكفي لتكوين فكرة محددة عن المذهب الاقتصادي، وعلم الاقتصاد، ووظيفة كل منهما ووسائله في البحث. ولاجل هذا، فسوف نستطيع الآن أن نوضح طبيعة فهمنا للاقتصاد الإسلامي، وما نعنيه بتأكيدنا على وجود اقتصاد، او نظام اقتصادي في الإسلام.
ان الإقتصاد الإسلامي كما مر بنا، في مستهل هذه الدراسة عبارة عن مذهب اقتصادي، وليس علماً للاقتصاد. فنحن حين نقول: ان الإسلام جاء بمذهب اقتصادي، لا نحاول ان نزعم، ان الإسلام جاء بعلم الاقتصاد. وذلك ان الإسلام، لم يجئ ليكتشف أحداث الحياة الإقتصادية، وروابطها وأسبابها وليس من مسؤولياته ذلك. كما ليس من مسؤوليته، ان يكشف للناس قوانين الطبيعة، او الظواهر الفلكية، وروابطها وأسبابها. فكما لا يجب ان يشتمل الدين، على علم الفلك، وعلوم الطبيعة كذلك لا يجب أن يشتمل على علم الاقتصاد.
وانما جاء الإسلام، لينظم الحياة الإقتصادية، بدلاً عن كشفها. ويضع التصميم، الذي ينبغي أن تنظم به، وفقاً لتصوراته عن العدالة.
فالإقتصاد الإسلامي، يصور وجهة نظر الإسلام عن العدالة وطريقته في تنظيم الحياة الإقتصادية، ولا يعبر عن كشوف علمية، لروابط الحياة الإقتصادية، وعلاقاتها، كما تجري في
{180}
الواقع. وهذا معنى، كون الإقتصاد الإسلامي مذهباً لا علماً.
وبتعبير آخر: لو أن الإسلام، جاء ليحدثنا عن الحياة الإقتصادية في الحجاز، وما هي الاسباب التي تؤدي في المجتمع الحجازي، مثلاً، الى ارتفاع سعر الفائدة الربوية، التي يتقاضاها المرابون، لكان حديثه علمياً، ومن علم الإقتصاد. ولكنه بدلاً عن ذلك، جاء ليقيم نفس الفائدة الربوية، فحرمها ونظم العلاقة بين رأس المال، وصاحب المشروع، على أساس المضاربة، بدلاً عن الربا والفائدة. وبذلك، كان الإسلام يتخذ في اقتصاده الموقف المذهبي، لا العلمي.
ونحن، اذا عرفنا بوضوح، طبيعة الإقتصاد الإسلامي وكونه مذهباً اقتصادياً، لا علماً للاقتصاد، أمكننا أن ندحض أكبر العقبات، التي تحول دون الاعتقاد، بوجود اقتصاد في الإسلام.
ما هي اكبر العقبات:
وهذه العقبة الكبيرة، التي يستند اليها كثير من الناس لرفض الاقتصاد الإسلامي، نشأت من عدم التمييز، بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي. فان هؤلاء الذين لم يتح لهم التمييز بين العلم والمذهب، اذا سمعوا شخصاً يقول: ان في
{181}
الإسلام اقتصاداً، يبادرون قائلين: وكيف يمكن أن يكون في الإسلام اقتصاد؟ ونحن لا نجد فيه بحوثاً، كالبحوث التي نجدها عند علماء الاقتصاد، كآدم سميث، وريكاردو، وغيرهما. فالإسلام لم يحدثنا عن قانون الغلة المتناقصة، ولا عن قوانين العرض والطلب، ولم يأت بقانون، يناظر القانون الحديدي للأجور، ولم تؤثر عنه فكرة، عن تحليل القيمة ودرسها علمياً كما درسها علماء الاقتصاد. وكيف يطلب منا أن نصدق بالاقتصاد الإسلامي، ونحن جميعاً نعلم بأن بحوث علم الاقتصاد انما نشأت وتكاملت خلال القرون الاربعة الاخيرة على يد رواد الفكر الاقتصادي الاوائل كآدم سميث، ومن سبقه من التجاريين والطبيعيين.
يقول المنكرون للاقتصاد الإسلامي كل هذا، ظناً منهم بأنا ندعي قيام الإسلام، بالبحث العلمي في الاقتصاد.
واما بعد ان نعرف الفرق، بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي، وان الاقتصاد الإسلامي، مذهب وليس علماً. فلا يبقى موضع لكل ذلك القول، لان وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام، لا يعني تحدث الإسلام الى الناس، عن قوانين العرض والطلب، بل يعني ان الإسلام، دعا الى تنظيم متميز للحياة الاقتصادية، وحدد ما ينبغي ان تقام عليه تلك الحياة من أسس ودعائم.
{182}
ويبدو الايمان، بوجود الاقتصاد الإسلامي، على هذا الضوء أمراً معقولا، ولا غرابة فيه.
وسوف لن نبدأ في هذه الحلقة، بدراسة تفاصيل الاقتصاد الإسلامي وحين أخذ التفاصيل بالبحث والدرس في الحلقات المقبلة، سوف نقدم لك، من الكتاب والسنة، الدليل المادي المحسوس، على وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام. فانه لا أدل على وجود الشيء، من ابرازه للحس. وهذا ما تقوم به الحلقات المقبلة، باذن الله تعالى.
والآن، وقبل أن نستدل على وجود المذهب الإقتصادي في الإسلام، بابرازه، والتعرف على مواطن استخلاصه، من الكتاب والسنة. نريد أن نقيم الدليل على وجوده، من طبيعة الشريعة الإسلامية، ومفاهيمنا المسبقة عنها، كما سنرى.
شمول الشريعة واستيعابها:
ان شمول الشريعة واستيعابها، لجميع مجالات الحياة، من الخصائص الثابتة لها، لا عن طريق تتبع احكامها، في كل تلك المجالات فحسب، بل عن طريق التأكيد على ذلك، في مصادرها العامة أيضاً. فنحن نستطيع، ان نجد في هذه المصادر نصوصاً تؤكد بوضوح، على استيعاب الشريعة، وامتدادها الى جميع الحقول، التي يعيشها الإنسان، واغتنائها بالحلول لجميع
{183}
المشاكل التي تعترضه في شتى المجالات.
لاحظوا على سبيل المثال، النصوص التالية:
1 ـ روى أبو بصير، عن الإمام الصادق (ع) ، انه تحدث عن الشريعة الإسلامية، واستيعابها، واحاطة أئمة أهل البيت بكل تفاصيلها. فقال: فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس اليه، حتى الارش في الخدش. وضرب بيده الى أبي بصير، فقال: أتأذن لي يا أبا محمد؟ فقال له أبو بصير: جعلت فداك، انما أنا لك، فاصنع ما شئت. فغمزه الإمام بيده وقال: حتى أرش هذا!
2 ـ وعن الإمام الصادق (ع)، في نص آخر، انه قال: فيها كل ما يحتاج الناس اليه، وليس من قضية، إلاّ وهي فيها حتى ارش الخدش. (أي الغرامة التي يدفعها الشخص الى آخر اذا خدشه).
3 ـ وفي نهج البلاغة، ان امير المؤمنين علياً عليه السلام قال يصف الرسول (ص)، والقرآن الكريم:
أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الامم وانتقاص من المبرم. فجاءهم بتصديق الذي بين يديه، والنور المقتدى به، ذلك القرآن، فاستنطقوه، ولن ينطق؛ ولكن أخبركم عنه، الا ان فيه ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم؛ ونظم ما بينكم.
{184}
ان هذه النصوص، تؤكد بوضوح، استيعاب الشريعة لمختلف مجالات الحياة.
واذا كانت الشريعة، تضمن الحلول حتى لأتفه المشاكل وحتى لارش الخدش، ـ أي الغرامة التي يجب على الإنسان دفعها الى الآخر، اذا خدشه ـ، فمن الضروري، حتماً، بمنطق تلك النصوص، أن تكون في الشريعة، حلول للمشاكل الإقتصادية وطريقة لتنظيم الحياة، في الحقل الإقتصادي. والا فأي معنى لاستيعاب الشريعة وشمولها، اذا كانت تغفل جانباً من أهم جوانب الحياة، وأوسعها، وأكثرها أهمية وتعقيداً.
هل تتصور أن الشريعة، تحدد الغرامة التي من حقك الحصول عليها، اذا خدشك شخص خدشاً بسيطاً، ولا تحدد حقك في الثروة المنتجة، ولا تنظم طريقة اتفاقك مع عمالك او مع الرأسماليين، في مختلف الوان العمل، التي تحتاج فيها الى عامل، أو رأسمالي.
وهل من المعقول، ان تحدد الشريعة، حقك حين تخدش ولا تحدد حقك، حين تحيي أرضاً، او تستخرج معدناً، أو تستنبط عين ماء، أو تستولي على غابة.
وهكذا نعرف ان من يؤمن بالشريعة ومصادرها، ونصوصها يستنتج من تلك النصوص، علاج الشريعة، للمشاكل الإقتصادية وتنظيمها للحقل الإقتصادي، وبالتالي وجود اقتصاد اسلامي
{185}
يمكن استخلاصه من الكتاب والسنة.
وفي ضوء تلك النصوص، يعرف القارئ، خطأ القول الشائع، عند البعض، بأن الشريعة تنظم سلوك الفرد، لا المجتمع، والمذهب الإقتصادي، تنظيم اجتماعي، فهو خارج عن نطاق الشريعة، التي تقتصر في تشريعها، على تنظيم سلوك الفرد فحسب.
ان النصوص السابقة، تبرهن على خطأ هذا القول، لأنها تكشف، عن امتداد الشريعة، الى كل ميادين الحياة، وتنظيمها للمجتمع والفرد على السواء.
والحقيقة، أن القول بأن الشريعة، تنظم سلوك الفرد لا المجتمع، يتناقض مع نفسه، اضافة الى اصطدامه بتلك النصوص لأنه حين يفصل سلوك الفرد، وتنظيمه، عن تنظيم المجتمع يقع في خطأ كبير، من ناحية، ان النظام الإجتماعي، لأي جانب من الجوانب العامة في المجتمع، سواء كان اقتصادياً، أم سياسياً، أم غير ذلك، يتجسد في سلوك الفرد، فلا يمكن تنظيم سلوك الفرد، بصورة منعزلة عن تنظيم المجتمع.
خذ اليك النظام الرأسمالي، بوصفه تنظيماً اجتماعياً، فانه ينظم الحياة الإقتصادية، على أساس مبدأ الحرية الإقتصادية وهذا المبدأ يتجسد في سلوك الرأسمالي، مع العامل، وطريقة ابرامه معه عقد العمل، وفي سلوك المرابي، مع زبائنه، الذين
{186}
يقرضهم بفائدة، وطريقة ابرامه معهم عقد القرض. وهكذا كل تنظيم اجتماعي، فانه يتصل بسلوك الفرد، وينعكس عليه ويتجسد فيه.
فاذا كانت الشريعة، تنظم سلوك الفرد، فلها طريقتها اذن، في تنظيم سلوكه، حين يقترض مالاً، او حين يستأجر عاملاً، او حين يؤجر نفسه، وهذا يرتبط حتماً، بالتنظيم الاجتماعي.
فكل فصل بين سلوك الفرد والمجتمع في التنظيم، يحتوي على تناقض.
فما دمنا نعترف، بأن الشريعة، تنظم سلوك الفرد، وان كل فعل من أفعال الإنسان، له حكمه الخاص، في الشريعة. ما دمنا نعترف بذلك، فلا بد ان ننساق مع اعترافنا الى النهاية ونؤمن بوجود التنظيم الاجتماعي في الشريعة.
التطبيق دليل آخر:
ولا أدري، ماذا يقول هؤلاء الذين يشكون في وجود اقتصاد اسلامي، او علاج للمشاكل الاقتصادية في الإسلام. ماذا يقولون عن عصر التطبيق في صدر الإسلام؟
أفلم يكن المسلمون، يعيشون في صدر الإسلام، بوصفهم مجتمعاً له حياته الاقتصادية، وحياته في كل الميادين الاجتماعية؟
{187}
أفلم تكن قيادة هذا المجتمع الإسلامي، بيد النبي والإسلام.
أفلم تكن هناك حلول محددة، لدى هذه القيادة، يعالج بها المجتمع، قضايا الانتاج والتوزيع، ومختلف مشاكله الاقتصادية؟
فماذا لو ادعينا، أن هذه الحلول، تعبر عن طريقة الإسلام في تنظيم الحياة الاقتصادية، وبالتالي عن مذهب اقتصادي في الإسلام؟.
نحن اذا تصورنا، المجتمع الإسلامي على عهد النبي (ص) فلا يمكن أن نتصوره، بدون نظم اقتصادي، اذ لا يمكن أن يوجد مجتمع، بدون طريقة يتبناها، في تنظيم حياته الاقتصادية وتوزيع الثروة بين أفراده.
ولا يمكن ان نتصور النظام الاقتصادي، في مجتمع عصر النبوة، منفصلاً عن الإسلام، وعن النبي، بوصفه صاحب الرسالة الذي يتولي تطبيقها. فلا بد ان يكون النظام الاقتصادي، مأخوذاً منه، قولاً او فعلاً او تقريراً، أي مأخوذاً من نصوصه وأقواله أو من أفعاله، وطريقته للعمل الاجتماعي بوصفه رئيساً للدولة أو من تقريره لعرف سائد وقبوله به. وكل ذلك يسبغ على النظام الطابع الإسلامي.
المذهب يحتاج الى صياغة:
ونحن حين نقول، بوجود اقتصاد اسلامي، او مذهب
{188}
اقتصادي في الإسلام، لا نريد بذلك، اننا سوف نجد في النصوص بصورة مباشرة نفس النظريات الاساسية في المذهب الاقتصادي الإسلامي، بصيغها العامة. بل ان النصوص ومصادر التشريع، تتحفنا بمجموعة كبيرة من التشريعات، التي تنظم الحياة الاقتصادية وعلاقات الإنسان، بأخيه الإنسان، في مجالات انتاج الثروة وتوزيعها، وتداولها. كأحكام الإسلام، في احياء الاراضي والمعادن، وأحكامه في الاجارة والمضاربة والربا، وأحكامه في الزكاة والخمس، والخراج وبيت المال. وهذه المجموعة من الاحكام والتشريعات، اذا نسقت ودرست دراسة مقارنة بعضها ببعض، أمكن الوصول إلى أصولها والنظريات العامة التي تعبر عنها، ومن تلك النظريات نستخلص المذهب الاقتصادي في الإسلام.
فليس من الضروري، مثلاً، أن نجد في النصوص ومصادر الشريعة، صيغة عامة لتحديد مبدأ يقابل مبدأ الحرية الاقتصادية في المذهب الرأسمالي، أو يماثله. ولكننا نجد في تلك النصوص والمصادر، عدداً من التشريعات، التي يستنتج منها، موقف الإسلام من مبدأ الحرية الاقتصادية. ويعرف عن طريقها: ما هو المبدأ البديل له، من وجهة النظر الإسلامية.
فتحريم الإسلام للاستثمار الرأسمالي الربوي، وتحريمه تملك الارض بدون احياء وعمل، واعطاء ولي الأمر صلاحية الاشراف
{189}
على أثمان السلع، مثلاً كل ذلك، يكون فكرتنا، عن موقف الإسلام، من الحرية الاقتصادية، ويعكس المبدأ الإسلامي العام.
-
اخلاقية الاقتصاد الإسلامي:
قد يقال: ان الاقتصاد الذي تزعمون وجوده في الإسلام ليس مذهباً اقتصادياً، وانما هو في الحقيقة، تعاليم اخلاقية من شأن الدين ان يتقدم بها الى الناس، ويرغبهم في اتباعها. فالإسلام، كما أمر بالصدق والأمانة، وحث على الصبر وحسن الخلق، ونهى عن الغش والنميمة، كذلك، أمر بمعونة الفقراء ونهى عن الظلم، ورغب الأغنياء في مواساة البائسين، ونهاهم عن سلب حقوق الآخرين، وحذرهم من اكتساب الثروة، بطرق غير مشروعة، وفرض عبادة مالية، في جملة ما فرض من عبادات وهي الزكاة. اذ شرعها الى صف الصلاة والحج والصيام، تنويعاً لاساليب العبادة، وتأكيداً على ضرورة اعانة الفقير والإحسان اليه.
كل ذلك، قام به الإسلام، وفقاً لمنهج أخلاقي عام، ولا تعدو تلك الاوامر والنصائح والإرشادات، عن كونها تعاليم أخلاقية، تستهدف، تنمية الطاقات الخيرة في نفس الفرد المسلم والمزيد من شده الى ربه، والى أخيه الإنسان، ولا يعني ذلك
{190}
مذهباً اقتصادياً، على مستوى تنظيم شامل للمجتمع.
وبكلمة أخرى، أن التعاليم السابقة، ذات طابع فردي أخلاقي، هدفها اصلاح الفرد، وتنمية الخير فيه، وليست ذات طابع اجتماعي، تنظيمي، فالفرق بين تلك التعاليم، والمذهب الإقتصادي، هو الفرق بين واعظ يعتلي المنبر، فينصح الناس بالتراحم والتعاطف، ويحذرهم من الظلم والاساءة، والاعتداء على حقوق الآخرين، وبين مصلح اجتماعي، يضع تخطيطاً لنوع العلاقات، التي يجب أن تقام بين الناس، ويحدد الحقوق والواجبات.
وجوابنا على هذا كله: ان واقع الإسلام، وواقع الاقتصاد الإسلامي، لا يتفق اطلاقاً مع هذا التفسير، الذي ينزل بالاقتصاد الإسلامي عن مستوى مذهب، الى مستوى نصائح واوامر أخلاقية.
صحيح، ان الإتجاه الاخلاقي واضح، في كل التعاليم الإسلامية.
وصحيح، ان الإسلام، يحتوي على مجموعة ضخمة، من التعاليم والأوامر الاخلاقية، في كل مجالات الحياة، والسلوك البشري وفي المجال الإقتصادي خاصة.
وصحيح، ان الإسلام، حشد أروع الأساليب، لتنشئة الفرد المسلم على القيم الخلقية، وتنمية طاقاته الخيرة، وتحقيق المثل الكامل فيه.
{191}
ولكن هذا لا يعني، ان الإسلام، اقتصر على تربية الفرد خلقياً، وترك تنظيم المجتمع. ولا ان الإسلام، كان واعظاً للفرد، فحسب، ولم يكن الى جانب ذلك، مذهباً ونظاماً للمجتمع، في مختلف مجالات حياته، بما فيها حياته الإقتصادية.
ان الإسلام، لم ينه عن الظلم، ولم ينصح الناس بالعدل ولم يحذرهم من التجاوز على حقوق الآخرين، بدون ان يحدد مفاهيم الظلم والعدل، من وجهة نظره، ويحدد تلك الحقوق التي نهى عن تجاوزها.
ان الإسلام، لم يترك تلك المفاهيم، مفاهيم العدل والظلم والحق، غائمة غامضة، ولم يدع تفسيرها لغيره، كما يصنع الوعاظ الاخلاقيون. بل انه جاء بصورة محددة، للعدالة وقواعد عامة للتعايش بين الناس، في مجالات انتاج الثروة وتوزيعها وتداولها، واعتبر كل شذوذ وانحراف، عن هذه القواعد، وتلك الصورة، التي حددها للعدالة، ظلماً، وتجاوزاً على حقوق الآخرين.
وهذا هو الفارق، بين موقف الواعظ، وموقف المذهب الإقتصادي. فان الواعظ، ينصح بالعدل، ويحذر من الظلم ولكنه لا يضع مقاييس العدل والظلم، وانما يدع هذه المقاييس الى العرف العام المتبع، لدى الواعظ وسامعيه. واما المذهب الاقتصادي، فهو يحاول أن يضع هذه المقاييس، ويجسدها في
{192}
نظام اقتصادي، مخطط، ينظم مختلف الحقول الاقتصادية.
فلو ان الإسلام، جاء ليقول للناس، اتركو الظلم، وطبقوا العدل، ولا تعتدوا على الآخرين، وترك للناس، ان يحددوا معنى الظلم، ويضعوا الصورة التي تجسد العدل، ويتفقوا على نوع الحقوق التي يتطلبها العدل، وفقاً لظروفهم، وثقافتهم، وما يؤمنون به من قيم، وما يدركونه من مصالح وحاجات. لو أن الإسلام ترك كل هذا للناس، واقتصر على الامر بالعدل والترغيب فيه، والنهي عن الظلم والتحذير منه، بالاساليب التي يملكها الدين للاغراء والتخويف، لكان واعظاً فحسب.
ولكن الإسلام، حين قال للناس، اتركوا الظلم، وطبقوا العدل، قدم لهم في نفس الوقت، مفاهيمه عن العدل والظلم وميز بنفسه، الطريقة العادلة، في التوزيع والتداول والانتاج عن الطريقة الظالمة. فذكر مثلاً، ان تملك الارض بالقوة، وبدون احياء، ظلم، وان الاختصاص بها، على أساس العمل والاحياء، حق، وأن حصول رأس المال، على نصيب من الثروة المنتجة باسم فائدة، ظلم، وحصوله على ربح، عدل. الى كثير من الوان العلاقات، والسلوك، التي ميز فيها الإسلام بين الظلم والعدل.
وأما حث الإسلام للاغنياء، على مساعدة اخوانهم، وجيرانهم من الفقراء، فهو صحيح، ولكن الإسلام، لم يكتف بهذا الحث
{193}
وهذه التربية الخلقية، للاغنياء. بل فرض، على الدولة، ضمان المعوزين، وتوفير الحياة الكريمة لهم، فرضاً يدخل في صلب النظام، الذي ينظم العلاقات، بين الراعي والرعية. ففي الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، انه ذكر، وهو يحدد مسؤولية الوالي في أموال الزكاة: ان الوالي، يأخذ المال، فيوجهه الوجه الذي وجه الله على ثمانية أسهم، للفقراء والمساكين... يقسمها بينهم، بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق ولا تقية. فان فضل من ذلك شيء، رد الى الوالي، وان نقص من ذلك شيء، ولم يكتفوا به، كان على الوالي ان يمونهم من عنده، بقدر سعتهم، حتى يستغنوا.
وواضح، في هذا النص، ان فكرة الضمان، وضرورة توفير الحياة الكريمة للجميع، ليست هنا فكرة وعظية، وانما هي، من مسؤوليات الوالي في الإسلام. وبذلك، تدخل في صلب تنظيم المجتمع، وتعبر عن جانب، من جوانب، التصميم الإسلامي للحياة الاقتصادية.
ان هناك، فرقاً كبيراً بين النص المأثور، القائل، ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع وهذا النص الذي يقول: كان على الوالي، أن يمونهم من عنده، بقدر سعتهم حتى يستغنوا. فالأول ذو طابع وعظي، وهو يبرز الجانب الاخلاقي، من التعاليم الإسلامية. واما الثاني، فطابعه تنظيمي
{194}
ويعكس ، لأجل ذلك، جانباً من النظام الإسلامي. ولا يمكن أن يفسر، إلاّ بوصفه جزءاً من منهج اسلامي، عام للمجتمع.
والزكاة هي عبادة، من أهم العبادات، الى صف الصلاة والصيام، لا شك في ذلك. ولكن اطارها العبادي، لا يكفي للبرهنة على انها ليست ذات مضمون اقتصادي، وانها لا تعبر عن وجود تنظيم اجتماعي، للحياة الإقتصادية في الإسلام.
ان ربط الزكاة، بولي الامر، واعتبارها أداة يستعين بها على تحقيق الضمان الإجتماعي، في المجتمع الإسلامي، ـ كما رأينا في النص السابق ـ هو وحده، يكفي، لتمييز الزكاة، عن سائر العبادات الشخصية، والتدليل على انها ليست مجرد عبادة فردية، وتمرين خلقي، للغني على الإحسان الى الفقير، وانما هي على مستوى تنظيم اجتماعي، لحياة الناس.
أضف الى ذلك، أن نفس التصميم التشريعي، لفريضة الزكاة، يعبر عن وجهة مذهبية، عامة للإسلام. فان نصوص الزكاة، دلت على انها تعطى للمعوزين، حتى يلتحقوا بالمستوى العام للمعيشة. وهذا يدل، على ان الزكاة، جزء من مخطط اسلامي عام، لايجاد التوازن، وتحقيق مستوى عام، موحد من المعيشة، في المجتمع الإسلامي. ومن الواضح، ان التخطيط المتوازن، ليس وعظاً، وانما هو فكر تنظيمي، على مستوى مذهب اقتصادي.
-
ماذا ينقص الاقتصاد الإسلامي عن غيره؟
وأنا لا ادري، لماذا يسخو المنكرون للاقتصاد الإسلامي بلقب المذهب الإقتصادي، على الرأسمالية والاشتراكية، ثمّ لا يمنحون هذا اللقب، للاقتصاد الإسلامي، بل يجعلونه مجموعة من التعاليم الاخلاقية.
فمن حقنا، أن نتساءل: بم استحقت الرأسمالية او الاشتراكية أن تكون مذهباً اقتصادياً، دون الإقتصاد الإسلامي؟.
اننا نلاحظ، ان الإسلام، عالج نفس الموضوعات التي عالجتها الرأسمالية، مثلاً، وعلى نفس المستوى، وأعطى فيها أحكاماً، من وجهة نظره الخاصة، تختلف عن وجهة النظر الرأسمالية، فلا مبرر للتفرقة بينهما، او للقول، بأن الرأسمالية مذهب، وليس في الإسلام، إلاّ المواعظ والاخلاق.
ولنوضح ذلك، في مثالين، لنبرهن، على ان الإسلام أعطى آراءه، على نفس المستوى الذي عالجته المذاهب الإقتصادية.
والمثال الاول: يتعلق بالملكية، وهي المحور الرئيسي للاختلاف بين المذاهب الإقتصادية. فان الرأسمالية، ترى ان الملكية الخاصة، هي المبدأ، وليست الملكية العامة إلاّ استثناء.
{196}
بمعنى ان كل نوع من أنواع الثروة، ومرافق الطبيعة، يسمح بتملكه ملكية خاصة، مالم تحتم ضرورة معينة، تأميمه واخراجه عن حقل الملكية الخاصة. والماركسية، ترى ان الملكية العامة، هي الاصل والمبدأ، ولا يسمح بالملكية الخاصة لأي نوع من أنواع الثروة الطبيعية، والمصادر المنتجة، ما لم توجد ضرورة معينة، تفرض ذلك. فيسمح بالملكية الخاصة عندئذ، في حدود تلك الضرورة، وما دامت قائمة.
والإسلام، يختلف عن كل من المذهبين، في طريقة علاجه للموضوع، فهو ينادي بمبدأ الملكية المزدوجة، أي ذات الأشكال المتنوعة. ويرى ان الملكية العامة، والملكية الخاصة، شكلان أصيلان للملكية، في مستوى واحد، ولكل من الشكلين حقله الخاص.
أفليس هذا الموقف الإسلامي، يعبر عن وجهة نظر اسلامية على مستوى المدلول المذهبي، للموقف الرأسمالي والموقف الاشتراكي؟ فلماذا يكون مبدأ الملكية الخاصة، ركناً من أركان المذهب الرأسمالي، ويكون مبدأ الملكية العامة، ركناً في المذهب الاشتراكي الماركسي، ولا يكون مبدأ الملكية المزدوجة، ـ أي ذات الشكل العام والخاص ـ، ركناً في مذهب اقتصادي اسلامي؟
والمثال الثاني: يتعلق بالكسب، القائم على أساس ملكية
{197}
مصادر الانتاج. فان الرأسمالية تجيز هذا الكسب. بمختلف ألوانه، فكل من يملك مصدراً من مصادر الانتاج، له أن يؤجره ويحصل على كسب، عن طريق الاجور التي يتقاضاها، بدون عمل. والاشتراكية الماركسية، تحرم كل لون من الوان الكسب القائم على أساس ملكية مصادر الانتاج، لانه كسب بدون عمل.
فالاجرة، التي يتقاضاها صاحب الطاحونة، ممن يستأجر طاحونته، والاجرة التي يتقاضاها الرأسمالي، باسم فائدة ممن يقترض منه، غير مشروعة في الاشتراكية الماركسية، بينما هي مشروعة في الرأسمالية.
والإسلام، يعالج نفس الموضوع، من وجهة نظر ثالثة فيميز بين بعض الوان الكسب، القائم على أساس ملكية مصادر الانتاج، وبعضها الآخر. فيحرم الفائدة مثلاً، ويسمح باجرة الطاحونة.
فالرأسمالية، اذن، تسمح بالفائدة، وباجرة الطاحونة معاً، تجاوباً مع مبدأ الحرية الاقتصادية.
والاشتراكية الماركسية، لا تسمح للرأسمالي، بأخذ الفائدة على القرض، ولا لصاحب الطاحونة، بالحصول على اجور، لأن العمل، هو المبرر الوحيد للكسب، والرأسمالي، حين يقرض
{198}
مالاً، وصاحب الطاحونة، حين يؤجر طاحونته، لا يعمل شيئاً.
والإسلام، لا يأذن للرأسمالي، بتقاضي الفائدة، ويسمح لصاحب الطاحونة، بالاكتساب عن ايجارها، وفقاً، لنظريته العامة في التوزيع، التي سوف نشرحها في الاعداد المقبلة بإذن الله تعالى.
مواقف ثلاثة مختلفة، تبعاً لاختلاف وجهات النظر العامة في التوزيع.
فلماذا يوصف الموقف الرأسمالي والماركسي، بالطابع المذهبي ولا يقال ذلك، عن الموقف الإسلامي؟ مع أنه يعبر عن وجهة نظر مذهب اقتصادي ثالث، يختلف عن كل من المذهبين.
.........................
إنتهى بعون الله
-
-
-
نعم ايها الاعزاء ان محمد باقر الصدر هو صرحا من العلم وان العراقي ليفخر ان يكون محمد باقر الصدر عراقيا بل ان المسلم ليفخر ان محمد باقر من الاسلام .
اجل واللة ان مثل محمد باقر الصدر ليس عاديا بل انة فيلسوفا وعارفا وعالما.
واقول للاسف اخوتي ان الكثير جعل من اسم هذا الفيلسوف هو سلما يرتقون بة الى مصالحهم واغراضهم الشخصية .
ولكن تبا لكل لكل من يقول ان محمد باقر الصدر لايفضح هولاء نعم ان كل من يضع اسمة مع الشهيد الصدر لاجل مصالحة لابد من ان يكشف وتبان اللعوبتة لان محمد باقر الصدر شديد اللمعان لايقبل بالغبار فما بالك بالسواد....
اللهم وفقنا لكي نبقا سائرين على طريق وخطى باقر الصدر
-
السلام عليكم
أحسنتما العقيلي والمسيباوي على النقل الموفق وبارك الله فيكما , وسيظل السيد الشهيد الصدر خالداً مدى الدهر والعصور يستظل بعلمه الأخاذ الفذ كل مؤمن ومؤمنة .