-
أضحوكة العالم المثالي - رحلة الضحايا والمظلومين في عهد الطاغيه صدام
FF0000أضحوكة العالم المثالي - رواية / 1
كتابات - حسين كاظم الزاملي
قصة السجين العراقي في عهد صدام
الإهداء
إلى كل من عرف ( ملك الرعب في بغداد) ... وقال له (كلا) وتحمل أعباء ذلك.
إلى خديجة .....
عزيزتي : موضوعية الأشياء كنت أعرفها ولا زلت أتذكر شيئا منها إلا إنني وجدت نفسي في عالم لا أفهم منه أي شيء ، أبدا لا أفهم منه أي شيء ، سوى إن صورتك وكلماتك القديمة جدا والمتجددة في كياني تدفعني في مواصلة الطريق ، لكم تمنيت أن أراك حتى أخبرك عن مرارة تلك السنين ووحشة الطريق ومأساة ذلك الزمن الذي لا أعرفه.
التوقيع
إبراهيم رشاد
الفصل الأول .....
ـ 1ـ
هو هكذا في ساعات الصباح الأولى كأنه الزعيم المنتصر في تلك الدروب المضاءة بقناديل الانتصار الأخير والمتعبة جدا من مراقبة الطريق.
هكذا بدا السيد يوسف شمران في هذا الصباح ، وكل صباح مضى من كل أسبوع يجري تدريباته المكثفة في الساحة التي استحدثت أخيرا ، الساحة القديمة والتي كانت تسمى ( ساحة التحدي ) تبعثرت بعد أن بني في مكانها غرف لا يعرف ما بداخلها ، لباسه الشخصي كان دوما يثير بعض التساؤلات خاصة من أولئك الجنود الجدد والذين كانوا يجهلون واقع تلك الغرف البعيدة جدا و ماذا يمكن أن تضم ، لهذا تراهم يقضون معظم أوقات فراغهم في صراع مع تصوراتهم المضطربة حول ماذا يجري هناك ، ولأنهم مستجدون تماما سيحتاجون قليلا من الوقت حتى يفهموا بقية الأشياء المنتشرة هنا وهناك ، إلا في هذه الساعات فأن بدلته العسكرية تقتل موجة التساؤلات تلك والتي تشبه إلى حد بعيد رائحة الباذنجان المقلي حينما يبث من أماكن الطبخ الأخيرة ، قبعته الحمراء أخذت مكانها فوق رأسه المتخم من طوابير الأمنيات ومجاميع الأحلام وموهبة الابتكارات الجديدة في سحب المعلومات و التي يرتعد منها المنتظرون هناك أي في تلك الغرف البعيدة جدا عن مركز القرار.
هذه القبعة مخصصة ضمن القانون العسكري هنا إلى فن التدريب الأسبوعي الصباحي ، ومع أن الشمس ما زالت حتى هذه اللحظة الحرجة في مسار التدريب مختفية بخيمة الأفق البعيد ، إلا أن السيد شمران تراه وقد وضع نظارته السوداء على عينيه المليئتين بتطلعات المستقبل الغامض لديه ، ربما وضعها لتحجب عن عينيه الزرقاويتين بعض الأتربة التي تثار من هرولة الحرس الخاص والذي كان يصرخ بكلمات كلها تؤكد أن لا هروب من هذا الصرح وأن الجميع فداء للسيد الرئيس.
قديما جدا أي حينما كان البريطانيون هنا ، كانت إنارة الصرح تنتج من مولدات بيركنز العملاقة ، كان منها ما هو مخصص لليل ومنها ما خصص للنهار ، اليوم الإنارة مركزية تصل إلى الصرح عبر خط كهربائي عملاق هو بحاجة إلى صيانة من اجل أن يبقى يغذي الصرح بما يحتاجه من كهرباء، إما تلك المولدات فأنها ظلت مرمية هناك كقطعة تاريخية تذكر الجدد ، أي الضباط الكبار أو الصغار ، وليس السجناء لأن السجناء لا يتسنى لهم ان يروا تلك المولدات كونها في زاوية لا تصل إليها أعين المارة من السجناء الذين يخرجون لأي سبب كان ، عموما تذكر الجدد ان البريطانيين هم أول من وضع أقدامه هنا وانشأ تلك الغرف الغامضة ، الإنارة تلك موزعة بشكل دقيق ومدروس على جميع الأبراج خاصة عند أبراج المراقبة الداخلية أو الخارجية.
في أيام الحروب الطويلة ، وحينما كان الطيران المعادي للسيد الرئيس يجوب السماء باحثا عن أهدافه كان هنالك من يأمر بإطفاء تلك المصابيح تحسبا لكل شيء.
يوسف ومنذ أن أتى أي قبل سبعة أعوام كانت أوامره تمتاز بالشدة والصرامة خاصة حينما يتعلق الأمر بتمارين تعقب الهاربين من هذا الصرح الرهيب .
هذا الرجل العنيد يتناسى دوما أن إمكانية الهروب مستحيلة ، فهو يؤكد في محضر اللقاءات الصباحية بل وحتى المسائية على ضرورة إتقان تمارين تعقب الهاربين .
ــ علينا أن نكون على أتم استعداد لتعقب هؤلاء المجرمين ، إنكم أمام تحدي جاد وهو أبقاء هؤلاء الأعداء ، أعداء السيد الرئيس في تلك الزنزانات أنها مهمة كبيرة إذا علينا أن نتقن ذلك.
ــ نعم سيدي ... عاش القائد عاش القائد عاش القائد.
هكذا كانوا يصرخون ودوما هذا جوابهم على كلمات السيد شمران ، حينما تشاهد تلك السرايا من بعيد تقسم أنها لن تهزم أبدا في يوم ما ، كان الجميع مثابرا تماما مثلما يثابر المرء في بناء بيته ، كانوا يصرخون دوما عاش القائد عاش القائد.
طيلة ذلك الزمن الممتد لم تحدث أي عملية هروب ، البعض يتحدث عن هروب مبرمج قام به بعض السجناء بمساعدة اثنين من الحرس ألا أن سجلات الصرح لم توثق ذلك ، قبل سنوات اعدم يوسف اثنين من الحرس وأكد للداخلية يومها عن استحالة أي هروب وبعد شهرين وجد الحرس ست جثث متعفنة في وادي منعزل وهناك من يسميه بوادي الفقير وهو وادي يبعد ستون كيلو مترا عن الصرح تنتشر فيه أدغال العاقول بكثافة وقد أكلت الذئاب منها الشيء الكثير ولم يبق إلا ما يدل على كونهم سجناء فروا بلحظة ضاحكة على أقدارهم.
الصرح هذا عبارة عن نقطة ضائعة في بحر مترامي الإطراف من الرمال والتلال والعواصف الرملية ، في بعض الأحيان تصل المؤن الغذائية عن طريق المروحيات ، أحيانا بواسطة (مي 8) وأحيانا بواسطة ( السوبر فرليون ) ولكن في معظم الأحيان عن طريق البر وعبر ثلاثة طرق ترابية طويلة ومتعرجة ومؤمنة من قبل وحدات عسكرية متنقلة ، حيث كلفت عشرة شاحنات عملاقة من نوع مرسيدس و فآلفو تابعة ملكيتها لوالد زوجة السيد الرئيس والذي يطلقون عليه في كل مكان (الحاج) ، وهي مكلفة بإيصال ما يحتاجه الصرح من مواد ، أربع منها خصصت لنقل السجناء وتمتاز عن غيرها ببعض المواصفات ، مثلا هناك حلقات مثبته في أرضية الشاحنة تشبه القيد يقيد فيه السجناء حينما ينقلون.
أقرب نقطة يمكن أن تسكن من قبل تلك الحشود البائسة ( كما راق للشاعر الايرلندي وليم هوت والمودع في أحدى زنزانات سجن الجالية أن يسميهم ) هي مائتان وعشرون كيلو متر تقريبا عن مقدمات الصرح والتي هي متشعبة وكثيفة .
في عهد السيد شمران المدير الرسمي لهذا الصرح تشاهد أن السجناء ما عادوا يحلمون في الهروب ، يحلمون وليس يفكرون ، إذ أن مجرد التفكير في الهروب يجعل من السجين يواجه سخرية من أصحابة إذ عليه ان يقطع مئة كيلو هرولة دون ماء ودون أي إعانة من أي شخص وعليه ان يجتاز خطوط الحماية العسكرية المنتشرة على بعد خمسة وعشرون كيلوا وبشكل مستدير ، في هذا العهد تلاحظ ان الوفيات كثيرة وكثيرة جدا ، طيلة الأعوام السبع التي انتهت حدث ما يقارب على عشرة ألاف ومئتي حالة من حالات الوفاة ، وفيات السيد شمران تختلف كثيرا عن سابقيه ، لقد جعل السجناء يحنون إلى الماضين من الذين تولوا هذا السجن قبل شمران ولكم تمنوا أن يعودوا .
الجثث هنا ترمى دوما في شقوق كبيرة حفرت من قبل السجناء وكانوا يجهلون وهم يحفرونها صيفا أو شتاءا إنها ستضم يوما ما أشلائهم المتعبة ، أبدا لم يخطر ببالهم وهم يحفرون أنهم يحفرون قبروهم التي ستضم أشلائهم المتخمة من أثار التحقيق ، هناك وعلى المرأى البعيد بنيت المحرقة ، تراها وكأنها قطعة من القديم ، القديم جدا ، أحيانا تكون الوفاة نتيجة تسمم في الغذاء والذي يرمى لهم بوجبات قلقة ، أكبر حالة رصدت ويمكن لك أن تقرأها في سجلات الصرح هي تلك التي راح ضحيتها ألفان ومئتان وأربعة من ذوي القضايا المهمة على حد ما يسمونها هنا، اللجنة الطبية التي كان يقودها يوم ذاك الدكتور جوزيف نمرود عالجت عشر حالات فقط وتركت البقية مكدسين بعربات الموتى يدفعها بعض السجناء الذين يمتازون عن غيرهم بقضايا لا تمس السيد الرئيس وعائلته بأي صلة ولترمى في الشقوق البعيدة.
يوسف أنزعج من ذلك الحدث وقرر أن يقطع مرتب الدكتور نمرود لشهريين متتاليين .
- لقد تماديت كثيرا جوزيف ، لماذا لم تعالجهم بسرعة ؟.
- سيدي العدد كثير ثم أن هنالك نقص في المواد الطبية وقد أبلغت سيادتكم عن ذلك قبل شهر في طلب سلمته لمدير مكتبكم ثم أن هذه الحالة ذات ...
- هذا يكفى أذهب .
يتبع..
-
أضحوكة العالم المثالي - رواية /2
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح2
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
في بعض الحالات تكون الوفاة بسبب التدهور الصحي الناتج عن تفشي أمراض خطيرة مثل تصلب شرايين القلب أوالتهابات المعدة الحادة أوقرحة الأثني عشري والسكري وفقر الدم أو التيفوئيد وأمراض ألكلى والربو أو التدرن الحاد والجرب وأمراض السعال والانتحار والتي هي قليلة جدا إلا أن معظم الوفيات تكون من برامج التدريب المركز والتي تُخصص لتدريب الحماية المركزية للسيد الرئيس وكذلك حماية أفراد العائلة الحاكمة ، حيث يؤتى بهم إلى هنا ليتقنوا فن الرماية على الأهداف المتحركة ، وكان السيد شمران يخرج بعض السجناء ويأمرهم بالركض إلى نقطة ما يحددها لهم زاعما أن الثلاثة الذين يصلون أولا سيطلق سراحهم ثم يوجه حماية السيد الرئيس ممن هم تحت التدريب بنادقهم بأوضاع مختلفة على أولئك السجناء الذين يهرعون بكل ما أوتوا من قوة ليصلوا إلى خط النهاية حيث يتوقف الرمي عليهم ، الذين كانوا يهرعون بكل ما أوتوا من قوة ليس لديهم أي تجربة في هذا المجال أي أنهم لم يخرجوا من قبل إلى هذا التمرين القاتل ، في المرة القادمة سيموت لديهم ذلك السؤال الذي كان يضج بأعماقهم وهم يهرعون وهو لماذا هؤلاء الشيبة يتباطئون في الركض ، في المرة القادمة سيكونون كذلك هناك قول من الذين خرجوا أربعة مرات في هذا المسلسل ولم يموتوا ، وهي خبرة لا يستهان بها أبدا ، يقولون إن الحرس يستهدف من يركض بسرعة ، وأمام هؤلاء بقيت مرة واحدة حتى يحصلوا على ألامان الرئاسي ، الذي يخرج خمسة مرات ولم يمت سوف لن يرى الأهداف المتحركة بعد ذلك ، لن يرى ذلك أبدا ، هكذا كانت توجيهات نجل السيد الرئيس الأكبر حينما زار الصرح قبل أعوام وأراد أن يرى السجناء وهي كلمة تعني في عرف السيد شمران إنه يريد أن يتدرب على السجناء وهم يهرعون في الساحة الكبيرة ذات الشواخص الكثيرة
ــ أمرك سيدي سوف أخرج لك مجوعة لتراها .
كان يضحك بينما راح مساعد شمران يخرج له أعدادا لا بأس بها ليسدد عليهم وهم يركضون من هذا المكان إلى ذلك المكان ، يومها قال للسيد شمران ذلك القرار.
ــ أي سجين يخرج خمس مرات ولا يصاب، لا تخرجوه إلى الرمي بعد ذلك وله ألامان من الرمي إنه أمر.
ــ أمرك سيدي سينفذ من الآن.
وكان شمران يسمي ذلك العمل ببرنامج الأهداف المتحركة وهو مصطلح خاص بيوسف ولم يثبت في مصطلحات الداخلية الكثيرة والمتشعبة ، الذين لم يقتلهم رصاص الحماية يرجعونهم الحرس بأهازيج وهتافات تحي السيد الرئيس ، في معظم الحالات يعودون بهم إلى غير زنزاناتهم التي أخرجوهم منها أول مرة ، هذه العمليات واختيار الأهداف المتحركة من الزنزانات يشرف عليها المقدم قحطان ، وهذا لا يكون إلا حينما تكون هنالك وجبة حماية جديدة أو تنشيط وجبة حماية قديمة أو أعادت تدريب وجبة لم يقتنع الضباط الكبار بأدائهم ، حينها يأتون بهم إلى هنا من اجل إتقان عملية التصويب على الأهداف المتحركة.
يوسف هذا يمتاز إضافة إلى تلك المميزات القاهرة بوسامة وجهه خاصة حينما يكون في ساعات هدوئه وهو يشرب الكلاريت الفرنسي، كان يمتاز بطول فارع وعينين حادتين وخبرة لا بأس بها في مضمار الحرب النفسية.
الحقيقة إن السيد شمران لم يدرس ذلك العلم ولا تسنى له أن يقرأ كراس مهني صغير، هو يعتقد أن له أسلوبه الخاص والذي أخذه من الواقع والعمل المتواصل وهو يرى أن أسلوبه في تطور، كان يعمل قبل ذلك المنصب ضابطا أمنيا كبيرا في سفارة الحكومة في كوبا وقد لعب دورا مهما في تصفية بعض الناشطين من أعداء السيد الرئيس قبل التحاقه بكوبا ، ألا أن خلافه مع أحدى عشيقات الابن الأكبر للرئيس أوصله إلى هذا المكان البعيد جدا عن ليالي العاصمة الحمراء ، قبل ثلاثة أيام دخل في السنة الخامسة والأربعين من عمره ولم يحتفل بذلك اليوم لأنه لم يكن يعلم بذلك ، ومع كون التدريب أسبوعي وليس يومي ألا إن طرقه مزعجة ولكن لا مناص من التسليم بذلك ، فالجلوس وحسب أوامر شمران الأخيرة يجب أن يكون قبل الشروق بساعة حيث برنامج التدريب الرياضي الذي يستمر عادة حتى احمرار الأفق ، عندها تكون هنالك استراحة لمدة ساعة يتسنى من خلالها للجميع أن يتناولوا إفطارهم الصباحي ، بعدها تبدأ تمارين حماية السجن حيث يوزع الجميع إلى سرايا وصفوف يستمر هذا إلى أربعة ساعات في أسوء حالاته .
السيد شمران هو الشخص الوحيد الذي يتمتع بصلاحيات إنهاء وقت التدريب الأسبوعي وكعادته يومأ بعصاه أشارة منه لإنهاء تدريبات هذا السبت ألا أنه يشدد على معاونه رجب غالي في زيادة الحراسات الأمامية.
ــ عليك بزيادة تواجد الحرس في البوابة الأمامية والمدرج وبلغ الجميع أن يكون في زيهم العسكري وحتى الذين ليس لديهم واجب فربما يزورنا رجل مهم هذا الصباح ، مفهوم.؟
ــ نعم سيدي .
هذا ليس ادعاء من السيد شمران فقبل قليل وصلت رسالة عبر جهاز اللاسلكيي وبلغة مشفرة تخبر السيد شمران عن قدوم صقر كبير ونزوله في الصرح ، الزيارات نادرة هنا فقد مضت ثلاثة أعوام دون أن يأتي مسؤول مهم لهذا ترى السيد شمران أخفى هواجسه ومخاوفه وهو يكلم رجب وربما تذكر خلافه مع السمراء رابية العشيقة الأولى لنجل السيد الرئيس ، وأيا كان المسؤول وما يحمله فقد استعد السيد شمران لما هو مزعج وحزين.
الساعة الأولى ما بعد التدريب والإفطار يقضيها السيد شمران بتفقد الزنازين ، هذه الفقرة ذات طابع روتيني فالسيد شمران يحتاج إلى أربعة ساعات متواصلة حتى يتسنى له أن يمر على كل الزنزانات والمحاجر في موقع واحد من تلك المواقع الكثيرة والمنتشر كانتشار أزهار الأقحوان هنا والذي يفضي على هذه الآفاق المخيفة رائحة تشبه إلى حد بعيد رائحة الكافور ولطالما ذكرت السجناء بالموت ، وكان يوسف دوما يحتوي طلبات السجناء بالصياح والضرب ، حتى انه في الآونة الأخيرة ما عاد هنالك من يتكلم أو يطلب شيئا من شمران ، ذات يوم صرخ بالسجناء.
ــ لماذا لا تتكلمون أيها الحمقى مرة سبعة أشهر ولم أسمع طلب واحد يثير اهتمامي هيا تكلموا ما تريدون مني.
كان دوما يتكلم بهذا وذاك وكان يفشر كثيرا على السجناء ، كان يذكرهم بتلك الكلمات النابية جدا انه لا مجال للهروب وان نهايتهم ستكون هنا وكالعادة لا يوجد حرف واحد يعانق شفاههم المتيبسة ، أخر مرة أستمع بها السيد شمران كانت لسجين يشكو آلاما في ضرسه.
ــ سيدي أن ضرسي يؤلمني ولي شهر على ذلك وكنت أنتظر زيارتك هذه.
كان أسمه جعفر ومضى على خروجه من الانفرادي أسبوع فقط ، ولم يكن الانفرادي الذي خرج منه جعفر هو ذاك الذي يراه السجين حينما يدخل أول مرة وعمره عام ، أبدا لم يكن ذلك الانفرادي ، إنما كان عقوبة لأن أحدهم أتهمه انه كتب على الجدار كلمة نابية بحق ابنة الرئيس وحينما أرادوا أن يقرءوا الكتابة لم يستطيعوا ، لقد كانت حروفا متقطعة لا يفهم منها أي شيء ، دخل الانفرادي عاما كاملا لأن الحرس ظن انه كتب على الجدار كلمات تسيء إلى عائلة السيد الرئيس وكان قد مضى عليه وهو في الصرح سبعة أعوام ، قال يوسف وهو يضحك.
ــ رجب حاولوا معه إن ضرسه يؤلمه .
ــ أمرك سيدي سنحاول معه.
ألا أن رجب غالي لم يمر عليه كما وأن السجين ذاك استراح هو الأخر من آلام ضرسه بعد عشرون يوما من حديثه مع السيد شمران في مسلسل الأهداف المتحركة ، أصابته أربعة أطلاقات في ظهره وكان قد صوبها عليه شاب صغير يدعى باسل ما زال تحت التدريب حيث كُلف وبعض الجند لحماية ابنة الرئيس الصغرى وهي تتجول في شوارع بغداد آو المناطق السياحية الأخرى.
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح3
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح3
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
كان السيد شمران دوما ينظر إلى السجناء من خلال الفتحة الصغيرة في باب الزنزانة واضعا منديلا على أنفه ليتجنب الرائحة النتنة جدا والمنبعثة من الزنازين ، كانت مساحة الغرفة الواحدة تبلغ ثلاثة أمتار في مترين يقطع منها متر كمكان لرمي الغائط وهو عبارة عن مرحاض صغير مستور بجدار على نحو المتر والنصف ارتفاعا ، وهناك حنفية بلاستكية بيضاء إذا تعطلت يصعب إصلاحها ولابد من تبديلها وهذا ما يحتاج إلى وقت طويل والى مطالبة جادة قد تستمر أربعة أشهر ، لذلك تشاهد أن السجناء كانوا يحرصون على سلامتها أكثر من أرواحهم.
بني هذا السجن الكبير أو الصرح على حد تسميات الحكومة قبل سبعين عاما وبالتحديد في أوج الاحتلال ( الكولونيالي ) للبلاد وتسيده على كل شيء ، كان هدفه تحجيم دور المعترضين على الوجود السياسي البريطاني ، يومها كان المعترضون ينتمون إلى جهات وطنية يقودها دينيون أو تجار أو أساتذة جامعيون وكانت تتمتع حركاتهم بأسماء كثيرة ، حينما اندلعت ثورة تموز في البلاد كان الصرح يضم شرذمة الأفكار المنحرفة والمتطفلة على الديمقراطية على حد مزاعم الحكومة والتي كان يقودها يوم ذاك رجل عسكري حكم البلاد سنوات قليلة في أعقاب تلاشي الدور الملكي ويكن له البعض ولا سيما المزارعون وضعفاء الناس في الجنوب حبا شديدا ويحفظون شيئا من كلماته والتي كانت تبث عبر المذياع ، يقولون انه قال ذات يوم ( أنا أخر عراقي يشتري بيت) كما وينسبون إليه انه ذات مرة دخل إلى شارع الخبازين فرأى خبازا قد علق صورته وكانت كبيرة جدا ولما نظر إلى الرغيف رآه صغيرا جدا فقال له ( صغر الصورة وكبر الرغيف ) وهناك أحاديث كثيرة يتكلم عنها الناس.
مجيء البعث وتسيده في البلاد عنى أشياء سيئة كثيرة وكثيرة جدا ولكن ليس لأولئك الذين افترشوا أرصفة العاصمة حيث العتمة وممنوع الوقوف بدأت تدب في كل مكان ببطء شديد ، ليس لأولئك الذين افترشوا الأرصفة يبتاعون أي شيء ليسدوا به حاجاتهم أمثال الكتب القديمة والمجلات المبتذلة وصور لممثلات عربيات وأجنبيات أجسامهن شبه عارية ويتهافت عليها المراهقون ليعلقوها بأماكن عملهم وهم ينظرون إليها كل لحظة ، ولا لأولئك الذين وقفوا طوابير بائسة أمام ملهى كوكب الشرق أو خمس نجوم أو الصباح ينتظرون أن تفتح الأبواب ليتأملوا في الساقين النحيفتين للراقصة سوزان أو الممتلئتان جدا للراقصة ربى و لا لؤلئك الذين يتسكعون في شارع أبي نؤاس يأخذهم الشروق ويأتي بهم الغروب ضربا في الأحلام المريضة ولا لؤلئك الذين يضربون بشق الأنفس في الأراضي الوعرة في الجنوب من أجل أن تنتج شيئا وهي تأبى ذلك ، هؤلاء كلهم ودون أن يشعروا سيكون عليهم لزاما أن يدفعوا ضريبة هذا التسلل الأخير والمخيف جدا والذي ولد وهم في غفلة منه ، سيحاولون لا حقا أن يجدوا ملاذا من سطوت الأيام القادمة وعبث الأقدار، سيحاولون طويلا ولكن أخيرا سيكون عليهم التسليم بما يريده السيد الرئيس ، ليس لهؤلاء تماما بل لأولئك الذين أدركوا إن هذا التحول السريع سيكلف البلاد كثيرا وسيجعلها تعيش أسوء اللحظات والسنين.
من الأشياء الأولى التي طرحتها ثورة البعث هي ترميم هذا الصرح وتوسيعه بحيث بات السجن القديم مخزنا للأطعمة ومكان يوضع فيه الفراش المستهلك وهناك مكان خصص للذخيرة .
( الصرح الكبير متشعب في واقعه وغامض في كل أماكنه) هذا أول ما تقوله في نفسك وأنت تنظر إلى الصرح من قريب ، هو يحتوي على مئات من الغرف والممتدة على شكل ممرات ضيقة جدا وهناك ممرات أكثر سعة ، منها ما تراه حين تحلق السوبر فرليون ومنها ما هو تحت الأرض ، هنالك رأي تقليدي شائع لدى الحرس وحتى الضباط وهو أن السيد شمران هو الرجل الوحيد الذي يعرف كل ما يدور في هذا المكان الغامض والمنعزل .
البوابة في كل الغرف أو الزنازين متشابهة ، فهي عبارة عن قطعة حديدية سميكة حمراء اللون وضعت في أعلاها بوابة متحركة بحجم ثلاثين سنتيمترا وهي مقفلة في كل الأوقات إلا حينما ترمى وجبات الطعام من خلالها وقد يستمر غلقها عامان كعقوبة على أي شيء لم يعجب الحرس ، حينما تفتح فأن السجين يمكن أن يرى سجينا أخر ويكلمه في الزنزانات المقابلة ولكن في مثل هذه الحالة علية أن يتحمل أوزار ذلك العمل الخطير ، فأن عقوبة ذلك وحسب توجيهات السيد شمران الأخيرة هي أن يعلق المتحدثان خمسة اشهر من أقدامهم ويكون رأسيهما إلى الأسفل بحيث كلما مر الحرس ركلوهما بأقدامهم حتى يموتا ، ومع أن شمران صرخ بذلك في يوم ما وكان في غضب شديد إذ أنه رجع من إعدام زنزانتين قيل له إن السجناء كانوا مضربون عن الطعام ، وفي الواقع لم يكن الجميع مضربا عن الطعام ، نعم هناك ثلاثة امتنعوا عن الأكل ولما كلم يوسف السجناء بشي من الشتم وسيل من الكلمات النابية صرخ به احد السجناء وشتمه وكان ذلك السجين وأسمه عصام مصابا بهستريا منذ شهرين تقريبا ، حينها أمر يوسف شمران بإخراج الزنزانتين وإعدام السجناء وكان عددهم تسعة ، ومع هذا كله فأنه لم يتفق أن سجينا علق خمسة اشهر ولا حتى ثلاثة اشهرلأنه تحدث مع سجين أخر عبر البوابة المتحركة ، نعم هنالك من عُُلق أياما، ، أياما فقط ولكن النتيجة واحدة في نهاية المطاف وهي أن يموت السجناء المعلقون من أقدامهم ، وكثيرون هم الذين ماتوا جراء ذلك.
أكثر الغرف خطورة ومحط عناية السيد شمران هي تلك التي تقع في وسط الصرح ويطلقون عليها غرف الموت ، القوانين التي شرعها السيد شمران في حقهم لا بأس بها على حد قوله.
ــ لا يمكن لأي أحد من هؤلاء الجبناء أن ينتقل إلى الغرف الجَماعية إلا بعد أن يقضي سنة كاملة في زنزانة انفرادية ، هذا في اعتقادي لا بأس به .
في هذا الصباح ، وكل صباح مضى ينتشر بعض السجناء لتنظيف ممرات غرف القيادة وبيوت الضباط والحرس ، هؤلاء السجناء ليسوا من أصحاب القضايا المهمة والخطيرة وهم من المناطق الموالية للسيد الرئيس لذلك ترى السيد شمران خصص لهم سجنا بعيدا عن جحيم الغرف الضيقة وأوكل أليهم مهمة التنظيف .
في الجانب الأول من الصرح تقع بيوت الضباط والحرس ، تراها وقد طليت بلون ابيض باهت ، يقول البعض أن شركة أعمار محلية يترأسها والد زوجة السيد الرئيس هي التي بنت تلك البيوت وكانت هذه الشركة تستخدم الجنود أيادي عاملة بعد أن تجلبهم من معسكرات التدريب وكان الجنود يفرحون بذلك لأنهم يعتقدون أنه لا توجد نسبة بين العمل في الشركة وبين الاشتباك مع العدو في جبهات القتال حيث الجيش يعيش معركة شرسة وطويلة مع الثوار الأكراد في شمال البلاد.
قبل سنتين تقريبا توقفت ظاهرة جلب الفتيات إلى هنا لغرض تهيئة مناخ جنسي صاخب للحرس والضباط ، ثمة أمور غامضة حدثت ولكن لا أحد يتكلم عنها .
الجهة الرسمية التي كانت مكلفة بذلك هي مؤسسة جماهيرية ذات طابع أمني أطلقت على نفسها فيما بعد المؤسسة النسوية العامة ، في الاحتفال الكبير والذي بث عبر تلفزيون البلاد الرسمي تم إعلان ذلك الاسم رسميا وكان السيد الرئيس حاضرا فصفق لذلك الاسم وقال وهو يوجه كلماته إلى نساء المؤسسة وكن من كبار نساء الحزب الحاكم ( أن المرأة الماجدة برهنت يوما بعد يوم أنها فوق الأزمة وأنها تستحق الثناء وأنني لأستبشر خيرا بهذا الاتحاد الذي هو ثمرة التحدي وثمرة اصرر المرأة في هذا الوطن على مشاركة الرجل في خندق واحد ) ، الكلمات الأخيرة أصبحت فيما بعد شعارا لذلك التجمع النسوي الكبير وتكتب بخط كبير وتعلق فوق كل البنايات التابعة له.
قديما وحينما كان هذا الصرح يعيش عصر مجيء الفتيات كانت كل ثلاثة فتيات ترسل إلى بيت يضم عشرة جنود ويتفرد الضباط بشيء مختلف فلكل ضابط فتاته التي يختارها قبل أن توزع الفتيات على البيوت.
لم يكن النظام العسكري في الصرح قاس جدا ، يحتاج الجندي إلى أربعة اشهر حتى يتمكن أن يذهب إلى دياره ليتمتع بأجازة لمدة شهريين وليحل محله جندي أخر ، في الجيش وخاصة الحرب الأخيرة أي مع الإيرانيين الذين استماتوا في دفاعهم عن ثورتهم الفتية ذات الطابع الديني، هناك قول يؤرخ هذه الحرب الطويلة نقله البعض عن السيد الرئيس يقول فيها واصفا تلك الحرب الطويلة والمدمرة( لقد تركنا كلابهم عليهم يأكل بعضهم بعضا ولنخرج منها سالمين غانمين) ، في هذه الحرب استحدثت بحق الجنود قوانين قاسية وقاسية جدا ، خاصة ممن هم في ألوية المشاة والدروع أو سرايا المدفعية أو الضفادع البشرية ، فعلى الجندي أن يمكث هناك ستون يوما ليتمتع بأجازة مدتها سبعة أيام وربما بلغت العشرة أيام في أحسن حالاتها ، يحدث ذلك حينما تهدأ النيران قليلا وحينما يتفرغ الجنود لسحب القتلى من أصدقائهم وإرسالهم إلى ذويهم ، أما حينما تغني المدافع وترقص الأجساد وترتفع الأرواح فلا يوجد شيء اسمه إجازة أو هروب ولا يوجد خيار إلا أن تَقتل أو تُقتل.
هناك وفي الزاوية البعيدة من الصرح وتحديدا خلف ساحة كرة الطائرة المخصصة للضباط حيث علق حبل اسود بعموديين من حديد إذا رأيته حسبت أن الجنود وضعوه لينشروا عليه ملابسهم بعد غسلها إلا انه وضع للعبة الطائرة والتي يمارسها الضباط وأحيانا بعض الجنود في ساعات فراغهم ، خلف تلك الساحة مباشرة تقع ممرات الجالية وزنزانات الأجانب ، أنشئت بطراز مختلف وأقل طغيانية ، يفصلها عن بقية مرافئ الصرح شرك يمتدد إلى أخر نقطة فيه ، هذا السجن بني خصيصا لاستقبال الجاليات التي يتم خطفها من قبل رجال الأمن ورمي ذلك على بعض المعارضين للسيد الرئيس، لتضعيف موقفهم الدولي ، كانت الفكرة ساذجة أول وهله إلا إنها نجحت نوعا ما، تشاهده اليوم وقد ضم عشرات من مختلف الجنسيات .
ــ سيدي شوهدت في الأفق ثلاث طائرات مروحية .
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح4
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح4
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ــ سيدي شوهدت في الأفق ثلاث طائرات مروحية.
قالها أحد ضباط الرصد بعد أن أدى التحية للسيد شمران بشكل راقص و متناسق جدا ، كان عليه أن ينتظر نصف دقيقة حتى يقول له المراسل .
ــ تفضل سيدي.
كان يلهث ، لقد قطع المسافة الفاصلة بين المراقبة وغرف القيادة هرولة ومع ذلك التعب فقد أدى التحية بإتقان ، شمران كان جالسا في غرفته على أريكة داكنة و أمامه قدح من الماء المثلج ، وضع على طاولة خشبية متهرئة نوعا ما ولطالما فكر السيد شمران باستبدالها إلا أن هموم السجناء تنسيه أن يكتبها في جملة احتياجات الصرح الشهرية بل وحتى السنوية ، أبتسم وحرك رأسه حينما سمع كلام الضابط الذي ما زال على هيئة الاستعداد ، قال بصوت فاتر ومتعب وهو يهز رأسه.
ــ إذاً وصلوا يا مرحبا بهم ، بلغ رائد سامر ليطلق صفارة الإنذار بسرعة وليتأهب الجميع.
ــ أمرك سيدي.
خرج ضابط الرصد بسرعة بعد أن أدى التحية وليدخل المساعد رجب غالي ويخبره هو الأخر عن الطائرات الثلاثة والتي ما زالت في الأفق البعيد ، أومأ بيده لغالي بأن يدخل ويجلس قربه ، منذ أشهر لم يصنع السيد شمران هذا الشيء مع أي ضابط لذلك تفاجئ رجب غالي كثيرا حينما صنع السيد يوسف شمران ذلك ، وضع يده اليمنىعلى فخذ غالي هامسا في أذنه ( ماذا تشعر في هذه الزيارة هل هي لنا أم علينا أنني قلق ، وأحببت أن أكلمك ) .
صمت رجب غالي قليلا ، قال.
ــ وأنا كذلك سيدي ، ربما سألونا عن الموتى من السجناء أنني أشعر أن عدد الموتى تزايد كثيرا في الأشهر الماضية ، هل تتفق معي بذلك؟.
أبتسم شمران ، كانت ابتسامة ساخرة إلا إن غالي لم يشعر إنها ساخرة ، قال هو مبتسم.
ــ لا أظن ذلك لأنه لا يوجد من يهمه مصير هؤلاء ، وقد أخذت بذلك إذن خاص ، لكنني أظن إن الأمر يتعلق بتعيين مدير جديد للصرح لقد مر علي طويلا هنا.
ــ لا أظن لو كان كذلك سيدي لتم استدعائك إلى بغداد.
ــ نعم هكذا أشعر، لا أدري ، ربما إطلاق سراح أو شيء من هذا القبيل.
ــ لا أعتقد سيدي هذا مستبعد.
ــ رجب من تتوقع أن يكون الزائر؟ .
ــ لا أدري ولكن أظنه من المقربين ، وفي حدود ظني يحمل أشياء مخيفة.
صمت ثم أردف.
ــ سيدي هل ننهض لاستقبال الضيوف؟.
ــ نعم لنذهب.
قدوم مروحيات ثلاثة إلى الصرح يعني أشياء كثيرة وقد يكون بداية عهد جديد ، يوسف أكثر الضباط حذرا في هذه اللحظات ، نظر في ساعته السويسرية ذات اللون الأصفر وذات الصورة الصغيرة للسيد الرئيس والتي تعانق الرقاص كلما مر بها ، إنها تشير إلى الساعة الواحدة ظهرا وبعض الدقائق ، كان يضع في يده اليمنى العصا العسكرية والتي لا تكاد أن تقع من يده ، وقف الضباط خلفه ، كلهم كانوا خائفين ، كانوا ينتظرون من سيخرج من الطائرة ، أنتظر الضيف حتى تنزل مجاميع الحماية الشخصية وتنتشر بشكل يؤمن له حياته إذ لا توجد في الأعراف التي تدرب عليها مكانا آمنا بصورة تامة ، كما وحاول أن يوقع الرهبة في نفوس المتصدين للعمل هنا ، الطائرتان اللتان كانتا تحملان الحماية الشخصية من نوع SH61 رسم عليها العلم الحكومي بشيء من الإتقان وكانت الحماية عبارة عن مجاميع من الحرس الجمهوري يرتدون بزة عسكرية تشبه جلد الضفدع ، أما الطائرة الأخرى فكانت B-O-105 صغيرة هي الأخرى رسم عليها علم الحكومة.
في الواقع كان السيد شمران قد وقف قرب المدرج الصغير قبل هبوط الطائرات بقليل ، وكانت الساحة مليئة بمقتضيات التدريب من العراقيل المصطنعة وصفائح معدنية مليئة بالرمل وضع بعضها على بعض فشكلت جدارا سميكا وهناك مجموعة من الأدغال الشوكية أمثال العاقول ونباتات الصبير جلبت من الصحراء القريبة على خلفية أن يتدرب عليها الجنود أسبوعيا إلا انه لا يوجد أي جندي قد تدرب عليها بل تحولت تدريجيا إلى أدوات لتعذيب السجناء مع بعض الصخور الحمراء والبيضاء التي وضعت جنبها وهي تكون كالجمر في الصيف حيث يشد السجين عليها حتى يغمى عليه إذا ما صنع شيئا لا يرضي الحرس وكانوا يأمرونهم أحيانا كذلك أن يزحفوا لعدة أمتار على أشواك الصبير ، قال شمران في نفسه وهو ينظر إليها مكدسة ومحاطة بشرك ( إذا انتهت الزيارة على خير سأبعد هذه المخلفات بعيدا وارميها في الصحراء ) ، في الواقع أن السيد يوسف شمران قال ذلك أكثر من مرة وكان يحدث نفسه بها كثيرا إلا إن بعض الضباط كانوا يقنعونه دوما بضرورة وجود مثل هذه الأشياء لتخويف السجناء وكان شمران يصغي لهم ويأخذ بأقوالهم إلا أنه غير مقتنع تماما بوجود مثل تلك الأشياء وكان يقول في نفسه ( هناك اشياء كثيرة تجعل من السحناء يرتجون من الخوف ولا داعي لهذه القذورات ) ، خلع نضارته السوداء ووضعها بإتقان في الجيب الأعلى الصغير لبدلته العسكرية ذات اللون الزيتوني واستعد لاستقبال زائره.
نزل أولا السيد برزان الحسن الأخ غير الشقيق للسيد الرئيس هذا الرجل ليس لديه وضيفة واضحة ولكن حينما يوجد في أي مكان يكون هو كل شيء فيه باستثناء المكان الذي يكون به السيد الرئيس في طبيعة الحال ، إلا أن البعض لديهم معلومات غير مؤكدة تشير إلى انه مسؤول الأمن القومي والمخابرات العامة أيضا ، على أية حال الناس في الجنوب والشمال يعرفونه جيدا ، من وراءه بخطوات نزل مرزة شياع وزير الداخلية ويمكن مشاهدة بعض الضباط الكبار الذين خفت بريق أسمائهم الآن لوجودهم مع رجال أكبر وأخطر، تقدم السيد شمران وحاول أن يسير بخطوات ثابتة ، من لديه قوة ملاحظة يمكن أن يشاهد ارتعاش أقدامه إلا أنه لم يلاحظ أحد ذلك ، ألقى التحية العسكرية على الجميع ، أحتضنه برزان، قال وهو يعانقه.
ــ يوسف أليس كذلك؟.
ــ نعم سيدي وأهلا بك في الصرح ، إنه ليوم عظيم إن نتشرف بلقائك.
تركه يتكلم ومضى مبتعدا لخطوات رافعا رأسه ينظر في منشئات الصرح البعيدة ، صافح السيد شمران وزير الداخلية وبقية الضباط ، قال يوسف في نفسه وعلى نحو السرعة( لماذا لم يجبني السيد برزان ) كانت نفسه مرتبكة وكأنه قد عمل جناية لا تغتفر، زادت مخاوفه وحاول أن يخفيها ، كانت محاولاته يائسة لأنها كانت سريعة ومرتبكة ، لم ينتظر برزان أن يكمل السيد يوسف التحية على بقية الضيوف.
ــ يوسف تعال اترك هذا ليس لدينا وقت .
ترك يوسف خدَّ احد الضباط وكان على وشك أن يقبله وهرع ليلقي التحية مرة أخرى ولكن هذه المرة وهو يسير بسرعة خلف برزان الذي بدا وكأنه يعرف زوايا هذا المكان ، كان يتجه نحو الممرات التي تؤدي إلى غرف القيادة ، خلع نظارته الشمسية وكذلك الوزير حينما دخلوا إلى الممرات لأنهم شعروا إنها ظلماء .
قال برزان بصوت شبه مبحوح.
ــ ليس لدينا وقت يا يوسف لمثل هذه الأشياء تعال معي.
كان برزان يتكلم وهو يبتسم ، وكان السيد يوسف يشعر أن خلف هذه الابتسامة شيء مخيف، قال بصوت يبدو عليه الارتباك.
ــ أمرك سيدي إنا رهن إشارتك .
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح5
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح5
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
كان الممر الذي يؤدي إلى القيادة طويل وكان السيد شمران يشعر به كل يوم إلا في هذه أللحظات فأنه لم يشعر إلا وهو في غرفة القيادة الرئيسية كان يغط بأفكاره عن تلك الزيارة الكبيرة.
الضباط الصغار لم يدخلوا إلى الغرفة ، حتى أن المساعد رجب تردد في الدخول وحاول يوسف شمران أن يكون شجاعا ويأذن له في الدخول إلا إنه طرد الفكرة تلك فبقي رجب غالي خارج الغرفة.
ــ اجلس يوسف لماذا أنت واقف أجلس.
صمت قليلا تم أردف قائلا.
ــ ما هي أخباركم وما هي إخبار الجبناء عندكم؟.
ــ نحن بخير ما دام السيد الرئيس بخير والجبناء في غضب الله وعقابه الدائم.
ــ جيد يوسف أخبار العاصمة جيدة والسيد القائد بخير ويبلغكم سلامه.
ــ وعليكم السلام سيدي ، إنه لشرف كبير أن نحظى بذلك.
دخل أحد الضباط حاملا خمسة قناني من الماء ومعهن خمسة أقداح صفراء ، تفاجأ يوسف من ذلك إذ لا يوجد في الصرح مثل هذه القناني ذات اللون الكرستالي إلا انه استدرك وقال في نفسه ( مؤكد أنهم جلبوها معهم وربما جلبوا لنا بعض الأشياء).
ــ يوسف كم سجين لديك؟ .
قال برزان ذلك بعدما انتهى من شرب قدح الماء.
ــ سيدي أحتاج إلى بعض الوقت حتى نقدم لك إحصائيات دقيقة جدا؟ .
قال وهو يبتسم وكان ينظر إلى السيد الوزير وهو يتكلم .
ــ نعم ، نعم دقيقة جدا ولكن بسرعة.
ــ عفوا سيدي أمهلني لحظات.
خرج يوسف مسرعا وليهمس في أذن رجب غالي والذي كان يقف متخشبا خلف الباب وكأنه سجينا ينتظر أن يعدم ( ابحث عن العميد سمير وليأتي بالأرقام الدقيقة لكل السجناء وليجلبها هو بأسرع من طرفة عين مفهوم ؟.)
ــ حاضر سيدي.
لم يكن العميد سمير بعيدا ، كان يقف مع مجموعة من الحرس الجمهوري في وسط الممر وكان هنالك من يقص عليهم مغامراته مع الفتيات وكيف أنهم أنهوا خمسة أيام مع أجمل البنات على شواطئ الحبانية .
ــ كانت عارية تماما وأرادت أن تتخلص مني فعانقتها حتى غرست أسناني حول نهديها المتورمان وكأنهما رمانتين في أول طلوع لهما ، صرخت لكنني لم أفسح لها أي مجال حاولت الأخرى أن تأخذني عنها لكنني بقيت متعلقا بها و.......
ــ عميد سمير ... عميد سمير ...لحظة من فضلك.
ــ نعم سيدي.
اقترب العميد من رجب غالي ونسى أن يقدم له التحية العسكرية كما ولم ينتبه غالي لذلك وليهمس في إذنه اليسرى ( يريدون الأرقام الدقيقة لكل السجناء وبأسرع وقت ويريدك السيد يوسف أن تقدمها أنت بسرعة يا سمير الأمر جدا خطير) .
ــ أمرك سيدي لحظات وتكون عندكم .
ـ 2 ـ
جميع الغرف والزنزانات عرفت إن هنالك طائرات تحمل أشياءً قد نزلت في الصرح ، إذ أن معظم السجناء يعرفون أصوات السوبر فرليون حتى أنهم يعرفون لحظات انطلاقها وعودتها الدورية ، وكان بعضهم يبرمج حديثه عبر الفتحة مع السجناء في الزنزانات القريبة والتي يمكن أن ترى من خلال الفتحة الصغيرة ، يبرمجون ذلك الحديث مع مرورها اليومي فوق الممرات إذ أنها تصدر صوتا يصعب معها أن يسمع الحرس همس السجناء عبر تلك الفتحات بعضهم مع البعض الأخر ، في أول يوم حلقت به الطائرة (مي8) وكان قبل ثماني سنوات ظن السجناء أول وهلة إن زائرا ما قد أتى واستبشروا خيرا ولكن بعد حين عرفوا من تكرار ذلك الصوت الدوري المثبت بذاكرتهم أنها طائرة أخرى جاءت لمساعدة الفرليون التي جلبت القلة منهم أو لنقل الذين لا تطمئن مديرية الأمن إلا بنقلهم عبر الجو ، يطلق السجناء على الفرليون أسماء مختلفة ، بعضهم يرى أن الصوت القديم أصبح للأرزاق أما الصوت الجديد فيعتقدون أنه لجلب السجناء وربما كان هنالك آراء أخرى تغاير هذا وربما رأى بعضهم إن الطائرتين لجلب ما يحتاجه السجن وقد يكون هذا الرأي هو الأقرب لما يجري وهم في هذا وذاك يقضون بعض الوقت ، على أية حال سينتظر السجناء الذين وضعوا رؤوسهم بين ركبهم وهم مقرفصون في جلسة تكاد تكون هي الأكثر شيوعا في المحاجر والزنزانات ، هؤلاء سينتظرون قليلا من الوقت ثم يبدؤون بالإصغاء الدقيق إلى صوت محرك المحرقة الكبير وذلك بأن يضعوا أذانهم على الأرض ومن خلال ذلك يمكنهم أن يعرفوا هل أن هنالك سجناء ماتوا وان جثثهم ألقيت في المحرقة التي يتصورها كل سجين وفق هواجسه ومخاوفه إذ لم يتفق أن سجينا رآها، الذين يخرجون من زنزاناتهم ويذهبون بهم إلى أي جهة ولأي سبب ما ، لا يتسنى لهم أن يروا المحرقة التي بنيت بشكل مخيف ، حينما تراها يذكرك منظرها والمدخنة السوداء الطويلة بقصور السحرة المخيفة جدا في الأساطير القديمة ، حينما يعمل محرك المحرقة يمكن للغرف القريبة جدا سماع صوته والذي يصلهم خافت و بالكاد أن يسمع ، البعض يظنون أن ذلك تابع إلى عالم المطابخ وأعداد الطعام وبعضهم يرى انه يصدر حينما يبدأ الحرس في حرق النفايات وهذا الجزء الأكثر إذ أنهم يزعمون أن أحد الحرس كان متعاطفا معهم قبل سنوات وأخبرهم أن ذلك الصوت يصدر حينما تحرق النفايات فصدقوا حديثه واطمأنوا له ثم راحوا يتناقلون ذلك الخبر بين الزنزانات بإشارة وأحيانا بهمس وكأنه أقدس خبر في التأريخ ، في الواقع إن المحرقة لم تكن أبدا لحرق جثث الميتين من السجناء، وفعلا تم إنشائها لغرض حرق النفايات وخاصة نفايات مستشفى الصرح ، ولكن مع ذلك لا يمكن أن ننفي أبدا أن يوسف شمران ألقى فيها بعض السجناء في يوم ما ، كما ولا يمكن أن ننفي إن السيد شمران فكر في تطويرها لتضم قسما لحرق الجثث إلا انه لم يفلح في تنفيذ ذلك.
دخل العميد سمير إلى الغرفة ، قدم تحيته العسكرية بشيء من الإتقان ، وبانحناءة هادئة قدم السجل الذي يحتوي على الأرقام النهائية للسجناء في دائرة الصرح الكبير .
ــ سيدي هذا كل ما لدينا.
نظر برزان إلى يوسف محركا يديه بهدوء وكأنه يسأله من المتحدث ، انتبه يوسف سريعا لذلك .
ــ سيدي هذا العميد سمير المسؤول على تعداد السجناء وتنقلهم .
ــ أهلا سمير من أين أنت؟.
قالها بشيء من الابتسامة المشوبة بالسخرية، ما زال سمير واقفا في وسط الغرفة بهيئة الاستعداد .
ــ من الرمادي سيدي.
ــ أجلس وتحدث.
جلس العميد سمير متوسطا الغرفة على كرسي خشبي كان السيد شمران يخرجه معه يجلس عليه في حديقة الصرح المتواضعة ، وفي هذه اللحظات دنى قرب برزان رجل من الحماية الشخصية ضخم الوجه أسمر اللون طويلا جدا يرتدي بذلة سوداء ، همس برزان في إذنه ببعض الكلمات ، هز ذلك الرجل رأسه مرتين ثم استقام ليخرج من الباب.
قال سمير.
ــ سيدي لدينا.
ــ انتظر حتى يأتي.
ــ أمرك سيدي .
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح6
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح6
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
تبسم السيد برزان ، كانت ابتسامة مصطنعة ، مصطنعةٌ تماما ، قال وهو مبتسم.
ــ هؤلاء الأغبياء يتصورون إنهم بهذه الأعمال التخريبية يقضون على إرادة العراق العظيم وعلى رمز العراق وباني عزته ومجده ، الكل يجمع إنه ومنذ قرون لم تلد الأرض مثل السيد الرئيس أدامه الله لنا ذخرا وملاذا ، إن هؤلاء الخونة دوما يغازلون الأعداء ويريدون من العراق أن يصبح مرتعا للأجنبي ، هدفنا أن نقوض حركة الأعداء وتحجيم فاعليتهم والقضاء على الأوكار العميلة في الداخل ليتمكن العراق من اجتياز أهم مرحلة في تأريخه المعاصر ألا وهي مرحلة بناء الدولة النموذجية كما كان دوما يقول الملهم السيد الرئيس حفظه الله ورعاه ، أنتم من موقعكم هذا تعملون كذلك من أجل تحقيق الأهداف الموكلة إليكم.
أراد السيد يوسف شمران أن يشاركه ببعض الكلمات وكان يتمنى ذلك ، كان يريد أن يوضح له أهمية وجود السيد الرئيس، أراد أن يقول ( إن الله قد من على وطننا بالسيد الرئيس) إلا انه لم يستطع بسبب استرسال برزان بحديثه ، أستثمر فرصة سكوته للحظات ، قال.
ــ سيدي لا يمكن أن نتصور أبدا وطن حر وشعب أبي من غير وجود السيد الرئيس.
أحد مرافقي السادة الضيوف راح يقدم سيجارة جروت قد وضعت في علبة صغيرة ذات لون أخضر متماوج قدمها للسيد برزان وكذلك للسيد الوزير الذي لم يتكلم حتى هذه اللحظة ببنت شفة ، قال يوسف للمرافق والذي كان شابا وسيم يرتدي بذلة زيتونية وضع ثلاث نجمات على كتفه .
ــ شكرا أنا لا أدخن.
لم يكن ذلك اجتهادا من المرافق لأنه لا مجال لأن يجتهد الجنود ولا حتى الضباط الكبار في هذه اللحظات فعلى الجميع أن ينفذ ما يراه هذا الزائر من أوامر وتوجيهات ودون أدنى اعتراض أو مداخلة ، برزان هو الذي طلب من المرافق ذلك وبإيماءة ودون أن يشعر بها أحد ، طلب منه أن يقدم السجائر ، أخذ يرتبها في فمه قال وهو يعض سيجارته .
ــ أين صار وضاح ؟، لقد تأخر.
نهض شمران ودون أن يشعر وكذلك العميد سمير وأرادا الخروج من اجل السؤال عن وضاح صاحب الوجه الضخم جدا والذي كلم السيد برزان قبل قليل فقد تأخر قليلا إلا أن وضاح وقبل أن يصلا الباب دخل وهو يحمل سجلا اصفر وكرسي خشبي مطلي بلون اسود وبعمل غير متقن غطى نصفه جلد ذات لون أسود باهت جدا ، وضعه وضاح في جوار كرسي العميد ، جلس وهو يخرج قلما مذهب يكتب بلون اسود ، كان يوسف ينظر إلى وضاح كيف يحرك قلمه وتمنى في نفسه لو يعرف ماذا يحتوي ذلك السجل من أشياء وراح يتصور إنه يحتوي على أشياء كثيرة ومهمة جدا ، والحقيقة لم يكن يحتوي على أي شيء فهو فارغ من أي كلمة سوى بعض الملاحظات البسيطة جدا ، قال برزان.
ــ الآن تكلم .
قالها بنبرة قاسية ، بينما راح العميد يتكلم بصوت شبه مبحوح.
ــ سيدي لدينا خمسة ألاف وسبع مئة وثمان وسبعون، مجمل كل السجناء من القضايا الخاصة جدا ، هناك منهم ألف وأربع مئة وواحد وعشرون كرديا الغالب منهم ممن شارك بتمرد الشمال ويعملون مع البشمرجه.
قاطعه برزان بذات النبرة التي تكلم بها قبل قليل .
ــ قل خائنا كرديا ولا تقل كرديا فقط ، إنهم خونة وأعداء العراق ألا تعرف ذلك؟.
ــ نعم سيدي هم خونة.
قال يوسف في نفسه حينما كان برزان يعلق ( لو ينتبه هذا الغبي لكلماته ، أتمنى أن لا يخطأ بعد ) بينما راح العميد يكمل حديثه.
ــ وثلاثة ألاف وست مئة واثنان وسبعون خائنا شيعيا ، وهناك خمس مئة وثلاثة من الشوعيين الخونة وأربع وسبعون من مدعيين القومية والوطنية المزيفة والمناهضة ومئة وثمانية من الجاليات وهم مختلف الجنسيات ، هذا من حيث سجناء القضايا الخاصة جدا ، بقي تسع مئة وسبعة وعشرون وهؤلاء من ال....
نهض السيد يوسف وخطى أربع خطوات وليهمس في أُذن برزان اليمنى بينما سكت سمير من سرد الأرقام ، كان برزان يهز برأسه حينما كان سمير يتكلم وكذلك حينما راح يوسف يهمس بأذنه ، قال بصوت بالكاد سمعه الوزير( فهمت ما تريد قوله ، تعني أنهم ليسوا بالأهمية التي تذكر) ، نظر إلى سمير الذي كان ينتظر أن يؤذن له في أن يستكمل ما عنده من أرقام.
قال برزان بصوت فظ.
ــ اترك هؤلاء ، هل هذا كل شيء عندكم؟.
ــ نعم سيدي ، هذا كل ما لدينا.
ــ الآن اخبرني كم خائنا كرديا لدينا؟.
ــ ألف وأربع مئة وواحد وعشرون سيدي.
صمت قليلا، ثم أردف.
ــ يوسف هل لديك عمل مع سمير؟.
ــ لا سيدي.
نظر السيد يوسف شمران إلى سمير الذي نهض بمجرد أن سمع اسمه على لسان برزان ، أومأ إليه بيده على الخروج ، أدى العميد سمير التحية العسكرية ثم خرج تاركا الكرسي الخشبي الأسود في مكانه.
ــ أصبحت لدينا صورة واضحة عن عدد السجناء ، لم يكن العدد مهولا كما كنا نسمع به، كنا نسمع في بغداد غير هذا ، حتى إن السيد الرئيس حينما أرسلنا إلى هذه المهمة قال ستجدون أعدادا كبيرة جدا من الخونة أعداء الشعب أريدكم أن تتعاملون معهم بقسوة.
قال يوسف.
ــ نعم سيدي ، نحن نزود ديوان الرئاسة في أول كل شهر بالعدد النهائي زيادة أو نقصان وكذلك الأمن العامة ورئاسة المخابرات ببعض التفاصيل.
ــ نعم أنا مطلع على بعض التفاصيل ، ولكن على أية حال العدد قليل وهذا يجعل من مهمتنا سهلة إنشاء الله.
راح الوزير يتكلم مع برزان بعد أن مال برقبته عليه وكأنه يريد أن يهمس بأذنه ، نهض يوسف وراح يبعد نفسه عنهما ، فكر أن يكون أبعد لئلا يظن برزان انه يسترق السمع ، وقد يكلفه هذا الظن كثيرا ، أراد أن يشغل نفسه بأي شيء ، نهض ليرجع الكرسي الذي كان يجلس عليه سمير قبل قليل إلى مكانه القديم قرب مكتبة الصاج الصغيرة والتي ملئت كراريس ألفها السيد الرئيس حول الثورة وانجح السبل للنهوض بالأمة العربية إلى مصافي الدول العالمية الكبرى ، مثلا هناك كراس يتحدث عن الثورة والزراعة يقول فيه الرئيس ( أن بلدنا ليس نفطيا فقط انه زراعي أيضا، وهذه مسألة تتطلب منا التفكير الجاد لإنجاح مشروع الزراعة ) وهناك كُتيب صغير يبدو أن السيد الرئيس كتبه مؤخرا أسمه ( العالم المثالي ) ويمكن لك أن تقرأ فيه ( إننا لم نبدأ اليوم لنقول سننطلق بل أن بدايتنا موغلة في القدم أن أجدادنا هم من بنى الحضارات الأولى ومن علم الناس كيف تكتب في القلم وهم أول من سن القانون وطبقه ، إذاً نحن أبناء العالم المثالي والوسط الذي لا يعرف غير الفضيلة والانتصار والتحدي وإذا كان هنالك بعض المثالب في هذا العالم فعلينا أن نصلحها ليصبح عالمنا ثمرة ذلك الجهد الطويل الذي بذله الأجداد في سبيل النهوض بالأمة لتؤسس العالم المثالي المنشود ، وليس لنا فقط بل للآدمية جمعاء ، إذاً نحن حملة ذلك الإرث العظيم ومن له الحظ الأوفر في بناء عالم متحضر مثالي بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى دقيق ، فمشروعنا إذاً مشروع كبير وذات جذور تاريخية رصينة لا يستهان بها ولا أكون مغاليا إذا قلت إن مشروع العالم المثالي مناط بنا فنحن دعاته ونحن بناته ) وكذلك يمكن مشاهدة كراريس كتبها السيد المؤسس وبعض المنظرين الكبار في الحزب الحاكم والمتأثرين بالفكر القومي، فمثلا يمكن مشاهدة كراريس عن القومية العربية وضرورة الوحدة لعدد من الكتاب أمثال منيف الرزاز والياس فرح الذي يقول في كراس موضوع هناك اسمه القومية العربية والتأريخ يقول فيه ( أن قافلة الإنسانية قافلة واحدة ، وقد مر زمن كنا فيه على رأسها ، وبيدنا زمام قيادتها ، لذلك كانت الخطوة الأولى المترتبة علينا اليوم هي أن نعود إلى مسرح التأريخ بعد أن بقينا على الهامش طويلا فنتمثل الحضارة الحديثة ونهضمها لكي نستطيع أن نتجاوزها ونعطي رسالتنا إلى العالم ) وهناك عبد العزيز الدوري والذي يمكن أن تقرأ له كراسا أيضا كتبه تحت عنوان الجذور التاريخية للقومية العربية كان أصفر اللون ، ويبدو أن طبعته قديمة ، يقول فيه السيد الدوري (إن القومية العربية تساوي وتعادل حياة الجماهير ومصلحة الجماهير وقضية الجماهير ، إنها ليست عنوانا فحسب وليست ترفا يدعيه ويزدان به الوجهاء والزعماء ، إنها من صميم الألآم ، الألآم المادية والمعنوية ، الآم الشعب المستغل وألام الشعب المقهور في سيادته وهكذا اتخذت القومية العربية مضمونا واقعيا ثوريا عندما حددت بأنها الوحدة والحرية والاشتراكية العربية) وكذلك يمكن أن ترى لمسات الكاتب الفرنسي دومناك حيث اقتبس منه الدكتور جمال الاتاسي النزعة القومية وتخطي حدود القوميات وكان شمران يقرأ منها حينما لا يوجد لديه عمل ، قال الوزير بصوت خافت لا يسمعه احد.
ــ ليس العدد كما وصفوه لنا في القصر، لقد قالوا لنا ستجدون عددا كبيرا جدا.
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح7
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح7
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
قال برزان وهو مبتسم ، كان يتحدث مع الوزير.
ــ ما ترى كم نبقي.
قال السيد الوزير.
ــ اعتقد أن خمس مئة تكفي.
ــ السيد الرئيس قال ابقوا عدد قليل جدا ، أتعتقد إن الخمس مئة عدد قليل جدا ؟.
ــ لا ادري ولكن ..
صمت الوزير ثم أردف .
ــ الأمر متروك إليك سيدي.
اخذ برزان يتنفس بعمق وباستعلاء واضح ، حرك رأسه بهدوء ، أغمض عينيه ثم وضع باطن كفه الأيمن على وجهه واخذ يسبحه ببطء ، ببطء شديد من الأعلى وحتى أسفل الوجه والذي ترك عليه بعض الشعر الخفيف والمحدود وكان بذلك يقلد بعض زعماء الخليج والذي تربطهم به علاقات وثيقة ، وجهه كان أسمر وتبدو عليه علامات الغلظة والقسوة واضحة جدا ، بذلته الصيفية ذات لون ازرق غامق أما الوزير فأن بذلته كانت تميل إلى الرصاصي وربطة عنقه غير متناسقة ولم يكن يشعر بذلك أحد ولا حتى يوسف مع انه يحمل شيئا لا يستهان به عن تناسق الألوان في الملبس ، المقدم رعد مسؤول التحقيقات شعر بذلك وهو الوحيد الذي شخص الموضوع ما إن وقع ناظره على السيد الوزير، استرخى برزان يفكر في عمق ومد رقبته إلى الوزير الذي ما زال منتظرا جوابه ، تبسم وهو يتكلم.
ــ نعم خمس مئة تكفي ، هذا العدد جيد.
قال الوزير.
ــ إذا توكل على الله سيدي ، لدينا عمل كثير.
قال برزان بنبرة قاسية جدا.
ــ يوسف ابقي من الخونة الأكراد مائتين وخمسين و من الخونة الشيعة كذلك وأن كان في ودي لا ابقي من هؤلاء احد ولكن السيد الرئيس قال ابقوا منهم قليلا.
ــ سيدي هل لديكم تصور عن السجناء الذين يتم استثنائهم .
صمت برزان قليلا يتأمل في كلمات يوسف وراح الوزير ينتظر ماذا سيقول ، قال برزان بشيء من الامتعاض.
ــ لا هذا يعتمد على توزيع السجناء والنظام المتبع في التوزيع ، هل لديكم نظاما معينا متبع في توزيع السجناء كأن يكون في هذا المكان خطرون جدا وهنا خطرون فقط وهناك أقل وهكذا.
ــ لا سيدي الجميع لدينا متساوون ولكن بعضهم وضع في قواطع معينة كونهم كانوا على مقربة فاعلة من زعماء الشغب ضد الحكومة وهم بالتالي محط أنظار ضباط التحقيق أو ضباط المراجعة الدائمة للقضايا المهمة وحتى هذا الأمر لا يستند عليه كون الجميع في حالة تنقل دائم.
ــ إذا توكل على الله ، لنترك الموضوع للأقدار.
صمت قليلا ثم أردف.
ــ لندع الأقدار تأخذ دورها في اختيار الخمس مئة.
ــ أمرك سيدي .
ــ الأجانب كم قلت ؟.
حاول شمران أن يتذكر ، هز رأسه محاولة منه لجمع أفكاره ، كان يعرف أنها مئة ونيف ولكن يجهل ذلك الرقم الصغير الذي يلي المئة قال وضاح وهو ينظر في السجل الذي كان يكتب به قبل قليل.
ــ سيدي مئة وثمانية.
صمت برزان بينما سأله الوزير.
ــ هل هناك نساء.؟
قال يوسف.
ــ نعم سيدي.
ــ هل هن جميلات؟.
قال ذلك وهو يبتسم.
ــ نعم سيدي كلهن جميلات.
ــ كم عددهن؟.
ــ أربع وعشرون امرأة معظمهن ممن يعملنَّ في المجال الصحفي.
ــ هل كنتم تصنعون معهن أشياء؟.
تبسم يوسف ، بينما أصغى برزان بتمعن وامتعاض نوعا ما.
ــ بعض الضباط كانوا يفعلون ذلك سيدي.
تمتم الوزير بكلمات لم يسمعها احد.
قال برزان .
ــ من الخطاء أن تصنعوا ذلك ، في المستقبل حاولوا أن لا تفعلوا مثل هذه الأمور .
صمت قليلا ، قال بصوت خافت.
ــ السيد الرئيس لا يرضى على ذلك ، مفهوم يوسف؟.
ــ أمرك سيدي ، سوف لن تتكرر أنا في البدء كنت أعاقب على هذا الموضوع وكنت اشدد عليه إلا أن نجل السيد الرئيس حفظه الله ورعاه زار الصرح ذات يوم وطلب خمس فتيات من سجن الجالية وتم جلب الفتيات الخمس وأراد أن يختلي بهنَّ فامتنعن ثلاثة وتجاوزت واحدة عليه بشيء لا أحب أن اذكره ، تم إعدام الثلاثة وبعدها طلب من الضباط أن يصنعوا ذلك مع من بقى من الفتيات في سجن الجالية كل يوم والذي لا يفعل يعرض نفسه للعقوبة.
لم يعلق برزان على حديث يوسف ، وكأنه لم يسمعه قال.
ــ والآن يوسف كيف تتصرفون ؟.
ــ سيدي هنالك طريقتان ، الأولى أن نعدمهم قي قاعة المركزية ، وهي كبيرة معدة أصلا للمحاضرات والتوعية الحزبية ويمكن أن نعدم بها كل خمسين سجينا في وجبة واحدة.
قاطعه برزان.
ــ وبعد ذلك ابن ترمى الجثث ؟.
ــ تدفن في الصحراء هناك شقوق كبيرة حفرت قديما وما زال بعض السجناء يحفرون ، وربما رأيت منهم من كان يعمل لأنهم كانوا على الاتجاه الذي جئتم منه .
قال برزان بشيء من اللامبالاة.
ــ لم انتبه لذلك .
في الحقيقة أن السيد شمران لم يكن على علم إن المكان القديم أنجز وأن الإشغال انتقلت قبل أيام إلى غير جهة ، وكلما أراد مسؤول الإشغال أن يخبره ينسى ذلك أو قد يتناسى في بعض المرات لاعتقاده أن الموضوع ليس مهما.
ــ وكيف تنقل؟.
قال يوسف.
ــ عفوا سيدي لم أسمعك.
حرك يده اليمنى ثلاث مرات ، قال.
ـ أقول كيف تنقل الجثث ؟.
ــ سيدي لدينا سبعون عربة حديدية.
ضحك برزان وأخرج قهقه وجامله الوزير إذ لم يكن على مزاج يسمح له أن يضحك بصوت عال، قال الوزير.
ــ هل لديكم هنا حمير.
تبسم السيد شمران قال وهو يبتسم .
ــ لا بل سجناء يدفعون العربات إلى حيث نريد ، كل عربة يمكن أن تأخذ خمس جثث.
ــ جيد ، رائع ، يقولون إن الحاجة آم الاختراع.
صمت قليلا وهو يلقي ما تبقى من سيجارته في نفاضة زجاجية صغيرة صنعت بمعمل محلي على هيئة فم أسد غاضب ، وقد وضعت على طاولة خشبية صغيرة لا تليق أن يجلس برزان أمامها لذلك ترى السيد يوسف شمران استدرك ذلك وقال أول ما جلس الضيوف (أن هذا لا يوازي مقامكم الكبير فنعتذر منكم سيدي ) إلا أن برزان لم يعلق على هذه الكلمات ، قال وهو يتكئ على أحدى الكنبات الخمسة ذات اللون الداكن واضعا قدمه اليمنى على اليسرى .
ــ هذه لطريقة الأولى والثانية ما هي؟ .
ــ سيدي أن نأخذهم إلى الشقوق ونعدمهم هناك فيكون قد كسبنا الوقت.
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح8
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح8
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
كل زنزانة كانت تحتوي على أربعة سجناء ، هذا هو النظام المتبع والأكثر شيوعا ، في بعض الزنزانات يمكنك أن تشاهد تسعة سجناء وقد جلس بعضهم متراصين جدا مع البعض الأخر ، وقد يمضون عدة أشهرعلى ذلك الحال ، هذا إذا لم يدركهم السيد شمران أو رجب بشيء من الرحمة وهذه ليست حالة طبيعية بل هي حالة من العقوبة الجسدية البسيطة جدا والتي توجه للسجناء لأي سبب كان ، مثلا على السجناء الوقوف إذا مر السيد يوسف شمران عبر الممرات ضمن نطاق تفتيشه اليومي وهو ينظر إليهم عبر البوابات الصغيرة والتي عادة ما يأتي احد الحراس ليفتحها قبل مجيء شمران بلحظات وهو يركل بقدمه الباب صارخا ( المدير جاء تهيؤا ، المدير جاء تهيؤا ) ليقف السجناء ومن يراه السيد شمران متكاسلا من الوقوف أو أن وقفته لم تعجب شمران يمكن أن يودع في زنزانة تضم خمسة وهكذا يزداد العدد ليصبح تسعة أو أربعة عشر وفي هذه الحالة يبقى أربعة سجناء في حالة الوقوف ليتسنى للبقية الجلوس على اقل تقدير ، الوقوف يكون دوريا مثل واجبات الجنود البائسين ، حتى المرحاض الصغير جدا يشغله السجناء في معظم الزنزانات للوقوف أو الجلوس على الجدار الساتر ويخرجون منها في حالة استخدامها ، وهكذا ينظم السجناء نومهم وجلوسهم وفق نظام معقد ، أحيانا يدخلهم في صراعات وتشنجات نفسية هائلة ربما تصل إلى الشتم إلا إنهم في نهاية المطاف يعتادون على ذلك تدريجيا ، هذا من ناحية العقوبة وعدم ارتياح السيد شمران لوقوف السجناء واستعدادهم إمامه إما الناحية الأخرى فهي كثرة السجناء حيث يصل العدد أحيانا بما لا تستوعبه زنزانات الصرح فيضطر الضابط الموكل بمهمة التنقلات أن يلجأ إلى مثل تلك الحالات.
الزنزانات والمحاجر وكل شيء هنا مبني بالإسمنت ومطليا بلون أحمر ولا توجد تهوية إلا فتحة صغيرة على شكل مستطيل تحت السقف بشبرين تقريبا ومع أن السقف مرتفع جدا إلا أن الفتحة تلك قد غلفت بشرك .
السيد شمران قسم الحرس إلى مجاميع وكل مجموعة كلفت بإخراج جانب من الممرات ، كل ممر كان يحتوي على خمسين زنزانة في كل جانب خمس وعشرون ، في منطقة المحاجر يختلف الأمر فهناك ممرات كثيرة وكثيرة جدا وفي كل ممر عشرة محاجر كبيرة ، هذه المنطقة بنيت على طابقين ، وطابق كبير تحت الأرض ، يعتقد انه يضم ممرات كثيرة .
بعض الوقت من الهرولة والزعيق والصياح والمرح هذا ما احتاجه الحرس لإخراج الوجبة الأولى من السجناء ، السيد يوسف أخبرهم ، أخبر الضباط الكبار أن الوجبة التي يريد شقيق السيد الرئيس أن ينظر إليها وهي محملة بالعربات التي يجرها الحمير البشري يجب أن تكن أربع مئة فقط ، كانوا يضعونهم ( أي الذين أراد شقيق السيد الرئيس أن يراهم وهم محملين بعربات تجرها حمير البشر ) كانوا يضعونهم في ساحة التدريب على شكل مجاميع مقيدين بقيود بلاستيكية بيضاء ، ثم يطلقون عليهم النار وهم يهتفون بحياة السيد الرئيس ، هذا النمط من القيود لم يستخدم من قبل في الصرح وهو يستخدم لمرة واحدة ، الضباط الذين عملوا في مديرية الأمن العامة يعرفن هذه القيود جيدا ، بعضهم أي أصحاب السجن الانفرادي تم إخراجهم أيضا ، كانوا قلة ، هؤلاء تراهم وقد أغمضوا عيونهم ، ذلك لأنهم لم يروا الشمس منذ زمن بعيد ، فهم يعيشون في عتمة تامة حيث لا توجد إنارة في السجون الانفرادية أبدا ، أحيانا يعطون الضوء الأحمر يوما كاملا من كل أسبوع وأحيانا ينسى السجان ذلك وحتى حينما كان السجين يذكره من وراء الباب وذلك بأن يصيح بصوت عال ما أن يشعر أن أحد الجنود في الممر وكان الجندي في معظم الأحيان لا يبالي به ولا يعلق على صراخه .
نظام الطعام في الانفرادي مشابها لنظام الطعام في المحاجر أو الزنزانات حيث يرمى من الفتحة الصغيرة والتي يستفاد منها السجين برؤية ضوء الممر حال فتحها ، حينما كان يوسف يتجول في ممرات الانفرادي وهو نادر جدا كان السجناء يطلبون منه الضوء وكان يسخر من تلك الطلبات ويصفها بأنها خيالية تماما ، أما في الزنزانات الجماعية فأن نظام الإنارة اقل قسوة حيث هناك المصباح الأحمر الذي يشتعل حينما يأتي الظلام ويطفأ قبل منتصف الليل تقريبا حيث موعد نوم السجناء ، وهناك الفتحة المستطيله في الأعلى أيضا تفضي بضوء خافت وخجول يأتي من مصابيح المراقبة القريبة فينعكس على السقف راسما ضل الشَرك مما يجعل بعض السجناء يرحلون معه بعيدا ، هذه الفتحة تطل على مكشوفة بعرض عشرة أمتار ممتدة طولا مع الزنزانات أو المحاجر ثم يأتي الشرك الكهربائي كما يسمونه والذي يحيط المواقع ويعتقد أن سيلا من الكهرباء يسير فيه ، قبل عشرة أعوام تقريبا كان هنالك من يخرج كل زنزانة خمس وعشرون دقيقة في المكشوفات إلا أن ذلك أصبح اليوم أمنية مستحيلة وقد عوقب ذلك الضابط الذي كان يدعى وائل سلمان ونقل إلى سجن أبي غريب الذي لا يعد شيئا أمام الصرح علما أنه لم يصنع ذلك من دافع ذاتي بل صلال عبد والذي كان يومها يرأس الصرح هو الذي قال له أصنع للسجناء ذلك .
الضرب بالهراوات كان كثيف ألا أنهم كانوا وهم يركضون يسترقون النظر نحو منشئات الصرح ، أحسوا بضخامة الصرح وخطورة اللحظات القادمة ، حينما جلبوهم قديما كانت عيونهم مشدودة بقماش وكانوا لا يرون أي شيء ، وحتى في الشاحنات الكبيرة التي رسم عليها صقر وأسم ( شركة الخير ) للأستيراد والتصدير ، كانوا مقيدين إلى الخلف وعيونهم مشدودة أيضاً.
ــ سيدي تم إخراج سجناء الوجبة الأولى.
قال ذلك وضاح بعد أن قدم التحية العسكرية بينما ما زال برزان ووزير الداخلية في الغرفة مع السيد شمران والذي كان بين لحظة وأخرى يذهب ليرى ترتيب الأمور وهكذا يعود مسرعا ثم ينهض من جديد وهو بتحرك بروح قلقة جدا.
قال برزان.
ــ إذا توكلوا على الله ، لدينا عمل يجب أن نعود إلى العاصمة قبل الغروب.
ــ أمرك سيدي.
كل زنزانة تفرغ لا تعلم بالأخرى ، الممرات بدأت تفرغ شيئا فشيئا ، هناك مجموعة مكلفة بإخراج السجناء فقط ، السجناء الذين يتم إخراجهم يوزعون على شكل مجاميع وهناك عشرات من الحرس منتشرين في الممرات يضربونهم بالهراوات والأعمدة الحديدية التي تم اقتلاعها من ساحة التدريب وكانت قبل ذلك الوقت تحمل أهدافا يسدد عليها الحرس عيارات نارية وربما أطلق عليها شمران ذات يوم اسم الشواخص ، بدأ أزيز الرصاص يمزق سكون الصحراء ، الزنزانات التي ما زال أمامها بعض الوقت حتى يفتح أبوابها الحرس ، بدأت تسمع هي الأخرى ذلك الأزيز المتراكم والذي أخذ بالتزايد كما وتزايد صراخ السجناء ، مجاميع كثيرة من السجناء بدأت تقطع الصحراء باتجاه الشقوق التي حفروها في زمن ما وهم يتساءلون ماذا يمكن أن يصنع شمران بها ، تراهم وكأنهم دبيب نمل يهرع إلى بيته ، كل سجين وضع يديه على متن السجين الذي أمامه وهو يسيرون باتجاه الشقوق ، بدأت الرمال تكوي أقدامهم ، إنها حرارة الشهر السابع ، عليهم أن يتحركوا أسرع إذا أرادوا أن يتجاوزوا جحيم الرمال ولكن الأمر ليس بأيديهم ، أنه بأيدي مئات من الحرس الذين انتشروا في الصحراء وهم يهرولون نحو الشقوق ، بعض السجناء وهم قلة جدا لا يرون ذلك إذ توجد قماشه تلف عيونهم جميعا وهناك منهم من يستطيع أن يرى بسبب عدم إتقان عملية الشد ، في البدء تصور بعض الضباط إن شد العيون أمر لا مفر منه ولكن يوسف صرخ بهم حينما اخرجوا العشرات الأولى من السجناء .
ــ أتركوا شد عيونهم ، أخرجوهم بسرعة .
السجناء تأكد لديهم أن الموضوع متعلق بأمر خطير بسبب ما يرونه من ضخامة الجند الذين انتشروا في الصحراء ، الجميع يدرك أن الأمر غير متعلق بالأشغال ، إذ إن الخروج للأشغال ليس بهذه الصورة أبدا ، كانوا لا يضربونهم حينما كانوا يخرجونهم إلى الأشغال ولا أزيز رصاص وكانوا لا يشدون عيونهم بل يشدون أقدامهم بسلسة تتيح للسجين أن يسير خطوة واحدة كبيرة وكان طول السلسة المثبتة بقيدين نصف متر ، بعض السجناء الذين كانوا يركضون بهم في الممرات اخذوا يكبرون ، كل من في الصرح كان يسمع دوي الرصاص .
برزان سمع التكبيرات كما وانه سمع أزيز الرصاص ، كان يحدث الوزير وهو يضحك وهما يتجهان إلى الساحة حيث بدا الإعدام فيها قبل قليل وزهقت ستون روحا حتى هذه اللحظة وكانت أول روح زهقت لسجين اسمه عبد الرحمن من العاصمة مضى على وجوده هنا سبعة أعوام وعمره حتى لحظة تمزيق الرصاص قلبه خمسون عاما وأربعة اشهر وسبعة أيام كان مدرسا في مادة الكيمياء في ثانوية العروبة ، كان اسمها ثانوية المحسن لكن البعث حينما جاء إلى السلطة غير أشياء كثيرة قال برزان وهو يضحك.
ــ عربات يجرها حمير، سوف نرى ذلك ، أكمل لقد قطعت حديثك ، ثم ماذا ؟.
قال الوزير.
ــ حينها قلت للسيد الرئيس أن مسألة الخلاف مسألة شخصية وأنا أعتقد أنني لست مخطئا في ذلك مع أنها قالت أكثر من مرة أنني لا استحق أن أكون حماية من الدرجة الثالثة ، ضحك السيد الرئيس وقال لكنها ترى انك تجاوزت على حقوقها الشخصية ، قلت له سيدي المهم هو أنت ماذا ترى قال رأي إنها على حق وعليك أن تعتذر منها.
ضحك برزان وهو يهز كتفيه والحقيقة انه لم يكن يهز كتقية حينما كان يضحك إلا انه كان يرى السيد الرئيس يصنع ذلك وكان يقلده ابتداء ثم اعتاد على ذلك وكان يجهل أن الرئيس كان يهز كتفيه حينما كان يضحك عند الجلوس فقط وليس في حالة المشي ، قال وهو ما يزال يضحك.
ــ وأين كان ذلك؟.
ــ في رحلة الصيد الأخيرة .
صمت الوزير قليلا ثم أردف .
ــ سيدي أنت لم تكن معنا يومها كنت في الموصل.
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح9
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح9
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 4 ـ
كان السيد يوسف شمران قد أمر بإخراج السجناء أصحاب عربات نقل الجثث ، كانت العربات مصنوعة من الحديد ومطلية بلون اسود وهي تشبه تلك العربات التي تجرها الحمير في أسواق الشورجة في بداية عقد السبعينات إلا أنها أطول قليلا ، وكان ستة سجناء مخصصين للعربة الواحدة ، ثلاثة منهم في الأمام يجرونها وثلاثة في الخلف يدفعونها إذا ما غرست عجلاتها في الطريق الترابي الذي يؤدي إلى الشقوق البعيدة والذي خطته العجلات فأصبح صلبا بعد أن كان رمليا قبل زمن ما ، كانت هنالك خمسون عربة ، ما هو مستخدم منها أربعون فقط ، يوسف قال لرجب غالي.
ــ أخرجوا كل العربات حتى التي عطلها بسيط .
حينما تنتهي الوجبة تبدأ العربات بنقلهم عبر الصحراء القريبة إلى الشقوق البعيدة ، اقرب الشقوق كان يبعد خمسة (كم) عن البوابة الرئيسية أما الشقوق البعيدة جدا فقد تصل إلى حدود السبعة (كم) بل ريما تعدت العشرة (كم) في بعض الأماكن ، وكانت الجثث ترمى هناك حيث يأتي دور مجاميع كثيرة من السجناء الذين لم يذكر عددهم العميد سمير والذي تمت ترقيته قبل شهريين لهذا معظم الجنود مازالوا معتادين على مناداته فيما بينهم بالعقيد سمير، عشرة عربات ذهبت بعيدا باتجاه سجن الجالية ، حيث أمر يوسف أن يعدموا هناك أي في الساحة القريبة عليهم والتي عاد منها الحراس قبل قليل بعد أن نفذوا عملية الإعدام ، وهم إذ لاقوا أصحاب العربات بمنتصف الطريق فإنهم راحوا يمازحونهم وذلك بوضع البنادق الكلاشنكوف باتجاههم وهؤلاء ما أن رأوا ذلك حتى سقطوا على الأرض خيفة والحرس يضحكون عليهم ، إلا أن الضابط الذي كان معهم وبعض جنود المراقبة والذين كانوا قريبين جدا منهم قالوا.
ــ لا تخافوا الأمر لا يعنيكم ولكن عليكم بنقل الجثث قبل الغروب حتى لا يغضب الضيوف.
كان برزان يشاهد كيف إن أصحاب العربات يركضون بالجثث وهم في خوف شديد ، كان ينظر إليهم وهو يجلس تحت ظُلة اعتاد يوسف أن يجلس تحتها في اللحظات التي تجري بها تمارين الظهيرة أو يرى وهو يجلس تحتها كيف يعذب السجناء في الساحة ، كان الوزير يجلس أيضا جنبه أما السيد يوسف شمران فقد كان واقفا تحت المنصة التي ترتفع مترا عن الأرض وقدا بنيت بشكل غير متناسق ، كان الحرس الشخصي الذي جاء معهما منتشرا قرب المنصة ولم يشارك في إعدام السجناء ، وكان الإعدام يجري بسرعة فائقة إذ مجرد أن تصل المجموعة إلى الساحة وينسحب الحرس الذين جلبوها هرولة يأخذ الحرس المكلفون بالرمي بفتح النار عليهم بكثافة ، ضحك الوزير إذ لاحت له مجموعة من السجناء تركض ممزقة الملبس وكانت بدلاتهم ممزقة تماما وهي لا تسترأي شيء ، السجناء كانوا يعطون كل ثلاث سنوات بذلة بقطعة واحدة زرقاء اللون غير مرقمة ، وكان معظمهم يخلعها صيفا ويلف بها خصره ساترا عورته فقط ، وقد يختلف الشتاء البارد جدا في استحقاقاته .
ــ خونة.
قالها الوزير ، وشاطره برزان في الحديث ، قال وهو ينظر إلى ساعته.
ــ إنهم يستحقون أكثر من هذا.
رفع رأسه ومسك ذقنه بكفه الأيسر ، كان ينظر إلى الأجساد كيف تهتز على الأرض ، هز رأسه ، ثم أردف.
ــ تصور هؤلاء بأيديهم مصيرنا ماذا يصنعون بنا ، لاشك أنهم سيقتلوننا هكذا.
رد عليه السيد الوزير وهو يبتسم.
ــ يريدون أن يحكموا العراق ، يوسف كم بقي لديك؟ .
ــ هذه أخر وجبة من الأربع مئة سيدي.
ــ أي أربع مئة تعني.؟
ــ سيدي الذين أحببت أن تراهم وهم محملين بالعربات .
ــ ولكنني لم أذكر أي عدد.
ــ نعم سيدي أنت لم تذكر العدد ، أنا قلت إن الأربع مئة عدد لا بأس به لكي ترون هذا المشهد.
ــ نعم إنه عدد لا بأس به.
نظر برزان إلى مجموعة كبيرة من السجناء أُخرجت وهي تتجه إلى بوابة الصرح ومن ثم إلى الشقوق حيث يرقدون هناك والى الأبد قال.
ــ يوسف وأصحاب الشقوق ، هل أنجزتم الكثير.
ــ سيدي اسمع الرصاص من بعيد لقد بدأنا بإخراجهم منذ وقت ، وأول وجبة أعدمت هي التي كانت بالأشغال أصلا، كان عددهم لا يستهان به كانوا ثلاث مئة.
لم ينتبه برزان لتلك الكلمات ولم يسمعها جيدا ، كانا يتأملان في منظر العربات ، وتحديدا كانا ينظران إلى عربة قد سقطت منها جثتان وأصحاب العربة خائفون جدا وهم يحاولون حملهم وإرجاعهم إلى العربة التي صبغها الدم تماما.
ــ خونة كم كان السيد الرئيس رحيما معهم إلا أنهم تمادوا كثيرا .
قال الوزير ذلك بينما أدار وجهه نحو الساحة الكبيرة ، كان الجميع يعمل بجد وكانت الأرواح تزهق بسرعة متناهية قال الوزير بصوت هادئ .
ــ فكرة جيدة ، هذه العربات مفيدة كثيرا.
قال برزان وهو يرمي الدخان من فمه ببطء.
ــ نعم إنها مفيدة جدا.
ـ 5 ـ
ما زال السيد شمران ينظر إلى الطائرات وهي تبتعد باتجاه الشمس المصفرة و التي تحتاج إلى دقائق قليلة حتى تختفي في الأفق البعيد وعليها أي الطائرات أن تستدير بعد لحظات لتأخذ اتجاه العاصمة والذي يقع في شمال الصرح ، هز السيد يوسف شمران رأسه وهو ينظر إلى العربات وهي تأخذ أخر الجثث إلى الشقوق ، أدار وجهه إلى المحرقة التي تم تشغيلها قبل ساعة تقريبا لتحرق بعض النفايات ، كان يرى كيف أن الدخان يأخذه النسيم الذي هب قبل قليل يأخذه نحو الجنوب بعيدا عن منشئات الصرح الكبيرة ، قال في نفسه ( هكذا تجري الأمور بسرعة لقد كانوا قبل نصف نهار أحياء ، لقد رفع برزان الكثير عن كاهلي ، لم أكن أتوقع أن هذا سيحصل وبهذه السرعة ، لكم تمنوا أن يمتوا ، أخيرا أدركهم الله برحمته ) خرجت منه كلمات أخرى و دون أن يشعر ، أحد الضباط كان واقفا جنبه تصور أن يوسف يحدثه قال.
ــ عفوا سيدي لم أسمعك .
تبسم يوسف وأدار وجهه عن الطائرات التي اختفت في الأفق الشمالي ، راح ينظر إلى مجاميع الحرس التي راحت تساعد أصحاب العربات على إفراغ الساحة من الجثث المتبقية والقليلة جدا ، قال وهو يوجه حديثه إلى الضابط الذي تصور انه يكلمه.
ــ عليكم أن تتأكدوا من أنجاز كل شيء ، لا تتأخروا في دفن ما تبقى في العمق .
ــ سيدي هؤلاء سيبقون يعملون حتى منتصف الليل إذا أضطر الأمر وفي الصباح سننجز عملية الدفن ، نحتاج إلى عمل مكثف .
ــ اخرجوا من السجناء غير هؤلاء الأغبياء لقد تعبوا.
ــ نعم سيدي.
ـــ لا بد أن نزيد ساعات العمل ، فهناك عمل كثير ينتظرهم ، أين رجب ؟.
ــ سيدي ظنه ذهب إلى الشقوق ليتأكد من سير العمل هناك .
ــ ليأتي إلي بسرعة ، أنا ذاهب لأستريح في غرفتي .
ــ نعم سيدي ، سأبحث عنه وأبلغه ذلك .
ـ 6 ـ
حينما جاء رجب مسرعا وجد السيد شمران نائما وهو يصدر صوتا من منخريه ، إذ مرت نصف ساعة حتى وجدوه ولم يكن قد ذهب إلى الشقوق بل كان في ممرات سجن الجالية ، كان يطالع ماذا كتب الأجانب من ذكريات على الجدران كونه كان يجيد اللغة الإنجليزية ، قال في نفسه ( لو كان الأمر مهما لما نام ) أغلق الباب خلفه بهدوء وخرج نحو الساحة و التي فرغت تماما من الجثث ، نظر إلى أصحاب العربات من السجناء الذين جلبهم احد الضباط ليكلمهم رجب ، لم يصدقوا ما رأوه اليوم ، ولو أنهم خرجوا وحدثوا به ما كان هنالك من يصدقهم قال لهم.
ــ أمامكم عمل متبقي ، سوف تبقون على هذا إلى منتصف أليل ، لا تنسوا أن تغسلوا العربات من الدم ، هل هذا مفهوم؟.
أجابوه كلهم.
ــ نعم سيدي.
ثم ذهبوا يعملون إذ ما زال هنالك بعض المتعلقات التي عليهم أن يتموا عملها ، قال الضابط المستجد الذي وصل إلى الصرح قبل أيام وأدناه يوسف إليه .
ــ سيدي لقد أرسلني السيد اللواء وهو يريدك الآن.
ــ لقد ذهبت إليه ووجدته نائما.
قال ذلك الضابط.
ــ متى! ، ألان بلغني ذلك .
ــ سوف أتي معك.
كان السيد شمران على وشك أن يدخل إلى الحمام حينما وصل رجب إليه ، كان قد خلع بذلته الزيتونية التي خيطها في شارع الرشيد وبقى في سروال ابيض قصير جدا.
ــ رجب تأكد من الشقوق هذا أولا وثانيا حول السجناء وجعل في كل زنزانة اثنين ، أصبح لدينا مكانا واسع .
ــ أمرك سيدي ، هل يمكن أن نؤجل التنقلات حتى غد .
ــ نعم أنا لا اقصد الآن بل أريد أن أقول لك ما تصنعون ولكن الشقوق تأكد منها الآن على ضوء العجلات .
قال رجب.
ــ أمرك سيدي، لقد جئت ووجدك نائم.
ــ كنت متعبا، لقد كان عملا تاريخيا.
أدار وجهه إلى الحمام، كانت الباب حديدية صبغت بلون فضي ، قال وهو يدلف ببطء.
ــ اعرف أنكم مشغولون ، لقد أنجزتم عملا عظيما .
أغلق الباب بينما مضى رجب غالي مسرعا كي يبلغ الضباط بأوامر السيد شمران الأخيرة.
قال لضابط التنقلات بعد أن استدعاه إلى غرفته .
ـ أجعل في كل زنزانة أثنين فقط ، في الصباح افعل ذلك وليس الآن انتم اليوم أنجزتم عملا تأريخي.
ــ أمرك سيدي.
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح10
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح10
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 7 ـ
مضت نصف ساعة على ذلك الاجتماع الذي دعا إليه السيد شمران في غرفته، كانت ساعة الصرح تشير إلى التاسعة صباحا ، هذا الاجتماع قد خصصه للضباط الكبار في الصرح ، أراد أن يبين لهم خلفية ما حصل أمس ، قال في أول حديثه .
ــ الكل يعلم إننا نتعرض إلى موجة إعلامية شرسة من قبل الأعداء ، موجة لعينة وبتمويل يهودي خبيث حاولت وتحاول يائسة من إظهار بلدنا على انه البلد الأول في انتهاك حقوق الإنسان في المنطقة برمتها وهم من خلال هذه الافتراءات يحاولون التدخل بشؤوننا الداخلية عبر مظلة الأمم المتحدة وهي واجهة من واجهات الأنبريالية العالمية ، نحن حقيقة نعرف أن هذه المنظمات هي منظمات صهيونية وموجهة من قبل إسرائيل والعدو الأمريكي ولكن مع ذلك علينا أن نكون على حذر منها ، هؤلاء الأغبياء يتناسون أن معتقلاتنا لا تضم نوعا من البشر أنهم قرود تستحق الموت ، إنهم متآمرون على وطنهم ويخططون لقلب نظام الحكم ، جميع الذين قتلناهم أمس وقبل ذلك متآمرون وانتم تعلمون ذلك جيدا ، خونة يتعاملون مع الأجنبي على حساب أبناء بلدهم ، لقد قال لي السيد مدير الجهاز عليكم أن تخفوا كل المستمسكات التي تثبت كون هؤلاء كانوا هنا في يوم ما ، وكما تعرفون إن العدد كثير لذلك يتطلب منا جهد.
شرب السيد يوسف شمران قدح ماء وأدار كرسيه الأسود الدوار مرتين والذي كان يصدر صوتا حينما كان يدور وكأنه كرسي حلاق مستجد ، أكمل حديثه وكان عليه أن يرفع صوته بسبب صوت المروحة السقفية والتي علق برزان على صوتها أول ما سمعه بأنه يشبه صوت طائرة هليكوبتر مستهلكة على عكس المبرد الهوائي والذي تم جلبه إلى الصرح في بداية الصيف وهو صنع محلي لكنه لا بأس به ولا يصدر صوتا مزعج.
أكمل السيد يوسف شمران حديثه.
ــ لقد اقترحت عليه أن نتلفها لكنه أرادها في بغداد لذلك قال لي أرسلها بأقرب فرصة إلى مديرية الأمن العامة ثم قال لي ( كنا على حرص تام على أن نبقي هذا السجن قيد الكتمان ولكن في اعتقاد السيد الرئيس إن هناك من يعرف ماذا يجري هنا ، كما ونعتقد إن الأعداء لديهم تطور تكنولوجي واسع خاصة في مجال التجسس عبر الأقمار الصناعية ، نعم إنهم يعرفون ما يجري هنا حتى ولو على مستوى الظن والتخمين ) ، إذا وحسب قول السيد مدير الجهاز ووزير الداخلية فأن سجننا معرض إلى زيارات مفاجئة من قبل منظمات دولية رسمية فعلينا أن نخلي مسؤوليتنا منها بسرعة خاصة والبلاد تعيش تحولات نوعية في كل شيء ، لهذا أمرت بتشكيل لجنة ثلاثية من العميد سمير والمقدم قحطان والرائد نجم وذلك لإرسال هذه الملفات إلى مديرية الأمن في بغداد حيث ستخفيها بطرقها الخاصة ، أريد من هذه اللجنة أن تقدم خلال أربع وعشرين ساعة تقريرا مفصلا عن أسلم الطرق لنقلها علما انه رفض أن تنقل في الطائرات .
صمت ثم حرك مقدمة أنفه بأنامل كفه الأيسر، تنهد مرتين ، قال وهو يقلب بعض الأوراق أمامه.
ــ مفهوم سمير ، أنت رئيس اللجنة ولا اسمح بأي تأخير لا تنشغل بغير هذا العمل ؟.
ــ نعم سيدي غدا يكون التقرير بين يديك.
رفع رأسه كانت عيناه هادئتين وتنبضان بالحيوية ، قال .
ــ جيد ، أقول لكم ولا اخفي ذلك أن السيد مدير الجهاز راض عن عملكم وسوف ينقل ذلك إلى السيد الرئيس ، طلبت منه عشرة عجلات واز للتنقل بها داخل الصرح وقلت له إن العجلات التي عندنا قديمة ومعظمها عاطل كما طلبت بزيادة عدد الشاحنات التي تمثل صلة الربط بيننا وبين الحكومة و طلبت منه إحداث صيانة كبيرة للخط الكهربائي الرئيسي لوجود عطلات كثيرة به وخاصة في الشتاء ، وسألته عن إمكانية تزويدنا بمولد كهربائي جديد وكذلك طلبت منه تعبيد الطريق الترابي فقال ( فكرنا في ذلك وعما قريب ستلمسون شيئا من ذلك ) ، المهم إن كل الطلبات التي كتبت لي من شعبة الصيانة وأحسست أنها مهمة عرضتها عليه وقد كتبها وضاح .
صمت قليلا ، كان ينظر إليهم وهو يشرب أخر ما تبقى من قدح الشاي الذي قدمه أحد الجنود للسيد يوسف شمران وكذلك للضباط المجتمعين في أول لحظات الاجتماع ، وكان السيد شمران يتحدث ببطيء ويحاول أن يقلد الرئيس في بعض حركاته مثل حركة اليد اليمنى حينما يهزها الرئيس وهو يتكلم بشيء من الغضب وكذلك هز الرأس والكتفين ، وكان شمران يتصور إنه يجيد ذلك إلا إنه لم يكن يجيد ذلك أبدا والضباط يعرفون ذلك ولكنهم لا يظهرون ذلك لئلا يغضب عليهم بل لو سألهم هذه الحركة تشبه حركة من لقالوا كلهم إنها تشبه حركة السيد الرئيس حفظه الله ورعاه ، أردف قائلا.
ــ إذا كان لديكم شيء تحبون الاستفهام عنه ؟.
ــ سيدي الذخيرة قليلة جدا فقد استخدم منها الكثير.
قال المقدم نجم ذلك وتبعه النقيب وائل .
ــ كما إن أسلحتنا بعد هذه التجربة أثبتت أنها غير فاعلة .
هز رأسه وحرك يده اليمنى ، قال.
ــ لقد فآتني أن اذكر لكم شيء وهو أن هدية السيد برزان للجنود كانت مئة دينار و مئة وخمسون للمراتب ، ستصل خلال أسبوع أما ما يخص موضوع السلاح ليكتب المقدم رشيد ذلك النقص في كشف هذا عمله وسأوقع عليه ، انتهى الاجتماع .
حينما خرج الضباط من الغرفة كان رجب غالب قد بقى منتظرا ليكلم السيد شمران حول السجناء المتبقين ، لم يكن الحديث ذات أهمية بل حاول رجب أن يبلغه إن عملية فرز السجناء قد تمت قبل الاجتماع بنحو الساعة.
ــ جيد ، اتصل بشعبة الصيانة أريدهم أن يصبغوا كل الغرف الفارغة ، وإذا تمت حولوا لها السجناء واصبغوا غرفهم لا أريد أي كتابة على الجدار مفهوم ، امنعوا السجناء أن يكتبوا أي شيء ، ومن يكتب بعد أن تصبغ ضاعفوا عليه الأعمال حتى يهلك وارموه في الانفرادي عشرة اشهر مفهوم هذا قرار ، كذلك لا تنسى أن تصبغوا زنزانات الأجانب ، هذا من جانب من جانب أخر أريد جرد بأسماء وأعمار كل السجناء المتبقين ، لا تخرجوا من مضى على سجنه خمسة عشر سنة للأشغال .
ــ أمرك سيدي ولكن فيهم من يمتاز بالقوة.
ــ نعم أعرف ذلك ولكن هكذا أرى.
ــ أمرك سيدي.
قالها بصوت خافت بينما أدى التحية العسكرية منسحبا عن الغرفة.
ـ 8 ـ
ــ أيها العجوز العنيد يبدو أن نهايتك قد اقتربت.
قال ذلك إبراهيم رشاد مبتسما وهو يكلم العجوز الممتد في الزنزانة الثالثة والأربعين من الممر الواحد والعشرين ، كان العجوز مستلقي على ظهره جاعلا من قدميه وهما باتجاه الباب حاجزا بين مجموعتين من السجناء ، كان العجوز يئن بصوت حزين ، إذا جلست بقربه بالكاد تسمع ذلك الأنين ، حينها ستقول في نفسك أن روحه ستزهق قريبا ولكن حين تعرف انه أنهى الثلاث سنوات الأخيرة على هذا المستوى من المعانات قد تغير رأيك ، كان يشكو آلاما في ظهره ومنذ أيامه الأولى في الصرح وقد تفاقمت عليه مؤخرا بحيث لا يستطيع معها الجلوس ، ضربه احد الحرس بهراوة على ظهره في سنته الأولى وكان ذلك الحرس فضوليا إذ لم يكن الأمر متعلق بالتحقيق بقدر ما كان متعلقا باستعراض قسوته أمام احد الضباط الذي أثنى عليه علنا ، يومها قال له ذلك الضابط (جيد ) بينما قال في نفسه (أيها الكلب ما كان الأمر يتطلب ذلك ) قالها حينما رأى ذلك السجين يرفس برجليه وكأنه طير مذبوح ، كان اسم الضابط نبيل وكان اسم الجندي ذاك صيهود أما العجوز الذي يئن منذ ثلاث سنوات فكان اسمه سرحان بيدر، يومها أبعد نبيل ذلك الجندي عن لجنة الضبط النفسي للسجناء بحجة انه غير فعال ، قال العجوز سرحان وهو يبتسم وكان يكلم إبراهيم رشاد.
ــ ليتها تقترب لينتهي هذا الفصل المضحك سيد إبراهيم .
كان إبراهيم يكثر الكلام مع العجوز فقد رافقه في الزنزانات منذ قرابة الخمسة أعوام وهي اكبر مدة يمكن أن يصطحب بها سجين سجينا أخر وكان الأمر لا يصدق في نظر إبراهيم وحتى العجوز ، إذ أن الواقع هنا يشير إلى خلاف ذلك فالتنقل الدائم بين الزنزانات أمر لا مفر منه.
العجوز كان قد جلب إلى هنا قبل تسعة أعوام ، أعتقل لأنه قال إن الحرس القومي هو حزب البعث نفسه ، قال لإبراهيم ذات يوم ، ( إنني قلت ذات مرة إن الحرس القومي هو حزب البعث ، قلتها في المقهى وبعد يومين جاء الأمن ليعتقلني وبقيت في امن الناصرية شهر مع أبنائي الثلاثة ثم أخذونا إلى بغداد وبقيت في أمن الرصافة خمسة اشهر ثم أرجعوني وأولادي الثلاثة إلى أمن الناصرية ومنها إلى الصرح إلا إن أولادي تم إطلاق سراحهم من الناصرية ) ، كان العجوز يعتقد أن أولاده الذين اعتقلوا معه في مديرية أمن الناصرية قد أطلق سراحهم وكان العجوز يشعر بالانتصار لنجاة أولاده ، يشعر بذلك الانتصار كلما لاحت له صورهم التي بدأت تتوارى خلف النسيان ، قال له مدير أمن الناصرية يوم ذاك ( إننا نريدك أنت لا وأبنائك.. أطلقوا سراحهم فورا) وكان يحدث إبراهيم بذلك بل وكل من صاحبه في الزنزانات التي انتقل إليها عن أبنائه وبالأخص الأصغر منهم ، كان عمره يوم اعتقل سبعة عشر عاما و اسمه سمير وكلما مر به أسم سمير العميد الذي لا يتوانى عن ضرب السجناء بقسوة وخاصة الشيبة منهم إذ كان يقول( يفترض أن يكونوا اعقل من هؤلاء الشباب المندفعين) ، وكان العجوز كلما مر به ذلك الاسم بكى ، إلا انه لم يخبر بتلك المشاعر احد إلا إبراهيم وذلك لطول المدة التي قضاها معه ، وكان يكثر من القول ( إن سمير قد تزوج الآن وإن زوجته ربما أنجبت أطفالا بجمال سمير، الله كم أنا مشتاق لرؤيتهم ) ولكن الأمر ليس كما يتصور ذلك العجوز فأولاده الثلاثة كانوا في الصرح أيضا وصلوا إليه بعد وصول العجوز بفترات مختلفة ولكنهم في ذات الشهر ، كلهم وصلوا في ذات الشهر ولكن لا احد يعلم بالأخر ، كل منهم يتصور إن أخيه قد خرج ، هكذا اخبرهم مدير أمن الناصرية ، ولم تكن لديهم خبرة تسعفهم وتجعلهم يتصورون الأمور بحجمها الطبيعي ، بالأمس حصدت بنادق الحرس اثنين منهم وبقى واحد ولحسن حظه انه كان في المحاجر البعيدة وليس في الزنزانات ولو كان في غير ذلك المكان لقتل ايضا.
ــ يا الهي لقد عادوا من جديد.
قالها احد السجناء والذي كان يقف قرب فتحة الباب الصغيرة والمغلقة دوما ، ورد عليه الأخر و كان يجلس عند رأس العجوز متكأ على الجدار المتسخ والمليء بذكريات السجناء الحزينة.
ــ ولكن هذا ليس موعدهم.
وتمتم أخر بشيء من الكلمات المبهمة جدا والتي توحي انه كان خائف جدا ، وصاح السجان الذي بدأ يركل بأقدامه في البوابات الأولى ، كان يركلها بقوة .
ــ انهضوا أيها الجبناء لا أريد أحدا نائما.
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي - رحلة الضحايا والمظلومين في عهد الطاغيه صدام
السلام عليكم وبركة الله ورحمته
ارجو ان تقرأو هذه الحلقات وشوف كم هي القساوه والاجرام والقتل والعنف وعدم حقوق الانسان لدى هـــؤلاء الاوباش
مع الشكر
-
عزيزي الاخ بلدي
هل زودتم المحكمة الجنائية العليا بكل هذه الاحداث؟ أرجوا ذلك
-
أضحوكة العالم المثالي - رحلة الضحايا والمظلومين في عهد الطاغيه صدام - ارجو التثبيت
الاخ حسان مع التحيه
كم هي الدعاوي والشكاوي انها بالملايين على هؤلاء الاراذل
هذه الروايه وحلقاتها التي لم تنتهي مجرد للتأريخ وانها توثيق حقيقي ارجو الانتباه انها وثيقه حقيقيه
-
أضحوكة العالم المثالي روايه- من الحلقه -11 - الى الحلقه -14- ارجو التثبيت
[size=4]أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح11
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
الجميع أخذ ينهض كان الصوت مألوفا لدى كل السجناء فهو للسجان وليد الذي لا يتوانى أن يقتل كل من في الصرح بكاس من البيرة المحلية ، هكذا كان يقول لهم ، كان يكررها وهو سكران ( لو كنت مكانكم لدعوت إلى السيد شمران بالعافية ، أتمنى أن يجعل مقدرات هذا الصرح بيدي ساعة ، ساعة واحدة لجعلتكم تسمون السيد اللواء بالرجل الرحيم ، إنكم لا تساوون عندي كأس من البيرة ) ، لقد شارك أمس في قتل الكثير ، ليس في الساحة بل عند الشقوق ، كان واجبه الإعدام في الشقوق البعيدة ، كان السجناء يتمنون أن تنتهي الأربعة اشهر بسرعة فائقة حتى يذهب ذلك القصير القامة ذو البطن الواسعة والوجه الأسمر والشاربين الكبيرين جدا ، يقول الجنود أن الذي يأتي في مكانه جندي أخر يدعى منعم أقل شدة فهو يصغي للسجناء وإذا وجد اثنين يتكلمان يغض طرفه عنهما ، ويقولون ذات مرة إنه سمح للسجناء بالحديث لبعض الوقت.
نهض الجميع ، كل غرفة يركلها بقدمه اليسرى وأحيانا اليمنى تفتح بوابتها الصغيرة والتي هي في أعلى الباب الرئيسية ، تفتح من قبل احد الحراس الذين معه ، حينما انتهى من فتح كل البوابات الصغيرة ، صاح .
ــ سوف يأتي المقدم قحطان لا أريد أحدا يجلس ، الذي أجده جالسا سألقنه درس لن ينساه أبدا.
تركهم وذهب في أول الممر يجلس هو وبقية الجنود على كراسي خشبية ، راحوا يتحدثون عن الإجازة الدورية لماذا تأخرت ثلاثة أيام ، بينما ما زال احد الحراس يتجول في الممر ، لمح العجوز وهو مستلقي ، صاح به .
ــ كلب انهض ، رافد تعال افتح الباب .
هرول رافد نحو ذلك السجان وأصوات المفاتيح بيده تقبض قلوب السجناء وهي دوما تقبض قلوبهم وكلما كانوا يسمعونها كانوا يتحركون في أماكنهم خيفة وهم لا يشعرون ، قال وهو يهرول.
ــ نعم أنا قادم.
تحرك احد السجناء نحو الباب كان يريد أن يتكلم ، لقد عزم على الكلام وهي مجازفة خطيرة جدا وكان يعلم بذلك ، كان أسمه كاظم وكان شابا دخل قبل شهرين في عامه الثلاثين إلا انك إذا رأيته قلت إن عمره تجاوز الخمسين ، قال.
ــ سيدي هذا مريض منذ مدة والسيد شمران يعرف به.
صرخ به ذلك الجندي الذي كلمهم قبل قليل.
ــ أصمت أيها الخنزير وألا حرقت لحيتك البيضاء هذه.
لم تكن لحيته بيضاء مطلقة بل كان البياض هو الغالب ، وصل رافد الشاب الوسيم جدا والمخنث جدا وهو يحمل مفاتيح جميع الغرف ، قال وهو يلهث.
ــ كم الرقم ؟.
أجابه وهو يضع سيجارة سومر في فمه.
ــ واحد وأربعون.
أخذ يبحث في المفاتيح وهو يردد ( واحد وأربعين ... واحد وأربعين ... واحد وارب )..قال بصوت متقطع.
ــ وجدته خذ ، ماذا صنعوا هؤلاء القردة ؟.
ــ لا شيء ولكن هذا العجوز الأغبر لا يقوم انظر إليه وكأنه عريس.
تحرك العجوز على أمل أن يجلس صاح خمسة مرات من الألم ، فتح الباب ، ركله ستة مرات على وجه ، خرج الدم من فمه وأنفه ، أراد أن يخرجه ، بدأ المخنث يسحبه إلى الخارج ، لا احد يستطيع أن يتكلم أي حرف ، فكلمة واحدة يعني أن تنال ذات العقوبة التي هي مبهمة حتى هذه اللحظة قال السيد إبراهيم في نفسه ( إذا اخرج العجوز فلن يرجع إلى هذه الغرفة أبدا ولن ألتقي به أبدا ، علي أن أتكلم ).
قال.
ــ سيدي الضباط الكبار حي..
صرخ الحرس.
ــ اصمت لا تتكلم ، أصمت يا كلب.
أكمل السيد إبراهيم رشاد حديثه بعد أن توقف قليلا.
ــ حينما يأتون ويرون العجوز نائما ويسألوننا عنه نقول لهم هو مريض وعندكم الإثباتات الصادرة من مستشفى الصرح وهم يتفهمون ذلك .
كان العجوز ما يزال نصفه في الممر والنصف الأخر في الزنزانة والشاب المخنث يجره من يديه وقد لف البذلة الزرقاء على شكل مئزر ، ارتفع صوت العجوز ، حينها جاء وليد يتمشى كأنه طاووس في لحظات التزواج ، نظر إلى العجوز قال.
ــ اتركوه هذا مريض ، بدر أليس كذلك ؟.
قال العجوز وهو يمسح الدم من فمه.
ــ نعم اسمي سرحان بيدر.
ـ نعم ، نعم أتذكرك جيدا ، أرجعوه لا حاجة للعقوبة فهو مريض.
صمت قليلا ثم أردف .
ــ ولكن لا تبقى نائما حينما يأتي المقدم ، اجلس على اقل تقدير.
ــ نعم سيدي.
نظر الجندي إلى إبراهيم وقال وهو يكلم وليد .
ــ هذا يتدخل في شؤون السجناء وقد جعل من نفسه محامي لهم .
ــ من ؟ .
ــ هذا العجوز الأغبر.
ــ أسمك إبراهيم أليس كذلك؟.
ــ نعم سيدي.
ــ لماذا تكلمت دون أن يوجه إليك سؤال ، هل نسيت تعاليم الصرح ؟.
أحس إبراهيم بخطورة الموقف وان وليد إذا أخرجه فستكون هنالك عقوبة قاسية جدا.
فكر وليد بإخراجه وتعليقه في الممر يوم كامل وخطرت بباله فكرة أن يعلقه من قدميه ليقتله لأنه قال في نفسه ( إن هذا العجوز غير مريح ) ولكن قبل أن يتكلم صاح الجندي المخنث والذي توسط الممر وكان ينظر من خلال البوابة الصغيرة إلى السجناء وكأنه أول مرة يراهم .
ــ جاء المقدم ، وليد جاء المقدم.
قال ذلك وهو يهرول باتجاه الزنزانة ليقفلها أما وليد فقد هرول باتجاه قحطان الذي راح ينظر في الزنزانة الأولى وكان يسير بجنبه الملازم سامر.
أستعد وليد ودون آن يتكلم.
قال قحطان.
ــ سامر أريدك أن تجرد عدد السجناء في كل زنزانة .
ــ نعم سيدي.
وليد كان يعرف ذلك ويحفظه على ظهر قلب ، أي لو سأله المقدم كم عدد السجناء في الزنزانة السابعة مثلا لقال له خمسة ، أراد أن يقول له ذلك لكنه رآه متوترا فخشي أن يعاقبه ، لذلك طرد هذه الفكرة وقال للمخنث الذي استعد أمام المقدم قبل لحظات .
ــ صباح اجلب كرسي للمقدم ليستريح .
نظر المقدم إلى وليد ، قال له .
ــ ما هي أخباركم؟ .
قال له وهو يبتسم
ــ جيدة سيدي .
ــ أذهبوا مع الملازم ربما احتاجكم .
وجَّه المقدم كلامه إلى وليد وبعض الحرس والذين تشاوروا فيما بينهم على إن يتقدم احدهم ويسأل المقدم عن سبب تأخير الأجازة ثلاثة أيام ، قالوا له ( نعم سيدي ) وراح وليد ينسحب ببطء ألا إن الجنود تغامزوا فيما بينهم على أن يبقى واحد يقوم بذلك الدور ، تخلف احدهم ولم يشعر المقدم بذلك ، كان ينظر في مجموعة السجلات لسجناء جدد أمره رجب غالي بتفحصها وقد أودعهم قبل نصف ساعة في الزنزانات الانفرادية ، كان يقف خلفه أحد الضباط الصغار ، رفع رأسه من مطالعة تلك السجلات وتفحصها ، دفعها إلى ذلك الضابط الذي يقف خلفه قال له بصوت هادئ ( إذا رجعت إلى غرفتي ذكرني بها ) أخذها الضابط وقال له بهدوء مبالغ فيه ( نعم سيدي )، نظر إلى سامر وهو يكتب أسماء السجناء في سجل ازرق كبير، وكان قد توغل في عمق الممر ووليد وبعض الحرس خلفه يغلقون الفتحات من الزنزانات التي مر عليها الضابط ، هز رأسه ، قال المقدم قحطان في نفسه ( أغبياء ) ثم أردف قائلا بصوت سمعه الضابط الذي يقف خلفه (( قل لهم لا تغلقوا الفتحات نحتاجها ) ، وصل الخبر إلى الملازم سامر، قال ( لم أمرهم بذلك) نظر الملازم إلى وليد الذي رأى في نفسه إن البوابات الصغيرة ينبغي أن تغلق فراح يغلقها ، صاح به الملازم .
ــ افتحها .. هيا افتحها .. من قال لك أغلق البوابات.
بدأ بفتحها وليد وبمعاونة ذلك الجندي المخنث وهو يتمتم بكلمات لا تفهم .
السجناء الأحياء الذين أفلتوا من تلك الزيارة السريعة لم يعلموا ما حدث أمس ظهرا ، لقد سمعوا أزيز الرصاص ولنصف نهار تقريبا ، لكنهم لم يسمعوا صراخ السجناء وهم يركضون ، ذلك لأن الممرات التي تقع بها زنزاناتهم بعيدة فهي تقع في الطرف الأخر من الصرح ، لو كانت قريبة لما كانوا اليوم أحياء و لكانوا مع السجناء الأخريين الذين لم يبقى منهم سوى مجموعة من الكلمات متناثرة هنا وهناك كتبت بخوف شديد على جدران الزنزانات التي فرغت من كل شيء. السجناء الأحياء لم يتصوروا أبدا ما حدث ، نعم لقد مرت بهم فكرة إعدام بعض السجناء ولكن لم يمر بخاطرهم إن تلك الزنزانات التي مروا بها قديما قد فرغت تماما وما بقي بها غير كلمات على الجدار يوشك السيد يوسف شمران أن يطمس أثارها والى الأبد ، وبالفعل فقد باشر الصباغون بطلاء الزنزانات الفارغة في الممرات القريبة.
ــ سيدي هذه القوائم.
ــ جيد.
ـ 9 ـ
صاح المقدم وهو يقف في وسط الممر.
ــ اسمعوني جيدا سوف نبقي في كل غرفة اثنين من السجناء فقط ، وسوف نبدأ بذلك الآن الذين نخرجهم سوف لن نؤذيهم ، سنذهب إلى زنزانات فارغة أخرى أكثر سعة ، نريدكم أن تأخذوا راحتكم فالمكان ضيق هنا ولا يسع إلا لسجينين أو ثلاثة.
تبسم إبراهيم ، قال في نفسه ( أين كنتم هذه الأعوام ) فكر في العجوز وكان قد جلس متكأ على الجدار الذي يقابل البوابة واضعا رأسه بين ركبتيه ، قال مرة أخرى في نفسه ( ماذا سأقول لهم لو أخرجوني عن العجوز ، هل يمكن أن أقول لهم دعوني معه لأنه بحاجة لي ، ولكن تبدوا لي هذه المسألة نوع من الحماقة ، ربما ادفع ثمنها بقية أيام حياتي هنا ) ضحك حينما مرة به كلمة حياتي قال في نفسه مرة أخرى ( لا يوجد هنا أي معنى للحياة) حرك رأسه ووضعه على الجدار منتظرا أن يأتي قحطان والذي ما يزال يتكلم ويوعد السجناء خيرا ، أغمض عينيه تذكر خديجة زوجته وهي المرة الأولى التي يتذكرها هذا اليوم قال (عموما من الحكمة لو أخرجوني أن اسكت و سأتركها لمشيئة الله وعنايته فنيتي هي أن أبقى مع هذا العجوز المسكين ، والذي أحببت خدمته ، سأشتاق إليه طويلا ) .
لا يوجد احد من السجناء لم يسمع كلمات قحطان والذي توسط الممر حينما راح يتكلم ، بعضهم وصلت إليه ضعيفة جدا ، صدى الصوت في الممر ساعد الغرف الأخيرة من أن تسمع قحطان ولكن ليس كل الكلمات ، لقد عرفوا أن أمرا ما سيحدثه قحطان الآن إلا انه ليس مخيفا كبقية الأشياء التي اعتادوا على رؤيتها.
ــ إبراهيم ما تقول أخشى أن نفترق؟.
قل العجوز ذلك ، بينما راح إبراهيم يدنو منه ، قبله واحتضنه على نحو السرعة ، قال وهو يقف في مكانه القديم.
ــ الله وحده يعلم كم أتألم لو أخرجوني عنك ، فكرت أن اكلم قحطان ولكن رأيت أن هذه حماقة ، فهم قساة ، يكرهون أن يتعلق سجين بسجين آخر ، نريد دعاءك ، والله يفعل ما يشاء.
يتبع إنشاء الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
- ح12
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
فُتحت الزنزانة التي فيها العجوز، صاح المقدم قحطان بصوت فظ.
ــ وجوهكم إلى الحائط.
قالوا بصوت واحد وسمعه المقدم بوضوح.
ــ نعم سيدي.
أدار الجميع وجوههم إلى الجدار ، أغمأضحوكة العالم المثالي / روايةض إبراهيم عينيه وصك أسنانه وتأمل قليلا ، كان يحاول أن يتوقع من الذي سيخرجه قحطان، قال في نفسه ( أتوقع إنهم سيأخذونني عنه ، رباه سأفتقد العجوز )، رأى قحطان العجوز وهو جالس وقد أسند ظهره للجدار وما زال فمه يقطر بالدم جراء تلك الركلات والعجوز يحاول مسحها بكفه الأيسر بين الحين والأخر نظر قحطان إلى الدم والى أثار تلك الضربات العنيفة لم يعلق عليها بشيء ، قال له.
ــ كيف حالك أيها العجوز ؟ قالوا انك مريض .
ــ نعم سيدي أنا مريض وظهري يؤلمني جدا .
أدار قحطان وجه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح12
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
فُتحت الزنزانة التي فيها العجوز، صاح المقدم قحطان بصوت فظ.
ــ وجوهكم إلى الحائط.
قالوا بصوت واحد وسمعه المقدم بوضوح.
ــ نعم سيدي.
أدار الجميع وجوههم إلى الجدار ، أغمض إبراهيم عينيه وصك أسنانه وتأمل قليلا ، كان يحاول أن يتوقع من الذي سيخرجه قحطان، قال في نفسه ( أتوقع إنهم سيأخذونني عنه ، رباه سأفتقد العجوز )، رأى قحطان العجوز وهو جالس وقد أسند ظهره للجدار وما زال فمه يقطر بالدم جراء تلك الركلات والعجوز يحاول مسحها بكفه الأيسر بين الحين والأخر نظر قحطان إلى الدم والى أثار تلك الضربات العنيفة لم يعلق عليها بشيء ، قال له.
ــ كيف حالك أيها العجوز ؟ قالوا انك مريض .
ــ نعم سيدي أنا مريض وظهري يؤلمني جدا .
أدار قحطان وجهه إلى السجناء ، تبسم في نفسه لم يحرك شفتيه ولكنه هز رأسه ،راح ينظر ، ثمة أجساد خاوية وبدلات زرقاء رثة جدا وممزقة في معظم جوانبها، قال بذات النبرة التي تكلم بها قبل قليل.
ــ إذا إبقى هنا وهذا سيبقى معك ، إخرجوا البقية .
لم يكن إبراهيم من وقع عليه اختيار المقدم الذي سرعان ما توارى عن الغرفة ، السجين الذي بقى مع العجوز اسمه جبار وهو من الهاشميات أراد العجوز أن يكلمه بل تكلم بصوت خافت وظن إن المقدم سمعه إلا انه لم يسمعه ولو طلب منه العجوز ذلك بحجة أن إبراهيم يساعده حينما يذهب للغائط لتركه ، كان يظن قحطان انه صنع خيرا للعجوز فجبار كان الأقوى في منظور قحطان من بقية السجناء الآخرين وجسده يسمح له بأن يحمل العجوز للمرحاض ويرجعه ، هكذا فكر قحطان حينما ترك جبار في الغرفة.
تضجر إبراهيم كثيرا حينما أخرجوه، تنهد عدة مرات وهو يقف في الطابور الذي تألف من السجناء الذين تم إخراجهم من الغرف قال في نفسه ( وداعا يا حاج سرحان سوف لن نلتقي بعد ذلك أبدا، سأفتقدك كثيرا ) تذكر إبراهيم كلمات الرائد غانم عند دخوله الصرح وهو يسلمه البذلة الخاصة بالسجناء( إياكم أن تتعلقوا بأي سجين أو تحبون صحبته في عالم الزنزانات الذي سيظل يحيطكم حتى الممات، هذه نصيحتي لأن تعلقك بأي سجين يعني الألم المضاف إلى أحزانك وآلامك وأنت غني عنه لأنك سترى من العذاب ما ينسيك أمك وأبيك، ففي أي لحظة يمكن إن تتركه فأذن لماذا تتعب نفسك، عليكم أن تهتموا بأنفسكم فقط ) ، تعثر احد السجناء لم يكن من الذين اخرجوا من زنزانة إبراهيم بل من الزنزانات الأخرى ، صفعه احد الحراس، صاح المقدم بصوت قاسي إذ أنه رأى ذلك.
ــ كفوا أيديكم عنهم، أرفقوا بهم.
لم يسمع إبراهيم مثل هذه الكلمات منذ أيامه الأولى أي قبل عشرة أعوام، نظر إلى الممر كان مليئا بالحرس، كانوا مجردين من السلاح إلا إن بعضهم كان يحمل عصي وهراوات، أوقفوه في الطابور الطويل، كان هنالك جندي يقيد أيادي السجناء من الأمام وليس من الخلف كعادتهم، وهناك آخر يشد على العيون بخرقة زرقاء يبدو أنها أخذت من ملابس السجناء الميتين، صاح الملازم سامر.
ــ كل سجين يضع يديه على كتف السجين الذي يكون أمامه، هيا بسرعة أمامنا طريق طويل.
أدرك حينها إبراهيم لماذا قيدوهم من الأمام وكان يتساءل قبل ذلك في نفسه ( ترى لماذا يقيدوننا هكذا ، هذه أول مرة أرى فيها سجانا يقيد سجينا من الأمام )
ـ 10 ـ
منذ خمسة أعوام لم يفارق إبراهيم ذلك العجوز، أحس بوحشة كبيرة، فتحوا القيد من يديه، قال له أحد الجنود وهو يدفعه بقوة ، ( أدخل إلى هذه الزنزانة رقم زنزانتك أربعة عشر، لا تنسى ذلك ) أدخلوا أيضا شابا اسمر اللون نحيف الجسم، وجهه نضرا إلا أن الشيب غطى لحيته، بدلته الزرقاء تبدوا غير متعبه على خلاف إبراهيم فقد كانت بدلته ممزقة نوعا ما، الزنزانة لم تكن واسعة وكانت ادعاءات قحطان باطلة وغير صحيحة فهي تشبه تلك الزنازين التي قضى بها إبراهيم تسعة أعوام وبعض الأشهر، جلس إبراهيم فور دخوله الزنزانة بينما ظل الشاب واقفا ووجهه إلى الحائط يحرك رأسه بالحائط كأنما يضربه برفق، نظر إليه إبراهيم كان هو الأخر متعبا إلى حد انه يكره الكلام مع إي شخص، فرك معصمه الأيسر الذي ضغطه القيد بحيث ظل أثره محمرا شهرا حتى اختفى، فكر أن يكلم الشاب إلا إنه استدرك ذلك وقال في نفسه ( أمامنا وقت طويل، سأمل منه ويمل مني فعلى ما هذه العجلة ) صمت في نفسه ثم رجع يحدثها ( ما كان يضرك يا قحطان أيها الطاغوت لو أبقيتني عند العجوز، فجبار غير متفق معه وهما دوما غير متآلفين، إذن كيف سيعيشان وكيف يتسنى لجبار إن يعينه حينما يريد بيت الخلاء ) فرك عينيه تذكر إناء الفطور إذ لا يوجد في الزنزانة إي إناء وأي فراش قال في نفسه مرة أخرى ( يبدو أن هذه الزنزانة فارغة منذ زمن ) نظر إبراهيم إلى ذلك الشاب ، لم تكن نظرة فاحصة ، كانت نظرة عابرة وعابرة جدا ، الذي يراه ينظر إلى ذلك السجين يقول إنها نظرات ازدراء وتجاهل والحقيقة إن إبراهيم لم يكن يحمل ذلك الشعور ، مرت نصف ساعة على دخولهم الزنزانة، كانا صامتين لم يتكلما بأي كلمة، كانا يفكران ، يفكران بصمت عميق بأولئك السجناء الذين تركوهم في الزنزانات البعيدة ، من الحكمة أن لا يوجد هناك تعلق حقيقي بين سجين وأخر لأن الموضوع كله متعلق بإرادة الحرس فقد يخرجون سجين ويدخلونه زنزانة أخرى متى شاءوا، صاح السجان.
ــ تحضروا للفطور.
أنتبه الشاب قال بصوت فاتر ( كيف سنأخذ الحساء ليس لدينا إناء ) تبسم إبراهيم وهو لا يزال جالس يفرك في معصمه ( سنقول لهم إن آنيتنا تركناها هناك واعتقد أنهم يعرفون ذلك ) جلس الشاب بجنبه قال بنبرة حادة ( أنت متفائل جدا أيها الأخ ، شهر كامل لا يدفعون لي حساء ولا أي شيء يوضع في الماعون لأنهم نقلوني إلى زنزانة ليس فيها ماعون ، وكلما طالبت الحرس بذلك كانوا يضحكون ويقولون لي أشتري واحد من الدكان القريب لك)
قال إبراهيم.
ــ حسب علمي هم يعرفون جيدا إننا جئنا من دون أنية.
ــ لا ادري ولكن موقفنا محرج، أرجوا إن يكون مزاجهم جيد هذا اليوم.
بدأ الحرس يفتح البوابة الصغيرة لإعطاء الفطور، قال إبراهيم في نفسه ( أتمنى أن لا يحدث لنا مثلما حدث للشاب قديما) ثم سأل الشاب.
ــ منذ متى حدث لك ذلك.
ــ منذ سنة تقريبا.
هل تتوقع أن يحدث هذا الآن.
ــ أتوقع ذلك.
فتح الجندي البوابة الصغيرة قال لهم.
ــ هل لديكم أنية ؟ .
أجاب الاثنان معا.
ــ كلا تركناها هناك.
تبسم الجندي، قال وهو ما يزال مبتسما.
ــ أنتم لم تتركوها بأرادتكم، لا بأس.
أغلق البوابة الصغيرة بهدوء، صاح وهو يسير في الممر.
ــ هؤلاء كذلك ليس لديهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح13
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 11 ـ
السجناء الذين استثناهم الأخ غير الشقيق للسيد الرئيس و كان أصحاب العربات منهم وكذلك من كان ينظف واجهات القيادة كل يوم ومكاتب السادة الضباط ، هؤلاء كان عليهم أن يعملوا الليل كله وحتى حينما مزق الفجر قميص الظلام كانوا يعملون إلا إنهم عادوا بعد الشروق ، عادوا متعبين جدا يجرون مساحيهم ومعهم بعض سرايا الحرس الذين كانوا يلحون عليهم أن يدفنوا القتلى قبل بزوغ الفجر.
كانت مهمتهم إرجاع التراب ليواري جثث السجناء ، تلك الجثث لتي ملئت الشقوق ، كان الظلام دامسا إلا ما كانت ترسله المصابيح اليدوية والتي كان بعض الحرس يحملها ، ولأنها كانت محلية الصنع وصغيرة لم يكن ضوئها ساطعا ولا مركزا على الشقوق بحيث ينير للسجناء وهم يعملون بل كانوا يركزون على الأفاق خشية أن يتوارى سجين خلف التلال القريبة وهذا ما لم يفكر به أي سجين ، كانت المصابيح لا تنير إلا لثلاثة أمتار لكنهم كانوا يوجهونها نحو الأفاق، ولأن مناخ العمل كان هكذا لم يروا السجناء إن بعض الذين تم رميهم في الشقوق كانوا يتحركون ويئنون إي إنهم لم يكونوا ميتين ، نعم لقد لاحظ بعض الحرس ذلك قبل نزول الظلام إلا إنهم كانوا يخشون أن يحدثوا الحرس بذلك وكانوا يهيلون التراب وهم يقولون لماذا نخبر الحرس إذ إنهم ميتون لا شك في ذلك وكانوا يعملون بنشاط من اجل أن يرجعوا قبل طلوع الصباح.
ـ 12 ـ
قال الشاب الذي أسند ظهره على الجدار جاعلا يده اليسرى وراء ظهره وقد رفع قدمه اليمنى بحيث اسند باطن القدم على الجدار أيضا وهو ينظر إلى إبراهيم الذي مد رجليه واتكأ على الجدار الساتر.
ــ إسمي حسن عبد الزهرة من البصرة ، طالب في المرحلة الأولى ، كلية الزراعة، بغداد ، اعتقلت في عام 1976من قبل مديرية أمن بغداد ، بقيت ستة أشهر في مديرية الأمن العامة تعرضت خلالها إلى شتى أنواع التعذيب كانوا يسألونني عن طالب معي في نفس الشعبة اسمه أسامة كانت تربطني به علاقة جيدة وهو ناشط إسلامي كان يرى إن الإسلام يمكن أن يأخذ دوره بالحياة وعملية تجميده ما هي إلا محاولات يائسة لقد تأثر ببعض الشباب الثوريين ،هكذا كان يقول لي ، توارى عنهم ولا أداري هل مسكوه أم لا ، ثم أخذوني في طريق طويل ، واعتقد إننا مشينا كثيرا في طرق وعرة وترابية حتى وصلنا إلى هذا المكان، هذا باختصار شديد وفي الأيام القادمة سوف نتكلم عن بعض الخصوصيات والتفاصيل وطرق التعذيب.
تبسم إبراهيم ، ثم صمت لحظات ، كان ينظر وهو جالس إلى مجموعة كبيرة من الكتابات ملئت الجدران ، قال في نفسه ( إذا انتهيت من كلامي مع حسن سأقوم بقراءتها ) ، قال له الشاب.
ــ وأنت لم تحدثني ؟.
قال ابراهيم بهدوء مبالغ فيه.
ــ اسمي إبراهيم رشاد أستاذ في كلية الآداب ، قسم التأريخ ، بغداد ، متزوج من الدكتورة خديجة صاحب ، أيضا تدرس في ذات الكلية قسم اللغة العربية ، ولي بنت واحدة اسمها سحر ، تركتها ولها ثلاثة سنوات ، اعتقلت في عام 1970 دون أن اعرف حتى هذه الساعة الأسباب التي دعتهم إلى اعتقالي ، إلا أن احدهم ذات مرة قال لي في التحقيق إنك تكثر من التثقيف ضد مبادىء الوحدة العربية ، قلت له و ما هو دليلكم على ذلك قال هذا وأخرج لي كاسيت كان عن محاضرة عن عوامل نجاح المشروع العربي ،وأتذكر إن طالبة سألتني عن رأي في ذلك الموضوع فأحببت أن أتكلم مع الطلبة عن ذلك قلت إن المشروع العربي سيتداعى إذا ظل يدور حول مفهوم القومية ولم يجد سبل منطقية تتماشى مع تطلعات الأجيال والتواصل مع إرادة الشعوب على اعتبارها المحرك الرئيسي في إحداث التغيرات الحقيقية ، ذلك لأن هذا العامل أي العامل القومي ليس هو الأساس في تطلعات المنطقة العربية وأن كان هناك من يغذيه ليجعل هو المهم ، فهنالك عوامل أخرى ينبغي الانتباه إليها ، هذا كل ما قلته ، قال لي المحقق أن السيد الرئيس رائد المشروع القومي وأنك تدعي هنا إنه لا يفهم فعليه يجب أن نجعلك تؤمن إن السيد الرئيس يفهم جيدا .
ضحك الشاب كثيرا ، قال .
ــ منذ زمن لم أضحك هكذا ، ولأن هل أدركت إن السيد الرئيس يفهم الأمور جيدا ؟.
ــ منذ الأيام الأولى قلت ذلك، قلت أنه يفهم كل شيء وإن مشروع القومية العربية سينجح وسنسافر بين الدول العربية في الهوية الشخصية وسيصبح لدينا اقتصاد واحد.
قال ذلك إبراهيم بينما نهض لينظر ما في الجدران من كتابة ، كانت مليئة تماما ، قرأ بعض الكلمات ( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون أم الله الواحد القهار) ثم هناك (اذكرونا في صلاة الليل السجين أبو زينب)، حرك الشاب وهو جالس قدم إبراهيم اليمنى بيده اليسرى وكأنه يريد أن ينبه عن شيء مهم جدا وكان إبراهيم قد تخشب أمام تلك الكلمات، قال.
ــ ماذا تصنع أيها العجوز؟.
وكان إبراهيم لا يرى الكلمات إلا إذا اقترب منها كثيرا.
ــ أريد أن أقرء .
ــ اجلس ، اجلس لدي طريقة رائعة سأعلمك إياها مجانا ، لا تتعجل الأمور ، كان هنالك رجل كردي من أربيل اسمه سيروان لا أتذكر اسم أبيه علمني هذه الطريقة ، لقد مر على ذلك ثلاث سنوات قال لي انك حينما تدخل زنزانة بها كلمات كثيرة فلا تقرأها في يوم واحد لأنك ستمل منها ، أقرء بعض الكلمات لأن أمامك اشهرا عديدة إذا لم نقل سنوات، اعتقد إنني عملت بها وأحسست أنها وصفة ناجحة ، مثلا رموني ذات مرة في زنزانة مليئة بالكلمات تماما مثل زنزانتنا هذه ، بقيت أطالع بها أربعة اشهر ، تصور أربعة اشهر وأنا أقرء كل يوم شيء جديد ، أحسست بمتعة لا توصف مع إن الكلمات كانت مؤلمة وحزينة ، هي تشبه الحزن الذي ينتابك حينما تسير خلف موكب جنائزي يضم حبيبا لك .
خرجت من عيني الشاب قطرات من الدمع ، لاحظها إبراهيم ، حرك الشاب كفيه برقة ليمسحها ، بينما اطرق إبراهيم ينظر في أرضية الزنزانة العارية من كل شيء ، أراد إبراهيم أن يبعده عن ذلك الحديث الشجي ، قال له.
ــ متى يجلبون لنا فراش؟ .
إلا إن الشاب أكمل حديثه.
ــ لقد جعلت لذلك وقت محدد وهو وراء صلاة الظهر ، كنت انتظر هذه اللحظة بشوق لأتم ما قرأته أمس من حكايات السجناء .
أراد إبراهيم أن يشاطره الحديث إلا أنهما سمعا أصوات الحرس وهي تقترب ، وكانوا يفتحون البوابات الصغيرة في أول الممر ، قال الشاب وهو ينهض.
ــ ترى لماذا عادوا ؟، ينبغي أن لا يعودوا حتى الظهيرة.
وضع أذنيه على البوابة المخلقة ، سمع بعض الحرس وهم يتكلمون عن أسماء السجناء ، هذا الأمر مخيف جدا هنا إذ إنه حمال لوجوه والسجناء يدركون ذلك .
جلس وهو خائف ، قال بصوت باهت ، بعدما سأله إبراهيم.
ــ يبحثون عن سجناء سمعته يقول لهم أسمائكم بسرعة .
فتح أحد الحراس البوابة الصغيرة بعنف ، صاح.
ــ انهضوا.
قديما وفي الحاضر هذه هي الكلمة الأولى التي ينطقها الحرس في حالة أنهم يرون السجناء وهم جلوس وهذه الحالة نادرة وتكاد تكون شاذة ، فعادة السجناء هنا أنهم إذا سمعوا بفتح البوابة الصغيرة ينهضون جميعا ويصطفون على الجدار ، حينما كانوا هناك كان وليد يصيح بصوت مبحوح ( انهضوا أيها الجبناء ) وأحيانا يبدلها دون ما يدري( بالحقراء) أما هنا فلم يسمعوا ذلك الصوت حتى الآن، قال الجندي وهو ينظر إليهم من فتحة الباب.
ــ إذا أردتم مزيدا من الاحترام عليكم أن تنهضوا حال ما تسمعون أصواتنا في الممر ، مفهوم ، أسمائكم بسرعة ؟.
ــ نعم سيدي حسن عبد الزهرة.
وقال إبراهيم حال ما انتهى الشاب من رد اسمه .
ــ إبراهيم رشاد.
أخذ يطالع الجندي في سجل ازرق اللون كبير جدا حمله في يساره وبدأ يتصفح في بيمينه برفق، قال.
ــ ماذا قلت أيها العجوز ؟.
ــ إبراهيم رشاد .
ــ رشاد أم رشيد ؟.
ــ لا ، إبراهيم رشاد.
قال الجندي بصوت بالكاد سمعه إبراهيم .
ــ هذا إبراهيم رشيد .
رفع رأسه قال بصوت فض.
ــ إسم جدك بسرعة ؟.
ــ محسن.
ــ إذا ليس هذا .
رجع يقلب السجل مرة أخرى ، تمنيا وهما لا يعلمان أن أمنيتهما كانت واحدة ، كانا يتمنيان أن الأمر ليس له علاقة بإعادة التحقيق الذي عادة ما يجري يبن فترة وأخرى كما وتمنيا لو يعرفان على ماذا يبحث هذا الجندي الذي صك بأسنانه المتسخة على الثلث الأخير من سيجارته وكانت من نوع روثمان ذات الغلاف ألورقي الأزرق ، قال إبراهيم في نفسه ، ( ربما هو جرد للأسماء ) صمت ولكنه وجد نفسه تحدثه من جديد دون شعور ( وربما إعادة تحقيق كالتي صنعوها بنا قبل أربعة أعوام )، قطعت كلمات الجندي حديثه ذاك كما وقطعت حديث الشاب مع نفسه وكانت هي ذاتها الكلمات التي كانت تضج في مخيلة إبراهيم دون شعور ، صاح الجندي بعد أن ابعد سيجارته من فمه.
ــ إبراهيم رشاد محسن ذا النون .
ــ نعم سيدي.
ــ سنة الاعتقال بسرعة؟.
ــ 1970
ــ الشهر؟.
ــ ماذا ؟.
ــ الشهر الذي اعتقلوك به ، هل تذكره ؟.
ــ نعم الخامس.
، كان الجندي يطابق بعض المعلومات المثبتة في ذلك السجل مع ما يتفوه به كل سجين ، حينما انتهى وهو يمطي بشفتيه ، توقع إبراهيم أن يقول للذين معه من الحرس ، وجدناه ، هذا أخرجوه ، إلا إن الجندي ألتفت إلى الشاب ليسأله عن اسمه أجابه بصوت مرتبك .
ــ حسن عبد الزهرة راهي.
لم تكن الأسماء مرتبة ضمن نظام معين لذلك ترى الجندي أخذ يعيد قراءتها ، لحظات من الصمت ، كان بها إبراهيم ينظر إلى الشاب الذي اصفر وجهه كثيرا ، كان يحرك أصابعه يريد إن يقول له لا يوجد ما يخيف وكذلك كان يهز وجهه يمينا وشمالا بهدوء إلا إن الشاب كان لا يعبئ بما كان يصنعه إبراهيم ، صاح الجندي مرة أخرى .
ــ ما أسمك ، ماذا قلت ؟.
ــ حسن عبد الزهرة راهي.
ــ راهي ام راعي ؟.
ــ لا راهي .
ــ هنا مكتوب راعي .
ثم اخذ يطالع مرة أخرى لحظات ليقول له .
ــ هذا اسمك ، حسن عبد الزهرة راعي ، لا يوجد غيرك.
ــ نعم سيدي.
ــ سنة الاعتقال ؟.
ــ 1976.
صاح الجندي .
ــ الشهر يا حيوان مثل صاحبك هيا لا تؤخرنا.
ــ الثاني سيدي.
أغلق البوابة بقسوة ثم مضى وهو يتكلم بكلمات لم يسمعها إبراهيم ، كانت رائحة الدخان المحلي تفوح منه ، وهي إذ تلتحم مع حرارة الممر فأنها تكون مناخا أعتاد معظم السجناء عليه ، إلا الجدد خاصة المدخنين منهم ، هؤلاء أمامهم وقت حتى يعتادوا على تلك الرائحة التي تذكرهم بسجائرهم وربما حاول منهم من يطلب من الحرس ذلك ولكن حينما يرى الإجراءات الصارمة سوف ينسى هذا الموضوع والى الأبد ، حتى الذين ينتظرون هناك ، أي قرب جناح التنسيب وهو جناح مكلف بتوزيع السجناء الجدد على الزنزانات الانفرادية ، حيث يمكنك مشاهدة العشرات منهم وقد جلبوا فجرا إلى الصرح، وهؤلاء عليهم أن يعيشوا في زنزانة انفرادية عاما كاملا لا ينقص يوما واحدا ، هذا ما يريده السيد بوسف شمران ولا مفر من التسليم بما يقوله السيد شمران السيد الأول لهذا المكان المنعزل والموحش جدا ، حتى هؤلاء أي السجناء الجدد ينبغي عليهم أن ينسوا كل شيء تركوه هناك فهم اليوم في عالم الصرح الكبير ولا مجال لأن يتذكروا أي شيء خارج الصرح.
ــ ماذا تظن ؟.
قال الشاب ذلك وهو يجلس بإعياء وكأنه عمل في الصحراء وفي شق صخري طول النهار ، مد رجليه النحيفتين واتكأ على الجدار المقابل للباب وهو الجدار الساتر على حد تسميات السجناء ، صمت قليلا ، ثم أردف.
ــ اعتقد أن الأمر يتعلق بالأشغال ، ربما يريدون أن يرتبوا الأسماء من جديد ، ما تقول أنت.
ــ ولماذا يرتبونها من جديد ؟، أليست عندهم .
ــ لا أدري هكذا أتوقع ، نعم أتوقع إن الموضوع متعلق بالأشغال .
قال إبراهيم وهو مبتسم.
ــ توقعنا أم لم نتوقع لا يؤثر شيء نعم لا يؤثر على أي شيء ، منذ سنين نحن نتوقع وما الذي حدث ، علينا أن نجري تحديثا شاملا لبرامج الصبر التي لدينا ، أشعر أنها بدأت تنفذ وهذه كارثة فربما أمامنا بعد عشرون عام .
ــ لا تكن متشائما يا أستاذ.
ــ لا لست متشائما ، تصور إنني التقيت بسجين في السنة الأولى كان يتوقع انه سيخرج بعد أيام، نصحته أن يكون أكثر تعقلا ، قال لي أنت لا تؤمن بالله ولو كنت مؤمنا بحق لقلت لي أنت صادق في توقعك، لأن المؤمن دائما يكون متفائل ، يومها تبسمت وقلت أنا مؤمن بأن الله قادر على كل شيء ولكن كذلك مؤمن بأنني امتلك عقلا ومن خلال هذا العقل أوازن الأمور فأن جاء أمر الله فان ذلك ليس بالعجيب ونحن مكلفون بالدعاء والتوسل ولكن ليس بالضرورة أن تكون المصلحة التي يريدها الله لنا هي بالخروج ربما البقاء هنا وربما الموت ، إنني أمن بأن الله قادر على إزالة هذا الصرح العين في أي وقت ولكن بما أن الصرح موجود فأنني أتعامل معه بعقلي وبما لدي من إيمان وان أغلق منافذ الشيطان هذا ما كلفتُ به والله يفعل ما يشاء ، لأننا في مكان لا مجال لأن نضعف به، الذي يضعف هنا ستكون عاقبته حزينة جدا ، هل اتفقت أن عبرت النهر سباحة.
ــ نعم إنني أجيد السباحة أنا من التنومة.
ــ جيد هذا يجعل تصورك للأمر بمنطق عملي ، حين تكون وسط الشط لا مجال إلا أن تواصل لكي تصل إلى أحدى الضفتين ، نحن وسط النهر، الضفة الأولى هي الخروج والضفة الثانية هي الموت والراحة الأبدية ولا يوجد شيء ثالث.
يتبع إنشاء الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح14
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 13 ـ
قبل حلول الظلام بنصف ساعة تقريبا فتحت البوابات الصغيرة مرة أخرى، ووقف السجناء ينتظرون الجديد وكانوا قد تسألوا قبل ذلك فيما بينهم كل مع صاحبه في الزنزانة ، وقليل هم الذين انتبهوا لذلك الحدث المتكرر والذي لا يستوجب أي انزعاج ، كانوا يتحدثون عن سبب تأخر وجبة العشاء ، كان من المفترض أن توزع عصرا أي قبل هذا الوقت بساعتين ، هي عادة ما تكون أرز أمريكي وأحيانا محلي وهذا نادر جدا وعليه شيء من مرق الباذنجان وصمونة واحدة ، أما الماء فكان هناك كأس من البلاستك محلي الصنع اصفر اللون ، يعطى لكل سجين في أيامه الأولى ، السجناء الجدد إي الذين مضى على وجودهم هنا سنتان تقريبا دفعوا لهم كؤوس حمراء اللون وأكبر حجما من القديم ، ومن خلال ذلك الكأس يمكن للسجين أن يشرب من حنفية المرحاض البلاستكية ذات اللون الأبيض كما ويستخدمه السجناء إذا أرادوا الاستحمام ، صاح السجان الذي توسط الممر بصوت مرتفع جدا.
ــ كل زنزانة ليس فيها بطانيات وفيها نقص من إي شيء ، فليخرج احد السجناء يده حتى نراه ، هيا بسرعة ، الذي لا يخرج يده ولديه نقص سوف يسقط حقه.
نهض إبراهيم ، قال الشاب بفتور.
ــ ألم اقل لك إن المعاملة قد تحسنت.
أخرج إبراهيم يده اليمنى ، كرر السجان ذلك الصوت ، لحظات ليمر السجان وهو يكتب أرقام الزنزانات التي تشكوا من نقص، أردف السجان.
ــ هذا يكفي أدخلوا أياديكم.
تركوا البوابات دون أن يغلقوها واكتفوا بإرجاعها قليلا، لا يوجد هناك أدنى صوت ، هناك بعض الإقدام تتحرك في الممر ، وبدأت أصوات تقترب من بعيد ، ( المتحدث الذي يتكلم يبدو انه هادئ الطباع) ، هكذا قال الشاب وهو يسترق السمع واضعا أذنه اليسرى على جهة البوابة الصغيرة وقد اقترب منها كثيرا ،ورد عليه إبراهيم ( لا يوجد هنا من هو هادىء الطباع)، أحس الشاب أن ثمة أقدام تقترب وكان دخان السجائر قد ملأ الممر ، ابتعد بسرعة واتكأ على الجدار وتنفس بعمق قال بهدوء.
ــ وصلوا.
دنى من الباب شاب وسيم يرتدي بزة عسكرية ، ويبدوا انه يولي لمظهره اهتماما كبيرا على خلاف معظم الضباط هنا ، قال.
ــ مرحبا .
قالا بصوت واحد.
ــ أهلا سيدي .
ــ كيف أحوالكم ما هو النقص عندكم ؟ ، أنا ملازم سليم ، مسؤول الخدمات في هذا القطاع .
أقترب إبراهيم إلى الفتحة ، راح ينظر إلى الملازم ، كان صغيرا جدا ربما له من العمر عشرون عاما ، كان وسيما هكذا لاحظه إبراهيم وعلى نحو السرعة قال في نفسه ( اعتقد انه لا يصلح أن يكون في مثل هذا المكان الموحش ) ، وقبل يستطرد إبراهيم في الحديث مع نفسه ، أردف الملازم .
ــ نعم أيها العجوز ماذا عندك ؟ ، أنا أحب أن أساعدكم.
ــ سيدي المرحاض لا يوجد فيها تصريف جيد ، إنه يضايقنا كثيرا .
كان مع الضابط ثلاثة من الحرس احدهم يكتب كل شيء يقوله السجناء وما يطلبوه و ما يشكون منه من النقص الذي عندهم ، أما الآخران فراحا يكتبان احتياجات الزنزانات المتبقية في الممر ، قال الضابط وهو يبتسم.
ــ جيد هذا أولا.
أردف إبراهيم.
ــ لا توجد لدينا بطانيات وكما تشاهد ، ثم تركنا كؤوس الماء هناك ، وهذا الأخ يشكو الجرب منذ اشهر .
ــ وبعد ماذا لديكم.
ــ سيدي حرارة الزنزانة لا تطاق .
تبسم الملازم ، قال بهدوء.
ــ ماذا نصنع هذا الأمر خارج عن نطاق قدرتنا.
ــ إذا كان لديكم شيئا أخر ؟.
ــ لا شيء .
ــ الإنارة هل هي كافية ؟.
ــ نعم سيدي ولكن اللون الأحمر مزعج جدا ، لماذا لا تغيرونه إلى أي لون ما عدى اللون الأحمر، أنه مزعج جدا .
ــ هذا ليس اختصاصي ، إن اختصاصي هو إذا احترق المصباح فأنا الذي أبدله ، أما اللون وساعة إطفاء الإنارة فهذا اختصاص السيد اللواء .
قال الشاب.
ــ سيدي أحب أن اعرف في أي يوم نحن وما هو التاريخ ، أحب أن اعرف ذلك، هل ممكن هذا.
ــ ممكن جدا .
قال وهو يبتسم.
ــ نحن في الأيام الأولى من الشهر السابع من عام 1980، هذا هو التأريخ ، أيعقل أنكم لا تعرفون التأريخ.
ــ واليوم سيدي .
ــ ماذا تعني .
قال الشاب.
ــ أربعاء أم خميس.
ضحك الضابط الذي وضع نجمة واحدة على كتفه الأيمن وواحدة على الكتف الأيسر، قال.
ــ لا ، اليوم هو الاثنين.
صمت ثم أردف.
ــ هل تدرون كم الساعة تطفأ عندكم المصابيح.
قال إبراهيم.
ــ لا.
ــ الساعة العاشرة وأحيانا الحادية عشر ، هو موعد إطفاء مصابيح الزنزانات ، هذا في الصيف أما في الشتاء فلا ادري لأنني جديد هنا .
قال الشاب بصوت لا يكاد أن يسمع.
ــ إذن دخلنا في عام 1980؟.
سمعه الملازم ، لم يعلق بأي شيء واكتفى بابتسامة هادئة.
قال الشاب وهو يوجه حديثه لإبراهيم.
ــ عام 1980؟.
قال الضابط وهو يبتعد.
ـ أجلسوا سأترك الباب الصغيرة في كل الزنزانات مفتوحة حتى الصباح ، ارجوا أن لا تسيئوا لهذه المرونة ، وهذا عشائكم قد جاء وسأجلب لكم ما تحتاجونه .
صاح بالحرس الذين راحوا يكتبون نقص الزنزانات وكانوا على وشك أن ينتهوا من الزنزانات الأخيرة.
ــ هل أكملتم ؟.
ــ سيدي ما زالت هنالك ثلاث زنزانات.
ــ هيا أسرعوا .
جلس إبراهيم ، أما الشاب فظل واقفا بعيدا عن الفتحة إلا انه ظل يراقب الممر من خلالها ، وكان ينظر إلى الحرس حيث ازداد عددهم قبل أن ينسحب الضابط وهم يذهبون ويأتون ، كأنهم زنابير حقل لا تنفك تدور حول خليتها ، قال الشاب .
ــ كان من المفترض أن أتخرج في هذا العام ، لقد تخرجت مها ، نعم لقد تخرجت ، وستتزوج ، لا شك أنها ستتزوج ، وربما ستتزوج باسم هو كان يريدها ، كنت عقبة أمامه ،كانت تحبني كثيرا ، أتمنى لهما كل خير، حينما يدخل الإنسان هنا يتجرد عن ألذات ، أليس كذلك يا سيدي .
قال إبراهيم.
ــ هذا الشاب لا يعرف عواقب الأمور ، يوسف شمران لا يرضى بهذا أبدا ، لم أرى ضابطا بهذه الروحية ، انه يعاملنا بلغة أحسسنا من خلالها إننا لا زلنا أحياء ، ويمكن أن نعيش.
قال الشاب الذي ما زال واقفا ، قال ذلك وهو يبتسم.
ــ سرعان ما يتغير ويعتاد على ذلك ، مثل دفان الموتى في وادي السلام ، الذي يخشى الجثة في أول يوم ثم سرعان ما يعتاد على ذلك حتى يصل به الأمر انه ينام مع الجثة لو تطلب ذلك ، هذا كذلك سيعتاد على ضربنا ، وسيعدمنا بيديه حينما يأمرون بذلك وسترى بنفسك كيف يخرجنا إلى برنامج الأهداف ، ربما يحتاج إلى سنة أو سنتين حتى يعتاد على ذلك ، الشيء المؤكد انه سيعتاد على ذلك .
قال إبراهيم وهو يهز برأسه .
ــ مؤكد ، وإلا سيبعد عن الصرح إذا لم يستطع ذلك ، يحتاجون هنا إلى رجال على غرار يوسف شمران أو سمير أو قحطان.
يتبع إنشاء الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-
ارجو من الاخ الويب ماستر تثبيت الموضوع لايام لان هناك حلقات ... تتبع
[size=4]أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح15
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
راح الاثنان يتناولان العشاء، كان عبارة عن قليل من الأرز وعليه قليل من مرق الباذنجان المقلي والمطبوخ بشكل غير جيد وصمونة واحدة عسكرية متيبسة نوعا ما ، غسل إبراهيم يديه وعاد يتمشى في الزنزانة خطوات ثم يقف وهكذا ، بينما لا يزال الشاب يأكل ببطء ، جلس حيث اتكأ على الجدار الذي يقابل الباب ، راح يدفعه بظهره بقوة ، كان يريد أن يمطي ظهره ، إلا أنه سرعان ما تحول، أحس برطوبة الجدار الساتر، تحول بحيث أصبح الشاب أمامه بعد أن كان على جانبه الأيسر، أغمض عينيه ، تذكر العجوز ، خرجت دون أن يشعر ابتسامة ، لم يلاحظها الشاب الذي ما زال يأكل وهو يفكر في كلمات الضابط الصغير ، فكر إبراهيم في كلمات العجوز القديمة جدا حينما كان العجوز يستطيع أن يخرج للأشغال وكان ألم ظهره ليس شديدا إلى حد العذر الرسمي عن الأشغال ، يومها كانا يحفران في الشق الكبير.
ــ هؤلاء الأوغاد لا ادري ماذا يفعلون بهذا الشق العظيم في هذه الصحراء ، وهل سينتهي يوما ما.
ــ وإذا انتهى هل تتصور سيتركوننا، مؤكد أنهم سيجدون لنا شقا أخر.
ــ تكلم يا إبراهيم وأنت تعمل لا ترفع رأسك، لكم نبهتك عن هذه الحالات ،احد الجنود ينظر إلينا.
ــ نعم فهمت، أحد الجنود ذات مرة سمعته يقول أن ابن الرئيس يريد أن ينشئ مدينة خاصة به هنا يجلب لها مختلف الحيوانات البرية والبحرية وأن هذا الشق ما هو إلا نهر طويل على شكل حلقة ستتصل في النهاية بنهر دجلة، ثم يعود للنهر، إنه يشبه استدارة كبيرة تظم مدينة عظيمة، وقال أن الصرح سيهدم ما إن تكمل تلك المدينة.
ــ دجلة! وأين يقع نهر دجلة الآن، من هنا أم من هنا؟.
ــ لا أدري، ولكنه موجود، مؤكد أنه موجود في مكان ما.
ــ ونحن أين نكون يومَ تكمل تلك المدينة؟ .
ــ ربما لا نزال في الصرح فينقلوننا إلى مكان اقل قسوة.
ــ الصرح، هذه الكلمة كم امقتها انظر إليه لا تخف انظر إليه وأنت تضرب الأرض، إنه نقطة في عرض الصحراء.
ــ في يوم ما إذا نجوت سأجلب أولادي إلى هنا وأقول لهم إننا كنا هنا نحفر ليل نهار وكنا لا نعرف غير كلمة واحدة، أمرك سيدي، ومن يقول غيرها فأنه مجنون.
ــ لا اعتقد إننا سوف ننجوا أن المسألة مجرد وقت.
ــ أعملوا لا احد يتكلم أضربوا الأرض بقوة، بددوا هذا البرد القاسي بالعمل المتواصل أعملوا أيها الخونة، لا تتكاسلوا هذه الأرض صخرية نوعا ما، اعملوا، اعملوا، اعمــ.....
أصدر إبراهيم شخيرا متقطعا ، إنتبه الشاب الذي جلس قبل قليل وكان قبل ذلك ينظر عبر البوابة الصغيرة للممر الخالي من أي شيء إلا من بعض الفراشات التائهة لتي راحت تلتصق بالمصابيح فتصدر صوتا يبدد صمت الممر الموحش ، قال .
ــ أحسدك أيها العجوز، لا ادري كيف يمكن أن ينام الشخص وهو متكأ على الجدار، أتمنى أن أرزق هذه الملكة.
ـ 14 ـ
ظل إبراهيم نائما طول أليل وهو جالس وفكر الشاب الذي لم يأته النوم مبكرا في أن يجعله يمد ظهره على الأرض الإسمنتية والعارية من أي فراش إلا انه فضل أن يتركه هكذا، لكنه استدرك من تلك الأفكار قال في نفسه( أين سيضع رأسه) ، وظل الشاب جالسا حتى بعد أن أطفئت المصابيح بساعة ثم استلقى واضعا يده اليمنى تحت رأسه وكان ثمة اثر للضوء في عينيه حتى بعد أن أغمضها وكان ضوء الممرالذي يضل مشتعلا حتى بعد أن تطفأ مصابيح الزنزانات ينعكس من خلال الفتحة التي بقيت مفتوحة هذا الليل فيبدد الوحشة نوعا ما ، الفتحة في أعلى السقف هي الأخرى تسرب بعض الضوءالمنبعث من أبراج المراقبة القريبة والذي ينعكس على الجدار المقابل لها وبحجمها تماما راسما فتحات الشرك بإتقان ، كان يفكر في كلمات الضابط الصغير حول الاحتياجات وقال في نفسه ربما هم أرسلوه ليهدئوا من طباعنا ثم وجد نفسه وهو يضحك دون أن يحرك شفتيه كان يضحك في نفسه بسخرية على تلك الفكرة ، قال ( ولماذا يهدئون من طباعنا وهل هم يخافون منا إنهم يصنعون بنا كما يصنع الجزار بالخراف قبل الذبح ، اعتقد إنهم لا يفكرون بنا إلا على مستوى التسلية وحفر الشقوق التي أتمنى أن اعرف ماذا يصنعون بها ، هذه فكرة سخيفة نعم سخيفة من نحن حتى يعبئون بنا، إنهم لا يعبئون بنا ولا يفكرون رحم الله امرأ عرف قدر نفسه) ووجد نفسه ودون أن يشعر يفكر بمها ، الحبيبة القديمة والتي تعرف عليها في الأيام الاولى للكلية ولكن العلاقة تنامت بشكل سحري ، حتى أصبحا بعد ثلاثة اشهر وكأنهما يعرفان بعضيهما منذ سنوات، حك رأسه ومد يديه على رقبته ، لقد هدأ الجرب ، هكذا قال ، كان العجوز ما يزال نائما وهو يصدر شخيرا متقطعا ، تذكر إن العجوز نسى أن يصلي المغرب والعشاء ، قال في نفسه (علي أن أجلسه) ، ثم استدرك وقال في نفسه(لقد مضى وقتها حينما يجلس في الصباح اخبره) ، أراد أن يطرد مها عن أفكاره ، كان عبثا يحاول ، أخيرا استسلم لذلك السيل من الأفكار تصور أن زفافها اليوم وإنها في أول ليلة مع زوجها ، كما وتصور فراشها الأبيض الوفير ، تذكر كلماتها وهما يجلسان تحت ظلال شجرة الصفصاف في كلية الزراعة.
ــ سوف لن يفرق بيننا أي شي.
ــ أي شيء.
ــ أي شيء يا حبيبي وسيدي وكل ما املك في هذه الدنيا.
ــ حينما ننتهي من الدراسة في أول شهر سأتقدم .
ــ لأحسب في أي شهر.
ــ لا تحسبي إنه السابع من عام 1980، أين يمكن أن نكون في مثل هذا التأريخ.
ــ في شهر عسلنا ، مؤكد ، لا أشك في ذلك أبدا.
ــ قل إنشاء الله و لكنني لا اعتقد ذلك ، اعتقد إن الشهر التاسع سيشهد زواجنا.
ــ هيا لقد بدأت المحاضرة .
ــ من عندنا ؟.
ــ وقاية مزروعات ، الأستاذ فالح.
ــ هذا الأستاذ مزعج سوف لن يسمح لنا بالدخول إذا دخل قبلنا إلى القاعة ، هيا لنذهب.
أدار وجهه للحائط ، كان قبل ينظر للفتحة ، لم يصدق إنها ظلت مفتوحة الليل كله ، كان يحاول بهذا التغير في النوم أن يغير أفكاره أيضا ، قال لماذا يصدر شخيرا بعض الناس، كان إبراهيم قد ارتفع شخيره ، حاول أن ينام ، كانت رائحة الأقحوان بأزهاره الصفراء والتي تشبه رائحة الكافور وهو منتشر في الصحراء القريبة ،كانت تلك الرائحة يدفعها النسيم عن طريق الكوة في أعلى السقف لتخلق مناخا مختلفا نوعا ما ، في الليل تنخفض درجات الحرارة وايضا تنخفض وتيرة الخوف من الحرس فيكون للجلوس والتفكير طعم خاص ، ظلت مها عالقة بذهنه يبعدها بتذكر بعض الأشياء الحزينة أو المخيفة ،منذ سبعة أشهر لم يتذكر مها ، كانت اطلاقات بعض الحرس البعيدة جدا تذكره بأزيز الرصاص الكبير والذي حدث أمس، قال كم سجين يا ترى قتل أمس أم إنها كانت مناورة عسكرية أمام الزائر ، قرأ سور قصيرة من القرآن الكريم، الفاتحة ، الإخلاص ، القدر ، النصر ، الكافرون ، تلكأ بها ، كان يحفظها جيدا لكن النعاس جعله يخطأ بالمتكررات، تركها ، قال في نفسه ( ربي ساعدني كي أتخطى هذه المواطن المخيفة لأنك أنت الوحيد الذي يقدر على ذلك) ، لم يشعر بعد ذلك إلا والحرس يركلون في الأبواب وهم يصيحون ( الفطور اجلسوا الفطور ، الذي يظل نائما سيسقط حقه )، فتح عينيه ، كانت ثقيلة وكأنها تحمل جبل ، ما زال وجهه إلى الحائط ، سمع صراخ الحرس ، رمق الفتحة بطرف عينية ، قال في نفسه (ما زالت مقفلة) ، لقد نسي أنها كانت مفتوحة الليل كله وقد أغلقها الحرس عند الفجر ، لكن ( الحرس قريب جدا ) ، هكذا قال في نفسه ، نظر للعجوز الذي مد نفسه على الأرض وكأنه ميت ، كان شخيره قد خفت ، قال في نفسه ( ربما سقط وهو نائم )، تبسم ، ثم أردف وفي نفسه أيضا ( لا ادري أيها العجوز كم سأبقى معك ، ربما نموت سوية) ، أحس بأن أحدا يريد أن يفتح البوابة ، أنتبه لذلك ، قفز من نومه وكأنما صعق بسلك كهربائي صاح بصوت مرتبك.
ــ أجلس أيها العجوز ، إبراهيم أجلس ، إنه الحرس.
يتبع إنشاء الله.....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح16
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 15 ـ
في الليلة التي مضت وفي حدود الساعة الحادية عشر وبعد أن تأكد من الواجبات الليلية استلقى رجب غالي على سريره وراح يطالع في نفسه بعض ما كتبه من زنزانات الأجانب ،وكان رجب قد كتب في دفتر صغير جدا بعض تلك الكتابات التي ملئت جدران الزنزانات وكان معظمها باللغة الإنجليزية كتبها بسهولة تامة لأنه كان يجيد تلك اللغة ، ( 1 تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ:«أَيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا، 2 إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ. 3 وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ. 4 أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. 5 وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ) قلب الصفحة الصغيرة راح يطالع بصوت هادىء جدا (فاض قلبي بكلام صالح، أتكلم بأنشائى للملك، أنت أبرع جمالا من بنى البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد، تقلد سيفك أيها الجبار، بجلالك اقتحم، اركب من أجل الحق والدعة فتريك يمينك مخاوف، وشعوب تحتك يسقطون، كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك، بنات الملوك بين محظياتك) ،قلب الورقة برفق تام، راح يطالع بعض الأوراق ،ضغط على عينيه بأصابع كفه الأيمن كانت هناك بعض الكتابات التي نقلها وكان يحب أن يطالعها مثلا كانت هناك بعض الذكريات والكلمات الحزينة جدا كتبها سجين يدعى تومالين وقصائد شعر للوليم هوت وكلمات لسجينة اسمها جوانا لكنه شعر بالتعب والنعاس ، قال في نفسه ( سأطالعها في وقت أخر ).
ـ 16ـ
أخذ السيد شمران يتأمل في هذا الصباح الباكر ذلك التقرير الذي كتبه الضباط الثلاثة حول نقل ملفات أولئك الذين مزقت أجسادهم الخاوية بنادق الحرس الخاص ، نقلها إلى بغداد ، جلبه العميد سمير عصرا حينما كان شمران يتمشى مع رجب في الساحة الكبيرة وكانا ينظران إلى بعض السجناء يعملون في إخفاء ما تبقى من برك الدماء الكثيرة والتي سالت من أجساد من أعدموا ولم يتسنى أن يطلعه في نفس الوقت.
( بعد توجيهات السيد مسؤول الصرح اللواء يوسف شمران حول وضع برنامج سري للغاية يتبنى نقل ملفات من الخونة أعداء السيد الرئيس وأعداء العراق العظيم والذين تم تنفيذ حكم الإعدام بهم إلى العاصمة ، وبعد المداولة توصلنا إلى ما هو آت .
إن كل سجين لديه ملف يتراوح بين مئة وخمسين ورقة إلى مائتين ، ولدينا وفق الإحصائيات أكثر من خمسة ألاف ملف وهذا يعني شاحنة على اقل تقدير لنقل الملفات بالشكل الذي لا يؤدي إلى تلفها ، الشاحنة التي نرتئي استخدامها وحتى لا يكون هناك أدنى شك في ضمان عدم المراقبة من أي جهة ، وإن كان هذا أمر مستبعد بسبب يقظة رجال العراق هي شاحنة الثلج التي تأتينا كل يومين مرة ، المقترح هي أن نحجز سائق الشاحنة أو نرسله إلى العاصمة عن طريق الطائرة وان نذهب بالملفات نحن إلى بغداد . التوقيع اللجنة المكلفة .
قال يوسف.
ــ جيد هذا جيد ، رجب .
ــ نعم سيدي .
هز يوسف يده اليمنى بقوة أشارة للوثوق ، حرك كرسيه ،قال.
ــ جيد فكرة رائعة ، رجب.
ــ نعم سيدي .
ــ أقرء هذا أريد كافة التسهيلات ، لا أريد أي مفاجئات هذه الملفات يجب أن تكون في بغداد صبيحة يوم الخميس.
ــ أمرك سيدي.
ـ 17 ـ
قال إبراهيم وهو يملأ قدحه من حنفية المرحاض .
ــ قلت لي انك تقرض الشعر ، إي منهم ، لقد جئت بعدي بسنوات ، أحب أن اعرف هل نجح المجددون في مشروعهم الكبير ، لقد واكبت أول هذا التغير الأدبي وكانت خديجة ترفدني بأخر المستجدات كانت مهتمة بذلك الموضوع إي اهتمام ، كانت بداياته متعثرة نوعا ما ولم يجد رواجا أول الأمر إلا انه تحسن في منتصف الستينيات ثم انتعش في نهاية الستينات نوعا ما، حاولت خديجة أول الأمر إن تنظر إلى الموضوع من جهة كونه نتاج الانفتاح على الأدب الغربي أتذكر أنها قالت لي ذات مرة انه شكل من إشكال التأثر الحضاري ، لا ادري أين وصلت المعركة ، هل تريد ماء؟.
ــ لا شكرا
أكمل إبراهيم حديثه وهو يجلس واضعا القدح الأحمر المملوء ماء بينهما.
ــ لقد وجد في بعض الزنزانات شيئا من ذلك الشعر الحديث ، هل اتفقوا على تسميته بالشعر الحر أم إنهم ارتئوا شيئا أخر أعتقد أنهم أطلقوا عليه الشعر الحر أول الأمر هل اتفقوا على ذلك؟.
ــ أنا لم اقل إنني اقرض الشعر، بل احفظ شيئا منه .
ــ تصورتك قلت إنك تقرض الشعر.
ــ لا ، أما بالنسبة إلى ذلك الشعر لقد أخذ طريقه في الساحة الأدبية واثبت فاعليته وباتت تسميته بالشعر الحرولا يوجد شك في ذلك.
ــ الشعر الحر، هذا جميل ، أتذكر هذه المفردة جيدا لقد انطلقت متزامنة مع انطلاقة هذا اللون.
ــ هل تريد أن تسمع منه شيئا.
ــ أتمنى ذلك ، انه يذكرني بخديجة ، لقد كانت مؤيدة لذلك التحول ولكن ترى أن ذلك يجب أن يكون بشروط ، هي من المدافعين عنه ولكن كانت تصر على ضرورة الالتزام بالتفعيلة الشعرية ، هكذا كانت تقول.
مسك الشاب رأسه كأنه يريد أن يستل من عالم ذاكرته بعض الذي كان يحفظه أيام ما كانت عواطفه اتجاه مها لا توصف ، لكنه لم يستطع أن يأتي بشيء من ذلك الشعر الذي كان يحبه ، حاول في شعر أخر، قال وهو يتمشى في الزنزانة وكأنه يلقي على محفل من الجماهير.
كم طاف قلبي من غريب.
في ذلك السوق القديم.
فرأى.
وأغمض مقلتيه.
وغاب في الليل البهيم.
وارتج في حلق الدخان
خيال نافذة تضاء.
والريح تعبث بالدخان .
الريح تعبثُ .
في فتور واكتأب بالدخان.
وصدى غناء.
ناء يذكر بالليالي المقمرات
وبالنخيل .
وأنا الغريب.
أظل اسمعه واحلم بالرحيل.
في ذلك السوق القديم .
ما زال يحترق الحياة.
وكان عام بعد عام .
يمضي.
ووجه بعد وجه، مثلما غاب الشراع.
بعد الشراع.
وكان يحلم في سكون، في سكون .
حينما انتهى الشاب صاح إبراهيم ودون أن يشعر إن صوته قد ارتفع ولأول مرة منذ اشهر.
ــ رائع ، رائع ، تحولات جميلة ووصف دقيق.
أراد إبراهيم أن يسأله عن صاحب تلك الأبيات ألا إن الشاب بادره وهو يجلس .
ــ السياب إنها للسياب.
ــ يبدو أن الأدب قطع مسافات جميلة.
تبسم الشاب ثم سرعان ما تحولت تلك الابتسامة إلى ضحكة ساخرة، قال وهو يضحك .
ــ نعم ، أعتقد أنني وجدت في هذه الزنزانة بعض الشيء من هذا الشعر واعتقد إنني لمحته عند هذه الزاوية ،لأرى.
نهض الشاب ليخطو ثلاث خطوات ، مد رقبته التي صيرها الحك وكأنها مقطعة بسكين ، قال بصوت هادىء تماما.
ــ نعم وجدتها، هذه هي الأبيات ، هل رأيتها.
ــ لا لقد عملت بنصيحتك ولكن الكتابة هنا ممسوحة تقريبا.
ــ حتى هذا الشعر بالكاد يقرأ ، بل لا أستطيع أن اقرأ سوى بعض الكلمات من هذه القصيدة الطويلة والتي مسحت تماما
واضيعتاه
ألا تحركه الخطوب
إلا ترجل طيفه الغجري
في ليل الجنوب
ألم يكن في بيته الهمجيُ
هنا كلمة ممسوحة ولكنني أظنها (شباكا) أو ما شابه ذلك.
يطل على الطريق
ولا جديد
هناك كلمات لا تقرأ سأكمل سيد إبراهيم من حيث أستطيع القراءة.
قال إبراهيم بلغة المتأسف.
ــ نعم حاول ذلك.
قال الشاب.
ــ ومرارة الجدران
والصمت المخيفْ
والهمسُ
والأعوام يغرقها النزيف.
وتَرَقُصُ المسحاةِ
في الشق اللعين
ولا جديد
سوى الصياح
يعود في صبحٍ كئيب
والحارس الليلي
يقتلع النفوس بلا رقيب
صمت قليلا كانت هناك كلمات كثيرة لا تقرأ، ثم أردف.
ــ والقيد والصوت البذيء
سأقول للذكرى
اخسئي
وأقول للنسيان
أبطئت المجيء
سألم أشيائي
والعن لحظة فيها بدأت
سأقولها إني ندمت.
قال إبراهيم
ــ يؤسفني أنها متقطعة.
ــ نعم اعتقد أنها كتبت قبل نصف عام
ــ أقرأ القصيدة الأولى ولكن لا تسرع ، بشيء من الترنم.
قال الشاب وهو يبتسم.
ــ كم طاف قلبي من غريب.
في ذلك الســـ...
يتبع إنشاء الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح17
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 18 ـ
أصطف السجناء في الممر ، كانت أيادي الجميع غير مقيدة ولا توجد قطعة من القماش تُعصب بها العيون لتمنع السجناء من النظر وتؤخذ عادة من بدلات السجناء الذين يتم قتلهم أو يموتون لأي سبب كان ، صاح الضابط المخول في أخذهم إلى موقع العمل الأسبوعي.
ــ كم أصبح لديكم العدد؟.
أجابه الجندي الذي ما زال يفتح أبواب الزنزانات هو ومجموعة من الجنود الذين كلفوا بإخراج السجناء .
ــ سيدي سأعدهم .
كان الجنود يصرخون ليوقعوا الرهبة في قلوب السجناء والسجناء معتادون على ذلك إذ إنهم يعرفون أن هذا الخروج متعلق بالأشغال وعادة السجناء إذا أخرجوا من الزنزانة لأي أمر ما تُقيد أياديهم من الخلف وتُعصب عيونهم .
حينما يُخرجون إلى الأشغال يَخرجون هكذا دون أن تقيد أياديهم ودون أن تعصب عيونهم ولكن تقيد أقدامهم بسلسة طولها نصف متر وهي متصلة من الجهتين بقيد عريض يمسك القدم بقسوة ، صاح أحد الجنود مرة أخرى.
ــ سأعدهم سيدي .
ثم أردف وهو يوجه كلامه للسجناء .
ــ أجلسوا على شكل اسطر، خمسة اسطر، أنتَ هنا وأنتَ هنا وأنتَ هناك، سأبدأ في العد، واحد ، اثنان ثلاثة ...
كان إبراهيم ينظر في وجوه السجناء ، كان يستطيع أن يراهم بوضوح بسبب تغير مواقعهم وفق رغبة ذلك الجندي الذي كان حازما بإجراءاته، صاح بصوت عال جدا .
ــ سيدي أصبح لدينا مع سجناء الممرات الأخرى مئة سجين.
قال بصوت فظ.
ــ جيد ، العدد كامل ، على هذا النظام سنخرج ، إلى موقع العمل ، إنه بعيد نوعا ما ، ولكن نحن نحب أن نخرجكم لكي تستعيدون حيويتكم.
شاهد إبراهيم إن الشاب ابتعد عنه ولم يكن في الصف الذي هو فيه قال في نفسه (يفترض أن يكون قريبا علي حتى نعمل سويةً) ، كان الجندي يعزل الشباب عن الشيبة لاحظه إبراهيم ،هز رأسه قليلا قال في نفسه( هم مثل كل أسبوع يعزلون الشباب عن الشيبة ) ،لاحظ أيضا إن أبواب الزنزانات كلها كانت مفتحة ، رجع إلى نفسه يحدثها ( لم يبقوا أحدا في الزنزانات خلافا لكل أسبوع).
حينما يخرج السجين من باب الممر تقيد قدماه بتلك السلسة المخصصة فقط للأشغال ، نظر وكل السجناء إلى الساحة حيث انتشر الحرس بكثافة ، كانوا يسترقون النظر وكان الحرس يعرفون أنهم يصنعون ذلك إلا إنهم لم يعلقوا على ذلك وتجاهلوا الأمر وكأنه لا يعنيهم بشيء ، قبل سنوات كان هذا الأمر ممنوع تماما ويعاقب السجناء عليه ،كانت السلسة تصدر صوتا إذ كان عليهم أن يقطعوا بعض الأمتار على الإسفلت الذي يحيط الممرات .
حينما خرج السجناء من بوابة الصرح الكبيرة صاح أحد الحراس المكلفين بحماية البوابة وكانوا جالسين على برجين عاليين مطليان بلون ابيض باهت قد بنيا على جانبي الباب الكبيرة جدا، وهم ينظرون كيف أن السجناء يسيرون وهناك غبار تثيره السلسة وهي تبحث في الأرض وبإمكان السجين أن يخطو بها خطوة كبيرة دون أن يتعثر ، صاح أحد الجنود ممن يجلسون على الأبراج.
ــ أين تأخذونهم اليوم ، سمعنا أن العمل في الشق الكبير قد رجع.
لم يعلق احد من الحرس على كلماتهم واكتفوا لهم بالتلويح بأيديهم بما يشبه التحية ، لاحت للجميع الصحراء الممتدة والتي لا يشعر أحد أن لها نهاية ، ساعة الصرح تشير إلى الثانية عشر ظهرا ،كان من المفترض أن يكون خروج وجبة الأشغال في الساعة التاسعة ويعودوا في الساعة السادسة هذا في الصيف فقط.
كانوا حفاة ولأنهم كانوا كذلك فقد راحوا يتألمون كثيرا من حرارة الرمل التي كانت لا تطاق، كأنهم يسيرون على صفائح معدنية قد حميت في النار، ما زال إبراهيم ينظر أمامه باحثا عن الشاب ، قال في نفسه ( ربما هو في الخلف ) ، أراد أن ينظر إلى الخلف لكنه استدرك إذ سمع احد الحرس يصرخ بسجين ( أيها الكلب لا تلتفت إلى الوراء ، وألا فقعت عينك ).
هناك مجاميع أخرى من السجناء بدأت تشق طريقها على شكل خطوط خماسية محاطة بالحرس وهي تتجه نحو الشق الكبير والذي على ما يبدو أعيد العمل فيه بعد أن توقف شهر كامل على حد ما يقوله رجال الصرح الكبار، لم يلاحظ السجناء الذين كان إبراهيم معهم تلك المجاميع لأنهم كانوا أول من خرج ، إلا إن المجاميع تلك رأت مجموعة إبراهيم وهي تسير أمامهم بمئات الأمتار وهم يحملون المعاول والمساحي والحرس قد ابتعد عنهم تحسبا لكل شيء ، النظام هنا يقضي إن أي من السجناء يخرج عن المجموعة لأي سبب كان يفتحون الحرس عليه النار بسرعة والسجناء يعلمون ذلك جيدا ، نعم يعلمون ذلك جيدا ولكم حدثت أمامهم حوادث لا زالت مقيمة في ذاكرتهم ، إذا ما أراد احد السجناء الخروج أو التأخر عن المجموعة عليه أن يرفع يده ثم يسأله الجندي عما يريد وللجندي كافة الحرية في إبقائه داخل الصف أو إخراجه إلا أنه في معظم الحالات يرد الجنود على رفع أيادي السجناء بالكلام البذيء والشتائم.
السجناء الشباب أعطوا معاول يضربون بها الأرض ، الذين يراهم الجنود إنهم شيبة يدفعون لهم مساحي يرمون بها ما تقتلعه المعاول من الأرض داخل الشق ، تعثر إبراهيم بصخرة لكنه لم يقع ، تحرك ظفر إصبعه الكبير من قدمه اليمنى إلى النصف، لاحظ الدم وهو يترك أثرا على الرمال ، كان الألم شديد يشبه ألآم التحقيق لكنه لا يستطيع الوقوف إذ ربما جرت هذه العملية الويلات على المجموعة ، أخذ الرمل يندس في الجرح ، وكانت حرارة السلسلة قد أخذت مأخذها من أقدام السجناء ، لقد صيرتها حرارة الشمس وكأنها حُميت على موقد نار ، ولأن السلسة من صنع محلي غير متقن فأنه ما من سجين يرجع إلى زنزانته ولم يأكل القيد من قدمه بعض الشيء ، لقد أرسلت الداخلية ممثلها إلى ألمانيا لاستيراد مثل هذه الأشياء إلا أن السلسلة المحلية ما زالت هي السائدة في عالم الأشغال ، صك على أسنانه بقوة وتمنى لو يقطع إصبعه بالمسحات ، قال بهدوء ( ربي اعني ، إنك لا تكلف نفسا إلا وسعها ) ، حينما تعثر كان يستذكر ما قاله الشاب قبل خروجهم بلحظات، كان يحكي قصة حياته ، كان وحيدا لأمه وقد مات أبوه وهو صغير، وله حبيبة أسمها مها كان سيتزوجها بعد التخرج، ما يزال الشق الكبير بعيدا ، بعيد جدا أمامهم نصف ساعة حتى يصلوا ، كان الحرس يصيح بهم بين لحظة وأخرى ( أسرعوا هيا أسرعوا أيها الجبناء ) جميع السجناء كانوا ينظرون إلى أحذية الحرس العسكرية السوداء ، كانوا يحسدونهم على ذلك ، وكانوا يفكرون كل على جانب لو إنهم يوزعون لهم أحذية مثلها وأن يبعدوا هذا القيد بشرط أن يزيدوا ساعات العمل لكان ذلك أفضل ، كانت مجرد أمنيات ، السجناء القدامى انفكوا عنها منذ زمن بعيد ، ربما تسمعها تضج في مخيلة الجدد ، صراخ الحرس وضرب السجناء الذين هم في المؤخرة أو الجوانب وأصوات السلسلة وهي تحك الأرض أو تصطدم بالصخور فيخرج صوتا يسير السجناء على أنغامه الحزينة ، كل ذلك كان من شأنه أن يقطع تلك التصورات والأمنيات المستحيلة لدى السجناء الجدد.
حينما وصلوا إلى الشق كان الألم قد هدأ نوعا ما ولكنه يعود ما إن يتحرك الظفر بسبب أطراف بذلته ، فكر إبراهيم في قلعه، أما الدم فقد انقطع تماما، صاح الضابط ( اجلسوا حتى أوزعكم ).
جلس الجميع ، حرك إبراهيم القيد قليلا ، كل السجناء فعلوا ذلك ، لقد وصلوا أخيرا إلى الشق الطويل ولذي عرضه يتراوح ستة أمتار، وعمقه ثلاثة أمتار أما طوله فإن طويل وطويل جدا وقد بدأ الحفر به منذ سبعة أعوام ، كان إبراهيم ينظر في إصبعه ، حرك أظفره قليلا ، تألم ، لذلك تركه ، قال في نفسه ( لابد من قلعة سيقتلني لو تركته ، علي أن لا استخف بهذا ، فرصتي هذه لو قمنا لا يتسنى لي الجلوس مثل ما أنا عليه الآن بل لا يتسنى لي أن أحك راسي) مد يده اليمنى تاركا المسحات تتوكأ على كتفه الأيسر قرر أن يقلع الظفر ، مسكه بقوة دون أن يحركه من مكانه ، عليه أن لا يصدر أي صوت ، ربما إذا أصدر صوتا ، أي صوت ، يتصور الجندي انه استخف به وأنه قصده بذلك الصوت كما حدث ذات يوم وراح جراء ذلك سجينان ، فكر وهو يمسكه لو يشده بخرقه حتى يرجع إلى الزنزانة ، نظر حوله لا يوجد إلا الرمل والصخر والحصى وأعشاب الحرمل بأزهاره الصفراء المائلة للخضرة وهناك على المرأى البعيد شجرة السرح بفروعها المقوسة وسيقانها الدائرية ذات اللون الرمادي وأوراقها البيضاوية والتي سرعان ما تسقط لتبدوا فرعوها كالأشواك أما أزهارها فهي ذات لون أخضر وهي كثيرة الأسدية وكانت تذكر السجناء حينما يمرون عليها بشيء أسمه الأشجار ، كان الضابط قد قطع شوطا في توزيع السجناء ، ما يزال أمام إبراهيم بعض الوقت ، أغمض عينيه ، تذكر خديجة وكذلك ابنته الصغيرة سحر تصورها وهي عائدة من المدرسة إلى البيت، كان إبراهيم دوما يتذكر خديجة في أسوء اللحظات ، ذكراها كان يهون عليه بعض الصعاب ، ما يزال يمسكه بقوة ، صك أسنانه و سحبه بكل ما يستطيع من قوة ، ارتجف جسده ، رجع الألم أكثر من ذي قبل اخذ حفنة من الرمل وضعها على الإصبع ، وبسرعة حرك الرمل بيده اليمنى ليدس الظفر في الرمل وكأنه يدفنه ، تبسم وهو يحس بحرارة الرمل تكوي الجرح ،لا يزال الألم في ذروته ويحس بنبضات قلبه من خلال إصبعه ، قال (قدرك أن تدفن هنا ، لقد انتهيت منك وانتصرت عليك كدت أن تقتلني ) ، صاح الضابط الذي أتى معهم وكان يراقبهم والذي رد على احد السجناء في المسير بعدما رفع يده ، وكان يريد أن يتبول مع انه قد فعل ذلك قبل أن يخرج ، أجابه وهو يضحك ( لماذا لم تتبول في الزنزانة ، أصبح الشق قريب ، حينما نصل افعل ما يحلوا لك) ولم يكن الشق قريب ، بل ما زال في العمق ، وحينما أعاد عليه السجين ذلك الطلب لم يجبه وابتعد عنه وهو يضحك مما اضطر ذلك السجين أن يتبول وهو يسير وهذا الأمر مألوف لدى السجناء، مألوف جدا وليس فيه أدنى خجل.
يتبع إنشاء الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ.....
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح18
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ــ أنت أيها العجوز وأنت وأنت وأنت أعملوا هناك وعلى نفس المستوى الذي حفروه السجناء قبلكم ، أي تقصير يعتبر ذلك تأمر وأنتم أكثر من غيركم تعرفون عقوبة المتآمرين.
راح الجميع يعمل وكانت هناك مجاميع قد وصلت ، لمحها إبراهيم وهي تتوغل غربا في الشق ، قال وهو يحمل الرمل في مسحاته ليرميه خارج الشق ( يبدو أنهم جادون على إتمام الشق الذي أتمنى أن أدرك نهايته) تذكر الشاب وكان ألم إصبعه قد أنساه أن يبحث عنه أثناء ما كانوا جالسين وكان يمكن له إن ينظر إلى الخلف إلا انه انشغل بقلع أظفره ، نظر في المجاميع التي أمامه وتأمل وهو يعمل إذ لا مجال أبدا لأن يقف السجين لحظة وينظر إلى الوراء ، هنالك استراحة يقرر وقتها الضابط وفق هواه ومزاجه تعطى هنا ولكن ما يزال من المبكر جدا أن يفكر السجين بها فهي دوما تأتي بعد اليأس والقنوط ، فكر أن ينظر إلى الخلف وعليه أن يدير وجهة عمله ، لقد شاهده يمسك معولا ولكنه كان بعيدا عنه ، تبسم وضحك من داخله وكأنما عثر على شيء ثمين قد ضاع منه ، مسح (العَرق) عن وجهه بطرف بذلته وبيده اليمنى ، من الأدبيات والأشياء التي لا يناقش عليها هو أن كل سجين وقبل أن يخرج من زنزانته عليه أن يرتدي بذلته في الكامل لهذا ترى أن ثمة جنود كانوا يصرخون في الممر وقبل الخروج بلحظات وهم يضربون بأقدامهم أبواب الزنزانات التي عليها أن تخرج للعمل (أشغال أشغال، استعدوا أمامكم خمسة دقائق ، لا تنسوا أن تأخذوا قدح الماء) وبما أنهم نسوا كم تعني الخمس دقائق تراهم وبسرعة ينهضون ليستعدوا كأن يرتدوا بدلاتهم التي عادة ما يخلعونها في الصيف إلى النصف ويشدوا قدح الماء بإتقان في البذلة وكل واحد منهم حسب علمه وخبرته والقدح الذي يسقط في المسير من الصعوبة جدا أن يعوض وكذلك من الصعوبة جدا أن يلتقطه السجين وربما استطاع من هو خلفه بمسافة أن يرفعه بقدمه فيرجعه إليه بحركة بهلوانية وبما أن معظم السجناء يخافون من المجازفة فأن هذه الحالة محكوم عليها بالفشل ولكن لو حدثت فأن السجين الذي يرفعه سيدفعه إلى السجين الذي هو اقرب إليه وهكذا حتى يصل إلى صاحبه وقد حدثت هذه عدة مرات ولم يشعر الحرس بها إلا إنها خطرة جدا وربما تعني في بعض الحالات الموت، كما وينبغي أن يذهبوا إلى المرحاض استعدادا للذهاب ، تذكر إبراهيم الجرب الذي أصاب الشاب تذكره حينما لاح له الجندي سامي من بعيد ، قال في نفسه ( نعم أن معلوماتي دقيقة جدا نحتاج إلى بعض الوقت حتى يصل إلينا) صاح احد الجنود المراقبين ، صاح على السجين الذي يعمل جنب إبراهيم وكان يحمل معولا مع أن الشيخوخة تبدو عليه واضحة جدا، ضربه ذلك الجندي بمؤخرة البندقية على ظهره فسقط على وجه ، قال له ( اضرب الأرض بقوة أيها الجبان ) ، لم يفكر إبراهيم بمساعدته فهو أمر محرم هنا ، نهض العجوز صاحب المعول ، قال له إبراهيم بصوت خافت جدا بعدما أن ابتعد الجندي عنهما.
ــ ما بك يا سيدي ؟.
نظر إليه العجوز وكانت لحيته بيضاء تماما وهي تغطي الربع الأعلى من صدره و كانت عيناه غائرتان جدا ولكنهما حادتان وكان إبراهيم يتصف بذلك أيضا, تبسم العجوز، راح يضرب الأرض، قال بصوت خافت أيضا.
ــ لاشيء يا أخي ولكن كتفي مخلوع منذ شهر لقد أذوني جدا، قلت له اعطني مسحات ضحك وقال لي أنت ما زلت شابا.
نظر إبراهيم إلى الجندي رآه وقد انسحب إلى سجناء آخرين يصرخ عليهم قال له.
ــ هات المعول.
قال العجوز بخوف.
ــ أخشى إن يرانا أو يعرف بذلك .
ــ اعطني المعول لا تخف وخذ المسحات ، كلنا متشابهون.
مسك إبراهيم المعول وأعطى ظهره إلى مكان وقوف الجندي وأخذ يضرب الأرض بقوة بينما راح العجوز يملأ المسحات رملا من ذلك الذي يهيجه إبراهيم وكانت الشمس قد تحركت إلى العصر قليلا، صاح الضابط.
ــ استراحة لعشرة دقائق.
أخذ السجناء يشربون الماء وهم جلوس وكان الجنود يعطون لكل سجين قدحين من الماء أي يملئون قدح السجين مرتين ، مرة يغسل به وجهه وومرة يشرب الماء ، وله أيضا أن يشرب قدحا ويترك الأخر مملوءا ولا يغسل وجهه ويشربه وقت الحاجة وهذا ما يصنعه كل السجناء تقريبا ، وفي مثل هذه الحالة عليه أن يشرب الماء بطريقة لا يشعر بها الحرس إنه قد تأخر عن العمل وإلا يصادر القدح وهذه في حد ذاتها عقوبة كبيرة ، هذا الماء مخصص للسجناء ويجلب من حنفيات السجناء ، شبكة الماء المخصصة للزنازين معتمدة على أربعة أبار كبيرة يستخرج الماء من خلال محركات سحب وضخ روسية الصنع إلى ثلاثة خزانات كبيرة ومرتفعة جدا ، ومن خلال هذه الخزانات يتم توزيع الماء على الزنازين والمحاجر وبقية الأماكن الأخرى ، أما مياه الضباط والجنود فلهم شبكة خاصة مستمدة من خزان خاص يوضع فيه الماء عن طريق عجلات مخصصة لهذا الغرض تأتي كل ما اقتضت الحاجة.
ضرب إبراهيم الأرض أحس بصوت يختلف عن ذلك الصوت الذي عادة ما يصدره الصخر الرملي حينما يقتلعه من الأرض، كان شيئا من الكرافت الأسود هيجه أكثر بالمعول ولكن برفق ، قال في نفسه حينما رآه بارزا أمامه في وسط الشق ( إنه تمثال ، يا الهي انه تمثال ، كم محزن أن أعثر على تمثال في هذا المكان وبهذه الطريقة ) إلا إنه سرعان ما أحس بخطورة هذا الأمر ، كان صغيرا جدا وبحجم الكف ، لم يحمله إبراهيم بيده ، كان يعتبرها مجازفة ، أحس إن ثمة جندي يقترب ، والحقيقة أنه لم يكن هناك جندي قريب ولكن إبراهيم أحس بذلك ، كان إبراهيم في وسط الشق حينما عثر على التمثال ، أرجع عليه بعض الرمل ليواريه ، ضحك في نفسه ، قال وهو يضرب الأرض المجاورة للتمثال ( إنه تمثال ما جمل هذا الحدث ، ربما هو جندي من أور ، لا بد أن أخذه معي إلى الزنزانة ولكن كيف ) أخذ يرتب بذلته كلما تسنى له ذلك بهيئة تسمح أن يرميه قرب بطنه ، كان يشد وسطه ببعض الخيوط التي انفلتت من البذلة ، رأى إن الجنود تجمعوا بعيدا عن الشق وهم يضحكون على احد الجنود الذي راح يقص عليهم قصصا مختلفة، قال في نفسه ( إنها فرصتي هيا أيها الصديق الجديد لنتعارف) ، مسكه إبراهيم وبسرعة دسه في البذلة التي لم يثق أنها ستوصل التمثال إلى الزنزانة ولكن لا خيار أمامه ، كان العجوز يعمل ولم يشعر بإبراهيم وقصته مع التمثال ذلك لأن إبراهيم تقدم أمامه أمتارا يهيج في الأرض وعلى العجوز إخراج الرمل الذي يتركه إبراهيم خلفه ، عمل السجناء حتى اصفرار الشمس وهذا هو الموعد الطبيعي لانسحابهم إلى الصرح ، نظر الضابط إلى ساعته أكثر من مرة لم يلاحظه السجناء ذلك وكانوا يترقبون أن ينظر في ساعته إذ إنهم كانوا يشعرون إنهم تأخروا قليلا عن الموعد ، ولأنهم في شهر تموز وكانوا في ظهيرة احد أيامه وفي صحراء موحشة ومخيفة فقد كان عمل اليوم مرهقا جدا فقد وقع عدد من السجناء من الإرهاق وتعرض البعض إلى الضرب ، صاح الضابط .
ــ انسحاب ، انسحاب ، تجمعوا .
ومع إنهم سيرجعون إلى الصرح إلا إن هذه الكلمة كانت بمثابة الفرج لهم ، لأنهم وصلوا حد الإعياء التام حتى إن احدهم كان لا يقوى أن يرفع المسحات لهذا تراهم قد سارعوا بالجلوس على هيئة الأسطر تمهيدا للانسحاب ، جلس الجميع ، كان إبراهيم ينظر إلى الشاب ، كان قد جلس بعيدا عنه ، مسك التمثال ليتأكد انه ما يزال تحت بذلته ، قال في نفسه ( سأفاجئه بهذا التمثال ، سيظل معي حتى أموت ) صاح احد الجنود بعد أن عد السجناء .
ــ انهضوا هيا لنعود إلى الصرح.
كان الجميع ينظرون إلى الشمس وهي مصفرة تصارع اللحظات الأخيرة من عمر هذا اليوم وحتى تتوارى خلف التلال البعيدة ، كان المنظر جميلا ولم تعد حرارة الرمل تعني لهم شيء ، وكان ثمة نسيم قد هب محملا برائحة أعشاب الحرمل المنتشر هنا وهناك وهو عشب معمر على شكل مجموعات خشبية القاعدة في أحوال كثيرة ، له سيقان مربعة المقطع عليها شعيرات قصيرة ويبعث النبات بأكمله عطرا جميلا ، والأوراق متقابلة بيضية والأزهار صغيرة في نورات عنقودية ويصل طول الزهرة إلى حوالي (1سم) وهي ذات لون قرنفلي فاتح ولها أنبوبة قمعية الشكل والثمرة تحتوى من ثلاثة إلى أربع بذور بيضاوية مستطيلية ، كل ذلك جعل السجناء يعيشون لحظات استذكار مؤلمة ، إنها استذكار من يحبون ، ومن هم في شوق لا يوصف لرؤيتهم ، ولكن الصرح بدأ يقترب عليهم ليبدد تلك ألحظات الثمينة ، لم ينتبه السجناء إلى إن الشقوق التي كانت محفورة في زمن ما قد ارجع التراب إليها كونها كانت على المرأى البعيد ، كان إبراهيم يتذكر خديجة ، قال في نفسه ( أين أنت في هذا المغيب ، ادعوا ربك يا خديجة ، كوني عند سيدنا الحسين في هذه الليلة إنها ليلة الجمعة أن الدعاء تحت قبته في مثل هذه الليلة لا يرد ، أبدا لا يرد لقد بلغنا حدا من الألم لا يطاق ،إلهي لا تؤدبني بعقوبتك ، ولا تمكر بي في حيلتك ،من أين لي الخير يا رب ولا يوجد إلا من عندك ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلا بك ) ، صاح احد الجنود الذين كانوا قريبين على إبراهيم مما قطع عليه حبل ذاكرته.
ــ هيا أسرعوا أيها الأوغاد .
صمتت نفسه قليلا إلا إنها سرعان ما عاودت ( ليتني اعرف أين أنت وأين سحر في هذه اللحظات) تحركت قطرات دمع في عينيه ، فضل أن يتركها حتى تنساب على لحيته ، هكذا مزاجه كان يحدثه ، تذكر التمثال لذلك تبسم وهو يهز رأسه ، مد يده ليمسكه ثم أرجعها بسرعة خشية أن يراه الحرس، صاح الجندي واسمه رشيد والذي كان أكثر الجنود بذاءة .
ــ أسرعوا يا كلاب لقد تأخرنا، أوشكت الشمس على المغيب.
يتبع إنشاء الله.....
.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
]
-
أضحوكة العالم المثالي روايه- من الحلقه -19 - الى الحلقه -21- ارجو التثبيت
ضحوكة العالم المثالي / رواية - ح19
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 19 ـ
حينما وصلت مجموعة إبراهيم إلى بوابة الممر كانت الشمس قد توارت قبل لحظات تاركة خلفها حمرة تملأ الأفاق ، بدأ الجندي صاحب السجل ينادي وهناك خمسة حراس في الممر يحملون الهراوات ومن بينهم صاحب المفاتيح وكانت الزنزانات كلها مفتحة كما تركوها أول مرة ، صاح الجندي وهو يحمل سجلا أزرق كتب على غلافه الكارتوني سجل الأشغال الأسبوعي و كان ذلك الجندي يقف في بداية الممر.
ــ الزنزانة واحد .
صاح اثنان من السجناء .
ــ نعم سيدي .
ــ أدخلا هيا بسرعة.
وهذان ليس عليهما أن يهرولا حتى يدخلا الزنزانة إذ أن الزنزانة كانت قريبة على بوابة الممر وما عليهم إلا أن يستديرا فقط ، خلع أحد الجنود عنهم السلسلة ويمكن مشاهدة الجروح التي خلفها الاحتكاك ، والحقيقة أن ذلك الجندي كان يخلع السلسلة عن كل مجموعة تصل مع غض النظر عن دخولها ، وهكذا بقية الأرقام وكلما ابتعدت الزنزانة كان على أصحابها الهرولة وإلا تعرضوا للضرب وكان صاحب المفاتيح يغلق الزنزانة ما إن يدخل السجينان إليها ويخلق البوابة المتحركة أيضا ، مسك إبراهيم التمثال موهم الحرس انه يمسك بطنه أو ألبدله ، كان يخشى أن يقع وهذه يعني أن يؤخذ ليرى يوسف شمران وهو أجراء لا يتحمله إبراهيم في الأوضاع التي يعيشها الآن ، أحس أنه ارتكب حماقة في جلب ذلك التمثال ، لكنه أصر على ذلك إذ لا مجال للانسحاب ، هرولا بعد أن سمعا الجندي يصيح برقم زنزانتهم ، قالا بصوت واحد وهما يقفزان.
ــ نعم سيدي.
لم يتعرضا للضرب بالهراوات ولكن احد الجنود صفع إبراهيم على قفاه وهو يدخل إلى الزنزانة ، حينما دخلا وجدا إن هنالك بطانيتان وكانتا بلون رمادي ، وضعتا في وسط الزنزانة ، أغلق الجندي صاحب المفاتيح الزنزانة ، لم يصدق الشاب ما كان يرى، قال بعد أن رفع أحداهما وشمها وهو يبتسم.
ــ انظر إبراهيم إنها بطانية لقد ذكرونا أخيرا ، هؤلاء الأوغاد ما كنت أتصور أنهم سيجلبون لنا بطانيات ، ولكنها ليست جديدة ، علينا أن نفرشها حتى نصلي ، آه ، علينا كذلك أن نصلي الظهر والعصر.
قال إبراهيم .
ــ يا الهي انظر إلى أقدامنا كيف صنعت السلسة بها .
قال الشاب وما زال يمسك البطانية التي راح يفرشها .
ــ هذه ليست الأولى الذي يسمعك يظنك أول مرة تخرج للأشغال ، أعتقد أن الجندي هذا مستجد هو لا يعرف كيف يقيدنا لقد شدها كثيرا سوف نقول للضابط الذي جاء ، ماذا قال اسمه.
قال إبراهيم .
ــ أي ضابط تعني.
ــ الضابط ذات الأخلاق الجيدة الذي مر علينا واخبرنا بالتأريخ .
ــ نعم فهمت ، أعتقد انه سليم أو سالم ، لا يخرج عن هذه الأسماء.
جلس إبراهيم وقد مد رجليه بحيث أصبحت أقدامه على البطانية المرمية في وسط الزنزانة ، نظر إلى إصبعه لا زالت هنالك آلاما خفيفة حاول أن يحرك الإصبع المجروح كأن يدفعه إلى الأمام أو يسحبه إليه لم يستطع وكأنه فصل عن جسده ، ترك هذه الفكرة ، أغمض عينيه واتكأ على الجدار، ما زال الشاب يتكلم عن البطانية التي فرشها قرب الباب تاركا نصف الزنزانة لإبراهيم الذي مد رجليه ، حرك يده اليمنى ببطء إلى حيث يرقد التمثال ، ما زال مغمض العينين وما زال الشاب يتكلم ولم يلتفت إلى إبراهيم قال إبراهيم.
ــ لقد جلبت لك صديقا من عمق التأريخ وسيحدثنا عن أسراره وعلاقاته الشخصية.
أنتبه الشاب إذ لم يكن يصغي جيدا وكان إبراهيم يتكلم بصوت خافت جدا ، قال .
ــ ماذا قلت؟.
ــ أقول لقد جلبت لك صديقا من عمق التأريخ وسيحدثنا عن أسراره وعلاقاته الشخصية.
ــ هل هذه مزحة؟.
ــ لا.
فتح عينيه ونظر إلى الشاب الذي اقترب من إبراهيم ، كان إبراهيم ما يزال متكأ ولا زالت قدماه ممدودتين على البطانية.
ــ إنها حقيقة ، صديق لا يتجسس ، ولا يبلغ شمران عن أصحابه ماذا تكلموا قبل سنتين.
أخرج إبراهيم التمثال بينما صعق الشاب وقفر إلى البوابة المتحركة ليضع إذنه اليمنى عليها ليتأكد من خلوا الممر من الجنود ، قال .
ــ حسبتك تمزح ، دعني أنظر إليه ، إنه ليس جندي ، ماذا لو رأوه عندنا.
ــ وما أدراك إنه ليس جندي؟.
ــ لا ادري ولكن أتصوره ملكا.
ــ سواء كان جنديا أو ملكا أو خادما لا يفرق عندنا بشيء ، سنتكلم عن هذا فيما بعد أنه حديث طويل مع صديقنا الجديد ، والأن أعني على النهوض أريد أن اغتسل.
ــ أراك متعب على غير عادتك .
ــ لا ادري هذه الليلة حزينة جدا ، تصور كنت كلما أتذكر خديجة ثمة إحساس بالقوة يأتيني ولكن حينما ذكرتها اليوم لا ادري ما شعرت ، انه شعور لا اعرفه ولكنه حزين ومخيب للآمال.
ــ أتعلم لماذا؟.
ــ لماذا ؟.
ــ لأنك متعب ومرهق وهذا الشعور شعور المتعبين العائدين من الأشغال ، هيا يا صديقي العجوز انهض لتغتسل حتى اغتسل بعدك ، هات يدك ، واعطني هذا الملك المبجل، لأمرح معه قبل الصلاة.
نهض إبراهيم ، قال وهو يسير إلى المرحاض .
ــ لا اعتقد أن هذا ملك.
ثم ادلف للمرحاض مصطحبا معه القدح الأحمر الجديد، بينما راح الشاب يحدثه عن العمل وانه لم يلتقي الجندي سامي لأنه كان بعيدا .
قال وهو في المرحاض.
ــ نعم ... نعم... رأيت سامي بعيدا عنك وفكرت بك قلت إنه لن يستطع أن يتكلم مع سامي، كان في غير مجموعتنا ، لقد كان حسابي دقيق نحتاج بعض الوقت حتى يقترب علينا هذا إذا لم يتلاعبوا بمراقبي الوجبات .
ثم حدثه الشاب من أن الحرس ضربوه لأنهم كانوا يزعمون أنه لم يضرب الأرض بقوة، كما واخبره أن العجوز رحيم الذي يسكن في الزنزانة الواحدة والعشرون سقط قدحه ولم يستطع احد أن يرفعه بقدمه ، قال وهو يرمي أخر قدح ماء على رأسه ، كان يغتسل ويزيل الدم من قدميه.
ــ أنا لم أشاهدك كنت بعيدا عني ، لماذا ابتعدت ، ألم نخرج من الزنزانة سوية ، عليك أن لا تكرر ذلك ، لا مجال للأخطاء يا صديقي العزيز.
ـ 20 ـ
مرت ثلاثة أيام ولم يستطع إبراهيم ولا الشاب من حل رموز تلك الأحرف التي كتبت على المنصة الصغيرة التي يجلس عليها التمثال ، كان أسود اللون ومصنوع من الكرافت وهو يتمتع بصحة جيدة إي أنه لم يصب بخدش ، إلا إنهم وبعد تفكير عميق توصلوا إلى أن يطلقوا عليه زاين ، لا أدري من أين حصلوا على هذا الاسم ، قال إبراهيم وهو يحلل شخصية هذا التمثال.
ــ إنه جندي شجاع من حماية الملك (اوتو ـ حيكال) ، لا نعرف اسمه إلا إننا أطلقنا علية اسم زاين تيمنا بهذا السلاح الذي يحمله بيده اليمنى ، أما ما وضعه زاين في يده اليسرى فهو لوح طيني لا نعرف ماذا يصنع فيه.
وكان إبراهيم يضحك كثيرا وكذلك الشاب حينما كانا يقومان بتلك التمثيلية ، وكان إبراهيم يستشعر إن ذلك ليس سلاحا ولكنه كان يريد الجندي هذا أن يحمل سلاحا وقد تأمل ذات مرة في ذلك الشيء الذي يحمله ذلك الشاب ذو اللحية الطويلة وقال في نفسه حينها ( اعتقد أن هذه قصبة كتابة ، ولكن يا ترى ماذا كتب في هذا اللوح الذي يحمله) ، لم يكن هذا التمثال لملك من أور ولم يكن هو الأول الذي يعثر عليه السجناء فهنالك بعض الحالات القليلة المشابهة والتي يمكن لك أن تلمسها حينما تبحث في زوايا بعض الزنزانات ، كما لم يكن جندي من عصر اوتوـ حيكال، بل كان شاعر يحمل قصبة في يده اليمنى والتي قربها إلى صدره ويبدو أن القصبة تلك كانت ذلك القلم الذي كان يكتب به قصائده ولم يكن سلاحا ، بينما ترك اليسرى ممدودة قرب ساقه النحيفة تمسك لوحا طينيا كتب فيه أخر قصائده والتي أطلق عليها العروس المبتهجة وكانت عبارة عن أغنية.
أيها العريس الحبيب إلى قلبي.
جمالك باهر .
حلو ، كالشهد.
أيها الأسد الحبيب إلى قلبي.
جمالك باهر ، حلو .
كالشهد .
لقد أسرت قلبي فدعني أقف بحضرتك .
وأنا خائفة مرتعشة .
أيها العريس سيأخذونني أليك إلى غرفة النوم .
لقد أسرت قلبي فدعني أقف بحضرتك .
وأنا خائفة مرتعشة .
أيها العريس دعني أدللك.
فان تدليلي أطعم وأشهى من الشهد .
وفي حجرة النوم ، الملأى بالشهد .
دعنا نستمتع بجمالك الفاتن .
أيها الأسد ، دعني أدللك .
فان تدليلي أطعم وأشهى من الشهد .
أيها العريس قد قضيت وطر لذتك مني .
فابلغ أمي وستعطيك الأطايب .
أما أبي فسيغدق عليك الهبات .
وكان أسم الشاعر ذاك كيفو وهو من المقربين للملك شوـ سين وكان يغني له دوما وخاصة في أليالي المقمرة ، إذ أن شو ـ سين كان يحب ذلك كثيرا.
أخذ الشاب يتجول في الزنزانة ، كان يتقدم ثلاث خطوات ليقف ، ثلاث خطوات فقط ثم عليه أن يدير وجهه وهكذا ، كان إبراهيم يلاحظ ذلك ، كان ينظر إلى خطواته يحسبها في قلبه وهو يهز رأسه ، توقف الشاب قرأ ( أذكرونا في صلاة الليل ) وهناك مجموعة من الأسماء كتبت تحتها ، تبسم أدار وجهه إلى الجدار الذي كان خلفه ، أخذ يقرأ كانت كلمات كثيرة ممسوحة تماما (الجماهير دائما أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة وقد تضعف لكنها لا تستسلم)، قال في نفسه ، ( رائع شيء رائع )، لمح قصة كان قد كتبها أحد السجناء في زمن ما ، قال.
ــ هل قرأت هذه القصة ؟.
ــ لا لم اقرأ أي شيء حتى الآن ، أن الكتابة هنا مبعثرة وناعمة جدا بحيث لا يتسنى لي أن اقرأ معظمها ، إلا إنني كنت قد لاحظت أن بعض السجناء قد كتبوا أشياء جميلة ولكنني وللأسف لا أستطيع أن اقرأها ، وقد فكرت أن أقول لك إذا قرأت شيئا أن تقرأه لي.
يتبع إنشاء الله.....
H_K_h_2000@yahoo.com
تنويه...
في الحلقة (17) سقطت سهوا الكلمات الأخيرة من الحلقة وهي.
(، أصبح الشق قريب ، حينما نصل افعل ما يحلوا لك) ولم يكن الشق قريب ، بل ما زال في العمق ، وحينما أعاد عليه السجين ذلك الطلب لم يجبه وابتعد عنه وهو يضحك مما اضطر ذلك السجين أن يتبول وهو يسير وهذا الأمر مألوف لدى السجناء، مألوف جدا وليس فيه أدنى خجل.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح20
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ــ لا بأس لقد أخبرتك بذلك قلت لك لا تتعب نفسك في القراءة أنا أساعدك في ذلك، أنا سوف اقرأ لك.
يكتب السجناء أحيانا كلماتهم على الجدار بأزرار البذلة والتي إذا تحركت على الجدار تترك أثرا اسود باهت يمكن أن يقرأ فيما بعد ولكن كلما تقادم الزمن عليه يضمحل شيئا فشيئا حتى لا يرى ، البعض يقتلع شيئا من عروة القدح فيكتب بها وتبدوا هذه الأكثر شيوعا وكلماتها أكثر عمرا ووضوحا ، أخذ الشاب يقرأ شيئا من ذلك الكم الهائل من الكلمات والتي حولت لون الجدار وعلى مستوى ما يستطيع السجين أن يمد يده ارتفاعا من الأحمر إلى الأسود فبقى اللون الأحمر مسيطرا على ما هو مرتفع جدا ، وربما كان في بعض الزنزانات من يطلب في حمله ليكتب شيئا في الأعلى وهذا نادر جدا ، في زنزانة إبراهيم لا توجد كتابة مثل ذلك اللون ، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحا بدقائق حيث مرت السوبر فرليون وهو موعدها اليومي ، وتبعتها مي8 ، قال الشاب.
ــ ثورة الدخان.
قال إبراهيم.
ــ ماذا أنا لم اسمع .
ــ أنتظر حتى تمر الطائرة.
قال الشاب حينما خفت صوت الطائرة وصار بالكاد أن يسمع.
ــ ثورة الدخان ، وهذا على ما يبدو هو اسم القصة ويبدو أنها قصة قصيرة .
ــ نعم .. نعم فهمت أكمل.
ــ ولكن على اتفاقنا وهو أن نقرأ شيئا منها فقط وان كان بعضها لا يقرأ ولكن سنحاول به ، عادتي إذا رأيت كلمة مفقودة من السطر أحاول آن أجد التكملة وأبقى على ذلك أياما وربما اجتهد في وضع ما يناسبها ولكن نزولا لرغبتك سأتجاوز عن هذا .
قال الشاب ذلك وهو يبتسم ، بينما هز إبراهيم رأسه معلنا بذلك تأييده وهو يجلس متكأ على جدار الذي يقابل الجدار الذي يقف أمامه الشاب الآن وقد مد رجليه وهو يلهو بلحيته في يده اليمنى وهي عادته حينما يتأمل أو يفكر بعمق وكان ينظر إلى الباب وقال في نفسه على نحوا السرعة ( لماذا اللون الأحمر بالذات ) وتكلم الشاب فانقطعت أحاديث إبراهيم مع نفسه.
ـ 21 ـ
الأيام هنا دوما قاسية وقاسية جدا وتمضي ببطء شديد وكأنها اللحظات التي تقضيها مع شخص تبغضه أشد البغض ، لقد أنقضى الصيف ، ذلك الصيف الذي عثر به إبراهيم على التمثال ، وعاد الشتاء ثم ولى هو الأخر بعد أن أخذ مأخذه من السجناء ، وهكذا ، الزنزانات التي فرغت في يوم ما وتم دفن أصحابها في الشقوق ملئت مرة أخرى كما وتم طلاء كل جدرانها بلون احمر أيضا وطمست كل الكلمات التي كان السجناء قد سطروها في يوم ما .
السيد شمران شدد على أن الزنزانة التي يرى فيها شيء من الكتابة ولو حرف واحد ستعاقب في بيت التحقيق الأعظم وهو مكان تم استحداثه مؤخرا وفيه ما لا يحصى من أدوات التعذيب ، وكان يكثر من القول في أخر أيامه في الصرح ( لا بد من توسيع الصرح هناك ضخ غير طبيعي ، اشعر أن الشعب كله هنا ) وحدَّث نفسه كثيرا في ذلك وفكر في استحداث مواقع جديدة وكتب مذكرة للداخلية بذلك يخبرهم فيها عن ضيق ذلك المكان الذي كان في يوم ما واسع جدا .
ذكريات جديدة بدأت تنساب بين الزنزانات والمحاجر وقصص هي الأخرى جديدة ، السجناء الجدد كانوا يحدثون القدامى هذا في حالة اللقاء بهم عن كل ما حدث في تلك السنين ، السنين الموحشة جدا والمرعبة جدا ، أما القدامى فليس لديهم شي يقولونه إلا بعض التوصيات ونبذ الاندفاع الشبابي الذي قد يجر عليهم بالويلات ، كانوا يقولون لهم.
ــ إياكم والأخطاء إن الأخطاء هنا لا تغتفر ، لست في بيت صديق لك حتى يغضي عنك إنك في مكان جل تفكير الذين هم فيه هو كيف يقتلوك فعليك أن تحافظ على نفسك قدر الإمكان.
هذه الحالة أي السجناء الجدد في زنزانات القدامى نادرة الحدوث ، نادرة جدا ، فالسيد شمران يرفض وبشدة إدخال السجناء الجدد مع القدامى ولكن أحيانا ونتيجة الضخ الغير طبيعي على حد تسميات يوسف شمران يحدث هذا وبشكل محدود ومدروس أيضا ، فإبراهيم مثلا لم يتسنى له أن يلتقي بسجين شهد عقد الثمانينات وهو خارج الصرح إلا مرة أو مرتين وربما ثلاثة، منهم ذلك السجين لذي نجى من غابة الأسود والتي يشرف عليها نجل السيد الرئيس ليطيح في غابة الصرح وقد حدث إبراهيم بذلك في يوم ما والأخر تكلم مع إبراهيم عن حرب السيد الرئيس مع إيران والتي انطلقت فيها ثورة كبرى تعد الفريدة في المنطقة وذلك في نهاية عقد السبعينيات وقد أسقطت تلك الثورة التي فجرها بعض رجال الدين حكم الشاه ، ولكن ذلك السجين لم يستفهم منه إبراهيم كثيرا إذ شك في توجهاته وتوقع أن شمران أرسله ليعرف تطلعات السجناء ، ومع ذلك فهو لم يبقى سوى أربعة أيام ثم أُخرج وظل إبراهيم يفكر في تلك الكلمات طويلا ولكنه في ذات الوقت كان يشكك ويستخف بها ولم ينقلها لأي سجين إلا بعد عامين حين أكد له أحد السجناء ممن التقوا بسجناء عاشوا في الثمانينات تلك المعلومات ، ولكم تمنى أن يرى سجينا يحمل بعض المعلومات الجديدة والمهمة ،كانت أصوات الطائرات الحربية والتي عادة تأتي مع الفجر تقلق السجناء ، لقد كثرة في السنوات الأخيرة ، إبراهيم انتقل إلى عدة زنزانات وترك الشاب منذ سنوات ولكنه ما زال يحتفظ بذلك التمثال ، كان يضعه في بذلته حينما كانوا ينقلونه من زنزانة إلى أخرى وكان يشده على خصره حينما يأخذونهم إلى العمل خشية أن يفتش الجنود الزنزانة في غيابهم وكان يتألم من ذلك ويخشى من عواقبه ولكنه تعلق بالتمثال كثيرا واعتبره الصديق الوحيد الذي لم ولن يستطيع يوسف شمران أن يفرق بينهما ، وأستعد إلى أن يعدم دون أن يفرط في التمثال بسهولة ، ولما بلغ الخمسة عشر عاما في السجن تم استثنائه من الأشغال ووضع في ممر كانوا يطلقون عليه بزنزانات العجزة حيث التقى هناك بشيبه وتحدث معهم طويلا ، ولم يصدق إنهم استثنوه إلا بعد مرور أشهر على ذلك ، قال للشاب ، الشاب الذي كان معه يوم عثر على التمثال في الشقوق ، قال له يوم صرخ به الجنود ( أنت أيها العجوز سنخرجك إلى مكان أخر انهض) ، قال له بلغة حزينة.
ــ سأذكرك كثيرا وسأفتقدك .
وأراد أن يعانقه إلا انه خاف من الحرس لأنهم كانوا يتابعون حركاته ، حينها خرجت من عينيه وهو يجتاز باب الزنزانة بعض الدموع وظل متأسفا على ذلك اشهرا عديدة ، لقد مضى عليهما ثلاثة سنوات في تلك الزنزانة ، ولكن حينما تعرف على آخرين تلاشت نوعا ما تلك الذكريات . يومها (أي حينما أخرجوه) لم يكن التمثال في بذلته وكان تحت البطانية وقبل أن يفتح الجنود الباب دسه في البذلة بسرعة ولو انتبه الجنود لذلك لعلموا انه كان يخفي شيئا ما ولكنهم كانوا منشغلين فيما بينهم يدخنون السومر بشراهة ، أغلق الجنود الباب ومضوا بإبراهيم إلى حيث لا يعلم ، يومها جلس الشاب يبكي وهو ماسكا برأسه واضعا إياه بين ركبتيه ، بكى كثيرا وظل أياما يبكي وكلما تذكر إبراهيم بكى ، وكان يخرج صوتا حزينا حينما كان يبكي ، إلا إن أقدام الحرس وأصوات المفاتيح في الممر وصياح السجانين كان دوما يفضي على ذلك العالم مخاوف شتى من شئنها أن تنسي السجين همومه وبعض الأفكار ، السيد شمران هو الأخر محكوم بعوامل التأريخ فقبل عامين تقريبا أحيل على التقاعد بعد أن تعرض لحادث سير، حيث اصتدمت عجلته بأحدى العجلات التابعة إلى المستشفى الجمهوري حينما كانت تنقل جرحى صاروخ إيراني وقع في أحدا شوارع العاصمة ولم يصب هدفه بدقة وكان موجه إلى وزارة الدفاع وكانت بصحبته زوجته التي لم تتأذى كثيرا من الحادث على خلافه فقد أصيب بشلل نصفي وجاء بعده إلى الصرح عدي خليفة الذي أبدع صورا جديدة في إفراغ الزنزانات التي كانت تمتلئ بسرعة ، فإليه تعود فكرة إرسال السجناء للقيام بإنزال فاشل على الأراضي الملتهبة في حدود البلاد الشرقية حيث في كل ساعة هناك عاتية مليئة بالضحايا الجدد وقد شكره السيد الرئيس على ذلك في اجتماع سري وأعطاه سيارة نوع مرسيدس بيضاء كهدية وقال في حقه ( هكذا علينا أن ننجب الرجال ، هذا الرجل الشجاع ابتكر شيئا سيجنبنا أن نلقي ببعض الجنود في المناطق التي فيها إيرانيون ولكن سنلقي بعض الخونة حتى نتأكد أنهم اقتنعوا إننا لم نبعث إليهم جنودنا حينها سنرسل إليهم الإبطال، هكذا ينبغي أن نفكر) يومها كان التلفاز متخما جدا بأغاني النصر المبين ( سيدي كم أنت رائع سيدي ) ليس التلفزيون وحده بل الجميع كان يصفق بحرارة ويهتف بقوة ، حينما كان السيد الرئيس يزور المناطق المختلفة كانت الهتافات تلتهم كل شيء ، كل شيء ولا تدع أحدا يفكر مليا ( بالروح بالدم نفديك ....) وكان هناك دوما مجموعة من النساء والرجال والأطفال ترقص وتغني وكأنها في عرس لا ينتهي ابدا ( يا يعيش يا يعيش يا يعيش ، عاش القائد عاش الرمز عاش فارس الأمة وباني مجدها يعيش) كما كانت المعارك على طول الحدود الشرقية للبلاد تأكل آلاف الذين كانوا لا يعرفون لماذا هم يحاربون ولماذا هم يموتون ولماذا أتخمت الشوارع بالعمال المصريين لسد حاجة البلاد من العمال على مختلف الأنواع، وكانوا أي الموتى جراء تلك الحرب الخرافية يرسلون إلى أهلهم مقطعين بفعل الشظايا أو محروقين يلفهم علم البلاد الرسمي ، وكان هنالك من تسمح له الحماية الشخصية للسيد الرئيس أن يتكلم ، هذه الحماية فوق عددها فرقة عسكرية وهم متدربون على مختلف الفنون القتالية ، وهي لا تتهيب أن تقتل أي شخص يقترب إلى الحدود الحمراء المحيطة بالسيد الرئيس ، وكان السيد الرئيس وبإشارت معينة كان يسمح للبعض أن يتكلم شيئا والذي يجب أن يكون مدحا وثناء على ما أنجزه السيد الرئيس من معجزات بحق الشعب و أبنائه ( سيدي كلنا فداء لك ، أنت حققت المعجزات وأنت الذي جاء بعد اليأس والقنوط ، بعثك الله ليتحقق النصر على يديك ، أيها الملهم العظيم ، الموت للخونة أعداء السيد الرئيس) و كانت البيانات الإيرانية تؤكد أن ثمة أنزال فاشل كبير على قطاع ديزفول أو المحمرة أو نهر جاسم تكبد فيه العدو ألاف القتلى وكانت المعارضة فرحة لأن ثمة مقاتلين أشاوس قد ماتوا وهم يدافعون عن حياة السيد الرئيس وكانت وزارة الدفاع تنسق تلك التصفية السرية مع مديرية الأمن العام من اجل نجاح ذلك المشروع . هناك شكل أخر للتصفية وإفراغ الزنزانات في عهد السيد عدي خليفة وهو إرسال مئات من السجناء لمعامل التصنيع الكيميائي لإجراء التجارب عليهم ، هذه الأماكن لا يعرف مكانها إلا السيد الرئيس والمقربون منه جدا وذلك لأجراء تجارب عليهم ، وهذا النوع هو الأكثر استهلاكا للسجناء ، حيث يمكن مشاهدة عشرات من الشاحنات ذات اللون الأحمر والموشح بالسواد والمظللة أيضا والمكتوب عليها شركة الظلال للسياحة والسفر و يشاع أن نجل السيد الرئيس الأكبر يمتلك أسهما كثيرة فيها ، تشاهدها وقد دخلت الصرح لتأخذ مئات من السجناء وخاصة الشباب منهم إلى أماكن مخيفة جدا بحيث ( أن الصرح وما يحيطه من غموض وخوف يكون نسبة إلى تلك الأماكن وكأنه مكان استراحة ) ، هكذا كان يقول بعض المعنيين ببرنامج تطوير الأسلحة البايلوجية ، ولكن يبدوا أن هذا الوصف مبالغا فيه نوعا ما فالصرح يحتوي على أماكن لا يستهان بها في الترويع وزهق الأرواح ، هذه الأسلحة الفتاكة يريد بها السيد الرئيس أن يحرر فلسطين ، كان يقول دوما ( أن الحرب القادمة حرب قذرة وعلينا أن نمتلك أدواتها و إلا سنهزم في عقر دارنا ، إن أسرائيل تمتلك السلاح النووي والكيميائي إذا لماذا يحاربوننا على ذلك ويمنعوننا ، إننا سنحطم إرادة الغرب ونهزم الطموحات الفارسية أيضا إنها طموحات مدمرة وذات صلة بالماضي وبما إننا نتمتع بقبول الشعب خلافا لكل الزعماء في المنطقة فأننا لن نسمح للأعداء من تدنيس أراضينا المقدسة ، إذا وعلى ضوء ذلك علينا أن نعمل ليلا ونهار) ومن اجل ذلك وحتى يجسد السيد الرئيس أرادة الشعب ويحرر فلسطين كانت تلك الشاحنات المظللة لا تنفك تزور الصرح صيفا وشتاء تنتقي الأصغر سنا والأكثر حيوية من بين السجناء.
ـ أنت وأنت اقتربوا إلى الباب اخرجوهم هؤلاء شباب قيدوهم ، كم بقي من العدد؟.
ــ سيدي ثلاثة وعشرون.
ــ تعال معي إلى الممر الأخر.
وهكذا تذهب الشاحنات محملة بالسجناء ممن وقع عليهم اختيار الخبراء البايلوجيين إلى تلك الأماكن الغامضة جدا ليتمكن الرئيس من امتلاك أدوات الحرب القادمة ويحرر فلسطين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح21
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 22 ـ
مرت ثلاثة أيام ، ثلاثة أيام فقط على ورود بريد من الداخلية يحمل عنوان (سري للغاية ويفتح باليد) إلى السيد عدي خليفة الرجل الشديد جدا وذات الملامح الصحراوية القاسية ، كان خليفة أسمر اللون ونحيف الجسم إذا رأيته يسير في اليرموك وهو مكان سكناه تجزم على انه رجل خامل وليس له أي دور في الحياة سوى أن يدخن بشراهة وإذا تأملت في وجهه يمكن لك أن ترى أثار جدري أو ما يشابه ذلك ، دخل في عامه الخامس والأربعين ، وكان يشرف على تعذيب السجناء بنفسه وكان يقول ( أن أجمل لحظات حياتي هي حينما أرى أعداء السيد الرئيس يتألمون ويصرخون ) ، وكان السجناء يقولون انه لا يوجد أقسى من يوسف شمران ويدعون الله تعالى أن يذهب به إلى الجحيم ولكن حينما جاء خليفة شعروا أنهم كانوا مخطئين في تقديراتهم ، وكان عدي خليفة يخرج بين يوم وأخر سجين واحد أو عدة سجناء يضعهم في ممرات القيادة ويشدونهم في شبابيك الممرات الطويلة من أجل أن يطفأ الضباط والجنود سجائرهم بأجسادهم العارية تماما وربما وضعوا ما يواري عوراتهم وكانوا يسمون هذا السجين بالنفاضة البشرية وعلى السجين أن يتحمل يوما كاملا من لسعات المدخنين من الضباط والجنود وهم الأكثر ، هذا البريد أخبر السيد عدي خليفة على ضرورة إطلاق كل من مر على وجوده في الصرح خمسة عشر عاما أوأكثر وأن يعمل في الرسالة فور وصولها وأن ترسل أسماء السجناء الذين يتم إطلاق سراحهم إلى الوزارة للإطلاع عليها ، حينما وصل البريد ذاك وقرأه خليفة ضحك كثيرا وقال في نفسه ( هل يوجد لدينا من مر على وجوده هنا خمسة عشر عاما ، وأين كان ، وإذا أفلت من يوسف شمران رحمه الله فكيف أفلت مني لا أدري ربما ، لنرى كم لدينا من هؤلاء الخونة ) حينها شكل لجنة من ضابطين تبحث في ملفات السجناء القدامى علها تعثر على من مر عليه خمسة عشر عاما في الصرح ، وفعلا عملت اللجنة إلا إنها لم تعثر إلا على ثلاثة ملفات ، قدمها رعد ، الضابط المكلف بذلك بعد أن أدى التحية.
ــ سيدي هذه هي ملفات المشمولين بعفو السيد الرئيس حفظه الله ورعاه.
ــ كم؟.
ــ ثلاثة فقط سيدي.
ــ ثلاثة فقط؟.
ــ نعم سيدي .
ضحك السيد عدي خليفة كثيرا ونهض من خلف مكتبه يرقص بسخرية وهو يرفع الملفات إلى الأعلى.
ــ ثلاثة ترن ترن ، ثلاثة رابعهم في المقبرة ترن ترن.
ضحك عدي ضحكة عالية وجامله الضابط الذي جلب الملفات بابتسامة واخذ يقرأ الأسماء .
ــ سمير سرحان بدر وإبراهيم رشاد ذا النون وأزاد جمال علي.
خرج من المكتب والذي ليس هو ذاته مكتب شمران القديم ، لقد أحدث غزو الكويت تغييرا جذريا في مكاتب الضباط وأثاث الدوائر الحكومية خاصة التابعة إلى وزارة الداخلية لذا ترى مكتب السيد عدي خليفة مثلا ليس هو ذاته مكتب يوسف شمران ، هذا الجديد أسود اللون وكبير جدا وذات صناعة إيطالية ، خرج ليجلس على الكنبات الخضراء الموردة والتي جلبت إلى الصرح أيضا ويقال أنها جلبت من قصر أميري ، قال.
ــ هؤلاء فقط ؟.
ــ نعم سيدي .
مص شفتيه إلى فمه برفق واخرج سيجارة كنت واتكأ يتأمل في الملفات، قال.
ــ تصور لو كانوا مئات ماذا اصنع ؟.
ــ ماذا تصنع سيدي؟.
ــ اجلس لماذا أنت واقف .
ــ نعم سيدي .
جلس الضابط بينما أردف خليفة .
ــ أبقي ربع منهم هكذا قررت ولكن احمد الله أنني لم أتعرض إلى هذا الإحراج مع المديرية العامة ولا مع الداخلية ، ثلاثة عدد لا بأس به .
دخل المراسل وكان جندي وسيم جدا ربما لم يبلغ التاسعة عشر ودون أن يؤدي التحية بشكل متقن واكتفى برفع كفه اليمنى ووضعها قرب الجبهة بهدوء قال .
ــ سيدي مقدم تحسين يريد أن يراك.
تاما قليلا ، قال.
ــ ليدخل.
خرج الجندي الوسيم وليدخل المقدم الذي أدى التحية بشكل متقن ومخيف وكأنه يقف أمام السيد الرئيس .
ــ تفضل تحسين.
ــ أشكرك سيدي ، سيدي خمس زنزانات من الكويتيين أضربوا عن الطعام وزنزانة واحدة بها سبعة نساء أيضا أضربت عن الطعام.
ــ ما هذا التزامن ، منذ متى وهم مضربون ؟.
ــ أمس سيدي .
ــ لماذا هل حدث شيء ؟.
ــ سيدي مات أحدهم من المرض ، كان يعاني من ربو مزمن .
ــ والنساء ماذا بهن؟.
ــ سيدي تم أخراج ثلاثة من الزنزانة أمس ليلا.
ضحك خليفة ، ضحك من كل قلبه ، قال وهو يضحك واضعا فخذه الأيمن على الفخذ الأيسر .
ــ نعم ، أنا على علم بذلك ، لقد جلبوا واحدة لي ، كانت لا بأس بها؟.
نهض السيد عدي خليفة يتمشى في الغرفة بينما نهض الضابط الذي جلب الملفات ووقف جنب المقدم الذي تنحى هو الأخرى ليقف قرب الباب ، قال بغضب.
ــ أليست الكويت عراقية ألم يقل السيد الرئيس ذلك؟ .
قال الضابط صاحب الملفات.
ــ نعم سيدي هي عراقية.
صمت قليلا وقد احمرت أوداجه إلى حد يمكن ملاحظة ذلك ، أردف قائلا.
ــ لماذا لا يفرحون بأنهم رجعوا إلى وطنهم الأصلي ، اخرجوا كل من أضرب عن الطعام وأرسلوه إلى بيت التحقيق وكذلك النساء ولا أريد أن يعود منهم إلى زنزانته أبدا ولكن أرسلوهم إلى الانفرادي وإذا تكرر هذا اصنعوا ذات الشيء لا تراجعني على أشياء تافهة مثل هذه كل من يضرب عن الطعام أو يخرج عن ضوابط الصرح والتي قرأت عليهم أول ما دخلوا افعلوا به ما يحلوا لكم.
ــ أمرك سيدي.
خرج المقدم وهمَّ ضابط الملفات في الخروج أيضا ولكن السيد خليفة قال له بهدوء بعد أن تنهد ثلاثة مرات.
ــ أنتظر أنت.
ــ نعم سيدي
ــ هل انتم متأكدون من هذا العدد ؟.
ــ نعم سيدي لقد تفحصنا الملفات بدقة.
ــ إذا ، لأراهم.
ــ أمرك سيدي.
يتبع إنشاء الله
-
أضحوكة العالم المثالي روايه- من الحلقه -22 - الى الحلقه -24- ارجو التثبيت
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح22
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 23 ـ
لقد قضى إبراهيم السنوات الثلاث الأخيرة وحيدا في زنزانة صغيرة جدا منعزلة قرب أماكن الطبخ البعيدة ولم تكن انفرادية ولكنه بقى وحيدا فيها وكانت تلك الأيام أسوء ما كان يعانيه إبراهيم إذ شعر بالغربة والوحشة وكان لا يسمع أي شيء سوى الإطلاقات النارية التي كان الجنود يطلقونها بيين لحظة وأخرى وكذلك صياحهم المخيف ، وشعر إن صحته تدهورت كثيرا فقد بدأ يعاني من ألآم المثانة وضيق التنفس والسعال الحاد وقد سقط من أسنانه الكثير ولم يبقى إلا الأسنان الأمامية تستر عليه مظهره وكان أخر ناب قذفه مع مجموعة من الدماء قبل نصف عام حينما ضربه أحد الجنود الفتيان على وجهه دون أن يكون أدنى سبب سوى انه تأخر عن النهوض حينما فتح عليه الجندي البوابة الصغيرة بصورة مفاجئة ، يومها قال له اخرج رأسك من البوابة الصغيرة وكان بالإمكان أن يخرج منها السجين رأسه من تلك البوابة، حينما فعل إبراهيم ذلك لكمه الجندي في وجهه لكمة عظيمة ظل إبراهيم يعاني منها اشهرا عديدة وقد شق جفن عينه اليسرى ، لم يكن يعرف إبراهيم ما يجري خارج زنزانته ، لم يكن يعلم أن الرئيس أمر بغزو دولة الكويت وسقطت بطرفة عين وكان التلفزيون الرسمي يتحدث عن ضم الأصل للفرع فالتسقط الرجعية وسميت المحافظة التاسعة عشر وكان التفلزيون قد اخرج رجل قبلي على انه زعيم التيار الإصلاحي في دولة الكويت ويقال انه من حماية الرئيس ، هذا الرجل كان يطلب النجدة من حكومة الرئيس لإحداث التغيرات السياسية في بلده ، كانت الفكرة ساذجة جدا ولم تنطلي على احد ، ولم يكن يعلم إبراهيم إن الثوار أوشكوا على إخراجهم قبل عام حينما اقترب الأمريكان كثيرا على إسقاط حكومة السيد الرئيس إلا إنهم تريثوا بعد ذلك حينما لاح لهم شبح التغير، يومها سمعت الزنزانات كلها أصوات الطائرات والصواريخ كما وسمعوا اشتباكات الجنود مع بعض الثوار الذين حاولوا اقتحام الصرح حيث وصلوا إلى مشارف الصرح الأولى ولكن دون جدوى حيث تم تأمينه بأحد الفيالق الخاصة المنسحبة من الكويت ولم يعترض الأمريكان على ذلك التكتيك العسكري وكان بإمكانهم أن يصنعوا أي شيء إلا إنهم توقفوا تاركين الجيش يسترد كل الأماكن التي سقطت بأيدي الثوار وهي أماكن كثيرة جدا حيث يمكن القول إن جنوب ووسط وشمال البلاد كله سقط في أيدي الثوار والذين جُلب معظمهم إلى الصرح بينما قتل منهم الكثير في مواجهات الجيش وهرب البعض إلى حدود البلاد باتجاه المملكة العربية السعودية وتحديدا إلى رفحه حيث بني هناك معسكر كبير سمي على اسم المنطقة ، لم يكن يعلم إبراهيم بكل تلك الحروب والتطورات الكبيرة ، لقد كانت هنالك معلومات مشوشة نقلها لإبراهيم أحد السجناء في زمن ما أخبره فيها عن حرب شرسة يقودها الرئيس ضد إيران والتي انتهى بها حكم الشاه وصار الحكم بيد رجال الدين وان مئات الألوف تقتل على طول الحدود مع إيران ولكن إبراهيم لم يثق يومها بكلمات ذلك السجين إلا بعد سنتين حينما التقى بسجين شاب يزعم انه نجى من غابات الأسود الهندية التابعة لنجل الرئيس وهو الذي أكد له تلك التطورات ، وربما التقى بسجين أخر من هذا القبيل ،ومنذ ذلك والوقت إي منذ خروج ذلك السجين لم يدري إبراهيم ماذا يجري خارج نطاق زنزانته ، كان يعلم فقط متى تأتي وجبات الغذاء ومتى يذهب إلى المرحاض ، ويعلم كذلك متى يأتي الجنود أو السجناء الحلاقين للسجناء أصحاب القضايا الخاصة جدا ، كانوا يأتون كل ثلاث اشهر حيث يزيلون كل ما على الرأس والذقن من شعر وكانوا يتأخرون أحيانا ، نعم أحيانا يمر عام ولا يأتون ، كما يعرف إبراهيم إنه مرت أعوام على استثنائه من الأشغال ، فلم يعد يخرج يحفر الشقوق ، وكان يتكلم مع نفسه كثيرا إذ لا يوجد أحدا يتكلم معه وزاد حديثه مع التمثال ، الصديق العزيز له ، وكان يقص عليه القصص التي سمعها من السجناء ويصغي هو كذلك للتمثال الذي كان إبراهيم يتكلم على لسانه من قصص مختلفة وكان ذلك يحدث دوما قبل النوم خاصة في ليالي الشتاء الباردة.
ــ زاين هل تسمعني ، مالك لا ترد علي هل أنت نائم ، أسمع أيها الجندي أنت تتمتع بخبرة واسعة كونك عشت قبلي وكنت من الحماية الشخصية للملك اوتوـ حيكال وكنت ترى كيف يؤتى بالمعارضين للملك ، هل كانت هنالك معارضة ؟.
ــ لا ولكن ثمة نفر ضال كان يحاول أن يسلب الملك .
ــ نفر ضال ... نفر ضال ... لماذا تسمونهم نفر ضال هؤلاء أيضا يسموننا نفر ضال ، لماذا تسمون إرادة الشعوب والثوار دوما بالنفر الضال والخارجين عن القانون، لا بد من ثورة للمستضعفين تجتاح العالم لولا هذا الهدف لكان كل شيء عبارة عن محض خرافة .
صمت قليلا ثم عاد بلهجة أكثر هدوءا
ــ وتصديتم لهم بقوة ، لا تكذب علي أنا اعلم أن الجنود يكذبون دائما لأنهم يعتقدون أن أهم شيء هو أن يحقق الجندي الانتصار .
ــ لا ، كان الملك يحاول أن يتركهم .
ــ صحيح ، ألم يكن لدى الملك سجن تحت الأرض؟ .
ــ نعم ، كان هناك سجن ولكن صغير جدا ليس بحجم هذا السجن .
ــ هل تتصور إنني سأخرج من هنا؟.
ــ لا اعتقد وحتى إذا خرجت فإلى أين ستذهب؟ .
ــ إلى خديجة وابنتي سحر، هل نسيت أنا دوما أحدثك عنهم ، بدئت تنسى أيها الجندي الكسول.
ــ لا لم أنسى أتذكر كلماتك.
ــ لم تحدثني عن أمك ، كنت دوما تحدثني عن حبيبتك ميروبا التي غرقت في نهر هيمونوثو ولم تستطع إخراجها بالمناسبة ما معنى ميروبا؟.
ــ المياه الكثيرة ، أنا لم أكن اعلم بها كنت في المعركة وحينما عدت قالوا لي إنها غرقت في نهر هيمونوثو، أما عن أمي فسأحدثك لأنك لم تسألني.
ــ نعم سأسألك إنني اعتقد إن الأم شيء مقدس ، هي تأتي بعد الله والأنبياء من حيث التقديس.
ــ الله سمعت عنه ولكن الأنبياء لم اسمع عنهم .
ــ حقا ، هم الرجال الذين يرسلهم الرب لإنقاذنا من الخطيئة العالقة قي أذهاننا.
ــ كان ثمة رجال صالحون يأتون الملك يقولون له اعبد الرب الواحد الذي هو فوق أن يرى وكانوا يسمونه مارتو، وكان الملك يضحك لأنه كان يعبد الإله مامناتو وذات مرة غضب اله الشر عليه وأراد أن ينتزع ملكه فاستعان بالرجال الصالحين فقالوا له لماذا لا تدعو الهتك قال دعوتها ولم تشارك في الحرب فقالوا له إذا سنقول للرب أن يهزم اله الشر ، كنت معه حينما سألهم وأجابوه حينها هبت عاصفة اقتلعت المعبد الكبير للإله سورودو ومامناتو والذي كان تحت التلال الخضراء.
ثم سرعان ما يعلو شخيره وسرعان ما يسقط التمثال من على صدره ، وحتى حينما جاءوا الحرس يركلون الأبواب بأقدامهم بقوة كان إبراهيم يغط في نوم عميق ، حينما فتحوا البوابة الصغيرة كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بسبع دقائق ، صاح احد الجنود.
ــ إنهض إنهض أيها القرد النائم.
فتح إبراهيم عينيه إلى النصف ، كان يتصور أنه ما زال في ذلك الحلم الهادئ الجميل ، كان يحلم انه يعبر بحر عظيم وأنه أوشك أن يصل إلى الشاطئ حيث كانت هناك جزيرة موحشة تهب منها رائحة الموز والذي سرعان ما تطرده رائحة نتنة جدا كأنها رائحة موتى الحروب حينما يتركون أياما وشهور، كانت تصدر من شيء ما وكلما أراد إبراهيم أن يعرفه لم يستطع وقال في نفسه وهو يحلم انه إذا وصلت الشاطئ سأبحث عن مصدر هذه العفونة ، إلا أن صراخ الحرس الكثيف جعله يقفز من مكانه .
ــ نعم سيدي ، نعم سيدي .
ــ إنهض ما هذا الشخير ؟ ما اسمك؟ .
ــ إبراهيم رشاد.
ــ جيد وجدنا واحد ، إنهض ، افتح الباب ، هيا اخرج .
لف إبراهيم الدوار اتكأ على الجدار أزاح البطانية بقدمه كان يريد أن يجعلها كلها فوق التمثال حتى إذا داسوه بأقدامهم لم يشعروا به ، فكر أن يدس التمثال في بذلته لكن الدوار لم يدعه ، اسند ظهره إلى الجدار ، حرك البطانية نحو التمثال ببطء لم يشعروا به . قال له أحد الجنود و كانوا يرتدون بدلات ضفدعية وقماصل شتوية أغلقوها بإتقان ولم يكن بأيديهم أي سلاح إلا بعض الأعمدة الحديدية
ــ هيا أخرج أيها العجوز .
ــ نعم سيدي.
قدم إبراهيم يديه ليقيدوه، قال له الجندي الذي ظل واقفا في الخارج ولم يدخل.
ــ لا حاجة لنا في ذلك .
نظر إلى الجنود وهم يسحقون على البطانية والتي ركلها احد الجنود بقدمه فقذفها في الزاوية وهو يخرج ، قال إبراهيم في نفسه ( الحمد لله لم يشعروا به ، زاين أعتني بنفسك حتى أعود ).
يتبع إنشاء الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح23
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 24 ـ
كان السيد عدي خليفة يجلس خلف مكتبه يحرك كرسيه يمينا وشمالا بهدوء وهو ينظر إلى إبراهيم والذي تحولت لحيته الكثيفة جدا وشعره إلى بياض تام فلا توجد شعرة سوداء واحدة ، ولأنه كان طويلا ونحيفا نوعا ما فقد انحنى ظهره إلى الأمام قليلا ، راح السيد خليفة يتأمل فيه كثيرا، لحظات ولحظات مرة كان فيها خليفة يتأمل في إبراهيم وهو يدخن الكنت، كان ينظر في بدلته التي تمزقت كثيرا قرب الركبتين ، والى قدميه العاريتين من أي نعل ، إبراهيم كان ينظر إليه بين لحظة وأخرى وكان يحرص على أن لا يجعل نظراته تحمل الحقد والكراهية خشية أن يقرأها خليفة فتثور ثائرته ، هو لم يره منذ عدة أعوام ، منذ أن قال لهم أعطوه بطانية أخرى إن هذا الشتاء قاسي جدا ، سـأله وهو ينظر إلى بذلته.
ــ كم بذلة أعطوك منذ مجيئك وحتى الآن؟ .
قال إبراهيم وهو مرتبك.
ــ لا اعلم سيدي.
ــ لماذا لم تمت حتى هذا الوقت ؟.
أجابه إبراهيم وهو مطرق.
ــ سيدي اعتقد أن أجلي لم يحن بعد وهذا أمر بيد الله.
ــ بيد الله أم بيدي؟.
صمت إبراهيم قليلا قال بصوت مرتبك.
ــ العقل يقول بيد الله.
ــ جيد لو قلت غير ذلك لأخطئت ، كم مرة خرجت في الأهداف المتحركة ؟ .
ــ خمس وتم استثنائي.
ــ وهل كنت ترى كيف يموت أصحابك وأصدقائك ؟.
ــ نعم سيدي.
ــ هل أتفق أن أصابك الحرس ؟.
ــ نعم سيدي، في قدمي اليسرى.
ــ أرفع رأسك حين تكلمني لا تخف، ما هو اسمك؟.
ــ إبراهيم رشاد ذا النــ،
تلكأ ثم سرعان ما استدرك.
ــ إبراهيم رشاد محسن ذا النون.
ــ إبراهيم رشاد ذا النون أو محسن ذا النون؟.
ــ سيدي محسن ذا النون
ــ هؤلاء الأغبياء كتبوا على غلاف الإضبارة الشخصية رشاد ذا النون.
سحب قلما ذهبي اللون من حاملة الأقلام والتي كانت تحمل ثلاثة أقلام مذهبة وهي توسطت المكتب وليكتب بين اسمي رشاد وذا النون بخط غير متقن (محسن) ، قال.
ــ أين تسكن ؟.
ــ بغداد سيدي.
ــ بغداد كبيرة ، أين بالتحديد؟.
ــ الكاظمية سيدي.
ــ متى اعتقلت ؟.
ــ عام 1970.
ــ لقد جئتنا مبكرا ، من عام 1970 ولم تمت بينما مات أمس سجين خرج من الانفرادي قبل ثلاثة اشهر.
صمت خليفة قليلا وهو يمص سيجارته بهدوء، قال.
ــ إذا خيرتك بين الخروج وبين البقاء هنا ماذا تختار ؟.
ــ سيدي الأمر متروك إليكم.
ــ لا ... لا... أريد رأيك .
ــ طبعا الخروج .
ــ لماذا حتى تعاود نشاطك في محاربة السيد الرئيس حفظه الله ورعاه.
ــ لا يا سيدي ولكن حتى أرى زوجتي وابنتي.
ــ زوجتك ما اسمها ؟.
ــ خديجة صاحب.
ــ ربما أصبحت الآن عاهرة وكذلك ابنتك ما تقول أيحتمل هذا أم لا ؟.
ــ الله اعلم بحقائق الأمور سيدي.
ــ أجلس.
ــ أنا سيدي.
ــ نعم ومن غيرك ، أجلس حتى يأتي الآخران.
ــ نعم سيدي.
ـ 25 ـ
فتح المراسل الوسيم جدا والصغير جدا الباب التي تم طلائها حديثا بلون فضي ، قال بعد أن أدى التحية بشكل غير مبالي بها ، قال بتدلل واضح.
ــ سيدي لقد وصل الملازم كنعان ومعه السجينان.
ــ ليدخلوا.
دخل كنعان وأدى التحية العسكرية بإتقان ملفت للانتباه ، قال.
ــ هذان اللذان أردتهما سيدي.
ما زال خليفة يجلس خلف المكتب يرقص كرسيه بهدوء ، وما زال يمص سيجارته الكنت بروية ، أخذ ينظر إليهما واضعا يده اليمنى قرب فمه وهو يتأمل فيهما ، قال.
ــ ما اسمك أنت؟.
ــ أزاد جمال علي.
ــ من أين؟.
ــ سليمانية.
ــ متى كان اعتقالك؟.
ــ 1973 سيدي
ــ وأنت ؟ .
كان السيد خليفة يحرك يده باستعلاء وهو يؤشر عليهما.
ــ سمير سرحان بيدر سيدي.
ما زال إبراهيم جالسا مطرق الرأس ينظر إلى السجادة التي مدة في الغرفة وكانت حمراء موشحة بالسواد ، هي كذلك من الأشياء التي تم جلبها من الكويت قبل عام تقريبا وتحديدا من بيت في العبدلي ، كان يفكر أن يرفع رأسه حينما أدخل السجينان إلا إنه ابعد تلك الفكرة ، كان قد ذهب شوطا في أفكاره السوداوية كان يقول في نفسه ( لقد وصلت إلى النهاية يا إبراهيم ، جيد إبراهيم لقد ختمت أعمالك ولم تهن ، أصبر قليلا ما هي إلا لحظات حتى يأمر هذا الطاغوت جنوده بإعدامنا فيأخذوننا إلى بيت التحقيق وهناك سوف تكون نهاية هذا الفصل المضحك جدا) ، إلا أنه حينما سمع ذلك الاسم الأخير هز رأسه ورفعه قليلا ثم سرعان ما أرجعه وتمنى أن يعيد الشاب الاسم ، تذكر العجوز القديم جدا والذي التقى به قبل أعوام طويلة قال في نفسه ( كان اسمه سرحان بيدر وله ولد اسمه سمير وكان يبكي كلما سمع أسم مقدم سمير ) تنهد مرات عديدة دون أن يشعر به أحد ، ثم أردف قائلا ( ولكن لعجوز كان يقول لي أن سمير أطلقوا سراح وانه الآن ربما تزوج يا الهي ما الذي يحدث أيعقل أن يكون هو سمير أبن ذلك العجوز).
ــ أين تسكن ؟.
ــ الناصرية.
ــ في أي عام اعتقلت ؟.
ــ عام 1971.
ــ أخرجوا دعوني وحدي معهم ولا يدخل علينا احد .
ــ أمرك سيدي .
خرج الجميع وأغلق كنعان الباب بلطف وتنهد السيد خليفة عدة مرات، قال بعد صمت قليل.
ــ أنتم تعرفون إن السيد الرئيس حفظه الله ورعاه كم يحب شعبه بل حتى المتآمرين عليه أمثالكم يعطف عليهم انه يحمل قلب كبير وصبور لذلك وحتى يثبت للعالم هذه السجية النادرة جدا أعطى عفوا عاما لكم وسوف يطلق سراحكم في هذا الأسبوع ، إياكم أن ترجعوا إلى عنترياتكم الكاذبة ، ربما لديكم بعض جوانب الاعتراض على سياستنا في السجن وتعرضتم إلى شيء من الضغوط النفسية والجسدية ، هذا كله من اجل مصلحتكم ، نحن مأمورون بذلك ، كل ما رأيتموه هنا لا تحدثوا به أحد حتى أقاربكم لأننا سنرسل لكم أناس يسألونكم عن الأحوال في السجن قولوا لهم كنا في خير و إلا تعودون إلى هنا ، حينها والله أجعلكم تتمنون هذه اللحظات لأنكم حتى هذه اللحظة لم تروا قسوتي وغضبي وخاصة على الخونة أمثالكم ، مفهوم؟.
ــ نعم سيدي ... نعم سيدي ... نعم سيدي.
ــ اتركوا عدائكم للسيد الرئيس لأن فكرة المعارضة فكرة ساذجة جدا ، هؤلاء الذين يسكنون إيران آو سوريا أو الذين هم في دول أخرى ومن هناك يحاربون السيد الرئيس هؤلاء تجار كبار ، تجار الثورة الجديدة ، انتم دوما مغضوب عليكم ، لنتفق أن السيد الرئيس لا سامح الله أزيل حكمه بالثورة أو الانقلاب العسكري من يحكمكم ؟ ، تتصورون هؤلاء الأغبياء الذين هم في قبضتي الآن هم من يحكم بغداد ، هؤلاء في كل زمان ومكان هم محكوم عليه سلفا إنهم أغبياء ، أغبياء جدا ، إنكم مجرد أكذوبة ، أو دمية تحرك من بعد وهناك من يقنعها إنها تحرك نفسها بنفسها ليشعرها بحرية ألذات والاختيار السليم ، وهي ليس كذلك أنا مقتنع أنكم تحملون ذات الشعور لكنكم تكابرون ، اعتقد أنكم موجودون في كل زمان ومكان وأنا كذلك موجود في كل زمان ومكان ، حينما تكون أيها العجوز في مكاني هذا لا بد أن يكون تحت رحمتك أمثال عدي خليفة ، أليس ذلك هو الصحيح ، تكلم أيها العجوز .. أنطق.
قال إبراهيم بلغة الخائف جدا.
ــ نعم سيدي
لم يتكلم إبراهيم مباشرة ، كان يحاول أن يفكر بأي شيء يجيبه فهو يدرك أن كل كلمة هنا لها حجمها وينبغي أن تكون في المكان المناسب لأنه لا مجال لأن يخطأ السجين أمام السيد خليفة ، صاح خليفة بصوت مخيف.
ــ اجبني لماذا أنت صامت كالصنم ؟.
قال إبراهيم بصوت مبحوح.
ــ نعم سيدي إذا جرت الأمور وفق ما طرحت لا بد أن تكون تحت رحمتي.
ــ إذا من هو الصحيح ومن هو الخطاء ، من هنا يجب أن نفهم الأمور ، أنا اعتقد أن السيد الرئيس على حق ، أتدري لماذا ، لأنه من عمومتي وقد أعطاني كل شيء ، لذلك أحس أن العراق ملك أبائي بل أحس أن أرواحكم بيدي ، كلمة واحدة ويموت كل من في الزنزانات الآن ، أليس هذا صحيح ؟.
ــ نعم سيدي .
ــ انتم تحاربون السيد الرئيس لكي تتمتعوا بهذا ، تريدون أن تحصلوا على هذه الميزات ، إذا هي حرب لذائذ ومميزات ، اجبني بصراحة أيها العجوز لا تخشى إذا كنت حقا مبدئي تكلم معي ولك الأمان وحياة السيد الرئيس لك الأمان لأنني أنا اليوم جدا مرتاح حتى أعطيت أمر بموجبه أوقفت التحقيق لأسبوع كامل ، تصور أسبوعا كامل لا يموت احد في الصرح فلا تضجرني بعدم جوابك فأرجع عن قراري والله ارجع عن قراري إذا لم تجبني بصراحة ، هل هذه الحرب هي حرب لذائد ومميزات أم ماذا هيا أجبني أيها العجوز وبسرعة؟.
ــ نعم سيدي سأجيبك.
تحرك إبراهيم رشاد وحك رأسه وفرك عينيه ونظر إلى عدي خليفة والذي احمرت عيناه ، فكر أن يقول له أي جواب لكنه تذكر ، تذكر لأسبوع الكامل من توقف الموت وهذا يعني الشيء الكثير وأن خليفة قادر على أن يعكس قراره بل وعلى مرأى منهم ، قال بخوف شديد.
ــ أنا أتفق معك في شيء وأختلف معك سيدي في شيء أخر ،إذا سمحت طبعا.
ــ تفضل أنا أريدك أن تتكلم أنت الآن لست سجين أنت الآن مواطن حر.
قال إبراهيم .
ــ أتفق معك كوننا محكوم علينا سلفا وأننا دمية تحرك من بعد وهناك من يشعرها إنها تمتلك ألذات ، وأختلف معك في كوننا نطمح بالمميزات التي يتمتع بها شخصكم ، ذلك لأننا نختلف ببعض الثوابت ، أنت تشعر أن العراق ملكك وأنا اشعر أنني ملك العراق ومن هنا بدأ الاختلاف ثم اتسع كثيرا ليكون بعد ذلك مسافات شاسعة ويحمل ....
رفع السيد خليفة يده وكأنه يقول لإبراهيم اسكت ، ثم أردف .
ــ تكلمت بصدق ، منذ أن أتيت لم أسمع سجين يكلمني بكلمات صادقة ، الآن يمكن أن أقول أنني سمعت كلمات صادقة من سجين ، وهذا يكفي.
صمت قليلا وهو يخرج سيجارة أخرى ويضعها في فمه ويشعلها ،كان يدخن بشراهة، قال.
ــ كم قلت حتى تخرجون ؟.
قال إبراهيم.
ــ أسبوع سيدي.
ــ لا أسبوع مدة طويلة اليوم نطلق سراحك أيها العجوز وغدا أزاد وبعد غد نطلق ، ماذا قلت ، أنت ما هو اسمك ؟.
يتبع إنشاء الله..........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ــ سمير سيدي .
ــ نعم نطلق سمير.
صاح بصوت عال.
ــ كنعان ، وليد ، ليأتي أحدكم.
دخل المراسل وليد ومن ورائه كنعان .
ــ كنعان أريد أن تهيئ هؤلاء إلى الخروج رتبوا لهم ملابس جيدة ، وليسبحوا في حماماتنا ولا ترجعوهم إلى الزنزانة ، هذا العجوز حاولوا أن ترحلوه اليوم مع شاحنة الخضر.
ــ سيدي السائق على وشك أن يرجع .
ــ لا ، لا ، قل له لينتظر ساعة حتى تهيئوا إبراهيم .
نهض السيد خليفة ، أخرج ثلاثة كتب رسمية من المجر السفلي للمكتب بينما نهض إبراهيم هو الأخر قال لإبراهيم.
ــ خذ كتابك أريد أن تقرأه لي .
صمت قليلا ثم أردف.
ــ من فيكم سمير؟.
ــ نعم سيدي أنا.
ــ خذ كتباك ، وأنت خذ ، هيا يا إبراهيم اقرأ.
ــ نعم سيدي.
قرب إبراهيم الكتاب من عينيه ، قربه جدا ، لقد مر زمن طويل لم يقرأ فيه إبراهيم ورقة ، على مستوى تلك السنين الطويلة كان إبراهيم يقرأ ما كان مكتوب على جدران الزنازين فقط ، اخذ يقرأ.
ــ وزارة الداخلية، مديرية السجون العامة ، إلى كافة السيطرات ومفارز الطريق ، العدد 545 التأريخ 6/2/1992 ، يرجى عدم التعرض إلى المواطن إبراهيم رشاد محسن ذا النون كونه كان محجوزا لدينا مع التقدير.
التوقيع مدير السجن الأول اللواء عدي خليفة . وكان التوقيع باللون الأخضر وتحت الاسم الذي كتب على اليمين أسفل الورقة وكان هناك ختم احمر نقش فيه اسم الوزارة واسم المديرية بشكل مصغر.
صمت إبراهيم بينما راح السيد خليفة يتربت على كتفه الأيمن ، قال مبتسما وهو يرمي دخان سيجارته عليه ، قال .
ــ هل تريد سيجارة يا إبراهيم ، أنا أحب أن أشرب ألكنت يقولون أنه نسائي هل صحيح ذلك؟.
ــ لا ادري سيدي .
ــ هل أعطيك واحدة ؟، من فيكم يدخن؟.
ــ شكرا سيدي .
ــ هل هذا الكتاب يكفي ؟.
ــ نعم سيدي هذا يكفي.
ــ إذا توكلوا على الله ، أذهبوا إلى أهلكم لقد غبتم عنهم بعض الوقت ، أرجو أن لا نراكم ثانية.
ـ 26 ـ
الشاحنة التي أقلت العجوز كانت كبيرة ومخصصة لنقل الخضار إلى الصرح ، كان سائقها شاب يرتدي بذلة مدنية فستقية اللون ، ومع أن إبراهيم استحم في حمامات الضباط وقد استغرب كثيرا حينما رأى تلك الحمامات وقال في نفسه ( هل أنا في حلم ، كيف يحدث هذا وفي زمن عدي خليفة، إلى أين يردون بي هل يمكن أن يكون هذا ترتيب من يعدموه وفق تعليمات الرئيس الجديدة ، ربما ، أنا لم أعدم قبل هذا الوقت حتى أستطيع أن أحكم ) ثم يختم حديثه ذاك بابتسامة ، غسل رأسه بالصابون عشرة مرات كان لا يصدق أن هنالك صابون كثير وفي متناول يده . حلقوا رأسه بعناية فائقة ورتبوا لحيته بعناية فائقة أيضا ، إذ إن السيد خليفة قال لهم ساعة إدخاله إلى الحمام أريدكم أن ترجعوه عشرين عاما إلى الوراء ، حينها تبسم إبراهيم وقال في نفسه ( لا يستطيعون ذلك بل لا يستطيعون أن يمحوا آلام يوم واحد ) ولم يكن إبراهيم يتصور حتى لحظة خروجه من الحمام وارتدائه بذلة جلبت له من احد الضباط أنهم سيخرجونه بل كانت تصوراته أن هذه لا تعدوا أن تكون مسرحية لأجل أن يتمتعوا بها ويضحكوا ويبتعدوا عن قساوة هذا البرد ووحشة الصحراء ، هكذا كان يتصور ولم يقنع نفسه انه على وشك الخروج بل كان يقول في ذاته ( إن هذه مسرحية وعلي أن أستوعب ذلك) ، وحتى حينما وضعوا الحذاء الأسود الجديد في قدميه لم يستوعب فكرة الخروج وكان يبتسم في نفسه بسخرية على تلك الفكرة وحتى حينما يتحسس الكتاب الذي وضعوه في سترة البذلة السوداء كان يقول في نفسه ( سرعان ما يقول لي خليفة اعطني كتابي يا جبان أتريد أن تخرج حتى تقاتل السيد الرئيس ) ، الحذاء ذاك حصلوا عليه بعد اختبارات عديدة على أحذية الضباط والجنود الخاصة بهم وقد استغرق ذلك وقتا ولم يستطع إبراهيم أن يمشي به أول وهلة وكأنه مصاب بجرح كبير في قدمه، حينها قال له خليفة.
ــ ماذا بك أيها العجوز هل نسيت أن تمشي في حذاء.
قال إبراهيم وهو يحاول أن يكون أكثر شجاعة في المسير .
ــ سيدي منذ عشرون عام لم أضع نعلا ولا حذاء في قدمي وهناك جروح كبيرة قي قدمي.
إلا إنه مشى أخيرا ، راح يصافح الضباط الكبار الذين وقفوا قرب الشاحنة على هيئة الصف ، وكأنه صديق عزيز يودعونه وفي الحقيقة كانوا يتسلون بذلك وليس حبا في إبراهيم أو ربما اعتبرها البعض إنها لحظة تاريخية إذ إن هذا الصرح ومنذ بنائه لم يتم إطلاق سراح أحد منه،قال احد الضباط في نفسه وهو يصافحه ( لقد خرجت بمعجزة من إمبراطورية الرعب) ، كان يتذكرهم إبراهيم جيدا ، لا يوجد أحد منهم من القدماء جدا ، إي من الذين عاصروا يوسف شمران ، قال في نفسه وهو يصافحهم ويبتسم مجاملة ( هذا وضعني نفاضة بشرية ثلاثة مرات دون أدنى سبب وهذه أخرج رأسي من البوابة الصغيرة وعلق برأسي قنينة غاز من الظهر وحتى الصباح وكدت أموت، وهذا قطع ماء الحنفية أسبوعا كاملا وهذا....).
حينما تحركت الشاحنة وخرجت من باب الصرح بدأت قناعات إبراهيم تتحرك بذلك الاتجاه الذي كان يكذبه قبل لحظات ، نظر إلى وجهه في المرآة الجانبية ، تفاجأ من ذلك العجوز ، حرك رأسه رأى أن هذا الوجه هو وجهه ، أبتسم ، كان وجهه مصفرا وعليه بقع سوداء صغيرة من لسعات سجائر الجنود ولحيته بيضاء مرتبة نوعا ما قال في نفسه ( هذه البقع من سجائر الجنود ) ، كانت هناك مرآة في الحمام ويمكن لإبراهيم أن ينظر إلى وجهه بشكل أحسن ولكن وقبل دخول إبراهيم بلحظات رفعها الحرس تحسبا لكل شيء ، نظر إلى السائق ، كان شابا ذا وجه أسمر و شاحبا في ذات الوقت ، شارباه كبيران نزلا حتى أسفل ذقنه الذي خلا من الشعر وكأنه حالق قبل لحظات ، اخرج قنينة خمر محلي ما إن خرجت الشاحنة من باب الصرح ، نظر إلى إبراهيم ، قال له بهدوء بعد أن مص القنينة الأرجوانية ثلاث مرات .
ــ هل أنت سجين أيها العجوز أم عندك مواجه لأحد السجناء ؟.
كان إبراهيم ينظر من خلال النافذة إلى الصحراء الممتدة في الأعماق ، ينظر إلى التلال البعيدة جدا ، إلى أشجار السمر و السلم البرية العارية تماما وهي شجيرة يتراوح طولها 2-6امتار وتبرز أزهارها ونويراتها الكرزية الشكل في فصل الربيع نحو شهر ابريل غير ان السمر يزهر في أوائل الصيف ولنوعين أشواك حادة صلبة ولا تأكل الإبل فروع السمر والسلم وذلك بسب الأشواك ولكن شفتي البعير الحساستين القابضتين تعملان بدقة للتجنب صلابة هذه الأشواك الحادة فتأخذان الأوراق الطرية من بينها بمهارة عجيبة ، هذه في الصيف أما في الشتاء فأنها تبدوا وكأنها لا تحمل أي شيء وهناك أيضا على المرأى البعيد أشجار الغاف العملاقة التي يصل طولها أحيانا إلى عشرة أمتار وهي ذات أزهار لونها أصفر متجمعة في سنابل طولها حوالي 5سم والثمرة على هيئة قرن اسطواني بلون أصفر مخضر وهي صغيرة تميل إلى الحمره عند النضج ، وأشجار القفص الكبير وهذه الشجرة كبيرة عريضة تستلفت أنظار السجناء أيام ما كانوا يمرون على ضفاف الأودية الهابطة من المنحدرات الشمالية للصرح ، والأوراق جلدية خضراء داكنة لامعة بيضاوية ذات حافة كاملة وأزهارها صفراء في نورة عنقودية والثمار مجنحة تساعد على انتشار البذور ، لقد ظل بعضها يقاوم البرد ، كان إبراهيم ينظر إلى كل ما يمكن أن يلمحه في الصحراء والى السماء التي تلبدت بالغيوم وهناك عبر الأفق البعيد ثمة برق يتراقص ، كانت الساعة قد تجاوزة الواحدة ظهرا، وكانت هناك ريحا باردة جدا هبت منذ أن كان إبراهيم في الحمام يغتسل بماء حار ، ذاك الماء الذي لم يره إبراهيم منذ أن دخل الصرح ، أو بالأخرى منذ أن دخل المديرية العامة في بغداد وقال له الضابط.
ــ هذه بداية رحلتك الطويلة معنا يا إبراهيم اشحذ ذاكرتك إمامك ذكريات مأساوية هائلة ينبغي أن تقصها على أبنائك يوم تخرج.
ضحك الضابط يومها وأردف قائلا.
ــ هذا إذا خرجت ، تحتاج إلى معجزة صغيرة حتى تخرج وفي اعتقادي أن عصر المعجزات قد انتهى ، أليس كذلك يا إبراهيم.
كان إبراهيم يتذكر تلك الكلمات دوما ، تذكرها الآن ، قال في نفسه ( ماعدت اتذكر الأشياء القديمة جدا ، لقد تبخرت من ذاكرتي تماما ، كان في ودي أن تبقى ).
سمعه إبراهيم ، قال له.
ــ وهل هناك سجناء يواجهون أهلهم هنا؟.
ــ لا ولكن في سجن أبو غريب موجود هذا الشيء ، لقد واجهت أحد أقربائي في الثقيلة ، كان سارق وقد سرق من جيرانه بعض الحاجيات.
أعاد إبراهيم النظر إلى الأفاق ، كان يبحث عن تلك الشقوق اللعينة التي سطرت أصعب اللحظات في الصيف والشتاء كان يريد أن يلمح وجبات السجناء وهي تعمل ، ما يزال الصرح يمكن أن يشاهده إبراهيم في المرآة الجانبية للعجلة وهو يبتعد شيئا فشيئا ، لحظات ليلمح وجبات السجناء على المرأى البعيد وهم يحفرون ، البعض يحمل معولا والبعض الأخر يحمل مسحات ، لم يشاهد ملامح وجوههم المتعبة جدا ، كانوا بعيدين جدا إلا انه لمح بدلاتهم الزرق تتماوج في الريح الباردة ، قال في نفسه ( تماما مثلما كنا نصنع قديما ).
ــ من أين أنت ؟.
أجابه إبراهيم وهو ينظر للسجناء وكان يهز رأسه تأسيا عليهم.
ــ من بغداد.
قالها دون أن يلتفت إليه ، كان يحاول أن يشخص السلاسل في أقدام السجناء عن بعد حيث ما يزال بإمكانه أن يرى بعضهم فوق الشقوق ،أما الذين يعملون داخل الشقوق فإنه يتعذر عليه رؤيتهم ، مد يده اليمنى بهدوء إلى قدمه حيث مكان السلاسل القديمة ، لم يصدق انه حر ، كانت العجلة دافئة جدا ، منذ أن تحركت شغل السائق التدفئة كما وفتح المسجل كانت أغنية ( تايبين ) ، كان يرى بدلات السجناء وهي تتحرك وكذلك الحرس الذي انتشر بعيدا عنهم تحسبا لكل طارىء ، أمامه عشرون ثانية فقط حتى تستدير العجلة في طريق التلال فيستحيل أن يرى السجناء بعد ذلك ، حاول أن يبتعد عن مناخ الأغنية ، ( غلطة مرت وأنتهت ، وشمعة العشرة انتهت ، والذنب هو ذنبكم ) قال السائق .
ــ بغداد وكيف تصل إلى بغداد أيها المسكين هل أعطوك كتاب أو أي شيء يثبت انك عراقي ، وأنك كنت سجين هذا إذا كنت سجين طبعا ؟.
ــ نعم أنا سجين وأعطوني كتاب.
أخرج إبراهيم الكتاب إلى السائق ولكنه لم يبالي به قال ، بينما راح إبراهيم يطالعه في نفسه.
ــ أحتفظ به أكثر من نفسك لأنك من غير هذا لا يمكن أن تسير أربع خطوات في أي مدينة.
قال وهو يضع قنينة الخمر في فمه.
ــ كم سنة قضيت هنا ؟.
ــ عشرون سنة تقريبا.
أندهش السائق إذ إنه لم يتفق أن رأى رجلا قد حبس عشرون عام، قال .
ــ ماذا هل أنت مجنون أيعقل هذا ؟.
لم يعلق إبراهيم بشيء، كان ينظر إلى الصحراء.
ضحك السائق وهو يرجع قنينة الخمر إلى مكانها خلف كرسيه ، قال بصوت خافت جدا.
ــ عشرون عام يا للجنون ، عشرون عام شيء لا يصدق.
يتبع إنشاء الله.....
..
-
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح19الى الحلقه-20- ارجو التثبيت
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح19
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 19 ـ
حينما وصلت مجموعة إبراهيم إلى بوابة الممر كانت الشمس قد توارت قبل لحظات تاركة خلفها حمرة تملأ الأفاق ، بدأ الجندي صاحب السجل ينادي وهناك خمسة حراس في الممر يحملون الهراوات ومن بينهم صاحب المفاتيح وكانت الزنزانات كلها مفتحة كما تركوها أول مرة ، صاح الجندي وهو يحمل سجلا أزرق كتب على غلافه الكارتوني سجل الأشغال الأسبوعي و كان ذلك الجندي يقف في بداية الممر.
ــ الزنزانة واحد .
صاح اثنان من السجناء .
ــ نعم سيدي .
ــ أدخلا هيا بسرعة.
وهذان ليس عليهما أن يهرولا حتى يدخلا الزنزانة إذ أن الزنزانة كانت قريبة على بوابة الممر وما عليهم إلا أن يستديرا فقط ، خلع أحد الجنود عنهم السلسلة ويمكن مشاهدة الجروح التي خلفها الاحتكاك ، والحقيقة أن ذلك الجندي كان يخلع السلسلة عن كل مجموعة تصل مع غض النظر عن دخولها ، وهكذا بقية الأرقام وكلما ابتعدت الزنزانة كان على أصحابها الهرولة وإلا تعرضوا للضرب وكان صاحب المفاتيح يغلق الزنزانة ما إن يدخل السجينان إليها ويخلق البوابة المتحركة أيضا ، مسك إبراهيم التمثال موهم الحرس انه يمسك بطنه أو ألبدله ، كان يخشى أن يقع وهذه يعني أن يؤخذ ليرى يوسف شمران وهو أجراء لا يتحمله إبراهيم في الأوضاع التي يعيشها الآن ، أحس أنه ارتكب حماقة في جلب ذلك التمثال ، لكنه أصر على ذلك إذ لا مجال للانسحاب ، هرولا بعد أن سمعا الجندي يصيح برقم زنزانتهم ، قالا بصوت واحد وهما يقفزان.
ــ نعم سيدي.
لم يتعرضا للضرب بالهراوات ولكن احد الجنود صفع إبراهيم على قفاه وهو يدخل إلى الزنزانة ، حينما دخلا وجدا إن هنالك بطانيتان وكانتا بلون رمادي ، وضعتا في وسط الزنزانة ، أغلق الجندي صاحب المفاتيح الزنزانة ، لم يصدق الشاب ما كان يرى، قال بعد أن رفع أحداهما وشمها وهو يبتسم.
ــ انظر إبراهيم إنها بطانية لقد ذكرونا أخيرا ، هؤلاء الأوغاد ما كنت أتصور أنهم سيجلبون لنا بطانيات ، ولكنها ليست جديدة ، علينا أن نفرشها حتى نصلي ، آه ، علينا كذلك أن نصلي الظهر والعصر.
قال إبراهيم .
ــ يا الهي انظر إلى أقدامنا كيف صنعت السلسة بها .
قال الشاب وما زال يمسك البطانية التي راح يفرشها .
ــ هذه ليست الأولى الذي يسمعك يظنك أول مرة تخرج للأشغال ، أعتقد أن الجندي هذا مستجد هو لا يعرف كيف يقيدنا لقد شدها كثيرا سوف نقول للضابط الذي جاء ، ماذا قال اسمه.
قال إبراهيم .
ــ أي ضابط تعني.
ــ الضابط ذات الأخلاق الجيدة الذي مر علينا واخبرنا بالتأريخ .
ــ نعم فهمت ، أعتقد انه سليم أو سالم ، لا يخرج عن هذه الأسماء.
جلس إبراهيم وقد مد رجليه بحيث أصبحت أقدامه على البطانية المرمية في وسط الزنزانة ، نظر إلى إصبعه لا زالت هنالك آلاما خفيفة حاول أن يحرك الإصبع المجروح كأن يدفعه إلى الأمام أو يسحبه إليه لم يستطع وكأنه فصل عن جسده ، ترك هذه الفكرة ، أغمض عينيه واتكأ على الجدار، ما زال الشاب يتكلم عن البطانية التي فرشها قرب الباب تاركا نصف الزنزانة لإبراهيم الذي مد رجليه ، حرك يده اليمنى ببطء إلى حيث يرقد التمثال ، ما زال مغمض العينين وما زال الشاب يتكلم ولم يلتفت إلى إبراهيم قال إبراهيم.
ــ لقد جلبت لك صديقا من عمق التأريخ وسيحدثنا عن أسراره وعلاقاته الشخصية.
أنتبه الشاب إذ لم يكن يصغي جيدا وكان إبراهيم يتكلم بصوت خافت جدا ، قال .
ــ ماذا قلت؟.
ــ أقول لقد جلبت لك صديقا من عمق التأريخ وسيحدثنا عن أسراره وعلاقاته الشخصية.
ــ هل هذه مزحة؟.
ــ لا.
فتح عينيه ونظر إلى الشاب الذي اقترب من إبراهيم ، كان إبراهيم ما يزال متكأ ولا زالت قدماه ممدودتين على البطانية.
ــ إنها حقيقة ، صديق لا يتجسس ، ولا يبلغ شمران عن أصحابه ماذا تكلموا قبل سنتين.
أخرج إبراهيم التمثال بينما صعق الشاب وقفر إلى البوابة المتحركة ليضع إذنه اليمنى عليها ليتأكد من خلوا الممر من الجنود ، قال .
ــ حسبتك تمزح ، دعني أنظر إليه ، إنه ليس جندي ، ماذا لو رأوه عندنا.
ــ وما أدراك إنه ليس جندي؟.
ــ لا ادري ولكن أتصوره ملكا.
ــ سواء كان جنديا أو ملكا أو خادما لا يفرق عندنا بشيء ، سنتكلم عن هذا فيما بعد أنه حديث طويل مع صديقنا الجديد ، والأن أعني على النهوض أريد أن اغتسل.
ــ أراك متعب على غير عادتك .
ــ لا ادري هذه الليلة حزينة جدا ، تصور كنت كلما أتذكر خديجة ثمة إحساس بالقوة يأتيني ولكن حينما ذكرتها اليوم لا ادري ما شعرت ، انه شعور لا اعرفه ولكنه حزين ومخيب للآمال.
ــ أتعلم لماذا؟.
ــ لماذا ؟.
ــ لأنك متعب ومرهق وهذا الشعور شعور المتعبين العائدين من الأشغال ، هيا يا صديقي العجوز انهض لتغتسل حتى اغتسل بعدك ، هات يدك ، واعطني هذا الملك المبجل، لأمرح معه قبل الصلاة.
نهض إبراهيم ، قال وهو يسير إلى المرحاض .
ــ لا اعتقد أن هذا ملك.
ثم ادلف للمرحاض مصطحبا معه القدح الأحمر الجديد، بينما راح الشاب يحدثه عن العمل وانه لم يلتقي الجندي سامي لأنه كان بعيدا .
قال وهو في المرحاض.
ــ نعم ... نعم... رأيت سامي بعيدا عنك وفكرت بك قلت إنه لن يستطع أن يتكلم مع سامي، كان في غير مجموعتنا ، لقد كان حسابي دقيق نحتاج بعض الوقت حتى يقترب علينا هذا إذا لم يتلاعبوا بمراقبي الوجبات .
ثم حدثه الشاب من أن الحرس ضربوه لأنهم كانوا يزعمون أنه لم يضرب الأرض بقوة، كما واخبره أن العجوز رحيم الذي يسكن في الزنزانة الواحدة والعشرون سقط قدحه ولم يستطع احد أن يرفعه بقدمه ، قال وهو يرمي أخر قدح ماء على رأسه ، كان يغتسل ويزيل الدم من قدميه.
ــ أنا لم أشاهدك كنت بعيدا عني ، لماذا ابتعدت ، ألم نخرج من الزنزانة سوية ، عليك أن لا تكرر ذلك ، لا مجال للأخطاء يا صديقي العزيز.
ـ 20 ـ
مرت ثلاثة أيام ولم يستطع إبراهيم ولا الشاب من حل رموز تلك الأحرف التي كتبت على المنصة الصغيرة التي يجلس عليها التمثال ، كان أسود اللون ومصنوع من الكرافت وهو يتمتع بصحة جيدة إي أنه لم يصب بخدش ، إلا إنهم وبعد تفكير عميق توصلوا إلى أن يطلقوا عليه زاين ، لا أدري من أين حصلوا على هذا الاسم ، قال إبراهيم وهو يحلل شخصية هذا التمثال.
ــ إنه جندي شجاع من حماية الملك (اوتو ـ حيكال) ، لا نعرف اسمه إلا إننا أطلقنا علية اسم زاين تيمنا بهذا السلاح الذي يحمله بيده اليمنى ، أما ما وضعه زاين في يده اليسرى فهو لوح طيني لا نعرف ماذا يصنع فيه.
وكان إبراهيم يضحك كثيرا وكذلك الشاب حينما كانا يقومان بتلك التمثيلية ، وكان إبراهيم يستشعر إن ذلك ليس سلاحا ولكنه كان يريد الجندي هذا أن يحمل سلاحا وقد تأمل ذات مرة في ذلك الشيء الذي يحمله ذلك الشاب ذو اللحية الطويلة وقال في نفسه حينها ( اعتقد أن هذه قصبة كتابة ، ولكن يا ترى ماذا كتب في هذا اللوح الذي يحمله) ، لم يكن هذا التمثال لملك من أور ولم يكن هو الأول الذي يعثر عليه السجناء فهنالك بعض الحالات القليلة المشابهة والتي يمكن لك أن تلمسها حينما تبحث في زوايا بعض الزنزانات ، كما لم يكن جندي من عصر اوتوـ حيكال، بل كان شاعر يحمل قصبة في يده اليمنى والتي قربها إلى صدره ويبدو أن القصبة تلك كانت ذلك القلم الذي كان يكتب به قصائده ولم يكن سلاحا ، بينما ترك اليسرى ممدودة قرب ساقه النحيفة تمسك لوحا طينيا كتب فيه أخر قصائده والتي أطلق عليها العروس المبتهجة وكانت عبارة عن أغنية.
أيها العريس الحبيب إلى قلبي.
جمالك باهر .
حلو ، كالشهد.
أيها الأسد الحبيب إلى قلبي.
جمالك باهر ، حلو .
كالشهد .
لقد أسرت قلبي فدعني أقف بحضرتك .
وأنا خائفة مرتعشة .
أيها العريس سيأخذونني أليك إلى غرفة النوم .
لقد أسرت قلبي فدعني أقف بحضرتك .
وأنا خائفة مرتعشة .
أيها العريس دعني أدللك.
فان تدليلي أطعم وأشهى من الشهد .
وفي حجرة النوم ، الملأى بالشهد .
دعنا نستمتع بجمالك الفاتن .
أيها الأسد ، دعني أدللك .
فان تدليلي أطعم وأشهى من الشهد .
أيها العريس قد قضيت وطر لذتك مني .
فابلغ أمي وستعطيك الأطايب .
أما أبي فسيغدق عليك الهبات .
وكان أسم الشاعر ذاك كيفو وهو من المقربين للملك شوـ سين وكان يغني له دوما وخاصة في أليالي المقمرة ، إذ أن شو ـ سين كان يحب ذلك كثيرا.
أخذ الشاب يتجول في الزنزانة ، كان يتقدم ثلاث خطوات ليقف ، ثلاث خطوات فقط ثم عليه أن يدير وجهه وهكذا ، كان إبراهيم يلاحظ ذلك ، كان ينظر إلى خطواته يحسبها في قلبه وهو يهز رأسه ، توقف الشاب قرأ ( أذكرونا في صلاة الليل ) وهناك مجموعة من الأسماء كتبت تحتها ، تبسم أدار وجهه إلى الجدار الذي كان خلفه ، أخذ يقرأ كانت كلمات كثيرة ممسوحة تماما (الجماهير دائما أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة وقد تضعف لكنها لا تستسلم)، قال في نفسه ، ( رائع شيء رائع )، لمح قصة كان قد كتبها أحد السجناء في زمن ما ، قال.
ــ هل قرأت هذه القصة ؟.
ــ لا لم اقرأ أي شيء حتى الآن ، أن الكتابة هنا مبعثرة وناعمة جدا بحيث لا يتسنى لي أن اقرأ معظمها ، إلا إنني كنت قد لاحظت أن بعض السجناء قد كتبوا أشياء جميلة ولكنني وللأسف لا أستطيع أن اقرأها ، وقد فكرت أن أقول لك إذا قرأت شيئا أن تقرأه لي.
يتبع إنشاء الله.....
H_K_h_2000@yahoo.com
تنويه...
في الحلقة (17) سقطت سهوا الكلمات الأخيرة من الحلقة وهي.
(، أصبح الشق قريب ، حينما نصل افعل ما يحلوا لك) ولم يكن الشق قريب ، بل ما زال في العمق ، وحينما أعاد عليه السجين ذلك الطلب لم يجبه وابتعد عنه وهو يضحك مما اضطر ذلك السجين أن يتبول وهو يسير وهذا الأمر مألوف لدى السجناء، مألوف جدا وليس فيه أدنى خجل.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح20
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ــ لا بأس لقد أخبرتك بذلك قلت لك لا تتعب نفسك في القراءة أنا أساعدك في ذلك، أنا سوف اقرأ لك.
يكتب السجناء أحيانا كلماتهم على الجدار بأزرار البذلة والتي إذا تحركت على الجدار تترك أثرا اسود باهت يمكن أن يقرأ فيما بعد ولكن كلما تقادم الزمن عليه يضمحل شيئا فشيئا حتى لا يرى ، البعض يقتلع شيئا من عروة القدح فيكتب بها وتبدوا هذه الأكثر شيوعا وكلماتها أكثر عمرا ووضوحا ، أخذ الشاب يقرأ شيئا من ذلك الكم الهائل من الكلمات والتي حولت لون الجدار وعلى مستوى ما يستطيع السجين أن يمد يده ارتفاعا من الأحمر إلى الأسود فبقى اللون الأحمر مسيطرا على ما هو مرتفع جدا ، وربما كان في بعض الزنزانات من يطلب في حمله ليكتب شيئا في الأعلى وهذا نادر جدا ، في زنزانة إبراهيم لا توجد كتابة مثل ذلك اللون ، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحا بدقائق حيث مرت السوبر فرليون وهو موعدها اليومي ، وتبعتها مي8 ، قال الشاب.
ــ ثورة الدخان.
قال إبراهيم.
ــ ماذا أنا لم اسمع .
ــ أنتظر حتى تمر الطائرة.
قال الشاب حينما خفت صوت الطائرة وصار بالكاد أن يسمع.
ــ ثورة الدخان ، وهذا على ما يبدو هو اسم القصة ويبدو أنها قصة قصيرة .
ــ نعم .. نعم فهمت أكمل.
ــ ولكن على اتفاقنا وهو أن نقرأ شيئا منها فقط وان كان بعضها لا يقرأ ولكن سنحاول به ، عادتي إذا رأيت كلمة مفقودة من السطر أحاول آن أجد التكملة وأبقى على ذلك أياما وربما اجتهد في وضع ما يناسبها ولكن نزولا لرغبتك سأتجاوز عن هذا .
قال الشاب ذلك وهو يبتسم ، بينما هز إبراهيم رأسه معلنا بذلك تأييده وهو يجلس متكأ على جدار الذي يقابل الجدار الذي يقف أمامه الشاب الآن وقد مد رجليه وهو يلهو بلحيته في يده اليمنى وهي عادته حينما يتأمل أو يفكر بعمق وكان ينظر إلى الباب وقال في نفسه على نحوا السرعة ( لماذا اللون الأحمر بالذات ) وتكلم الشاب فانقطعت أحاديث إبراهيم مع نفسه.
ـ 21 ـ
الأيام هنا دوما قاسية وقاسية جدا وتمضي ببطء شديد وكأنها اللحظات التي تقضيها مع شخص تبغضه أشد البغض ، لقد أنقضى الصيف ، ذلك الصيف الذي عثر به إبراهيم على التمثال ، وعاد الشتاء ثم ولى هو الأخر بعد أن أخذ مأخذه من السجناء ، وهكذا ، الزنزانات التي فرغت في يوم ما وتم دفن أصحابها في الشقوق ملئت مرة أخرى كما وتم طلاء كل جدرانها بلون احمر أيضا وطمست كل الكلمات التي كان السجناء قد سطروها في يوم ما .
السيد شمران شدد على أن الزنزانة التي يرى فيها شيء من الكتابة ولو حرف واحد ستعاقب في بيت التحقيق الأعظم وهو مكان تم استحداثه مؤخرا وفيه ما لا يحصى من أدوات التعذيب ، وكان يكثر من القول في أخر أيامه في الصرح ( لا بد من توسيع الصرح هناك ضخ غير طبيعي ، اشعر أن الشعب كله هنا ) وحدَّث نفسه كثيرا في ذلك وفكر في استحداث مواقع جديدة وكتب مذكرة للداخلية بذلك يخبرهم فيها عن ضيق ذلك المكان الذي كان في يوم ما واسع جدا .
ذكريات جديدة بدأت تنساب بين الزنزانات والمحاجر وقصص هي الأخرى جديدة ، السجناء الجدد كانوا يحدثون القدامى هذا في حالة اللقاء بهم عن كل ما حدث في تلك السنين ، السنين الموحشة جدا والمرعبة جدا ، أما القدامى فليس لديهم شي يقولونه إلا بعض التوصيات ونبذ الاندفاع الشبابي الذي قد يجر عليهم بالويلات ، كانوا يقولون لهم.
ــ إياكم والأخطاء إن الأخطاء هنا لا تغتفر ، لست في بيت صديق لك حتى يغضي عنك إنك في مكان جل تفكير الذين هم فيه هو كيف يقتلوك فعليك أن تحافظ على نفسك قدر الإمكان.
هذه الحالة أي السجناء الجدد في زنزانات القدامى نادرة الحدوث ، نادرة جدا ، فالسيد شمران يرفض وبشدة إدخال السجناء الجدد مع القدامى ولكن أحيانا ونتيجة الضخ الغير طبيعي على حد تسميات يوسف شمران يحدث هذا وبشكل محدود ومدروس أيضا ، فإبراهيم مثلا لم يتسنى له أن يلتقي بسجين شهد عقد الثمانينات وهو خارج الصرح إلا مرة أو مرتين وربما ثلاثة، منهم ذلك السجين لذي نجى من غابة الأسود والتي يشرف عليها نجل السيد الرئيس ليطيح في غابة الصرح وقد حدث إبراهيم بذلك في يوم ما والأخر تكلم مع إبراهيم عن حرب السيد الرئيس مع إيران والتي انطلقت فيها ثورة كبرى تعد الفريدة في المنطقة وذلك في نهاية عقد السبعينيات وقد أسقطت تلك الثورة التي فجرها بعض رجال الدين حكم الشاه ، ولكن ذلك السجين لم يستفهم منه إبراهيم كثيرا إذ شك في توجهاته وتوقع أن شمران أرسله ليعرف تطلعات السجناء ، ومع ذلك فهو لم يبقى سوى أربعة أيام ثم أُخرج وظل إبراهيم يفكر في تلك الكلمات طويلا ولكنه في ذات الوقت كان يشكك ويستخف بها ولم ينقلها لأي سجين إلا بعد عامين حين أكد له أحد السجناء ممن التقوا بسجناء عاشوا في الثمانينات تلك المعلومات ، ولكم تمنى أن يرى سجينا يحمل بعض المعلومات الجديدة والمهمة ،كانت أصوات الطائرات الحربية والتي عادة تأتي مع الفجر تقلق السجناء ، لقد كثرة في السنوات الأخيرة ، إبراهيم انتقل إلى عدة زنزانات وترك الشاب منذ سنوات ولكنه ما زال يحتفظ بذلك التمثال ، كان يضعه في بذلته حينما كانوا ينقلونه من زنزانة إلى أخرى وكان يشده على خصره حينما يأخذونهم إلى العمل خشية أن يفتش الجنود الزنزانة في غيابهم وكان يتألم من ذلك ويخشى من عواقبه ولكنه تعلق بالتمثال كثيرا واعتبره الصديق الوحيد الذي لم ولن يستطيع يوسف شمران أن يفرق بينهما ، وأستعد إلى أن يعدم دون أن يفرط في التمثال بسهولة ، ولما بلغ الخمسة عشر عاما في السجن تم استثنائه من الأشغال ووضع في ممر كانوا يطلقون عليه بزنزانات العجزة حيث التقى هناك بشيبه وتحدث معهم طويلا ، ولم يصدق إنهم استثنوه إلا بعد مرور أشهر على ذلك ، قال للشاب ، الشاب الذي كان معه يوم عثر على التمثال في الشقوق ، قال له يوم صرخ به الجنود ( أنت أيها العجوز سنخرجك إلى مكان أخر انهض) ، قال له بلغة حزينة.
ــ سأذكرك كثيرا وسأفتقدك .
وأراد أن يعانقه إلا انه خاف من الحرس لأنهم كانوا يتابعون حركاته ، حينها خرجت من عينيه وهو يجتاز باب الزنزانة بعض الدموع وظل متأسفا على ذلك اشهرا عديدة ، لقد مضى عليهما ثلاثة سنوات في تلك الزنزانة ، ولكن حينما تعرف على آخرين تلاشت نوعا ما تلك الذكريات . يومها (أي حينما أخرجوه) لم يكن التمثال في بذلته وكان تحت البطانية وقبل أن يفتح الجنود الباب دسه في البذلة بسرعة ولو انتبه الجنود لذلك لعلموا انه كان يخفي شيئا ما ولكنهم كانوا منشغلين فيما بينهم يدخنون السومر بشراهة ، أغلق الجنود الباب ومضوا بإبراهيم إلى حيث لا يعلم ، يومها جلس الشاب يبكي وهو ماسكا برأسه واضعا إياه بين ركبتيه ، بكى كثيرا وظل أياما يبكي وكلما تذكر إبراهيم بكى ، وكان يخرج صوتا حزينا حينما كان يبكي ، إلا إن أقدام الحرس وأصوات المفاتيح في الممر وصياح السجانين كان دوما يفضي على ذلك العالم مخاوف شتى من شئنها أن تنسي السجين همومه وبعض الأفكار ، السيد شمران هو الأخر محكوم بعوامل التأريخ فقبل عامين تقريبا أحيل على التقاعد بعد أن تعرض لحادث سير، حيث اصتدمت عجلته بأحدى العجلات التابعة إلى المستشفى الجمهوري حينما كانت تنقل جرحى صاروخ إيراني وقع في أحدا شوارع العاصمة ولم يصب هدفه بدقة وكان موجه إلى وزارة الدفاع وكانت بصحبته زوجته التي لم تتأذى كثيرا من الحادث على خلافه فقد أصيب بشلل نصفي وجاء بعده إلى الصرح عدي خليفة الذي أبدع صورا جديدة في إفراغ الزنزانات التي كانت تمتلئ بسرعة ، فإليه تعود فكرة إرسال السجناء للقيام بإنزال فاشل على الأراضي الملتهبة في حدود البلاد الشرقية حيث في كل ساعة هناك عاتية مليئة بالضحايا الجدد وقد شكره السيد الرئيس على ذلك في اجتماع سري وأعطاه سيارة نوع مرسيدس بيضاء كهدية وقال في حقه ( هكذا علينا أن ننجب الرجال ، هذا الرجل الشجاع ابتكر شيئا سيجنبنا أن نلقي ببعض الجنود في المناطق التي فيها إيرانيون ولكن سنلقي بعض الخونة حتى نتأكد أنهم اقتنعوا إننا لم نبعث إليهم جنودنا حينها سنرسل إليهم الإبطال، هكذا ينبغي أن نفكر) يومها كان التلفاز متخما جدا بأغاني النصر المبين ( سيدي كم أنت رائع سيدي ) ليس التلفزيون وحده بل الجميع كان يصفق بحرارة ويهتف بقوة ، حينما كان السيد الرئيس يزور المناطق المختلفة كانت الهتافات تلتهم كل شيء ، كل شيء ولا تدع أحدا يفكر مليا ( بالروح بالدم نفديك ....) وكان هناك دوما مجموعة من النساء والرجال والأطفال ترقص وتغني وكأنها في عرس لا ينتهي ابدا ( يا يعيش يا يعيش يا يعيش ، عاش القائد عاش الرمز عاش فارس الأمة وباني مجدها يعيش) كما كانت المعارك على طول الحدود الشرقية للبلاد تأكل آلاف الذين كانوا لا يعرفون لماذا هم يحاربون ولماذا هم يموتون ولماذا أتخمت الشوارع بالعمال المصريين لسد حاجة البلاد من العمال على مختلف الأنواع، وكانوا أي الموتى جراء تلك الحرب الخرافية يرسلون إلى أهلهم مقطعين بفعل الشظايا أو محروقين يلفهم علم البلاد الرسمي ، وكان هنالك من تسمح له الحماية الشخصية للسيد الرئيس أن يتكلم ، هذه الحماية فوق عددها فرقة عسكرية وهم متدربون على مختلف الفنون القتالية ، وهي لا تتهيب أن تقتل أي شخص يقترب إلى الحدود الحمراء المحيطة بالسيد الرئيس ، وكان السيد الرئيس وبإشارت معينة كان يسمح للبعض أن يتكلم شيئا والذي يجب أن يكون مدحا وثناء على ما أنجزه السيد الرئيس من معجزات بحق الشعب و أبنائه ( سيدي كلنا فداء لك ، أنت حققت المعجزات وأنت الذي جاء بعد اليأس والقنوط ، بعثك الله ليتحقق النصر على يديك ، أيها الملهم العظيم ، الموت للخونة أعداء السيد الرئيس) و كانت البيانات الإيرانية تؤكد أن ثمة أنزال فاشل كبير على قطاع ديزفول أو المحمرة أو نهر جاسم تكبد فيه العدو ألاف القتلى وكانت المعارضة فرحة لأن ثمة مقاتلين أشاوس قد ماتوا وهم يدافعون عن حياة السيد الرئيس وكانت وزارة الدفاع تنسق تلك التصفية السرية مع مديرية الأمن العام من اجل نجاح ذلك المشروع . هناك شكل أخر للتصفية وإفراغ الزنزانات في عهد السيد عدي خليفة وهو إرسال مئات من السجناء لمعامل التصنيع الكيميائي لإجراء التجارب عليهم ، هذه الأماكن لا يعرف مكانها إلا السيد الرئيس والمقربون منه جدا وذلك لأجراء تجارب عليهم ، وهذا النوع هو الأكثر استهلاكا للسجناء ، حيث يمكن مشاهدة عشرات من الشاحنات ذات اللون الأحمر والموشح بالسواد والمظللة أيضا والمكتوب عليها شركة الظلال للسياحة والسفر و يشاع أن نجل السيد الرئيس الأكبر يمتلك أسهما كثيرة فيها ، تشاهدها وقد دخلت الصرح لتأخذ مئات من السجناء وخاصة الشباب منهم إلى أماكن مخيفة جدا بحيث ( أن الصرح وما يحيطه من غموض وخوف يكون نسبة إلى تلك الأماكن وكأنه مكان استراحة ) ، هكذا كان يقول بعض المعنيين ببرنامج تطوير الأسلحة البايلوجية ، ولكن يبدوا أن هذا الوصف مبالغا فيه نوعا ما فالصرح يحتوي على أماكن لا يستهان بها في الترويع وزهق الأرواح ، هذه الأسلحة الفتاكة يريد بها السيد الرئيس أن يحرر فلسطين ، كان يقول دوما ( أن الحرب القادمة حرب قذرة وعلينا أن نمتلك أدواتها و إلا سنهزم في عقر دارنا ، إن أسرائيل تمتلك السلاح النووي والكيميائي إذا لماذا يحاربوننا على ذلك ويمنعوننا ، إننا سنحطم إرادة الغرب ونهزم الطموحات الفارسية أيضا إنها طموحات مدمرة وذات صلة بالماضي وبما إننا نتمتع بقبول الشعب خلافا لكل الزعماء في المنطقة فأننا لن نسمح للأعداء من تدنيس أراضينا المقدسة ، إذا وعلى ضوء ذلك علينا أن نعمل ليلا ونهار) ومن اجل ذلك وحتى يجسد السيد الرئيس أرادة الشعب ويحرر فلسطين كانت تلك الشاحنات المظللة لا تنفك تزور الصرح صيفا وشتاء تنتقي الأصغر سنا والأكثر حيوية من بين السجناء.
ـ أنت وأنت اقتربوا إلى الباب اخرجوهم هؤلاء شباب قيدوهم ، كم بقي من العدد؟.
ــ سيدي ثلاثة وعشرون.
ــ تعال معي إلى الممر الأخر.
وهكذا تذهب الشاحنات محملة بالسجناء ممن وقع عليهم اختيار الخبراء البايلوجيين إلى تلك الأماكن الغامضة جدا ليتمكن الرئيس من امتلاك أدوات الحرب القادمة ويحرر فلسطين
-
أضحوكة العالم المثالي / رواية -21- حالى الحلقه-22- ارجو التثبيت
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح21
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 22 ـ
مرت ثلاثة أيام ، ثلاثة أيام فقط على ورود بريد من الداخلية يحمل عنوان (سري للغاية ويفتح باليد) إلى السيد عدي خليفة الرجل الشديد جدا وذات الملامح الصحراوية القاسية ، كان خليفة أسمر اللون ونحيف الجسم إذا رأيته يسير في اليرموك وهو مكان سكناه تجزم على انه رجل خامل وليس له أي دور في الحياة سوى أن يدخن بشراهة وإذا تأملت في وجهه يمكن لك أن ترى أثار جدري أو ما يشابه ذلك ، دخل في عامه الخامس والأربعين ، وكان يشرف على تعذيب السجناء بنفسه وكان يقول ( أن أجمل لحظات حياتي هي حينما أرى أعداء السيد الرئيس يتألمون ويصرخون ) ، وكان السجناء يقولون انه لا يوجد أقسى من يوسف شمران ويدعون الله تعالى أن يذهب به إلى الجحيم ولكن حينما جاء خليفة شعروا أنهم كانوا مخطئين في تقديراتهم ، وكان عدي خليفة يخرج بين يوم وأخر سجين واحد أو عدة سجناء يضعهم في ممرات القيادة ويشدونهم في شبابيك الممرات الطويلة من أجل أن يطفأ الضباط والجنود سجائرهم بأجسادهم العارية تماما وربما وضعوا ما يواري عوراتهم وكانوا يسمون هذا السجين بالنفاضة البشرية وعلى السجين أن يتحمل يوما كاملا من لسعات المدخنين من الضباط والجنود وهم الأكثر ، هذا البريد أخبر السيد عدي خليفة على ضرورة إطلاق كل من مر على وجوده في الصرح خمسة عشر عاما أوأكثر وأن يعمل في الرسالة فور وصولها وأن ترسل أسماء السجناء الذين يتم إطلاق سراحهم إلى الوزارة للإطلاع عليها ، حينما وصل البريد ذاك وقرأه خليفة ضحك كثيرا وقال في نفسه ( هل يوجد لدينا من مر على وجوده هنا خمسة عشر عاما ، وأين كان ، وإذا أفلت من يوسف شمران رحمه الله فكيف أفلت مني لا أدري ربما ، لنرى كم لدينا من هؤلاء الخونة ) حينها شكل لجنة من ضابطين تبحث في ملفات السجناء القدامى علها تعثر على من مر عليه خمسة عشر عاما في الصرح ، وفعلا عملت اللجنة إلا إنها لم تعثر إلا على ثلاثة ملفات ، قدمها رعد ، الضابط المكلف بذلك بعد أن أدى التحية.
ــ سيدي هذه هي ملفات المشمولين بعفو السيد الرئيس حفظه الله ورعاه.
ــ كم؟.
ــ ثلاثة فقط سيدي.
ــ ثلاثة فقط؟.
ــ نعم سيدي .
ضحك السيد عدي خليفة كثيرا ونهض من خلف مكتبه يرقص بسخرية وهو يرفع الملفات إلى الأعلى.
ــ ثلاثة ترن ترن ، ثلاثة رابعهم في المقبرة ترن ترن.
ضحك عدي ضحكة عالية وجامله الضابط الذي جلب الملفات بابتسامة واخذ يقرأ الأسماء .
ــ سمير سرحان بدر وإبراهيم رشاد ذا النون وأزاد جمال علي.
خرج من المكتب والذي ليس هو ذاته مكتب شمران القديم ، لقد أحدث غزو الكويت تغييرا جذريا في مكاتب الضباط وأثاث الدوائر الحكومية خاصة التابعة إلى وزارة الداخلية لذا ترى مكتب السيد عدي خليفة مثلا ليس هو ذاته مكتب يوسف شمران ، هذا الجديد أسود اللون وكبير جدا وذات صناعة إيطالية ، خرج ليجلس على الكنبات الخضراء الموردة والتي جلبت إلى الصرح أيضا ويقال أنها جلبت من قصر أميري ، قال.
ــ هؤلاء فقط ؟.
ــ نعم سيدي .
مص شفتيه إلى فمه برفق واخرج سيجارة كنت واتكأ يتأمل في الملفات، قال.
ــ تصور لو كانوا مئات ماذا اصنع ؟.
ــ ماذا تصنع سيدي؟.
ــ اجلس لماذا أنت واقف .
ــ نعم سيدي .
جلس الضابط بينما أردف خليفة .
ــ أبقي ربع منهم هكذا قررت ولكن احمد الله أنني لم أتعرض إلى هذا الإحراج مع المديرية العامة ولا مع الداخلية ، ثلاثة عدد لا بأس به .
دخل المراسل وكان جندي وسيم جدا ربما لم يبلغ التاسعة عشر ودون أن يؤدي التحية بشكل متقن واكتفى برفع كفه اليمنى ووضعها قرب الجبهة بهدوء قال .
ــ سيدي مقدم تحسين يريد أن يراك.
تاما قليلا ، قال.
ــ ليدخل.
خرج الجندي الوسيم وليدخل المقدم الذي أدى التحية بشكل متقن ومخيف وكأنه يقف أمام السيد الرئيس .
ــ تفضل تحسين.
ــ أشكرك سيدي ، سيدي خمس زنزانات من الكويتيين أضربوا عن الطعام وزنزانة واحدة بها سبعة نساء أيضا أضربت عن الطعام.
ــ ما هذا التزامن ، منذ متى وهم مضربون ؟.
ــ أمس سيدي .
ــ لماذا هل حدث شيء ؟.
ــ سيدي مات أحدهم من المرض ، كان يعاني من ربو مزمن .
ــ والنساء ماذا بهن؟.
ــ سيدي تم أخراج ثلاثة من الزنزانة أمس ليلا.
ضحك خليفة ، ضحك من كل قلبه ، قال وهو يضحك واضعا فخذه الأيمن على الفخذ الأيسر .
ــ نعم ، أنا على علم بذلك ، لقد جلبوا واحدة لي ، كانت لا بأس بها؟.
نهض السيد عدي خليفة يتمشى في الغرفة بينما نهض الضابط الذي جلب الملفات ووقف جنب المقدم الذي تنحى هو الأخرى ليقف قرب الباب ، قال بغضب.
ــ أليست الكويت عراقية ألم يقل السيد الرئيس ذلك؟ .
قال الضابط صاحب الملفات.
ــ نعم سيدي هي عراقية.
صمت قليلا وقد احمرت أوداجه إلى حد يمكن ملاحظة ذلك ، أردف قائلا.
ــ لماذا لا يفرحون بأنهم رجعوا إلى وطنهم الأصلي ، اخرجوا كل من أضرب عن الطعام وأرسلوه إلى بيت التحقيق وكذلك النساء ولا أريد أن يعود منهم إلى زنزانته أبدا ولكن أرسلوهم إلى الانفرادي وإذا تكرر هذا اصنعوا ذات الشيء لا تراجعني على أشياء تافهة مثل هذه كل من يضرب عن الطعام أو يخرج عن ضوابط الصرح والتي قرأت عليهم أول ما دخلوا افعلوا به ما يحلوا لكم.
ــ أمرك سيدي.
خرج المقدم وهمَّ ضابط الملفات في الخروج أيضا ولكن السيد خليفة قال له بهدوء بعد أن تنهد ثلاثة مرات.
ــ أنتظر أنت.
ــ نعم سيدي
ــ هل انتم متأكدون من هذا العدد ؟.
ــ نعم سيدي لقد تفحصنا الملفات بدقة.
ــ إذا ، لأراهم.
ــ أمرك سيدي.
يتبع إنشاء الله.....
.ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح22
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 23 ـ
لقد قضى إبراهيم السنوات الثلاث الأخيرة وحيدا في زنزانة صغيرة جدا منعزلة قرب أماكن الطبخ البعيدة ولم تكن انفرادية ولكنه بقى وحيدا فيها وكانت تلك الأيام أسوء ما كان يعانيه إبراهيم إذ شعر بالغربة والوحشة وكان لا يسمع أي شيء سوى الإطلاقات النارية التي كان الجنود يطلقونها بيين لحظة وأخرى وكذلك صياحهم المخيف ، وشعر إن صحته تدهورت كثيرا فقد بدأ يعاني من ألآم المثانة وضيق التنفس والسعال الحاد وقد سقط من أسنانه الكثير ولم يبقى إلا الأسنان الأمامية تستر عليه مظهره وكان أخر ناب قذفه مع مجموعة من الدماء قبل نصف عام حينما ضربه أحد الجنود الفتيان على وجهه دون أن يكون أدنى سبب سوى انه تأخر عن النهوض حينما فتح عليه الجندي البوابة الصغيرة بصورة مفاجئة ، يومها قال له اخرج رأسك من البوابة الصغيرة وكان بالإمكان أن يخرج منها السجين رأسه من تلك البوابة، حينما فعل إبراهيم ذلك لكمه الجندي في وجهه لكمة عظيمة ظل إبراهيم يعاني منها اشهرا عديدة وقد شق جفن عينه اليسرى ، لم يكن يعرف إبراهيم ما يجري خارج زنزانته ، لم يكن يعلم أن الرئيس أمر بغزو دولة الكويت وسقطت بطرفة عين وكان التلفزيون الرسمي يتحدث عن ضم الأصل للفرع فالتسقط الرجعية وسميت المحافظة التاسعة عشر وكان التفلزيون قد اخرج رجل قبلي على انه زعيم التيار الإصلاحي في دولة الكويت ويقال انه من حماية الرئيس ، هذا الرجل كان يطلب النجدة من حكومة الرئيس لإحداث التغيرات السياسية في بلده ، كانت الفكرة ساذجة جدا ولم تنطلي على احد ، ولم يكن يعلم إبراهيم إن الثوار أوشكوا على إخراجهم قبل عام حينما اقترب الأمريكان كثيرا على إسقاط حكومة السيد الرئيس إلا إنهم تريثوا بعد ذلك حينما لاح لهم شبح التغير، يومها سمعت الزنزانات كلها أصوات الطائرات والصواريخ كما وسمعوا اشتباكات الجنود مع بعض الثوار الذين حاولوا اقتحام الصرح حيث وصلوا إلى مشارف الصرح الأولى ولكن دون جدوى حيث تم تأمينه بأحد الفيالق الخاصة المنسحبة من الكويت ولم يعترض الأمريكان على ذلك التكتيك العسكري وكان بإمكانهم أن يصنعوا أي شيء إلا إنهم توقفوا تاركين الجيش يسترد كل الأماكن التي سقطت بأيدي الثوار وهي أماكن كثيرة جدا حيث يمكن القول إن جنوب ووسط وشمال البلاد كله سقط في أيدي الثوار والذين جُلب معظمهم إلى الصرح بينما قتل منهم الكثير في مواجهات الجيش وهرب البعض إلى حدود البلاد باتجاه المملكة العربية السعودية وتحديدا إلى رفحه حيث بني هناك معسكر كبير سمي على اسم المنطقة ، لم يكن يعلم إبراهيم بكل تلك الحروب والتطورات الكبيرة ، لقد كانت هنالك معلومات مشوشة نقلها لإبراهيم أحد السجناء في زمن ما أخبره فيها عن حرب شرسة يقودها الرئيس ضد إيران والتي انتهى بها حكم الشاه وصار الحكم بيد رجال الدين وان مئات الألوف تقتل على طول الحدود مع إيران ولكن إبراهيم لم يثق يومها بكلمات ذلك السجين إلا بعد سنتين حينما التقى بسجين شاب يزعم انه نجى من غابات الأسود الهندية التابعة لنجل الرئيس وهو الذي أكد له تلك التطورات ، وربما التقى بسجين أخر من هذا القبيل ،ومنذ ذلك والوقت إي منذ خروج ذلك السجين لم يدري إبراهيم ماذا يجري خارج نطاق زنزانته ، كان يعلم فقط متى تأتي وجبات الغذاء ومتى يذهب إلى المرحاض ، ويعلم كذلك متى يأتي الجنود أو السجناء الحلاقين للسجناء أصحاب القضايا الخاصة جدا ، كانوا يأتون كل ثلاث اشهر حيث يزيلون كل ما على الرأس والذقن من شعر وكانوا يتأخرون أحيانا ، نعم أحيانا يمر عام ولا يأتون ، كما يعرف إبراهيم إنه مرت أعوام على استثنائه من الأشغال ، فلم يعد يخرج يحفر الشقوق ، وكان يتكلم مع نفسه كثيرا إذ لا يوجد أحدا يتكلم معه وزاد حديثه مع التمثال ، الصديق العزيز له ، وكان يقص عليه القصص التي سمعها من السجناء ويصغي هو كذلك للتمثال الذي كان إبراهيم يتكلم على لسانه من قصص مختلفة وكان ذلك يحدث دوما قبل النوم خاصة في ليالي الشتاء الباردة.
ــ زاين هل تسمعني ، مالك لا ترد علي هل أنت نائم ، أسمع أيها الجندي أنت تتمتع بخبرة واسعة كونك عشت قبلي وكنت من الحماية الشخصية للملك اوتوـ حيكال وكنت ترى كيف يؤتى بالمعارضين للملك ، هل كانت هنالك معارضة ؟.
ــ لا ولكن ثمة نفر ضال كان يحاول أن يسلب الملك .
ــ نفر ضال ... نفر ضال ... لماذا تسمونهم نفر ضال هؤلاء أيضا يسموننا نفر ضال ، لماذا تسمون إرادة الشعوب والثوار دوما بالنفر الضال والخارجين عن القانون، لا بد من ثورة للمستضعفين تجتاح العالم لولا هذا الهدف لكان كل شيء عبارة عن محض خرافة .
صمت قليلا ثم عاد بلهجة أكثر هدوءا
ــ وتصديتم لهم بقوة ، لا تكذب علي أنا اعلم أن الجنود يكذبون دائما لأنهم يعتقدون أن أهم شيء هو أن يحقق الجندي الانتصار .
ــ لا ، كان الملك يحاول أن يتركهم .
ــ صحيح ، ألم يكن لدى الملك سجن تحت الأرض؟ .
ــ نعم ، كان هناك سجن ولكن صغير جدا ليس بحجم هذا السجن .
ــ هل تتصور إنني سأخرج من هنا؟.
ــ لا اعتقد وحتى إذا خرجت فإلى أين ستذهب؟ .
ــ إلى خديجة وابنتي سحر، هل نسيت أنا دوما أحدثك عنهم ، بدئت تنسى أيها الجندي الكسول.
ــ لا لم أنسى أتذكر كلماتك.
ــ لم تحدثني عن أمك ، كنت دوما تحدثني عن حبيبتك ميروبا التي غرقت في نهر هيمونوثو ولم تستطع إخراجها بالمناسبة ما معنى ميروبا؟.
ــ المياه الكثيرة ، أنا لم أكن اعلم بها كنت في المعركة وحينما عدت قالوا لي إنها غرقت في نهر هيمونوثو، أما عن أمي فسأحدثك لأنك لم تسألني.
ــ نعم سأسألك إنني اعتقد إن الأم شيء مقدس ، هي تأتي بعد الله والأنبياء من حيث التقديس.
ــ الله سمعت عنه ولكن الأنبياء لم اسمع عنهم .
ــ حقا ، هم الرجال الذين يرسلهم الرب لإنقاذنا من الخطيئة العالقة قي أذهاننا.
ــ كان ثمة رجال صالحون يأتون الملك يقولون له اعبد الرب الواحد الذي هو فوق أن يرى وكانوا يسمونه مارتو، وكان الملك يضحك لأنه كان يعبد الإله مامناتو وذات مرة غضب اله الشر عليه وأراد أن ينتزع ملكه فاستعان بالرجال الصالحين فقالوا له لماذا لا تدعو الهتك قال دعوتها ولم تشارك في الحرب فقالوا له إذا سنقول للرب أن يهزم اله الشر ، كنت معه حينما سألهم وأجابوه حينها هبت عاصفة اقتلعت المعبد الكبير للإله سورودو ومامناتو والذي كان تحت التلال الخضراء.
ثم سرعان ما يعلو شخيره وسرعان ما يسقط التمثال من على صدره ، وحتى حينما جاءوا الحرس يركلون الأبواب بأقدامهم بقوة كان إبراهيم يغط في نوم عميق ، حينما فتحوا البوابة الصغيرة كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بسبع دقائق ، صاح احد الجنود.
ــ إنهض إنهض أيها القرد النائم.
فتح إبراهيم عينيه إلى النصف ، كان يتصور أنه ما زال في ذلك الحلم الهادئ الجميل ، كان يحلم انه يعبر بحر عظيم وأنه أوشك أن يصل إلى الشاطئ حيث كانت هناك جزيرة موحشة تهب منها رائحة الموز والذي سرعان ما تطرده رائحة نتنة جدا كأنها رائحة موتى الحروب حينما يتركون أياما وشهور، كانت تصدر من شيء ما وكلما أراد إبراهيم أن يعرفه لم يستطع وقال في نفسه وهو يحلم انه إذا وصلت الشاطئ سأبحث عن مصدر هذه العفونة ، إلا أن صراخ الحرس الكثيف جعله يقفز من مكانه .
ــ نعم سيدي ، نعم سيدي .
ــ إنهض ما هذا الشخير ؟ ما اسمك؟ .
ــ إبراهيم رشاد.
ــ جيد وجدنا واحد ، إنهض ، افتح الباب ، هيا اخرج .
لف إبراهيم الدوار اتكأ على الجدار أزاح البطانية بقدمه كان يريد أن يجعلها كلها فوق التمثال حتى إذا داسوه بأقدامهم لم يشعروا به ، فكر أن يدس التمثال في بذلته لكن الدوار لم يدعه ، اسند ظهره إلى الجدار ، حرك البطانية نحو التمثال ببطء لم يشعروا به . قال له أحد الجنود و كانوا يرتدون بدلات ضفدعية وقماصل شتوية أغلقوها بإتقان ولم يكن بأيديهم أي سلاح إلا بعض الأعمدة الحديدية
ــ هيا أخرج أيها العجوز .
ــ نعم سيدي.
قدم إبراهيم يديه ليقيدوه، قال له الجندي الذي ظل واقفا في الخارج ولم يدخل.
ــ لا حاجة لنا في ذلك .
نظر إلى الجنود وهم يسحقون على البطانية والتي ركلها احد الجنود بقدمه فقذفها في الزاوية وهو يخرج ، قال إبراهيم في نفسه ( الحمد لله لم يشعروا به ، زاين أعتني بنفسك حتى أعود ).
يتبع إنشاء الله
-
أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح23-الى الحلقه-24- ويتبع ...
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح23
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 24 ـ
كان السيد عدي خليفة يجلس خلف مكتبه يحرك كرسيه يمينا وشمالا بهدوء وهو ينظر إلى إبراهيم والذي تحولت لحيته الكثيفة جدا وشعره إلى بياض تام فلا توجد شعرة سوداء واحدة ، ولأنه كان طويلا ونحيفا نوعا ما فقد انحنى ظهره إلى الأمام قليلا ، راح السيد خليفة يتأمل فيه كثيرا، لحظات ولحظات مرة كان فيها خليفة يتأمل في إبراهيم وهو يدخن الكنت، كان ينظر في بدلته التي تمزقت كثيرا قرب الركبتين ، والى قدميه العاريتين من أي نعل ، إبراهيم كان ينظر إليه بين لحظة وأخرى وكان يحرص على أن لا يجعل نظراته تحمل الحقد والكراهية خشية أن يقرأها خليفة فتثور ثائرته ، هو لم يره منذ عدة أعوام ، منذ أن قال لهم أعطوه بطانية أخرى إن هذا الشتاء قاسي جدا ، سـأله وهو ينظر إلى بذلته.
ــ كم بذلة أعطوك منذ مجيئك وحتى الآن؟ .
قال إبراهيم وهو مرتبك.
ــ لا اعلم سيدي.
ــ لماذا لم تمت حتى هذا الوقت ؟.
أجابه إبراهيم وهو مطرق.
ــ سيدي اعتقد أن أجلي لم يحن بعد وهذا أمر بيد الله.
ــ بيد الله أم بيدي؟.
صمت إبراهيم قليلا قال بصوت مرتبك.
ــ العقل يقول بيد الله.
ــ جيد لو قلت غير ذلك لأخطئت ، كم مرة خرجت في الأهداف المتحركة ؟ .
ــ خمس وتم استثنائي.
ــ وهل كنت ترى كيف يموت أصحابك وأصدقائك ؟.
ــ نعم سيدي.
ــ هل أتفق أن أصابك الحرس ؟.
ــ نعم سيدي، في قدمي اليسرى.
ــ أرفع رأسك حين تكلمني لا تخف، ما هو اسمك؟.
ــ إبراهيم رشاد ذا النــ،
تلكأ ثم سرعان ما استدرك.
ــ إبراهيم رشاد محسن ذا النون.
ــ إبراهيم رشاد ذا النون أو محسن ذا النون؟.
ــ سيدي محسن ذا النون
ــ هؤلاء الأغبياء كتبوا على غلاف الإضبارة الشخصية رشاد ذا النون.
سحب قلما ذهبي اللون من حاملة الأقلام والتي كانت تحمل ثلاثة أقلام مذهبة وهي توسطت المكتب وليكتب بين اسمي رشاد وذا النون بخط غير متقن (محسن) ، قال.
ــ أين تسكن ؟.
ــ بغداد سيدي.
ــ بغداد كبيرة ، أين بالتحديد؟.
ــ الكاظمية سيدي.
ــ متى اعتقلت ؟.
ــ عام 1970.
ــ لقد جئتنا مبكرا ، من عام 1970 ولم تمت بينما مات أمس سجين خرج من الانفرادي قبل ثلاثة اشهر.
صمت خليفة قليلا وهو يمص سيجارته بهدوء، قال.
ــ إذا خيرتك بين الخروج وبين البقاء هنا ماذا تختار ؟.
ــ سيدي الأمر متروك إليكم.
ــ لا ... لا... أريد رأيك .
ــ طبعا الخروج .
ــ لماذا حتى تعاود نشاطك في محاربة السيد الرئيس حفظه الله ورعاه.
ــ لا يا سيدي ولكن حتى أرى زوجتي وابنتي.
ــ زوجتك ما اسمها ؟.
ــ خديجة صاحب.
ــ ربما أصبحت الآن عاهرة وكذلك ابنتك ما تقول أيحتمل هذا أم لا ؟.
ــ الله اعلم بحقائق الأمور سيدي.
ــ أجلس.
ــ أنا سيدي.
ــ نعم ومن غيرك ، أجلس حتى يأتي الآخران.
ــ نعم سيدي.
ـ 25 ـ
فتح المراسل الوسيم جدا والصغير جدا الباب التي تم طلائها حديثا بلون فضي ، قال بعد أن أدى التحية بشكل غير مبالي بها ، قال بتدلل واضح.
ــ سيدي لقد وصل الملازم كنعان ومعه السجينان.
ــ ليدخلوا.
دخل كنعان وأدى التحية العسكرية بإتقان ملفت للانتباه ، قال.
ــ هذان اللذان أردتهما سيدي.
ما زال خليفة يجلس خلف المكتب يرقص كرسيه بهدوء ، وما زال يمص سيجارته الكنت بروية ، أخذ ينظر إليهما واضعا يده اليمنى قرب فمه وهو يتأمل فيهما ، قال.
ــ ما اسمك أنت؟.
ــ أزاد جمال علي.
ــ من أين؟.
ــ سليمانية.
ــ متى كان اعتقالك؟.
ــ 1973 سيدي
ــ وأنت ؟ .
كان السيد خليفة يحرك يده باستعلاء وهو يؤشر عليهما.
ــ سمير سرحان بيدر سيدي.
ما زال إبراهيم جالسا مطرق الرأس ينظر إلى السجادة التي مدة في الغرفة وكانت حمراء موشحة بالسواد ، هي كذلك من الأشياء التي تم جلبها من الكويت قبل عام تقريبا وتحديدا من بيت في العبدلي ، كان يفكر أن يرفع رأسه حينما أدخل السجينان إلا إنه ابعد تلك الفكرة ، كان قد ذهب شوطا في أفكاره السوداوية كان يقول في نفسه ( لقد وصلت إلى النهاية يا إبراهيم ، جيد إبراهيم لقد ختمت أعمالك ولم تهن ، أصبر قليلا ما هي إلا لحظات حتى يأمر هذا الطاغوت جنوده بإعدامنا فيأخذوننا إلى بيت التحقيق وهناك سوف تكون نهاية هذا الفصل المضحك جدا) ، إلا أنه حينما سمع ذلك الاسم الأخير هز رأسه ورفعه قليلا ثم سرعان ما أرجعه وتمنى أن يعيد الشاب الاسم ، تذكر العجوز القديم جدا والذي التقى به قبل أعوام طويلة قال في نفسه ( كان اسمه سرحان بيدر وله ولد اسمه سمير وكان يبكي كلما سمع أسم مقدم سمير ) تنهد مرات عديدة دون أن يشعر به أحد ، ثم أردف قائلا ( ولكن لعجوز كان يقول لي أن سمير أطلقوا سراح وانه الآن ربما تزوج يا الهي ما الذي يحدث أيعقل أن يكون هو سمير أبن ذلك العجوز).
ــ أين تسكن ؟.
ــ الناصرية.
ــ في أي عام اعتقلت ؟.
ــ عام 1971.
ــ أخرجوا دعوني وحدي معهم ولا يدخل علينا احد .
ــ أمرك سيدي .
خرج الجميع وأغلق كنعان الباب بلطف وتنهد السيد خليفة عدة مرات، قال بعد صمت قليل.
ــ أنتم تعرفون إن السيد الرئيس حفظه الله ورعاه كم يحب شعبه بل حتى المتآمرين عليه أمثالكم يعطف عليهم انه يحمل قلب كبير وصبور لذلك وحتى يثبت للعالم هذه السجية النادرة جدا أعطى عفوا عاما لكم وسوف يطلق سراحكم في هذا الأسبوع ، إياكم أن ترجعوا إلى عنترياتكم الكاذبة ، ربما لديكم بعض جوانب الاعتراض على سياستنا في السجن وتعرضتم إلى شيء من الضغوط النفسية والجسدية ، هذا كله من اجل مصلحتكم ، نحن مأمورون بذلك ، كل ما رأيتموه هنا لا تحدثوا به أحد حتى أقاربكم لأننا سنرسل لكم أناس يسألونكم عن الأحوال في السجن قولوا لهم كنا في خير و إلا تعودون إلى هنا ، حينها والله أجعلكم تتمنون هذه اللحظات لأنكم حتى هذه اللحظة لم تروا قسوتي وغضبي وخاصة على الخونة أمثالكم ، مفهوم؟.
ــ نعم سيدي ... نعم سيدي ... نعم سيدي.
ــ اتركوا عدائكم للسيد الرئيس لأن فكرة المعارضة فكرة ساذجة جدا ، هؤلاء الذين يسكنون إيران آو سوريا أو الذين هم في دول أخرى ومن هناك يحاربون السيد الرئيس هؤلاء تجار كبار ، تجار الثورة الجديدة ، انتم دوما مغضوب عليكم ، لنتفق أن السيد الرئيس لا سامح الله أزيل حكمه بالثورة أو الانقلاب العسكري من يحكمكم ؟ ، تتصورون هؤلاء الأغبياء الذين هم في قبضتي الآن هم من يحكم بغداد ، هؤلاء في كل زمان ومكان هم محكوم عليه سلفا إنهم أغبياء ، أغبياء جدا ، إنكم مجرد أكذوبة ، أو دمية تحرك من بعد وهناك من يقنعها إنها تحرك نفسها بنفسها ليشعرها بحرية ألذات والاختيار السليم ، وهي ليس كذلك أنا مقتنع أنكم تحملون ذات الشعور لكنكم تكابرون ، اعتقد أنكم موجودون في كل زمان ومكان وأنا كذلك موجود في كل زمان ومكان ، حينما تكون أيها العجوز في مكاني هذا لا بد أن يكون تحت رحمتك أمثال عدي خليفة ، أليس ذلك هو الصحيح ، تكلم أيها العجوز .. أنطق.
قال إبراهيم بلغة الخائف جدا.
ــ نعم سيدي
لم يتكلم إبراهيم مباشرة ، كان يحاول أن يفكر بأي شيء يجيبه فهو يدرك أن كل كلمة هنا لها حجمها وينبغي أن تكون في المكان المناسب لأنه لا مجال لأن يخطأ السجين أمام السيد خليفة ، صاح خليفة بصوت مخيف.
ــ اجبني لماذا أنت صامت كالصنم ؟.
قال إبراهيم بصوت مبحوح.
ــ نعم سيدي إذا جرت الأمور وفق ما طرحت لا بد أن تكون تحت رحمتي.
ــ إذا من هو الصحيح ومن هو الخطاء ، من هنا يجب أن نفهم الأمور ، أنا اعتقد أن السيد الرئيس على حق ، أتدري لماذا ، لأنه من عمومتي وقد أعطاني كل شيء ، لذلك أحس أن العراق ملك أبائي بل أحس أن أرواحكم بيدي ، كلمة واحدة ويموت كل من في الزنزانات الآن ، أليس هذا صحيح ؟.
ــ نعم سيدي .
ــ انتم تحاربون السيد الرئيس لكي تتمتعوا بهذا ، تريدون أن تحصلوا على هذه الميزات ، إذا هي حرب لذائذ ومميزات ، اجبني بصراحة أيها العجوز لا تخشى إذا كنت حقا مبدئي تكلم معي ولك الأمان وحياة السيد الرئيس لك الأمان لأنني أنا اليوم جدا مرتاح حتى أعطيت أمر بموجبه أوقفت التحقيق لأسبوع كامل ، تصور أسبوعا كامل لا يموت احد في الصرح فلا تضجرني بعدم جوابك فأرجع عن قراري والله ارجع عن قراري إذا لم تجبني بصراحة ، هل هذه الحرب هي حرب لذائد ومميزات أم ماذا هيا أجبني أيها العجوز وبسرعة؟.
ــ نعم سيدي سأجيبك.
تحرك إبراهيم رشاد وحك رأسه وفرك عينيه ونظر إلى عدي خليفة والذي احمرت عيناه ، فكر أن يقول له أي جواب لكنه تذكر ، تذكر لأسبوع الكامل من توقف الموت وهذا يعني الشيء الكثير وأن خليفة قادر على أن يعكس قراره بل وعلى مرأى منهم ، قال بخوف شديد.
ــ أنا أتفق معك في شيء وأختلف معك سيدي في شيء أخر ،إذا سمحت طبعا.
ــ تفضل أنا أريدك أن تتكلم أنت الآن لست سجين أنت الآن مواطن حر.
قال إبراهيم .
ــ أتفق معك كوننا محكوم علينا سلفا وأننا دمية تحرك من بعد وهناك من يشعرها إنها تمتلك ألذات ، وأختلف معك في كوننا نطمح بالمميزات التي يتمتع بها شخصكم ، ذلك لأننا نختلف ببعض الثوابت ، أنت تشعر أن العراق ملكك وأنا اشعر أنني ملك العراق ومن هنا بدأ الاختلاف ثم اتسع كثيرا ليكون بعد ذلك مسافات شاسعة ويحمل ....
رفع السيد خليفة يده وكأنه يقول لإبراهيم اسكت ، ثم أردف .
ــ تكلمت بصدق ، منذ أن أتيت لم أسمع سجين يكلمني بكلمات صادقة ، الآن يمكن أن أقول أنني سمعت كلمات صادقة من سجين ، وهذا يكفي.
صمت قليلا وهو يخرج سيجارة أخرى ويضعها في فمه ويشعلها ،كان يدخن بشراهة، قال.
ــ كم قلت حتى تخرجون ؟.
قال إبراهيم.
ــ أسبوع سيدي.
ــ لا أسبوع مدة طويلة اليوم نطلق سراحك أيها العجوز وغدا أزاد وبعد غد نطلق ، ماذا قلت ، أنت ما هو اسمك ؟.
يتبع إنشاء الله..........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ــ سمير سيدي .
ــ نعم نطلق سمير.
صاح بصوت عال.
ــ كنعان ، وليد ، ليأتي أحدكم.
دخل المراسل وليد ومن ورائه كنعان .
ــ كنعان أريد أن تهيئ هؤلاء إلى الخروج رتبوا لهم ملابس جيدة ، وليسبحوا في حماماتنا ولا ترجعوهم إلى الزنزانة ، هذا العجوز حاولوا أن ترحلوه اليوم مع شاحنة الخضر.
ــ سيدي السائق على وشك أن يرجع .
ــ لا ، لا ، قل له لينتظر ساعة حتى تهيئوا إبراهيم .
نهض السيد خليفة ، أخرج ثلاثة كتب رسمية من المجر السفلي للمكتب بينما نهض إبراهيم هو الأخر قال لإبراهيم.
ــ خذ كتابك أريد أن تقرأه لي .
صمت قليلا ثم أردف.
ــ من فيكم سمير؟.
ــ نعم سيدي أنا.
ــ خذ كتباك ، وأنت خذ ، هيا يا إبراهيم اقرأ.
ــ نعم سيدي.
قرب إبراهيم الكتاب من عينيه ، قربه جدا ، لقد مر زمن طويل لم يقرأ فيه إبراهيم ورقة ، على مستوى تلك السنين الطويلة كان إبراهيم يقرأ ما كان مكتوب على جدران الزنازين فقط ، اخذ يقرأ.
ــ وزارة الداخلية، مديرية السجون العامة ، إلى كافة السيطرات ومفارز الطريق ، العدد 545 التأريخ 6/2/1992 ، يرجى عدم التعرض إلى المواطن إبراهيم رشاد محسن ذا النون كونه كان محجوزا لدينا مع التقدير.
التوقيع مدير السجن الأول اللواء عدي خليفة . وكان التوقيع باللون الأخضر وتحت الاسم الذي كتب على اليمين أسفل الورقة وكان هناك ختم احمر نقش فيه اسم الوزارة واسم المديرية بشكل مصغر.
صمت إبراهيم بينما راح السيد خليفة يتربت على كتفه الأيمن ، قال مبتسما وهو يرمي دخان سيجارته عليه ، قال .
ــ هل تريد سيجارة يا إبراهيم ، أنا أحب أن أشرب ألكنت يقولون أنه نسائي هل صحيح ذلك؟.
ــ لا ادري سيدي .
ــ هل أعطيك واحدة ؟، من فيكم يدخن؟.
ــ شكرا سيدي .
ــ هل هذا الكتاب يكفي ؟.
ــ نعم سيدي هذا يكفي.
ــ إذا توكلوا على الله ، أذهبوا إلى أهلكم لقد غبتم عنهم بعض الوقت ، أرجو أن لا نراكم ثانية.
ـ 26 ـ
الشاحنة التي أقلت العجوز كانت كبيرة ومخصصة لنقل الخضار إلى الصرح ، كان سائقها شاب يرتدي بذلة مدنية فستقية اللون ، ومع أن إبراهيم استحم في حمامات الضباط وقد استغرب كثيرا حينما رأى تلك الحمامات وقال في نفسه ( هل أنا في حلم ، كيف يحدث هذا وفي زمن عدي خليفة، إلى أين يردون بي هل يمكن أن يكون هذا ترتيب من يعدموه وفق تعليمات الرئيس الجديدة ، ربما ، أنا لم أعدم قبل هذا الوقت حتى أستطيع أن أحكم ) ثم يختم حديثه ذاك بابتسامة ، غسل رأسه بالصابون عشرة مرات كان لا يصدق أن هنالك صابون كثير وفي متناول يده . حلقوا رأسه بعناية فائقة ورتبوا لحيته بعناية فائقة أيضا ، إذ إن السيد خليفة قال لهم ساعة إدخاله إلى الحمام أريدكم أن ترجعوه عشرين عاما إلى الوراء ، حينها تبسم إبراهيم وقال في نفسه ( لا يستطيعون ذلك بل لا يستطيعون أن يمحوا آلام يوم واحد ) ولم يكن إبراهيم يتصور حتى لحظة خروجه من الحمام وارتدائه بذلة جلبت له من احد الضباط أنهم سيخرجونه بل كانت تصوراته أن هذه لا تعدوا أن تكون مسرحية لأجل أن يتمتعوا بها ويضحكوا ويبتعدوا عن قساوة هذا البرد ووحشة الصحراء ، هكذا كان يتصور ولم يقنع نفسه انه على وشك الخروج بل كان يقول في ذاته ( إن هذه مسرحية وعلي أن أستوعب ذلك) ، وحتى حينما وضعوا الحذاء الأسود الجديد في قدميه لم يستوعب فكرة الخروج وكان يبتسم في نفسه بسخرية على تلك الفكرة وحتى حينما يتحسس الكتاب الذي وضعوه في سترة البذلة السوداء كان يقول في نفسه ( سرعان ما يقول لي خليفة اعطني كتابي يا جبان أتريد أن تخرج حتى تقاتل السيد الرئيس ) ، الحذاء ذاك حصلوا عليه بعد اختبارات عديدة على أحذية الضباط والجنود الخاصة بهم وقد استغرق ذلك وقتا ولم يستطع إبراهيم أن يمشي به أول وهلة وكأنه مصاب بجرح كبير في قدمه، حينها قال له خليفة.
ــ ماذا بك أيها العجوز هل نسيت أن تمشي في حذاء.
قال إبراهيم وهو يحاول أن يكون أكثر شجاعة في المسير .
ــ سيدي منذ عشرون عام لم أضع نعلا ولا حذاء في قدمي وهناك جروح كبيرة قي قدمي.
إلا إنه مشى أخيرا ، راح يصافح الضباط الكبار الذين وقفوا قرب الشاحنة على هيئة الصف ، وكأنه صديق عزيز يودعونه وفي الحقيقة كانوا يتسلون بذلك وليس حبا في إبراهيم أو ربما اعتبرها البعض إنها لحظة تاريخية إذ إن هذا الصرح ومنذ بنائه لم يتم إطلاق سراح أحد منه،قال احد الضباط في نفسه وهو يصافحه ( لقد خرجت بمعجزة من إمبراطورية الرعب) ، كان يتذكرهم إبراهيم جيدا ، لا يوجد أحد منهم من القدماء جدا ، إي من الذين عاصروا يوسف شمران ، قال في نفسه وهو يصافحهم ويبتسم مجاملة ( هذا وضعني نفاضة بشرية ثلاثة مرات دون أدنى سبب وهذه أخرج رأسي من البوابة الصغيرة وعلق برأسي قنينة غاز من الظهر وحتى الصباح وكدت أموت، وهذا قطع ماء الحنفية أسبوعا كاملا وهذا....).
حينما تحركت الشاحنة وخرجت من باب الصرح بدأت قناعات إبراهيم تتحرك بذلك الاتجاه الذي كان يكذبه قبل لحظات ، نظر إلى وجهه في المرآة الجانبية ، تفاجأ من ذلك العجوز ، حرك رأسه رأى أن هذا الوجه هو وجهه ، أبتسم ، كان وجهه مصفرا وعليه بقع سوداء صغيرة من لسعات سجائر الجنود ولحيته بيضاء مرتبة نوعا ما قال في نفسه ( هذه البقع من سجائر الجنود ) ، كانت هناك مرآة في الحمام ويمكن لإبراهيم أن ينظر إلى وجهه بشكل أحسن ولكن وقبل دخول إبراهيم بلحظات رفعها الحرس تحسبا لكل شيء ، نظر إلى السائق ، كان شابا ذا وجه أسمر و شاحبا في ذات الوقت ، شارباه كبيران نزلا حتى أسفل ذقنه الذي خلا من الشعر وكأنه حالق قبل لحظات ، اخرج قنينة خمر محلي ما إن خرجت الشاحنة من باب الصرح ، نظر إلى إبراهيم ، قال له بهدوء بعد أن مص القنينة الأرجوانية ثلاث مرات .
ــ هل أنت سجين أيها العجوز أم عندك مواجه لأحد السجناء ؟.
كان إبراهيم ينظر من خلال النافذة إلى الصحراء الممتدة في الأعماق ، ينظر إلى التلال البعيدة جدا ، إلى أشجار السمر و السلم البرية العارية تماما وهي شجيرة يتراوح طولها 2-6امتار وتبرز أزهارها ونويراتها الكرزية الشكل في فصل الربيع نحو شهر ابريل غير ان السمر يزهر في أوائل الصيف ولنوعين أشواك حادة صلبة ولا تأكل الإبل فروع السمر والسلم وذلك بسب الأشواك ولكن شفتي البعير الحساستين القابضتين تعملان بدقة للتجنب صلابة هذه الأشواك الحادة فتأخذان الأوراق الطرية من بينها بمهارة عجيبة ، هذه في الصيف أما في الشتاء فأنها تبدوا وكأنها لا تحمل أي شيء وهناك أيضا على المرأى البعيد أشجار الغاف العملاقة التي يصل طولها أحيانا إلى عشرة أمتار وهي ذات أزهار لونها أصفر متجمعة في سنابل طولها حوالي 5سم والثمرة على هيئة قرن اسطواني بلون أصفر مخضر وهي صغيرة تميل إلى الحمره عند النضج ، وأشجار القفص الكبير وهذه الشجرة كبيرة عريضة تستلفت أنظار السجناء أيام ما كانوا يمرون على ضفاف الأودية الهابطة من المنحدرات الشمالية للصرح ، والأوراق جلدية خضراء داكنة لامعة بيضاوية ذات حافة كاملة وأزهارها صفراء في نورة عنقودية والثمار مجنحة تساعد على انتشار البذور ، لقد ظل بعضها يقاوم البرد ، كان إبراهيم ينظر إلى كل ما يمكن أن يلمحه في الصحراء والى السماء التي تلبدت بالغيوم وهناك عبر الأفق البعيد ثمة برق يتراقص ، كانت الساعة قد تجاوزة الواحدة ظهرا، وكانت هناك ريحا باردة جدا هبت منذ أن كان إبراهيم في الحمام يغتسل بماء حار ، ذاك الماء الذي لم يره إبراهيم منذ أن دخل الصرح ، أو بالأخرى منذ أن دخل المديرية العامة في بغداد وقال له الضابط.
ــ هذه بداية رحلتك الطويلة معنا يا إبراهيم اشحذ ذاكرتك إمامك ذكريات مأساوية هائلة ينبغي أن تقصها على أبنائك يوم تخرج.
ضحك الضابط يومها وأردف قائلا.
ــ هذا إذا خرجت ، تحتاج إلى معجزة صغيرة حتى تخرج وفي اعتقادي أن عصر المعجزات قد انتهى ، أليس كذلك يا إبراهيم.
كان إبراهيم يتذكر تلك الكلمات دوما ، تذكرها الآن ، قال في نفسه ( ماعدت اتذكر الأشياء القديمة جدا ، لقد تبخرت من ذاكرتي تماما ، كان في ودي أن تبقى ).
سمعه إبراهيم ، قال له.
ــ وهل هناك سجناء يواجهون أهلهم هنا؟.
ــ لا ولكن في سجن أبو غريب موجود هذا الشيء ، لقد واجهت أحد أقربائي في الثقيلة ، كان سارق وقد سرق من جيرانه بعض الحاجيات.
أعاد إبراهيم النظر إلى الأفاق ، كان يبحث عن تلك الشقوق اللعينة التي سطرت أصعب اللحظات في الصيف والشتاء كان يريد أن يلمح وجبات السجناء وهي تعمل ، ما يزال الصرح يمكن أن يشاهده إبراهيم في المرآة الجانبية للعجلة وهو يبتعد شيئا فشيئا ، لحظات ليلمح وجبات السجناء على المرأى البعيد وهم يحفرون ، البعض يحمل معولا والبعض الأخر يحمل مسحات ، لم يشاهد ملامح وجوههم المتعبة جدا ، كانوا بعيدين جدا إلا انه لمح بدلاتهم الزرق تتماوج في الريح الباردة ، قال في نفسه ( تماما مثلما كنا نصنع قديما ).
ــ من أين أنت ؟.
أجابه إبراهيم وهو ينظر للسجناء وكان يهز رأسه تأسيا عليهم.
ــ من بغداد.
قالها دون أن يلتفت إليه ، كان يحاول أن يشخص السلاسل في أقدام السجناء عن بعد حيث ما يزال بإمكانه أن يرى بعضهم فوق الشقوق ،أما الذين يعملون داخل الشقوق فإنه يتعذر عليه رؤيتهم ، مد يده اليمنى بهدوء إلى قدمه حيث مكان السلاسل القديمة ، لم يصدق انه حر ، كانت العجلة دافئة جدا ، منذ أن تحركت شغل السائق التدفئة كما وفتح المسجل كانت أغنية ( تايبين ) ، كان يرى بدلات السجناء وهي تتحرك وكذلك الحرس الذي انتشر بعيدا عنهم تحسبا لكل طارىء ، أمامه عشرون ثانية فقط حتى تستدير العجلة في طريق التلال فيستحيل أن يرى السجناء بعد ذلك ، حاول أن يبتعد عن مناخ الأغنية ، ( غلطة مرت وأنتهت ، وشمعة العشرة انتهت ، والذنب هو ذنبكم ) قال السائق .
ــ بغداد وكيف تصل إلى بغداد أيها المسكين هل أعطوك كتاب أو أي شيء يثبت انك عراقي ، وأنك كنت سجين هذا إذا كنت سجين طبعا ؟.
ــ نعم أنا سجين وأعطوني كتاب.
أخرج إبراهيم الكتاب إلى السائق ولكنه لم يبالي به قال ، بينما راح إبراهيم يطالعه في نفسه.
ــ أحتفظ به أكثر من نفسك لأنك من غير هذا لا يمكن أن تسير أربع خطوات في أي مدينة.
قال وهو يضع قنينة الخمر في فمه.
ــ كم سنة قضيت هنا ؟.
ــ عشرون سنة تقريبا.
أندهش السائق إذ إنه لم يتفق أن رأى رجلا قد حبس عشرون عام، قال .
ــ ماذا هل أنت مجنون أيعقل هذا ؟.
لم يعلق إبراهيم بشيء، كان ينظر إلى الصحراء.
ضحك السائق وهو يرجع قنينة الخمر إلى مكانها خلف كرسيه ، قال بصوت خافت جدا.
ــ عشرون عام يا للجنون ، عشرون عام شيء لا يصدق.
يتبع إنشاء الله.....
-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اخي الكريم لما لا تضع الاجزاء في موضوع واحد ؟؟ تحت هذا الرابط الذي تم دمج الأجزاء السابقة به http://www.iraqcenter.net/vb/showthread.php?t=28889
جزيت خيرا
-
اضافة حلقات متبقيه
الاخت العزيزه منازار مع التحيه
ارجو منك دمج الحلقات المتبقيه الى الحلقه 24 لاني والله مشغول في نشر الروايه في مواقع اخرى
علما قد انزلت الحلقات من 18 الى ال 24 في قسم الحوار العام تستطيعين جلبها ودمجها وانا اخولك بهذا
مع الشكر والاحترام
اخوكم بـــــــــــــــــــــــــلادي
-
الاخ بلادي تحية وإحترام
إسمح لي أن أستفسر عن العنوان الذي إخترته لكل هذه القضية
إضحوكة العالم المثالي ؟ !!!!!!!
العالم ؟ أي عالم ؟
من هو المثالي ؟
هل البعثية كانت مثالية؟
قد يكون إستخدموا كل الالقاب ولكن لم اسمعها من قبل بأن البعث كان مثالي بماذا بسواد وجوهم وعارهم وجرائمهم
ليتك إخترت عنوان أكثر وصفا وجذبأ للقراء خصوصأ إنها مطولة جدا تحتاج الى مقدمة تعكس صورة مختصرة وتكون دعوة لجذب القارئ
إتمنى لك الموفقية وأوعدك بقراءتها بالوقت المناسب
أرجوا إرسالها إلى الدكتور صاحب الحكيم موقعه موجود على الكيكول، وشكرا
-
اضحوكة العالم المثالي
الاخ حسان المحترم
اشكرك على انتباهك لموضوع
ان كلمة المثالي ليست بالضروره انت تكون كلمه تنفع صاحبها
بل المثاليه .... انه الانسان مثل الانسان وليست بالضروره ان تعرفها بالرقي
اي بمعنى اخر البعت كالحزب القواد ونيرون الذي احرق روما اشرف من صدام
ولكن هنا تأتي المثاليه ..... شخص اعتبر كل الذين من حوله والموالين الى صدام انهم اوفياء
لذلك اعتبرهم في وقت ما بالمثاليين حالهم حال صدام ............ هذه تعريف المثاليه في نظر صاحب الروايه
مع الشكر ...... سلامي
-
أضحوكة العالم المثالي/ رواية - ح25 و 26
أضحوكة العالم المثالي/ رواية - ح25
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
الفصل الثاني .....
ـ 26 ـ
صاح العجوز بعد تأكد أن ديكه سينتصر.
ــ ألم اقل لكم سأفوز ، انظروا إلى هذا الديك المسكين الذي أوشك على أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ورد عليه ذو السن المكسور، رد عليه بصوت فظ ، كان يرتدي دشداشة رصاصية متسخة جدا وسترة زرقاء هي الأخرى كانت متسخة وممزقة أيضا.
ــ هو مريض ألم اقل لكم انه مريض.
وضحكت المجموعة التي تحيط النزال وكان ديك العجوز قد قطع شوطا في الانتصار ولم يبقى أمامه إلا لحظات لكي يهرب ديك ذو السن المكسور أو يموت وهو في الحالتين يعد خاسرا، صرخ للمرة السابعة.
ــ هو مريض والله لو لم يكن مريض لقطع هذا الديك الجبان إربا إربا.
وارتعشت يداه واهتز رأسه ورقص جسمه غاضبا وكأنه مهرج لا يجيد التهريج ، صاح مرة أخرى.
ــ سأنهي النزال إنه مريض.
قال متعهد نزالات الديكة اللارية ، وكان رجل عجوز منتفخ الأوداج قصير القامة وله بطن واسعة جدا ، عيناه بارزتان ويدخن بشراهة وكان يجري النزال قرب دكانه ويبع فيه مواد منزلية ، قال.
ــ لا، إذا أردت انسحب وعندها أنت محكوم عليك في الرهان لأنك خسرت.
ــ إنا لم أخسر الديك مريض إنه يرتعش، انظر إليه إنه مريض.
ــ لا أنت خسران.
ومد يده التي ترتعش ، لم تكن ترتعش من البرد وإنما من الحبوب المنومة ، صاحوا به ، لم يصغي ، اعترف إنه خاسرا ، كان لا بد عليه أن يصنع ذلك ، لو بقى لحظات كان ديكه في إعداد الموتى ، ضحكوا ، كل الواقفين المتيبسين على ذلك النزال ومنتظرين الذي يليه راحوا يضحكون على ذو السن المكسور والذي مضى مسرعا يحمل الديك المحتضر ليتوارى خلف البائعين.
في هذه الأثناء راح احد الأطفال يقترب بدقة من بائع الخبز ، الخبز الذي يصنع في البيوت وعادة ما تصنعه الأرامل وليس الخبز الذي يصنع في الأفران ، كان يمشي على أطراف أصابعه كي يسرق رغيف خبز أو رغيفين وكان البائع قد وضع الخبز في سلة صنعت من غصون أشجار العنب ، وضعها أول مرة على يمينه إذ أن المكان كان لا يسمح أن يضعها أمامه ، كان مكتظا جدا ، وحتى حينما وضعها على يمينه لم يدم ذلك طويلا إذ ركلها احد الذين جاءوا للنظر مما اضطره أن يرفعها ويضعها على رأسه ، كان بائع الخبز صبيا أيضا ولم يكن شابا ولو كان شابا لما سمح لذلك العجوز والذي كانت تفوح منه رائحة سجائر اللف ، لما سمح له أن يركل السلة بقدمه ، قال له الصبي.
ــ حجي ...حجي هذا مكاني أنا قبلك هنا.
ــ أخرس ، لا تتكلم اذهب ، هيا أذهب لكي تبيع.
ودفعة بقوة ليخرجه من ذلك الزحام ، الذي يخرج لا يستطيع أن يعود ، أبدا لا يستطيع أن يعود ، ربما يستطيع أن ينظر من بعيد إلى الزحمة إلا انه لا يستطيع أن يعود أو يرى الديكة وهي تقطع بعضها ، أحس الصبي إي بائع الخبز بخيبة أمل كبيرة إذ أن مكانه أخذه احدهم وقال في نفسه وهو يبتعد ( لو سكتُ لكان ذلك أفضل ) ، سار إلى الخلف عدة خطوات كان ينظر بها إلى الزحمة وهو يبتعد ، كان يرغب أن يظل أطول مدة ، ألتفت إلى الوراء كان يريد أن يرى الزحمة فرأى ذلك الطفل ذو الثياب الممزقة يقترب على أطراف أصابعه كان قريبا منه ولكن لم يلاحظه أو ربما لاحظه وشعر إنه لم يكن يقترب نحوه ، كان جل تفكيره في ذلك العجوز الذي سلبه مكانه والنظر إلى الصراع الجديد ، قال في نفسه ( الله كم أكره ذلك العجوز الجبان) ، جلس تحت الصورة الكبيرة للسيد الرئيس ، الصورة التي تتوسط السوق وليست الصورة التي تتوسط الميدان القديم ، لم يسرق منه ذلك الطفل أي شيء إذ إن رجلا لمحه وهو يهم بمد يده إلى السلة فصفعه على رقبته من ورائه فولى هاربا ولم يشعر بائع الخبز بما فعله ذلك الرجل ولو شعر لقال له ( أشكرك كثيرا ) ،إلا أن ذلك الرجل قال له بصوت خافت جدا ( انتبه لحاجياتك ) وبالكاد سمعه الصبي ولم يعلق على شيء ، جلس إلى جنب الصبيان الذين جلسوا على المدرج الصغير الأصفر اللون والذي تربعت عليه الصورة الكبيرة للرئيس والتي كان بها يلبس زي جنوبي ويمسك فنجان قهوة متكأ على وسادة بدوية حمراء موشحة بالسواد وضعها في حضنه ، صاح به وبالجالسين احد الشرطة المنتشرين هناك.
ــ أنتم أيها الأطفال لا تتبولوا هنا ولا تتغوطوا ، مفهوم.
ــ لا يا سيدي نريد أن نسترح فقط.
كان منهم بائع الكعك ومنهم بائع الكرزات ومنهم الشحاذ ، لم يكن شحاذا واحدا جالسا بل كانوا أربعة ، كلهم لم يتجاوز أعمارهم التسعة أعوام وكان منهم بائع الصور ، صور بعض الممثلات والممثلين وبعض المغنين وبعض الرياضيين العالميين ، إضافة إلى بائع الخبز.
ــ إذا اعطني رغيف أيها الصغير ، بكم تبيع الرغيف ؟،
ــ خمسون فلس .
ــ لا يوجد فيه نخالة أو معجون بالتراب؟ ، كل المخابز تغش اليوم.
ــ لا هذا نحن نطحنه ونخبزه في البيت.
ــ جيد اعطني واحدة .. بكم قلت ؟.
ــ خمسون فلسا.
إلا أن الشرطي لم يدفع له ولم يطلب منه الصبي النقود لأنه يعرف عواقب ذلك فلو طلب منه الخمسون فلس (على اقل تقدير) سوف لن يجعله يستريح على مدرجات صورة الرئيس الستة لأنه هو من يحرسها بل على العكس قال له مجاملة ، هل تريد أخرى ، وكان في قلبه لا يتمنى ذلك.
ــ شكرا ولكن تذكر أن لو وجدت غائطا سأمنعكم تجلسون تحت صورة السيد الرئيس وسوف أخذكم إلى المركز .
ذهب الشرطي يأكل في الرغيف ، بينما راح الأطفال يتغامزون بينهم وهم يضحكون عليه إذ إنهم كانوا يرون كيف أن بنطلونه قد انفتح قليلا من الخلف وبان سرواله الأبيض ، قال احدهم.
ــ ما أغباه انظر إلى سرواله كيف متسخ.
وقال بائع الخبز.
ــ وما أكبر كرشه.
واخذ يقلد صوته الأخر وكان صوت الشرطي ضخم أبح.
ــ كل المخابز تغش اليوم.
وضحكوا ، ضحكوا بصوت عال ، ولم يسمعهم الشرطي لأنه ذهب إلى بائع الدهين كي يأخذ قطعة ويأكلها مع ما تبقى من الرغيف والذي راح يتناوله وهو يسير ، وهبت ريح شديدة ، شديدة جدا وباردة جدا حملت معها أغصان وأوراق الكالبتوز من الشارع المقابل ، أوراق صفراء وخضراء باهته ، وبقايا كارتون وأوراق ، وأكياس نفايات ، حمراء ،سوداء ، بيضاء، وبقايا صحف قديمة ، وأرتعش الصبي من تلك الريح ، صك أسنانه واهتز كتفيه وفخذية دون أرادته وكأنه عصفور صغير يرتعش ، فكر أن يكون في الجهة الأخرى للصورة حيث يمنع جدار الصورة الريح ، مد رقبته لم يرى أي شيء ، ولو نهض لوجد بعض الشيبة قد جلسوا وهم يطردون كل من يضايقهم في الجلوس ، قال له احدهم وكان من الشحاذين .
ــ لماذا لا تشتري قمصلة؟ ، ستمرض إذا بقيت هكذا.
قال الصبي ببرود.
ــ أمي قالت لي سأشتري لك قمصلة ، أنا أحب اللون الأسود سأشتري قمصلة سوداء .
وأخذه السعال ، كان صوته يشبه إلى حد بعيد الشيبة حينما يأخذهم السعال وهم في الجانب الأخر من الصورة، كان يحاول أن يتكلم وهو في تلك الحالة ، كان لا يعرف أن ذلك مضرا وعليه أن يهدأ قليلا ، قال الصبي الذي كلمه أول مرة.
ــ أنا ألبس هذه القمصلة العسكرية ، إنها دافئة جدا .
قال له بعد أن هدأ من السعال وقد تقيء قليلا.
ــ رأيت أحد الشرطة يأخذ قمصلة عسكرية من بائع البرتقال ويقول له إن هذه ممنوعة ، هذه ملابس جيشنا الباسل.
ضحك الصبي وجامله بائع الخبز قال وهو لا يزال يضحك.
ــ لا.. سأمر على ذلك الشرطي الذي يتحرش ببائعة المكانس تلك وسوف لا يتكلم معي ،انظر إلي.
نهض الصبي بينما جلس إبراهيم رشاد في مكانه ، نظر إليه وكان الصبي لا يزال يرتعش إذ لا زالت الرياح شديدة ولازالت باردة جدا ، وكان إبراهيم قد نزل قبل قليل من الشاحنة في الجانب الأخر من الطريق والذي خصص للعربات وقد منعوا أي بائع يقف فيه ، قال له السائق وهو ينزل .
ــ هذه النجف ، النجف الأشرف ، مأوى رجال الدين ومحط أنظار الحكومة نم هنا وتمتع بالزيارة وغدا عليك أن تذهب مع الصباح إلى بغداد وإياك أن تضيع الكتاب الرسمي ، أنا سأذهب إلى أهلي في بابل .
وأعطاه بعض النقود ولم يمانع إبراهيم كثيرا في أخذها ، راح الصبي يقترب من الشرطي أكثر فأكثر حتى وصل إليه وأصبح جنبه وقد رفع يده يولوح بها إلى بائع الخبز والذي رفع هو الأخر يده اليمنى تماما كما يفعل الجنود المنتصرون ، والشرطي لم ينتبه إلى ذلك كله ، كان منشغل يغازل بائعة المكانس والتي فرشت عباءة سوداء ممزقة وضعت عليها مجموعة من المكانس المنزلية المصنوعة من سعف النخيل والجريد وكانت الفتاة ذات العشرين ربيعا سمراء اللون وقد ارتدت عباءة سوداء وكانت تمتعض من ذلك الشرطي لكنها كانت تخشى أن يطردها من المكان فتجامله بابتسامة فقط وهو يريد غير ذلك ، نعم يريد غير ذلك ، قال له إبراهيم.
ــ تشعر بالبرد أليس كذلك؟.
التفت الصبي إلى إبراهيم ، وتفاجأ من جلوسه إذ إنه لم يشعر به إلا حينما كلمه ، تبسم ، لم يعلق بشيء ، قال في نفسه ( ينبغي على الشيبة ان يجلسوا في الجانب الأخر وليس هنا إنه مكاننا ).
ــ لماذا لا ترتدي ملابس أكثر ، قمصلة أو سترة مثلا؟.
لا يزال الصبي يرتعش ويظهر حركات بريئة وكأنه يريد أن يقول أنه لا يهمه البرد ، قال بعد أن كرر علي إبراهيم كلماته.
ــ سوف اشتري ، احتاج إلى شهريين من العمل المتواصل ، أمي قالت ذلك ، قالت عليك أن تعمل لشهريين حتى تشتري قمصلة وهي ستعينني على ذلك.
ــ ماذا يعمل والدك ؟.
صمت الصبي ، حرك رأسه وفرك كفيه وأخذ يرتب الرغيف ، كان يريد أن يبتعد عن الجواب ، قال له إبراهيم .
ــ بكم الرغيف؟.
ــ خمسون فلسا.
تبسم إبراهيم، قال له.
ــ جيد أنا أريد واحدا ولكن بشرط أن تقلي ماذا يعمل والدك؟.
ــ وماذا يهمك ؟.
ــ أريد أن اعرف لماذا لا يشتري لك قمصلة ولماذا يدعك تعمل ، أنت صغير على العمل ، ثم في أي صف أنت؟.
ــ الثالث ابتدائي ، كنت في مدرسة فارس الأمة وتركت المدرسة .
ــ لماذا ؟.
ــ لكي أعين أمي على الحياة.
ــ أنت.. وبهذا العمر ووالدك ماذا يعمل ؟.
ألتفت الصبي مرة أخرى ، نظر في وجه إبراهيم ، أحس أنه ليس من رجال الحكومة ، إذ أن الصبيان هنا يعرفون رجال الحكومة من سيماهم ، كانت عيني إبراهيم غائرتان جدا ووجه مصفر وعلى خديه أثار لبقع صغيرة سوداء ، ولحيته قصيرة لكنها كانت بيضاء تماما ، ومع إنه يرتدي بذلة سوداء إلا أن الصبي شعر انه ليس من رجال الحكومة، قال.
ــ أخذه الجيش وهو وأعمامي الثلاثة.
قال إبراهيم مستغربا.
ــ الجيش ولماذا ؟.
ــ يقولون إنهم شاركوا في الغوغاء.
راح ينظر إبراهيم إلى الباعة ، كانوا يجمعون حاجياتهم بعد أن لاحت لهم غيوم كثيفة وسوداء من الشمال وقد سبقتها ريح باردة جدا ، قال.
ــ ومتى كان ذلك ؟.
أجابه الصبي بحرقة.
ــ أقول لك الغوغاء وتقول متى كان ذلك ، أخذوهم في الغوغاء، الغوغاء يا سيدي.
يتبع إنشاء الله.....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي/ رواية - ح26
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
أحس إبراهيم إنه لا يستوعب هذه المفردات ولاسيما أن هذا الصبي هو أول شخص يتكلم معه بعد السائق ، قال في نفسه ( ينبغي أن أدرك أنني كنت في إعداد الموتى وأن الله أحياني الآن ، علي أن استوعب هذا ولا أتعجل الكلمات) تبسم وقال.
ــ اعطني رغيف.
ثم سأله بعد أن أعطاه النقود.
ــ إذا أردت الزيارة فأي الطرق اسلك ؟.
ــ من هناك تعال معي ، هل أنت غريب ؟.
نهض الاثنان بينما هدأت الريح قليلا ، أما السماء فراحت ترسل قطراتها الأولى، قال له إبراهيم.
ــ نعم أنا غريب أريد الزيارة ثم غدا سأذهب إلى أهلي إنني من بغداد كنت في مكان بعيد مدة طويلة والآن جئت وقد تغيرت المدينة كثيرا كنت أخر مرة زرتها قي عام سبعين.
ــ إذا عليك أن تسرع قبل الظلام.
ــ ولماذا ؟.
ــ في الليل ممنوع التجول ، لا يسير في الليل إلا الجيش من يجدوه يأخذوه إلى الأمن .
هز إبراهيم رأسه، قال له الصبي .
ــ هذا الطريق سيرميك على الميدان حينها سترى صورة للرئيس كبيرة جدا ، اكبر من هذه بكثير ، لكن لا أحد يجلس تحتها لأنه لا توجد مدرجات بها ، على يسارها يقع السوق الكبير ومن خلال السوق الكبير سترى مرقد الإمام علي ولكن عليك أن تسرع.
ــ نعم اعرف إن المرقد بهذا الاتجاه ، لقد شاهدت القبة من بعيد.
ـ 27 ـ
حينما يأتي أليل تغرق المدينة ، كل المدينة بظلام دامس ، وصمت موحش ، لا يوجد هنالك احد يمكن له أن يسير إلا الجنود موزعين على شكل مجاميع وهم يجوبون المدينة طولا وعرضا حاملين مصابيح يدوية إضافة إلى أسلحتهم الشخصية ، قبل نصف ساعة أي قبل المغيب بدقائق كان أخر محل قد غلق أبوابه بعد أن حسب ما له وما عليه ، إبراهيم كان قد دخل إلى فندق قريب من الروضة الحيدرية المطهرة، قال له صاحب الفندق الرجل العجوز والذي يتكأ على عصا حينما يسير ، كان ذلك قبل المغيب بنصف ساعة، قال له.
ــ أنا سأجعلك تبات على ضوء هذا الكتاب فإذا جاء أمن الفنادق وطلبوا رؤيتك هل تمانع؟.
قال له إبراهيم.
ــ لا طبعا لا توجد ممانعة أنا خرجت بعفو ولم أهرب.
كانت الغرفة لنفرين وكان فيها سريرين صنعا من الخشب المحلي من دون إتقان وكان السرير يتراقص كلما حرك إبراهيم جسده وتصور إن السرير الأخر أحسن حالا فتحول بسرعة خشية أن يأتي أحد فينام عليه ولكن وجده أسوء حالاً من السرير الأول ، تبسم ورجع إلى سريره الذي إستلقى عليه أول مرة وكان عليه شرشف برتقالي اللون يغطي الفراش الذي لم تره الشمس منذ أول الصيف المنصرم ، فكر كثيرا في خديجة ، راح يحسب كم بقى من الساعات حتى يلتقي بخديجة وأبنته سحر ، أخذ يحسب إلا أنه تذكر سحر ، هز رأسه بحزن وتقلب على السرير فأصدر السرير صوتا ، هذه المرة الرابعة التي يحسب بها الساعات فيضيع حسابه ، حاول أن يتصور شكل سحر وهي في عقد العشرينات لم يستطع لقد نسى شكلها تماما بل حتى خديجة ما عاد يذكر من ملامحها إلا القليل ، ضحك قال في نفسه ( لقد مر على ذلك واحد وعشرون عام ) ، صمت ثم سرعان ما أردف ولكن ليس في نفسه ، تكلم بصوت يمكن أن يسمع ولكن لا أحد هناك ليسمعه، قال ( لو رأيت خديجة تمشي الآن في الشارع لما عرفتها ، أه ، لقد نسيت كل شيء) رجع يتقلب والسرير يصدر ذلك الصوت وما زال يحسب كم بقى من الساعات قال في نفسه ( طريق بغداد ثلاث ساعات سأجلس مبكرا وما إن تشرق الشمس حتى اذهب ، يا ترى كم بقى على الصباح ، ليس لدي ساعة ، وحتى لو كانت هناك ساعة كيف لي أن أراها لماذا لا يضع صاحب الفندق فانوس على اقل تقدير، هل هو ممنوع أيضا ) حرك البطانية على رأسه كانت تفوح منها رائحة العفونة ، رائحة لشيء ما ، لم ينتبه إليه إبراهيم ، ما زال يحسب كم بقى من الساعات ، قال في نفسه ( في الساعة العاشرة سأصل بغداد وعند الحادية عشر صباحا سألتقي بزوجتي وابنتي سحر ، كيف سأتحمل تلك اللحظة) أحس انه يريد أن يتبول قال ( لأترك ذلك إلى الصباح ، لم يبقى على الصباح شيء ) تذكر سائق الشاحنة ، ضحك ، ومع إن الغرفة كانت مظلمة تماما إلا إن إبراهيم كان يغمض عينيه بشدة ، ثمة ضوء كان يبرق في نفسه ، كان يريد أن يتخلص منه ، جلس على السرير كان لا يستطع أن ينام ، لا يستطع أبدا ، تمشى ، خطوتان ، خطوتان فقط ، وقد مد يديه إلى الأمام مثلما يصنع الضرير حينما لا يجد من يعينه وليس لديه عصى ، أراد أن يصل إلى الشباك كان يعرف أين يقع ، كان ينبعث منه نسيم بارد ذلك بسبب أن أحد نوافذه كانت من غير زجاج ، وصل إليه أخيرا ولم يعثر بأي شيء لأنه لا يوجد شيء يتعثر به ، لم تكن هنالك ستارة لكي يزيحها ، كما وان أرضية الغرفة عارية تماما وكأنها زنزانات الصرح حينما يدخلها السجين أول مرة أي قبل أن يؤتى إليه ببطانية تفوح منها رائحة الموت ، رائحة الأقدار المخيفة جدا ، فتح الشباك ، لا يوجد أي ضوء لا من قريب ولا من بعيد وكأنه لا توجد مدينة هناك إلا الحرس حينما يمرون تحت الفندق يمكن أن تراهم من خلال ما يحملون من مصابيح يدوية لا بأس بها فهي تنير لعدة أمتار ، أصوات الكلاب البعيدة أي التي في المقبرة يمكن أن تسمع وكذلك صيحات الحرس على بعضهم أيضا يمكن أن تسمع وهناك إطلاقات نار بين لحظة وأخرى ، هذا كل ما يمكن أن يسمع أو يرى في المدينة ليلاً ، تنفس بعمق أربع مرات ، كان النسيم باردا ، أحس به ، أحس أنه يدخل إلى أشلائه ، كانت السماء تمطر ولم يشعر إبراهيم بذلك حينما كان جالسا على السرير ، إذ كان المطر ضعيف جدا ولكنه حينما وقف أمام الشباك أحس بذلك ، مد يده اليمنى ، ثم اليسرى ، كان يريد أن تفيض من المطر ، شرب بعض القطرات التي تجمعت فيهما ، ومررها على وجهه ولحيته ، حينما كانوا في الصرح كانوا يسمعون صوت المطر ، يسمعونه فقط ، وهو يصطدم في الأرض ، يسمعونه من خلال الكوة ذات الشرك ، كانوا يتمنون أن يخرجوا ليروا المطر، ليروا السماء ليلا لقد كانوا في شوق لرؤية النجوم وبعض الشهب وهي تخر ساقطة ، رجع إلى فراشه ، حاول أن ينام ، ذكريات الصرح تنتزع منه الهجوع ، كان لا يعرف كيف يطرد الأفكار والذكريات قال ( يا ترى هل ستعرفني خديجة ) تبسم وأغمض عينيه ، وقبل أن يصدر شخيره طرق صاحب الفندق باب الغرفة الخشبية ، لم يكن مقفلا ، وكان ينوي أن يدخل دون استئذان إلا أن الرجلين الأمنيين هما اللذان قالا له اطرق الباب ، كان إبراهيم يرى من خلال الثقوب الصغيرة المتشرة في الباب الخشبي ثمة ضوء قرب الباب ، طرقه صاحب الفندق بقوة ليكسب رضا الرجلين ، هكذا كان يظن في نفسه ذلك الشاب ، جلس إبراهيم ، قال.
ــ تفضل.
دخل الرجلان ومن ورائهم حارس الفندق والذي لم يره إبراهيم إلا الآن ، قال له حارس الفندق ألليلي.
ــ هؤلاء من امن الفنادق يريدون أن يستفسروا منك ، قلت لهم انك كنت سجين في الأمن فأرادوا رؤيتك.
كان حارس الفندق شابا وكان يحمل فانوسا أما الرجلان فكان يحملان مصباحين يدويين إضافة إلى سجل حمله احدهم ، قال الرجل الذي يحمل السجل وكان يرتدي بذلة وقمصلة عسكرية وأكبر سنا من الأخر والذي كانت بذلته مدنية ذات لون رصاصي.
ــ أين أوراقك الثبوتية ؟.
ــ نعم سيدي.
مد إبراهيم يده إلى السترة والتي علقها في بسمار كان موضوعا لهذا الغرض في الجدار ، الجدار الذي ألصقوا عليه أنواع من الصحف المحلية والأجنبية وليس الجدار العاري من كل شيء ، كانت كل الصحف الملصقة لا تحمل أي صورة للرئيس ولكن معظمها كان يحمل صور لممثلات ورياضيين ، ويبدو أن الذي فرشها على الجداران بشكل أو بأخر رجل لا يجيد ذلك العمل وليس لديه ذوق فني إذ علقها بشكل اعتباطي ، أخرج الكتاب ، دفعه إليهم وراحا يطالعانه راح احدهم يوجه المصباح على الكتاب بينما راح الأخر يوجه مصباحه على إبراهيم الذي كان لا يستطع أن ينظر إليهما بسبب نور المصباح ، تبسما ، قال احدهم بينما سكنت نفس إبراهيم حينما لمح أحدهم يبتسم بعد أن تحرك صاحب البذلة الرصاصية عنه قليلا.
ــ جيد هذا شيء رسمي ، أول مرة اقتنع بشيء يقدمه رجل يبات في فندق ، سنأخذه معنا وأنت بت ليلتك ولا تخف في الصباح ستجده عند صاحب الفندق ، نأسف على الإزعاج ، في أمان الله.
ذهبا وكان قد خرج معهما الحارس الليلي إلا إنه سرعان ما رجع قال لإبراهيم.
ــ هل تريد الذهاب إلى المرافق قبل أن نقفل الغرف ؟.
ــ وهل تقفلون الغرف ؟.
ـــ نعم كل يوم ، هذه تعليمات الأمن.
والحقيقة ليست هذه تعليمات صاحب الفندق ، لم يكن صاحب الفندق يقفل الأبواب ليلا كل يوم ولكن الرجل الأمني المسن هو الذي همس في أذن صاحب الفندق ، قال له.
ــ أقفل الباب عليه حتى الصباح لنتأكد منه.
قال إبراهيم.
ــ طيب دعني اذهب إلى المرحاض مادام عندك فانوس.
خرج متوجها إلى المرحاض، كان يسير خلف صاحب الفندق ، أراد أن يسأله عن الساعة بعد أن نظر إلى ساعة في يده بينما ذهبا الرجلان الأمنيان إلى الخارج و كانت أقدامهم تصدر صوتا وهما ينزلان على السلم وكان الصوت يدل على أنهما كانا مسرعان جدا هكذا شعر إبراهيم، إلا إنه تذكر الكتاب قال .
ــ أرجو أن تحتفظ بالكتاب إذا دفعوه لك إنه مهم بالنسبة لي.
ثم سأله عن الساعة.
ــ العاشرة.
سمع وهو بالمرحاض جعير عجلة وكأنها كانت واقفة تحت الفندق ثم سرعان ما راحت تبتعد شيئا فشيئا ، أحس بشيء من الخوف والبرد ، قال في نفسه ( لماذا الخوف لست هاربا كما وإن ذلك الرجل قال جيد هذا شيء رسمي ، أول مرة اقتنع بشيء يقدمه رجل يبات في فندق ) لم يرى إبراهيم وجهيهما بوضوح أي إنه لو التقى بهما بعد لحظات في الشارع لما عرفهم ذلك لأن أحدهم كان يضع المصباح في وجه إبراهيم ماداموا هم في الغرفة.
يتبع إنشاء الله.....
.....
-
أضحوكة العالم المثالي/ رواية - ح27
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
جلس إبراهيم مبكرا ، لم ينم طويلا ، ظل طوال الليل يفكر في صباح غد ، حتى انه تخيل نوع العجلة التي ستأخذه إلى بغداد ، وتصور كيف أن سحر سوف لا تعرفه فتستحي أن تجلس قربه ثم حول تفكيره إلى شهادة سحر الجامعية ، وكان دوما يفكر في هذا الأمر يوم كان في الصرح وكان يتمنى أن تكون طبيبة ، كان يدعوا الله تعالى أن يوفقها لذلك وان تحصل على زوج ليس من رجال الحكومة لأنه كان يقول في نفسه حينما كان هناك ( كل من لم يكن مع هذه الحكومة فهو جيد وينبغي أن نحسن الظن به ) كما وفكر مليا في حديث سائق الشاحنة حول حروب الرئيس الكثيرة والطويلة مع إيران وغزوه الكويت بشكل لم يسبق له مثيل منذ بشاعة الحرب العالمية الأولى ، وجره تفكيره وهو يتقلب على ذلك السرير وتحت وطأة ذلك الصوت الذي لم يؤثر بأي شكل من الأشكال على تفكير ، جره إلى موت خديجة وضياع سحر في زحمة الصواريخ التي رميت على بغداد سواء التي ألقاها الإيرانيون أو التي ألقاها الحلفاء يوم جاءوا لتحرير الكويت بمئة ألف مقاتل من مختلف الجنسيات من قبضة السيد الرئيس حيث ضربوا البلاد بقسوة ومن غير تركيز حسبما كان يصف سائق الشاحنة الذي بدا متعاطف جدا مع السيد الرئيس حيث كان يقول ( إن الله هو الذي سلم السيد الرئيس من أيادي الأعداء والأمريكان الذين لا شغل لهم غير خيرات العراق ) والحقيقة أن الحلفاء لم يأتوا بمئة ألف بل جاءوا بنصف مليون جندي أمريكي وبريطاني وفرنسي وعربي وكان إبراهيم يجامله في ذلك وكان يقول له ( هذا هو ديدن الاستعمار ، إنه يكره الشعوب التي تلتف حول قائدها ) وكان قد أتقن هذا الحديث من تلك التمثيليات الكثيرة والتي كانوا يفعلونها يوم كانوا في الصرح حيث يمثل سجينا دور الرئيس وأخر دور النائب الذي يشاع هنا وهناك انه لا وجود له سوى كونه دمية نحيفة جدا تتوجه دوما إلى المناطق التي لا يرغب السيد الرئيس في زيارتها وكانوا يتسلون بذلك ويضحكون ، وكان إبراهيم إذا وقع عليه دور السيد الرئيس يتكلم بتلك الكلمات ويزيد عليها قليلا كأن يقول ( إننا مكلفون في صناعة التأريخ إذا فلنصنعه ولكن ليس وفق أهواءنا ورغباتنا الذاتية بل وفق طموحات شعبنا ، لا تنسوا أيها الرفاق الأعزاء إن لديكم شعب حر وأبي ويمكنكم أن تصنعوا التاريخ من خلاله ) وهنا يصفق الرفاق الذين هم السجناء طبعا ليهتفوا للسيد الرئيس يا يعيش يا يعيش والذي يحي الشعب بيده ، ثم تذكر شمران ، هز رأسه محاولة منه ليبعد ذلك ، لكنه وجد نفسه يغرق في وحل السيد خليفة ، تذكر نفاضة السجائر البشرية وكيف كانوا يخرجونه دون أي سبب ، نعم دون أي سبب فقط لأن الحرس يريد ذلك، يريد أن يتسلى بتلك الأجساد التي لا يوجد أحد يسأل عنها ، تذكر أيضا كيف أن ذلك الجندي أصر على أن يطفأ سيجارته في عينه وكان مقيدا من يديه ومن قدميه ومربوطا على شباك في الممر المؤدي إلى القيادة لولا ممانعة صاحبه الذي رفض أن يطفأ السيجار في عينيه ، وكان يومها عاري ، عاري تماما ، تقلب ، وظل يتقلب ، جلس ثم سرعان ما رمى نفسه على السرير فكر في تلك الأفواج الكثيرة من الجند و التي غطت الصحراء طولا وعرضا وفي تلك الدبابات والمدافع المحترقة وعجلات نقل الجنود المتفحمة والتي وظلت تساير إبراهيم حتى اختفت في الأفق البعيد ، قال في نفسه ( ربما هي بسبب تلك الحرب التي أرجع الحلفاء بها الكويت ، كنت أخشى من سائق الشاحنة ، أنا متأكد أنه رجل يعمل في الأجهزة السرية ولولا ذلك الظن لسألته عن كثير من الأشياء ) ثم أعاد إلى ذهنه تلك الصور الكثيرة للسيد الرئيس ، كانت تتوسط كل مكان ، نعم كل مكان ، كل مدخل ومخرج لأي مدينة هناك صورة جدارية عظيمة للسيد الرئيس ، اقتربت عيناه من النوم وقبل أن يصدر شخيره تسللت إليه كلمات الصبي بائع الخبز وحاول أن يجد أي معنى للغوغاء ، الغوغاء التي شارك فيها أبوه وأعمامه الثلاثة فأخذهم الجيش ، وتسأل في نفسه وهو يتقلب تحت البطانية المتخمة برائح الأسابيع الماضية ( أي من الجيوش يا ترى) ، هكذا كان يتسأل مع نفسه لكنه لم يستطع أن يتوصل إلى جواب مقنع ذلك لأن سائق الشاحنة لم يقل له إن الشعب في الجنوب والوسط والشمال خرج منتفضا على السيد الرئيس بعد أن قال الرئيس الأمريكي بوش ( على الشعب العراقي أن يثور ليتخلص من قيادته وإنني سأبدي المساعدة لتلك الثورة لو حدثت وأمد يد العون لها ) وكان بعض الجنود ممن رجع من الكويت منسحبا بشكل مخزي وهم بكامل عدتهم الحربية وقد افلتوا بمعجز من تلك الصواريخ والإطلاقات التي كانت لا تفرق بين من يحمل قماشة بيضاء دلالة على الاستسلام وبين من يقاتل بجد ، حينما رجعوا ودخلوا البصرة ورمقوا صورة الرئيس وهم في حالة مزرية إذ إن أصدقائهم قتلوا جميعا ففي الأسابيع الأولى من المعركة الجوية سقط ما يقارب على مأتي ألف قتيل وفي الأسبوع الأول من عاصفة الصحراء وقع أربعة وعشرون ألف قتيل وسبعون ألف أسير هكذا كانت تتحدث وثائق الحكومة السرية ، عموما فحينما لاحت لهم صورة الرئيس المنهزم وجهوا إليها مدفع الدبابة وضربوها وكانت هذه الشرارة الأولى لاندلاع ثورة شعبان ضد حكومة السيد الرئيس ، لم يقل له ذلك أبدا ، كان يحدثه عن منجزات السيد الرئيس وكان يقول له أنه رحمة أرسلها الله للعراقيين، وإبراهيم يهز برأسه ، لقد أتقن كيف يقنع رجال الحكومة انه مقتنع بكلامهم ، لقد تعلم ذلك ، لم يكن هنالك معلم يعلمه لم يكن أي شيء هذا بل هي محنة الأعوام المنصرمة وتجربة الوقوف ساعات كاملة أمام رجال الكبار للصرح والذين كانوا يتسلون بإنهاء حياة العشرات من السجناء بإيماءة ، نعم بإيماءة وليست كلمة ، تصور إيماءة واحدة ، واحدة فقط تكون أرواح عشرة أو عشرين بل وحتى مئة وقد ودعت الدنيا ، إذن على الذين هناك أن يتقنوا ذلك ، يتقنوا كيف أنهم يتظاهرون بأنهم مقتنعين بكلام السادة الضباط عن منجزات السيد الرئيس ، هذا إذا أرادوا أن يعودوا إلى زنزاناتهم وهكذا حتى تأتي اللحظة التي لا ينفع معها تدليس في النظرات أو إظهار الانكسار أمام شمران أو خليفة.
حينما أراد أن يفتح الباب وجده مقفلا ، هذه المرة الثالثة التي يحرك بها الباب فيجده مقفلا ، أول مرة حينما سمع الأذان ، أذان الفجر كان يصدر من الروضة الحيدرية المطهرة إذ يرقد فيها الأمام علي بن أبي طالب وصي الرسول والنبي أدم والنبي نوح ، ويقال إن مرقد النبي هود وصالح قريبا جدا عن تلك الروضة التي يؤمها ملايين من الناس للتبرك والتوسل لله ، نهض ليتوضأ وكان الظلام لا يزال مهيمنا على كل شيء ، طرق الباب ثلاث مرات كان يريد أن يتوضأ لكنه أستيأس من الجواب ، كان الشاب الذي جاء مع الرجلين الأمنيين يغط في نوم عميق ، تيمم وصلى ثم عاد إلى سريره يفكر ومثلما بدأ أمس في العجلة التي سوف تنقله إلى بغداد وأنه سيجلس في الجهة التي لا تكون بها شمس وقال ( إنها جهة السائق ذلك لأن بغداد تكون من هنا ) وأخذ يؤشر بيده نحو الشمال وهو لا يرى يده في الظلام ، اتكأ على الجدار فتحركت الصحيفة الملتصقة بالجدار من ورائه كانت تحمل صورا لرياضيين محليين ، وضع رأسه بين ركبتيه حتى الشروق ، حينها فتح الشباك لا زالت الباب مقفلة ، نظر إلى الشارع مبتلا تماما والنفايات تسبح بالماء وهناك بعض الرجال أخذوا ينسابون بهدوء في الشوارع يذهبون إلى أعمالهم ولا يوجد أي اثر للجنود ، لقد اختفوا مثلما تختفي الخفافيش حينما يدركها الصباح ، أحس بأن هناك من يدخل مفتاحا في الباب ، نهض إذ أنه كان جالسا على السرير ، ليس السرير الذي نام عليه بل الأخر، كان يطالع في صحيفة قديمة اقتلعت من الجدار فسقطت قرب السرير فتناولها وهو جالس ، رماها من يده وراح يفكر في أثار القصف الذي أثر بشكل كبير على القبة الذهبية للروضة المطهرة حيث يمكن مشاهدة الهدم الذي لحق بها بوضوح وكانت هذه المرة العاشرة التي يفكر فيها إبراهيم في القبة الذهبية وأثار قصفها من قبل الجيش بعد انتفاضة عام 1991 ، كانت الغرفة باردة ، باردة جدا ، إلا انه لم يشعر بذلك البرد الذي يشعر به الباعة في أول المدينة الآن ، فُتح الباب ، كان الذي فتحه شابا وسيما ، قال بلغة مؤدبة.
ــ صباح الخير أستاذ.
ــ صباح الخير إبني.
ــ هل ارتحت سيدي في المبيت ؟ ونأسف إذا كانت هناك بعض المضايقة .
ــ لا.. أشكركم.
ــ الآن براحتك إذا أرت الحمام فمن هذه الجهة.
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي - رحلة الضحايا والمظلومين في عهد الطاغيه صدام - ح28
أضحوكة العالم المثالي/ رواية - ح28
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
- الآن براحتك إذا أردت الحمام فمن هذه الجهة.
كان الحمام متسخا جدا ، وكانت حاوية النفايات ممتلئة وهناك ما حولها من النفايات ما يملئها ثلاث مرات ، نظر إلى وجهه كانت المرآة متسخة أيضا ، بلل يديه مرة أخرى ومسحها ، لم يمسحها كلها ، بل على مقدار وجهه .
حينما صعد في الشاحنة كان همه الأول أن يرى وجهه ، حينما رآه أول مرة تفاجأ كثيرا إذ لم يتصور أن وجهه سيكون هكذا ، كان متعب جدا ، نظر إلى أسنانه لم يبقى منها شيء يذكر إلا الأسنان الأمامية وهي على وشك أن تذهب كذلك وكانت عيناه غائرتان وكأنهما في واد سحيق ، تبسم ، كانت ابتسامة ساخرة ، ساخرة جدا ، نظر إلى البقع السوداء ، أثار سجائر الجنود وهي منتشرة كما ينتشر الزرع في الأرض الخصبة ، قال في نفسه ( إنها تداعيات الرحلة ، رحلة السنين الطويلة ) قال ذلك وهو يهز رأسه مستخفا بكل ما هو حوله ، بحث عن مشط يرتب فيه شعره ، أي مشط ، لكنه لم يجد فرتبه بيده ، كان شعر رأسه قصيرا جدا ولا يحتاج إلى أي مشط ، ولم يكن الشاب الوسيم الذي فتح باب الغرفة وقال صباح الخير موجودا ليطلب منه ذلك ، ولم يكن أحدا في الفندق سوى ثلاث رجال وامرأتين كانوا قد جلبوا ابنا لهم مات في حادث سير ودفنوه عصرا ولما لم يستطيعوا العودة لأنهم من البصرة باتوا في هذا الفندق وكان إبراهيم يسمع أنين أمه طوال الليل وتذكر فصلى له الوحشة ،في الصباح سمع أنين أمه أيضا ورآها وهي تمشي وتأن قالت لما رأت إبراهيم ( إنه الوحيد ولم يتزوج بعد أدعو له أيها الشيخ) ، كانت بدينة جدا وفكر إبراهيم وهو يخرج من الحمام كيف صعدت السلم العمودي.
دخل إلى غرفة صاحب الفندق ، كانت الغرفة على اليسار حينما تصعد على السلم وهي لا تشبه غرف النوم بل كانت صغيرة وفيها وضع العجوز مكتبا حديديا صغيرا جدا وعليه وضع قماشة بيضاء وهو في ذلك يشبه إلى حد بعيد مكاتب أصحاب العرائض أمام المحكمة ، وكان العجوز ذاته يجلس عليه ، العجوز الذي التقاه أمس وقال له ستبات عندنا ولكن بشرط انه إذا جاء امن الفندق وطلبوا رؤيتك لا تمانع ، وكان العجوز لا يرضى أن يجلس غيره خلف المكتب ولو وجد أحدا كأن يكون ابنه الذي يعمل معه في الفندق ينتفض ويزمجر وكأنه سلب الفندق منه، وكان قد وضع عصاه وهي متكأه على مسند كرسي كان فارغا ، وجلس جنبه عجوز أخر لحيته بيضاء تماما ووضع على رأسه عمة بيضاء وعنده عصى وضعها بين فخذيه ومسبحة صفراء بيده اليمنى يحركها وهو يتكلم ، قال إبراهيم وهو يدخل.
ــ السلام عليكم.
ــ وعليكم السلام أهلا بالأستاذ تفضل.
وتكلم العجوز صاحب الفندق.
ــ أرجو أن تكون قد ارتحت عندنا.
ــ الحمد لله على كل حال.
ــ استرح لماذا لا تجلس.
ــ أشكرك أنا على عجلة من أمري.
قال العجوز الذي يضع العمامة على رأسه وهو مبتسم.
ــ خلق الإنسان عجولا.
لم يعلق إبراهيم على كلمات الشيخ ، نظر إلى العجوز صاحب الفندق ، قال .
ــ سيدي جئت لأخذ الكتاب.
ــ أي كتاب؟.
ــ الكتاب الذي رأيته أمس.
ــ الم أرجعه أليك ؟.
ــ نعم ولكن جاء الأمن ليلا بصحبة الشاب الذي يعمل في الليل.
ــ نعم ..نعم كرار ، أسمه كرار هو أبني ، ماذا به؟.
ــ هو جاء معهم .
ــ لم افهم ، أسترح .
جلس إبراهيم على كرسي خشبي جنب العجوز صاحب العمة، قال.
ــ سيدي أمس في الليل وأنا نائم صحوت على طرق الباب....
وراح إبراهيم يقص عليه كل شيء ، وكيف أنهم اخذوا الكتاب منه.
ــ الآن فهمت.. الآن فهمت ..ولكنهم لم يرجعوه إلى هنا.
صمت قليلا وهو ينظر في وجه إبراهيم، ثم أردف.
ــ دعني أتأكد .
أخرج سجلا احمر وراح يتأمل فيه وهو يقلب بعض الأوراق.
ــ لا يوجد ، أذهب إليهم قبل أن ينسوه فيضيعوه.
ــ أين ؟.
ــ إلى مديرية الأمن.
ارتعشت قدما إبراهيم حينما سمع ذلك ، إلا ان العجوز صاحب الفندق لم يشعر أن ذلك الارتجاف من تلك الكلمات كان يتصور إن إبراهيم مصاب بمرض في قدميه ، كان الأرتعاش واضح جدا ولم يستطع إبراهيم أن يخفيه ، قال.
ــ إلا يمكن أن تتصل بهم أو أي شيء لأنني...
تكلم العجوز صاحب العمة.
ــ قال لك أذهب إليهم لا تؤخرنا ، اذهب هناك ستجده عند الاستعلامات.
ــ ولكنني..
ــ لا تكثر في الإلحاح ماذا يصنعون به ، هل هو صك الغفران.
وراح يتبسم وهو يلهو في سبحته الصفراء بينما قال له صاحب الفندق وهو يراه ينهض.
ــ ستجده صدقني ستجده خذ تكسي من تحت الفندق وهناك اخبرهم وأنا سوف لن ابخل عليك بالمساعدة.
أدار إبراهيم وجهه ثم خرج بخطوات ثقيلة جدا بينما رجعا يتكلمان عن موضوع عرس إذ يبدو أن ابن العجوز صاحب العمة على وشك أن يتزوج بنت ذلك الشيخ وهما يتداولان الحديث حول ذلك.
ـ 29 ـ
أخيرا استطاع أن يحصل على عجلة أجرة ، لقد وقفت ثماني عجلات منها ما هو مطلي بلون برتقالي وابيض وهو لون عجلات الأجرة ومنها ما هو غير ذلك ، معظم العجلات المدنية تعمل تكسي أيضا ، ولكنهم سرعان ما يعتذرون بمجرد أن يقول لهم إبراهيم إلى مديرية الأمن ، إلا هذا الشاب ، ضحك وقال لإبراهيم اصعد ، فتح المذياع ، كانت إذاعة صوت الجماهير تعيد حديث السيد الرئيس الذي بثه التلفزيون ليلة أمس وكان ساعتين متواصلتين التقى بها السيد الرئيس بأهالي قرية من قرى الانبار، كان يقول لهم ( الآن بحق عرفنا أهلنا من أعدائنا وعلينا أن نعمل على ضوء ذلك ) ، كان إبراهيم يصغي وكان ينظر عبر الشارع إلى الأطفال وهم يشقون الطرق ذاهبين إلى المدارس وكانت السماء صافية وهناك نسيم بارد لم يشعر به إبراهيم لأن زجاجات العجلة كانت مغلقة بأحكام ، تذكر ابنته سحر حينما لاحت له الأطفال ، قال الشاب وهو يجتاز عجلة عسكرية محملة بالجنود وهم يفشرون بصياح على فتيات كن يردن أن يعبرن الشارع .
ــ أنا من عادتي إذا تكلم السيد الرئيس لا أتحدث أبدأ حتى في البيت أقول لأطفالي ذلك ، هذا الحديث جدا رائع ، ولو كل كلمات السيد الرئيس رائعة ، أمس رأيته كله على قناة الشباب ، هل شاهدته أنت؟
قال إبراهيم .
ــ لا للأسف لم احظ بذلك.
ــ هل أنت جديد على المديرية؟.
نظر إليه إبراهيم مبتسما ، قال.
ــ لديه عمل هناك ، ولكن أريد أن أسألك ؟.
ــ تفضل أنا رهن الخدمة.
ــ لماذا السواق يتخوفون من الأمن ؟، أنت العجلة الثامنة التي تقف ، بمجرد أن يسمع مديرية الأمن يعتذر، لماذا ؟.
ــ هؤلاء ليسوا عراقيين أن معظمهم يحبون إيران ويحقدون على رجال الأمن ، لماذا نخاف من رجال الأمن وهم جاءوا لخدمتنا والمثل يقول المفلس في القافلة أمين.
تبسم إبراهيم قال .
ــ دعنا نستفيد من السيد الرئيس ، فحديثه شيق جدا.
توقفت العجلة ، كانت هنالك زحمة وعجلات تقف بفوضوية متناهية ، وبعض الجنود منتشرين على المرأى البعيد بكامل عدتهم العسكرية ، سأله إبراهيم.
ــ ماذا هناك.
ــ إنها سيطرة الجيش ، هذه أهم سيطرة في المدينة ، هم يبحثون على أولئك الأوغاد الخونة الغوغاء ، بالأمس قتلوا لواء صبحي ضابط امن المنطقة الغربية ومثلوا بجثته ، وجدوها محترقة في المقبرة ، أين يذهبون ستصل إليهم يد العدالة.
كانت السيطرة كبيرة حيث انتشر عشرات من الجنود وهم بكامل عدتهم وكأنهم ذاهبون إلى معركة مصيرية ، وفقت عجلة ذلك الشاب الذي يعلم أولاده أن لا يتكلموا حينما يتكلم السيد الرئيس احتراما وإجلالا ، كان عليها أن تقف لحظات حتى يأمر الجندي بتقدمها وذلك بأن يومئ لها أن تتقدم ، كان إبراهيم ينظر إليهم كيف يفتشون وكيف يدخلون رؤوسهم من النوافذ ، تسارعت دقات قلبه لأنه تذكر كلام سائق الشاحنة ( أحتفظ به أكثر من نفسك لأنك من غير هذا لا يمكن أن تسير أربع خطوات في أي مدينة ) قال في نفسه ( ولكن الأمن هم الذين أخذوا الكتاب لا بد أن أطمأن تماما ، وحتى إذا شكوا فعندهم الصرح يمكن أن يتصلوا به ، أعتقد أن موقفي جيد ) أومأ الجندي إلى العجلة لم ينتبه السائق ، كان ينظر إلى شاب قد انزلوه ووضعوه في عجلة لاندجروز عسكرية ، قال له إبراهيم.
ــ إن الجندي يصيح عليك.
سارت العجلة ببطء تام وهناك ضباط جيش وأمن وهم بزيهم المدني المخيف ينظرون إلى العجلة يتفحصونها، يتفحصون من فيها ، توقفت في الدائرة التي كونها سبعة من الجنود ، نظروا إلى السائق والى إبراهيم الذي راح يبتسم لهم كان يريد أن يقول إن الأمر لا يعنيني ولكن كان لا يجيد ذلك ، قال احد الضباط وهو ينظر إلى السائق.
ــ عينك وين.
أجابه الضابط الأخر وهو يضحك .
ــ على الصبورة.
صمت ثم أردف بلغة فضة تماما.
ــ أيها الجرذ انتبه ، عندما يؤشر لك الجندي تتقدم بسرعة وألا سحقت رأسك بالحذاء.
أخذ الضابط الأمني ينظر إلى إبراهيم ، تبسم الضابط الأخر في وجهه قال وهو يضرب بيده اليمنى على مقدمة العجلة.
ــ معلم متقاعد أكاد اقسم على ذلك ، هيا اطلع .
تحركت العجلة ، تنهد إبراهيم ، ثم تبسم، قال .
ــ الآن عرفت لماذا يتمنعون سواق الأجرة من الوصول إلى هنا ، لو كنت مكانهم لما أتيت أي والله لما أتيت.
يتبع إنشاء الله.....
....
-
أضحوكة العالم المثالي/ رواية / ح29
أضحوكة العالم المثالي/ رواية / ح29
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ـ 30 ـ
صرخ به الجندي الذي يقف في البوابة الرئيسية لمديرية الأمن.
ــ قف إلى أين تريد أيها العجوز السكير؟ .
وقف إبراهيم ما زال أمامه خمسون متر حتى يصل إلى الباب الكبيرة جدا والتي وضعت على جانبها الأيسر صورة كبيرة للرئيس وتحتها مقولة يبدو أن السيد الرئيس قالها في يوم ما ( رجال الأمن عيون ساهرة لحماية شعبنا العزيز من مكائد الأعداء ) قال إبراهيم.
ــ لدي كتاب هنا أخذوه مني في الفندق .
صاح الجندي.
ــ تكلم بصوت عال أنا لا أسمعك أيها الغبي.
صاح إبراهيم.
ــ عندي مراجعة لأمن الفنادق.
ــ تقدم ولكن ارفع يديك إلى الأعلى.
تقدم إبراهيم رافعا يديه ، قال له الجندي حينما وصل.
ــ ضع يديك على الجدار.
فعل إبراهيم ذلك، حينها جاء احد الجنود وفتشه بدقة قال له .
ــ الآن تكلم ، ما هي مشكلتك ؟.
كان الجندي طويلا جدا ولديه شاربان عظيمان ، ضخم البنية ، يقلب في البندقية بانسيابية رائعة كأنما يقلب في قلم رصاص ، قال له بعد أن أسهب إبراهيم في شرح قصة الفندق.
ــ إذا العجوز كان عندنا ، يا للروعة ، احمد الله انه أبقاني حيا حتى أشاهد سجينا يدخل عندنا فيخرج حي ، أسمع إذا أردت نصيحتي ارجع إلى صاحب الفندق ليقدم طلب إلى مدير امن الفنادق يقول فيه هذا الكلام ، هذا هو الحل ، هيا اذهب الوقوف هنا ممنوع قطعيا.
ــ لماذا لا تدعني أقابل مد...
ــ أذهب خير لك قبل أن يراك احد الضباط وأنت تعرف ، أمي دائما تقول أسئل مجرب ولا تسأل حكيم ، هيا اذهب يا مجرب.
أكتأب إبراهيم وشعر أن هناك أشياء سيئة تحدث ، قال في نفسه ( ربما لو طلبت منه مرة أخرى سيقبل ) قال ذلك وهو ينسحب باتجاه الشارع الذي جاء منه ، كانت خطواته مرتبكة ، ألتفت إلى الوراء كان الجندي ما يزال يلعب في البندقية وكأنه أول مرة يراها ، رآه إبراهيم وهو يشعل سيجارته ، أردف يكلم نفسه ( ولكنه فض وبذيء لا اعتقد أنه سيرضى وربما يضربني لو رجعت إليه، من الحكمة أن ارجع لذلك العجوز) ثم تذكر صاحب العمة البيضاء قال ( أتمنى أن لا أجده ، هو ليس لديه أي شعور ، أنهم يجهلون ما تعني هذه الدقائق بالنسبة لي ، إذا وجدته سوف لن أتكلم حتى يخرج ) صمت ثم قال (أي قدر هذا ، لولا هذا التأخير لكنت قد اجتزت المحاويل الآن ).
ـ 31 ـ
رجع إبراهيم يفكر في أمر الكتاب وهو ينظر من خلال عجلة التاكسي كانت نوع تويوتا تم استيرادها من اليابان على ان موديلها 82 وهي بالأصل 79 أهداها الرئيس لمن يموت أبنه في جبهات القتال مع عرصة عقار بمساحة مائتين متر ومبلغ مالي وهذه الميزة فقط لمن مات في السنوات الأولى للحرب الطويلة مع إيران إما السنوات الأخيرة فاكتفى الرئيس بملغ مالي فقط لأن القتلى بلغوا حدا لا يمكن تصوره أبدا ، حينما أوقفها اشترط على سائقها أن لا يسير على جهة السيطرة وكان قد عرف من السائق أنه توجد طرق غير ذلك الطريق الذي تقف عليه سيطرة الجيش ، لأنه على عجلة من أمره ، وقبل السائق وسارة العجلة ، قال وهو يفكر( لنفترض أنني لم أعثر على الكتاب ماذا أصنع ، لا.. لابد أن أجده لأن الطرقات كلها مفارز وجيوش ) ، تبسم في نفسه أردف قائلا ، ( نعم مفارز وجيوش وصور كبيرة للرئيس وشحاذين من الأطفال يملئون الطرقات نعم لا يوجد غير هذا ) قال السائق.
ــ سآخذك على طريق المقبرة هو الأقرب وبعيدا عن الازدحام.
ــ المهم لا يوجد ازدحام .
وكان يعني إبراهيم أن لا يوجد جيش يفتش الناس ، تذكر والديه والحقيقة أن إبراهيم كان دوما يتذكرهما خاصة والدته إذ إن والده توفي وهو ما يزال صغيرا جدا ، إذ كان يبلغ عشرة أعوام، وأخر مرة تذكر والدته هي أمس ليلا ، تذكرها كيف كانت تجمع القش وترتب بيت الدجاج وكان هو يحمل عصى بعد أن عاد من المرعى يرتدي دشداشة صفراء ، وهو يركض من غير نعل ويمرح مع الأطفال ويذهبون للسباحة في نهر صغير يسمونه الريان ، حينما سمع تلك الكلمات فكر أن ينزل من العجلة عند القبر لأنه يتذكر أن القبر لم يكن بعيدا عن الشارع العام ، قال للساق ، أنزلني قرب الاستعلامات ، واستدارت العجلة نحو القبور ، لم يكن يعرف إبراهيم أن المقبرة تغيرت تماما لا بسبب التطور الذي اجتاح العالم فوقع عليها شيئا منه بل بسبب المواجهات العسكرية التي جرت هنا بين الثوار وبين الجيش ، لقد جرت هنا أشرس المعارك وقاتل الثوار الجيش ثلاثة أيام ولكن حينما ما دخل الجيش أحدث تغيرات نوعية في المقبرة حيث هدم كل الطرق القديمة ، حتى ذلك الطريق الضيق جدا والذي كان معبد بالإسفلت وهو الطريق الوحيد الذي عبد بالإسفلت على مستوى المقبرة ألغي أيضا وتم فتح شارع عريض على ركام القبور المتهدمة وهو يشق المقبرة باتجاه الاستعلامات الجديدة ، كما وفتحت طرق فرعية كثيرة فما عاد هناك صعود على القبور أو القفز من قبر إلى أخر وأنت تبحث عن قبر حبيب لك أو صديق في القابر القديمة جدا ، فالجيش فتح لك ما يمكن من خلاله أن تبحث دون أي مضايقة وذلك عبر الشوارع الفرعية الكثيرة والتي جعلت المقبرة على شكل قطاعات يمكن السيطرة عليها في حالة حدوث أي تمرد ، كان ينظر إبراهيم إلى القبور أحس أن هناك تغيرات كبيرة حدثت ، قال السائق.
ــ الاستعلامات الجديدة أو القديمة .
قال إبراهيم على نحو السرعة .
ــ التي كانت قبل واحد وعشرون عاما.
ضحك السائق ، قال وهو يضحك .
ــ إذن القديمة.
توقفت العجلة ، قال السائق .
ــ هذه الاستعلامات القديمة
قال إبراهيم.
ــ ولكنها مهجورة؟.
ـــ نعم ، هجرت الآن ، الحكومة أعطت كل دفان قطعة ارض هناك على أن يبنيها مكتب لدفن الموتى.
وأشار السائق بيمينه إلى جهة الشمال ، قال.
ــ من هذه الجهة الاستعلامات الجديدة ، هل تريد أن أوصلك إليها.
ــ لا شكرا.
ذهب السائق وبقى إبراهيم ينظر حوله بشكل مستدير ، كان يمكن أن يرى من ذلك المكان القبة الذهبية للروضة الحيدرية المطهرة ، كانت هناك قبب كثيرة منتشرة بين القبور ، زرقاء وبيضاء وخضراء لكنها ليست مذهبة ، ما يزال إبراهيم يستذكر جهة القبر قال وهو مبتسم.
ــ لأحاول ، أعتقد أنه في هذه الجهة .
حينما وصل إلى المكان الذي يتذكره وجده متنزها قائما بذاته وهناك ألعاب أطفال أمثال المراجيح وملعب تصادم العجلات والأحصنة التي يركب عليها الأطفال وهي ملونة وجميلة ودولاب كبير، كان كبير جدا ، وهناك قطار يمر ثم سرعان ما ينعطف ليتحاشى أحد القبور ، يقال أن رئيس المدينة حاول هدمه ولكنه لم يستطع ، هناك من يقول أن القبر اظهر كرامات وتعطلت كل الجرافات حينما وصلت إليه لذلك تركته الحكومة ورتبته بشكل ينسجم مع جمالية المتنزه ، وهكذا يستمر القطار في دورته حول المتنزه وكان يفصل المتنزه عن الشارع سياج حديدي أخضر اللون ، تبسم إبراهيم ، قال في نفسه ، ( ماذا يجري ، هل يعقل إنني توهمت في المكان) ، مر بجنيه أحد الشيبة ، كان عجوزا مثله وكانت دشداشته رثة تماما ، وضع على كتفيه عباءة سوداء ممزقة إلى حد بعيد وكان يحمل مجموعة من البخور والشموع وماء الطيب ، قال له إبراهيم.
ــ حاج لدي سؤال.
وقف العجوز.
تفضل ولكن بسرعة.
ــ أردت ان أسألك عن القبور التي كانت هنا ، ألم تكن هنا قبور ؟ .
قال العجوز بصوت خافت جدا.
ــ نعم كانت هنا ولكن الحكومة بنت هذا المتنزه بدلاً عنها.
ــ ومتى كان هذا؟.
ــ لا ادري المهم إن القبور تهدمت .
صمت العجوز لحظات كان ينظر إلى سرية عسكرية بدأت تتوغل في المقبرة ، رآها إبراهيم فارتعدت فرائصه أردف العجوز قائلا.
ــ منذ ثمانية أعوام تقريبا.
قال إبراهيم وعينيه صوب الجنود حيث مروا قريبا منه.
ــ ألم يجدوا مكانا غير هذا لينشئوا عليه متنزه؟.
لم يعلق العجوز وذهب ليجلس بعيدا عن إبراهيم ، وضع البخور وماء الطيب على الأرض وهو يستقبل العجلات التي تأتي لغرض زيارة الموتى لعلهم يشترون منه وهو ليس الوحيد في ذلك الطريق بل هناك العشرات وقد وضعوا البخور والماء وبعض الشموع على الأرض وهم يستقبلون العجلات التي تمر عبر ذلك الطريق الذي يشق المقبرة عرضا وكان الصبيان أكثر مبيعا من الشيبة لأنهم كانوا يلاحقون العجلات بينما يظل الشيبة في أماكنهم ، قرأ إبراهيم صورة الفاتحة من خلف السياج الحديدي ثم قال في نفسه ( لأرجع إلى الفندق ، لا أعتقد إنني سأعثر عليهما ثم إن الجيش بدأ بالانتشار).
ـ 32 ـ
حينما وصل إلى باب الفندق رأى مجموعة من الفدائيين أصحاب الملابس السوداء والقناع الأسود منتشرين في الشارع يسألون كل من يمر بهم عن هويته الشخصية ، كان إبراهيم أول مرة يرى فيها جندي يلبس ملابس سوداء ، أندهش كثيرا ، ومع كونهم قد غطوا وجوههم تماما بقناع اسود وتركوا للعينين والأنف فتحات صغيرة ، مع ذلك كله ، شعر إبراهيم إنهم كانوا شبابا ولا يوجد فيهم من تجاوز الثلاثين ، هكذا شعر إبراهيم وهو يراهم يتقافزون هنا وهناك وبيدهم بنادق كلاشنكوف روسي ، أراد أن يدخل إلى الفندق صاح به احدهم.
ــ أنت أيها العجوز الم ترانا ؟.
ــ عفوا ولكن حسبت الأمر لا يعنيني .
ــ لا يعنيك ومن تكون حتى لا يعنيك الموقف الأمني ، هويتك بسرعة؟.
دنى من ذلك الجندي الذي نادى عليه ، قال.
ــ لدي كتاب أطلاق سراح آخذه الأمن أمس ليلا حينما كنت باءتا في هذا الفندق.
ركض الجندي إلى الضابط وهو ممسكا بيد إبراهيم ، صاح وهو يركض .
ــ سيدي وجدنا واحد منهم.
قفز بعض الجنود وهم يركضون ليروا إبراهيم ، قال الضابط.
ــ هويتك أيها العجوز شكلك لا يعجبني يذكرني بالمجرمين.
ــ سيدي كنت هنا في هذا الفندق ليلا وجاء.....
لم يكن الضابط واضعا نقابا على وجهه ، كان شابا أشقر البشرة ورشيق البنية لم يحمل بندقية خلافا للعشرات أصحاب البدلات السود الذين غطوا المنطقة بأكملها ، ولكنه كان يحمل مسدسا بيده قال.
ــ أنا سألتك عن هويتك ولم اطلب منك أن تحكي لي حكاية .
أرتبك إبراهيم بعد أن صفعه جندي من قفاه وهو يقول له .
ــ تكلم ..هذا غير مريح سيدي.
ــ سيدي أدخل معي إلى صاحب الفندق واسأله عن أل...
ــ خذوه إلى العجلة سأريك هناك وأعلمك فروع دينك أيها الجبان.
خرج العجوز ذو العمة البيضاء من باب الفندق كانت الباب صغيرة جدا ولمح الجنود وهم يأخذون إبراهيم إلى العجلة وكانوا يضربونه وشاهد إبراهيم يتكلم معهم وكان يؤشر بيده التي راحت ترتجف ، قدماه كانت ترتجف أيضا، كان يؤشر على صاحب العمة كان يقول لهم ( أسئلوا ذاك الشيخ فهو يعلم ببعض جوانب القصة )، لكن صاحب العمة ما إن رأى ذلك المشهد حتى رجع إلى الفندق مسرعا وظن إبراهيم وهو في العجلة السوداء إنه ذهب ليخبر صاحب الفندق بذلك المشهد من اجل أن يأتي ليخبر الضابط أنه كان نائما في الفندق وقد أخذ كتابه الرسمي أمن الفندق ، هكذا كان يظن إبراهيم والحقيقة خلاف ذلك خلافها تماما ، وكان إبراهيم لا يشاهد أي شيء وهو يجلس في العجلة كانت عبارة عن قفص حديدي مظلم ، سارت العجلة ولم يخرج صاحب الفندق والذي ظل إبراهيم ينتظره مادامت العجلة واقفة .
يتبع إنشاء الله
-
أضحوكة العالم المثالي/ رواية / ح30
أضحوكة العالم المثالي/ رواية / ح30
كتابات - حسين كاظم الزاملي
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
نبارك لكل مضطهد ومظلوم من أبناء شعبنا إعدام طاغية العصر.
ـ 32 ـ
مضت ساعة ونصف على وجود إبراهيم في غرفة الانتظار ، كانت الغرفة واسعة وذات شباكين كبيرين ، نوافذ الشباكين غطاها زجاج مشجر مصفر كما وطليت الجدران بلون نحاسي باهت ويبدو إنها رممت حديثا وكانت الأرض عارية من أي فراش ويظهر أنها لم تكن مخصصة للاعتقال ، جلس إبراهيم في احد أركانها ، قال في نفسه( لو أنهم صبغوا جدران زنزانات الصرح بهذا اللون لكان ذلك أفضل ) كان هنالك ثلاثة شباب ، كانوا جالسين في الجانب الأخر من الغرفة ، أحدهم جلبوه بعد إبراهيم وكان ينزف دما من فمه ، لم يتكلم إبراهيم معهم ، كان يجلس في الزاوية البعيدة عنهم ، كان يفكر في هذه التطورات المفاجئة ، لم يكن حتى هذه اللحظة متشائما كان يقول في نفسه ( على أسوء حالات الموضوع سوف يتصلون بقيادة الصرح أنا حفظت رقم الكتاب ، ولكن لا أعتقد أن هناك ما يستوجب ، هؤلاء الأوغاد إلى أين ذهبوا بالكتاب ) ، حاول أحدهم أن يتكلم معه، قال له.
ــ أين ألقوا القبض عليك؟.
رد عليه إبراهيم وهو في مكانه ،
ــ أنا لست مجرما حتى يلقون القبض علي ، هناك التباس في الموضوع ، نعم هناك التباس فضيع.
الكلمات الأخيرة قالها وهو يهز رأسه ،كانت الأرض باردة لذلك كان يتحرك في جلسته لم يكن مستقرا ، ضحكوا ، حتى ذلك الشاب الذي ينزف دما تبسم حينما سمع كلمات العجوز ، قال أحدهم.
ــ سيرحلوننا إلى المديرية ، هناك يجب أن تثبت انك بريء ، نعم هناك وليس هنا.
ما زال منزويا واضعا رأسه بين ركبتيه ، لاحت له أشياء من الماضي ، ترنح أمامها ، رفع رأسه إذ سمع صوتا خارج الغرفة ، لم يشاهد أي شيء ، أحد السجناء كان منهمكا في فم ذلك السجين ، نظر إبراهيم إلى الباب الحديدية وكان لونها رصاصي ، فكر أن يسأل السجناء عن هذا المكان ، قال.
ــ أين نحن هل تعرفون أين نحن ؟.
أجابه احدهم .
ــ في مركز الفدائيين ، سوف يرحلوننا إلى الأمن قريبا ، لا تخف هنا لا يوجد ضرب يكسر الظهر إنهم يتسلون بنا فحسب ولكن هناك عليك أن تجد من ينقذك و إلا إلى الرضوانية.
فتح الباب بصورة مفاجئة وصاح الجندي الذي فتح الباب ووقف في وسط الغرفة.
ــ أسماؤكم بسرعة.
كان إبراهيم قد نهض أول ما سمع الباب تفتح ، على خلاف السجناء الثلاثة قال .
ــ إبراهيم رشاد.
كتب أسماء الثلاثة الآخرين ومضى بعد أن قفل الباب، لحظات ليرجع أحد الجنود ينادي بصوت غاضب بعد أن فتح الباب.
ــ من فيكم إبراهيم رشاد.
ــ نعم أنا هو.
ــ تعال معي أيها العجوز لنرى من تكون.
ـ 33 ـ
صاح إبراهيم وأصدر أنينا ثم صاح وهو معلق من يديه في السقف وكان ثلاثة من الجنود يضربونه بسلك كهربائي ، كلما تعب أحدهم أعطى السلك إلى الجندي الأخر وهكذا ، وكانوا قد جردوه من ملابسه قبل أن يعلقوه في السقف بذلك القيد الحديدي والذي وضعوه من الخلف وليس من الأمام ، لم يبق غير السروال وكان أحد الجنود يخلع ذلك السروال بين لحظة وأخرى ثم يرجعه ، مرت عشر دقائق ، كانوا يضربونه بقوة ، لم يتركوا شيئا في جسده إلا ومرروا عليه ذلك السلك ، حينما أنزلوه كان جسده قطعة من الدماء لم يستطع أن ينهض كان يئن وكانوا يضحكون ، يضحكون بصوت عال وكانوا يغنون أيضا ( الذي تلدغه الحية بيده يخاف من جرت الحبل ) صاح أحدهم.
ــ إنهض هيا إنهض .
لم يكن يستطيع النهوض ، راح يزحف على الأرض كأنه طفل صغير وجد لعبة فهرع إليها ، ضربه أحدهم بذلك السلك على ظهره ما زال عاري من الملابس إلا السروال المحمر، صاح الأخر.
ــ إنهض إنهض هذا لا ينفع.
حاول أن ينهض وقع ، حاول مرة أخرى وقع أيضا ، اتكأ على الجدار .
قال .
ــ لا أستطيع صدقني لا أستطيع النهوض.
إلا إنه لم يسمعه أحد ، وضع ظهره على جدار الغرفة كانت الغرفة شبيهة بتلك الغرفة التي كان قبل قليل فيها ، ما زال يئن بصوت خفيف ، قال بصوت بالكاد سمعه احدهم.
ــ إنكم ترتكبون خطأ جسيماً.
لكمه الذي سمع الصوت ، لم يعد يتذكر أي شيء كان في وده لو يرجعونه إلى الغرفة العارية من أي فراش لكي يغفوا ، رمى أحدهم علية قدر من الماء البارد ، راحت أسنانه تصطك من البرد ، أخذ جسمه بالارتعاش .قال أحدهم.
ــ الضابط يقول أجلبوه.
أطفئوا في جسمه سجائرهم ثم أخذوه إلى غرفة الضابط ، ليس الضابط الذي جلبه من أمام الفندق بل ضابط الموقع وكان برتبة رائد ، أحد الجنود كان يصطحبه وإبراهيم يجر بأقدامه لم يكن باستطاعته أن يرفع قدمه إلى مستوى الشبر، دخل الغرفة. ضحك الضابط ، قال.
ــ ما هذا أيها العجوز ما زلنا في البداية.. أجلس .. أجلس ، ضعوه هنا ، على الأرض وليس على الكرسي.
كان إبراهيم يريد أن يقول له إنها ليست البداية ولكن اصطكاك أسنانه وارتجاف جسمه لم يسمح له بذلك ، لا زال يئن بصوت خفيف ، قال الضابط وهو يجلس وراء مكتبه .
ــ حقيقة نحن لسنا خبراء بالتحقيق ولكن نتعلم والتجربة مفيدة جدا ، هذه بمثابة الله بالخير والبقية أنت تعرفها ، سأسألك بعض ألأسئلة وأي تأخير سيأخذونك هؤلاء الشباب وسوف أراك غدا لأسألك ما سوف أسألك به الآن فأعتقد من المصلحة لك ولنا أن تجب بدون لف ودوران.
رفع إبراهيم رأسه كان يسمع تلك الكلمات بوضوح تكلم بصوت منخفض تماما.
ــ سيدي هناك التباس والله هناك التباس فضيع.
صاح الضابط وهو يقفز من كرسيه.
ــ أنا اغضب بسرعة وحينما اغضب لا أرى احد أمامي والله أقتلك الآن .. تكلم بصوت عال ..لم أسمعك.
ما زال إبراهيم مقيد من الوراء والقيد قد نزل في يديه احتكاكا حتى بلغ عظم الكف واخذ يحك به مما سبب الآم جسيمة لإبراهيم بسبب إنهم علقوه من القيد ، وكان إبراهيم ينظر إلى مكتب الضابط كان كبيرا جدا وكان من الصاج وخلفه هناك صورة للسيد الرئيس ، صورة قديمة انتشرت أيام كان السيد الرئيس نائبا والحقيقة أنه لم يكن نائبا ، كانت مقدرات الحكومة كلها بيده ، ولكن الصورة تلك ظلت منتشرة ، منتشرة جدا ، راح يشعر أن يديه ليست من جسده ، كان يحس بثقل كفيه وكأنهما متورمتان جدا ، رفع صوته وهو ينظر للمدفأة الزيتية والتي كانت قرب المكتبة الصغيرة والفارغة من أي كتاب ، كان يخشى من ذلك الضابط الذي لا يتجاوز عمره الثلاثون عام .
ــ قلت أن هناك التباس حصل عندكم أنا لست مجرما.
ــ طيب هذا كلام جميل على هذا الصوت سأسألك واجبني.
ــ نعم سيدي.
ــ أسمك ؟.
ــ إبراهيم رشاد محسن ذا النون.
كان هناك جندي قد جلس قرب المكتب يدون الأسئلة والأجوبة وهو ساكت لا يتكلم وكان يكتب فقط.
ــ عنوانك ؟.
ــ بغداد.
ــ وأين في بغداد ، بغداد كبيرة.
ــ الكاظمية.
ـ عملك ؟.
ــ أستاذ في الجامعة المستنصرية.
ــ وجدناك من دون مستمسكات لماذا وأنت أستاذ جامعي حسب قولك ؟.
أخذته نوبة من السعال ، تركه الضابط حتى ينتهي ، تقيء قليلا وكان ثمة دم خرج مع السائل الذي قذفه ، قال الضابط وهو يحرك كرسيه يمينا وشمالا.
ــ أمسحوا هذا .
كان جندي يقف قرب الباب منذ أن ادخلوا إبراهيم وبدأ الضابط يحقق معه ، حينما سمع كلمات الضابط خرج وليرجع بقماشة سوداء ، راح يمسح بها قيء إبراهيم ، أردف الضابط .
ــ هل نرجع يا إبراهيم ؟.
ــ نعم سيدي.
ــ سألتك عن المستمسكات الرسمية لماذا لم تحملها ؟، أيعقل بشر يسير من دون هوية شخصية.
ــ سيدي قلت لك هناك التباس ، فأنا سجين تم أطلاق سراحي أمس ، وكان لدي كتاب إطلاق سراح ، ولما بت في الفندق جاء أمن الفنادق وأخذوا الكتاب معهم وقالوا لي في الصباح ستجده عند صاحب الفندق ولما سألته في الصباح قال لم يرجعوه فذهبت إلى مديرية الأمن ولم يسمحوا لي بمقابلة الضابط الأمني ، هذا كل ما في الموضوع.
ـــ قلت إنك كنت سجينا ؟.
ــ نعم سيدي.
ــ أين ؟.
ــ في الصرح الكبير.
يتبع إنشاء الله.....[/SIZE]
-
أضحوكة العالم المثالي/ رواية / ح30
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
نبارك لكل مضطهد ومظلوم من أبناء شعبنا إعدام طاغية العصر.
ـ 32 ـ
مضت ساعة ونصف على وجود إبراهيم في غرفة الانتظار ، كانت الغرفة واسعة وذات شباكين كبيرين ، نوافذ الشباكين غطاها زجاج مشجر مصفر كما وطليت الجدران بلون نحاسي باهت ويبدو إنها رممت حديثا وكانت الأرض عارية من أي فراش ويظهر أنها لم تكن مخصصة للاعتقال ، جلس إبراهيم في احد أركانها ، قال في نفسه( لو أنهم صبغوا جدران زنزانات الصرح بهذا اللون لكان ذلك أفضل ) كان هنالك ثلاثة شباب ، كانوا جالسين في الجانب الأخر من الغرفة ، أحدهم جلبوه بعد إبراهيم وكان ينزف دما من فمه ، لم يتكلم إبراهيم معهم ، كان يجلس في الزاوية البعيدة عنهم ، كان يفكر في هذه التطورات المفاجئة ، لم يكن حتى هذه اللحظة متشائما كان يقول في نفسه ( على أسوء حالات الموضوع سوف يتصلون بقيادة الصرح أنا حفظت رقم الكتاب ، ولكن لا أعتقد أن هناك ما يستوجب ، هؤلاء الأوغاد إلى أين ذهبوا بالكتاب ) ، حاول أحدهم أن يتكلم معه، قال له.
ــ أين ألقوا القبض عليك؟.
رد عليه إبراهيم وهو في مكانه ،
ــ أنا لست مجرما حتى يلقون القبض علي ، هناك التباس في الموضوع ، نعم هناك التباس فضيع.
الكلمات الأخيرة قالها وهو يهز رأسه ،كانت الأرض باردة لذلك كان يتحرك في جلسته لم يكن مستقرا ، ضحكوا ، حتى ذلك الشاب الذي ينزف دما تبسم حينما سمع كلمات العجوز ، قال أحدهم.
ــ سيرحلوننا إلى المديرية ، هناك يجب أن تثبت انك بريء ، نعم هناك وليس هنا.
ما زال منزويا واضعا رأسه بين ركبتيه ، لاحت له أشياء من الماضي ، ترنح أمامها ، رفع رأسه إذ سمع صوتا خارج الغرفة ، لم يشاهد أي شيء ، أحد السجناء كان منهمكا في فم ذلك السجين ، نظر إبراهيم إلى الباب الحديدية وكان لونها رصاصي ، فكر أن يسأل السجناء عن هذا المكان ، قال.
ــ أين نحن هل تعرفون أين نحن ؟.
أجابه احدهم .
ــ في مركز الفدائيين ، سوف يرحلوننا إلى الأمن قريبا ، لا تخف هنا لا يوجد ضرب يكسر الظهر إنهم يتسلون بنا فحسب ولكن هناك عليك أن تجد من ينقذك و إلا إلى الرضوانية.
فتح الباب بصورة مفاجئة وصاح الجندي الذي فتح الباب ووقف في وسط الغرفة.
ــ أسماؤكم بسرعة.
كان إبراهيم قد نهض أول ما سمع الباب تفتح ، على خلاف السجناء الثلاثة قال .
ــ إبراهيم رشاد.
كتب أسماء الثلاثة الآخرين ومضى بعد أن قفل الباب، لحظات ليرجع أحد الجنود ينادي بصوت غاضب بعد أن فتح الباب.
ــ من فيكم إبراهيم رشاد.
ــ نعم أنا هو.
ــ تعال معي أيها العجوز لنرى من تكون.
ـ 33 ـ
صاح إبراهيم وأصدر أنينا ثم صاح وهو معلق من يديه في السقف وكان ثلاثة من الجنود يضربونه بسلك كهربائي ، كلما تعب أحدهم أعطى السلك إلى الجندي الأخر وهكذا ، وكانوا قد جردوه من ملابسه قبل أن يعلقوه في السقف بذلك القيد الحديدي والذي وضعوه من الخلف وليس من الأمام ، لم يبق غير السروال وكان أحد الجنود يخلع ذلك السروال بين لحظة وأخرى ثم يرجعه ، مرت عشر دقائق ، كانوا يضربونه بقوة ، لم يتركوا شيئا في جسده إلا ومرروا عليه ذلك السلك ، حينما أنزلوه كان جسده قطعة من الدماء لم يستطع أن ينهض كان يئن وكانوا يضحكون ، يضحكون بصوت عال وكانوا يغنون أيضا ( الذي تلدغه الحية بيده يخاف من جرت الحبل ) صاح أحدهم.
ــ إنهض هيا إنهض .
لم يكن يستطيع النهوض ، راح يزحف على الأرض كأنه طفل صغير وجد لعبة فهرع إليها ، ضربه أحدهم بذلك السلك على ظهره ما زال عاري من الملابس إلا السروال المحمر، صاح الأخر.
ــ إنهض إنهض هذا لا ينفع.
حاول أن ينهض وقع ، حاول مرة أخرى وقع أيضا ، اتكأ على الجدار .
قال .
ــ لا أستطيع صدقني لا أستطيع النهوض.
إلا إنه لم يسمعه أحد ، وضع ظهره على جدار الغرفة كانت الغرفة شبيهة بتلك الغرفة التي كان قبل قليل فيها ، ما زال يئن بصوت خفيف ، قال بصوت بالكاد سمعه احدهم.
ــ إنكم ترتكبون خطأ جسيماً.
لكمه الذي سمع الصوت ، لم يعد يتذكر أي شيء كان في وده لو يرجعونه إلى الغرفة العارية من أي فراش لكي يغفوا ، رمى أحدهم علية قدر من الماء البارد ، راحت أسنانه تصطك من البرد ، أخذ جسمه بالارتعاش .قال أحدهم.
ــ الضابط يقول أجلبوه.
أطفئوا في جسمه سجائرهم ثم أخذوه إلى غرفة الضابط ، ليس الضابط الذي جلبه من أمام الفندق بل ضابط الموقع وكان برتبة رائد ، أحد الجنود كان يصطحبه وإبراهيم يجر بأقدامه لم يكن باستطاعته أن يرفع قدمه إلى مستوى الشبر، دخل الغرفة. ضحك الضابط ، قال.
ــ ما هذا أيها العجوز ما زلنا في البداية.. أجلس .. أجلس ، ضعوه هنا ، على الأرض وليس على الكرسي.
كان إبراهيم يريد أن يقول له إنها ليست البداية ولكن اصطكاك أسنانه وارتجاف جسمه لم يسمح له بذلك ، لا زال يئن بصوت خفيف ، قال الضابط وهو يجلس وراء مكتبه .
ــ حقيقة نحن لسنا خبراء بالتحقيق ولكن نتعلم والتجربة مفيدة جدا ، هذه بمثابة الله بالخير والبقية أنت تعرفها ، سأسألك بعض ألأسئلة وأي تأخير سيأخذونك هؤلاء الشباب وسوف أراك غدا لأسألك ما سوف أسألك به الآن فأعتقد من المصلحة لك ولنا أن تجب بدون لف ودوران.
رفع إبراهيم رأسه كان يسمع تلك الكلمات بوضوح تكلم بصوت منخفض تماما.
ــ سيدي هناك التباس والله هناك التباس فضيع.
صاح الضابط وهو يقفز من كرسيه.
ــ أنا اغضب بسرعة وحينما اغضب لا أرى احد أمامي والله أقتلك الآن .. تكلم بصوت عال ..لم أسمعك.
ما زال إبراهيم مقيد من الوراء والقيد قد نزل في يديه احتكاكا حتى بلغ عظم الكف واخذ يحك به مما سبب الآم جسيمة لإبراهيم بسبب إنهم علقوه من القيد ، وكان إبراهيم ينظر إلى مكتب الضابط كان كبيرا جدا وكان من الصاج وخلفه هناك صورة للسيد الرئيس ، صورة قديمة انتشرت أيام كان السيد الرئيس نائبا والحقيقة أنه لم يكن نائبا ، كانت مقدرات الحكومة كلها بيده ، ولكن الصورة تلك ظلت منتشرة ، منتشرة جدا ، راح يشعر أن يديه ليست من جسده ، كان يحس بثقل كفيه وكأنهما متورمتان جدا ، رفع صوته وهو ينظر للمدفأة الزيتية والتي كانت قرب المكتبة الصغيرة والفارغة من أي كتاب ، كان يخشى من ذلك الضابط الذي لا يتجاوز عمره الثلاثون عام .
ــ قلت أن هناك التباس حصل عندكم أنا لست مجرما.
ــ طيب هذا كلام جميل على هذا الصوت سأسألك واجبني.
ــ نعم سيدي.
ــ أسمك ؟.
ــ إبراهيم رشاد محسن ذا النون.
كان هناك جندي قد جلس قرب المكتب يدون الأسئلة والأجوبة وهو ساكت لا يتكلم وكان يكتب فقط.
ــ عنوانك ؟.
ــ بغداد.
ــ وأين في بغداد ، بغداد كبيرة.
ــ الكاظمية.
ـ عملك ؟.
ــ أستاذ في الجامعة المستنصرية.
ــ وجدناك من دون مستمسكات لماذا وأنت أستاذ جامعي حسب قولك ؟.
أخذته نوبة من السعال ، تركه الضابط حتى ينتهي ، تقيء قليلا وكان ثمة دم خرج مع السائل الذي قذفه ، قال الضابط وهو يحرك كرسيه يمينا وشمالا.
ــ أمسحوا هذا .
كان جندي يقف قرب الباب منذ أن ادخلوا إبراهيم وبدأ الضابط يحقق معه ، حينما سمع كلمات الضابط خرج وليرجع بقماشة سوداء ، راح يمسح بها قيء إبراهيم ، أردف الضابط .
ــ هل نرجع يا إبراهيم ؟.
ــ نعم سيدي.
ــ سألتك عن المستمسكات الرسمية لماذا لم تحملها ؟، أيعقل بشر يسير من دون هوية شخصية.
ــ سيدي قلت لك هناك التباس ، فأنا سجين تم أطلاق سراحي أمس ، وكان لدي كتاب إطلاق سراح ، ولما بت في الفندق جاء أمن الفنادق وأخذوا الكتاب معهم وقالوا لي في الصباح ستجده عند صاحب الفندق ولما سألته في الصباح قال لم يرجعوه فذهبت إلى مديرية الأمن ولم يسمحوا لي بمقابلة الضابط الأمني ، هذا كل ما في الموضوع.
ـــ قلت إنك كنت سجينا ؟.
ــ نعم سيدي.
ــ أين ؟.
ــ في الصرح الكبير.
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي / رواية / ح31
أضحوكة العالم المثالي / رواية / ح31
كتابات - حسين كاظم الزاملي
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
(نبارك لكل مضطهد ومظلوم من أبناء شعبنا إعدام طاغية العصر.)
ضحك الضابط ، ضحك كثيرا ، قال وهو يضحك.
ــ هل تسخر مني أيها العجوز القذر ، أين كان هذا السجن اللعين؟.
ــ لا أدري سيدي ولكن كان في صحراء طويلة جدا ليس لها نهاية.
ضحك مرة أخرى ، قال .
ــ هل نحن في سيناريو فيلم مرعب؟.
ــ لا يا سيدي ولكن هذه هي الحقيقة .
قال بغضب.
ــ أي حقيقة يا مجنون، أنا ضابط برتبة رائد وأخي عميد في أمن الموصل وكل أصدقائي مراتب ولم اسمع بهذا الصرح المزعوم ، كم سنة سجنت هناك ؟.
ــ واحد وعشرون عام.
ــ كم ؟.
ــ واحد وعشرون عام.
راح الضابط يتأمل في إبراهيم وهو يرتجف وأسنانه تصطك من البرد والخوف وكان إبراهيم قد بدأ يسمع صراخ أحد السجناء فزداد ارتجاف جسده وكان الضابط يلاحظ أن جسم إبراهيم مليء بالبقع السوداء بقع لا تنتهي من رقبته حتى ألاماكن التي يخفيها السروال ، ومع أن أثار السلك الكهربائي طغت على جسده إلا أن البقع يمكن ملاحظتها ، فكر أن هذا العجوز ربما يكون مجنون وأنهم قد أذوه دون مبرر، سأله.
ــ ما هذه البقع السوداء التي تملأ جسدك ؟.
ــ سيدي إنها النفاضة البشرية.
صاح بصوت فظ وقاسي جدا.
ــ ماذا ؟.
ــ ألنفاضة البشرية.
ــ لماذا تتكلم بلغة لا افهمها.
ــ سيدي لا أدري ، ربما لأنني جئت من عالم مختلف.
قال الضابط بهدوء.
ــ تبدو لي أنك رجل مثقف ولكن أحيانا اشعر أنك مجنون.
ــ سيدي المجنون لا يشعر بنفسه مجنونا ، أنه يرى أن كل الناس مجانين ، أتدري لماذا .
أخذه السعال مرة أخرى ، ولكنه لم يتقيأ هذه المرة ، قال الضابط وهو يبتسم وإبراهيم ما زال يرتجف والسجين ما زال يصرخ بقوة وجسد إبراهيم يزداد ارتجاف كلما ازداد صراخ السجين.
ــ نعم أكمل ، لماذا ؟.
ــ سيدي لأنه يعيش عالمه ، عالمه الخاص جدا، لو دخلت إلى عالمه لحكمت على ما حولك مثله تماما ،إنه تنوع المناخ ، إنك تقول لا يوجد الصرح الكبير بينما أنا أنهيت واحد وعشرون عاما فيه ، ماذا لو كل الذين أراهم مستقبلا يقولون ذلك ، مؤكد سيحكمون علي إنني مجنون وأحكم عليم أنهم يجهلون ذلك المكان.
ــ أيهم أكبر الصرح الكبير أم أبو غريب ؟.
ــ سيدي لم أرى سجن أبو غريب، ولكن أعتقد أن الصرح اكبر بكثير.
ــ وعلى ماذا بنيت اعتقادك؟.
ــ سيدي كنا نراه كبيرا جدا حينما نخرج للأشغال في الشقوق.
ــ وهل كنتم تخرجون للأشغال؟.
ــ نعم سيدي.
ــ ما رأيك بصفحة الغدر والخيانة؟.
ــ ماذا قلت سيدي ؟.
ــ صفحة الغدر والخيانة ألم تسمع بها ، ما رأيك بها وهل للإيرانيين دخل بشعل فتيلها؟.
ــ سيدي لم أسمع بها.
ــ أيعقل انك لم تسمع بها؟.
ــ نعم سيدي لم أسمع بها.
ــ هل كنتم مقطوعين عن العالم الخارجي؟.
ــ نعم سيدي لا نسمع ولا نرى ولا نتكلم هذا هو شعار من يدخل الصرح .
ــ من أوصلك إلى هنا؟.
ــ سيدي شاحنة الخضار ، سائقها من بابل أنزلني هنا وذهب إلى أهله وأعطاني بعض النقود؟.
هز الضابط رأسه وهو ينظر إليه ، لاحت له البقع السوداء مرة أخرى، قال.
ــ لم تقل لي ماذا تعني النفاضة البشرية ؟.
ــ سيدي ممنوع علي أن أتكلم بهذه الأمور.
ــ من منعك؟.
ــ السيد عدي خليفة أمر السجن، وهو الذي وقع كتاب إطلاق السراح ، قال لي إياك أن تتكلم بكلمة واحدة عما يجري هنا و إلا أرجعناك إلى هنا هكذا قال لي وهو يضع يده بيدي ويودعني.
ــ ودعك أيضا يبدو انه كان يحبك.
ضحك الضابط وقال للجندي الذي كان واقفا وبيده القماشة السوداء منتظرا أن يتقيأ إبراهيم.
ــ اذهبوا بهذا المجنون إلى الغرفة ودعوه يرتدي ملابسه ولا تضربوه حتى نرحله إلى مديرية الأمن.
ـ 34 ـ
مرت على إبراهيم ثلاثة أيام في مركز الفدائيين وفي تلك الغرفة العارية من إي فراش والباردة جدا ، كان ينام واضعا رأسه فوق يده وكانت ما تزال برودة الماء الذي القوه عليه في التحقيق تدب في بدنه وكذلك الآم السلك الكهربائي ، وكانت الغرفة قد امتلأت تماما، بحيث أن الزاوية التي كان يجلس فيها إبراهيم وحده ويمد رجليه كيف ما يشاء شاركه بها الآن أربعة متراصين تماما ، أراد إبراهيم ذات مرة أن يعد السجناء إلا إنه لم يفلح ، ذلك لأن السجناء كانوا يتحركون بكثرة، منهم من وقف قرب الباب واضعا أذنه على الباب وكأنه يريد أن يستمع لشيء ما وكان لا يوجد أي صوت غير صيحات السجناء الذين يأخذونهم إلى التحقيق ، هذه الصيحات يمكن أن تسمع بوضوح ، ومنهم من كان يتمشى لخطوات ومنهم من جلبوه من التحقيق قريبا وهو يئن وحده وهناك صبية يبكون ، أخر مرة بلغ في حسابه وهو يعدهم إلى الأربعين ثم فتح أحد الجنود الباب فحدثت حركة سريعة وتقافز السجناء فتاه عليه الحساب ، وكانوا يخرجونهم على شكل وجبات إلى المراحيض ، كل وجبة بها خمسة سجناء وكانوا لا يقيدون السجناء حين يخرجونهم من الغرفة.
لم يذق إبراهيم طعم النوم في تلك الأيام الثلاثة ، وكان إذا أراد أن ينام على يمينه ألمته الجراح التي تركها السلك الكهربائي وهكذا كان يقضي الليل كله يتقلب يمينا وشمالا على تلك الأرض الباردة جدا والتي عبدت بالاسمنت وكان يقول في نفسه ( إذا لم استطع النوم هنا أيعقل أن أستطيع النوم في مديرية الأمن ، لا يعقل هذا ) ، ثم تذكر خديجة على نحو السرعة وتبعثرت أفكاره
حينما دخل الجنود يحملون سجينا وكان شابا في مقتبل العمر ، كانوا يحملونه في بطانية صفراء اللون رثة جدا وكان يرتدي ذلك السجين بنطلون أسود وقميص ذات مربعات بنفسجية قد مزق تماما وكانت سترته قد رميت في الغرفة قبل نصف ساعة ، وراح الحرس ينظف بها بعض بقع الدم التي تقع من السجناء أثناء الاستجواب داخل الغرفة، وكانت يده اليمنى قد كسرت من المرفق وهو يصيح من الألم ، كان إبراهيم متكأ في الزاوية واضعا يديه بين ركبته يراقب ما حوله بهدوء وهناك عجوز أخر قد نام واضعا رأسه على متن إبراهيم الأيمن دون أن يصدر أي شخير وإبراهيم يتحاشى الحركة خشية أن يستيقظ العجوز من نومه وكانوا قد أخذوه إلى التحقيق عصرا وفي ذات اليوم الذي اخذوا به إبراهيم ، وكان إبراهيم يقول في نفسه ( أول مرة أرى عجوزا ينام دون أن يصدر شخيرا ) ألا إن العجوز فتح عينيه ببطء حينما دخل الجنود وهم يحملون ذلك الشاب إذ إنهم صرخوا أول ما دخلوا ( ابتعدوا عن الباب أيها الحيوانات ) حينها صاح الجندي الذي كان يحمل مجموعة من الأوراق بيده ، صاح .
ــ منعم سوادي علي ؟.
وهو أخر شخص لم يذهب إلى التحقيق
ــ نعم .
ــ اقترب هيا تعال .
يتبع إنشاء الله.....
-
وأعتقد هذي الروايه واقعيه على ايام صدام المقبور
ننتظر التكمله بشغف ===
مشكووور أخي العزيز
-
أضحوكة العالم المثالي / رواية / حلقه/32
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
(نبارك لكل مضطهد ومظلوم من أبناء شعبنا إعدام طاغية العصر.)
35 ـ
في هذا الصباح كانت صحيفة الجمهورية قد نشرت خبرا مفاده إن البطاقة التموين الغذائي والتي تملكها كل عائلة وعلى موجبها تعطى العائلة حسب عددها بعض الحصص الغذائية ذات السعر المنخفض ، إن البطاقة الخاصة بعائلة السيد الرئيس قد فقدت فعلى من يعثر عليها تسليما إلى اقرب مؤسسة حكومية ويقول الخبر ان السيد الرئيس إذا لم يحصل على مثل هذه البطاقة ستحرم عائلته من حصتها الشهرية وستتعرض إلى الجوع خلال هذا الشهر ونقلت الصحيفة كذلك إن السيد الرئيس لا يملك إلا بذلة واحدة وكذلك زوجته ولو كان يملك بذلتين لباعة واحدة لكي يشتري بها طحين وبعض مستلزمات الحياة ، كان الضابط المكلف بنقل السجناء من المركز يطالع ذلك ، يطالعه بحسرة وتأسي على عائلة السيد الرئيس وهو يشاهد كيف يتم إخراج السجناء وذلك بضربهم بأعمدة حديدية حتى بوابة العجلة الصغيرة جدا والتي يمكن لها أن تقل خمسة عشرة سجينا في أحسن حالاتها إلا أنهم في هذا الصباح وضعوا بها خمسة وثلاثون سجينا وكان الضابط قد أطلق سراح بعض السجناء لسبب أو لأخر فبقى هذا العدد الذي توجهت به العجلة في حدود الساعة الثامنة وعشر دقائق من صبيحة اليوم الرابع إلى مديرية الأمن والتي تقع على يسار الشارع الرئيسي حينما تتوجه من المدينة قاصدا الكوفة وكانت البناية الجديدة للمديرية مكونة من ثلاثة طوابق وأجزاء أخرى كالسجن الذي يقع في المؤخرة ، وكان للمديرية باب خلفي خاص بدخول وخروج عجلات السجناء وهناك باب أمامي خاص بدخول وخروج رجال المديرية أو لمراجعة الموطنين التي هي قليلة وشحيحة كشحة الماء الذي يجري في نهر الفرات في هذا الصباح ، وكانت تحفها أشجار الكالبتوز الكبيرة جدا وذات اللون الأصفر ، وكعادة البنايات الحكومية هنا وهناك لا بد من صورة كبير للسيد الرئيس وشعارات تتناغم مع طبيعة عمل المؤسسة فمثلا يمكن لك أن تقرأ تحت الصورة التي تصدرت واجهة بناية مديرية الزراعة وكان بها السيد الرئيس يعمل مع بعض الفلاحين والفلاحات وهو يحمل منجلا كبير ( أن النفط قد ينتهي في يوم ما ولكن الزراعة لا تنتهي لأنها باقية ما بقى الإنسان ، وبما إننا بلد زراعي إذا لنولي جل اهتمامانا على الزراعة) ، وكانت صورة السيد الرئيس الخاصة بمديرية الأمن تتوسط الجدار المطل على الشارع العام وكان بها مبتسما وكتب تحتها بخط أحمر (رجال الأمن عيون ساهرة لحماية شعبنا العزيز من مكائد الأعداء ).
دخلت العجلة من الخلف أي من الباب التي يقع مباشرة على شارع فرعي ويوجه مباشرة حي الغدير ، وكان السجناء كأنهم كتلة واحدة ولم يشعروا أنهم دخلوا المديرية إلا حينما توقفت العجلة وفتحت الأبواب وكان معظمهم يتمنى لو تنقلب السيارة فيموتوا وكان هناك العشرات من الشرطة الأمنيين يحملون هراوات وأعمدة خشبية ، كل سجين ينزل من العجلة يأخذونه ضربا إلى الزنزانات القريبة جدا من المكان الذي توقفت فيه العجلة.
دخل إبراهيم إلى الزنزانة وكان قد تعثر فوقع مما جعلهم يضربوه أكثر من غيره إلا انه وصل إلى الزنزانة وكان يركض وكأنه في ريعان شبابه وكان عليه أن يركض كالغزال لأن الشرطة كانوا يتسابقون في ضرب السجناء على أي مكان وكأنهم أمروا أن يقتلوا هؤلاء ، وضعوا معه في الزنزانة خمسة سجناء ثلاثة من القدامى واثنان كانا معه في مركز الفدائيين دخلا بعد أن دخل إبراهيم مباشرة ، قعد في الزاوية كعادته وراح ينظر إلى كل ما هو موجود في الزنزانة ، أنه منظر مألوف بالنسبة لإبراهيم ، سجناء قدامى شاحبين الوجوه ونظراتهم مليئة بالتساؤلات والحيرة يجلسون متباعدين عن بعضهم وكان احدهم يتمشى ، بطانيات نتنة ورائحتها تشم من خارج الزنزانة ، جدران فارغة إلا من بعض الكتابات الصغيرة المنزوية في الأركان ( الجماهير دائما أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة ) ، هذه الكلمة يتذكرها إبراهيم جيدا فقد قراءها في أحدى زنزانات الصرح ذات مرة وكانت غير هذه فهناك زيادة وقد حفظها إبراهيم ، حفظها جيدا ، كانت الكتابة التي قراها في يوم ما في الصرح ( الجماهير دائما أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة وقد تضعف لكنها لن تستسلم) و كانت الكلمة تلك جنب إبراهيم تماما قرائها وهو جالس مع انه لا يقرأ إلا حين تكون الكلمات قريبة منه ، مرة به فكرة هذه الكلمة تمنى لو يعرف قائلها إلا إنه سرعان ما وجد نفسه يفكر في أشياء أخرى ، مثلا فكر في المرحاض قال في نفسه ( لا يوجد مرحاض في الزنزانة كما هو في الصرح ، ربما سيخرجوننا إلى خارج الزنزانة وهذا سيكون مؤلما جدا لأنهم مؤكد سيضربوننا بقسوة ) الباب صبغت بلون رمادي غامق وكأنها طليت قبل ايام وهي تشبه إلى حد بعيد أبواب الزنزانات في الصرح من حيث البوابة الصغيرة المتحركة والتي يمكن أن يرمى الطعام من خلالها ، هي مغلقة دوما ، تفتح أحيانا للسؤال والاستفسار من السجناء عن أسمائهم ، رآها إبراهيم فتذكر كيف كانت هناك ، كانت تغلق لأي سبب تافه ، أحيانا تغلق عام كامل وكان إبراهيم يقول يوم كان في الصرح كيف يعرفون الجنود الذين لم يشهدوا الحادثة إن عقاب هذه الغرفة هو غلق الباب الصغيرة عام ولم يكن يدري أن هناك كارت صغير يعلق جنب الباب مكتوب به كلمة عقوبة ثم كلمة عام أو عام ونصف أو نصف عام وموقعة من رئيس الصرح وبها تأريخ بدأ العقوبة وكان الجندي الذي يعطي الأرزاق أو يفتح الباب لأي سبب يقرأ ذلك فيغلقها ويمضي ، مسك رقبته من الخلف وراح يدلكها بيمينه وهو مغمض العينين فقد تعرضت إلى ضربة قاتله ، قال في نفسه ( كل يوم سيخرجوننا إلى المرحاض وهناك سيضربوننا ، كم سأبقى هنا يا ترى ، لا، أعتقد إن الآمرلا يستحق الأعوام ، ربما شهور ، هذا في أسوء الحالات ، سيتصلون بقيادة الصرح ) صمت قليلا وهو يبتسم ثم أردف وهو يضع رأسه بين ركبتيه ( ولكن هنا يجهلون الصرح يقول لي ذلك الضابط ، إنه رائد وأخوه ضابط كبير وكل أصدقائه ضباط كبار ولم يسمع كلمة الصرح ، أيعقل إنني كنت أحلم ، واحد وعشرون عاما من المرارة والحرمان والخوف كلها حلم ، وإذا كان الصرح حلم فوجودي هنا ماذا يسمى ، لا ادري والله لا ادري ، لعلي أجد هنا من يعرف شيء عن الصرح ، ذلك الشاب الصغير لا يعني نهاية المطاف ، لو بت في المقبرة مع الموتى لكان خير لي والله أن المقبرة أأمن مكان في المدينة ، الله كم كان جميلا لو بت مع الموتى ، لو بت هناك لكنت ألان مع ابنتي وخديجة ، ربما كنا قد خرجنا إلى بساتين دجلة ، وكنت قد بدأت اشرح قصتي ، نعم لابد لسحر وخديجة من معرفة قصتي ، سأقول لها حينما أراها وهي تغفو في حضني وأنا العب في شعرها ، كان قصيرا جدا ، ربما هو الآن طويل وجميل ، سأقول لها أن أباك رأى من العجائب ما لا ترينه في ألف ليلة وليلة ، سأقص عليها كيف كان يمضي الليل وينتهي النهار، لقد كنت مخطئا حينما جاءتني فكرة المبيت في المقبرة وطردتها ، كنت غبيا حينما طردتها ، إلى متى تبقى يا إبراهيم ترتكب الأخطاء ، أما آن الوقت لتصحو ، أجلس من غفلتك أيها المجنون أما ترى إلى أي نقطة وصل العراق ، ما عاد هناك مجال لان يخطأ أمثالي ) رفع رأسه ينظر في وجوه السجناء ، قال له احدهم ، من القدامى وليس من الذين جاءوا معه.
ــ ما بك أيها الأستاذ ، لماذا أنت مطرق ؟.
قال إبراهيم .
ــ لا شيء يا بني.
قال ذلك بنبرة حزينة ، قال الشاب .
ــ هل أذوك في المركز؟.
ــ لا اعتقد أن الأمر طبيعي ، نحن يجب أن نُضرب وهم يجب أن يضربوا ، حينما يكون هناك قانون يحكم الحالة ، فلا عجب من ذلك.
ــ ولكن يجب أن يغير القانون .
ــ القانون لا يغير لابد من ضارب ومضروب قاتل ومقتول ولكن تقصد أن يكون تبادل في الأمكنة والناس والنظريات .
نهض ذلك الشاب وراح يدنو من إبراهيم حتى جلس أمامه راح يبتسم في وجه ، قال.
ــ ما هي قضيتك؟.
أجابه ولكن بعد لحظات من الصمت والتأمل في جدران الغرفة.
ــ قضيتي هي إنني لم استوعب التجربة ، لو استوعبتها لما كنت هنا الآن.
ــ أراك متعب جدا ووجهك اصفر كأنك كنت مع الموتى وخرجت، هل هذا صحيح يا رعد ألا تنظر إلى وجه الأستاذ .. لم تخبرني عن أسمك ما هو أسمك؟.
ــ إبراهيم.
ــ اسمي حمزة وهذا صديقي رعد وهذا صاحب ، نحن هنا منذ شهر ونصف وأنتم ما هي أسمائكم.
أنتبها الشابان اللذان دخلا مع إبراهيم وكانا صامتين خائفين منذ أن دخلا وحتى تكلم معهم ذلك الشاب ، قال أحدهم بصوت متقطع.
ــ جابر.
وأردف الأخر بذات النبرة.
ــ محمد.
أعاد عينيه إلى إبراهيم بعد أن كان ينظر إلى السجينين وهما يتكلمان ، قال.
ــ يقولون إنني مشارك في الغوغاء وكذلك هؤلاء ، لم نعترف ولكن أحد الشرطة قال سينقلوننا إلى الرضوانية ، تعرف إذا نقلونا إلى ..
قطع حديثه وقفز ليضرب صرصرا كبيرا كان قد خرج من ثقب في الجدار الذي يتكأ عليه إبراهيم ، جلس ، ولم يجلس في مكانه بل غيره حيث جلس على يمين إبراهيم وكان يجلس أمامه قبل ذلك ، قال بعد أن استقر في جلسته.
ــ كل يوم اقتل مئة صرصر لعين هذا ونحن في الشتاء فكم اقتل في الصيف ، سيقطعوننا إربا إربا ، هناك لا يوجد شيء أسمه الرحمة ، سمعت من صديق لي إن الحرس الخاص هناك يتراهنون على قنينة خمر أو ليلة مع ساقطة وذلك بضرب السجين بعمود على رأسه أو بصخرة كبيرة .
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي - رحلة الضحايا والمظلومين في عهد الطاغيه صدام
أضحوكة العالم المثالي / رواية / ح32
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
(نبارك لكل مضطهد ومظلوم من أبناء شعبنا إعدام طاغية العصر.)
35 ـ
في هذا الصباح كانت صحيفة الجمهورية قد نشرت خبرا مفاده إن البطاقة التموين الغذائي والتي تملكها كل عائلة وعلى موجبها تعطى العائلة حسب عددها بعض الحصص الغذائية ذات السعر المنخفض ، إن البطاقة الخاصة بعائلة السيد الرئيس قد فقدت فعلى من يعثر عليها تسليما إلى اقرب مؤسسة حكومية ويقول الخبر ان السيد الرئيس إذا لم يحصل على مثل هذه البطاقة ستحرم عائلته من حصتها الشهرية وستتعرض إلى الجوع خلال هذا الشهر ونقلت الصحيفة كذلك إن السيد الرئيس لا يملك إلا بذلة واحدة وكذلك زوجته ولو كان يملك بذلتين لباعة واحدة لكي يشتري بها طحين وبعض مستلزمات الحياة ، كان الضابط المكلف بنقل السجناء من المركز يطالع ذلك ، يطالعه بحسرة وتأسي على عائلة السيد الرئيس وهو يشاهد كيف يتم إخراج السجناء وذلك بضربهم بأعمدة حديدية حتى بوابة العجلة الصغيرة جدا والتي يمكن لها أن تقل خمسة عشرة سجينا في أحسن حالاتها إلا أنهم في هذا الصباح وضعوا بها خمسة وثلاثون سجينا وكان الضابط قد أطلق سراح بعض السجناء لسبب أو لأخر فبقى هذا العدد الذي توجهت به العجلة في حدود الساعة الثامنة وعشر دقائق من صبيحة اليوم الرابع إلى مديرية الأمن والتي تقع على يسار الشارع الرئيسي حينما تتوجه من المدينة قاصدا الكوفة وكانت البناية الجديدة للمديرية مكونة من ثلاثة طوابق وأجزاء أخرى كالسجن الذي يقع في المؤخرة ، وكان للمديرية باب خلفي خاص بدخول وخروج عجلات السجناء وهناك باب أمامي خاص بدخول وخروج رجال المديرية أو لمراجعة الموطنين التي هي قليلة وشحيحة كشحة الماء الذي يجري في نهر الفرات في هذا الصباح ، وكانت تحفها أشجار الكالبتوز الكبيرة جدا وذات اللون الأصفر ، وكعادة البنايات الحكومية هنا وهناك لا بد من صورة كبير للسيد الرئيس وشعارات تتناغم مع طبيعة عمل المؤسسة فمثلا يمكن لك أن تقرأ تحت الصورة التي تصدرت واجهة بناية مديرية الزراعة وكان بها السيد الرئيس يعمل مع بعض الفلاحين والفلاحات وهو يحمل منجلا كبير ( أن النفط قد ينتهي في يوم ما ولكن الزراعة لا تنتهي لأنها باقية ما بقى الإنسان ، وبما إننا بلد زراعي إذا لنولي جل اهتمامانا على الزراعة) ، وكانت صورة السيد الرئيس الخاصة بمديرية الأمن تتوسط الجدار المطل على الشارع العام وكان بها مبتسما وكتب تحتها بخط أحمر (رجال الأمن عيون ساهرة لحماية شعبنا العزيز من مكائد الأعداء ).
دخلت العجلة من الخلف أي من الباب التي يقع مباشرة على شارع فرعي ويوجه مباشرة حي الغدير ، وكان السجناء كأنهم كتلة واحدة ولم يشعروا أنهم دخلوا المديرية إلا حينما توقفت العجلة وفتحت الأبواب وكان معظمهم يتمنى لو تنقلب السيارة فيموتوا وكان هناك العشرات من الشرطة الأمنيين يحملون هراوات وأعمدة خشبية ، كل سجين ينزل من العجلة يأخذونه ضربا إلى الزنزانات القريبة جدا من المكان الذي توقفت فيه العجلة.
دخل إبراهيم إلى الزنزانة وكان قد تعثر فوقع مما جعلهم يضربوه أكثر من غيره إلا انه وصل إلى الزنزانة وكان يركض وكأنه في ريعان شبابه وكان عليه أن يركض كالغزال لأن الشرطة كانوا يتسابقون في ضرب السجناء على أي مكان وكأنهم أمروا أن يقتلوا هؤلاء ، وضعوا معه في الزنزانة خمسة سجناء ثلاثة من القدامى واثنان كانا معه في مركز الفدائيين دخلا بعد أن دخل إبراهيم مباشرة ، قعد في الزاوية كعادته وراح ينظر إلى كل ما هو موجود في الزنزانة ، أنه منظر مألوف بالنسبة لإبراهيم ، سجناء قدامى شاحبين الوجوه ونظراتهم مليئة بالتساؤلات والحيرة يجلسون متباعدين عن بعضهم وكان احدهم يتمشى ، بطانيات نتنة ورائحتها تشم من خارج الزنزانة ، جدران فارغة إلا من بعض الكتابات الصغيرة المنزوية في الأركان ( الجماهير دائما أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة ) ، هذه الكلمة يتذكرها إبراهيم جيدا فقد قراءها في أحدى زنزانات الصرح ذات مرة وكانت غير هذه فهناك زيادة وقد حفظها إبراهيم ، حفظها جيدا ، كانت الكتابة التي قراها في يوم ما في الصرح ( الجماهير دائما أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة وقد تضعف لكنها لن تستسلم) و كانت الكلمة تلك جنب إبراهيم تماما قرائها وهو جالس مع انه لا يقرأ إلا حين تكون الكلمات قريبة منه ، مرة به فكرة هذه الكلمة تمنى لو يعرف قائلها إلا إنه سرعان ما وجد نفسه يفكر في أشياء أخرى ، مثلا فكر في المرحاض قال في نفسه ( لا يوجد مرحاض في الزنزانة كما هو في الصرح ، ربما سيخرجوننا إلى خارج الزنزانة وهذا سيكون مؤلما جدا لأنهم مؤكد سيضربوننا بقسوة ) الباب صبغت بلون رمادي غامق وكأنها طليت قبل ايام وهي تشبه إلى حد بعيد أبواب الزنزانات في الصرح من حيث البوابة الصغيرة المتحركة والتي يمكن أن يرمى الطعام من خلالها ، هي مغلقة دوما ، تفتح أحيانا للسؤال والاستفسار من السجناء عن أسمائهم ، رآها إبراهيم فتذكر كيف كانت هناك ، كانت تغلق لأي سبب تافه ، أحيانا تغلق عام كامل وكان إبراهيم يقول يوم كان في الصرح كيف يعرفون الجنود الذين لم يشهدوا الحادثة إن عقاب هذه الغرفة هو غلق الباب الصغيرة عام ولم يكن يدري أن هناك كارت صغير يعلق جنب الباب مكتوب به كلمة عقوبة ثم كلمة عام أو عام ونصف أو نصف عام وموقعة من رئيس الصرح وبها تأريخ بدأ العقوبة وكان الجندي الذي يعطي الأرزاق أو يفتح الباب لأي سبب يقرأ ذلك فيغلقها ويمضي ، مسك رقبته من الخلف وراح يدلكها بيمينه وهو مغمض العينين فقد تعرضت إلى ضربة قاتله ، قال في نفسه ( كل يوم سيخرجوننا إلى المرحاض وهناك سيضربوننا ، كم سأبقى هنا يا ترى ، لا، أعتقد إن الآمرلا يستحق الأعوام ، ربما شهور ، هذا في أسوء الحالات ، سيتصلون بقيادة الصرح ) صمت قليلا وهو يبتسم ثم أردف وهو يضع رأسه بين ركبتيه ( ولكن هنا يجهلون الصرح يقول لي ذلك الضابط ، إنه رائد وأخوه ضابط كبير وكل أصدقائه ضباط كبار ولم يسمع كلمة الصرح ، أيعقل إنني كنت أحلم ، واحد وعشرون عاما من المرارة والحرمان والخوف كلها حلم ، وإذا كان الصرح حلم فوجودي هنا ماذا يسمى ، لا ادري والله لا ادري ، لعلي أجد هنا من يعرف شيء عن الصرح ، ذلك الشاب الصغير لا يعني نهاية المطاف ، لو بت في المقبرة مع الموتى لكان خير لي والله أن المقبرة أأمن مكان في المدينة ، الله كم كان جميلا لو بت مع الموتى ، لو بت هناك لكنت ألان مع ابنتي وخديجة ، ربما كنا قد خرجنا إلى بساتين دجلة ، وكنت قد بدأت اشرح قصتي ، نعم لابد لسحر وخديجة من معرفة قصتي ، سأقول لها حينما أراها وهي تغفو في حضني وأنا العب في شعرها ، كان قصيرا جدا ، ربما هو الآن طويل وجميل ، سأقول لها أن أباك رأى من العجائب ما لا ترينه في ألف ليلة وليلة ، سأقص عليها كيف كان يمضي الليل وينتهي النهار، لقد كنت مخطئا حينما جاءتني فكرة المبيت في المقبرة وطردتها ، كنت غبيا حينما طردتها ، إلى متى تبقى يا إبراهيم ترتكب الأخطاء ، أما آن الوقت لتصحو ، أجلس من غفلتك أيها المجنون أما ترى إلى أي نقطة وصل العراق ، ما عاد هناك مجال لان يخطأ أمثالي ) رفع رأسه ينظر في وجوه السجناء ، قال له احدهم ، من القدامى وليس من الذين جاءوا معه.
ــ ما بك أيها الأستاذ ، لماذا أنت مطرق ؟.
قال إبراهيم .
ــ لا شيء يا بني.
قال ذلك بنبرة حزينة ، قال الشاب .
ــ هل أذوك في المركز؟.
ــ لا اعتقد أن الأمر طبيعي ، نحن يجب أن نُضرب وهم يجب أن يضربوا ، حينما يكون هناك قانون يحكم الحالة ، فلا عجب من ذلك.
ــ ولكن يجب أن يغير القانون .
ــ القانون لا يغير لابد من ضارب ومضروب قاتل ومقتول ولكن تقصد أن يكون تبادل في الأمكنة والناس والنظريات .
نهض ذلك الشاب وراح يدنو من إبراهيم حتى جلس أمامه راح يبتسم في وجه ، قال.
ــ ما هي قضيتك؟.
أجابه ولكن بعد لحظات من الصمت والتأمل في جدران الغرفة.
ــ قضيتي هي إنني لم استوعب التجربة ، لو استوعبتها لما كنت هنا الآن.
ــ أراك متعب جدا ووجهك اصفر كأنك كنت مع الموتى وخرجت، هل هذا صحيح يا رعد ألا تنظر إلى وجه الأستاذ .. لم تخبرني عن أسمك ما هو أسمك؟.
ــ إبراهيم.
ــ اسمي حمزة وهذا صديقي رعد وهذا صاحب ، نحن هنا منذ شهر ونصف وأنتم ما هي أسمائكم.
أنتبها الشابان اللذان دخلا مع إبراهيم وكانا صامتين خائفين منذ أن دخلا وحتى تكلم معهم ذلك الشاب ، قال أحدهم بصوت متقطع.
ــ جابر.
وأردف الأخر بذات النبرة.
ــ محمد.
أعاد عينيه إلى إبراهيم بعد أن كان ينظر إلى السجينين وهما يتكلمان ، قال.
ــ يقولون إنني مشارك في الغوغاء وكذلك هؤلاء ، لم نعترف ولكن أحد الشرطة قال سينقلوننا إلى الرضوانية ، تعرف إذا نقلونا إلى ..
قطع حديثه وقفز ليضرب صرصرا كبيرا كان قد خرج من ثقب في الجدار الذي يتكأ عليه إبراهيم ، جلس ، ولم يجلس في مكانه بل غيره حيث جلس على يمين إبراهيم وكان يجلس أمامه قبل ذلك ، قال بعد أن استقر في جلسته.
ــ كل يوم اقتل مئة صرصر لعين هذا ونحن في الشتاء فكم اقتل في الصيف ، سيقطعوننا إربا إربا ، هناك لا يوجد شيء أسمه الرحمة ، سمعت من صديق لي إن الحرس الخاص هناك يتراهنون على قنينة خمر أو ليلة مع ساقطة وذلك بضرب السجين بعمود على رأسه أو بصخرة كبيرة .
يتبع إنشاء الله.....
-
أضحوكة العالم المثالي/ رواية - ح33//(نأسف لحدوث التأخير في نشر حلقات الرواية
أضحوكة العالم المثالي/ رواية - ح33
كتابات - حسين كاظم الزاملي
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
(نأسف لحدوث التأخير في نشر حلقات الرواية)
صمت قليلا ثم أردف.
ــ هل تعلم كيف ذلك ، أنا سأقول لك ، يضعون سجينين على الأرض هكذا.
ومد الشاب جسمه على الأرض ، ثم قال .
ــ هكذا نعم هكذا ويأتون بالمتراهنين فيقول أحدهم للأخر بكم من الضربات تقتل هذا القرد ، هناك يسموننا قرود ، لا تتضجروا من هذه التسمية أيها الأخوة الأعزاء ، هناك نظرية تقول إن أجدادنا القدامى جدا كانوا قرود .
ضحك الشاب وهو ينطق بالكلمات الأخيرة ، راح يكمل .
ــ فيقول له صاحبه بضربة أنا اقتل هذا القرد ثم يقول الثاني بضربتين اقتل هذا القرد ، فيضربونهم على رؤوسهم ، كلٌ يضرب القرد الذي إختاره حينها يذهب الخاسر بالجماعة إلى الملهى ليخسر الرهان هناك.
قال أحد السجناء القدامى.
ــ لقد خسرنا المعركة وعلينا تحمل ضريبية ذلك ، إنها ضريبة قاسية جدا ولكن علينا ان نقتنع بذلك ، لي شقيق تم اعتقاله واعتقد انه أعدم مع الذين أعدموا في فندق السلام.
قال إبراهيم بنبرة واطئة.
ــ ولماذا في رأيك خسرتم المعركة.
ــ لم تكن لدينا أي قيادة ، كنا لا نعرف ماذا نصنع.
ــ حينما كنت مسجونا هناك ، كنت أسمع عن رجال دين ثوريين يقودون الناس ، يا ترى ألم يشاركوا معكم ، حسب علمي أن الدين يحرك الناس نحو التحرر .
ضحك صاحب وشاطره رعد بينما لا يزال حمزة جالسا قرب إبراهيم قال وهو ينهض.
ــ نعم كانوا هنا ، ولكنهم ماتوا ، كلهم ماتوا لم يبقى منهم أحد ، قتلهم سكوت هؤلاء الذين سكتوا عنا في شعبان ، هؤلاء الرجال الذين تتحدث عنهم لو كانوا معنا لما حدث هذا ولما أغتصبت أخواتنا أمام أعيننا ، لا يوجد أحد منهم وحتى أولئك الذين في الخارج ، كانوا يزعقون قادمون قادمون ولم يأتي أحد منهم ، لابد ان نحاكمهم في يوم ما وذلك لأنهم خذلوا شعبهم .
هز إبراهيم رأسه ، كان يفكر في كلمات ذلك الشاب ، كان يتكلم بحرقة وأحيانا تخرج من عينيه بعض الدموع ، تذكر أنه التقى في زنزانات الصرح عدد كثير من رجال الدين وقد سمع في يوم ما أحد الجنود يحدث جنديا من الحرس يقول له ( أخذته إلى ممر الرعب ) وبعد عام تقريبا عرف إبراهيم ان ذلك الممر كان مخصص لرجال الدين الثوريين ، خصصه شمران في أول عام أتى به إلى الصرح ، قال في نفسه ( تذكرتهم الآن ، ألله كم كانوا رائعين ، كانوا يهونون علينا الصعاب ، الشيخ عارف ، سيد محمد ، نعم تذكرته جيدا الآن ، كان يقول دوما لا ينبغي على العالم الرباني ان يسكت على الظالم وهو يراه يسلب قوت الفقراء ويبدد ثروات الشعب ويسفك الدماء ويستحل الفروج ، ولو سكت ذلك العالم يكون أشد عقابا عند الله من الظالم نفسه ، على العالم الرباني أن يتكلم وإلا فليس بعالم وعليه يقع وزر من يضل بسكوته وتقاعسه ) تبسم إبراهيم في نفسه ، صمت قليلا ثم أردف قال ومازال الحديث في روحه ( يرحمك الله يا سيد محمد ، لقد ذكرني هذا الشاب بك لقد مر سنوات كثيرة وراح كثير مما كنت أتذكر ، يرحمكم الله جميعا اعتقد ان شمران أجهز عليكم ).
صاح الشاب .
ــ إيه أيها العجوز أين ذهبت؟.
قال إبراهيم وهو يبتسم.
ــ لا ، لازلت معكم ولكن من الحكمة ان لا نتكلم هنا في مثل هذه الكلمات وبصوت مرتفع.
قال الشاب.
ــ لا توجد لاقطات إنهم زرعوا الشوراع والبيوت بلاقطات بشرية فهم لا يحتاجون إلى هذا الشيء ، في كل بيت هناك لا قطة تنقل الأخبار ، إنهم يعلمون بكل شيء عنك ، حتى يعلمون كم ذبابة دخلت بيتك ، إنهم يعرفون كل شيء عنا ، لقد واجهوني بحقائق لا يعرفها إلا المقربون من أصدقائي.
صمت ، أطرق قليلا وهو يمسح قطرات دمع من عينيه ، حرك رأسه بتأسي ، قال بنبرة شجية جدا.
ــ لماذا أخاف لقد اعتقلوا شقيقاتي وكنت هاربا في الصحراء ، واحدة لا يتجاوز عمرها الرابعة عشر ، تصور أربعة عشرة.
صمت وهو ينظر في وجوه السجناء حيث تحركت أجسامهم عن غير شعور، وكان ثمة حرس بدئوا يدخلون في الممر ويمكن سماع أصوات أحذيتهم بوضوح وكذلك أصوات المفاتيح تتراقص في أيدي أحدهم حيث راحوا يفتحون الباب الصغيرة لأول زنزانة في الممر.
ـ 36 ـ
قال جندي الذي فتح البوابة الصغيرة ونظر في وجوه السجناء وكانت حوالي خمس ساعات قد مرت على وجودهم في المديرية .
ــ من فيكم إبراهيم رشاد ذ النون .
ــ نعم سيدي
ــ أقترب ، أقترب ، أفتح الباب ، هذا هنا.
حينما كان الجنود يفتحون الباب في المركز كان إبراهيم يقف دون شعور ولما أعاب عليه السجناء ذلك قال لهم ممتعضا.
ــ أنكم لا تفهمون أي شيء.
وحتى هنا ، أي في مديرية الأمن قال ذلك لمن أعاب علي النهوض ، قال لهم ( إنني أعرف ماذا اصنع الرجاء لا تتدخلوا في هذا الموضوع ) ، سأله أحدهم وهو الذي قص ماذا يمكن أن يحدث في الرضوانية والذي تحدث عن اعتقال شقيقاته.
ــ لماذا يكون الشاب أشجع من العجوز ؟.
قال له إبراهيم وهو يبتسم.
ــ هذا ليس ثابتا عندي ولكن على أي حال حينما تكون عجوزا ستفهم ذلك ، أن كثيرا من الأسئلة أجوبتها لا تكمن في الكلمات وإنما في الزمن ، لو يدخل الزمن كعامل رئيسي في تفكيرنا لحلت كثير من مشاكلنا ، ومنها هذا الالتباس أيهم أشجع الشاب أم العجوز مع أنني رأيت شيبة أشجع بكثير من بعض الشباب ، أعتقد أن الموضوع لا يتعلق بالعمر بقدر تعلقه على خلفيات متعددة ينبغي أن تؤخذ بنظر الأعتبار.
لم تكن هناك مسافة شاسعة بين السجن والطوابق الثلاثة حيث ضباط والتحقيق ، كانت هناك فسحة صغيرة بحجم كرة الطائرة مرتين ، يستعرض فيها الجنود صباحا ومساءا وحيث يقام التعداد الصباحي والذي يشرف عليه بعض الضباط الكبار ، وأحيانا يمرح بها الجنود وذلك بأن يلعبوا كرة القدم أو الطائرة عصرا حينما لا يكون هناك إنذار وهي معبدة بالإسفلت وعليها تقع فتحات التهوية الصغيرة لخمسة عشر زنزانة من بينها كانت زنزانة إبراهيم ورقمها ستة ، إما الخمس عشرة الأخرى فتقع على مكشوفة ترابية عرضها ثلاثة أمتار يحيطها سياج بارتفاع أربعة أمتار وضعت فوقه على نحو المتر أسلاك شائكة ، وكان بعض السجناء الجريئين جدا يصعدون ، أحدهم على ظهر الأخر ليروا من خلال الكوة ماذا في الخارج ولكنهم لم يكن باستطاعتهم أن يروا أي شيء .
كل سجين يخرج يقيد إلى الوراء وتعصب عينيه ثم يقوده جندي إلى الأعلى حيث يجلس مقدم رأفت ونقيب كريم وهما يشرفان على الملف السياسي في هذه المديرية ، حينما وصل أجلسوه في أحدى الأبواب ، كان إبراهيم لا يرى أي شيء ، أي شيء ، لأنه كان معصب العينين ، لقد تسارعت نبضات قلبه ليس بسبب السلم الطويل ولكن بسبب الصراخ الذي كان ابراهيم قد بدأ بسماعه منذ أن وضع قدمه على السلم وكان الجندي بين لحظة وأخرى يفشر عليه ويطلب منه الإسراع.
ــ إنهض أيها العجوز هيا إنهض.
نهض إبراهيم وسار عدة خطوات ثم استدار به الجندي إلى اليمين حيث أدخله إلى غرفة أحس إبراهيم إنها كانت دافئة جدا ، قال الجندي الذي أدخل إبراهيم.
ــ سيدي هذا إبراهيم رشاد ذ النون.
ــ طيب افتح عينيه وحول قيده إلى الإمام .
ــ نعم سيدي.
يتبع إنشاء الله.....