..صناعة البيئة الثقافية للخوف.....د. فؤاد إبراهيم ...
[align=center]صناعة البيئة الثقافية للخوف [/align]
د. فؤاد إبراهيم Email: [email protected]
ما هي ثقافة الخوف، وكيف غدت موضوع بحث من قبل طيف واسع من علماء الانثروبولوجيا والسيسيولوجيا والسياسة؟ إننا، دون ريب، نقع في خضم ظاهرة ملتهبة ترتطم بمجمل حركتنا اليومية وانشغالاتنا الذهنية والنفسية. وإذ لا يمكن أن نفسّر هذه الظاهرة ما لم نعتقد جزماً بوجودها، ولكي نمتلك فكرة عامة عنها لابد من تعريف مكوّناتها، فإن أول سؤال يدهمنا هو كيف يتحول الخوف الى ثقافة؟
الثقافة، بحسب تعريف ادوار برينت تيلور عام 1871 في كتابه (الثقافة البدائية)، هي (مجموعة معقّدة تشمل المفاهيم والمعارف والمعتقدات والفنون والقوانين والاخلاق والاعراف وجميع القدرات الاخرى والعادات التي يكتسبها الانسان بوصفه عضواً في المجتمع)[1]. فالثقافة، كما يرى فرويد، ذات طبيعة شمولية تنصبُّ في الانسان بكامله[2]. وهذا يلفت الى أن ليس هناك ثقافة فردية يمكن إنتاجها خارج فضاء المجتمع، فالانسان هو "حيوان اجتماعي" بحسب ارسطو.
أما الخوف فهو أداة يستشعر الفرد عبرها بالمعاناة في القلب، ويستدمجها في نفسه، ويستوعبها. إنه، بكلمات أخرى، قناة الطاقة التي تسلك المعاناة عبرها الطريق الى القلب البشري. يبقى، أن تأثيرها لايقع ظرفياً، ولكنها متراكمة في الخاصيّة، فهي لا تتم لمرة أو دفعة واحدة ولكنها تتكشف بصورة ثابتة، كما يذهب الى ذلك ثيودور أدورنو.
ثقافة الخوف مصطلح مقترح في العديد من الطروحات السيسيولوجية التي تجادل بأن مشاعر الخوف والقلق تهيمن في الخطاب والعلاقات العامة المعاصرة، وتتغير بحسب علاقة أحدهما بالآخر كأفراد وكجماعات إجتماعية. وبالرغم من أن كل هذه الطروحات تقدّم حسابات مختلفة لمصادر وتداعيات الاتجاه الذي يرومون التوسل به لوصف وتحليل هذه الحالة، فإن جميع هذه الطروحات تتقاسم المطلب الجوهري وهو أن ثقافة الخوف تعدُّ، الى حد ما، ظاهرة جديدة بدلالات شديدة الاهمية والخطورة. بيد أن ما يلزم التشديد عليه، أن الخوف كحالة عاطفية وأنتولوجية غريزية أصبح رفيقاً حاضراً بسطوة في حياتنا اليومية. وكما يقول الشاعر نزار قباني:
ليس جديداً خوفنا
فالخوف كان دائماً صديقنا
من يوم كنا نطفة
فى داخل الأرحام
فقد باتت الارض التي نقيم عليها كوكب الخوف الملتهب بظواهر مثيرة للفزع، بعد أن أخذت أشكالاً إجتماعية وسياسية معقدة تتمظهر، على سبيل الامثلة، في مجتمع المخدّرات، ومجتمع المباحث والمخابرات، ومجتمع لوردات الحرب وباعة أسلحة الدمار الشامل.. فثمة تجسيدات لعالم الخوف الذي يفرز أشكاله المنظّمة ويشيع ثقافته في مسامات البنى المجتمعية.
يحدد هيدغر السمة الخاصة للخوف في (تحديد ما يخاف أمامه وما يخاف من أجله)، فالإنسان الخائف والقلق يجد نفسه (مكبّلاً) بما يشعر بنفسه فيه وفي مسمّاه لينقذ نفسه أمام هذا ـ أمام (هذا) الشيء المتعين، حيث لا يشعر بالأمان أمام ماهو (آخر) أي إجمالاً يفقد صوابه[3].
هذا التصور للخوف، وهو موضوع دراسات علمية، نجده أحياناً مبهماً في منشأه وأصل وجوده، فليست مصادر الخوف واقعية أحياناً، وبحسب باري جلاسنر في (ثقافة الخوف) إننا نخاف من أشياء هي في الغالب غير ضارة، ولكن خطورة الخوف تكمن في ما ينجبه من تصورات متشائمة تمسك بخناق مواقفنا، بما تجعلنا في حالة عجز تام عن حل مشكلاتنا[4]..
خصائص ثقافة الخوف
1ـ أنها ذات طابع جماعي، فلا يقصد بها فرد ولا جماعة دون غيرها، بل هي بمثابة حزم الهواجس المتفشية في كل قلب ينبض وفي كل روح تخفق. فثقافة الخوف أخذت معنى جماعياً ولم تعد ذات طابع فردي، كما كانت النظرة الى مفهوم الثقافة حتى نهاية القرن الثامن عشر. تماماً كما لم يعد الخوف مجرد إحساس فردي مستقل يضطرم غريزياً لمواجهة أخطار مباشرة تتربص بالوجود البيولوجي للفرد، بل بات مندغماً في نسيج الوعي الجماعي للبشر، وتتجلى تمظهراته في أنماط العلاقة السائدة، ولغة التخاطب اليومية، ومنهجية التعامل بين مكوّنات المجتمع. فهنا تضمحل كينونة الفرد لتنصهر في الكيان المجتمعي الكبير الذي يقع تحت وطأة ماكينة ثقافة الخوف الطاحنة، يتعرض الافراد، خلال عملها، لمسخ شامل للهوية، والتفكير، والمشاعر والقيم الانسانية، ليكون الخوف وحده قبطان السفينة، والموت حارساً عليها، والمجتمع مجرد كتلة بشرية مخطوفة على متنها.
فالفرد يعاد صياغته من خلال دمجه في المجتمع الخاضع تحت تأثير إشعاعات ثقافة الخوف، فلا يعود فرداً سوّياً مستقلاً بل هو جزء من مسخ جماعي، يكتسب خصائص المجتمع الممسوخ، يفكِّر كل فرد فيه، كما يلبس وينطق ويهجس، بطريقة واحدة، إنها أوركسترا الخوف التي تعزف لحناً موحداً لخدمة صانعيه.
في السياسة، يتولّد تواطىء عفوي بين المجتمع والسلطة السياسية على ممليات ثقافة الخوف، والتي تؤول مفضياتها الى تركين أسس الاستبداد بكافة أشكاله المفزعة.. ثقافة تتفشى في البيت، والشارع، ورياض الاطفال، والمدارس والجامعات، والجوامع، والمؤسسات التجارية والاعلامية، والأندية، وشبكات النخب الفكرية والصفوة الاجتماعية، وصولاً الى القيادة السياسية. فمطلوب من الجميع أن يمتثل لعبادة الخوف على طريقته، طالما أن العبادة ستكون خالصة لوجه السلطان المستبِّد، تحقيقاً لمقولة الناس على دين ملوكها.
وكما يقول نزار قبّاني:
هذا له زاوية يومية..
هذا له عمود..
والفارق الوحيد فيما بينهم..
طريقة الركوع..
والسجود..
2ـ أنها طغيانية، ويراد منها تحقيق درجة اكتساحية قصوى في التغلغل والتداول اللحظي، بحيث تستحوذ بصورة دائمة ومتصلة على مجمل الانشغال الذهني والمشهد العام للحياة.
ويتكىء نجاح الخوف ليس على القدرة في التعبير عنه فحسب، ولكن أيضاً على كيف يعبّر عن الهواجس الثقافية العميقة. مثال ذلك الحرب في العالم، فقد كانت ناجحة لأنها مدمغة في مخاوف الشعب سابقاً من النازية والحرب العالمية الثانية، وراهناً من الارهاب وبخاصة عقب حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
فقد بدا واضحاً وفي سياق إنفجار المخاطر، أن أوروبا عاشت في يناير 2001 تحت تأثير الهلع مما يعرف بحرب البلقان، فيما كان يعتقد قسم من شعوب أوروبا بوجود رابط ما بين ذخائر اليورانيوم المنضّب التي سقطت خلال القصف على يوغسلافيا وأنواع الأعراض المرضية التي عانت منها قوات الناتو العاملة في تلك المنطقة، بالرغم من أن الخطر لم يكن سوى نظرياً، فيما لا دليل مادي عليه، الا أنه إستعاد الصورة المرعبة للحرب النووية[5].
واذا كنا، فيما مضى، نجهل الكثير عن الكوارث الطبيعية والبشرية بفعل ضعف التواصل، فإن الثراء الاتصالي الذي حققه الانترنت والتلفزيون الفضائي ينقل اليناً معلومات عن دفعات هائلة من الجرائم الفردية والمنظمة وعمليات السطو والكوارث بكافة أشكالها بصورة لحظية.
إن إنتاج الخوف، عبر قنوات البث الاعلامي، يهيمن على مجمل فروع الصناعة، فقد أصبح الخوف مفتاحاً لتكنولوجيا السلطة. وفي الوقت نفسه، فإن سيرورة انتاج الخوف قد غيّرت مفهومنا إزاء الخطر وكذا طريقتنا في التعامل مع الخوف. وفيما يبدو بجلاء، فإن آلة الخوف في حالة إزدهار، فالجيل المتواصل من مصادر ومضامين الخوف قد منحها وضع السيرورة التاريخية، المشفوعة بطلب متحوّل لوسيلة فهم، وسيطرة ومحو للاخطار الجديدة.
يعتقد باري جلاسنر بأن أي تحليل لثقافة الخوف يتجاهل الاعلام الخبري يعتبر ناقصاً. إن تأثير وسائل الاعلام (التلفزيون الفضائي بدرجة أساسية) مازال ضارياً بحيث يجعلنا نشعر بأننا نعيش في عالم خطر للغاية، ويجب علينا حماية أنفسنا بالسلاح، وتكثيف الرقابة البوليسية والاعتقالات، والتي هي من شأنها إشعار الناس بعدم الامن، حين يرون كثافة تواجد رجال الامن والشرطة بزيهم العسكري في الشوارع العامة. ويوجّه جلاسنر أصابع الإتِّهام الى وسائل الاعلام الاميركية في تغذية ثقافة الخوف، والتي تسعى الى استقطاب جمهور المشاهدين والقراء من خلال تقديم أحداث تجمع بين الرعب والاثارة.
إن تفشى مشاعر الهلع لدى المواطنين الاميركيين يمنع المؤسسات الحاكمة والمواطنين من قبول فكرة تصحيح أية اخطاء مرتبطة بالمخاوف التى قد لا تستند الى أي أساس، بل إن انتشار الخوف أدى الى اجهاض الجهود الرامية الى استصدار قوانين لمنع إنتشار الاسلحة النارية.
وحتى على المستوى الاقتصادي، فإن صناعة الخوف وترويجه باتا تجارة مربحة للغاية بالنسبة لبعض المؤسسات الاقتصادية والسياسية، بل إن وجود بعض أقسامها مرتبط بإستمرار حالة الهلع، كما هو شأن عقد صفقات الاسلحة الضخمة، واعلان حالة الطوارىء والاحكام العرفية التي تشكل بحد ذاتها بيئة خصبة لمناشط تجارية موصولة بمنسوب مرتفع من ثقافة الخوف.
من منظور بعض الجماعات الدينية، فإن تفشي ثقافة الخوف يعيد إحياء الافكار المسيائية السكاتولوجية التي تبشِّر بظهور المهدي المنتظر والمسيح عيسى بن مريم، حيث أن العقيدة الشيعية التقليدية تقوم على أن ظهور المهدي يؤول الى (ملء الارض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً)، كمقدمة لانقشاع إشعاعات الخوف، وتبدّد سحب الكآبة عن كوكبنا. يمهّد لهذا الظهور عمل دؤوب تقوم به فرقة ضئيلة العدد كثيفة الحضور لترويج ثقافة الخوف من خلال الاستعانة ببعض الروايات الدينية الهزيلة في سندها وسبكها، تقول بأن تفشِّي الانحراف والظلم والخراب ضرورات قبلية وتمهيدية، أو ما يسمى علامات لظهور المصلح المهدي عند المسلمين والمسيح عند النصارى، بل قد يجنح بعض رموز هذه الفرقة الى حثِّ أتباعها على الاسهام في المزيد من الاقترافات وارتكاب الرذائل والجريمة من أجل تسريع عملية ظهور المصلح، وتوفير الشروط الاجتماعية والدينية لظهوره.
وبوجه عام، فإن الخوف أصبح سلاحاً فتّاكاً يجري إستعماله في جبهات متعددة ولغايات مفتوحة. إن ثمة دوراً مشبوهاً تزاوله عن عمد جماعات عديدة لاقناع العامة بأن الموت يحيق بهم من جميع الاتجاهات بدءاً من ركوب السيارة وحتى تناول الطعام. وكما يبدو بجلاء، فإن الغرض من تضخيم هذه الحوادث لاستغلالها بطريقة خاطئة، حيث يقع الافراد ضحية نظرية المؤامرة. فقد أظهرت إستطلاعات الرأى ان حوالى %75 من الاميركيين يشعرون بمخاوف غامضة لا يعرفون مصدرها، اذ أن كلَّ شئ تقريباً أضحى باعثاً على القلق والارتياب، ويؤكد الاميركيون أنهم يعيشون فى ظروف إستثنائية عصيبة، بالرغم من الآراء التى تزعم سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات العالم، ولكنها مع ذلك تعجز عن توفير الأمان لشعبها فى الداخل. بل إن النخبة الحاكمة تتآمر على الشعب الامريكى بهدف تعظيم مصالحها الخاصة، وذلك من خلال العمل على الترويج لثقافة الخوف، وقد تجسِّد ذلك فى الإقبال الواسع على الروايات التى تتحدث عن عالم الرعب بكل ما ينطوى عليه من مفارقات وغرائب، ولذا لم يعد أمراً مثيراً للدهشة في أن تحقق رواية هارى بوتر بأجزائها المتعددة أعلى نسبة مبيعات فى الولايات المتحدة بالرغم من انتماء المؤلِّفة الى بريطانيا، كما تشهد الولايات المتحدة إقبالاً غير مسبوق على إنتاج الأفلام التى تجسِّد مشاهد الرعب والمعارك الهائلة من نوعية أفلام يوم الاستقلال وعلى خط النار وغيرهما من الاعمال التى حصدت أرباحا تقدَّر بمئات الملايين من الدولارات.
وفيما يبدو، وكمحاولة هروبية من الواقع، بات المجتمع الاميركي يدمن الاحساس بالخوف كتراث عزيز لا يسهل التفريط فيه، لدرجة أن أياً من المصنفات الفنية أو العلمية التى لا تتصل بهذه الظاهرة لا يكتب لها الرواج فى الولايات المتحدة، مهما كانت درجة الاتقان والرصانة التى تتميز بها هذه المصنّفات.
في المشرق العربي، حيث يسكن الخوف، فإن الغني يجني المال ولا يصرفه وهو متذرع بأن القرش الأبيض هو لليوم الأسود لأن الحياة ليست مستقرة في بلادنا الشرقية، فالغني يمكن أن يصبح فقيراً بين ليلة وضحاها، فالخوف من المجهول، والمستقبل، والمستور، يستبطن تعبيرات خوف آني، وإن كان خوف المشرق يعبر عنه سلبياً بالصمت، بالانطواء على الذات، وبتغيير خارطة الاذهان وجدول الاهتمامات وقائمة الاولويات على مستوى الافراد والجماعات، عملاً بالقول الدارج (الباب اللي يجي منه الريح سدّه واستريح) أو (إبعد عن الشر وغني له) فالشر هنا يقصد به كل مايقرّب من نقطة الخطر ويجلب الضرر.
(إن الشيء الوحيد الذي يجب علينا الخوف منه هو ذلك الخوف مما يصنعه الخوف) حسب مقولة منقولة عن الرئيس روزفلت عام 1933. ويشير كيرتشوف وكيرت باك الى أن (الاعتقاد بتهديد ظاهر يجعل من المحتمل شرح وتبرير إحساس شخص ما بعدم الارتياح). فالخوف من الخوف يثير فزعاً أشد من الخوف ذاته، وكما يقول علي بن ابي طالب عن الانسان (وإن غاله الخوف شغله الحذر)[6]، فإندكاك الانسان في خوفه يستنزف طاقته الذهنية في تصنيع التدابير الاحترازية الحمائية، وهو ما تنهمك وسائل صناعة الخوف لأجل إدامته. إن التغطية الاعلامية تزيد في عدد الناس المصابين بأعراض تغذي التغطية الاعلامية.. فالخوف يخلق شيئاً ما نخاف منه، بحسب باري جلاسنر، وهو يدمّر تفاؤلنا ويجعلنا نعتقد بأننا غير قادرين على حل مشكلاتنا[7].
وينقل باري جلاسنر عن البروفسور Esther Madriz في كلية هنتر الاميركية بأنه أجرى مقابلة مع نساء في مدينة نيويورك حول مخاوفهن من الجريمة فكنَّ يردَّدن عبارة (شاهدت ذلك في الاخبار). ويعلق هنتر على ذلك بأن الاعلام الخبري يشكّل مصدراً لخوفهن وسبباً يجعلهن يعتقدن بأن تلك المخاوف واقعية. وفي سؤال استطلاعي على المستوى الوطني حول السبب الذي يجعل الافراد المشاركين في الاستطلاع بأن البلاد لديها مشكلة جريمة خطيرة، نقل 76 بالمئة منهم قصصاً شاهدوها في وسائل الاعلام، و22 بالمئة فقط رووا تجاربهم الشخصية.
وكان البروفسوران Robert Blendon و John Young من جامعة هارفارد أجريا سبعة وأربعين مسحاً حول إستعمال المخدرات ما بين عامي 1978 و1997، وتوصلا الى أن أخبار الصحافة، أكثر من التجربة الشخصية، تزوّد الاميركيين بالمخاوف المسيطرة عليهم. إن القلق المنتشر على نطاق واسع حول مشاكل المخدرات تنبعث، حسب الباحثين، من المخاوف في الاعلام الخبري وبخاصة التلفزيون. وهذا يعني، بأن البرامج الخبرية المتلفزة تعيش على المخاوف.
إن نشر احصائيات حول الأمراض وعدد المصابين بها تثير، دون ريب، حالة هلع وتدخل ضمن صناعة بيئة ثقافية للخوف. في عام 1996 قام الكاتب الأميركي بوب جارفيلد باستعراض مقالات حول الامراض الخطيرة المنشورة خلال عام واحد في كل من صحيفة (واشنطن بوست) و(نيويورك تايمز) و(يو إس أيه توداي) وتوصل الى أنه بالاضافة الى 59 مليون أميركي يعانون من أمراض في القلب، هناك 53 مليون أميركي يعانون من الصداع النصفي، و25 مليون أميركي يعانون من هشاشة أو ترقق العظام osteoporosis، الى جانب 16 مليون يعانون من داء السمنة او زيادة الوزن obesity، و3 ملايين مصاباً بالسرطان. وفوق ذلك، فإن كثيراً من الاميركيين يعانون من أكثر من مرض معيق مرتبط بالمفاصل (10 ملايين مصاباً) وإمراض في المخ (2 مليون مصاباً). حين تجمع تلك التخمينات، يقرر جارفيلد بأن 543 مليون حالة مرضية خطيرة يعاني منها الشعب الاميركي، وهو رقم صادم لأمة يبلغ تعداد سكانها 266 مليون. ويعلق جارفيلد على ذلك (إما أن نكون كمجتمع متشائمين أو أن هناك شخصاً ما يرسم صورة مضخمة)[8].
إن القلق إزاء الاخطار الحقيقية، حين يتجاوز حدوده المعقولة يسبب ضرراً فادحاً، كما هو شأن الخوف من بعض الامراض مثل (السرطان، والايدز، وانفلونزا الطيور، والجمرة الخبيثه ، وجنون البقر..). فحين يصدر تقرير طبي يفيد بأن نسبة الاصابة بمرض سرطان الثدي بين النساء في سن الاربعينيات تتراوح مابين 1ـ 10 فإن ذلك من شأنه صناعة بيئة هلع من الموت الوشيك لدى النساء في هذا السن وصاعداً. وقد لحظنا كيف فعلت موجة الهلع العالمية فعلها حول خطر انفلونزا الطيور، والتي لم يتجاوز عدد ضحاياها المائة.
فنطاق المخاوف الصحية لا حدود له، وأن إغمار العالم بموجة رعب حول أخطار متخيّلة رسم، بلا شك، صورة سوداوية وتبعث على الهلع، وهذا يقرع وعينا بحقيقة مؤكّدة، أن الخوف بات مكوّناً جوهرياً في ثقافة الاستهلاك، فالاخبار المثيرة للفزع تدفع الناس لمشاهدة التلفاز وشراء الصحف، ونلحظ ذلك أيضاً من الاقبال الواسع على أفلام الرعب.. إن الاسواق تستقبل الخائفين من انعدام بعض السلع، وتتفشى عدوى الخوف في أوقات الحروب.
في القرن الماضي، كانت الحرب الباردة خاضعة تحت تأثير الخوف من قيامة نووية. ولأن الخوف هو وارث خوف آخر، فإن الخوف من الحرب النووية المتخّيلة تستعيد وتطوّر وتحتل الخوف من الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية وتحديداً مشهد القاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي في اليابان. أما الآن، فيعاد إنتاج الخوف في صيغة أشد خطورة وإنتشاراً من خلال الحديث عن تسونامي إرهاب أصولي يشنّه أناس مدججون بأشد الاسلحة فتكاً ويستعلمونها بطريقة سادية وجنونية.
3ـ أنها واحدية التوجيه والغاية، فوحدها ثقافة الخوف المراد ترسيمها ليكون تداولها مشروعاً، فيما يغدو غيرها مروقاً وكفراً، بل وجريمة يعاقب عليها القانون، فهي بهذا المعنى إقتلاعية وإقصائية.. حيث يغدو الخروج على المألوف شقّاً للصف، وهتكاً للستر، وخرقاً للاجماع، بل وضرباً من الجنون، فالاجماع متحقق ومحكم حين تكون ثقافة الخوف مصدره الوحيد. إنه لمما يدعو للسخرية أن يقرن الخائفون بين الشجاعة والبلاهة، وكأن ثمة مخبراً مندّساً في اللاوعي الجماعي يبثُّ رسالة منتظمة بأن المجنون من شذّ عن القطيع والهلاك نتيجة حتمية لمن فارق الجماعة.
يتقمَّص أورويل دور صنّاع ثقافة الخوف ليخاطب قُرّاءه بلغتهم (كل شيء في داخلك سيموت، لن تعود قادراً على الحب، والصداقة أو التمتع بالحياة أو الضحك أو التعجب أو الشجاعة أو الاستقامة، إنك ستكون كصَدفة فارغة، سنعصرك حتى تصبح كالجيفة الخالية من كل شيء ثم نملأك بأنفسنا)[9].
4ـ تعطيلية، بمعنى الارتهان الجماعي لصنّاع ثقافة الخوف ومصادرها، والاستقالة أمام الواقع، والانغماس في الراهن والانحباس في اللحظة مع تخصيب أفق الخوف من المجهول وعنصر المفاجأة ومداهمة الغيبي واللامحسوب.
لقد نبّه جورج أورويل على مكمن خطورة ثقافة الخوف في سياق فحصه لمكوّناتها وأغراضها، حيث حددها بصورة مكثّفة في التفكير المزدوج الذي يفرز ثنائيات متضادة: المعرفة والجهل، الصدق والكذب، الايمان وعدم الايمان، المنطق وضد المنطق، الديمقراطية والاستبداد، الذاكرة والنسيان. هو هذا التفكير المزدوج المطلوب إستعماله بحسب كل حالة، وهو يلخًّص عقيدة الحاكم المستبد في مواطنه: (ان عليك ان تهزم نفسك قبل أن يصبح بامكانك ان تكون سليم العقل)[10].
إن العقل السليم هنا هو ما يسهب الروائي السوري سعد الله ونوس في تعريته في مسرحية (يوم من زماننا)، حين ينتج العقل مضاداته عبر سلسلة ثنائيات متضاربة، حيث يبدو هذا العقل مركزاً للتفكير في الشيء ونقيضه، فهو مع الحرية وضدها، ومع القيمة العليا ونقيضها. هو عقل مصمم كي يكون مأجوراً دائماً لخدمة أغراض السلطة، وفي الوقت نفسه قادر على تكييف نفسه بصورة تلقائية مع متغيرات الواقع، مستعيراً من محفوظاته المنصوبة من خارجه ما يناسب كل مستجد. وهو عقل قادر أيضاً وبصورة مذهلة على أن يمنطق تحوّلاته من موقف الى نقيضه، بل وأن يسبغ على القيم الفاسدة وشاحاً قدسياً، حين يبتكر لكل مفردة قبيحة مقابلها الجميل، فحتى الفساد يصبح مبرراً حين يستبدل عنوانه كما تستبدل السرقة بالكميسيون والرشوة بالربح المشروع، تماماً كما أستبدلت قيم عديدة في ثقافتنا اليومية، فصار الاستبداد، والحكم الفردي، والقمع، ومصادرة، الحريات، وانعدام التعددية الحزبية ثاوية في جوف شعارات كبرى مثل الوحدة الوطنية، ومقاومة الاستعمار، ووحدة القيادة ضد مؤامرات الخارج والعملاء في الداخل. هذا العقل هو الذي أوصل فاروق، أستاذ الرياضيات في رواية (في يوم من زماننا) الى إعلان التمرد على عقله المفصوم والفرار من عذاب تلك الثنائية المعيقة التي تجعل من الولاء للسلطان القيمة النهائية والوحيدة. فقد كان فاروق يريد أن يحمي الاخلاق بينما كان مدير المدرسة يريد أن يحمي الرئيس، وأن أم الفضائل لدى المدير هو (محبة الرئيس والولاء له)[11]. ولكن فاروق الذي أعيته الوسائل الحوارية في التأثير على المدير والشيخ ومدير المنطقة، إكتشف غربته في مجتمع الخوف (في المدرسة، والجامع والشارع والمديرية وحتى بيوت البغايا)[12]، فقرر الرحيل لابطال مغنطة ثقافة الخوف، واختار الموت بديلاً عن فعل الخيانة مع (دولة هذه الايام)[13]. لقد اكتشف فاروق بأن إنحلال المجتمع يبدأ، في إدراك الحاكم، في الخروج عليه وليس في فساد المجتمع أخلاقياً، ولذلك تصبح عبارة (إنهم يشتمون الرئيس) ناقوساً مدوّياً حيث تختزل الدولة في شخص الحاكم. فقد تربى كل فرد في مجتمع الخوف على أن كل فرد مسؤول مؤتمن على حماية مؤسسته من جرثومة السياسة وأن يربّي من يعمل معه على الولاء والطاعة. وفي رد فعل إنتحاري، قرر فاروق أن يتحرر من النفاق الخلاّق ونزع قناع الزيف المتعدد بحسب تعدد المواقف، وإن كان التحرر يتطلب التضحية بالروح، وكما قال الشاعر الجزائري المغدور به الطاهر جالولوت: إن تكلمت قتلوك, وإن سكت قتلوك, فقل كلمتك ومت.
إن الهزّات الارتدادية العنيفة لثقافة الخوف تتجاوز بالتأكيد حافّات المجتمع الواقع ضمن مجال تأثير وجبروت تلك الثقافة، بل تستوعب الدولة بكاملها، فالخوف يسري في أحشاء رجل السلطة بنفس القدر الذي يطال رجل الشارع، فالكل في الخوف سواء، وإن كان الخوف مخلوقاً سلطوياً بإمتياز. ثقافة الخوف هذه ترهن أفراد السلطة والمجتمع الى نوع من العلاقة المهجوسة بكل ما تنذر به من مفاجئات أو ما يختمر في أذهان ضحاياها على كونها كذلك، فالانحباس في اللامرئي والغائب والمستور يهيمن بسطوة على شبكة العلاقات الداخلية بين فئات المجتمع وبينها وبين السلطة. هذه بيئة الخوف التي تفرض أعرافها في مقابل القانون الناظم لكل علاقات سويّة، ومستقرة، وفي مثل هذه البيئة يصبح التراكم الرهابي بالغ الثراء وغزير الانتاجية، حيث الخوف يولد من رحم خوف آخر، لينضاف الى أشكال أخرى من الخوف، وفي نهاية المطاف، تتظافر سوية لصناعة بيئة خصبة لثقافة الخوف، فالخوف في البيت يلتقي بالخوف في الشارع والمدرسة والسوق والمؤسسة والجامع والجامعة وصولاً الى تلبيد الفضاء العام بكل محتوياته بخوف مطبق، لتلتقي في مصب واحد هو تصنيم السلطة المهيمنة صانعة الخوف الأكبر.
فالقابضون على مصادر السلطة سواء كانت إجتماعية أو فكرية أو دينية أو سياسية مفتونون بخنوع الاتباع حد الأسر، فالتلذذ بالسيطرة يغري أولئك بإبقاء سحرهم المطعّم بالفزع على أولئك الذين وقعوا في الأسر، ولا يمكن لغير ثقافة الخوف أن تحول دون بقاء الأسرى في أقفاصهم. إن هذه الثقافة يراد منها أن تكون ميراثاً ينتقل من جيل لآخر، فلا تنعقد رابطة بين إثنين الا كان الخوف ثالثهما. ولذلك، فإن الحرية تصبح هنا ممقوتة لأنها تهشّم قيود الاسر، من كل أشكال العبودية. وحسب قول إريك فروم:
فالشخص الذي تغلب على الجشع ولم يعد يتشبث بأي معبود ولا بأي موضوع وبالتالي لا يملك شيئا يجب أن يفقده: إنه غني لأنه مجرد وهو قوي لأنه لم يعد عبداً لرغباته. يستطيع أن يطرح الأصنام والرغبات اللامعقولة والهلوسات لأنه على تلاؤم تام مع الواقع، في داخل نفسه وخارجها. فلو أن شخصاً كهذا الشخص قد بلغ "صحواً" كاملاً فلن يعرف بعدها الخوف. ولن تكون بسالته تامة إذا هو إتجه نحو هذا الهدف دون بلوغه. وكل شخص، مع ذلك، يميل نحو هذه الحالة التي يكون فيها هو ذاته على وجه تام، يعلم أن شعوراً من القوة والفرح، في كل خطوة جديدة تُسلك إليها، يستيقظ ولا يدع مجالاً لأي شك. ويحسّ بأن مرحلة جديدة من حياته قد بدأت. ويستطيع الشعور بحقيقة أقوال غوته: "لقد بنيت بيتي على لا شيء لذلك فإن العالم بأكمله هو ملكي"[14].
الحرية هي دون شك مبيد ثقافة الخوف، لأنها تبطل مفعول منظومة الفيروسات المندسَّة في هذه الثقافة، من قبيل العبودية، والخنوع، والسكون، والانكفاء على الذات، واليأس، ليستعيد الفرد بالحرية إنسانيته بكل قيمها النبيلة ويرسم خطاً جديداً لحياة تقوم على الشعور بالكرامة، والأمل، والحركة، والسباق نحو التقدم على مستوى الفرد والمجتمع، والتنافس بكافة أشكاله، وتمزيق شهادة العبودية التي كتبت في لحظة ميلاده ليعيد كتابة حريته بخط يده. يعلن الفرد تمرده بعد أن أنصت بإهتمام الى رسالة الضمير المدوّية التي أطلقها جورج أورويل: (أيها الإنسان احذر هذا الاستبداد وقاومه بكل ما لديك من قوة قبل فوات الأوان، وإلاّ سيقضي على شخصيتك وإرادتك ويحوّلك إلى أداة غير قادرة علي التفكير)[15].
ـ العامل الاجتماعي: التنشئة الاجتماعية
إن كل خوف ذي طابع جماعي يتستر بثقافة، وليس هناك أقوى من المجتمع كوسيط نموذجي في صناعة ثقافة الخوف. فمجتمع الخوف مولّد نشط لأشكال متعددة من الخوف، فالاستبداد السياسي ينشأ ويتوسل بخوف المجتمع، والاستبداد الديني المولّد بدوره للاستبداد السياسي هو الآخر مكفول بخوف المجتمع. فالاخير وحده الذي يقرر متى يقلع عن أشكال الاستبداد المختلفة، أي متى ما تبدَّل منسوب وعيه الثقافي، وهو تبدّل منوط بقلب منظومة التنشئة االفردية والجماعية، أي محو آثار النظام القيمي المسؤول عن صناعة ثقافة الخوف.
في مشرقنا العربي، نولد بقائمة من النواهر والزواجر التي تقرر وتقدّر للمرء مسيره ومصيره لينشأ على (ذهنية الممنوع) بالمعنى الواسع، لتصبح القاعدة: كل شيء ممنوع أو حرام الا ما ثبت بالدليل. إن تمدّد منطقة الخطر والممنوع يبدأ بحظر ذهني حيث يكون اللامفكر فيه واللايجوز الاقتراب منه أكبر من المباح الذهني، ليعكس الحظر في السلوك الفردي والجماعي في هيئة انطواءات متعددة الاشكال إجتماعية وسياسية.. قلة هي دفعة الحوافز التي يحصل عليها الفرد في مجتمع الخوف من أجل المغامرة والسباق نحو إقتحام المجهول، فثمة إختلال عميق بين الحوافز والكوابح.
تسجّل الباحثة النفسانية سوزان جيفرز في كتابها (Feel The Fear And Do It Anyway) خلاصة تجاربها وتذكر بأنها لم تصادف في حياتها أن سمعت أمّاً تطلب من طفلها حين يذهب الى المدرسة قائلة له (قم يا حبيبي بالكثير من المغامرات اليوم)، ولكن من المحتمل جداً أن تنقل لطفلها عبارات من قبيل (حبيبي إنتبه لنفسك). وتعلِّق الباحثة (إن عبارة إنتبه لنفسك تحمل في طيّاتها رسالة مزدوجة: فالعالم هناك خطر للغاية..و..ليس بإمكانك التعامل معه)[16] أو مقاومته. وكما يظهر من هذا المشهد، فإن الأم تنقل عدم ثقتها في القدرة على التعامل مع مايصدف في طريقها الى إبنها.
وإذا ما تذكّرنا لافتة ليفي شتراوس في كتابه (بلدان المدار الحزينة) بأن الانسان هو النتاج الاساس للمجتمع الذي يعيش فيه، وهي لافتة تستظل بوجهة نظر أرسطو الذي كان يرى في الانسان حيواناً إجتماعياً خلق ليعيش في المجتمع[17]، فإننا ندرك حينئذ بأن الضغوط التي يمارسها المجتمع على أفراده هي من نوع سيكولوجي أولاً ثم تتخذ شكلاً ثقافياً، حيث تصبح ثقافة الخوف مشروعة على وقع رهاب المصلحة العليا للمجتمع والصالح العام، أو الاحساس المتفجر بالخطر إزاء شيء ما، قد يبدو أحياناً مجهولاً حتى لصاحبه، ولذلك فإن كافة إمكانات النمو الثقافي والذهني والعاطفي لدى الافراد تتعطل أو تُختَطف، بصورة شبه كاملة، لمجرد إخصاب بيئة ثقافية تقوم على افتعال شعور جمعي بالتهديد والخطر. فالوراثة الاجماعية، إي إعادة الانسان الى وسطه الاجتماعي وربطه أكثر بما أو بمن يحيط به فرضت نمطاً صارماً من إندكاك الافراد داخل البيئة الثقافية السائدة، أي بيئة الوسط الناجمة عن الولادة، حيث تكون رؤية الاشياء ذات طابع اجتماعي وليس فردياً، بحسب بيير إمانوييل في كتابه (من أجل سياسة ثقافية)[18].
إذن، الخوف يستنسخ خوفاً في عملية تكاثر مفرطة في إنتشارها، فقد أريد لنمط التربية في المجتمع أن يكون موحّداً لتنشأ أجيال الخوف الخانعة، وهنا تكون التربية بحسب تعريف ماكس فيبر (وسيلة من وسائل الهيمنة الاجتماعية)، فالمجتمع يتكفَّل بإنتاج الخوف والترويج له عبر نمط تربوي موحد وقهري، وهنا تتشوّه عملية التكامل الاجتماعي أو التوافق الاجتماعي كما يلفت اليها دوركهايم، فتصبح الشمائل المطلوب تنشئة الاطفال عليها لادماجهم في المجتمع عادات مروَّضة تحول دون انفصالهم عن النظام الصارم للمجتمع أو الارتطام به.
وهنا يصبح تعريف هيرسكوفيتس M.J.Herskovits للتربية مناسباً بوصفها عملية تطبيع ثقافي أو دمج ثقافي enculturation ، أي تبني الانماط السلوكية في الثقافة المحيطة، بكلمات أخرى تطبيع المعايير السائدة في ثقافة الاطفال. وبحسب تعريف ميستشا تيتييف Mischa Titiev فإن الدمج الثقافي يعني (التطبيق الواعي أو غير الواعي الحاصل خلال السيرورة التعليمية حيث يحصل الانسان، طفلاً وراشداً، على كفايته من ثقافته)[19]. أما الصائغ الأول لمصطلح (enculturation) هيرسكوفيتس عام 1948 فيرى بأن الناس الذين يولدون بآليات بيولوجية موروثة يجب عليهم إما التحوّل أو السيطرة في توافق مع طريقة مجتمعهم في الحياة، أو التحول الى أشكال إجتماعية مقبولة للسلوك الثقافي[20].
فالتطبيع الثقافي يعني، في المنظور الاجتماعي، عملية تربوية يتم عبرها نقل القيم والعادات من جيل لآخر، وصولاً الى تحقيق حالة من الانسجام الثقافي المرغوبة لاستقرار النظام والتعايش الخلاّق للمجتمع[21]. وبينما تخلق هذه العملية ـ في تطبيقها الصحيح ـ هوية خاصة بالأبناء تغدو موضع فخرهم وكرامتهم وتمايزهم الحضاري، فإن في مجتمع الخوف تصبح عملية التطبيع الثقافي ذات أغراض مضادة تماماً.
التطبيع الثقافي، حين يسري عبر الحقل التعليمي، يمظهر نفسه في محتويات وتدابير علم التدريس، فمن خلال المحتوى التعليمي يصبح الفرد أكثر إطِّلاعاً وإلماماً بقيم وعادات مجتمعه، وعبر التدابير يكتشف بأن تقدّمه يقاس من خلال إنجازه في مجال المهارات والنظرات التي تطوّر مظهر وتطلعات مجتمعه. هذا كله يعني، أن قيم مجتمعه هي المقياس لمنجزه وتقدمه وتقديره.
في إدراك ذلك، يشتمل الحقل التعليمي بوصفه ادة التطبيع الثقافي، على قناة واسعة لانتشار عدوى الخوف حيث تسري بوتيرة سريعة في كل زوايا المجتمع وتمتد لكي تشمل كافة الفئات، لتغذي رد الفعل التلقائي الغريزي، بما يشبه الى حد كبير الحركة المضطربة التي تنتقل الى الحيوانات عندما تتجمع في هيئة جمهور. وبحسب غوستاف لوبون (فصهال حصان في إسطبل ما سرعان ما يعقبه صهال الأحصنة الاخرى في نفس الاسطبل. وأي خوف أو حركة مضطربة ما تصيب الخراف سرعان ما تنتقل الى بقية القطيع)[22]. فالانسان يشبه الحيوان حين يكون في هيئة جمعية، بحيث يميل أفراد المجتمع الى تقمّص الزعماء الذين يمارسون عليه تأثيراً أخّاذاً، حيث لا مجال للمقاومة.
إن ثقافة الخوف تتمظهر في لغة التخاطب اليومية والتي يعبر عنها في الاجابات السالبة (لا أستطيع، غير ممكن، صعبة، بعيد، مستحيل..). هذه الثقافة تستعير من ميراث المجتمع الثقافي والتاريخي الذي إنداثت في وعيه اللاهوتي أفكار قدرية، وتحوّلت الى مادة تربوية يتلقاها الفرد في البيت والمدرسة والجامع ويكرّسها الحاكم، لتسويغ الرضوخ والقبول بالهزيمة والانصياع تارة تحت عنوان (القضاء والقدر) وتارة (الجبر) وثالثة (طاعة ولي الأمر) ورابعة (وحدة الجماعة واتقاء الفتنة) وهكذا..، وقد جرى توظيف هذه المنظومة العقدية لترسيخ الاستبداد والتماهي في المجتمع العضوي الذي يلغي فردانية الفرد، وتغييب العقل لحساب تلقائية القطيع. فمن جبروت النزعة الابوية داخل الاسرة الى المجتمع الأبوي الذي يمارس دوراً سلطوياً طغيانياً على أفراده مكرهاً إياهم على إعتناق ما جبل عليه من أساطير وخرافات وهلوسات تشكّل مجتمعة مكوّنات لثقافة الخوف، التي يتعاطاها الأفراد بملء إختيار وإرادة المجتمع عبر مدمني تلك الثقافة وممثلين عنها كل من موقعه، في عملية تقاسم للأدوار فالأب في أسرته، والمعلّم في مدرسته، والشيخ في جامعه، والمدير في شركته، وصولاً الى (ظل الله في الارض) أي الحاكم في سلطته، لتنداح تلك الابوية في كل أوجه الحياة تقريباً، وحيثما وجدت رابطة مصلحية أو إجتماعية من نوع أو آخر. فإذا ما قلبنا الهرم الأبوي من فوق ـ السلطة الى تحت ـ المجتمع، فستكون النتيجة مفجعة، حيث تنتقل ثقافة الخوف بكميات الهلع والقمع المحشوّة بداخلها الى كل مكوّنات المجتمع وتشكيلاته، لتعود تلك الثقافة تنتج نفسها تلقائياً في عملية ميكانيكية بحيث تكون لغة الخوف بكل متوالياتها لغة التخاطب اليومية والعنصر الحاكم في علاقات فئات المجتمع ببعضها البعض.
ولذلك، لا تتضمن الشهوة في القوة الكامنة للسيطرة في اقتدار المستبد إنما في الضعف النفسي الذي يتمتع به، وهذا العجز يقود إلى ما يطلق عليه ظاهرة "المازوكية" وهي شعور ينتاب المستبد بهم من أفراد المجتمع ويقودهم إلى اللاجدوى والتلذذ بالألم. يرى إريك فروم أن الفرد يكف عن أن يصبح نفسه، إزاء استسلامه لقيم المجتمع السائدة إنه يصبح كما يريد له الآخرون وكما يتوقعون منه[23]. وهي ميول بصفتها العامة مرضية، وتعد هذه العلاقة المتبادلة ضرورة لكلا الطرفين، فالمتعة السَّادية للحاكم يقابلها خضوع الأفراد لقوى تحررهم من الخوف، ومن هذا المنطلق تتشكل "ثقافة الخوف" في المجتمع.
لاشك، أن بيئة كهذه لا فسحة فيها للابداع، لأن الابداع ينمو في فضاء الحرية، أما الخائفون فمشغولون بالتفكير في توفير طرق آمنة لضمان بقائهم على قيد الحياة، والفرار من الموت، وإن مجتمعاً يكون أفراده على هذا النحو، تموت فيه الكفاءة وتخبو فيه العبقرية، وتنحسر فيه المنافسة نحو التقدم، فيكون مجتمعاً يدمن الخضوع، والقبول بالمقسوم، والاكتفاء بما في اليد، ونبذ التجديد والتغيير لأن كل جديد، من وجهة نظره، ينطوي على خوف من الاسوأ، في تعبير عن اليأس واستحواذ اللحظة على المستقبل.
إن الروابط الداخلية في مجتمع الخوف تنشأ على قواعد مختلفة بل وغير ثابتة، فليس هناك ما يمكن أن يشكِّل مرجعية معياريّة، بل هي روابط واجفة مرتجفة رهينة لوتيرة الخوف المتأرجحة، وللخوف قواعده كالمجاملة المفرطة، والكذب الملبّس زي الحقيقة، أو ما يصطلح عليه هشام شرابي التمويه وإن كان الكذب والتمويه يلتقيان في هدف واحد وهو حجب الحقيقة، مع اختلاف في الاسلوب، ففي الكذب، حسب شرابي، تُنفى الحقيقة وتُستبدل بكذبة، أما في التمويه فالحقيقة لا تنفى، ولا تظهر بشكل كذبة، بل تظهر في زي حقيقة أخرى تدَّعي أنها الحقيقة الصحيحة، يضاف اليها قواعد أخرى من قبيل إزدواجية الشخصية التي تتمظهر في التضّرع للقوي والتنمّر على الضعيف[24].
ينبّه هشام شرابي الى خطورة دور النظام التربوي في إعادة إنتاج التخلف المزمن ونظام القهر الموروث، ويلفت الى أن "التمويه الذي يمارس في المدرسة يمكن نقده وتغييره، لكن التمويه الذي نتعرض له في السنوات الأولى من حياتنا يكون حاجزاً من الصعب تجاوزه. والضرر الذي تسببه طريقة تربيتنا ومعاملتنا في الفترة الأولى من حياتنا يصعب تشخيصه وإبراز معالمه في وعينا المباشر وبالتالي إصلاحه وتجاوزه".. وحيث يخضع الطفل لاستبداد الأبوين المسقط من الاستبداد العام، وينشأ في كنف أم تقهر في داخله نوازع المعرفة، يتعود على الخضوع لآراء الآخرين دون تردد أو تساؤل. "وهذا ما ينمي في نفسه الإذعان للسلطة ولكل ما هو أقوى منه أو أعلى مرتبة وجاهاً"[25].
وعلى أفق أوسع، يجادل شرابي بأن النظام البطريركي يستوعب الهياكل الكبرى (المجتمع والدولة والاقتصاد) كما يستوعب الهياكل الصغرى (العائلة أو الشخصية الفردية)، فالنظام الابوي يهيمن على المجتمع محافظاً كان أم تقدمياً، فهيمنة الاب هو المركز الذي تنظّم حوله العائلة الوطنية أو الطبيعية، وأن ثمة علاقات عمودية بين الحاكم والمحكوم وبين الاب والإبن.. فالارادة الأبوية هي الارادة المطلقة التي تتوسط في المجتمع والعائلة من خلال إجماع مفروض بالقوة قائم على الطقس والاكراه[26].
يفتح المولود في مجتمع الخوف عينيه على قوالب تربوية وثقافية جاهزة تغرس في روعه، منذ أيامه الأولى، مفهوم الطاعة والخضوع المطلق لينشأ عليها قبل أن تتفتح زهرة الحرية بداخله، فلا يولد الناس في مجتمع الخوف أحراراً كما ولدتهم أمهاتهم، بحسب الخليفة عمر بن الخطاب، بل يولدون عبيداً، لا يشعرون بالمساواة مع غيرهم، ولا بالاستقلالية في تفكيرهم، فالأنا الاعلى، أي سلطة المجتمع تنشأ داخل الفرد لتكون السلطة المطلقة التي توجِّه سلوكه وتفكيره.
إن ثقافة الخوف تنتج يأساً ليس على مستوى الفرد بل وعلى مستوى المجتمع، فيولد الافراد في مجتمع يائس تعطبه مشاعر الضعة والكآبة والضجر وفقدان الأمل. فتيئيس المجتمع يراد منه توفير بيئة لكل المتناسلين منه كي ينشأوا على اليأس السائد، وإمتصاص قيمه، فلا يحيد عن خط اليأس الذي يعيشه المجتمع بالغ ما بلغت قدرته. وبحسب ملاحظة إريك فروم:
ولسوف نلاحظ بأن تنمية الأمل أو اليأس عند الفرد تكون محددة، على مدى واسع، بحضور الأمل أو اليأس في مجتمعه أو في طبقته. وأياً ما كانت الزعزعة التي يتعرض لها أمل الفرد في طفولته، إلا أنه لو عاش في حقبة من الأمل ومن الإيمان لبُعث رجاؤه. وفضلاً عن ذلك فإن الشخص الذي تقوده تجربته إلى الأمل، غالباً ما يكون لديه ميل إلى الاكتئاب وإلى اليأس إذا لم يبق للمجتمع أو للطبقة اللذين ينتمي لأحدهما من أمل[27].
ثقافة الخوف هي المسؤولة عن توسّل ضحاياها بما يصفه الدكتور مصطفى حجازي بالاساليب الدفاعية كرد فعل على اليأس من الانعتاق من ربقة الخوف، التي تعزل الانسان عن محيطه عبر الانكفاء على الذات والفرار أمام التحديات الراهنة والمستقبلية، والنكوص أي الارتداد الى سلوكيات تعود خصائصها الى مراحل عمرية سابقة، أي التصرف ليس على أساس العمر والنضج بل على أساس الموقف والوضع النفسي، هذا النكوص الذي يأخذ أشكالاً عدة مثل: التمسك بالتقاليد، والعودة الى الماضي، والامتثال للعرف السائد كقاعدة للسلوك والمعيار للنظر، والاحتماء بالأمجاد والمآثر الماضية، حيث يتم إعادة بناء صورة الماضي كيما تكون مصدر إلهاء وسلوة في مقابل العجز عن العيش في الحاضر فضلاً عن تغييره، والميل الشديد الى تحميل الآخرين الفشل، أي التنصّل من المسؤولية. ويلفت د. مصطفى حجازي الى العوامل النفسية والذهنية التي تنتاب الإنسان المقهور حيث تسوقه عقده وانفعالاته الى البحث "عن مخطئ يحمِّله وزر العدوانية المتراكمة داخلياً، ويغدو الاعتداء مشروعاً، لا يشكل عدواناً على قيمة إنسانية، بل على مصدر الشر"[28]. ويتطور الاعتداء الى التماهي الذي يأخذ أشكالاً عدة: التماهي بأحكام المتسلط، أي توجيه عدوان المتسلط الى نفسه وليس للمتسلط في عملية جلد للذات والحط من شأنها والاستسلام لشعور الهزيمة في الداخل، والتماهي بعداون المتسلط، حيث تتقمص الضحيَّة دور الجلاد، فتفرغ ما وقع عليها من مظالم على من هم أضعف منها، والأخطر من ذلك هو التماهي بقيم المتسلط وأسلوبه الحياتي، حيث يتم إمتصاص قيم الظالم والرغبة عند الانسان المقهور للعيش في عالم المتسلط واقتفاء سيرته في الحياة والسلوك و التفكير[29].
لا تسمح ثقافة الخوف بنشوء علاقات سويّة بين أفراد المجتمع، فكل شيء يتعرض للتشوية بل لليبوسة والجفاف والموت، وأن منظومة القيم الانسانية تتمزق على نحو متسلسل، فلا حوار، ولا حب، ولا إبداع، ولا عاطفة، فثقافة الخوف تسوق الجميع نحو الأسر الجماعي لمركز القوة المتحكّمة لتملي عليهم طريقة في التفكير وقيماً للتبني، وصولاً الى الحلول في جوف المستبد ـ المركز، الذي يستنسخ خلاياه السرطانية في بنية المجتمع ليخلقه على صورته.
ينبغي في السياق نفسه، إلفات النظر الى تداعيات التشوّه الناشىء عن ثقافة الخوف على فئات أخرى من المجتمع، وبخاصة الاقليات. فالتباينات الثقافية ذات تأثير خطير على الاقليات التي تشعر بالتهديد والخوف من الضياع وهنا ينشأ خوف العزل والانطواء. وإذا ما أدركنا بأن ارتفاع درجة الخوف يعكس زيادة الاحساس بالخطر، سواء كان هذا الاحساس حقيقياً أم متخيلاً، تجلّت هنا مشكلة الاقليات، والتي تعاني نوعاً مختلفاً من الخوف، وهو الخوف من العزلة (fear of isolation) والذي يعرّف عن طريقين: الاول إجتماعي/نفسي حيث تعرّف العزلة بوصفها تجارب جماعية سلبية وغير مرغوبة وتشمل الوحدة، وإنعدام الجماعة، والوحدة، الانحباس، أو الحجر[30]. فالخوف من العزلة هو رد فعل عاطفي على العزلة الموصوفة والتي تشمل هدفاً أو حاجة قوية لتفادي تلك الخبرات السلبية. الثانية، تعرّف نظرية الاتصالات الخوف من العزلة بوصفها قوة طاردة، أي ضغط من المجتمع لتسريع لولب الصمت.
ولولب الصمت، كطريقة يقترحها Noelle-Neumann، تسلِّط الضوء على الاقليات وخوفها من التعبير عن آرائها بصورة علنية، وبالتالي فإنها تميل الى إخفاء نظراتها حين يعتقد أفرادها بأنهم أقلية. والضغط الناشيء هنا على صلة وثيقة بمخاوفهم من كونهم قد يُقَيّموا بصورة سلبية من قبل الآخرين[31]. وهذه النظرية ترى بأن الاعلام الجماهيري يعمل بصورة عفوية مع رأي عام الاغلبية. وبالتالي فإن الافراد الذين يخشون من العزلة إجتماعياً يميلون الى التوافق مع ما يُعتقَد بأنه رأي الاغلبية. باختصار، فإن الخوف من العزلة يبدو كونه العامل العاطفي الذي يوجّه تصرفات الناس باتجاه الحالات المرغوبة في العالم عن طريق تحريك وجهات نظر ومصالح الناس إزاء المؤسسات الاجتماعية وآخرين حولهم من داخلهم.
في عرضه لنظريتي الوعي الزائف (false consciousness) يلفت جيمس سكوت الى لجوء الطبقة الحاكمة الى إقناع الجماعة المقموعة للاعتقاد بصورة فاعلة بالقيم التي تفسّر وتبرر خضوع أفردها. في المقابل، فإن الخوف من العقوبات يملي على الطبقة المقهورة اللجوء الى وسائل في المقاومة خارج الفضاء العام في سبيل إخفاء نواياها الحقيقية درءا لانتقام الظلمة[32].
ولكن بالرغم من ضراوة التأثيرات الطاغية والمدمّرة لثقافة الخوف فإنها تصبح عرضة للزوال حين تبدأ أنوية التمرد بالتكاثر والالتحام مع بعضها لتشكّل تدريجياً بيئة مضادة، كيما تخلق وسيطاً نموذجياً لنشوء المجتمع المضاد الذي ينزع للانقلاب على ذاته وواقعه، ليرسي نظاماً جديداً يقوم على إحترام حرية وكرامة الفرد وحقوق المجتمع في بناء مؤسساته المدنية المستقلة.