حركات التشيع في المغرب .. ومظاهره !! ..
حركات التشيع في المغرب ومظاهره
د. عبد اللطيف السعداني
تحقيق وتقديم: ا. الحسين الادريسي
مقدمة
يقول ابن بسام، في تعليقه على قصيدة لابي عمر بن دراج القسطلي التي قالها في رثاء علي بن حمود: «وهذه القصيدة له طويلة، وهي من الهاشميات الغر...، لو قرعت سمع دعبل بن علي الخزاعي والكميت بن زيد الاسدي لامسكا عن القول، وبرآ اليها من القول والحول، بل لو رآها السيد الحميري وكثير الخزاعي لاقاماها بينة على الدعوى، ولتلقيا بشارة على زعمهما بخروج الخيل من رضوى...»
اذا وضعنا هذا النص في اطاره التاريخي والادبي لوجدناه يعبر عن محاولة الاندلسيين ابراز نبوغ شعرائهم وادبائهم، بعد ان ضاقوا ذرعا بتقليد كل شيء آت من المشرق،وتضايقوا من نظرة المشارقة الى المغاربة والاندلسيين باعتبارهم تبعا لهم في كل شيء،وقد اوضح ابن بسام، في مقدمة «الذخيرة»، هذا المقصد بوضوح، كما ابرزه مصنفون وشعراء آخرون، وفي ذلك قال ابن حزم الظاهري:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة
ولكن عيبي ان مطلعي الغرب
واذا كانت هذه نظرة القدماء، باقتضاب شديد، فما هي وجهة نظر المحدثين في هذه المسالة؟
لا شك في ان بعض النظرات الاستعلائية، من المشارقة الى المغاربة، قادت الى ردفعل متطرف لا يصمد امام النقد، واحسن من مثل ردة الفعل هذه هو الدكتور محمدعابد الجابري في مشروعه الذي اسماه «نقد العقل العربي»، ووصل الى خلاصة مبتسرة مفادها ان المدرسة المغربية الاندلسية عقلانية وعلمانية، بينما المدرسة المشرقية عرفانية صوفية هرمسية تصل بالعقل الى الاستقلالية. لكن الباحثين المغاربة كانوا اول من فند هذه النظرة التجزيئية الضيقة، ونذكر منهم، على سبيل المثال لاالحصر، الاستاذ طه عبد الرحمان والاستاذ الهاني ادريس، ومن المشارقة من تصدى لهذا الطرح الضيق، نذكر منهم السيد كامل الهاشمي والدكتور جورج طرابيشي وطيب تيزيني وعلي حرب... وبين التضخيم والالغاء تضيع الرؤية، وتحتم على الباحث الجادوالمتوازن ان يناى عن النظرة الاقليمية الضيقة من دون اقصاء ولا استعلاء، لكن الحقيقة المرة التي لا يمكننا ان نتجاوزها تخبرنا بان التراث الادبي والفكري في الغرب الاسلامي ظل مغيبا من جل الدراسات الادبية والفكرية، وحتى ان اهتم بعضهم به كانت النتائج مشوهة اما لعدم سلامة المنهج او لعدم مراعاة خصوصية هذا التراث وتميزه من غيره، ولا نريد ان نسقط في التعميم لان هناك دراسات جديرة بالتقديرعلى مستوى التاليف والتحقيق والتاريخ، ولقد كان بحث السيد حسن الامين «بنومرين»، في العدد الرابع عشر من مجلة «المنهاج»، ضمن هذا المجهود النير، والعلمي الذي لا يجب اغفاله. ويمكن ان اقسم الدارسين المغاربة الذين اهتموا بهذا التراث الى قسمين:
الأول: وهو جيل المؤسسين الذين نفضوا الغبار عن المخطوطات واقتحموا مجاهل المكتبات بحثا وتحقيقا بارادة كبيرة رغم ضعف الوسائل، وقام هذا الجيل بدراسات قيمة، وله يعود الفضل في اخراج هذا التراث من المطامير والخزانات الخاصة وانقاذه من التلف والضياع.
والجيل الثاني : وكان قد تتلمذ على يد الجيل الاول، وهو فريق نشط من اساتذة الجامعات واصلوا مهمة التحقيق والدراسة والتصنيف والتاليف، وقدموا صورة واضحة عن هذا الادب والفكر، بل وصححوا كثيرا من الاراء المغلوطة لبعض المستشرقين وبعض المشارقة الذين رددوا اقوال المستعربين الاسبان، وهم لا يزالون يتابعون مهمتهم بحثا وتكوينا، وستكون وقفتنا اليوم مع رائد من رواد الجيلين: الاول والثاني في الوقت نفسه، وهو المرحوم الدكتور عبد اللطيف السعداني خريج جامعة طهران سنة 1964. وقد كان من الباحثين الاوائل الى جانب بن تاويت التطواني الذين استطاعواالجمع بين ثقافتين عانتا كثيرا من التهميش والتجاهل من باحثي الادب العربي، ويتعلق الامر بالثقافة المغربية الاندلسية والثقافة الفارسية وما تحملانه من خصوصية ضمن التراث الاسلامي والانساني. والغريب في الامر ان نجد باحثين عرب ياخذون من هذين الثقافتين بوساطة الثقافة الغربية، وهذا ما يقود الى نتائج مبتسرة ومكرورة.
لقد كان الدكتور عبد اللطيف السعداني استاذا للادب الفارسي في جامعة الرباط وبعد ذلك في فاس، وقد اشرف على تكوين كثير من الاساتذة الجامعيين الذين يملاون الساحة الثقافية اليوم بحثا وتمحيصا. وقد خوله اطلاعه الواسع على الثقافتين الفارسية والمغربية الاندلسية ان يلج باب الدراسات المقارنة، كما قدم بحوثا قيمة نشرت في بعض دوريات جامعتي الرباط وفاس، غير ان الاستاذ فارق الحياة وهو في اوج عطائه،وكان سعيه مشكورا اذ اوقد مصابيح كثيرة هي في حاجة، من جيل الباحثين الجدد، لان يواصلوا المهمة، والا يتنكروا لجيل الاساتذة المؤسسين. ولا تزال الدكتورة مهوش اسدي، حرم الاستاذ عبد اللطيف السعداني، تواصل مهمة التدريس في جامعة فاس في تخصص اللغة الفارسية وآدابها، كما اننا نتمنى من د. مهوش اسدي ان تنير لنا طريق ذلك الاستاذ الراحل وتزيل عنه وعن بحوثه بعض ما علق بها من الغبار، هذه البحوث التي كان لها فضل السبق في اثارة قضايا سكت عنها الكثيرون، ووفاء منا لمجهودات هذاالرجل الكريم نقوم بتقديم محاضرته هذه للقراء والنقاد والدارسين بعد ان قمنابمراجعة النص الاصلي والقيام ببعض التصويبات، ومراجعة مصادره ومراجعه وتحقيقهاواثبات احالاتها، وللاشارة فان الدكتور السعداني كان قد قدمها في المؤتمر الالفي لشيخ الطائفة الطوسي (قده) في ايران، وقد طبعت حينها في كراسة متواضعة نشرتها(دانشكاه مشهد داشنكاه الهيات ومعارف اسلامي، مركز تحقيقات ومطالعات) سنة(1398ه) تحت عنوان «حركات التشيع في المغرب ومظاهره». ويبدو ان الدكتور السعداني كان قداقتحم غمار هذا البحث منذ اكثر من عشرين سنة، وفي ذلك الوقت كان كثير من المصادر المغربية الاندلسية لا يزال مفقودا او مخطوطا، وقد يلاحظ الباحث ذلك في هوامش هذا البحث، لكن وللاسف لم يضف الدارسون شيئا جديدا،وبعض الدراسات التي تناولت الموضوع لم تخل من نزعات مذهبية ضيقة، ولذلك نامل ان يكون نشر هذا البحث في «المنهاج» الغراء منطلقا لمناقشة هذا الموضوع من زوايا متعددة.
المحاضرة
عادات مستقرة في بلاد المغرب
بحلول شهر محرم، من كل عام، يتغير وجه الحياة في المغرب؛ حيث يدع الناس ايام الدعة والاستكانة الى الاهواء، ويتبدلون بها عودة الى محاسبة النفس، فيستيقظ الضميرفيهم وتعود الذكرى الى حياتهم الاسلامية لتنير فيهم واقعهم وما هم عليه، وتحيي في ايمانهم المعنى الخفي للحقيقة التي انتقلت من الوحي النبوي الى آل بيته وابناء عترته.تلك هي ذكرى عاشوراء، واستشهاد سيدنا الحسين. ففي هذا الشهر ترى الناس في جميع مدن المغرب في هرج ومرج لا يمكن ان يوصف الا بان حدثا عظيما قد حل بهم، واي حدث اعظم من الفتنة الكبرى التي ادت الى انهيار ذلك الطود العظيم حفيدرسول الله(ص)، فاذا هم منصرفون الى القيام باعمال وتصرفات امتزجت اليوم فيهم جميعهم، وحلت من السنة محلا مرموقا مترقبا، ولكن الزمن اكسب هذه المناسبة طابع العادة حتى لا يكاد الا القليل يدرك مغزاها الحقيقي.
غير ان الامر الذي تعرف عليه اهل المغرب، ونظروا اليه نظرة احترام وتقديس هو ان شهر المحرم شهر العزاء يهيمن فيه الاسى والحزن العميق على القلوب، فلا يباح مطلقا التجمل حتى ولا غسل بيوت او ثياب، ولا تزف عروس، ولا تدق طبول او تسمع مزامير، بل ان الناس يلبسون في هذه المناسبة لباس العزاء؛ وهي في بلاد المغرب ثياب بيضاء. وتبدا الاسر العلوية هذه المواسم، منذ اليوم الاول من المحرم الى العاشر منه، اما باقي الشرفاء فيتمون الى آخر الشهر، ويطبخ في اليوم المشهود الاكل للتصدق به، وقد جعلت طبقة التجار هذه المناسبة لبذل المال، فكان هذا اليوم هو يوم الزكاة في السنة، لكانما يرمز ذلك الى محاسبة الاعمال. اما الاخرون فيمسكون عن الاكل في هذا اليوم احتسابا لله. ولا ينفك الحزن غالبا على احوالهم حتى ليعتقدوا انه غالبا مايصادف ان يبكي الانسان في هذا اليوم، يوم عاشوراء، بل لتجدنهم سعداء بتلك الدموع الغالية التي تذرف تعبيرا عن الالم لفقدان شهيد الحق. اما الاطفال فلهم من هذه الذكرى اللعب، ونلاحظ من بينها قلل (براميل) الماء الصغيرة التي تهدى اليهم من ذويهم، وذلك رمز للظما الذي مات به شهيد الذكرى. واكبر ما يستوقف الملاحظ هوبقايا مشاهد المراثي التمثيلية بالكراكيز التي تقام كل سنة في المدن: مكناس وفاس ومراكش.
فكيف استقرت هذه العادات في الحياة المغربية؟ والى اي حد تغلغلت في عقيدة المغاربة؟ ان المغاربة، منذ بداية تاريخهم الاسلامي، لهم حب شديد وتعلق كبير ب آل البيت الاطهار، وليس ادل على ذلك من مؤازرتهم لهم حيث وجدوا عندهم الملاذالاخير بعد ان حوربوا في بلادهم ويئسوا من البقاء فيها، فالتجاوا الى بلاد المغرب،فايدهم المغاربة ونصروهم واعترفوا بحقهم، وبذلك تكونت في رحاب المغرب الاقصى وبين ظهراني المغاربة الدولة الهاشمية الادريسية، وهي اول دولة علوية تتكون في العالم الاسلامي. كما ان اول دولة شيعية وهي الدولة الفاطمية نشات وترعرعت في بلاد المغرب بتونس، وكان هذا الامر نفسه هو الدعامة الاساسية لتكوين الدولة السعدية والدولة العلوية بعد ذلك في المغرب. وهذا فضل للمغاربة سجلوه في تاريخ العقيدة يقضي الانصاف ان نذكره لهم هنا.
دولة الادارسة
بعد ان انجاب الظلام، في وقعة فخ، ثاني ذي الحجة سنة 169ه، عن مقتل الامام محمد (النفس الزكية) بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه؛ تفرق ابناء عبدالله في الارض شذر مذر، وولى كل وجهة يطلب النجاة بالامانة التي يحملها بين جوانبه، ويبحث عن المكان الجدير بها ليبث السر ويذيع الامر... وسقط الاخوة الواحد تلو الاخر في ميدان الجهاد من اجل الدعوة في مختلف بقاع العالم الاسلامي. وكان ادريس، احد هؤلاء الاخوة، قد يمم وجهه شطر بلاد المغرب يرافقه ويرعاه مولاه راشد، وكتبت له الاقدار النجاة من الاخطار التي كانت تترصد آل البيت حيث ما كانوا والتي كانت ترافقه وهو ينتقل من الحجاز الى مصر، ومنها الى برقة والقيروان ثم طنجة، واخيرا استقر به المطاف، غرة ربيع الاول سنة 182ه، في مدينة «وليلي». وبذلك خط في تاريخ الشرفاء العلويين عهد جديد يبشر بالخير..
وما ان عرف صاحب «وليلي» عبد الحميد الاوربي نسب المولى ادريس الشريف حتى رحب به وانزله المكان الجدير به، وسمع به اهالي قبائل اوربة البربر فهرعوا يسلمون اليه قيادهم شاكرين لله هذه النعمة، معبرين عن ذلك بقولهم: «الحمد لله الذي اتانا به وشرفنا بجواره فهو سيدنا ونحن عبيده نموت بين يديه».فاخذ منهم عبد الحميد البيعة للمولى ادريس.
كان هدف المولى ادريس، منذ اللحظة الاولى، هو نشر الاسلام على نطاق واسع بين مختلف قبائل البربر المغربية؛ اذ ان اكثرهم كان لا يزال يدين باليهودية والنصرانية.وعاود هذه الحملة التطهيرية سنة 173ه، واردفها باخرى حتى اسلمت بلاد تامسناوتادلا، ممهدا لارساء اسس دعوته، ولكنه لم يستمر طويلا في القيام بالامر فقد عاجلته القوى المترصدة لال البيت(ع) في بغداد بعد ان قضت على كل اثر لهم في الشرق،فقتل ولما يمر على حكمه سوى زمن يسير. ثم ما لبثت النكبات ان بدات تظهر من جديد، فقتل مولاه راشد الذي اخلص للدعوة لال البيت، وتفانى في خدمة المولى ادريس، وكان له اكبر الاثر في تكوين هذه الدولة الفتية. وركدت امور هذه الحركة الاسلامية المباركة في بلاد المغرب قليلا، غير ان البربر استمروا في الوفاء للعهد الذي بذلوه الى ان شب ادريس الثاني الابن الوحيد الذي تركه مؤسس دولة الادارسة من زوجته البربرية «كنزة»، وبلغ الحادية عشرة، فتسلم زمام الامور وتابع القيام بهذه المسؤولية...
فبرزت المرحلة الثانية من مسيرة الدولة الادريسية، وما زال يوطد دعائمها، فكان مماعمد اليه واهتم به قطع الصلة بين المغربين وبين الدولة العباسية((233)) واستئصال الخوارج الصفرية من البلاد. وبهذا نرى انه وضع الخطة التمهيدية الثانية، وافسح في المجال للدعوة والقائمين بها. ومضى خلفاؤه من بعده في محاربة الخوارج كما فعل علي بن عمر بن ادريس ويحيى بن ادريس الذي قضى على الخارجي الثائر في فاس عبدالرزاق الفهري الصفري((234)). ولكن خلفاء المولى ادريس الثاني واجهوا، في سبيل نشر دعوتهم والاعلان عنها، عراقيل كثيرة وصعابا جمة، فقد كثرت الاضطرابات والقلاقل من كل جانب بعد ان وزعت المملكة بينهم، واستفاد المتربصون شراوالطامعون في احتلال البلاد. فالامويون في الاندلس يحاولون باصرار بسط نفوذهم على المغرب والسيطرة على دولته، ويستخدمون لذلك جميع الوسائل ليضطرواحكامه الى الخضوع حتى انهم سلطوا عليهم اشد الحقد وارادوا استئصالهم من المغرب نهائيا، وظلوا لهم بالمرصاد الى آخر ايامهم حتى اجلوا عن اوطانهم ورحلواالى الاندلس... الى جانب هذا كان على مسرح المغرب في المرحلة الحساسة لتكامل دولتهم نشوء الدولة الفاطمية في تونس ومزاحمتها في تزعم هذه الحركة.
ومع ذلك، فقد تخللت مرحلة حكم الشرفاء الادارسة للمغرب اوقات اعلن فيها الحكم الشيعي الصريح ومذهبه حيث سمحت الفرصة بالبوح بعقيدتهم. ذلك ان هذه الدولة كانت تشهد على حدودها الشرقية مولد اول دولة شيعية هي الدولة الفاطمية في تونس،وسرعان ما تم الامر لهذه الدولة، وبدات توسع رقعة سلطانها في المغرب من جهة وتتطلع الى مصر من الجهة الاخرى، ففي سنة 305ه توجه مبعوث عبيدالله «مصالة بن حبوس المكناسي»، قائد عبيدالله المهدي، الى المغرب، ووصل الى فاس حاضرة الادارسة فحاصرها، وكان اميرها يحيى بن ادريس الادريسي الامير الذي ملك جميع بلاد المغرب وبلغت الدولة الادريسية في عهده اعلى مقام واصبحت الحال على وشك الاستقرار. فشدد الحصار الى ان صالحه هذا الامير بقبول طاعة عبيداللهالشيعي، فابقاه على حكم باقي البلاد المغربية، وكان من الجائز ان تسير امور الادارسة والفاطميين على احسن ما يرام، وان ينمو هذا الاتجاه الجديد في العقيدة المغربية يؤازراحدهما الاخر ويعينه لو لم يدب الحقد والحسد الى ابن ابي العافية فيوغر صدر«مصالة» على يحيى الادريسي ويوقع بينهما وهو يظهر النصح للشيعة والاخلاص لهم والتمسك بدعوتهم. وهنا يتحول اهتمام الادارسة فينصرفون الى الانشغال بمبارزة العداء الذي يواجههم، وتتم المؤامرة فيعزل يحيى، ولكن اهل فاس لا يقبلون «ريحان»بديله عليهم من قبل العبيديين، ثم لا يلبث ان يثور الحسن الحجام بن محمد بن القاسم بن ادريس سنة 310ه، ولكنه يلقى حتفه بسبب خيانة عامل فاس سنة 313ه.وهنا ينتهي عهد الادارسة في فاس؛ حيث يعتصمون «بحجر النسر» بالريف، ذلك المعقل الذي بناه اخو الحسن الحجام ابراهيم سنة 313ه، وظل ابن ابي العافية متحكمافي المغرب من طرف العبيديين الى سنة 320ه؛ حيث خلع طاعتهم ودعا للامويين،فحاربه الفاطميون، وخرج اذ ذاك الادارسة من حصنهم «حجر النسر» بعد ان ظلوا فيه اربعة اعوام، وانضموا اليهم في قتال موسى بن ابي العافية حتى قضوا عليه... ولكن البلاد بقيت مع ذلك في قبضة الامويين الى سنة 323ه؛ حيث قدم ميسور الفتى الى المغرب من لدن ابي القاسم عبيدالله المهدي على اثر وفاة والده، وحاصر مدينة فاس الى ان تمكن منها، وبقيت هذه المدينة تحت امرة الفاطميين حتى سنة 330ه، اي مدة ثماني عشرة سنة فتولى الادارسة جميع البلاد قائمين بدعوة ابي القاسم الشيعي.ويظهر انه تم بذلك اجتماع هاتين الحركتين وبدا الانسجام بينهما... فنجد الادارسة في هذه المرحلة يظهرون تشيعهم؛ اذ ملك منهم اذ ذاك القاسم بن محمد بن القاسم بن ادريس الثاني الملقب ب «كنون» وقام بدعوة الشيعة((235)).
غير ان القوة التي كانت تجاورهم من الشمال كانت تهددهم باستمرار، فما ان توفي «القاسم» سنة 337ه، وتولى ابنه «ابو العيش احمد بن القاسم» حتى دعا الى الامويين وبايع لعبد الرحمن الناصر لدين الله (300 377)، ويمتاز هذا الامير بانه كان يتوق الى الجهاد في بلاد الاندلس وبها مات سنة 343ه، تلك البلاد التي كان لها في ما بعد شان في تاريخ هذه الدعوة، فما لبث الفاطميون ان اعادوا الكرة سنة 349ه، وردوا الامور في المغرب الى نصابها. وبعد هذا ظهر آخر ملوك الادارسة، وهو اخو ابو العيش، الحسن بن كنون مبايعا للعبيديين ثم للامويين «خوفا منهم لا حبا فيهم» كما يقول ابن ابي زرع في كتابه القرطاس((236)) الى ان دارت عليه الدائرة، فابعد واهله عن المغرب،وانتهى الامر ان حاربهم وقتل وهو يحاربهم سنة 375ه، وبذلك انقرضت الدولة الادريسية وهي تخوض المعارك((237)). لقد ملكت هذه الدولة العلوية الشريفة بلاد المغرب زهاء مئتين وثلاث سنوات، وبسطت نفوذها من السوس الاقصى الى مدينة وهران، وبالرغم من هذه المدة الطويلة فانها لم تتمتع بالاستقرار الذي يمكنها من خوض المعارك الفكرية والعقدية التي كانت على اهبة القيام بها بعد المعارك السياسية((238))، فقد اصابتها هزات عنيفة من كل جانب، وقصرت عن الوصول الى مستوى منافسيها في الخلافة ل «ضعف سلطانهم وقلة مالهم»((239))، على ان هناك في راينا عاملين اساسيين آخرين كان من شانهما ان لا يشجعا على ظهور التشيع في المغرب يجب ان يضافا الى ما تقدم. فبالرغم من ان المغرب قد عرف ظهور دولة المذهب الشيعي ومبادئه فان ازدهار هذا المذهب وبلوغ الدولة الفاطمية شاوا كبيرا تم بعيدا عن البلاد المغربية في مصر، وقد كان هذا من الاهداف التي جعلت الفاطميين ينقلون دولتهم من المغرب الى مصر.كما ازدهر الفكر الشيعي في البلاد الشرقية مثل ايران، حيث كانت هذه البلادمستعدة فكريا لقبول العقائد الشيعية والخوض فيها لماعرفته من قبل ذلك من فلسفات وعلوم ومعارف، كما انها كانت مستعدة روحيا لذلك بعدما عاشت الصراع السياسي الذي خاضه ائمة التشيع. وهذا كله لم يكن يتوافر في البلاد المغربية التي كانت عقيدتها الاسلامية ولا تزال بسيطة وايمانها بهذه العقيدة ساذجا.
ومهما يكن من امر فقد بذل المغاربة للادارسة الولاء ودانوا لهم بالطاعة الكاملة اخلاصامنهم في محبة آل البيت، واوضح دليل على هذا التفاني في الاخلاص لهم انهم كانوادائما معهم يؤيدونهم في حالاتهم جميعها، في متابعتهم للمروانيين، وفي متابعتهم للعبيديين.
دولة بني حمود
كاد اثر دولة الادارسة ينمحي، او هكذا ظن اعداؤهم الامويون بعد ان اجلوهم عن معاقلهم في الريف الذي كان يدين لهم بالحب، وفي جبال اغمارة التي ظلت تنقاد لهم وتعظمهم((240)) بعد ابعادهم عن بلادهم حتى لم يبق منهم بالعدوة رئيس((241)) ونفيهم الى الاندلس. غير ان التشيع الموروث لاولاد ادريس((242)) خلد هذه الدولة الى الابد في نفوس المغاربة والبربر بعامة، فلم تخب دولتهم ولا زال امرها بل سرعان ما انتقلت الى الاندلس لتزيل دولة بني امية وتخلفها،وكانت حركة اولئك النازحين الى هذه البلاد من تلك الاسرة الادريسية الذين استقرواسنة 324ه بقرطبة تحت رعاية ملكها الحكم الاموي الرمز الاول لهذا الانتقال.كماانتقلت مع البربر الفاتحين للاندلس في ذلك العهد الذين حفظوا للشرفاء عهد المحبة والولاء، فما ان ظهر احفاد للادارسة على مسرح الحياة السياسية بالاندلس حتى التفواحولهم ودعوا لهم.. كان ذلك عندما عبر اثنان من اعقاب الادارسة الى بلاد الاندلس في خدمة سليمان بن الحكم الاموي، وهما القاسم وعلي ابنا حمود بن علي بن عبيداللهبن عمر بن ادريس الثاني بن ادريس الاول. وكان اول امرهما ومبدا نشاة الدولة في اسرتهما ان وليا قائدين على المغاربة في الاندلس، ثم وكل سليمان القاسم امورالجزيرة الخضراء، وعليا وهو الاصغر امور سبتة وطنجة. وقد كانت لقبائل صنهاجة((243)) وزناتة وبني يفرن بتاكرونة((244)) وبرغواطة((245)) اليدالبيضاء في مدهم بالمساعدة وشد ازرهم، حتى قال الشاعر ابو عبيدالله الرعيني في مدح القاسم: