شرح دعاء وداع شهر رمضان المبارك - العلامة المرجع السيد فضل الله (رض)
شرح دعاء وداع شهر رمضان المبارك
في أجواء الأيام الأخيرة من الشهر المبارك، ننشر لكم دعاء "وداع شهر رمضان"، مع شرحٍ وافٍ له، من سماحة العلامة المرجع، السيّد محمّد حسين فضل الله(رض)، ويتمحور شرحه في المقطع الأوّل، حول إيحاءات شهر رمضان، وفرصة الانفتاح على الآفاق الإلهية الرّحبة، والعطاء الإلهيّ اللامتناهي لعباده...التفاصيلhttp://arabic.bayynat.org.lb/pics/details.gif
شرح دعاء "وداع شهر رمضان المبارك" - الحلقة الأولى
إيحاءات شهر رمضان
إذا كان استقبال شهر رمضان للمؤمن، فرصةً للانفتاح على الآفاق الإلهيّة الرّحبة في امتداد المعاني الرّوحيّة التي يُراد له أن يعيشها في روحه وفي وجدانه، فإنّ وداع شهر رمضان قد يحمل له بعضاً من الألم واللّوعة، في ما يفتقده من أجواء، أو في ما يخسره من نتائج على مستوى الثّواب الإلهيّ على الأعمال الّتي يحتويها هذا الشّهر في واجباته ومستحبّاته، ما يجعل الإنسان خاضعاً للمشاعر السّلبيّة، تماماً كما لو كان في واحةٍ خضراء وانتقل إلى صحراء قاحلة، لأنَّ الزَّمن القادم قد يختزن في داخله بعض الفرص، ولكنَّها لن ترقى إلى فرصة هذا الشَّهر المبارك، الّذي جعله الله شهره الّذي يُدخل فيه عباده إلى ضيافته الرّوحيّة في ما يُسبغه عليهم من الألطاف، ويفيض عليهم من الرّحمات، ويمنحهم من البركات، بما يفتح لهم فيه أبواب جنّاته، ويقودهم إلى ساحات رضوانه.
شهر رمضان، هو الموسم الّذي ينفتح على كلّ قضايا الإنسان وحاجاته، في ما يحقّقه الله له منها، ممّا يتناسب مع مواقع صلاحه في دنياه وآخرته، ولذلك كان المحروم المحروم، هو الّذي حُرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم، كما جاء في خطبة رسول الله(ص)، الّتي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعةٍ من شعبان. ولكنّ الإمام زين العابدين(ع) في أسلوب الدّعاء، يتّجه في المسألة اتّجاهاً آخر، حيث يفتح وعي الإنسان المؤمن على النّتائج الكبيرة الّتي حصل عليها فيه، ويحرِّك المشاعر الحميمة الّتي تجعل بين شعور الإنسان وأيّام هذا الشّهر رابطةً قويّةً تؤدّي إلى اختزان المعاني الرّوحيّة في كيانه، فلا تذهب بذهاب هذا الشّهر، بل تعمل على التّخطيط للاستفادة منها في إغناء الزّمن القادم في غيره من الشّهور، بكلّ ما يحمله من الخصائص الفريدة الّتي يمكن أن يحملها الزّمن من خلال العمق الإنسانيّ في معرفة الله والشّعور بالمسؤوليّة.
وفي ضوء ذلك، لا يكون الزّمن مجرّد لحظاتٍ طائرةٍ في الفراغ، بل يكون قيمةً تمتلئ بالإنسان في فكره وشعوره وحركته في الحياة، حيث يأخذ الزّمن من الإنسان معناه وروحه، كما يأخذ الإنسان منه حركته وخطّ سيره، وبذلك يفقد الزّمن معناه التّجريديّ كعنصرٍ مستقلّ في إعطاء الحياة خطّها الطّويل، بل يكون شيئاً في الإنسان، فيما يكون الإنسان شيئاً في عمليّة تداخلٍ وامتداد.
ثمّ يثير التطلّع الفكريّ والرّوحيّ في ابتهال الإنسان لله، أن يمدَّ في عمره ليلتقي برمضان جديد في فرصةٍ جديدةٍ للعمل والحياة.
ولعلّ قيمة هذا الدّعاء في بعض فقراته، من النّاحية الفنيّة، أنّه يحوِّل الشّهر إلى كائنٍ صديقٍ في مشاعره ومواقفه، فيخاطبه كما يخاطب صديقه، ويتحدّث إليه بالجانب الشّعوريّ الّذي يتفجّر في الوجدان حبّاً وحزناً وتطلّعاً إلى اللّقاء الجديد.
وهو في الوقت نفسه، يأخذ من العناوين الكبيرة لإيحاءات هذا الشّهر، عناوين متحرّكة للحياة الّتي يستمرّ في مواجهتها بمنطق المسؤوليَّة، لتبقى معه في النّتائج الحاسمة لقضيَّة المصير الأبديّ في موقفه أمام الله، في ما يريده الله منه من مواقف وأعمال.
اللَّهُمَّ يَا مَنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْجَزَاءِ، وَيَا مَنْ لَا يَنْدَمُ عَلَى الْعَطَاءِ، وَيَا مَنْ لَا يُكَافِئُ عَبْدَهُ عَلَى السَّوَاءِ، مِنَّتُكَ ابْتِدَاءٌ، وَعَفْوُكَ تَفَضُّلٌ، وَعُقُوبَتُكَ عَدْلٌ، وَقَضَاؤُكَ خِيَرَةٌ، إِنْ أَعْطَيْتَ لَمْ تَشُبْ عَطَاءَكَ بِمَنٍّ، وَإِنْ مَنَعْتَ لَمْ يَكُنْ مَنْعُكَ تَعَدِّياً، تَشْكُرُ مَنْ شَكَرَكَ وَأَنْتَ أَلْهَمْتَهُ شُكْرَكَ، وَتُكَافِئُ مَنْ حَمِدَكَ وَأَنْتَ عَلَّمْتَهُ حَمْدَكَ.
العطاء سرّ الذات الإلهيّة
إنّها البداية الّتي يُراد لها أن تطوف بالإنسان المؤمن في آفاق التصوّر الإيمانيّ لله في صفاته الإلهيّة، الّتي تطلّ على شؤون المخلوقين في علاقة الخالق بهم، ليتعرَّف من خلال ذلك، موقعه من ربّه، من خلال موقع الله من عباده في رعايته لهم ولطفه بهم، ليكون الدّعاء حالة وعيٍ في العقيدة، من حيث هو حالة ابتهالٍ في الحاجة، وفي المعرفة العميقة الواسعة.
فالله هو سرّ العطاء الّذي لا يقف عند حدّ، ولا يجتذب أيّ شيء في مقابله، وذلك من خلال انفتاح رحمته على عباده في ما يحتاجون إليه في شؤون حياتهم وحركة وجودهم، لأنّه خالقهم ورازقهم، فكما أعطاهم الوجود من دون مقابل، فإنّه يعطيهم حاجات الوجود بالطّريقة نفسها.
ثم ما هي حاجته إلى الجزاء وهو الغنيّ عن خلقه، وما هي قدرة عباده على تقديم العِوَض لألطاف الله ورحماته، وماذا يملكون من كلّ ما بأيديهم وما حولهم ما دام ذلك كلّه من الله؟!
وهو المعطي الّذي لا يندم على العطاء، لأنّ العطاء ينطلق من حكمته بالمعنى نفسه الّذي ينطلق فيه من كرمه، من خلال تدبيره للوجود، على أساس أنّه أهل العطاء الّذي ينطلق من فيض الرّحمة في ذاته، ليشمل من يستحقّ ذلك من خلال العمل، ومن لا يستحقّه، وذلك هو الإيحاء في الفقرة المأثورة في بعض الأدعية: "فإنْ لم أكنْ أهلاً أن أبلُغَ رحمتك، فرحمتُكَ أهلٌ أن تبلغَني وتسَعَني لأنّها وسِعَتْ كلّ شيء".
ولذلك، فلا معنى للنّدم، ما دامت المسألة خاضعةً لخطّ الرّحمة، وما دامت القضيّة منطلقةً من سعة الكرم، فإنّ الّذين يندمون هم البخلاء، أو الّذين يخافون الفقر من خلال العطاء.
وإذا كان العطاء سرّ ذاته، فإنّه لا يخضع للحسابات الدّقيقة على أساس أفعال العبد الحسنة والقبيحة، ليزيده في جانبٍ أو لينقصه في جانبٍ آخر... ولذلك، فإنّه لا يكافئ عبده على السّواء، بل يضاعف له الأجر إن كان العمل خيراً، وقد يغفر له إن كان شرّاً، وذلك هو قوله تعالى في مضاعفة الحسنة: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. وفي المغفرة قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرّعد: 6]. أمّا الّذي يبقى في دائرة المسؤوليّة والعذاب، فإنّه لا يستعجله، بل يمهله ويترك له فرصة التّراجع والتّوبة، وذلك مما لا تفرضه طبيعة المعصية.
"مِنّتُك ابتداء" : والمراد بها النّعمة التي يتفضّل الله بها على الإنسان من دون استحقاق، لأنّ الإنسان لم يبدأ عملاً يجتذب النّعمة، بل الله هو البادئ في ذلك على كلّ عباده.
"وعفوك تفضُّل" : لأنّ المذنب لا يستحقّه في موقع ذنبه، بل يستحقّ ـ بدلاً من ذلك ـ العذاب، ولكنّ الله ينفتح عليه من موقع الرّحمة، من خلال ألطافه في ما يعرفه من نقاط ضعفه، ليفسح له في المجال للثّقة بالله والانفتاح عليه من أبواب الحِلْم الكبير.
"وعقوبتُك عدْلٌ" : لأنّ الله أقام الحجّة على عباده في ما ألزمهم به من أوامره ونواهيه، وفي ما أغدقه عليهم من نِعَمِهِ، فإذا أخطؤوا، فإنّهم يواجهون المسؤوليّة في خطّ التّوازن بين العمل والجزاء. والمقدّمات والنّتائج.
ثم إنّ الظّلم ينطلق من عقدة ضعفٍ يختزن الخوف والحاجة في نفس الظّالم، والله هو القويّ القادر الّذي لا يحتاج إلى عباده ولا يخاف قوّتهم، لأنّه القاهر فوقهم، والمهيمنُ عليهم، من موقع أنّهم المخلوقون له، الخاضعون لتدبيره، فكيف يكون ضعف الخالق أمام المخلوقين، وما هو سرّ الحاجة إلى الظّلم، وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54].
"وقضاؤكَ خِيَرةٌ" : والقضاء هو حكم الله الّذي يحتوي حياة الإنسان في ما يتّصل بكلّ أوضاعه، من حيث هو أحد الموجودات في حركة النّظام الكونيّ الّذي يدبّره الله على أساس المصلحة الكامنة في عمق الوجود لكلّ المخلوقات، في الدّوائر العامّة والخاصّة، حتّى في ما قد يبدو مثيراً للآلام والمشاكل، فإنّ النتائج السلبيّة الخاصّة في وعي الإنسان وشعوره، لا تعني السّلبيّة المطلقة في طبيعة القضايا المتّصلة بها، لأنّ من الممكن أن يكون ما هو سلبيّ من جهةٍ، إيجابيّاً من جهةٍ أخرى، وهذا ما نلاحظه في اختلاف النّظرة إلى الأمور على مستوى النّظرة العامّة أو الخاصّة، حيث يختلف جانب التّقويم للمسألة على أساس اختلاف طبيعة النّتائج هنا وهناك: وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة:216]، في حديث الله عن القتال الّذي إذا نظرنا إليه في الدّائرة الضيّقة في حياة الفرد كان شرّاً، لأنّه يهدّد سلامته، بينما يكون خيراً في دائرة المجتمع الواسعة، في ما يحقِّقه من نتائج كبيرة على مستوى العزّة والكرامة والحريّة والعدالة.
وفي قوله تعالى في علاقة الأزواج بزوجاتهم: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النّساء: 19]. فإنّ الفكرة هي أن لا يحكم النّاس على الأشياء من خلال النّظرة السطحيّة الّتي تنظر إلى الجانب الظّاهر منها، بعيداً عمّا تستبطنه من الخصائص العميقة في الجذور، وهذا هو الّذي يجب أن يدرسه الإنسان في كلّ القضايا المتعلّقة بحياته على مستوى المصير الّذي يمثّل عاقبة الأمور، في ما قد تبدو فيه النّهاية على عكس البدايات، كما أنّ من الضّروريّ له أن لا يحدّق بها من زاوية واحدة، فإنّ الاستغراق في جانبٍ واحدٍ، قد يُبعده عن النّظرة الحقيقيّة الواقعيّة التي تحتاج إلى دراسة الأمور من جميع الزّوايا، لتجمع كلّ عناصرها الذّاتيّة.
وربّما يحتاج الإنسان ـ في هذا المجال ـ إلى أن يدرس موقعه من حيث هو فرد مستقلّ في حاجاته الشَّخصيَّة وتطلّعاته الذاتيَّة، ومن حيث هو جزء من المجتمع الصَّغير أو الكبير في ارتباط قضاياه بقضايا النَّاس، في المنافع والمضارّ، فقد تتعارض الصِّفة الفرديَّة مع الصّفة الاجتماعيّة في طبيعة الأوضاع العامّة والخاصّة، ما يجعل المسألة إيجابيّةً من النّاحية العامّة، وسلبيّةً من النّاحية الخاصّة، فلا بدَّ له من أن يتحمّل السّلبيّات الذاتيّة لمصلحة الإيجابيّات الكبيرة، وبذلك تستقيم النّظرة إلى الواقع الإنسانيّ في دائرة النّظام الكونيّ الّذي هو جزءٌ منه في خطّ التّوازن في النّظرة والحكم على أساس المقدّمات والنّتائج.
وقد نلاحظ في بعض الأدعية، الخطّ التّربويّ الّذي يُوحي للإنسان بأن يشكر الله على الحرمان كما يشكره على العطاء، من موقع الثّقة المطلقة بالخير في قضاء الله، الّذي يعرف من مصلحة الإنسان ما لا يعرفه الإنسان من نفسه، وذلك هو قول الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) في دعائه في الرّضا إذا نظر إلى أصحاب الدّنيا: "اللّهمّ وطيّب بقضائك نفسي، ووسّع بمواقع حُكمِكَ صدري، وهبْ لي الثّقة، لأقرّ معها بأنّ قضاءك لم يجر إلا بالخِيَرة، واجعل شكري إيّاك على ما زويت عنّي، أوفرَ من شكري إيّاك ما خوّلتني".
فإنّ الإيمان بالله الحكيم العادل الرّحيم اللّطيف بعباده، يوحي للمؤمن بهذا الشّعور الّذي لا ينطلق من حالة انسحاقٍ في القبول بالنّتائج السلبيّة، بل من حالة اقتناعٍ روحيّ ينطلق من القناعة الفكريّة بالعمق الذي يتحرّك فيه القضاء من موقع الرّحمة والحكمة والعدالة واللّطف الإلهيّ الكبير.
"إن أعْطَيْتَ لمْ تشُب عطاءَكَ بِمَنٍّ، وإنْ منَعْتَ لم يكُن منْعُكَ تعدِّياً".
إنّك تعطي ـ يا ربّ ـ كلّ عبادك، لأنّ العطاء سرّ ذاتك فيما هو سرّ كرمك وعمق رحمتك، فليس هو شيئاً يُراد به اجتذاب اعترافٍ بالجميل منهم، في ما يتطلّبه أهل العطاء من ذلك ممن يُعطونه، لتغذية الفراغ الذّاتيّ الّذي يبحث عمّا يملؤه من مدح النّاس وحمدهم، كما يبحث الصّوت عن الصّدى، والله هو الغنيّ عن عباده في كلّ شيء من خلال غناه الذّاتيّ، فلا معنى للمنّ في معنى عطاء الله لعباده، لأنّهم ليسوا شيئاً منفصلاً عنه، فهم خلْقُه ومُلْكُه وموقعُ تدبيره، وهم بعض عطائه في وجوده، كما أنّ نِعَمَه التي يُفيضها عليهم، من توابع ذلك ومن شؤونه، فكيف يمنّ المعطي على عطائه مع غناه المطلق.
إنّك قد تمنع عنّي بعض نعمك، فقد لا تمنحني المال وأنا في حاجةٍ إليه، وقد لا تُسبغ عليّ العافية وأنا أتطلّع إليها، وقد لا تعطيني الكثير مما أطلب وأرغب فيه... ولكن هل يكون منعك لوناً من ألوان التعدّي عليّ، كما هو شأن المخلوقين عندما يمنع بعضهم بعضاً ما يحتاجون إليه مما يملكونه، في ما هو حقّ المخلوق على المخلوق في تبادل الحاجات، وتقابل الحقوق؟
إنّ التعدّي في التصرّف السلبيّ، في ما هو المنع والحرمان، يفرض حقّاً للمحروم لدى الحارم، ودَيْناً للممنوع لدى المانع.. وهنا نتساءل يا ربّ: أيّ حقٍّ لنا عليك، وكلّ وجودنا هبةٌ منك وملكٌ لك، فأنت صاحبُ الحقّ في المنع، كما أنت صاحب الحقّ في العطاء، وأنت تفرض لعبادك الحقَّ في ما تجعله من الحقّ لهم عليك، فهو مستمدٌّ منك، وليس شيئاً من الذّات في علاقاتها الطبيعيّة بغيرها، ولذلك فإنّ المتعدّي لا معنى له، فأنت المحسن إن أعطيت، وأنت الحكيم إن منعت، وقد جاء في الحديث عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع) ما يشير إلى ذلك، فقد سأله بعض النّاس فقال: أخبرني عن الجواد، فقال: "إنّ لكلامك وجهين: فإنْ كنتً تسألُ عن المخلوق، فإنّ الجواد الّذي يؤدّي ما افترض الله عليه، وإن كنتَ تسألُ عن الخالق، فهو الجواد إنْ أعطى، وهو الجواد إنْ منع، لأنّه إنْ أعطاك أعطاك ما ليس لك، وإن منعك منعك ما ليس لك". وهذا ما جاء في كلام أمير المؤمنين(ع): "وكلّ مانعٍ مذموم ما خلاه".
"تشكر من شكرك وأنت ألهمته شكرك، وتكافئ من حمدك وأنت علّمته حمدك".
يا ربّ... إنّه لطفك وحنانك وكرمك.. إنّك تفتح لي في قلبي المنفتح عليك وعلى نعمك، نافذةً على الإحساس بكلّ جميلك الّذي لا يُحدّ، فينطلق عقلي وقلبي وشعوري ولساني بالشّكر لك على ما أوليتني من نعمك الّتي احتضنت وجودي كلّه بالخير والفرح والسّعادة الرّوحيّة والجسديّة... ويفاجئني ـ يا ربّ ـ وأنا المُثقلُ بكلّ هذا اللّطف الإلهيّ الّذي يفيض عليّ بالحنان والرّحمة، أنّك تشكرني على أنّي شكرتك، فأذوب وأذوب حتّى أشعر بكلّ كياني يذوب أمامك، لأنّي أفكّر وأشعر بأنّ هذا الشّكر من إلهامك، فأنت الّذي أعطيتني العقل الّذي اكتشفت به عمق نعمتك في وجودي، ومنحتني الحواسّ التي أشعر فيها بكلّ مواقع النِّعَم في حياتي، ليكون الشّكر نتيجة عقلٍ يفكّر، وحسٍّ يُبصر ويسمع ويشمّ ويذوق ويلمس، فأيّ ربٍّ عظيم لطيف أنت، عندما تشكر من شكرك وأنت ألهمته شكرك.
وتحمدك نفسي على كلِّ مواقع الحمد في الكون، وفي كياني الدّاخليّ، في ما تمثِّله آفاق عظمتك وامتداد نعمك، وفي ما تنفتح عليه روحي من ذلك كلّه، في ما علّمتني من أسرار الحمد ومن أساليبه ووسائله؛ فمنك المعرفة الّتي انطلقت من حقائق الجمال والجلال والكمال في ذاتك، لتدخل في مواضع الفكر من عقلي، ومواقع الإحساس من شعوري.. وإذا بي أطلّ من جديدٍ على كرمك الواسع في فيض العطاء، فأجد منك ـ يا ربّ ـ لطف المكافأة على هذا الحمد الّذي هو هبةٌ منك، لأنّ إحساسي بالحمد ليس شيئاً أمنحك إيّاه فيزيد في عظمتك، ولكنّه شيء يرتفع بروحي إليك في آفاق المعرفة العليا الرّحبة الّتي تجعلني كبيراً في القرب منك.