صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 16 إلى 30 من 39

الموضوع: نهج البلاغة

  1. #16
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي


    [align=center]-- الزهد ------[/align]

    وهو الموضوع الآخر من مواضيع المواعظ في نهج البلاغة، ولعله بعد التقوى من أكثر المواضيع تكراراً وتأكيداً فيه.

    والزهد: كلمة ترادف ترك الدنيا، وفي نهج البلاغة الكثير من ذم الدنيا والدعوة إلى الإعراض عنها. إنه من أهم المواضيع التي يجب أن تفسّر وتوضّح مع الالتفات إلى مجموع كلمات الإمام (عليه السلام) بهذا الصدد. وإذا لاحظنا أن الزهد مرادف لترك الدنيا فهو إذن من أكثر المواضيع بحثاً في نهج البلاغة قطعاً.

    ونبدأ البحث هنا بالكلام حول كلمة الزهد، فنقول:

    إن كلمة (الزهد) إذا ذكرت بدون متعلق فهي تقابل (الرغبة) فإن الزهد يعني: الإعراض، والرغبة تعني: الاتجاه والإقبال والميل والانجذاب.

    والإعراض نوعان:

    طبيعي: وهو عدم إقبال الطبع على شيء معين، كطبع المريض إذ لا يشتهي الطعام والشراب. وواضح أن الإعراض هذا ليس من الزهد المراد.

    وروحي عقلي قلبي: وهو ضد الطبيعي، إذ الطبع هنا يرغب في الأشياء كيفما يشاء، ولكن الإنسان - بدوافع من فكره وأمله في الكمال والسعادة الدائمة - لا يجعلها مورد هدفه وقصده. إذ أن قصده وهدفه وأمله المطلوب - وهو الكمال - أمور أسمى من هذه المشتهيات النفسية الدنيوية. سواء كانت تلك الأمور التي يهدف إليها من المشتهيات الأخروية، أو لم تكن منها بل كانت من نوع الفضائل الأخلاقية: كالعزة والشرف، والكرامة، والحرية والواقعية، أو من نوع المعارف الإلهية والمعنوية: كذكر الله، وحب الله، والتقرب إليه، وطلب مرضاته سبحانه. وهذا هو الزهد المقصود.

    فالزاهد إذن: هو الذي اجتاز في نظره الدنيا المادية إلى الكمال المطلوب وأسمى المُنى، وتوجّه في نظره إلى أمور هي من نوع ما ذكرناه. فعدم الرغبة فيه ليس من الناحية الطبيعية، بل من الناحية الفكرية والمُنى والآمال.

    وقد عرف الإمام (عليه السلام) الزهد في نهج البلاغة في موردين، لا نصل منهما إلا إلى ما قلناه.

    الأول: في الخطبة 79 يقول (عليه السلام): (... أيها الناس! الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والورع عند المحارم..).

    الثاني: في الحكمة 439 يقول (عليه السلام): (.. الزهد بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه: (لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه).

    وإذا لم يكن الشيء هو كمال المطلوب بل لم يكن المطلوب، بل كان وسيلة إليه، فلا تحوم حوله طيور الآمال بل ولا تجنح إليه، وحينذاك فلا يوجب إقباله المسرة الشديدة، ولا إدباره الأسى الشديد.

    ولكن يجب علينا أن ننظر:

    هل أن الزهد والإعراض عن الدنيا الذي يؤكد عليه نهج بلاغة الإمام (عليه السلام) تبعاً للقرآن الكريم، صفة أخلاقية روحية فحسب؟ هل أن الزهد كيفية روحية فقط أم أن لها جوانب عملية أيضاً؟ هل أن الزهد هو إعراض الروح أم إعراض عملي وروحي؟

    وعلى الثاني، فهل أنه إعراض عملي عن المحرمات فحسب (كما في الخطبة: 79) أم أكثر من المحرمات (كما في حياة الإمام (عليه السلام) والرسول (صلّى الله عليه وآله))؟

    وإذا كان الثاني، فما هي فلسفته؟ وما هي خواص الحياة مع الإعراض عن نعيمها؟

    ثم هل يصح العمل به مطلقاً، أم أنه إنما يصح بشرائط خاصة معينة؟

    ثم هل يتلاءم هذا مع سائر التعاليم الإسلامية أم لا؟

    ثم إذا كان الزهد مبنياً على أساس اختيار أهداف غير مادية، فما هي تلك الأهداف في الإسلام، وما هو بيان نهج البلاغة بهذا الصدد؟

    هذه هي مجموعة الأسئلة التي تحدّث عنها الإمام في نهج البلاغة في موضوع الزهد، ويجب أن تتضح لنا. وسنبحث عنها في الفصول التالية:


    - الزهد والرهبنة

    قلنا أن الزهد حسب التعريف والتفسير الذي يستفاد من نهج البلاغة هو حالة روحية، وأن الزاهد بما له من العلائق الأخروية والمعنوية لا يعتني بمظاهر الحياة المادية.

    ونقول: إن الزهد وعدم الاعتناء بمظاهر الحياة المادية لا ينتهي بالإحساس والفكر والضمير فقط، بل أن الزاهد زاهد في حياته العملية أيضاً، فهو قانع فيها محترز عن التنعم باللذائذ والكماليات المادية. وليس الزاهد هو من كان في تفكيره معرضاً عن الأمور المادية فقط، بل هو من يحذر في مرحلة العمل عن التنعم باللذائذ والكماليات ويكتفي من الماديات بالحد الأقل من التمتع بها. وليس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) زاهداً لكونه لم يكن يرغب في الدنيا بقلبه فقط بل لأنه كان يأبى عن التمتع باللذائذ، وكان - كما يقولون - تاركاً للدنيا معرضاً عنها في الفكر والعمل.


    - مسألتان

    وهنا مسألتان تطرحان نفسهما على ذهن القارئ الكريم، لابدّ من أن نجيب عنهما:

    المسألة الأولى: إنا نعلم أن الإسلام يخالف الرهبنة المسيحية، ويعدها من بدع الرهبان والقُسس (11). وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا رهبانية في الإسلام) (12). وحينما أخبروه أن جماعة من صحابته قد أعرضوا عن الحياة وكل شيء فيها، وأقبلوا على الاعتزال عن المجتمع وعبادة الله وحده. عاتبهم على حالتهم تلك وقال لهم: أنا نبيكم، ولست أفعل كما تفعلون أنتم! وبهذا أعلن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن الإسلام دين حيوي، اجتماعي لا رهباني!

    أضف إلى ذلك أن تعاليم الإسلام تشمل جميع جوانب الحياة، وهي في المسائل الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسة، والأخلاقية، إنما تبتني على أساس كرامة الحياة الإنسانية، لا الإعراض عنها!

    أضف إلى ذلك أن الرهبنة والإعراض عن الحياة يتنافى مع الفلسفة الإسلامية المتفائلة في شأن الكون والوجود، إذ ليس الإسلام كبعض الأديان الأرضية المختلفة والفلسفات المصطنعة التي تتشاءم من الكون والوجود أو تقسم الخلقة إلى قسمين: خير وشر، حسن وقبيح، ظلام وضياء، حق وباطل، صحيح وغير صحيح، ينبغي أن يكون وينبغي أن لا يكون.

    المسألة الثانية: هي أنه فضلاً عن أن الزهد هي الرهبنة التي تتنافى مع الفلسفة الإسلامية، نقول: ما هي فلسفة الزهد في الإسلام؟ ولماذا يزهد الإنسان في الحياة؟ لماذا يأتي إلى الحياة ويرى بعينه بحور النعم الإلهية ثم هو يمر عليها مرور الكرام ولا يبل منها الأقدام؟

    وعلى هذا: أفلا يمكننا أن نتّهم هذه التعاليم التي نراها في الإسلام في الزهد والرهبنة، بأنها من البدع التي دخلت الإسلام بعد صدره الأول من الأديان الأخرى كالمسيحية والبوذية؟! إذن فما نقول فيما جاء من ذلك في نهج البلاغة؟! بل ماذا نقول في حياة الإمام علي (عليه السلام)، ومن قبله حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبم نفسّر ذلك؟ وكيف نوجّهه ونأوّله؟!

    والحقيقة في الجواب أن نقول: إن الزهد الإسلامي شيء والرهبنة شيء آخر.

    فالرهبنة: انقطاع عن الخلق لعبادة الخالق، على أساس التضاد بين عمل الدنيا والآخرة، فإما العبادة ورياضة النفس في الدنيا لاستكمال نعيم الآخرة، وإما الحياة الدنيا للحياة فيها فحسب، وعلى هذا فالرهبنة تستلزم الانقطاع عن الحياة والمجتمع والمسؤولية أيضاً. وهذه هي الرهبنة المقيتة.

    أما الزهد الإسلامي: فهو وإن كان يستلزم اختيار حياة ساذجة غير متكلّف فيها، وعلى أساس الإعراض عن التنعم والتجمل بلذائذ الحياة وكماليتها المادية الإضافية، لكنه - في نفس الوقت - علاقة اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية في الإسلام، ومن أجل الخروج الصحيح عن عهدة أدائها لوجهها.

    إذن، فليست فلسفة الزهد في الإسلام هي نفس تلك الفلسفة في الرهبنة المسيحية المبتدعة. إذ ليس في الإسلام مضادة بين الحياتين، بل ولا تجزئه بينهما، ولا بين العمل لهما. بل إن الإسلام يرى العلاقة بين هاتين الحياتين علاقة ظاهر الشيء بباطنه، والشعار بالدثار، والجسد بالروح، لا وحدة، ولا مضادة، وإنما الاختلاف بينهما في الكيفية. وفي الحقيقة، كل ما كان صالحاً لهذه الحياة - واقعاً - فهو صالح لتلك الحياة الأخرى أيضاً، ولهذا وجب الترابط بين العمل الصالح في هذه الحياة لتلك الأخرى بالنية، ولذلك: فلو عمل المرء عملاً يتفق مع المصالح السامية لهذه الحياة ولكنه يخلو من النية الصالحة المرتبطة بتلك الحياة، عُدّ هذا العمل دنيوياً، أما إذا كانت الناحية الإنسانية في العمل تنطوي على أهداف أسمى من الدنيا رامية إلى الآخرة، فذاك العمل عمل أخروي مقرب محبوب راجح، أما واجب أو مستحب مندوب إليه.

    فالزهد الإسلامي - كما بيّنا - تكييف خاص للحياة ينشأ من إدخال معان من المثل والقيم الأخلاقية القيمة في الحياة الاجتماعية للفرد المسلم، وهو - كما يظهر من النصوص - يستقر في صميم الحياة الاجتماعية الإسلامية على أسس ثلاثة:


    - أصول الزهد في الإسلام

    1- إن الإفادة المادية من مواد هذه الحياة والتمتع بنعيمها الفاني ليس هو العمل الوحيد لتأمين سعادة الإنسان، بل لابدّ من أمور معنوية أخرى لا تكفي الحياة المادية بدونها لإسعاد الإنسان، فيها أو فيما بعدها.

    2- إن مصير سعادة الفرد لا ينفك عن مصير أمته، فإن له - بحكم إنسانيته - سلسلة من العلائق العاطفية، والإحساس بالمسؤولية، لا يستطيع معها أن تكون له راحة وطمأنينة فارغاً عن قلق الآخرين واضطرابهم.

    3- إن للروح أصالتها - كما للبدن - ولها آلام ولذائذ، وهي تحتاج - كالبدن بل أكثر منه - إلى الغذاء والدواء، والطعام والشراب، والتربية والتهذيب، والتأييد والتسديد. وهي لا تستغني عن الجسد وسلامته وقوته وقدرته. ولكن انغماس الإنسان في اللذائذ المادية والإقبال على التنعم والتجمل الجسماني، لا يدع مجالاً لتقوية الروح، بل يوجد نوعاً من المضادة بين النعم المادية والروحية.

    وليست نسبة الروح إلى البدن - كما يتصورها البعض - نسبة الألم إلى النعيم، فليس كل ما يرتبط بالروح ألماً وكل ما يرتبط بالبدن نعيماً، إذ أن اللذائذ الروحية قد تكون أصفى وأعمق وأدوم من لذات البدن، وإن الإقبال الشديد على لذائذ البدن لمما يقل من الراحة واللذة الواقعية للبشر، ولهذا ترانا لا نستسيغ التخلي عن اللذات الروحية حينما نواجه الحياة ونريد أن نكسبها رونقاً وصفاء وبهجة وجلالاً، ونضع منها جمالاً وكمالاً.

    وإذا التفتنا إلى هذه الأصول الثلاثة للزهد الإسلامي الصحيح، اتضح لنا كيف أن الإسلام حين ينفي الرهبنة يضع زهده في صميم الحياة وقلب المجتمع.

    وسنوضح في الفصول التالية بعض النصوص الإسلامية التي تبتني على هذه الأسس الثلاثة.


    - الزاهد، والراهب

    قلنا: إن الإسلام دعا إلى الزهد، وأدان الرهبنة.

    ولا شك أن الزاهد والراهب يبتعدان كلاهما عن التنعم باللذائذ، إلا أن الراهب يفرّ بذلك عن المجتمع ومسؤولياته، ويعدّهما من أمور الدنيا الدنية، ويلجأ منهما إلى الصوامع والأديرة وسفوح الجبال، أما الزاهد فهو يقبل على المجتمع وآماله ومسؤولياته.

    وإن الزاهد والراهب كلاهما يتجهان إلى الآخرة، راغبان عن الدنيا وما فيها ومن فيها. وإنهما يبتعدان عن اللذائذ ولكن لا سواء، فإن الراهب يرهب من الزواج والإنجاب أو قل من النظافة والسلامة النفسية! أما الزاهد فهو يعد (النظافة من الإيمان) و(النكاح من الدين، وتكثير النسل - الطيب) من الوظائف الدينية والاجتماعية.

    وإن الزاهد والراهب كلاهما يتركان الدنيا، إلا أن الزاهد يترك الدنيا بترك الانهماك بالتنعم والتمتع والكماليات، ويحذر من أن يحسبها منتهى آماله وأكمل مناه، أما الراهب فإنه يترك الدنيا بترك العمل فيها وتحمل مسؤولياتها..

    ولهذا نقول أن الزاهد يعيش في صميم الحياة والروابط الاجتماعية، ولا يحسب زهده ممّا يتنافى مع تحمل المسؤوليات الاجتماعية، بل إن الزهد لديه خير وسيلة لتعهد المسؤوليات على الوجه الأكمل والأحسن، بخلاف الراهب.

    وإن هذا التفاوت بين سيرة الراهب والزاهد إنما ينشأ من الاختلاف في وجهة النظر إلى الحياة.

    إن الراهب: يرى الحياة الدنيا والآخرة عالمين مستقلين لا علاقة بينهما، ويحسب أن السعادة في هذه الحياة غير مرتبطة بسعادة الآخرة، بل هما متضادان لا يجتمعان! ومن الطبيعي لديه - حينئذ - أن يكون العمل المفيد لسعادة الدنيا يغاير العمل المفيد لها في الآخرة، وإن وسائل السعادة في الدنيا تغاير بل تباين وسائل السعادة في الآخرة، بل لا يمكن - لديه - أن يكون الشيء الواحد والعمل الواحد وسيلة لسعادة الدارين أبداً.

    أما الزاهد: في هو يرى أن الدنيا مزرعة الآخرة فهما مرتبطتان. وأن الذي يهب لهذه الحياة الدنيا الأمن والصفاء، والراحة والهناء، هو أن يرد قصد تلك الحياة في أمور هذه الحياة، وأن ما يوجب السعادة لتلك الحياة هو الإتقان في العمل بمسؤوليات هذه الحياة، وأن يكون العمل بها قريناً بالإيمان والطهارة والتقوى.

    فالحقيقة: إن هناك مغايرة بين فلسفة الزهد عند الزاهد في الإسلام، وفلسفة الرهبنة للراهب في المسيحية. وأن الثانية ليست إلا تحريفة أوجدها الإنسان بجهله أو سوء نيته في تعاليم الزهد للأنبياء السابقين.

    وسنوضح فيما يلي فلسفة الزهد في الإسلام بالنظر إلى النصوص الإسلامية، وعلى أساس هذا المفهوم الذي شرحناه من الزهد.


    - الزهد والإيثار

    من فلسفة الزهد في الإسلام الإيثار. وهو ضد الأثرة، والأثرة: تقديم الشخص لنفسه ومصالحها ومنافعها على غيره، والإيثار: هو تقديم الشخص غيره على نفسه.

    والزاهد يختار العيش بكل بساطة وقناعة، ويضيّق على نفسه في الحياة، من أجل راحة الآخرين، وإنما يهب ماله للفقراء لأنه إنما يلتذ بنعم الحياة حينما لا يرى معه فقيراً ينام بلا عشاء، فهو يلتذ بإعطاء الآخرين وإطعامهم وكسوتهم أكثر من راحة نفسه وطعامها وكسائها، وإنما يتحمل الجوع والحرمان والعناء من أجل راحة الآخرين وهنائهم. وهذا هو الإيثار.

    والإيثار من أعظم مظاهر الجلال والجمال والكمال الإنساني المأمول، وإنما يستطيع الرقي إلى هذه القمة الشامخة من العمل الصالح أناس عظماء من أمثال علي والزهراء وابنيهما السبطين الحسنين أصحاب الكساء، الذين نزلت في شأنهم هذا (سورة هل أتى) مرآة صافية باقية تعكس للأجيال المتعاقبة ذلك الكمال المتمثل في هؤلاء العظماء الذين (يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (13) وهم يقولون: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً) (14).

    وقد نالوا بهذا الإيثار أكمل الكرم والسخاء والجود، إذ بذلوا ذلك الميسور من أقراص الشعير، مع عسرهم الشديد، ولم يراعوا في ذلك القريب والبعيد، فأعطوا الأسير كما أعطوا اليتيم والمسكين. ولذلك دوّى هذا العمل الصالح من هؤلاء العظماء في السماء، حتى نزل في حقهم قرآن يتلى كل صباح ومساء!

    ودخل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ذات يوم على ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فرأى على باب بيتها ستاراً وعلى يديها معاضد من فضة، فأنكر ذلك بوجهه حتى عرفته منه ورجع عنها فلم يدخل عليها. فلما رجع خلعت الستار وشدت فيه المعاضد وبعثت بهما إلى أبيها رسول الله ليفعل بها ما يشاء. وفرح رسول الله بذلك وقال: (فعلت، فداها أبوها)!

    وكانت تقوم في محرابها لربها حتى تتورم قدماها، وهي تدعو لجيرانها، فسألها ابنها الحسن (عليه السلام) يوماً: أماه! ما لي أراك تدعين لجيراننا ولا تدعين لنا؟ فقالت: (الجار، ثم الدار).

    ويصف القرآن الكريم أنصار رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مدينته الطيبة فيقول: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (15).

    والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يصف المتقين في خطبته لهمام فيقول: (نفسه منه في عناء والناس منه في راحة).

    وبما أن فلسفة الزهد مبنية على أساس الإيثار، والإيثار يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكذلك الزهد يختلف هذا الاختلاف باختلاف الزمان والمكان، إذ أن الإيثار في مجتمع فقير كالمدينة على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يشتد أكثر منه فيها نفسها على عهد حفيده الإمام الصادق (عليه السلام). ولعل هذا هو سر اختلاف السيرتين: علي ورسول الله في جانب وأبناؤهما الأئمة الأطهار في جانب آخر.

    إن زهد هؤلاء العظماء كان قائماً على فلسفة الإيثار، وأن الزهد الذي يبتني على فلسفة الإيثار ليس من الرهبنة في شيء بل هو عظمة إنسانية فذة نابعة من أنبل عواطف الإنسانية، وهو ينتج أقوى الروابط الاجتماعية على الإطلاق.


    الزهد، والمواساة

    ومن فلسفة الزهد مواساة المحرومين ومشاركتهم في حياتهم. فإن هؤلاء حينما يقيسون أنفسهم بأمثالهم من بني الإنسان وهم أغنياء يحسون في قرارة نفوسهم بالفقر والحرمان من ناحية، وتأخر عن أمثالهم من الناس من ناحية أخرى. ولا يستطيع الإنسان بطبعه أن يرى غيره ممن لا فضل له عليه يأكل ويتمتع ويفرح ويمرح، ثم يقف هو جائعاً حزيناً كئيباً وقفة المتفرّج.

    وهنا يحس المتدين بمسؤولية ملقاة على عاتقه تثقل كاهله، أمام هذا الواقع السيئ، فهو يشعر في قرارة نفسه الصافية بنداء الضمير والوجدان الإنساني الحي الذي عبّر عنه الإمام (عليه السلام) فقال: (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم) فيشعر بمسؤوليته تجاه هذا الواقع السيئ وفاءً بما أخذ الله عليه وما عاهد عليه الله إذ آمن بالله وكتبه ورسله.

    وإذ لم يستطع ذلك بيد أو لسان فلا أقل من الإيثار ومقاسمة ما عنده لهؤلاء الفقراء المعوزين، سعياً في سعادتهم وترسم واقعهم المقيت - كما فعل ذلك ثلاثة من أئمتنا: الحسن والحسين وعلي بن الحسين (عليهم السلام) - وإذا لم يستطع ذلك أيضاً لكثرة الضحايا في هذا الميدان فلا أقل من أن يضمّد جراح هؤلاء الضحايا - ضحايا قسوة المجتمع الظالم - ببلسم المواساة ومشاركتهم في آلامهم وهمومهم، والتساوي معهم في فقرهم.

    وإن لمواساة الآخرين في أحزانهم أهمية عظمى، خصوصاً في حياة أئمة الأمة، أولئك الذين تنظر إليهم الأمة لتقتدي بأفعالهم وأقوالهم. ولذلك نرى أن الإمام (عليه السلام) قد زهد في حياته في الخلافة أكثر من أي وقت مضى، وكان يقول في ذلك:

    (إن الله فرض على أئمة العدل: أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره) (16).

    ويقول (عليه السلام) في كتابه إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف الأنصاري):

    (أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون (أسوة) لهم في جشوبة العيش.. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالبشع! أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟! أو أكون كما قال القائل:

    وحسبك داء أن تبيت ببطنة***وحولك أكباد تحن إلى القدّ (17)

    نعم، كان الإمام (عليه السلام) هو هكذا، ولكنه كان إذا سمع برجل يضيق على نفسه كان ينكر عليه ذلك.

    فقد شكا إليه العلاء بن زياد الحارثي الهمداني أخاه عاصم بن زياد، فقال له وماله؟ قال: لبس العباءة، وتخلى عن الدنيا! قال: عليّ به. فلما جاء قال له:

    (يا عُديّ نفسه! لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى أحل الله لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك)!

    فقال: يا أمير المؤمنين! هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك؟!

    فقال (عليه السلام): (ويحك! إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس..) (18).

    وفي (أصول الكافي) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (إن الله جعلني إماماً لخلقه، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يُطغي الغني غناه) (19).

    وقال رجل لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): أصلحك الله! ذكرت أن علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن والقميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد؟!

    فقال له: (إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر عليه، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به).

    إذن فهذا الزهد الناتج عن فلفة المواساة - كما ترى بوضوح - لا يمت إلى الرهبنة بشيء، وليس - كما يقولون - فراراً من المسؤولية وإعراضاً عنها، بل هو المواساة لآلام الفقراء والضعفاء.


    - الزهد والتحرّر

    ومن فلسفة الزهد: الحرية والتحرّر، فإن بين الزهد والحرية روابط قديمة وقويمة.

    إن الحاجة والافتقار ميزة ظاهرة، والاستغناء ميزة الحرية.

    إن أقوى الآمال في حياة الأحرار هو وضع الأثقال عن كاهلهم، والخفة والنشاط في الحركة والتنقل. وإنما يجعل هؤلاء زادهم الزهد والقناعة ليقللوا بذلك من حوائجهم المادية فيطلقوا أنفسهم من أسر الأشياء والأشخاص وقيودهما.

    إن الحياة المادية للإنسان - كسائر الحيوانات الأخرى - تحتاج إلى سلسلة من الأمور الطبيعية والضرورية التي لابدّ منها، كالهواء للتنفس والأرض للسكن والطعام للأكل والماء للشرب والثوب للستر، فالإنسان لا يستطيع أن يكتفي بذاته - على حد تعبير الحكماء - عن هذه الأمور وأمور أخرى كالنور والحرارة، ولا أن يتحرر من قيودها تحرراً مطلقاً.

    ولكن، هناك سلسلة من الحاجات ليست طبيعية ولا ضرورية، وإنما حملت على الإنسان على مدى تاريخه الطويل من قبله هو أو من العوامل التاريخية والاجتماعية الأخرى، وقد كانت عاملاً فعالاً في الحد من حريته شيئاً فشيئاً.

    والأمور التي تحمل على الإنسان من الخارج بصورة قسرية للاضطرار السياسي مثلاً، ليست في خطرها عليه كالأمور النفسية التي تعمل على أن تجرّه من إطاره الداخلي إلى إطارها الغريب، وعلى هذا فإن أخطر القيود على الإنسان إنما هو هذه القيود التي تعزله عن نفسه.

    وترى الفلسفة الميكانيكية لهذه العوامل التي تؤدي إلى عجز الإنسان وضعفه: أن الإنسان يحاول - من جهة - أن يكسب حياته صفاءً وبهاءً ورونقاً وجلالاً، فيقبل على التجمل والتنعم بكماليات الحياة، ولأجل الحصول على القوة والقدرة يقبل على تملك الأشياء. ومن جهة أخرى يعتاد على وسائل للتنعم والتجمل والقوة والقدرة شيئاً فشيئاً، ويعجب بها فيعشقها، وتنشأ بينه وبينها روابط خفية دقيقة تشده إليها، فيصبح ذليلاً لها عاجزاً أمامها. وحينئذ يتحول الشيء الذي كان مادة لصفائه ورونقه إلى سبب لذهاب رونقه وصفائه، والذي كان وسيلة لقدرته وقوته إلى سبب لضعفه وعجزه في دخيلة نفسه. فيصبح لها كالعبد المدين لمولاه لا يقدر أمامه على شيء.

    إن تقيد أي إنسان بالزهد - إن صح التعبير بالتقيد - تابع من أصول فطرية، فإن الإنسان بطبعه يميل إلى تملك الثروة والاستفادة من متع الحياة، ولكنه حينما يرى أن هذه الأشياء كلما منحته القدرة على الحياة في الظاهر سلبته القدرة الإرادية، في واقع الحال على نفس المدى، وجعلته: (عبداً لها ولمن في يده شيء منها) فهو يثور - حينما يرى ذلك - على هذه العبودية. ويصطلح على هذه الثورة بالزهد.

    وإنما أصبح الإمام علي (عليه السلام) حراً بمعنى الكلمة لأنه كان زاهداً بمعنى الكلمة، وكان (عليه السلام) كثيراً ما يعبر في خطبه في نهج البلاغة عن الزهد بالحرية، وعن الشره والنهم بالعبودية.

    يقول (عليه السلام) في بعض كلماته القصار: (الطمع رقٌّ مؤبّد) (20).

    ويصف زهد عيسى ابن مريم فيقول: (.. ولا طمع يذله) (21).

    ويقول (عليه السلام): (الدنيا دار ممر لا دار مقر، والناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقته، ورجل اشترى نفسه فأعتقته) (22).

    وأصرح من الجميع كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري:

    (... إليك عني يا دنيا! فحبلك على غاربك! قد انسللتُ من مخالبك، وأفلت من حبائلك! اعزبي عني، فوالله لا أذل فتستذليني ولا أسلس فتقوديني) (23).

    نعم، إن زهد الإمام (عليه السلام) ثورة على الذل في اللذة، وعلى الضعف في الشهرة، وعصيان على عبودية الدنيا، فالسلام عليه يوم ولد ويوم يبعث حياً!


    - الزهد، والمعنوية

    ومن فلسفة الزهد: إيجاد المعنوية في روح هذه الحياة المادية. ومن الواضح أنّا لا نقصد هنا الماديين في هذه الحياة، إذ من البديهي أن الزهد في الدنيا وثرواتها وجمالها، والإعراض عن عبادة أموالها، وترك التقيد بلذائذها.. لا يجد لنفسه عند أصحاب النظرة المادية أي معنى قط. إنما الحديث هنا مع من يرى لهذه الحياة المادية شيئاً من المعاني أيضاً. فنقول لهؤلاء:

    إن من الواضح البديهي لدى هؤلاء أن الإنسان ما لم يتحرر من قيود المادة وأغلالها. وما لم يحترز عن إغوائها وأهوائها، وما لم يفطم طبيعته عن ألبانها.. وأخيراً ما لم يكن يحسن جعل الدنيا وسيلة لا غاية.. لا يتهيأ صعيد قلبه لتلقي الفيوضات الإلهية، والإشراقات الربانية، والإحساس المقدس، والشعور الطاهر، والفكر النيّر.. وأخيراً العقل السليم إلى جانب العاطفة الرحيمة. ولهذا قيل: إن الزهد شرط أساس لإفاضة المعرفة، وله بها علاقة وثيقة.

    ومن الواضح أيضاً أن عبادة الحق والحقيقة - بكل ما لهما من المعاني الواقعية - والتلذذ في طاعتهما، وذكر الله الحق المطلق في كل حال، والأنس بالخالق ولطفه حين خدمة المخلوق.. يتنافى مع عبادة النفس والنفيس، والتقيد باللذة، والوقوع في أسار المادة وزخرفها وزبرجها.

    بل وفوق هذا نقول: ليست عبادة الله هي التي تستلزم نوعاً من الزهد في الدنيا فقط، بل أن الالتزام والغرام بأية عبادة أو ريادة، في دين أو مذهب، أو فكرة أو مبدأ، أو قومية أو وطنية.. تستلزم نوعاً من الزهد والإعراض عن الشؤون المادية أيضاً!

    إلا أن الفرق بين العلوم والفلسفات والتعشق للخيال، وبين الصحيح من العبادات، وهو: أن العبادة، بما أن مقرّها القلب أو الفكر فهي لا تقبل الضرّة أو الرقيب. لا مانع من أن يتعبد العالم أو الفيلسوف بدراهم المادة ثم يجول بفكره في المسائل الفلسفية أو المنطقية أو الطبيعية أو الرياضية. ولكن لا مجال في فكر هذا الفيلسوف أو قلب هذا العالم للتعبد والالتزام بتضحية من تلك التضحيات الإنسانية، أو المبدئية أو المذهبية، بل وحتى القومية منها الوطنية.. فضلاً عن محبة الخالق في خدمة المخلوق. ولهذا نقول أن إبعاد القلب عن التقلب بالمادة العمياء، وإخلائه عن أصنام الذهب والفضة الغراء، شرط ضروري للتربية المعنوية في الإنسان.

    وقد قلنا أنه لا ينبغي الخلط بين التحرر عن قيد الذهب والفضة وعدم الاعتناء بكل ما يتبدل بهما، وبين الرهبنة والفرار عن المسؤولية، بل أن المسؤولية والعهود إنما تجد حقيقتها في ظل هذا الزهد، ولا تظل ألفاظاً جوفاء وادعاءات فارغة لا ضمان لها.

    ولقد اجتمع الزهد والإحساس بالمسؤولية في شخصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد كان أكبر زاهد في العالم، وكان يحمل في صدره أكثر القلوب إحساساً بالمسؤولية الاجتماعية.

    إنه (عليه السلام) من ناحية كان يقول: (ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى).

    ومن ناحية أخرى، كان يسهر الليل كله لحيف قليل في العدالة مع مظلوم، ولا يرضى أن ينام مبطاناً ويقول: (ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع) وقد كان بين زهده ذاك وإحساسه هذا الرهيف علاقة وثيقة.

    إن علياً (عليه السلام) بما أنه كان زاهداً لا طمع له، ومن ناحية أخرى كان قلبه مليئاً من حب الله، وكان يرى العالم من الذرة إلى الذرى مسؤولية مترابطة أمام الخالق العظيم، لذلك كان يشعر بمسؤولية كهذه أمام تعدي حدود الحقوق والواجبات الاجتماعية. ولو كان شخصية ثرية متنعمة متنفذة، لكان من المحال أن يشعر بمثل هذه المسؤولية.

    وقد صرحت الروايات والأحاديث الإسلامية بهذه الفلسفة للزهد، وأكد عليها الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة.

    جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (... وكل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط، وإنما أرادوا الزهد لتفرغ قلوبهم للآخرة..) (24).

    إن الإمام الصادق (عليه السلام) - كما نراه في هذه الرواية - يعدّ عبادة الهوى بجميع أنواعها واللذائذ شكاً في الله أو شركاً مع الله، ويقول: إنما أراد الإسلام الزهد للمسلمين لتفرغ قلوبهم من كل ما سوى الله فترغب إلى الآخرة.

    ولهذا نرى علياً (عليه السلام) حينما يسأل عن إزاره الخَلِق المرقّع يقول:

    (يخشع له القلب، وتذل به النفس، ويقتدي به المؤمنون) (25).

    ويقصد بذلك أن المؤمنين الذين لا يجدون لأنفسهم إزاراً أحسن من هذا الإزار الخلق المرقّّع، سوف لا يجدون فيه فورة حقد على المجتمع، أو شعوراً بعقدة الحقارة في النفس، وذلك لأنهم يجدون إمامهم قد اكتفى من دنياه بإزار كإزارهم.

    ثم يقول (عليه السلام): (... إن الدنيا والآخرة عدوّان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماشٍ بينهما، كلما قرب من واحد بعد من الآخر. وهما بعد ضرّتان) (26).

    ولذلك أيضاً نراه يقول في نهاية كتابه إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف):

    (... وأيم الله! يميناً - أستثني فيها بمشيئة الله - لأروّض نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقتنع بالملح مأدوماً. ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغة دموعها. أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك وتشبع الربيضة من عشبها فتربض، ويأكل علي من زاده فيهجع؟! قرّت إذاً عينُه! إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهية الهاملة والسائمة المرعية).

    ثم يقول (عليه السلام): (.. طوبى لنفس أدّت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفّها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)..).

    وقد ذكرنا هذين المقطعين من كتاب الإمام (عليه السلام) متتاليين، إذ بهما معاً تتضح لنا العلاقة بين الزهد والمعنوية.

    وخلاصة هذين القسمين من الكتاب: هو أنه لابدّ للإنسان المسلم من أن يختار أحد هذين الطريقين: إما الدنيا وإما الآخرة، فإما شهوة الأكل والشرب والغرام والمنام كالأنعام، وإما الإنسانية الإلهية، والنور الرباني الذي يخص القلوب والأرواح النيرة الطاهرة.

    ..........................................

    الهوامش:

    1- سورة النحل: 125.

    2- سورة البقرة: 256.

    3- نهج البلاغة، الخطبة 16.

    4- نفس المصدر، 112.

    5- نهج البلاغة، الخطبة 189.

    6- نهج البلاغة، الخطبة 157.

    7- نفس المصدر، 228.

    8- الخطبة 189.

    9- الخطبة 189.

    10- نهج البلاغة، الخطبة 189.

    11- سورة الحديد: 27.

    12- راجع بحار الأنوار المجلد الخامس عشر، جزء الأخلاق، الباب الرابع عشر: (باب النهي عن الرهبانية).

    13- سورة الإنسان: 8.

    14- سورة الإنسان: 9.

    15- سورة الحشر: 9.

    16- الخطبة 207، أي لا يهيج به ألم الفقر فيهلكه.

    17- الكتاب 45، تحن: أي تميل وتشتهي والقد: اللحم المجفف.

    18- الخطبة 207.

    19- أصول الكافي، ج1، ط آخوندي.

    20- الحكمة 180.

    21- الخطبة 158.

    22- الحكمة 133.

    23- الكتاب.

    24- بحار الأنوار، المجلد 16، الجزء2، ص84.

    25- الحكمة 100.

    26- الحكمة 101.

  2. #17
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] حـب الدنيا وتركها في نـهج الـبـلاغة[/align]


    ومن مباحث نهج البلاغة التحذير عن الاغترار بالدنيا وعبادة المادة. وما قلناه في الهدف من الزهد في الإسلام يوضح لنا مفهوم ذم الدنيا أيضاً، إذ الإسلام إنما حث على الزهد لأنه المانع عما نهانا عنه من عبادة الدنيا والمادة، وبتوضيح أي واحد من هذين المفهومين يتّضح مفهوم آخر.

    ولكن، لأهمية هذا البحث في نفسه، للتأكيد الكثير من الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة على التحذير من الدنيا وعبادتها، عقدنا لذلك فصلاً مستقلاً ليتضح الموضوع أكثر من ذي قبل، ويرتفع بذلك كل إبهام فيه.

    ما نبحث عنه أولاً، هو: لما اعتنى الإمام أمير المؤمنين ومن قبله رسول الله ومن بعده سائر الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) بهذا الأمر كثيراً، فتكلموا الكثير في التحذير عن الاغترار بالدنيا وفي فنائها وزوالها وزلاتها وعثراتها وأخطار الاعتناء بجمع المال والثروة، والتوفر على النعم، والمتع المادية والانهماك بها؟ فنقول:


    - الواجهة الخاصة لكلام الإمام (عليه السلام) وأخطار الغنائم على عهد الخلفاء

    لم يكن هذا بمحض الصدفة، بل أن ذلك يرتبط بسلسلة من الأخطار العظيمة التي كانت قد أقبلت على العالم الإسلامي آنذاك من لدن عهد الخلفاء السابقين ولا سيما دور عثمان الذي انتهى الأمر بعده إلى الإمام (عليه السلام)، وذلك من قبل سياستهم المالية وكيفية إدارتهم لثروات الغنائم والفتوحات الإسلامية على عهدهم ونوعية توزيعهم لها وتداولها بينهم.

    وكان الإمام (عليه السلام) قد أدرك هذه المخاطر فكافحها مكافحة عملية على عهده، حتى ضحى بنفسه في هذا السبيل، ومكافحة كلامية بالخطب والكتب وسائر كلماته (عليه السلام).

    حظي المسلمون بفتوحات كبيرة، ممّا هطل على العالم الإسلامي بثروة كثيرة، ثروة استقرت في أيدي شخصياتها بدلاً من أن تقسم بالتساوي بين جميع الأفراد، أو تصرف في المصارف العامة لهم. واشتد هذا الأمر في زمن عثمان بقوة طاغية، ممّا أكسب أولئك الأفراد المعدودين الذين لم يكن لهم من قبل أية ثروة أو رأسمال، ثروة بغير حساب. وعملت الدنيا حينئذ عملها فأفسدت من الأمة الإسلامية أخلاقها. وكان نداء الإمام (عليه السلام) حينذاك بسبب الإحساس بهذا الخطر العظيم!

    كتب المسعودي في أحوال عثمان يقول: (.. وكان عثمان في نهاية الجود والكرم والسماحة والبذل في القريب والبعيد (من بيت المال طبعاً!) فسلك عماله وكثير من أهل عصره طريقته وتأسوا بفعله. وبنى داره بالمدينة وشيدها بالحجر والكلس، وجعل أبوابها من الساج والعرعر، واقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة. وذكر عبد الله بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال: خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف خيلاً وإبلاً كثيرة).

    ثم كتب يقول: (... وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الدور والضياع، منهم الزبير بن العوام، بني داره بالبصرة - وهي المعروفة في هذا الوقت وهو سنة 332 ينزلها التجار وأرباب الأموال وأصحاب الجهاز من البحرين وغيرهم. وابتنى أيضاً دوره بالكوفة، ومصر، والإسكندرية. وما ذكرنا من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية. وبلغ ثمن ملك الزبير بعد وفاته: خمسين ألف دينار، وخلّف الزبير ألف فرس وألف عبد وأمة، وخططاً بحيث ذكرنا من الأمصار.

    وكذلك طلحة بن عبيد الله التيمي ابتنى داره بالكوفة في الكناسة، المشهورة في هذا الوقت بدار الطلحيين. وكانت غلته من العراق في كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك، وبناحية الشراة أكثر ممّا ذكرنا، وشيد داره بالمدينة وبناها بالجس والآجر والساج.

    وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري، ابتنى داره ووسعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم، وبلغ بعد وفاته الربع من ماله: أربعة وثمانين ألف دينار.

    وابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، فرفع سمكها ووسع فضاها، وجعل أعلاها شرفات.

    وقد ذكر سعيد بن المسيب: أن زيد بن ثابت حين مات خلّف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس، غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة: مائة ألف دينار.

    وابتنى المقداد داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة وجعل أعلاها شرفات وصيّرها مجصّصة الظاهر والباطن.

    ومات يعلي بن منبه وخلف خمسمائة ألف دينار، وديوناً على الناس وعقارات، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار.

    ثم قال: (وهذا باب يتسع ذكره ويكثر وصفه فيما تملك من الأموال في أيامه..)(1).

    وواضح أن هذه الثروات الطائلة لا تنبع من الأرض ولا تنزل من السماء، وما لم يكن هناك إلى جانبها حقوق مضيّعة من فقراء مدقعين لا تتيسّر هذه الثروات.

    فلهذا يحذر الإمام (عليه السلام) الناس عن عبادة الدنيا ويقول في الخطبة: 127: (.. وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، ولا الشر إلا إقبالاً، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً، فهذا أو أن قويت عُدته، وعمّت مكيدته، وأمكنت فريسته. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً، أو متمرداً كأن بإذنه عن سمع المواعظ وقراً. أين خياركم وصلحاؤكم وأين أحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم والمتنزهون في مذاهبهم)؟

    أجل! إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وقد رزق المسلمين من سيل النعم بغير حساب، ولكن توزيعه غير العادل على أساس التمييز الطبقي هو الذي أصاب المسلمين بداء (سكر النعم)!

    وكان الإمام (عليه السلام) يكافح هذا الخطر العظيم الذي كان قد أصاب الإسلام وأخذ يجر ويلاته على المسلمين، وكان يتفقد كل من كان مساهماً في إيجاد هذا الداء الوبيل! وكان (عليه السلام) يسير هو في حياته العملية الفردية الخاصة على ضد هذه السيرة غير المرضية، وحينما بلغ إلى الخلافة جعل ذلك في رأس قائمته الإصلاحية الجادة.

    وكان (عليه السلام) يشير إلى هذه النقطة الهامة: (سكر النعم) ويقول: (ثم أنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النعمة واحذروا بوائق النقمة).

    ويذكّرهم عواقب هذه السكرات، ويرى أن لهم منها مستقبلاً وخيماً: (... ذاك حيث تسكرون من غير شراب، بل من النعمة والنعيم..).

    قدمنا هذا الكلام هنا لتتضح لنا الواجهة الخاصة لكلمات الإمام (عليه السلام) في ذم الدنيا، وهي أنها كانت متجهة إلى ظاهرة اجتماعية خاصة في ذلك العصر العصيب.

    وإذا تجاوزنا هذه الواجهة الخاصة لكلماته (عليه السلام) نجد لها - ولا شك - واجهة عامة لا تختص بذلك العصر، بل تشمل جميع الأعصار والقرون، بل هي من التعاليم التربوية العامة في الإسلام، نابعة من القرآن الكريم وكلمات الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله). ويجب أن تتضح لنا هذه الواجهة العامة لكلامه (عليه السلام) أيضاً بل نحن نولي في كلامنا هنا بهذه الواجهة العامة اهتماماً أكثر وأكبر، إذ هي الواجهة التي يخاطب بها الإمام (عليه السلام) جميع الناس في جميع العصور.


    - الواجهة العامة لكلام الإمام

    لكل مدرسة فكرية أسلوبها الكلامي الخاص، ولابد لمن يريد أن يدرك مفاهيمها كاملة من أن يتعرف على أسلوبها في البيان، ولابد لمن يريد أن يتعرف على أسلوبها من أن يدرك وجهتها الخاصة في نظرتها العامة إلى الإنسان والوجود.

    وللإسلام وجهة نظره الواضحة إلى الحياة، فهو ينظر إلى الكون وحياة الإنسان بنظرة خاصة، من أصول هذه النظرة: أن لا ثنوية في العالم، فلا ينقسم العالم في نظر الإسلام إلى قسمين خير وشر، حسن وقبيح، ينبغي أن يكون وينبغي أن لا يكون، بل أن منطق الإسلام يقول: إن القول بهذا كفر ومجوسية: (اعملوا.. فكل ميسّر لما خلق له) من خير وحكمة وغاية، ولا شيء من غير غاية: (الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى)(2).

    إذن، فلا يمكن أن يكون ذم الدنيا في منطق الإسلام متوجهاً إلى الحياة، إذ أن منطق الإسلام المبني على أساس التوحيد الخالص بما يشمل التوحيد القوة الفاعلة في العالم، والنافي لأي شريك لله في الخلقة والتكوين، لا يمكن أن ينظر إلى العالم نظرة سيئة مقيتة، وإن فكرة (الفلك الظالم) و(ظلم الدهر) فكرة غير إسلامية.

    إذن فماذا يعني ذم الدنيا في القرآن ونهج البلاغة؟


    - ما هي الدنيا المذمومة

    قد يقول البعض أن ذلك يعني العلاقة القلبية.

    وأقول، إن أراد هؤلاء بالعلاقة القلبية الارتباط العاطفي بالدنيا، فلا يمكن أن يكون كلاماً صحيحاً، إذ أن هذه العلاقة حلقة من سلسلة من العواطف المخلوقة معه في فطرته الطبيعية الأولى، وهي من طينته في الصميم، وهي ممّا لم يكتسبه الإنسان بنفسه، وكما أنه ليس في بدن الإنسان عضو زائد خلق عبثاً، كذلك ليس في عواطفه وأحاسيسه شيء زائد عبث، بل أن عواطفه كلها مخلوقة لغاية حكيمة عبّر عنها القرآن الكريم بآيات حكمة الخالق الحكيم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(3). إن هذه العواطف روابط تربط الإنسان بالحياة، سعياً نحو التكامل، وكما لا نستطيع أن نحكم على العالم بالطرد واللائمة، كذلك لا نستطيع أن نعد هذه العواطف الطبيعية زائدة بدون فائدة، فإنها من أجزاء الحياة.

    إذن، فليس المقصود من ذم الدنيا، ذم الحياة، ولا ذم العلاقات الطبيعية والفطرية.

    بل أن المقصود من ذلك، هو ذم العلاقة القلبية الموجبة لأسر الإنسان بيد الدنيا ومن في يده شيء منها. وهذا هو الذي يسميه الإسلام، عبادة الدنيا، وهو الذي يكافحه الإسلام مكافحة شديدة والإسلام في هذا يريد أن يردّ الإنسان إلى حالته الطبيعية في ضمن ناموس الحياة، فإن الإفراط في علاقة الإنسان بالدنيا خروج عن حالته الطبيعية.


    - هل الدنيا سجن المؤمن

    هناك العديد من المذاهب الفلسفية تنظر إلى الحياة نظرة ملؤها الشر والغضب، وهي تحسب أن هناك نقصاً في العالم أو تناقضاً، وإن الإنسان أسمى من أن يعيش في هذه العالم، فليست هناك أية رابطة - في نظرها - تربط الإنسان بهذه الحياة إلا علاقة السجين بسجنه أو الواقع في البئر، فلا نجاة له إلا أن يتخلص من شرور هذه الحياة.. فهل الإسلام ينظر إلى الحياة بهذه النظرة أيضاً؟ كلا.

    إن الإسلام - المتمثل في نهج بلاغة الإمام (عليه السلام) - يرى علاقة الإنسان بالدنيا كعلاقة الزارع بزرعه: (الدنيا مزرعة الآخرة) أو علاقة التاجر بالمتجر: (إن الدنيا متجر أولياء الله)(4) أو علاقة المسابق بميدان السباق: (ألا وإن اليوم المظمار وغداً السباق، والسبقة الجنة والغاية النار)(5) أو علاقة العابد بالمسجد: (الدنيا.. مسجد أحباء الله)(6).

    ويمكننا أن نلخص القول في وجهة نظر نهج البلاغة إلى الحياة في الحكمة 131 من كلمات ردّ بها الإمام (عليه السلام) على من سمعه يذم الدنيا (غداة الندامة) وهو يحسبها (متجرمة عليه)، بناء على فكرة (الفلك الظالم) و(جور الدهر) كما يتبين هذا من مطاوي كلامه (عليه السلام):

    (أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها ثم تذمها! أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟! متى استهوتك أم متى غرتك! أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟! كم عللت بكفيك وكم مرضت بيديك؟ أتبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنهم بقوتك. قد مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك.

    إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها.

    مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة.

    فمن ذا يذمها وقد أذنت بينها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها؟ فمثلت لهم ببلائها البلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيباً، وترهيباً، وتخويفاً، وتحذيراً.

    فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا).

    وخلاصة ما يستفاد من كلام الإمام (عليه السلام)، هو أنه سمع رجلاً قد اغتر بغرور الدنيا وخدع بأباطيلها، فلما ندم ذمها غداة الندامة، وهو يحسب أنها هي المتجرمة عليه، فرد الإمام: بأنك أنت المتجرم عليها، لأنك أنت المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها، ولكن ليست هي التي استهوتك وغرتك، بل قد أذنت ببينها ونادت بفراقها ونعت أهلها ونفسها، تخويفاً وتحذيراً وترهيباً فما تخوفت وما حذرت، بينما تذكر رجال آخرون فصدقوها واتعظوا بها، فجعلوها مسجداً ومصلى، ومكسباً ومتجراً ترددوا منه فربحوا الجنة، وسيحمدها هؤلاء يوم القيامة، وتذمها أنت يوم الندامة. فأنت المتجرم عليها لا هي المتجرمة، وليست عليها بل عليك الملامة!

    إذن، فالإسلام لا يرى العالم عبثاً، ولا وجود الإنسان فيه خطأً، ولا عواطفه الفطرية غلطاً.. وإذن: فماذا يعني ذم الدنيا في نهج البلاغة؟

    ونقول: من غرائز الإنسان الطبيعية غريزة التعبّد والتقديس، والسعي وراء السعادة والكمال، وما يرتبط به ويعتمد عليه أكثر من ارتباط عادي، يجعله منتهى مناه وكل أمله. وهنا إذا لم يهتد الإنسان إلى الصراط المستقيم في قدسه وأمله، فسوف يضل عن الصراط السوي ويتيه في متاهات الضلالة، سادراً في الغي يخبط في عمياء لا يهدي سبيلاً، وحينذاك تتبدل (الوسيلة بالغاية) و(الطريق بالهدف) و(وسيلة النجاة بسلاسل الأسر والعبودية) وحينئذ تتبدل حرية حركته ونشاطه ومساعيه إلى أسر وعبودية وجمود. وهذا هو الذي ينبغي أن لا يكون، وهو على خلاف نظام التكامل في الحياة، بل هو نقص ونوع من الفناء لا البقاء، وهو آفة الإنسان في معاشه، ويراه الإمام والإسلام خطراً ينبه للحذر منه. ولا شك أن الإسلام يعد الإنسان إزاء هذه الحياة بحياة أخرى أفضل منها بمراتب، ولا يرى لهذه الحياة الدنيا ما ينبغي أن تكون غاية مناه ومنتهى آماله، بل يراها مجالاً لأعمال صالحة تصبح وسيلة إلى السعادة الدائمة، ويرى الإنسان أمسى وأعز من أن يكون عبداً لها ولمن في يده شيء منها!

    ولهذا نرى الإمام (عليه السلام) يؤكد عل حسن هذه الحياة، ولكن ليس ذلك إلا لمن لم يرض بها دار مقر دائم، فيقول: (ولنعم دار لمن لم يرض بها داراً..) ويكرر: (الدنيا دار مجاز لا دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم) والإنسان حر طليق، ولهذا فإن كل أسر أو قيد أو حدّ، يحدّ من شخصيته وعظمته.


    - ما هي الدنيا المذمومة؟

    قلنا فيما سبق: إن ما يراه الإسلام ممّا لا ينبغي أن يكون في علاقة الإنسان بالدنيا هو: أن يتعلق بها قلبه حتى يصبح أسيراً لها ولمن في يده شيء منها، ولا تسري هذه النظرية السلبية إلى الدنيا من هذا الإطار إلى حياة الإنسان فيها حتى ولو كانت حرة كريمة هادفة واعية.

    وقلنا، إن الذي يحاربه الإمام والإسلام في تعاليمه وإرشاداته حرباً لا هوادة فيها هو أن يجعل المرء هذه الحياة هدفاً وغاية لا طريقاً ووسيلة.

    وذلك، لأنه لو أصبحت علاقة الإنسان بهذه الحياة بصورة يكون معها طفيلياً على الحياة تابعاً لها ولمن في يده شيء منها، أصبحت الحياة له موتاً وسموماً! وحطمت كل ما في نفسه من المثل الإنسانية السامية، إذ أن قيمة كل امرئ بهدفه في الحياة، فلو لم يكن له أي هدف في الحياة سوى ملء بطنه وكانت مساعيه كلها في هذه الحدود، لم يكن له قيمة سوى ما يهدف له: (من كانت همتهم بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه)!

    إذن، فالكلام كله حول كيفية علاقة الإنسان بهذه الحياة كيف يجب أو كيف ينبغي أن تكون؟ إن هناك صورة يصبح الإنسان فيها بهدفه في (أسفل السافلين) وأخسّ موجود في الحياة: (إِنْ هُمْ إِلاَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(7) وتتحطم فيها جميع قيمه ومثله الإنسانية السامية، ويخرج فيها بصورة حيوانية منكوسة!

    وهناك صورة أخرى لهذه العلاقة على العكس من الصورة السابقة تماماً، أي بدل أن يكون الإنسان يضحي بإنسانيته في سبيل الحياة، تنحسر هاهنا الدنيا وما فيها أمام الإنسان، ويصبح كل ما فيها في سبيل خدمة المصالح الإنسانية، ويكون كما في الحديث القدسي: (.. يا بن آدم! خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي..).

    وقد أتينا فيما سبق بشواهد من نهج البلاغة على هذا، وهنا نأتي بشواهد أخرى من نهج البلاغة والقرآن الكريم، ونبدأ بشواهد القرآن، فنقول:

    تنقسم الآيات القرآنية الكريمة التي تتعلق بعلاقة الإنسان بالدنيا إلى قسمين:

    القسم الأول: آيات تدل على فناء الدنيا وزوالها، وعدم ثباتها، وتغيرها وتنكرها، وانتقالها بأهلها حالاً بعد حال.

    (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)(8).

    (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ)(9).

    وبديهي أن الإنسان في حياته المادية ليس بأكثر من النباتات التي ينتظرها هذا المصير المحتوم، أراد أم كره. إذن، فلو أراد أن يكون واقعياً في نظرته إلى الحياة لا شاعراً خيالياً والإنسان إنما ينال السعادة بالواقعية لا بالأوهام والخيالات - فلابدّ له من أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه، ثم لا يغفل عنها أبداً، (وكفى بالموت واعظاً لمن اتعظ).

    ولكن هذا القسم من الآيات القرآنية إنما هو في الحقيقة مقدمة تمهيدية، بل صغرى وكبرى قياس واحد لنتيجة تالية في القسم الثاني من الآيات، فإن هذه الطائفة من الآيات تحاول أن تخرج الحياة الدنيا من تصاويرها هدفاً وغايةً للإنسان في الحياة، وأن تشير إلى أن هذه الحياة الزائفة الزائلة لا ينبغي أن تكون هدفاً للإنسان وغاية له، ولو كانت هي الهدف لكانت الحياة كلها فارغة جوفاً، ولكن هناك من بعد هذه الحياة حياة أخرى دائمة باقية خالدة، هي عالم الآخرة، ينبغي أن يكون هو الهدف والغاية.

    والقسم الثاني من الآيات: يسلط الأضواء واضحة صريحة على مشكلة علاقة الإنسان بهذه الحياة، بما نرى فيها صريحاً، أن الذي يحكم الإسلام عليه بأن لا يكون هو: أن يتعلق الإنسان بهذه الحياة تعلق أسر وذلة وقناعة. والآيات هي:

    1ـ (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)(10).

    فهذه الآية الكريمة بينما تنتقد المال والبنين بأنها ليست بأكثر من زينة في الحياة الدنيا، تجعل بمكانها الأمل الوحيد للإنسان في هذه الحياة: الباقيات الصالحات إذ هي خير ثواباً وخير أملاً، أي ترى أن تكون هي الأمل لا الزينة.

    2ـ (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)(11).

    وهذه الآية أيضاً إنما تنتقد أن يرضى الإنسان بالحياة الدنيا ويطمئن إليها ويغفل عن آيات الله ولا يرجو لقاء الله سبحانه، فإما أن لا يغفل عن آيات الله ويرجو لقاء الله، فلا بأس.

    3ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(12).

    وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد من يتولى عن ذكر الله ولم يرد إلا الحياة الدنيا، فأما من لم يتول عن ذكر الله وأراد الآخرة وسعى لها سعيها، فلا بأس عليه.

    4ـ (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَ مَتَاعٌ)(13).

    وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد الذين يفرحون بهذه الحياة الدنيا ولا يضمرون للآخرة أي حزن أو سرور، بل لا يعدون للآخرة أي إعداد، إذ لا يعدونها في الحياة الدنيا إلا قليلاً، فأما من لا يعد الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليلاً. ولا يعد للحياة الدنيا إلا قليلاً أيضاً، بل إنما يضمر فرحته ويعد عدته ويسعى سعيه للآخرة، فلا بأس عليه أيضاً.

    5ـ (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(14).

    وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ثم هم يغفلون بها عن الآخرة فلا يعلمون عنها أي شيء، أما من يعلم الآخرة علماً قطعياً، ويعلم واقع الحياة - كما في القسم الأول من الآيات - عن يقظة وشعور، فلا بأس عليه أيضاً.

    فأنت ترى: أن الذي حكم عليه في جميع هذه الآيات بالنفي والتنفيذ وأن لا يكون، هو أن تصبح الدنيا أمل الإنسان الذي يرضاه، وزاده الذي يقنع به، وطمأنينته التي يفرح بها. وهكذا علاقة من الإنسان بالحياة هي التي تجعل الإنسان في خدمة الحياة وضحية ساقطة في ميادينها، بدلاً من أن تجعل الدنيا في خدمة الإنسان.

    هذه هي نظرية الإسلام المتمثلة في القرآن الكريم في شأن علاقة الإنسان بالدنيا.

    والإمام علي (عليه السلام) أيضاً يتبع نفس هذا الأسلوب القرآني في نهج البلاغة:

    فنرى أن كلماته (عليه السلام) بهذا الصدد تنقسم أيضاً إلى نفس القسمين:

    * قسم شرح فيه الإمام: فناء الدنيا وزوالها وتغيرها وانتقالها، بأوصاف دقيقة وتشبيهات وكنايات واستعارات بليغة.

    * وفي القسم الثاني: يستنتج نفس النتيجة القرآنية السالفة:

    ففي الخطبة 32 يقسم الإمام الناس إلى قسمين، أبناء الدنيا وأبناء الآخرة. ثم يرجع إلى أبناء الدنيا فيصنفهم على أربعة أصناف.

    يقول (عليه السلام): (... فالناس على أربعة أصناف:

    أ) منهم من لا يمنعه من الفساد إلا مهانة نفسه وكلالة حده ونضيض وفره.

    ب) ومنهم المصلت سيفه والمعلن بشرّه، والمجلب بخيله ورجله، قد أشرط نفسه وأوبق دينه، لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه.

    ج) ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية.

    د) ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصّرته الحال عن حاله، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة. وليس من ذلك في مراح ولا مغدى)(15).

    فالإمام (عليه السلام) يعد هؤلاء الأصناف الأربعة - على رغم اختلاف وجهات نظرهم في الحياة - فرقة واحدة، هم من أهل الدنيا. وذلك، لأنهم يشتركون في وجهة واحدة هي ما عبر عنها بقوله: (.. ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً، وعما لك عند الله عوضاً).

    إذن، فالمسالة مسألة تضحية الإنسانية في سبيل خدمة الدنيا، والعكس من ذلك.

    وقد كتب (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) أو محمد بن الحنفية - كما في تحف العقول وابن ميثم البحراني - يقول: (أكرم نفسك عن كل دنية، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك ثمناً)(16).

    وفي (تحف العقول) عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه سئل: من أعظم الناس خطراً؟ فقال (عليه السلام): (من لم ير الدنيا خطراً لنفسه)(17).

    ويتضح لنا من هذه النظرة الفاحصة في القرآن ونهج البلاغة، أن الإسلام لم يبخس من قيمة الدنيا شيئاً، بل إنما استهدف من ذلك إحياء القيم والمثل الإنسانية السامية، وإن تكون الحياة في خدمة الإنسان لا الإنسان في خدمة الحياة، وبالتالي ما أراده الله إذ قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(18).

    وفي تاريخ حياة الإمام الصادق (عليه السلام) في (بحار الأنوار): أن له (عليه السلام) من الشعر قوله:

    أنا من بالنفس النفيسة ربها***وليس لها في الخلق كلهم ثمن(19)

    ومن هذا القبيل أحاديث كثيرة نمسك عن نقلها هنا خوف التطويل.


    - هل الدنيا والآخرة ضرتان

    روى السيد الشريف الرضي (رضي الله عنه) في الجزء الثالث من نهج البلاغة في باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) ومواعظه، أنه قال:

    (إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها. وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما، كلما قرب من واحد بعد من الآخر، وهما بعد ضرتان).

    وهنا يتجه أن نتساءل ما معنى هذا؟ وكيف نجمع بينه وبين ما سبق ممّا استفدناه من منطق القرآن ونهج البلاغة في شأن الدنيا؟

    وللإجابة نقول: أولاً، إن من الضروري أن الإسلام لا يمنع من الجمع بين العمل للآخرة وللدنيا بمعنى الاستفادة منها، وإنما الممنوع منه في الإسلام هو الجمع بينهما بمعنى الهدف والغاية.

    وبعبارة أخرى نقول، إن الاستفادة من الدنيا ليست ممّا يوجب الحرمان من نعم الآخرة قطعاً، وإنما الذي يوجب ذلك هو ارتكاب الذنوب والآثام لا الاستفادة المباحة من نعم الله الحلال في الدنيا: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(20).

    والعكس صحيح أيضاً، فليس الإيمان والعمل الصالح ممّا يوجب حرمان العبد من الدنيا وما فيها أبداً، إذ كان كثير من الأنبياء والمرسلين والأئمة وعباد الله الصالحين الذين لا يشك في إيمانهم وصلاحهم متنعمين بكثير من حلال الله في الدنيا.

    إذن فنقول، لنفترض أنا فهمنا من هذه الرواية ما يوهم أن بين الدنيا والآخرة عداوة ومنافرة، فإنا سنرفع اليد عنه بحكم تلك الأدلة القطعية المخالفة.

    وثانياً نقول: نحن لو أمعنا النظر في هذا التعبير توصلنا إلى نقطة بليغة لا يبقى معها منافرة بين هذا التعبير مع تلك الأصول المسلّمة القطعية. ولكي تتضح لنا تلك النقطة نقدم مقدمة، فنقول:

    إن علاقة الإنسان بالدنيا لا تخلو من إحدى حالات ثلاث:

    1ـ أن يجعل الدنيا أكبر همّه، والآخرة - مع ذلك - نصب عينيه!

    2ـ أن يجعل الدنيا أمام عينيه، والآخرة خلف ظهره.

    3ـ أن يجعل الدنيا وسيلة، والآخرة غاية.

    فالحالة الأولى: هي حالة العداوة والمنافرة، وهي الحالة التي يكون فيها مثلهما كمثل الضرّتين، أو المشرقين والمغربين والماشي بين هذين.

    وأما الحالة الثانية: فهي - والأولى - التي ورد النهي عنها في الآيات والروايات.

    وأما الحالة الثالثة: فهي - فقط - التي ارتضاها الله لنا ورسوله (صلّى الله عليه وآله).

    إن المضادة بين الدنيا والآخرة إذ تجعل أحدهما هدفاً والآخر وسيلة تكون من نوع المضادة بين الناقص والكامل، فإذا كان الهدف هو الناقص لزم الحرمان عن الكامل، أما إذا كان الهدف هو الكامل لم يلزم الحرمان عن الناقص، بل لازم الاستفادة من الناقص في سبيل الوصول إلى الكامل بصورة إنسانية معقولة وسامية، كما أن الأمر كذلك في النسبة بين كل تابع ومتبوع، إذ لو كان غرض الإنسان الاستفادة من التابع لزم حرمانه عن المتبوع، أما إذا كان غرضه الاستفادة من المتبوع تابعه التابع بنفسه.

    وفي الحكمة 269 من نهج البلاغة إشارة واضحة إلى هذا، حيث يقول (عليه السلام):

    (الناس في الدنيا عاملان:

    عامل في الدنيا للدنيا، قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلف الفقر ويأمنه على نفسه، فيفني عمره في منفعة غيره.

    وعامل عمل في الدنيا لما بعدها، فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأحرز الحظين معاً، وملك الدارين جميعاً، فأصبح وجيهاً عند الله لا يسأل الله حاجة فيمنعه).

    وقد جاءت هذه النسبة بين الدنيا والآخرة: أن الآخرة هي المتبوعة وأن الدنيا هي التابعة لها، وأن تبعية الدنيا تبعية للتابع تستلزم الحرمان عن المتبوع الأصل وهو الآخر، ولكن تبعية الآخرة تبعية للمتبوع تستلزم تبعية الدنيا لها.. جاءت هذه النسبة في القرآن الكريم، في الآيات 145-148 من سورة آل عمران بالصراحة، وفي آيات، 18 و19 من سورة الإسراء، والآية 20 من سورة الشورى بتلويح كالتصريح.

    - اعمل لدنياك.. واعمل لآخرتك..

    وهناك حديث آخر كثر السؤال والنقاش حوله:

    روي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) تارة، وعن الإمام (عليه السلام) أخرى، وعن ابنه الإمام المجتبى (عليه السلام) في وصيته لجنادة بن أمية أيضاً، بألفاظ مختلفة ومضمون واحد: (كن لدنياك كأنك تعيش أبداً، وكن لآخرتك كأنك تموت غداً).

    فقال البعض: إن معنى هذا الحديث هو أن يتسامح الإنسان في عمل الدنيا ولا يعجل، فكلما عرض له عمل للدنيا يقول: إني أعيش هنا أبداً، فلا داعي لي أن أقوم به الآن. فسأفعله بعد، فإنه لا يفوتني... ولكنه بالنسبة إلى عمل الآخرة يقول: سأموت غداً وليس لي سوى هذا اليوم، فالوقت ضيق وسيفوتني إن لم أقم به الآن.

    ولم يصدق الآخرون أن يأمر الإسلام وأئمته بالتساهل والمسامحة، ولم يروا في سيرتهم (عليهم السلام) ذلك. فقالوا: إن معنى هذا الحديث هو: أن يقول الإنسان في العمل للدنيا: إني أعيش هنا أبداً، فلا ينبغي لي أن احتقر الأعمال فأفعلها بصورة مؤقتة بحجة عدم وفاء الدنيا وعدم وفاء العمر فيها، بل يجب علي أن أقوم بها بصورة أساسية أضمن فيها المستقبل لنفسي فإني سأعيش هنا أبداً، وعلى فرض عدم بقائي بها أبداً سيستفيد من عملي الآخرون بعدي فيها. وبالنسبة إلى عمل الآخرة يقول: سأموت غداً فلا فرصة في للقيام به بعد هذا، فيصلي - مثلاً - صلاة المودع للحياة، ويصوم كذلك، ويؤدي الديون وحقوق الناس كذلك، وهكذا..

    وأقول: إن هذا الحديث من ألطف الأحاديث في الدعوة إلى العمل وترك الإهمال، سواء في الأمور الدينية والأخروية أو الدنيوية.

    وللمثال نقول: إذا كان الشخص يعيش في دار يعلم بأنه سوف ينتقل منها إلى دار أخرى يعيش فيها أبداً، ولكنه لا يعلم متى يكون هذا الانتقال لا اليوم ولا الشهر ولا السنة.. فهو يعيش حالة التردد في تعهد العمران بالنسبة إلى كلا الدارين، إذ لو كان يعلم أنه سينتقل من هذه الدار في القريب العاجل جداً كان يصرف همّه للعمل لتلك الدار ويهمل العمل لهذه، وبالعكس إذا كان يعلم أنه سوف لا ينتقل من هذه الدار إلا بعد لأي من الزمن فإنه سيصرف همه لتعهد العمران في الدار التي هو فيها ويهمل العمل للأخرى ويقول في نفسه: يجب عليّ الآن أن أعمل لهذه الدار أنا فيها، وأما الأخرى فسوف نصل للعمل لها فيما سيأتي من الأيام، فإن الفرص كثيرة، والأقرب يمنع الأبعد.

    وفي حالة التردد - الأولى - يأتي دور هذا الحديث ليقول له: بالنسبة إلى هذه الدار التي أنت بها الآن افترض أنك تعيش فيها دهراً من الزمن، فإن كانت بحاجة إلى العمران فتعهدها بالتشييد والإتقان.. وبالنسبة إلى تلك الدار الأخرى افترض بالعكس إنك ستنتقل إليها غداً، فعجل عمرانها وتشييدها قبل الفوت وقبل الموت.

    والنتيجة الحتمية لهذه النظرة إلى الحياة الدنيا والأخرى: أنه سيعمل بجد لكلا الدارين.. فلنفترض أن إنساناً مسلماً يريد أن يطلب علماً أو يؤلف كتاباً أو يؤسس مؤسسة خيرية تستغرق ردحاً من الزمن، فإن كان يعلم أن عمره لا يكفي للقيام بهذا العمل وأنه سيبقى أثراً ناقصاً، فهنا يقال له: افترض أن عمرك أطول من جميع هذه الأعمال. ولكن نفس هذا الشخص إذا أراد أن يقوم بعمل من عمال الآخرة من التوبة والصلاة والزكاة وأداء الحقوق التي عليه لله وللناس وقضاء ما فات منها، فإنه يقال له: افترض أنك تموت غداً (فعجل بالتوبة قبل الموت، وبالصلاة قبل الفوت) و(صل صلاة المودع) إذ لو كان هنا أيضاً يفترض أنه سيعيش أبداً فإنه سوف يسوّف في الأعمال حتى تبلغ به الآجال.

    وتبين من هذا المثال: أن افتراض بقاء الوقت في بعض الموارد يستلزم الإقدام على العمل، وافتراض قلة الوقت يستلزم الإحجام عنه. وفي بعض الموارد الأخرى يكون الأمر على عكس هذا تماماً، أي أن افتراض بقاء الوقت يستلزم الإهمال والإحجام عن العمل، وافتراض قلة الوقت يستلزم الإقدام عليه. إذن فالفرق بين الفرضين هو الفرق ين الموردين، فاللازم أن نفترض في كل مورد ما ينتهي بالإنسان إلى الإقدام على الأعمال، سواء كان من عمل الدنيا أو الآخرة.

    ويصطلح الأصوليون هنا بقولهم: إن لسان الدليل هنا إنما هو لسان التنزيل والتمثيل، فلا مانع من أن يكون التنزيلان متضادين من جهتين.

    ويكون ملخص معنى الحديث هو: القول في بعض الأعمال بأصالة الحياة وبقائها ودوام العمر فيها. وفي البعض الآخر القول بأصالة عدم بقاء العمر وقلته فيها. والضابط هو: القيام بالأعمال وعدم الإهمال سواء في عمل الدنيا أم الآخرة.

    وليس ما قلناه من المعنى هنا توجيهاً بلا دليل، بل أن هناك عدة روايات أخرى توضح لنا مفهوم هذا الحديث على ما قلناه هنا، وإنما وقع الخلاف فيه لعدم الالتفات إلى تلك الروايات:

    1ـ فقد نقل المرحوم المحدث القمي (رحمه الله) في كتابه (سفينة البحار) في مادة (رفق): أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: (إن هذا الدين لمتين، فأوغل فيه برفق.. فاحرث حرث من يظن أنه لا يموت، واعمل عمل من يخاف أن يموت غداً)(21).

    2ـ وفي (الكافي) فيما أوصى به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) قال: (إن هذا الدين متين، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، وأحذر حذر من يتخوف أنه يموت غداً)(22).

    يعني: إذا عرض لك عمل نافع يحتاج القيام به إلى وقت كثير فظن أن عمرك سيطول حتى تقوم به، وإذا خطر ببالك أن الوقت كثير فأردت أن تؤخر العمل النافع فظن أنك تموت غداً، فلا تؤخر العمل ولا تفوت الفرص.

    3ـ وفي (نهج الفصاحة) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه كان يقول:

    (أصلحوا دنياكم، وكونوا لآخرتكم كأنكم تموتون غداً).

    4ـ وفيه عنه أيضاً: (اعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبداً، وأحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غداً).

    5ـ وفيه عنه أيضاً: (أعظم الناس هماً المؤمن، يهتم بأمر دنياه وأمر آخرته).

    6ـ وفي (تحف العقول) عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: (ليس منا من ترك دنياه لدينه، أو ترك دينه لدنياه).

  3. #18
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    - العبوديات والحريات

    طال البحث في عبودية الدنيا والمادة في (نهج البلاغة). وقد بقي موضوع لا نستطيع أن نتعداه بلا قول فيه، وهو:


    إشكال:

    إذا كانت العلاقة الروحية بشيء نوعاً من المرض والمسخ للقيم الإنسانية، وموجباً للجمود والركود والوقوف عن الحركة والنشاط، فما الفرق بين أن يكون ذلك الشيء من المادة أو المعنى؟ من الآخرة أو الدنيا؟ من الخالق أو من المخلوق؟ ولو كان الإسلام في تحذيره عن التعلق القلبي بالدنيا والمادة ينظر إلى صيانة الشخصية الإنسانية الأصيلة و(تحريرها) عن أسر الركود والجمود والتوقف، لكان عليه أن يدعو إلى (الحرية المطلقة) وأن يعد جميع القيود أنواعاً من الكفر والجحود! كما نرى ذلك في بعض المدارس الفلسفية الحديثة التي ترى (الحرية) ركناً أساسياً في تكوين الشخصية الإنسانية، (كالوجوديين).

    ويرى بعض أرباب هذه المدارس الفلسفية الحديثة: أن الشخصية في الإنسان تساوي العصيان والتمرد على جميع القيود والتحرر من كل ألوانها وأشكالها بلا استثناء، ويعدون كل قيد وانقياد من أضداد الشخصية الواقعي للإنسان، وموجباً لبعده عن واقعه الإنساني! ويقولون: إن الإنسان لا يكون إنساناً ولا يتمتع بالإنسانية إلا بمقدار ما يفقد في نفسه التسليم والتمكين والخضوع! إذ أن من خواص العلاقة والإعجاب بالشيء أن يجذب ذلك الشيء انتباهه إليه ويسلبه انتباهه إلى نفسه بل ينسيه نفسه، وبالتالي يتبدل هذا الموجود (الحي الواعي) الذي يسمى إنساناً وتتلخص شخصيته في هاتين الكلمتين: إلى موجود (أسير غافل) وعلى أثر نسيانه لذاته ينسى قيمة الإنسانية، ويقف بأسره وعلاقته عن الحركة والرقي، في نقطة الجمود والركود!

    فلو كانت فلسفة مكافحة الإسلام لعبودية الدنيا والمادة هي: إحياء شخصية الإنسان المسلم، لكان عليه أن يمنع عن كل عبادة وكل قيد. بينما لا نشك أن الإسلام إنما يريد تحريره عن المادة والدنيا لتقييده بالمعنى والآخرة، وإنما يريد تركه للمخلوق لعبادة الخالق!

    فالعرفان الإسلامي يرى: أنه يجب على الإنسان أن يتحرر عن قيد العالمين، ولكن يجب عليه أن يتقيد بقيد عبودية (الإله) ويجب أن يكون لوح الضمير غير مسود بأي خط أو رسم أو قلم أو رقم، إلا رقم (الواحد)، ولا ينبغي أن يتعلق خاطره بأي شيء سوى ذلك القمر المنير الذي لا يضر معه أي حزن أو ألم، وهم يعنون به: (الله)!

    فالتحرر العرفاني الإسلامي لا يعالج شيئاً من مشاكل الإنسان في نظر الفلسفات الإنسانية (الوجودية) إذ هو تحرر نسبي، تحرر من أشياء لعبودية شيء آخر. والعلاقة هي العلاقة، والأسر هو الأسر، وإن اختلف السبب.

    ولا شك عند المدارس الفلسفية الإنسانية في القول بأن كل شيء يربط الإنسان بنفسه هو ممّا يتناقض والشخصية الإنسانية، إذ هو يجمده ويوقفه. ومسيرة التكامل في الإنسان مسيرة لا نهاية لها فكل ركود فيها يضادها ويناقضها.

    ولا بحث لنا في هذا، أي نحن أيضاً نقبل هذا الكلام بصورة عامة. إنما الكلام في أمرين:

    الأول: هل أن القرآن ومعه نهج البلاغة ينظران إلى علاقة الإنسان بالدنيا هكذا؟ فهل الذي يدينه القرآن هي العلاقة الرابطة التي تجعل الدنيا أكبر الهم؟ وهذا يضاد تكامل الإنسان وحركته وتقدمه واطراده، وهذا هو السكون والركود والوقوف بل الفناء! فهل أن القرآن لا يدين جميع أنواع العلاقة بالدنيا حتى ما لا يكون منها موجباً للوقوف؟

    والثاني: لو كانت العلاقة التامة بشيء بحيث تجعله هدفاً تستلزم القيد والأسر وبالتالي الجمود والركود فما الفرق بين أن يكون ذلك الشيء خالقاً أم مخلوقاً؟

    إن القرآن ينفي كل عبودية ويدعو إلى الإنسانية والحرية المعنوي، ولكنه لا ينفي عبودية الله والعلاقة به، ولا يدعو إلى التحرر عن الرب بلوغاً إلى الحرية التامة المطلقة، بل إن دعوة القرآن إنما تبتنى على أساس التحرر عما سوى الله، والتمرد عن إطاعة غير الله والاستسلام لله.

    إن كلمة (لا اله إلا الله) التي هي أساس بناء الإسلام، تبتني على نفي وإثبات، سلب وإيجاب، كفر وإيمان، تمرد وإذعان، فالنفي والسلب والكفر والتمرد بالنسبة إلى غير الحق المطلق، والإثبات والإيجاب والإيمان والإذعان بالنسبة إلى ذات الحق المطلق. إن أولى الشهادتين في الإسلام ليست (لا) فقط، كما أنها ليست (نعم) فحسب، بل هي مركبة من (لا) إله (إلا الله).

    فلو كان تكامل الشخصية الإنسانية يوجب تحرره عن كل قيد وطاعة وتسليم وعبودية، وتوجب عصيانه لكل شيء ونفيه لكل إثبات طلباً للاستقلال بكماله الإنساني، والحرية المطلقة - كما يقول الوجوديون - فأي فرق بين أن يكون ذلك الشيء خالقاً أو غير خالق؟ وإذا كان على الإنسان أن يقبل نوعاً من الأسر والطاعة والقيد والعبودية والتوقف والركود، فما الفرق أيضاً بين أن يكون ذلك (الإله) هو (الله) أو غير (الله)؟!

    أم أن هناك فرقاً بينهما إذا كان الهدف هو (الله) عما إذا كان الهدف غير (الله)؟ وإذا كان كذلك فما هو المبنى والأساس في ذلك؟ وما هو توجيهه وتفسيره؟

    ونصل في مقام الإجابة هنا إلى أجلى وأرقى المعارف الإسلامية الإنسانية، وهذا البحث من الموارد التي يتجلى فيها عظمة منطق الإسلام من ناحية وضمور الأفكار الأخرى من ناحية أخرى.

    هذا هو الإشكال الذي يطرح نفسه في ذهن بعض المنتمين إلى المدارس الفلسفية الحديثة.


    والجواب:

    ولكي نوضح الموضوع لابدّ لنا من الإشارة إلى بعض المباحث الفلسفية، فنقول: لقائل أن يقول: إن افتراض نوع من الشخصية للإنسان بصورة عامة، والإصرار على صيانة الشخصية الإنسانية وعدم تبدّلها عما هي عليها. إن هذا هو ممّا يستلزم نوعاً من توقيف حركة الإنسان نحو تكامله، إذ أن الحركة: تستلزم التغيّر والتحول والتبدّل وهي كونه شيئاً ثم كونه شيئاً آخر، إنه إنما يمكن صيانة النفس عن التبدل والتحول في ظل السكون والوقوف.

    وبعبارة أخرى، إن من لوازم الحركة للتكامل هو التحول والتبدل، ولهذا عرف بعض قدماء الفلاسفة الحركة بالتغيّر.

    إذن، فافتراض الشخصية للإنسان والإصرار على صيانتها وعدم تبدّلها إلى غيرها من ناحية، والتكامل له من ناحية أخرى، هو نوع من التناقض الذي لا يقبل الحل.

    وقد قال بعضهم للخروج عن هذا التناقض: إن شخصية الإنسان أن لا تكون له شخصية خاصة تحده! فهو - على مصطلح الفلاسفة - لا تعيّني مطلق! فحده أن لا يكون له حد خاص يحده، ولونه أن لا يكون له لون خاص يصوره ويقيده بنفسه، وشكله أن لا يكون له شكل خاص يشكل عليه الخروج منه، وقيده أن لا يكون عليه قيد يقيده ويأسره، وماهيته أن لا تكون له ماهية! والإنسان موجود لا طبيعة له، فاقد لكل نوع من أنواع الاقتضاء الذاتي، لا لون له ولا شكل ولا ماهية، وإذا نحن حمّلناه أي حد أو قيد أو طبيعة أو لون أو شكل سلبناه شخصيته الواقعية!

    وهذا الكلام أشبه بالشعر منه بالفلسفة! فإن اللاتعيينية المطلقة واللالونية واللاشكلية المطلقة إنما تمكن بإحدى صورتين:


    - إحداهما: أن يكون ذلك الموجود منتهى الكمال الفعلي بلا نهاية، أي نوع وجوداً لا حد له، محيطاً بجميع الأزمنة والأمكنة، قاهراً لجميع الموجودات - كما أن الله هكذا - وحينئذ يكون لتكامل على هذا محالاً، إذ التكامل هو الانطلاق من النقص إلى الكمال، ولا نقص في هذا.


    - والأخرى: أن يكون الموجود فاقداً لكل كمال وفعلية، أي يكون إمكاناً واستعداداً صرفاً، فهو في هامش الوجود وفي ظل العدم، وهذا ما لا حقيقة له ولا ماهية، فهو يقبل كل حقيقة وكل ماهية وكل تعيين. وهكذا موجود - مع أنه لا تعيّن له في ذاته - يكون موجوداً دائماً في ضمن تعين خاص، ومع أنه لا لون له في ذاته ولا شكل ولكنه يكون مستقراً إلى ظل موجود له لونه وشكله. وهذا النوع من الوجود هو الذي يسميه الفلاسفة: (الهيولى الأولية) أو (مادة المواد) وهو مستقر في مراتب الوجود المتدرجة إلى الأسفل في هامش الوجود، كما أن ذات الباري سبحانه مستقرة في مراتب الكمال الوجودي في الطرف الآخر المحيط بجميع الوجود.

    والإنسان - كسائر الموجودات - مستقر في وسط هذين الطرفين، فلا يمكن أن يكون فاقداً لجميع أنواع التعيّنات. وإنما يتفاوت الإنسان عن سائر موجودات العالم بأن لا حد لتكامل الإنسان يوقفه عنه، بينما تقف سائر الموجودات عند حدودها المعينة لها فلا تستطيع أن تتعداها، من دون أن يكون للإنسان حد يقف دونه.

    وعلى خلاف نظر الفلاسفة أصحاب (أصالة الماهية) الذين كانوا يرون أن ذات كل شيء تساوي ماهيته، فكانوا يقولون باستحالة التغيير الذاتي والماهوي، وكانوا يرون أن جميع التغيرات إنما يمكن تصورها والتصديق بها في عوارض الأشياء، لا ذواتها وماهياتها.. على خلاف هؤلاء نقول: أن للإنسان طبيعة وجودية خاصة، إنها كسائر الطبائع المادية الموجودة سيّالة متغيرة، مع فرق أن لا حد لحركة الإنسان.

    وقد حمل بعض المفسرين في تأويلاته الخاصة في قوله سبحانه: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) على وجود الإنسان وقال: هذا هو الإنسان الذي ليس له منزل معيّن ولا مقام معلوم، فكلما تقدم استطاع أن يسمو أكثر فأكثر وهكذا..

    وإنما نقصد من هذا أن علماء المسلمين يرون الإنسان هكذا. ولا علينا الآن أيحق لنا أن نأوّل آيات القرآن الكريم إلى تأويلات كهذه؟ أم لا؟

    وأنا أرى أن في حديث المعراج رمزاً إلى هذه الحقيقة، حيث يقف جبرئيل ويقول: إن تقدمت أنا أكثر من هذا قيد أنملة احترقت! ويتقدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو إنسان، وجبرائيل ملك.

    وللعلماء بحث حول الصلوات على رسول الله وآل الأطهار وجوباً أو استحباباً. هل أن في هذه الصلوات نفعاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو أكمل إنسان؟ فهل يمكن أن يتقرب رسول الله أكثر من الكمال الأعلى دون الله؟ أم أن نفع هذه الصلوات إنما يرجع إلينا فقط؟ وإن ذلك لرسول الله وآله طلب لتحصيل الحاصل. فبعضهم على أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دائماً في حال التكامل والتقرب، ولا يتوقف عن هذه الحركة أبداً، كما جاء هذا في شرح الصحيفة السجادية للسيد علي خان (قدس سره).

    والذي جعل الإنسان هكذا هو (اللاتعين الصرف) بل نوع من التعين الذي يعبر عنه (بالفطرة) ونحوها.

    فليس للإنسان حد.. ولكن له طريق..

    والقرآن يؤكد على الطريق المعيّن للإنسان الذي يعبّر عنه (بالصراط المستقيم). وليس للإنسان مرحلة توقف، بل يجب عليه إذا توصل إلى مرحلة أن ينطلق إلى مرحلة أخرى.. ولكن له (مدار معين) يجب عليه أن يتحرك في ذلك المدار المعين، فإن تكامله هو حركته في مداره الإنساني، لا في مدار آخر كمدار الكلب والخنزير مثلاً.. وليس خارجاً عن كل مدار أي ليس في هرج ومرج!

    وهذا هو الانتقاد الحق على منطق (الوجوديين) الذين ينكرون كل تعين للإنسان وكل لون وشكل له، ويرون أن كل قيد - حتى قيد الطريق والمدار الخاص - يضاد إنسانية الإنسان، ويؤكدون على تمرده وعصيانه وتحرره عن جميع القيود فقط.. فإن هذا يستلزم سلب جميع المسؤوليات، ونفي جميع الأخلاقيات، والهرج والمرج.

    والآن نرجع إلى كلامنا الأول، فنتساءل: هل أن حركة التكامل تستلزم نسيان الذات وفقدان الشخصية؟ وهل أن الموجود يجب عليه إما أن يسلك سبيل التكامل أو يبقى هو هو؟ والإنسان هل يجب أن يتكامل فيتحول وتتبدل شخصيته أو يبقى هو هو؟

    والجواب: أن حركة التكامل الواقعي أي الحركة إلى الكمال الطبيعي، أو قل: من الطريق الطبيعي والصراط الطبيعي للخلقة وغايتها، لا تستلزم أن تتبدل شخصية الإنسان الواقعية إلى شخصية أخرى.

    والشخصية الواقعية لأي موجود هي (وجوده) وليست (ماهيته)، فالتغيير في الماهية والنوعية لا يستلزم تبدل شخصيته أبداً.

    ويصرح المرحوم الشيخ صدر الدين الشيرازي (المولى صدرا) - وهو بطل هذه المسألة - بأن الإنسان ليست له نوعية خاصة، وهو يدعي: أن كل موجود حينما يطوي مراحل كماله لا يبقى على نوعه الأولي الواحد بل يتبدل إلى أنواع في حين أن وجوده نفس ذلك الوجود أولي. وإن رابطة الموجود الناقص بغايته وكماله الطبيعي ليست رابطة شيء أجنبي بشيء أجنبي آخر، بل هي رابطة شيء بنفسه، رابطة شيء ضعيف بقوته، فالشيء حينما يتحرك نحو كماله يتحرك من نفسه إلى نفسه، أو قل من نفسه التي لم تصل إلى شخصيتها إلى أن تجد شخصيتها الواقعية بكمالها. فالنبات الذي يشق الأرض وينمو ويجد لنفسه عوداً وفرعاً وورقاً، لم يتحرك في سيره هذا من نفسه إلى غير نفسه، ولو كان شاعراً بنفسه لم يشعر ببعد عن نفسه أو شخصيته.

    وبعد هذه المقدمات نستطيع الآن أن نصل إلى: أن بين العلاقة بالله والحركة نحوه وعبوديته والتسليم له وبين أي حركة أخرى وعلاقة أخرى وعبودية أخرى وتسليم آخر، تفاوتاً كثيراً وبعداً كبيراً كبعد المشرقين، فإن العبودية لله هي الحرية، وإن العلاقة به هي العلاقة الوحيدة التي ليس فيها جمود وتوقف، وعبودية وحيدة ليس فيها فقدان للشخصية ونسيان الذات.

    والدليل على ذلك: هو أن الله سبحانه هو كمال كل موجود، وهو المعبود الفطري لجميع الموجودات: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) إذن، فالعبودية له هي الحرية، وفقدان الشخصية فيه هو وجدان للشخصية الواقعية.

    وقد توصلنا هنا إلى نقطة نستطيع معها أن نوضح ما يشير إليه القرآن الكريم: بأن نسيان الله هو نسيان للذات، وفقدان الله هو فقدان الذات، والانقطاع عن الله هو الانقطاع والسقوط.


    - خسران الذات ونسيانها

    إن القرآن يستعمل كلمات خاصة في شأن بعض البشر، فيقول مثلاً:

    (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)(23).

    (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ..)(24).

    (نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(25).

    ويفكر المتفلسف هنا ويتساءل: هل يمكن للإنسان أن يخسر نفسه؟! إذ الخسران هو الفقدان والضياع، وهو لا يكون إلا بشيئين: خاسر فاقد، والآخر مفقود ضائع. فكيف يمكن للإنسان أن يخسر نفسه ويفقدها ويضيّعها؟! أليس هذا من التناقض؟!

    ثم هل يمكن للإنسان أن ينسى نفسه؟ إذ الإنسان الحي غارق في ذات نفسه، لا يرى شيئاً إلا بإضافته ونسبته إلى نفسه، فهو يلتفت إلى نفسه قبل كل شيء إذن، فما معنى نسيانه لها؟!

    والتفت بعد ذلك إلى أن لهذه المسألة سابقة قديمة في المعارف الإسلامية، من الأحاديث والأدعية والعرفان والأدب العرفاني الإسلامي. وعلمت أن الإنسان قد تلتبس عليه نفسه بغيرها فيحسبها نفسه، وبما أنه يحسب غيره نفسه فما يفعله ويحسبه لنفسه يكون قد فعله لغيره في الحقيقة والواقع، ويكون قد ترك نفسه وهجرها ونسيها بل مسخها!

    مثلاً: حيث يحسب الإنسان أن شخصيته الواقعية هي (شخصية الجسماني). فما يفعله، يفعله لجسمه، يكون قد ضيع نفسه ونسيها، وحسب غيره نفسه.

    وللإمام (عليه السلام) في هذا المقام مقال جميل يقول فيه:

    (عجبت لمن ينشد ضالته وقد أضل نفسه فلا يطلبها)(26).

    ولا ينحصر ضياع النفس ونسيانها في خطأ الإنسان في هويته وماهيته، بل قد تلتبس عليه نفسه بجسمه أو بدنه البرزخي أحياناً، كما قد يتفق هذا لبعض أرباب السلوك.

    وقد قلنا في الفصل السابق: أن كل موجود حينما يطوي في مسير تكامله الفطري طريق الكمال يكون في الحقيقة يسير من نفسه الضعيفة إلى نفسه القوية.

    وعلى هذا فإن انحراف أي موجود عن مسير تكامله الواقعي يكون انحرافاً عن نفسه إلى غيره وهذا الانحراف يتحقق في مورد الإنسان أكثر من أي موجود آخر، لأنه حر مختار، فكل ما يختاره لنفسه غاية يكون قد جعله في الحقيقة في مكان نفسه وشخصيته الواقعية، فإن كانت غاية منحرفة يكون مبدلاً غيره بنفسه. فكل ما جاء في ذم الفناء في الماديات إنما ينظر إلى هذا الخطأ والالتباس.

    إذن، فاختيار الغايات والأهداف المنحرفة عامل في خطأ الإنسان في نفسه وشخصيته الواقعية، وبالتالي ينسى شخصيته الواقعية ويفقدها.

    وليس اختيار الأهداف والغايات المنحرفة موجباً لإصابة الإنسان بمرض نسيان ذاته وفقدانها فقط، بل قد يصل به الأمر أحياناً إلى أن يمسخ ماهيته الواقعية ويبدلها بذلك الهدف المنحرف.

    وفي المعارف الإسلامية باب واسع في أن المرء يحشر مع من أحب.

    فقد ورد في أحاديثنا: (من أحب حجراً حشره الله معه)(27).

    وبالالتفات إلى المسلمات من المعارف الإسلامية التي تقول بأن ما اكتسبه الإنسان في هذه الحياة سيظهر في يوم القيامة مجسّماً، يتضح لنا أن السبب في حشر الإنسان مع ما أحب هو: أن حب الإنسان للشيء يجعله في مرحلة الغاية والهدف له، فيقع ذلك الشيء في مسير تكوين شخصية الإنسان، وتنتهي تلك الغاية المنحرفة بالإنسان بالتالي إلى تبدل واقعية الإنسان إلى ذلك الشيء.

    فهذا شرطان في وجدان الإنسان لنفسه وشخصيته الواقعية:

    الشرط الأول: أن لا تتبدل شخصيته الواقعية ونفسه بجسمه وجسده وبدنه.

    والشرط الثاني: أن لا تتبدل غايته الواقعية وهدفه بهدف منحرف وغاية منحرفة:

    ولذلك - بالإضافة إلى هذين الشرطين - شرط آخر، هو:


    - من عرف نفسه فقد عرف ربه

    الشرط الثالث: وهو وجدانه لخالقه وموجده وعلته الواقعية..

    إذ يستحيل على الإنسان أن يدرك ويعرف شخصيته الواقعية منفصلة عن علتها وخالقها، فإن علة كل موجود مقدمة على وجود ذلك الشيء، فهي أقرب إليه من نفسه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(28). و(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(29).

    وقد أكد العرفاء المسلمون على عدم الفصل بين معرفة الله ومعرفة النفس، وقالوا بالملازمة بين معرفة النفس على ما هي عليه: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ومعرفة الحق المطلق (الله سبحانه)، وهم يخطئون الحكماء المسلمين في مسائل معرفة النفس ولا يرون كلامهم فيها كلاماً وافياً بالمعنى.

    ونكتفي بالقول: بعدم الفصل بين معرفة النفس ومعرفة الخالق، كما جاء في كلام رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما: (من عرف نفسه فقد عرف ربه).

    وهذا هو معنى كلام الإمام (عليه السلام) حينما سأله ذعلب اليماني: (هل رأيت ربك)؟ فقال: (أفأعبد ما لا أرى)؟ ثم يوضح مراده فيقول: (لا تراه العيون بمشاهدة العيون، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان).

    وهنا نقطة جميلة نستفيدها من تعبير القرآن الكريم، هي أن الإنسان لا يكون فاقداً نفسه إذا كان واجداً ربه، ولا يكون ناسياً نفسه إذا كان غير غافل عن خالقه، إذ أن نسيان الله يلازم نسيان الذات وفقدانها وضياعها: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(30).

    ومن هنا يعلم أنا لماذا نقول: أن ذكر الله حياة القلوب ونورها، وطمأنينة الروح وصفاؤها، وبهجة الضمير الإنساني ورقة له وخشوع، ويقظة له وانتباه.

    وما أجمل وأعمق ما قاله الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة بهذا الصدد:

    (إن الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة وفي أزمات الفترات رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة).


    - دور العبادة في الإحساس بالشخصية

    والكلام في أبواب العبادات كثير بحيث إذا أردنا نحن هنا أن نبسط القول فيها كان علينا أن نخصص لها عشرات الكلمات والمقالات. فنحن نشير هنا إلى موضوع واحد من مواضيعها، وهي: تثمين العبادة من حيث إحساسها الإنسان نفسه وذاته وشخصيته، فنقول:

    كما أن العلاقة بالماديات والغرق فيها تفصل الإنسان عن شخصيته الواقعية وتجعله بعيداً عن نفسه، كذلك وبنفس النسبة ترجع العبادة بالإنسان إلى نفسه وذاته وشخصيته الواقعية، فإن العبادة يقظة للإنسان وانتباهه له وهي تنقذ الإنسان الغريق والفاني في الأشياء من أعماق بحار الغفلات كما تنقذ الملائكة الغريق من لجج البحار‍ وإن الإنسان في ظل العبادة وذكر الله يرى نفسه كما هي عليه، وينتبه إلى نقصانها وانكسارها، وينظر من خلال أضواء العبادة إلى الحياة والزمان والمكان، فهناك يدرك دناءة آماله وحقارة مناه المادية المحدودة، فيحاول أن يفر منها إلى قلب الوجود!

    وإني لأنظر بإعجاب كثير إلى كلمة بهذا المعنى لعالم عصرنا الشهير: آينشتاين. والذي يبعثني على العجب هو أن هذا العالم إنما هو أخصائي في الفيزياء والرياضيات العالية لا في المسائل النفسية والإنسانية والدينية والفلسفية! إنه يقسم الأديان إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: الأديان التي منبعها الخوف من حوادث الطبيعية! والنوع الثاني: الأديان التي منشأها الخصائص الاجتماعية! والنوع الثالث: الدين الواقعي - غير الوهمي - العميق والمعقول، وهو الذي يسميه: الإحساس الديني للوجود أو الخلقة. ثم يشرح إحساس الإنسان في هذا الدين الحقيقي فيقول:

    (في هذا الدين: يحس الإنسان بصغر آمال وأهداف البشر، والجلال والمعظمة التي تتظاهر من ما وراء ظواهر الطبيعية في الطبيعة والأفكار. فيرى نفسه في قفص كالسجن بحيث يريد أن يطير من قفص جسمه فيدرك جميع الوجود كحقيقة واحدة..).

    ويقول الدكتور ويليام جيمز: (إن التوجه إلى الخالق هو النتيجة الضرورية لإحساسه بأن أعمق أقسام وجوده الاختياري وجود من النوع الاجتماعي، ولكنه - مع ذلك - إنما يستطيع أن يجد أنيسه ومؤنسة الكامل المطلق في عالم الفكر فقط. وإن أكثر الناس - سواء بالصدف أو على الدوام - يرجعون إليه في قلوبهم وضمائرهم وأفكارهم. وأن أحقر الناس في الأرض يجد بهذا التوجه إلى الخالق نفسه الواقعية ويهبها الشخصية).

    ولإقبال اللاهوري كلام قيم في تثمين العبادة من حيث إحساس الشخص بها بنفسه، لا أود تركه هنا، إنه يقول:

    (إن العبادة والتوجه إلى الله بإشراقة النفس: عمل حيوي متعارف عليه، تكتشف بها جزر شخصياتنا الصغار وجودها في ضمن الإطار الكبير من الحياة)(31).
    ..................................................

    الهوامش:

    1- المسعودي ـ مروج الذهب، ج2، ص341-343، ط مصر. وج4، ص252 - 255، ط أوربا.

    2- سورة السجدة: 32.

    3- سورة الروم: 21.

    4- الحكمة: 131.

    5- الخطبة: 28.

    6- الحكمة: 131.

    7- سورة الفرقان: 44.

    8- سورة الكهف: 45.

    9- سورة الحديد: 20.

    10- سورة الكهف: 48.

    11- سورة يونس: 7.

    12- سورة النجم: 29-30.

    13- سورة الرعد: 26.

    14- سورة الروم: 7.

    15- الخطبة 32.

    16- تحف العقول، ص200.

    17- تحف العقول، ص200.

    18- سورة الإسراء: 70.

    19- بحار الأنوار.

    20- سورة الأعراف: 32.

    21- سفينة البحار، ج1، مادة رفق.

    22- بحار الأنوار، المجلد 15، قسم الأخلاق، الباب 29.

    23- سورة الأعراف: 53.

    24- سورة الزمر: 15.

    25- سورة الحشر: 19.

    26- الغرر والدرر للآمدي، ج4، ص340.

    27- سفينة البحار، مادة: حب.

    28- سورة ق: 16.

    29- سورة الأنفال: 24.

    30- سورة الحشر: 19.

    31- إحياء فكر ديني.

  4. #19
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]
    حدود العقل والقلب
    [/align]


    كان عليُّ بن أبي طالب شديداً، قاصفاً، مزمجراً، كالرعد في ليالي الويل!

    والينبوعُ هو الينبوعُ لا حسابَ في جرْيهِ لليلٍ أو نهار!

    مَن تتبَّع سيرَ العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرقَ بين شرقي منهم أو غربي، ولا قديم ومُحْدَث، أدرك ظاهرةً لا تخفى وهي أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تبايُن مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة والضعف. فهم بين منتج خلاّق، ومتذوّق قريب التذوّق من الإنتاج والخلق. حتى لكأنّ الحس الأدبي، بواسع معانيه وأشكاله، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم!

    هذه الحقيقية تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب، فإذا هو الإمام في الأدب، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علّم وهدى، وآيته في ذلك (نهج البلاغة) الذي يقوم في أسُس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أُسُس، وتتّصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرناً فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيّدُها في نطاقٍ من بيانه الساحر.

    أما البيان فقد وصل عليٌّ سابقَه بلاحقِه، فضمّ روائع البيان الجاهلي الصافي المتّحد بالفطرة السليمة اتحاداً مباشراً، إلى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة والمنطق القويّ اتحاداً لا يجوز فيه فصلُ العناصر بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية، ومن سحر البيان النبويّ، ما حَدَا بعضهم إلى أن يقول في كلامه أنه (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق).

    ولا عجب في ذلك، فقد تهيّأت لعليّ جميع الوسائل التي تعدّه لهذا المكان بين أهل البلاغة. فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد الله، وتلقّى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة وقوة. أضف إلى ذلك استعداداته الهائلة ومواهبه العظيمة، فإذا بأسباب التفوّق تجتمع لديه من الفطرة ومن البيئة جميعاً!

    أما الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له في كل عبارة من (نهج البلاغة) عملاً عظيماً. وهو ذكاء حيّ، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار. إذا هو عمل في موضوع أحاط به بُعداً فما يُفلت منه جانبٌ ولا يُظلَم منه كثيرٌ أو قليل، وغاص عليه عمقاً، وقَلَّبَه تقليباً، وعركه عركاً، وأدرك منه أخفى الأسباب وأمعَنها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتّبة على تلك الأسباب: ما قرُبَ منها أشدّ القرب، وما بعُد أقصى البُعد.

    ومن شروط الذكاء العلويّ النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّى اتجهت. وهذا التماسُك بين الفكرة والفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية لما قبلها وعلّة لما بعدهما. ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يُستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه. بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه. وهو، لاتّساع مداه، لا يستخدم لفظاً إلا وفي هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل وتمعن في التأمل، ولا عبارة إلا وتفتح أمام النظر آفاقاً وراءها آفاق.

    فعن أيّ رحب وسيعٍ من مسالك التأمّل والنظر يكشف لك قوله: (الناس أعداء ما جهلوا) أو قوله: (قيمة كل امرئٍ ما يُحسنه). أو (الفجور دارُ حصنٍ ذليل!).

    وأيّ إيجاز معجز هو هذا الإيجاز: (مَن تخفّف لَحِق!) وأيّ جليل من المعنى في العبارات الأربع وما تحويه من ألفاظ قلائل فُصّلتْ تفصيلاً، بل قُلْ أُنزلتْ تنزيلا!

    ثم عن أي حدّة في الذكاء واستيعاب للموضوع وعمق في الإدراك، يشفّ هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد وصفة نفسه وحقيقة حاله: (ما رأيت ظالماً أشبه بمظلومٍ من الحاسد: نفَسٌ دائم وقلبٌ هائم وحزن لازم. مغتاظٌ على مَن لا ذَنْبَ له، بخيل بما لا يملك!).

    ويستمر تولد الأفكار في (نهج البلاغة) من الأفكار، فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي. وهي مع ذلك لا تتراكم، بل تتساوق ويترتّب بعضها على بعض. ولا فرق في ذلك بين ما يكتبه عليّ وما يُلقيه ارتجالاً. فالينبوع هو الينبوع ولا حساب في جَرْيهِ لليل أو نهار.

    ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم. وإنك لتدهش، أمام هذا المقدار من الإحكام والضبط العظيمين، حين تعلم أن علياً لم يكن ليعدّ خُطَبَه ولو قُبَيل إلقائها بدقائق أو لحظات.

    فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفْوَ الخاطر لا عنتَ ولا إجهاد، كالبرق إذ يلمع ولا خبرَ يأخذ أو يعطيه قبل وميضه. وكالصاعقة إذ تزمجز ولا تُهيّئ نفسَها لصعقٍ أو زمجرة. وكالريح إذ تهبّ فتلوي وتميل وتكسح وتنصبُّ على غاية ثم إلى مَدَاورها تعود ولا يدفعها إلى أن تروح وتجيء إلاّ قانونُ الحادثة ومنطقُ المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل ولا بعد!

    ومن مظاهر الذكاء الضابط القويّ في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان عليّ يضبط بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه وتعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تُغرقه في محيط من الأحزان والكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء ومضاء، فإذا هو آمر مطاع.

    ومن ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوّع البحث والوصف فأحكم في كل موضوع ولم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سُبل البحث. فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا وشؤون الناس، وطبائع الأفراد والجماعات. وهو يصف البرق والرعد والأرض والسماء. ويسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف خفايا الخلق في الخفاش والنملة والطاووس والجرادة وما إليها. ويضع للمجتمع دساتير وللأخلاق قوانين. ويبدع في التحدث عن خلق الكون وروائع الوجود. وإنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم والمنطق المحكم، في مثل هذا الأسلوب النادر.

    أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفّاق الجوانح في كل أفق. وبفضل هذا الخيال القويّ الذي حُرم منه كثير من حكماء العصور ومفكري الأمم، كان عليّ يأخذ من ذكائه وتجاربه المعاني الموضوعيّة الخالصة، ثم يطلقها زاهيةً متحركة في إطار تثبُتُ على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون. فالمعنى مهما كان عقلياً جافاً، لا يمرّ في مخيّلة عليّ إلاّ وتنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود وتمدّه بالحركة والحياة.

    فخيال عليّ نموذجٌ للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع، فيحيط بهذا الواقع ويُبْرزه ويجليّه، ويجعل له امتدادات من معدنه وطبيعته، ويصبغه بألوان كثيرة من مادته ولونه، فإذا الحقيقة تزداد وضوحاً، وإذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه!

    وقد تميّز عليّ بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن وتتّسع. وقد مرّ من أطوار حياته بعواطف جرّها عليه حقد الحاقدين ومكر الماكرين، ومرّ منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين وإخلاص المخلصين. فتيسّرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذّي خياله المبدع. فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال وتتساوق في لوحات رائعة حيّة، شديدة الروعة والحيوية، تتركز على واقعية صافية تمتدّ لها فروعٌ وأغصان، ذات أوراق وأثمار!

    ومن ثَمّ يمكنك، إذا أنت شئت، أن تحوّل عناصر الخيال القويّ في نهج البلاغة إلى رسوم مخطوطة باللون، لشدّة واقعيّتها واتّساع مجالها وامتداد أجنحتها وبروز خطوطها. ألا ما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة وكان بنفسه ألمٌ منهم بعد موقعة الجمل، قائلاً: (لتَغْرِقَنَّ بلدتُكم حتى كأنني أنظرُ إلى مسجدها كجؤجؤ طيرٍ في لجّة بحر (1)!).

    أو في مثل هذا التشبيه الساحر: (فِتَنٌ كقِطَع الليل المظلم).

    أو هذه الصورة المتحركة : (وإنما أنا كقُطب الرحى: تدور عليّ وأنا بمكاني!).

    أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبّه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة، وتبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور: (ويل لِسِكَكِكُم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحةٌ كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيَلة!).

    ومن مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل. والتمثيل في أدب الإمام وجهٌ ساطع بالحياة. وإن شئت مثلاً على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس ويتمنون ما هو فيه من حال، ولكنه أعلم بموضعه من الخوف والحذر، فهو وإن أخافَ بمركوبه إلاَّ أنه يخشى أن يغتاله. ثم انظر بعد ذلك إلى عليّ كيف يمثّل هذا المعنى يقول: (صاحب السلطان كراكب الأسد: يُغبَط بموقعه، وهو أعلم بموضعه).

    وإن شئت مثلاً آخر فاستمع إليه يمثّل حالة رجل رآه يسعى على عدوّ له بما فيه إضرارٌ بنفسه، فيقول: (إنما أنت كالطاعن نفسَه ليقتلَ رِدْفَه!) والرّدف هو الراكب خلف الراكب. ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب: (إياك ومصادقةَ الكذّاب فإنه كالسراب: يقرّب عليك البعيد ويُبعد عنك القريب!).

    أما النظرية الفنيّة القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلاً في الفن، فهي إن صحّت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا. فما أهولَ الموت وما أبشع وجهه. وما أروع كلام ابن أبي طالب فيه وما أجملَ وقْعَه. فهو قولٌ آخذٌ من العاطفة العميقة نصيباً كثيراً، ومن الخيال الخصب نصيباً أوفر. فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلاّ لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوّروا الموت وهَوْلَه لوناً ونغماً وشعراً.

    فبعد أن يُذكّر عليٌّ الأحياء بالموت ويقيم العلاقة بينهم وبينه، يوقظهم على أنهم دانون من منزلة الوحشة بقولٍ فيه من الغربة القاسية لونٌ قاتمٌ ونغَمٌ حزين: (فكأنّ كل امرئٍ منكم قد بلغ من الأرض منزل وَحدْتهِ، فيا له من بيت وحدة، ومنزل وحشة، ومَفْرَد غربة!) ثم يهزّهم بما هم مسرعون إليه ولا يدرون، بعبارات متقطّعة متلاحقة وكأنّ فيها دويّ طبولٍ تُنذر تقول (ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر!) بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل، وتُشعلها العاطفة، ويجسّم الخيال الوثّاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة وهي بين عيون تدمع وأصوات تنوح وجوارح تئنّ، قائلاً: (وإنما الأيام بينكم وبينهم بواكٍ ونوائحُ عليكم). ثم يعود فيطلق لعاطفته وخياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحيّ:

    (ولكنهم سُقُوا كأساً بدّلتهم بالنُطق خَرَساً، وبالسمع صمماً، وبالحركات سكوناً. فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سُبات (2)! جيرانٌ لا يتآنسون، وأحبّاء لا يتزاورون، بَليتْ بينهم عُرى التعارف، وانقطعتْ منهم أسباب الإخاء. فكلُّهم وحيدٌ وهُمْ جميعٌ، وبجانب الهجر وهم أخلاّء، لا يتعارفون لليلٍ صباحاً، ولا لنهارٍ مساءً. أيّ الجديدين (3) ظَعَنوا فيه كان عليهم سَرْمَدا (4)).

    ثم يقول هذا القول الرهيب: (لا يعرفون مَن أتاهم، ولا يحفِلون مَن بكاهم، ولا يجيبون مَن دعاهم!).

    فهل رأيت إلى هذا الإبداع في تصوير هَوْل الموت ووحشة القبر وصفة سكّانه في قوله: (جيرانٌ لا يتآنسون وأحبّاء لا يتزاورون!) ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية عليّ: (أيّ الجديدين ظَعَنُوا فيه كان عليهم سرمدا!) ومثل هذه الروائع في (النهج) كثير.

    هذا الذكاء الخارق وهذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة، مع العاطفة الهادرة التي تمدّهما بوهج الحياة. فإذا الفكرة تتحرك وتجري في عروقها الدماء سخيَّةً حارّة. وإذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمدّه العاطفة بالدفء. وقد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في ميادين الأدب وسائر الفنون الرفيعة، إن لم تكن للعاطفة مشاركةٌ فعّالة في إنتاج هذا الأثر. ذلك أن المركّب الإنساني لا يرضيه، طبيعياً، إلا ما كان نتاجاً لهذا المركّب كله. وهذا الأثر الأدبي الكامل، هو ما نراه في نهج البلاغة. وإنك لتحس نفسك مندفعاً في تيّار جارف من حرارة العاطفة وأنت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر.

    أفلا يشيع في قلبك الحنان والعطف شيوعاً وأنت تصغي إلى عليّ يقول: (لو أحبّني جبلٌ لتَهَافت) أو (فقْد الأحبّة غربة!) أو (اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي، وقالوا: (ألاَ إنَّ في الحق أنْ تأخذه وفي الحق أنْ تمنعه، فاصبر مغموماً أو مت متأسفاً! فنظرتُ فإذا ليس لي رافدٌ ولا ذابٌّ ولا مساعد إلاّ أهل بيتي!).

    وإليك كلاماً له عند دفن السيدة فاطمة، يخاطب به ابن عمّه الرسول:

    (السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك! قَلَّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، ورقّ عنها تجلُّدي، إلاّ أن لي في التأسّي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزّ!) ومنه (أمّا حزني فَسَرْمَد، وأمّا ليلي فمسهَّد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم!).

    ثم إليك هذا الخبر:

    روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال:

    خَطَبَنَا هذه الخطبةَ بالكوفة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو قائم على حجارة نَصَبَهَا له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، فقال (عليه السلام)، في جملة ما قال:

    (ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبراً. وأزمعَ الترحالَ عبادُ الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى! ما ضرّ إخواننا الذين سُفكتْ دماؤهم وهم بصفّين أنْ لا يكونوا اليومَ أحياء يسيغون الغَصَص، ويشربون الرَّنِق؟! قد، والله، لقوا الله فوفّاهم أجورهم وأحلَّهم دار الأمن بعد خوفهم! أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمّار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة؟).

    قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء!

    وأخبر ضرار بن حمزة الضابئ قال: فأشهد لقد رأيته - يقصد الإمام - في بعض مواقفه، وأقد أرخى الليل سدوله وهو قائمٌ في ظلامه قابضٌ على لحيته يتململ ويبكي بكاء الحزين ويقول: (يا دنيا يا دنيا، إليك عني! أبي تعرّضت؟ أم إليّ تشوَّقت؟ لا حان حينُك، هيهات! غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتُكِ ثلاثاً لا رجعة فيها! فعيشُك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير! آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبُعد السفر وعظيم المورد!).

    هذه العاطفة الحارّة التي عرفها الإمام في حياته، تُواكبُه أنّى اتّجه في نهج البلاغة، وحيث سار. تُواكبه في ما يحمل على الغضب والسخط، كما تواكبه في ما يثير العطف والرضا.

    حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل ويحيطونه بالسلاح وبالأرواح، تألّم وشكا، ووبّخ وأنّب، وكان شديداً قاصفاً، مزمجزاً، كالرعد في ليالي الويل! ويكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله: أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفةُ أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمَّ الصلاب الخ)، لتدرك أية عاطفة متوجّعة ثائرة هي تلك التي تمدّ هذه الخطبة بنَبْض الحياة وجَيَشَانها!

    وإنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفّق العاطفة الحية التي تبث الدفء في مآثر الإمام. فهي في أعماله، وفي خُطَبه وأقواله، مقياسٌ من المقاييس الأسُس. وما عليك إلاّ أن تفتح هذا الكتاب، كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب، ذات القوة الدافقة والعمق العميق!


    [align=left]جورج جرداق[/align]
    ...................................
    الهوامش:

    1 - الجؤجؤ : الصدر.

    2 - ارتجال الصفة: وصف الحال بلا تأمل، فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعى من السبات، أي النوم.

    3 - الجديدان: الليل والنهار.

    4 - سرمد: أبدي.





  5. #20
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]
    الأسلوب والعبقرية الخطابية
    [/align]



    بيانٌ لو نطَقَ بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضا! ولو هدّد الفسادَ والمفسدين لتَفَجّرَ براكينَ لها أضواء وأصوات! ولو دَعَا إلى تأمُّلٍ لَرَافَقَ فيك مَنْشَأَ الحسّ وأَصْلَ التفكير فساقَك إلى ما يريده سوقاً وَوَصَلك بالكون وصلاً!

    ويندمج الشكل بالمعنى اندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما أنت إزاءَه إلاّ ما يكون المرءُ قبالةَ السيلِ إذ ينحدر والبحرِ إذ يتموّجُ والريحِ إذ تطوف!

    أما إذا تحدّث إليك عن بهاء الوجود وجمال الخلق، فإنما يكتب على قلبك بمداد من نجوم السماء!

    ومن اللفظ ما له وميض البرق، وابتسامة السماء في ليالي الشتاء؛!

    هذا من حيث المادة. أما من حيث الأسلوب، فعليّ بن أبي طالب ساحر الأداء. والأدب لا يكون إلاّ بأسلوب، فالمبنى ملازمٌ فيه للمعنى، والصورة لا تقلّ في شيء عن المادة. وأيّ فنّ كانت شروط الإخراج فيه أقل شأناً من شروط المادة!

    وإن قسْط علي بن أبي طالب من الذوق الفني، أو الحسّ الجمالي، لمَمّا يندر وجوده. وذوقه هذا كان المقياس الطبيعي الضابط للطبع الأدبي عنده. أما طبعه هذا فهو طبع ذوي الموهبة والأصالة الذين يرون فيشعرون ويدركون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم وتنكشف عنه مداركهم انطلاقاً عفوياً. لذلك تميّز أدب عليّ بالصدق كما تميّزت به حياته.

    وما الصدق إلاّ ميزة الفن الأولى ومقياس الأسلوب الذي لا يخادع.

    وإن شروط البلاغة، التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعلي بن أبي طالب. فإنشاؤه مثلٌ أعلى لهذه البلاغة، بعد القرآن. فهو موجز على وضوح، قويّ جيّاش، تامّ الانسجام لِمَا بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف، حلو الرنّة في الأذن موسيقيّ الوقع. وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدة. ويشتدّ ويعنف في غيرها من المواقف، ولاسيما ساعةَ يكون القول في المنافقين والمراوغين وطلاّب الدنيا على حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة. فأسلوب عليّ صريح كقلبه وذهنه، صادق كطويته، فلا عجب أن يكون نهجاً للبلاغة.

    وقد بلغ أسلوب عليّ من الصدق حدّاً تَرَفّع به حتى السجعُ عن الصنعة والتكلُّف. فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجّعة، أبعد ما يكون عن الصنعة، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر.

    فانظر إلى هذا الكلام المسجّع وإلى مقدار ما فيه من سلامة الطبع: (يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النينان في البحار الغامرات، وتلاطُمَ الماء بالرياح العاصفات!) أو إلى هذا القول من إحدى خطبه: (وكذلك السماء والهواء، والرياح والماء، فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات والشجر، والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار، وتَفَجُّر هذه البحار، وكثرة الجبال، وطول هذه القلال، وتفرُّق هذه اللغات، والألسن المختلفات الخ...) وأوصيك خيراً بهذا السجع الجاري مع الطبع: (ثم زَيّنها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب (1) وأجرى فيها سراجاً مستطيراً (2) وقمراً منيراً، في فلك دائر، وسقف سائر الخ). فإنك لو حاولت إبدال لفظ مسجوع في هذه البدائع جميعاً، بآخر غير مسجوع، لعرفتَ كيف يخبو إشراقها، ويبهت جمالها، ويفقد الذوق فيها أصالته ودقّته وهما الدليل والمقياس. فالسجع في هذه الأقوال العلوية ضرورة فنية يقتضيها الطبع الذي يمتزج بالصناعة امتزاجاً حتى لكأنهما من معدن واحد يبعث النثرَ شعراً له أوزانٌ وأنغامٌ تُرْفِق المعنى بصوَرٍ لفظية من جوّها ومن طبيعتها.

    ومن سجع الإمام آياتٌ تردّ النغمَ على النغم ردّاً جميلاً، وتُذيب الوقع في الوقع على قرارات لا أوْزَنَ منها على السمع ولا أحَبَّ ترجيعاً. ومثال ذلك ما ذكرناه من سجعاته منذ حين، ثم هذه الكلمات الشهيات على الأذن والذوق جميعاً: (أنا يومٌ جديد، وأنا عليك شهيد. فأعملْ في خيراً، وقل خيرا!).

    وإذا قلنا إن أسلوب عليّ تتوفّر فيه صراحة المعنى وبلاغة الأداء وسلامة الذوق، فإنما نشير إلى القارئ بالرجوع إلى (روائع نهج البلاغة) هذا ليرى كيف تتفجّر كلمات عليّ من ينابيعَ بعيدةِ القرار في مادّتها، وبأيّة حُلّةٍ فنيّةٍ رائعة الجمال تمورُ وتجري. وإليك هذه التعابير الحسان في قوله: (المرءُ مخبوءٌ تحت لسانه)، وفي قوله: (الحلم عشيرة) أو في قوله: (مَن لان عوده كثفتْ أغصانه) أو في قوله: (كلّ وعاءٍ يضيق بما جُعل فيه إلاّ وعاء العلم فإنّه يتّسع) أو في قوله أيضاً: (لو أحبّني جبلٌ لتهافت). أو في هذه الأقوال الرائعة: (العلم يحرسك وأنت تحرس المال. رُبّ مفتون بحسن القول فيه. إذا أقبَلتِ الدنيا على أحدٍ أعارته محاسنَ غيره، وإذا أدبرتْ عنه سلبتْه محاسنَ نفسه. ليكن أمر الناس عندك في الحق سواء. افعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئاً فإنّ صغيره كبيرٌ وقليله كثير. هلك خُزّان المال وهم أحياء. ما مُتِّع غنيٌّ إلاّ بما جاع به فقير!).

    ثمّ استمعْ إلى هذا التعبير البالغ قمّةَ الجمال الفنّي وقد أراد به أن يصف تَمَكّنَه من التصرف بمدينة الكوفة كيف شاء، قال: (ما هي إلاّ الكوفة أقبِضُها وأبسطُها..).

    فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير والتعبير، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحقّ بصورةٍ مطلقة ولا تفوته إلاّ إذا فاتتْه الشخصية الأدبية ذاتها.

    ويبلغ أسلوب عليّ قمّة الجمال في المواقف الخطابية، أي في المواقف التي تثور بها عاطفته الجيّاشة، ويتّقد خياله فتعتلج فيه صوَرٌ حارّةٌ من أحداث الحياة التي تَمرّس بها. فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه وتتدفّق على لسانه تدفُّق البحار. ويتميّز أسلوبُه، في مثل هذه المواقف، بالتكرار بُغيةَ التقرير والتأثير، وباستعمال المترادفات وباختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين. وقد تتعاقب فيه ضروب التعبير من إخبار إلى استفهام إلى تعجّب إلى استنكار، وتكون مواطن الوقف فيه قويّة شافية للنفس. وفي ذلك ما فيه من معنى البلاغة وروح الفن. وإليك مثلاً على هذا خطبة الجهاد المشهورة، وقد خطب عليٌّ بها الناسَ لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على مدينة الأنبار بالعراق وقتل عاملَه عليها:

    (هذا أخو غامد (3) قد بلغت خيله الأنبار وقتل حسّان بن حسّان البكري وأزال خيلَكم عن مسالحها وقتل منكم رجالاً صالحين.

    (وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينزع حِجْلَها، وقُلبها، ورِعاثَها، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلمٌ، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرئً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً.

    (فيا عجباً! واللهِ يميتُ القلبَ ويجلب الهمَّ اجتماعُ هؤلاء على باطلهم وتفرُّقُكم عن حقكم. فقُبحاً لكم حين صرتم غرضاً يُرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزَون ولا تَغزُون، ويُعصى الله وترضون!).

    فانظر إلى مقدرة الإمام في هذه الكلمات الموجزة. فإنه تَدرَّج في إثارة شعور سامعيه حتى وصل بهم إلى ما يصبو إليه. وسلك إلى ذلك طريقاً تتوفّر فيه بلاغة الأداء وقوة التأثير. فإنه أخبر قومه بغزو سفيان بن عوف الأنبارَ، وفي ذلك ما فيه من عار يلحق بهم. ثم أخبرهم بأن هذا المعتدي إنما قتل عاملَ أمير المؤمنين في جملة ما قتل، وبأن هذا المعتدي لم يكتف بذلك بل أغمد سيفه في نحورٍ كثيرة من رجالهم وأهليهم.

    وفي الفقرة الثانية من الخطبة توجّه الإمام إلى مكان الحميّة من السامعين، إلى مثار العزيمة والنخوة من نفس كل عربي، وهو شرف المرأة. وعليّ يعلم أن مِن العرب مَن لا يبذل نفسه إلاّ للحفاظ على سمعة امرأة وعلى شرف فتاة، فإذا هو يعنّف هؤلاء القوم على القعود دون نصرة المرأة التي استباح الغزاةُ حِماها ثم انصرفوا آمنين، ما نالت رجلاً منهم طعنة ولا أريق لهم دم.

    ثم إنه أبدى ما في نفسه من دهش وحيرة من أمر غريب: (فإنَّ أعداءه يتمسكون بالباطل فيناصرونه، ويدينون بالشر فيغزون الأنبار في سبيله، فيما يقعد أنصاره حتى عن مناصرة الحق فيخذلونه ويفشلون عنه.

    ومن الطبيعي أن يغضب الإمام في مثل هذا الموقف، فإذا بعبارته تحمل كل ما في نفسه من هذا الغضب، فتأتي حارّة شديدة مسجّعة مقطّعة ناقمة: فقبحاً لكم حين صرتم غرضه يُرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزُون. ويُعصى الله وترضون!).

    وقد تثور عاطفته وتتقطّع فإذا بعضها يزحم بعضاً على مثل هذه الكلمات المتقطّعة المتلاحقة: (ما ضعفتُ، ولا جبنْتُ، ولا خنْتُ، ولا وهنْتُ!) وقد تصطلي هذه العاطفة بألم ثائر يأتيه من قوم أراد لهم الخير وما أرادوه لأنفسهم لغفلة في مداركهم ووهَنٍ في عزائمهم، فيخطبهم بهذا القول الثائر الغاضب، قائلاً: (ما لي أراكم أيقاظاً نُوّماً، وشهوداً غُيّباً، وسامعةً صمّاء، وناطقةً بكماء... الخ).

    والخطباء العرب كثيرون، والخطابة من الأشكال الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام ولاسيّما في عصر النبي والخلفاء الراشدين لما كان لهم بها من حاجة. أمّا خطيب العهد النبويّ الأكبر فالنبيّ لا خلافَ في ذلك. أمّا في العهد الراشدي، وفي ما تلاه من العصور العربية قاطبةً، فإنّ أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه عليّ بن أبي طالب في هذا النحو. فالنطق السهل لدى عليٍّ كان منْ عناصر شخصيته وكذلك البيان القويّ بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعاً. ثم إنّ الله يسّر له العدّة الكاملة لمِا تقتضيه الخطابة من مقوّمات أخرى على ما مرّ بنا. فقد مَيّزَه الله بالفطرة السليمة، والذوق الرفيع، والبلاغة الآسرة، ثم بذخيرةٍ من العلم انفردَ بها عن أقرانه، وبحجّةٍ قائمة، وقوّة إقناع دامغة، وعبقريّة في الارتجال نادرة. أضفْ إلى ذلك صدقَه الذي لا حدود له وهو ضرورةٌ في كلِّ خطبةٍ ناجحة، وتجاربَه الكثيرة المرّة التي كشفتْ لعقله الجبّار عن طبائع الناس وأخلاقهم وصفات المجتمع ومحرِّكاته. ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق، وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية.

    وإنّه من الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ مَن اجتمعت لديه كلّ هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيباً فذّاً، غير علي بن أبي طالب ونفَرٍ من الخلق قليل، وما عليك إلاّ استعراض هذه الشروط، ثم استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي والغربي، لكي تدرك أنّ قولنا هذا صحيح لا غلوّ فيه.

    وابن أبي طالب على المنبر رابط الجأش شديد الثقة بنفسه وبعدْل القول. ثم إنه قويّ الفراسة سريع الإدراك يقف على دخائل الناس وأهواء النفوس وأعماق القلوب، زاخرٌ جنانُه بعواطف الحريّة والإنسانية والفضيلة، حتى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه أدركَ القومَ بما يحرّك فيهم الفضائل الراقدة والعواطف الخامدة.

    أمّا إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفُهُ إلاّ بأنه أساسٌ في البلاغة العربية. يقول أبو الهلال العسكري صاحب (الصناعتين): ليس الشأن في إيراد المعاني - وحدها - وإنّما هو في جودة اللفظ، أيضاً، وصفاته وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب والخلوّ من أود النظم والتأليف.

    من الألفاظ ما هو فخمٌ كأنه يجرّ ذيول الأرجوان أنفَةً وتيهاً. ومنها ما هو ذو قعقعةٍ كالجنود الزاحفة في الصفيح. ومنها ما هو كالسيف ذي الحدّين. ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يُلقى على بعض العواطف ليستر من حدّتها ويخفّف من شدّتها. ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء! من الكلام ما يفعل كالمقرعة، ومنه ما يجري كالنبع الصافي.

    كل ذلك ينطبق على خطَب عليّ في مفرداتها وتعابيرها. هذا بالإضافة إلى أنّ الخطبة تحسن إذا انطبعتْ بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين؛ فكيف بها إذا كانت، كخطب ابن أبي طالب، تجمع روعةَ هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى وقوّته وجلاله!

    نهجٌ للبلاغة آخذٌ من الفكر والخيال والعاطفة آياتٍ تتّصل بالذوق الفنّي الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيالٌ وعاطفةٌ وفكر؛ مترابطٌ بآياته متساوق؛ متفجّر بالحسّ المشبوب والإدراك البعيد، متدفِّقٌ بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع؛ متآلفٌ يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج حتى ليَندمج التعبيرُ بالمدلول، أو الشكلُ بالمعنى، اندماجَ الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء؛ فما أنت إزاءه إلاّ ما يكون المرء قبالةَ السيل إذ ينحدر والبحر إذ يتموّج والريح إذ تطوف. أو قبالةَ الحَدَثِ الطبيعي الذي لابدّ له أنْ يكون بالضرورة على ما هو كائنٌ عليه من الوحدة لا تفرّق بين عناصرها إلاّ لتمحو وجودَها وتجعلها إلى غير كَوْن!

    بيانٌ لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضاً! ولو هدّد الفساد والمفسدين لتَفجّر براكينَ لها أضواءٌ وأصوات! ولو انبسط في منطقٍ لَخاطَبَ العقولَ والمشاعر فأقفلَ كلَّ بابٍ على كلّ حجّةٍ غير ما ينبسط فيه! ولو دعا إلى تأمّلٍ لَرافقَ فيك منشأ الحسّ وأصل التفكير، فساقك إلى ما يريده سَوْقاً، ووصَلك بالكون وصْلاً، ووحّد فيك القوى للاكتشاف توحيداً. وهو لو راعاك لأدركت حنانَ الأب ومنطق الأبوّة وصدْقَ الوفاء الإنساني وحرارَةَ المحبّة التي تبدأ ولا تنتهي! أمّا إذا تحدّثَ إليك عن بهاء الوجود وجمالات الخلق وكمالات الكون، فإنّما يكتب على قلبك بمدادٍ من نجوم السماء!

    بيانٌ هو بلاغةٌ من البلاغة، وتنزيلٌ من التنزيل. بيان اتّصل بأسباب البيان العربي ما كان منه وما يكون، حتى قال أحدهم في صاحبه أن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق!

    وخطَب علي جميعاً تنضح بدلائل الشخصية حتى لَكأنّ معانيها وتعابيرها هي خوالج نفسه بالذات، وأحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما تشتعل النار في موقدها تحت نفخ الشمال. فإذا هو يرتجل الخطبة حسّاً دافقاً وشعوراً زاخراً وإخراجاً بالغاً غايةَ الجمال.

    وكذلك كانت كلمات عليّ بن أبي طالب المرتجلة، فهي أقوى ما يمكن للكلمة المرتجلة أن تكون من حيث الصدق، وعمق الفكرة، وفنّية التعبير، حتى أنها ما نطقتْ بها شفتاه ذهبتْ مثلاً سائراً.

    فمن روائعه المرتجلة قولهُ لرجلٍ أفرط في مدحه بلسانه وأفرط في اتّهامه بنفسه: (أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك).

    ومن ذلك أنه لمّا اعتزم أن يقوم وحده لمهمّة جليلةٍ تَردّد فيها أنصاره وتخاذلوا، جاءَه هؤلاء وقالوا له وهم يشيرون إلى أعدائه: يا أمير المؤمنين نحن نكفيكَهم. فقال من فوره: (ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفوني غيركم؟ إن كانت الرعايا قبلي لتشكوا حَيْفَ رُعاتها، فإنني اليومَ لأشكو حَيْفَ رعيّتي، كأنّني المقود وهم القادة).

    ولمّا قتل أصحاب معاوية محمداً بن أبي بكر فبلغه خبر مقتله قال: (إن حزننا عليه قدر سرورهم به، ألاَ إنّهم نقصوا بغيضاً ونقصْنا حبيباً).

    وسئل: أيهما أفضل: العدل أم الجود؟ فقال: (العدل يضع الأمور مواضعَها، والجودُ يُخرجها من جهتِها، والعدلُ سائسٌ عامّ، والجود عارضٌ خاصّ، فالعدل أشرفهما وأفضلهما).

    وقال في صفة المؤمن، مرتجلاً:

    (المؤمن بشرُه في وجهه، وحزنُه في قلبه، أوْسعُ شيء صدراً، وأذّل شيء نفساً. يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويلٌ غمّه، بعيدٌ همّه، كثيرٌ صمتُه، مشغولٌ وقتُه، شكور صبور، سهل الخليقة ليّن العريكة!).

    وسأله جاهل متعنّتٌ عن معضلة، فأجابه على الفور: (اسألْ تفقّهاً ولا تسألْ تعنّتاً فإنّ الجاهل المتعلم شبيهٌ بالعالم، وإنّ العالم المتعسّف شبيهٌ بالجاهل المتعنّت!).

    والخلاصة أنّ عليّ بن أبي طالب أديبٌ عظيمٌ نشأ على التمرّس بالحياة وعلى المرانة بأساليب البلاغة فإذا هو مالكٌ ما يقتضيه الفنّ من أصالةٍ. في شخصية الأديب، ومن ثقافة خاصّة تنمو بها الشخصية وتتركز الأصالة.

    أما اللغة، لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها مرشلوس في المجلد الأول من كتابه (رحلة إلى الشرق) هذا القول الذكيّ: (اللغة العربية هي الأغنى والأفصح والأكثر والألطف وقعاً بين سائر لغات الأرض. بتراكيب أفعالها تتبع طيران الفكر وتُصوّره بدقّة، وبأنغام مقاطعها الصوتية تقلِّد صراخَ الحيوانات ورقرقةَ المياه الهاربة وعجيجَ الرياح وقصْفَ الرعد)، أمّا هذه اللغة، بما ذكره مرشلوس من صفاتها وبما لم يذكر، فإنّكَ واجدٌ أصولها وفروعَها، وجمالَ ألوانها وسحْرَ بيانها، في أدب الإمام عليّ!

    وكان أدباً في خدمة الإنسان والحضارة!

    [align=left]
    جورج جرداق[/align]


    .....................................
    الهوامش:

    1 – الثواقب: المنيرة المشرقة.

    2 - سراجاً مستطيراً: منتشر الضياء. ويريد به الشمس.

    3- إذا شئت شرحاً للمفردات والتعابير الغريبة الواردة في هذه الخطبة، فارجع إليها في مكانها من هذا الكتاب.

  6. #21
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]
    العدالة الكونية
    [/align]


    - تكافؤ الوُجوْد

    وأحسَّ عليٌّ أن هذا الكون العظيم متعاونٌ متكافلٌ فكان من ذلك أن الريحَ إذا اشتدّت حرّكت الأغصانَ تحريكاً شديداً، وإذا أجفلت قَلَعَت الأشجارَ وهاجت لها العناصر، وأنها إذا لانتْ وجرَتْ فُوَيْقَ الأرضِ جرْياً خفيفاً سكرتْ بها صفحات الماء وسكنتْ تحتَها الأشياء!

    وأدرك كذلك أن قوة الوجود الشاملة ترعى هشيِمَ النبْت بقانون ترعى به الورقَ الأخضر والزرع الذي استوى على سُوقِه واهتزّ للريح!

    وأسقط ابنُ أبي طالبٍ نظرية التجّار بقولٍ تَنَاوَله من روح الوجود وكأنه يشارك به الكونَ في التعبير عمّا في ضميره!

    نظرةٌ واحدة يلقيها المرء على الكون الخارجي وأحواله: على النجوم الثابتة في سَعة الوجود والكواكبِ السابحة في آفاق الأبد، وعلى الشمس المشرقة والسحاب العارض والريحِ ذاتِ الزفيف، وعلى الجبال تشمخُ والبحارَ تقصفُها القواصفُ أو يسجو على صفحاتها الليل، تكفيه لأن يثق بأنّ للكون قانوناً وأنّ لأحواله ناموساً واقعاً كلٌّ منهما تحت الحواسّ وقائماً بكل مقياس.

    ونظرةٌ واحدةٌ يُلقيها المرء على ما يحيط به من الطبيعة القريبة وأحوالها: على الصيف إذ يشتدّ حَرّه وتسكن ريحُه، والخريف إذ يكتئبُ غابُه وتتناوحُ أهواؤه وتعبسُ فيه أقطارُ السماء، والشتاء إذ ترعد أجواؤه وتضطربُ بالبروقِ وتندفع أمطارُه عُباباً يزحمُ عُباباً وتختلط غيومهُ حتى لتُخفي عليك معالمَ الأرض والسماء، والربيعِ يبسطُ لك الدنيا آفاقاً ندّية وأنهاراً غنيّة وخصباً ورُواءً وجناناً ذات ألوان، كافيةٌ لأن تجعلهُ يثقُ بأنّ لهذه الطبيعة قانوناً وأنّ لأحوالها ناموساً واقعاً كلٌّ منهما تحت الحواسّ وقائماً بكل مقياس.

    ونظرةٌ فاحصةٌ واحدة يُلقيها المرء على هذي وذاك، كافيةٌ لتدلَّه على أنّ هذه النواميس والقوانين صادقة ثابتة عادلة، يقومُ منطقُها الصارمُ بهذه الصفات. وفيها وحدَها ما يُبرّر وجودَ هذا الكون العظيم!

    ألقى ابنُ أبي طالب تلك النظرةَ على الكون فوَعَى وَعْياً مباشراً ما في نواميسه من صدقٍ وثباتٍ وعدل، فهزّه ما رأى وما وعى، وجرى في دمه ومشى في كيانه واصطخب فيه إحساساً وفكراً، فتحرّكتْ شفتاه تقولان: (ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض). ولو حاولتَ أن تجمع الصدق والثبات والعدل في كلمة واحدة، لمَا وجدَت لفظةً تحويها جميعاً غير لفظة (الحق). ذلك لما يتّحد في مدلولها من جوهر الكلمات الثلاث!

    وأدرك ابنُ أبي طالب في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلاً وفرعاً بين السماء والأرض اللتين قامَتا بالحقّ واستَوَتا بوجوهه المتلازمة الثلاثة: الصدق والثبوت والعدل، وبين الدولة التي لابدّ لها أن تكون صورة مصغّرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة، فإذا به يحيا في عقله وضميره هذه المقايسةَ على صورة عفوية لا مجال فيها لواغلٍ من الشعور أو لغريبٍ من التفكير، ثم لا يلبث أن يقول:

    (وأعظمُ ما افترض من تلك الحقوق حقُّ الوالي على الرعية، وحقّ الرعية على الوالي فريضةٌ فرَضَها الله لكلّ على كلّ، فجعلها نظاماً لألفَتهم، فليست تصلح الرعيّةُ إلاّ بصلاح الوُلاة، ولا يصلح الولاةُ إلاّ باستقامة الرعيّة. فإذا أدّت الرعيّةُ إلى الوالي حقّه.

    وأدّى الوالي إليها حقّها، عَزّ الحقّ بينهم، واعتدلتْ معالمُ العدل وجرَتْ على أذلالها السّنَنُ(1) فصلُحَ بذلك الزمانُ وطُمِعَ في بقاء الدولة. وإذا غلبت الرعيّةُ واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفتْ هنالك الكلمة وظهرتْ معالمُ الجور وتُركتْ مَحاجّ السّنن فعُمِلَ بالهوى وعُطّلتِ الأحكام وكثرتْ علل النفوس، فلا يُستْوَحَشُ لعظيمِ حقٌّ عُطّلَ (2) ولا لعظيمِ باطلٍ فُعِل! فهنالك تذلّ الأبرار وتعزّ الأشرار وتعظم تَبِعاتُ الله عند العباد!).

    وأوصيك خيراً بهذا الإحكام للروابط العامة الكبرى بين عناصر الدولة على لسان علي، ثم بين الأعمال الخيّرة المنتجة وبين ثبوت هذه العناصر على أُسُسٍ من الحق، أو قلْ من الصدق والثبوت والعدل: وجوه الحق الثلاثة التي تقوم بها السماوات والأرض.

    وأحسّ عليّ أن هذا الكون العظيم متعاونٌ متكافلٌ فكان من ذلك أنّ الريح إذا اشتدت حرّكتْ الأغصان تحريكاً شديداً، وإذا أجفلتٌ قلعتِ الأشجارَ وهاجت لها العناصر، وأنّها إذا لانت وجرتْ فُوَيْقَ الأرضِ جرياً خفيفاً سكرتْ بها صفحاتُ الماء وسكنتْ تحتها الأشياء.

    وأحسّ أن الشمس إذا ألقت على الأرض نورها بدتْ معالمُ الأرض للعيون والأذهان، وإذا خلّتْها خلّتْ عليها من الظلمة ستاراً. وأنّ النبتة تنمو وتزهو وتورق وقد تثمر، وهي شيءٌ يختلف في شكله وغايته عن أشعّة النهار وجسم الهواء وقطرة الماء وتراب الأرض، ولكنها لا تنمو ولا تورق إلاّ بهذه الأشعة وهذا الجسم وهذه القطرة وهذا التراب.

    وأحسّ أن الماء الذي (تلاطَمَ تيّارهُ وتّراكم زَخّارُه) كما يقول، إنّما (حُمل على متْن الريح العاصفة والزعزع القاصفة). وأنّ الريح التي (أعصفَ الله مجراها وأبعد مَنشأها) مأمورةٌ - على بُعد هذا المنشأ - (بتصفيق الماء الزخّار وإثارة موج البحار، تعصفُ به عصْفَها بالفضاء وتردّ أوّلَه إلى آخره، وساجيَه إلى مائره (3) حتى يعبّ عُبابُه). ومن زينة الأرض وبهجة القلوب هذه النجوم وهذي الكواكب، وضياءُ الثواقب (4) والسراج المستطير (5) والقمر المنير!

    أحسّ ابن أبي طالب من وراء ذلك جميعاً أنّ هذا الكون القائم بالحقّ، إنّما ترتبط عناصرُه بعضُها ببعض ارتباطَ تعاوُن وتسانُد، وأنّ لقواه حقوقاً افتُرِضَتْ لبعضها على بعض، وأنّها متكافئةٌ في كلّ وجوهها متلازمة بحُكم وجودها واستمرارها.

    فأدرك في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلاً وفرعاً بين هذه العناصر المتعاونة المتكافئة، وبين البشر الذين لابدّ لهم أن يكونوا متعاونين متكافئين بحكم وجودهم واستمرارهم، فهم من أشياء هذا الكون يجري عليهم ما يجري على عناصره جميعاً من عبقريّة التكافل الذي يراه عليّ فرضاً عليهم لا يحيون إلاّ به ولا يبقون. فإذا به يلفّ عالمَ الطبيعة الجامدة وعالمَ الإنسان بومضةِ عقلٍ واحدة، وانتفاضة إحساس واحدة، ليستشفّ عدالة الكون القائم على وَحْدَةِ من الصدق والثبات والعدل، مطلقاً هذا الدستور الذي يشارك به الكونَ في التعبير عن ضميره، قائلاً:

    (ثم جعل من حقوقه حقوقاً افترضَها لبعض الناس على بعض، فجعلَها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضُها بعضاً، ولا يُسْتَوْجَبُ بعضُها إلاّ ببعض!).

    ومن هذا المعين أيضاً قولٌ له عظيمٌ يقرّر به أنّ دوام نعمة من النعم مرهونٌ بما فُرض على صاحبها من واجب طبيعيّ نحو إخوانه البشر، وأن عدم القيام بهذا الواجب كافٍ وحده لأن يزيلها ويُفنيها:

    (مَن كثرتْ النِّعَمُ عليه كثرت الحوائج إليه. فمن قام فيها بما يجب عَرّضَها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عَرّضَها للزوال والفناء).

    ففي هذين القولين من التعبير عن عدالة الكون، والناسُ من موجوداته، ما لا يحتاج إلى كثيرٍ من الإيضاح. فحقوق العباد - على لسان عليّ - يكافئ بعضها بعضاً. فهي أشبه ما تكون بحقّ الماء علي الريح، والنبتة على الماء، والماء على الشمس، والشمس على قانون الوجود. وهذه السنة التي تفرض على الإنسان ألاّ يستحقّ شيئاً من الحقوق إلاّ بأدائه حقوقاً عليه، ليست إلاّ سُنّة الكون العادلة القائمة بهذا العدل.

    ولينظر القارئ في هذا الأمر نظراً سديداً ثم ليقلْ رأيه في ما رأى. فإنّه إن فعل أدرك لا شكَ أنّ هذه القاعدة التي بلغ ابن أبي طالب بها إلى جذور العدالة الكونية، ثابتةٌ تغيّر نفسها ولا شذوذ ينقضها.

    فعناصر هذا الكون لا تأخذ إلا قدر ما تعطي، ولا يكسب بعضُها إلاّ ما يخسره بعضها الآخر. فإذا أخذت الأرض من الشمس نوراً ودفئاً، أعطت الوجودَ من عمرها قدر ما أخذت. وكذلك إذا أخذتْ من الليل ظلاًّ يغمرها. وإذا تناولت الزهرةُ من عناصر الكون الكثيرة ما يحييها وينميها ويعطيها عبيراً شهيّاً، فلسوف يأخذ النورُ والهواءُ من لونها وعطرها بمقدار ما أعطَيَاها، حتى إذا تكامَلَ انعقَادها وبلغت قمةَ حياتها، تَعاظمَ مقدارُ ما تدفعه من عمرها، فإذا بالحياة والموت يتنازعانها حتى تُسلم إليه أوراقَها وجذْعَها. أما الأرض فتبتلع منها كل ما كانت قد منحتْها إياه.

    والبحر لا يستعيد إلى جوفه إلاّ ما أعطى السماءَ من غيومٍ والبرَّ من أمطار.

    وكذلك الإنسان في حياته الخاصة. فهو لا يحظى بلذة إلاّ بفراق أخرى يدفعها، قاصداً أو غير قاصد، عوضاً عمّا أخذ. وهو لا يولد إلاّ وقد تقرّر أنه سيموت. يقول عليّ: (ومالك الموت هو مالك الحياة!).

    وعن هذا التوازن الحكيم في قانون الكون برحابه وأفلاكه، وأرضه وسمائه، وجماداته وأحيائه، يعبّر ابنُ أبي طالب بهذه الكلمة التي تجمع سداد الفكر إلى عنف الملاحظة إلى عبقرية البساطة: (ولا تُنال نعمةٌ إلاّ بفراق أخرى!).

    ولينظر الناظرون في هذا القول فإنّهم إن فعلوا وثقوا بأنّه الواقع الذي يرتسم كلماتٍ هي أشبه بالقاعدة الرياضية التي لا يمكن الخروج عليها.

    أمّا في الحياة العامة، فليس بين شؤون الإنسان شأنٌ واحدٌ يشذّ عن هذه القاعدة التي انتزعها عليّ بن أبي طالب من مادّة الكون العظيم. فحقّك على مجتمعك هو أن يقيّم هذا المجتمعُ ما تعطيه، كميّةً ونوعاً، ثم أن تأخذ منه بمقدار ما أعطيتَ. أمّا إذا حصلتَ من المكافأة على أقلّ مما أعطيتَ، فإنّ نصيبك عند ذاك ذاهبٌ إلى سواك، وإن سواك يتمتّع بخيرٍ أنتَ صاحبه ولا شك، وإنك في النتيجة مغصوبٌ مظلوم. وأما إذا أخذت من المكافأة فوق ما أعطيتَ، فإنّ نصيب غيرك منها ذاهبٌ إليك، وإن سواك من الخلق يجوع بما أكلتَ، وإنك بذلك غاصبٌ ظالم، ووجود المظلوم والظالم في المجتمع مَفْسدةٌ له ومنقصةٌ في موازين العدالة الاجتماعية التي لا تستقيم إلاّ إذا دخلتْ في نطاق مُريحٍ من العدالة الكونية. والباطل لا يمكن أن يكون قاعدةً بل الحقّ هو القاعدة. و(الحق لا يُبطله شيء) في قانون الكون! وهو كذلك في مذهب ابن أبي طالب.

    والنظر في الساطع العظيم من مظاهر العدالة الكونية، لم يكن ليُلهي عليّاً عن النظر في ما خفي منها ودَقّ. وشأنه في ذلك شأن عباقرة الشعراء الذين تولّف دقائقُ الأشياء لديهم، في المادّة والمعنى، ما تولّفه عظائمُها فهم لا يفرقون فيها بين كبيرٍ وصغير، فهي بالمنشأ واحدةٌ وهي كذلك بالدلالة.

    وليس للذي يبهر الأنظار حسابٌ في عقولهم وقلوبهم يعلو على حساب ما ينزوي في المخابئ وبين الظلال. ورُبّ نظرةٍ تُجري من الأحاسيس في كيان هؤلاء ما لا تُجريه ينابيعُ الكلام! ورُبّ إشارةٍ يُدركون فيها من التصريح ما لا يرونه بألف إعلان! وربّ زهرةٍ في كَنَف صخرةٍ ينعمون لديها من الشعور بعظمة الوجود بما لا ينعمون به لدى الدوحة العاتية. بل ربّ صغيرٍ في نظرهم أجلّ من كبير، وقليل أكثر من كثير! وأرى من الموافق أن أذكر في هذا المجال نُتْفةً من حديث طويلٍ سُقتُه بصدَد الكلام على موقف صاحب الإحساس العظيم والفكر المحيط من الكون الذي يستوي خفيُّه وظاهره في الدلالة على ما فيه من جليلٍ، قلت:

    (وكأنّي بهذه الطبيعة تمثّل للشاعر جمالَ الحريّة التي يشتهي، إذ تُرسل الريحَ حين تشاء وكيف تشاء لا يهمّها أسَخِطَ الناسُ عليها أم رَضوا قانعين! وتُفجّر الينابيعَ من الصخرِ، حين ترومُ، ومن رَخِيِّ التراب، وتُجريها هادئةً في السهلِ أو تقذف بها من عالي الجبال. وتُبرزُ من صدرها أشجاراً وصخوراً وقمماً وودياناً على طريقتها التي تريد، لا يعنيها أن تنبُتَ الزنابقُ إلى جانب الشوك أو تعلَقَ إبرُ السمّ ورداً أخضرَ العود طيّبَ الريح. ولا تتقيّد بمعرفة تقوم بتحقير الهشيم اليابس وتعظيم الأخضر الفَينان، وبالسخرية من صغار الهوامّ تُطِلّ من ثقوب الصخور، تمجيدا لشراسة القويّ من الوحش يفترسُ الضعيف (6)).

    بهذه النظرة وبهذا الشعور واجهَ ابنُ أبي طالب مظاهرَ الوجود الواحد في الطبيعتين الصامتة والحيّة، وأحسّ إحساساً بديهيّاً وعميقاً معاً بأنّ قوّة الوجود الشاملة ترعى هشيم النبْت بقانون ترعى به الورقَ الأخضرَ والزرْعَ الذي استوى على سُوقهِ واهتزّ للريح. وأنّها تُعنَى بالفسيلِ (7) الضئيلِ من شجر الأرض كما تُعنى بالعتيِّ من الدوح العظيم. أمّا البَهْم والحشرات والغوغاء (8) وصغار الطير، فإنّ الطبيعة لم تبذل في رعايتها نصيباً أقلّ مما تبذله في رعاية الهائل من الوحش ونسر الفضاء. فلكلّ من المخلوقات مكانُه في سعة الوجود ولكلٍّ حقُّه بهذا الوجود. لذلك لم يمنع الطودُ الشامخُ عن ابن أبي طالب رؤيةَ الحصاة وذرّة التراب. ولم يفتْه وهو ينظر إلى الطاووس أن يلتفت إلى النملة المتواضعة الدابّةِ في خفايا الأرض بين حطامها وحصاها، فإذا هي في الوجود خلقٌ جليلٌ وشيءٌ كثير. وما كان عليّ ليرى في الطاووس والنملة اللذين يبسطهما النهار، شيئاً يزيد في معنى الوجود وفي قيمته عمّا كان يراه في الخفافيش (9) التي جُعل لها الليلُ نهاراً وقَبَضَها الضياءُ الباسطُ لكلّ شيء. وإنما كان يرى من غوامض الحكمة فيها ما يراه في عظائم المخلوقات.

    ويكفي هذا المخلوق، في نهج عليّ، أن يكون ذا رَمَقٍ - أي أن يكون حيّاً - لتكفل له قوّةُ الوجود الشاملة كفْلاً أساسيّاً ما يقيه خطر الموت قبل حينه. فإنّ العدالة الكونية ما أقامت حيّاً من الأحياء إلاّ وعدلتْ وجودَه بما يُمسك عليه مدّة بقائه. وهذا ما يعنيه عبقريّ الملاحظة الدقيقةِ الضابطة عليّ بن أبي طالب بقوله: (ولكلِّ ذي رمَقٍ قوتٌ، ولكل حبةٍ آكل).

    أمّا إذا حيل بين ذي الرمق وقوْته، والحبّةِ وآكلها، فإنّ في هذا المنع اعتداءً على موازين العدالة الكونية وافتراءً على قيمة الحياة ومعنى الوجود. يقول عليّ: (والله لو أعطيتُ الأقاليم السبعة على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبُها لبّ شعيرةٍ، ما فعلتُ!).

    أما الاعتداء على موازين العدالة الكونية، فإن العقاب عليه قائمٌ بطبيعة هذه العدالة العامّة نفسها التي تقاضي الفاعلَ مقاضاةً لا لين فيها ولا قسوة، وإنما عدلٌ ومجازاة.

    ومن ثمّ كانت النظرة العلوية الجليلة إلى معنى الحياة الواحدة بكثيرها وقليلها، بكبيرها وصغيرها. فالعدالة الكونية التي وازت بين الأحياء ورعتْهم في مختلف حالاتهم وأقامت بينهم أعمالاً مشتركة وحقوقاً متبادلة وواجبات متعادلة، لم تفرّق بين مظهرٍ من مظاهر الحياة وآخر، ولم تأمر بأن يعتد قويّ على ضعيف لِما خُصّ به القويّ من أداة العتوّ؛ ولم تأذن للكثير بأن يغبن القليلَ حقّه بما خُصّ به من صفات الكثرة. وهي من ثم لا تغتفر ظلْمَ القليل بحجّة مصلحة الكثير. فالذي يغبن كائناً حيّاً في نهج ابن أبي طالب فكأنّما غَبَنَ الكائنات الحيّة جميعاً. ومَن قتل نفساً بغير حقّ فكأنّما قتل النفوس جملة. ومن آذى ذا رمَق فكأنّما آذى كلّ ذي رمَقٍ على وجه الأرض. فالحياة هي الحياة في نهجهِ واحترامُها هو الأصلُ وعليه تنمو الفروع.

    ففي نظريات عددٍ كبير من المفكرين والمشترعين، وفي (آراء) معظم هؤلاء الذين يسمون أنفسهم رجال سياسة، يجوز الاعتداء على العدد القليل من الناس في سبيل العدد الكثير. وفي حساب هؤلاء، لا يقاس الخير إلاّ بسلامة العدد الكثير، ثم في بلوغه ما يصبو إليه من حال. فإذا قُتل بحادث اعتداءٍ ألفٌ من الخلق، فالأمر فظيع. وإذا قُتل ألفان فالأمر أفظع. وهكذا دواليك. أمّا إذا قُتل إنسانٌ واحد، بمثل هذا الحادث، فالقضيّة هيّنة والأمر بسيط. فإنّ دفاتر تجّار الأرواح عند ذاك لا يسقط منها الكثير. أمّا جداول الضرب وعمليّات الجمع والقسمة، فإن الميسور تعديلها بعمليّة حساب بسيطة.

    أمّا ابن أبي طالب فيسحق نظريات هؤلاء التجّار، بقولٍ يتناوله مباشرةً من روح الوجود الذي لا قيمة لديه للأرقام في معنى الحياة، بل للحياة نفسها:

    (فو اللهِ لو لم يُصيبوا من الناس إلاّ رجلاً واحداً معتمدين (10) لقتله، بلا جُرمٍ جَرّه، لَحَلّ لي قتلُ ذلك الجيش كلّه).

    والواضح هنا أنّ الموضوع ليس (قتل الجيش كلّه) بل تمكين فكرة احترام الحياة في أذهان أصحاب السلطة، ولفْت أنظارهم إلى أن قتْل نفسٍ واحدة، قصداً واعتماداً، إنما يساوي قتْل الخلق جميعاً.

    ولو أنّنا قسْنا نظرةَ عليِّ بن أبي طالب في هذا المجال بنظراتِ كثيرةٍ من المفكرين الذين رأوا أنّ موازين العدالة لا تتحرك إلاّ بالقوّة والكثرة، لبَدَا لنا كيف ينحدرون حيثُ يسمو، وكيف يتزمّتون ويغلظون حيثُ يرحبُ أُفقُه وتعلو على يديه قِيَمُ الحياة. ففيما يطبّل بعض هؤلاء ويزمّرون لِمَا (اكتشفوه) من آراء ونظريات تُبيح للقويّ أن يعتزّ بقوّته وحَسْب، وللكثير أن تتّسع آمالُه بهذه الكثرة وحدها - وفي كلِّ ذلك اعتداءٌ على قانون الحياة العادل، وعلى إرادة الإنسان القادرة المطوّرة الخيّرة - نرى ابنَ أبي طالب يكشف عمّا هو أسمى بمقياس الحياة نفسها لأنه حقيقة، وبمقياس الإرادة الإنسانية لأنه خير، فيقول ببساطة العظيم: (ورُبّ يسيرٍ أغنى من كثير!) ثم يوضح بقولٍ أجلّ وأجمل:

    (وليس امرؤٌ، وإنْ عظُمَتْ في الحقّ منزلتُه، بفَوْقِ أن يُعان على ما حَمّلَه الله من حقّه (11) ولا امرؤٌ، وإن صغّرتْه النفوسُ واقتحمتْه العيون (12) بدون أن يعين على ذلك أو يُعان عليه!).

    وفي هذين القولين ينقل ابنُ أبي طالب للناس مظهراً من مظاهر العدالة الكونية البادية حيثُ أمعنتَ النظر، ويقرّر حقيقة طالما خفيتْ عن العقول التي تحصر نفسها في أضيق نطاق.

    يقرّر عليّ أنّ المظاهر البرّاقة الفضفاضة ليست في حُكم الواقع الوجوديّ إلاّ غَثّاً من الوجود تافهاً لا قيمة له ولا شأن؛ وقد يُبهرَ بها العاديّون من الخلق وأهل الحماقات والأغبياء والمصفّقون لكلِّ لمّاعٍ تافهٍ فارغ، ولكنّ هذا الانهيار لا يلبث أن يتلاشى فجأةً حين تطلّ شمس الحقيقة، وحين يكنس نورُها العظيمُ ما خالَه العاديّون نوراً وهو غشٌّ للعيون، وحين تعصف رياحُ الوجود العادل بعصافة التبن الخفيف. ومن التاريخ والحاضر دلائل لا تُحصى على هذا الاضطراب في المقاييس لدى الأفراد والجماعات، وهو اضطرابٌ يستلزم نتائجَ تُؤذي الحضارةَ والحياةَ والإنسان لِمَا فيها من انحرافٍ عن موازين العدالة الكونية.

    فلو كنتَ تعيش في فترةٍ من العصور الوسطى بأوروبا، مثلاً، لشاهدتَ في بعض أيامك مواكب من الناس تتلوها مواكبُ بإحدى الساحات العامّة من هذه المدينة أو تلك، وذلك قصْدَ التهليل والتصفيق لمخلوقٍ من الناس مزركش الألبسة عاصب الرأس بالزمرّد والزبرجد والحجارة الكريمة المنظومة. ولشاهدتَ رجلاً يسير على الرصيف وحيداً، عصبيّ الخطوة عنيفَ النظرة، لا يعنيه أمرُ المهلّلين ولا يعنيهم أمرُه. فهم يهتفون بحياة (عظيمٍ) وهو إذ ذاك (ليس بعظيم). ثم أشرقت الشمس بعد زمنٍ فطغتْ على الظلمة وأبرزت الأشياء في مواضعها الحقيقية. فماذا ترى عند ذاك؟ ترى أنّ هؤلاء الناس المهلّلين المصفّقين - وهم بهذا المقام بمنزلة اللاشيء - إنّما كانوا يهتفون لمخلوقٍ تافهٍ يدعى لويس الرابع عشر مثلاً، أو لنذلٍ من الأنذال يدعى شارل الخامس، أو لصغير كلّ الصغار يدعى شارل الأول، أو لغيرهم ممّن يحملون أسماءً تليها أرقامٌ... دلالةً على الصغارة. ثم ماذا يتّضح لك بعد ذاك؟ يتّضح أنّ رجل الرصيف الذي لم يهلّل له القوم ولم يهتفوا بحياته، إنّما هو عظيمٌ حقّ يدعى موليير، أو ملتون، أو غاليليو. وتجري الأيام، فإذا بأصحاب الأسماء التي تليها الأرقام، ليسوا إلاّ التفاهة كلّها. وإذا بالمشاة على الرصيف ولا أرقام لأسمائهم، ولا مهلِّلين لهم، ليسوا إلاّ العظمة كلّها. ويطوي النسيانُ التافهين، ويطوي معهم أولئك (اللاشيء) من المصفّقين الهاتفين. ويبرز هؤلاء على هامة الوجود، وتُنزلهم الإنسانيةُ من نفسها منازلَ الشموس من الظلمات. ويبرز معهم نفرٌ قليلٌ من الخلق مع الذين فهموهم، وقدروهم قدَرهم العظيم، وتدفّأوا بحراراتهم كما تتدفأ الأرض بنور الظهيرة، وأدركوا ما أدركه عليّ بن أبي طالب إذ قال: (رُبّ يسيرٍ أنمى من كثير!).

    إنها العدالة الكونية التي تزن كلّ حيّ بميزانها العظيم، وتضعه موضعَه، لا غشّ في ذلك ولا خداع، ولا مجاملة! العدالة الكونية التي لا تهون لديها قيمة ولا تعلو تفاهة!

    وإن ابن أبي طالب لم يسمِّ هذا (اليسير) يسيراً إلاّ لأنه هكذا كان في أنظار الناس بزمانه وفي آرائهم. ولم يسمِّ هذا (الكثير) كثيراً إلاّ للعلّة ذاتها. وهو يعلم أنهم مخطئون، وأن ما يرونه يسيراً قد لا يكون كذلك. وأن ما يرونه كثيراً قد يخف في ميزان الحق. أما هو، فقد كان يستشعر قيمة الحياة في قوة وجلاء، ويستشعر إمكاناتها العظيمة بجميع الأحياء، ويستشعر أن للكون إرادة عادلة في تقييم الحياة حيث كان، وفي احترام الأحياء حيث هم، فيطلق العبارات الحكيمة التي أشرنا إليها. ويطلق الكثيرات غيرها. حتى إذا غالى المغالون وأنكروا أن لليسير مثل هذه القيمة وهذه الإمكانات على النموّ، توجّه إليهم يقول: (وإن أكثر الحق في ما تنكرون!).

    ثم إن حقيقة أخرى يقررها عليّ بكلمته هذه: (.. وليس امرؤٌ وإن صغرتْه النفوس واقتحمتْه العيون، بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه)، هي أن كل إنسان يمكنه أن ينفع مجتمعه وينتفع به، أيّةً كانت موهبته، وبالغةً إمكاناتُه ما بلغتْ من الضآلة.

    وفي هذه النظرة إلى الإنسان الضئيل الحظ من المواهب، توضيحٌ لِمَا في خاطر عليّ من الإيمان العميق بالعدالة الكونية التي تجعل من قطرات الماء بحراً خضمّاً ومن ذُرَيرات الرمال صحارى وفلوات، كما تجعل كلّ قليلٍ داخلاً في الكثير، وكلّ صغيرٍ مستنَداً للكبير.

    وفيها توضيحٌ لطبيعة الحياة الخيّرة تحنو على أبنائها وتجعل كلاً منهم في إطارٍ من خيرها فلا تغبنه ولا تقسو عليه.

    وفيها الدليل على هذا الحنان العميق الذي كان عليّ يغمر به الأحياء فلا يرى فيهم إلاّ بشراً جديرين بأن يحيوا الحياة كلّها، ويُفيدوا من خيرها، ويُعاونوا ويُعانوا.

    وإنّكَ واجدٌ صورةً لهذه النظرة العلوية الواثقة بعدالة الكون وخير الحياة، المؤمنة بإمكانات الإنسان - أيّاً كان - على أن يكون شيئاً كريماً، في أدب جان جاك روسّو الذي يدور حول محورٍ من الثقة بعدالة الطبيعة وخير الحياة.

    وكأني بابن أبي طالب قد خصّ هؤلاء الذين (تصغرهم النفوس وتقتحمهم العيون) بالسهم الأوفر من اهتمامه ساعةَ خاطَبَ الناس قائلاً: (إنّ الله لم يخلقكم عبثاً) أو ساعةَ أبدع في وصف ثقته بالطبيعة البشرية الخيّرة مواجهاً الخلقَ بهذا الرأي الكريم: (وخَلاكم ذَمٌّ ما لم تشردوا). أي أنكم، جميعاً، خيّرون ونافعون أصلاً وفرعاً، ما لم تميلوا عن الحقّ عامدين.

    وتأكيداً لثبوت هذا الجانب من العدالة الكونية في مذهب ابن أبي طالب، وأعني به التسوية التامّة في كلّ حقٍّ وواجبٍ بين مَن قَلّ ومَنْ كثُر، ومَن صغُر ومَن كبُر، يشير إلى أنّ مركز هذه العدالة إنّما يتساوى لديه الجميع لا فرقَ فيهم بين إنسان وإنسان. فصِفَتُهم الإنسانية واحدة، وقضيّتهم بميزان الوجود واحدة كذلك، وهم لا يتمايزون إلاّ بما يعملون وما ينفعون. أما مَن عمل ونفَع فإنّ قانون الوجود نفسه يُثيبه. وأمّا مَن تَبَطّلَ وبطِر واغتصب، فإنّ هذا القانون نفسه يعاقبه بما يستحقّه. يقول عليّ: (ولا يلويه شخصٌ عن شخص، ولا يُلهيه صوتٌ عن صوت، ولا يشغَله غضبٌ عن رحمة، ولا تولهه رحمةٌ من عقاب!).

    وبهذا الصدَد نعود بشيءٍ من التفصيل على ما ذكرناه من أنّ عليّ بن أبي طالب كشف النقاب عن العبقريّة الوجودية التي تجعل من طبيعة الأشياء ذاتها حاكماً أعلى يُعطي ويمنع ويعاقب ويُثيب، فإذا الكائنات تحمل، بطبيعة تكوُّنها، القدرةَ على أن تقاضي نفسها بنفسها امتثالاً لإرادة الكون العادلة.

    يرى عليّ بن أبي طالب أن الوجود متكافئٌ ما نَقَصَ منه شيءٌ هنا إلاّ وزاد فيه شيءٌ هناك. وكِلا النقص والزيادة متساويان لا زيادةَ إلاّ بمقدار النقص ولا نقصَ إلا بقدر الزيادة. وجديرٌ بالقول أنّ النظريّة القائلة بهذا التكافؤ في أشياء الوجود، إنّما هي إحدى النتائج الكبرى التي بلغ إليها نشاط الفكر البشري في زحفه العظيم إلى اكتشاف أسرار الكون، كما أنّها نقطة انطلاقٍ في هذا المجال.

    وجديرٌ بالقول أيضاً أنّ عدداً من المفكرين الأوائل لم يتمكّنوا من الالتفاف إلى هذه الحقيقة، وأنّ عدداً أنكروها، وأنّ هنالك فريقاً من هؤلاء المفكّرين رأوها وأدركوا كثيراً من تفاصيلها وآمنوا بها ودعوا إليها. وأبناء هذا الفريق يتفاوتون هم أيضاً في قوّة الملاحظة وقوّة التمثيل ثمّ في قوّة البيان عمّا شاهدوه ووثقوا به. فمنهم مَن لحظَ هذا التكافؤ في بعض مظاهر الكائنات فأعلن عن ذلك إعلاناً فيه بعض البيان عن الحقيقة. ومنهم مَن رآه في مظاهر الكون الصامت جميعاً ولكنه لم يستشعر له نتائجَ محسوسة في مجرى الوجود ولم يجد له خطّاً موازياً في مظاهر الكون الحيّ. ومنهم مَن لحظَه في الطبيعة الصامتة واستشعر له نتائج محسوسة في مجرى الوجود ورأى له خطّاً موازياً في الكائنات الحيّة وأعلن عنه بأجلى بيان وأوثق كلام. من هذا الفريق عليّ بن أبي طالب. بل قُلْ إنه في طليعة هذا الفريق من المفكرين الأوائل لأنه كاد يُثبت هذه النظرية على نهجٍ سليمٍ قويم لا يتعارض ولا يتناقض ولا مهربَ لبعضه من بعض. بل قُلْ إنّه فعل ذلك وأبدع.

    ولعلّ موقف ابن أبي طالب ممّا لحظَه ورآه من مظاهر التكافؤ في الوجود أجلّ من مواقف زملائه المفكّرين من الناحية العملية. وذلك بما ألحّ عليه من تأكيد لهذه الحقيقة، توصّلاً إلى ما يترتّب عليها من نتائج في حياة الناس أفراداً وجماعة. وهذا الواقع ينسجم كلّ الانسجام مع محور الفلسفة العلوية الذي هو: الإنسان.

    قلنا إنّ عليّاً يرى الوجود متكافئاً ما نقصَ منه شيءٌ هنا إلا وزاد فيه شيءٌ هناك، وأن هذا النقص وهذه الزيادة يتساويان لا زيادة إلاّ بمقدار النقص ولا نقص إلا بقدر الزيادة. فيقول أوّل ما يقول، منبّهاً الإنسان إلى هذه الحقيقة عن طريقِ ألصقِ الأشياء به، أي عن طريق وجوده ذاته:

    (ولا يستقبل يوماً من عمره إلاّ بفراقِ آخر من أجَله!).

    وهل من خاطرةٍ في ذهن إنسان يمكنها أن تدحض هذه الحقيقة التي تعرض تعادليّةَ الوجود بأبسط ما يراه المرء من حال الوجود؟ ثم هل من قاعدة رياضية من قواعد الهندسة والجبر ألصقُ بالحقائق الثابتة، وأدلّ على الواقع المطلَق، وأوجز في تبيان الثابت والمطلَق، من هذه الآية التي يصوِّر بها ابن أبي طالب تعادليّة الوجود من خلال الكائن الحيّ، ومن أيامه؟

    وإذا قال لي قائلٌ إنّ هذه الفكرة معلومةٌ يعرفها الناس كلّ الناس، فعن أيّةِ حقيقةٍ جديدةٍ يكشف ابنُ أبي طالب في زعْمك إذن؟ قلتُ: إنّ الكشف عن الحقائق الخافيةً لا يستلزم السكوت عن الحقائق الظاهرة إذا كانت هذه أصلاً لتلك، أو تلك أصلاً لهذه، أو إذا كان المنهج العامّ يستلزم ضبْطَ التفاصيل سواءٌ ما خفيَ منها وما ظهر. فإنّ علي بن أبي طالب الذي تتماسك آراؤه في كلّ مذهب، ثمّ تتماسك مذاهبه جميعاً في وحدةٍ فكريّة رائعة، لم يقل هذا القول (المعلوم الذي يعرفه الناس كلّ الناس)، ولم يقلْ بمعناه قولاً أروعَ وهو: (نَفَسُ المرء خُطاه إلى أجَله)، إلاّ ليعود ويبني على ما قاله بناءً مفصّلاً في إثبات نظرية تكافؤ الوجود.

    فالذي قال: (لا يستقبل يوماً من عمره إلاّ بفراق آخر من أجَله)، (ونفسُ المرء خُطاه إلى أجَله)، إنما قال ذلك ليعود إلى الكشف عن حقيقة أبعد عن أذهان الناس وأخفى عن ملاحظتهم، ولكنها تجري من القولين السابقين: (ولا ينال الإنسان نعمةً إلاّ بفراق أُخرى!).

    وأراك استوضحت ما في هذا القول من قوة الملاحظة، والقدرة على الكشف، وصراحة الفكر، وجلاء البيان. وضبطاً لمضمون هذه العبارة في صور وأشكال تختلف مظهراً وتتحد معنىً وجوهراً، يقول عليّ: (كم من أكلةٍ منعت أكلات) و(من ضيّعَه الأقرب أُتيح له الأبعد) و(ربّ بعيد هو أقرب من قريب) و(المودة قرابة مستفادة).

    و(مَن حمْل نفسه ما لا يُطيق عجز) و(لن يضيع أجر مَن أحسن عملاً) و(ما كسبتَ فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك). فإن في هذه العبارات، وفي عشرات غيرها، إيجازاً واضحاً لتفاصيل نظرية التكافؤ الوجودي كما يراه عليّ بن أبي طالب. فهي على اختلاف موضوعاتها القريبة، تدور في مداها ومأخذها القصيّ على محور واحد من تعادُليّة الكون، فلا نقص هنا إلا وتعدلُه زيادة هناك. والعكس بالعكس.

    أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة الوجودية في قوة وعمق. وعاشها، وأعلن عنها في كلّ فصلٍ من حياته أو قولٍ من قوله، سواءٌ أكان ذلك بالأسلوب المباشر أو غير المباشر. وهو لا يدرك هذا الوجه من وجوه العدالة الكونيّة إلاّ ليدرك وجهاً آخر يعكسه على شكلٍ خاصّ، أو قلْ ينبثق عنه انبثاقاً، وهو ما نحن بصدَده من الكلام على أنّ الطبيعة تحمل بذاتها المقياس فتُعاقب أو تُثيب، وليس بين مظاهر العدالة الكونية ما هو أبرز من هذا المظهر في الدلالة عليها.

    رأى عليّ أنّ شيئاً واحداً من أشياء هذا الكون لم يوجد عبثاً، بل إنّ لوجوده غايةً وهدفاً. ورأى أنّ لكلٍّ من الكائنات وظيفةً يقوم بها، وأنّ على كلّ جارحةٍ من جوارح الإنسان فريضةً يحتجّ بها الكونُ العادل عليه، ويسأله عنها، ويحاسبه عليها. وبناءً على هذا الواقع، تكون أشياء الوجود متساويةً بحُكم وجودها. أمّا الصغيرة والكبيرة فشبيهتان بهذا المقياس. يقول عليّ: (ويحاسبك على الصغيرة قبل الكبيرة). وإنّما قال ذلك لأن الأكثرية من الناس لا يأبهون لـ(الصغيرة)، فإذا به يلفت أنظارهم إلى هذه الصغيرة بتقديمها على الكبيرة في ما تستلزم من عقاب أو ثواب، لكي يطمئنّ إلى حدوث عمليّة التسوية بينهما في الأذهان والقلوب.

    أمّا إذا احتجّ الكونُ على الإنسان بما فَرضه على جوارحه، وسأله عنه، وحاسبه على الصغيرة والكبيرة، وجازاه بما عمل خيراً كان أو شرّاً، فليس من الضروريّ في ملاحظة عليّ وفي نهجه أن تتمّ عمليّةُ الاحتجاج والمحاسبة والمجازاة هذه خارجَ نطاق الإنسان نفسه. وإنّ هذه العمليّة المركّبة، الواحدة على ما فيها من تركيب، لتتمّ أبداً - كما يلحظ عليّ - في حدود الكائن أيّاً كان. وهكذا تتمّ في ما يتعلّق بالإنسان وهو أحد الكائنات. يقول عليّ: (إنّ عليكم رَصَداً من أنفسكم وعيوناً من جوارحكم). والرصد الرقيب. وهذا الرقيب لا يألو جهداً في أن يرى ويسجّل ويعاقب أو يُثيب.

    وفي لحظاتٍ فذّة من تألّق العقل المكتشف والفكر النافذ، تبدو لعينَيْ ابن أبي طالب ألوانٌ ساطعة من هذا الوجه من وجوه العدالة الكونية، لا يسعك إزاءها إلاّ أن تُعجَب بهذا العقول وهذا الفكر. أفَلا ينطق ابن أبي طالبٍ بلسان علماء العصر الحديث كما ينطق بلسان هذه العدالة نفسها ساعةَ يقرّر هذه الحقيقة: (مَن أساء خلقَه عذّب نفسه!) ثمّ، لا ينطق بهذين اللسانين معاً إذ يقول: (يكاد المريب يقول: خذوني) وإذ يقول أيضاً: (فأكرِمْ نفسَك عن كلّ دنيّةٍ وإن ساقَك رغَبٌ فإنّك تعتاض بما ابتذلتَ من نفسك!).

    ومثل هذه الآيات كثيرٌ كثير. ومنها هذه الروائع: (موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجَل) و(لا مروءَة لكَذوب ولا راحة مع حسد، ولا سؤدد مع انتقام، ولا صواب مع ترك المشورة). و(إذا كانت في رجلٍ خلّةٌ رائقة فانتظروا أخواتها!).

    وهكذا أدرك عليّ بن أبي طالب أنّ الكون واحد، عادلٌ، ثابتٌ في وحدته وعدله، جاعلٌ في طبيعة الكائنات ذاتها قوّةَ الحساب والقدرةَ على العقاب والثواب. وهكذا عبّر عمّا أدركه أروع تعبير.

    بَيْدَ أنّ وجوهاً غير هذه من وجوه العدالة الكونية تَفَحّصها عليّ وضَبَطَ أشكالها وألوانها. فما هي هذه الوجوه؟

    [align=left]جورج جرداق[/align]

    ...................................
    الهوامش:

    1 - أذلال، جمع ذل - بكسر الذال - وذل الطريق: محجّته، وهي جادته، أي وسطه. وجرت السنن أذلالها، أو على أذلالها: جرت على وجوهها.

    2 - أي، إذا عطل الحق لا تأخذ النفوس وحشة أو استغراب لتعوّدها تعطيل الحقوق وأفعال الباطل، ولاستهانتها بما تفعل.

    3 - الساجي: الساكن. والمائر: الذي يذهب ويجيء، أو المتحرك مطلقاً. وعبّ عبابه: ارتفع علاه.

    4 - الثواقب: المنيرة المشرقة.

    5 - المستطير: المنتشر الضياء. والسراج المستطير: الشمس.

    6 - باختصار عن كتاب (فاغنز والمرأة) للمؤلف صفحة : 163 - 164.

    7 - الفسيل: صغار الشجر.

    8 - البهم: صغار أولاد الضأن والمعز. الغوغاء: صغار الجراد.

    9 - راجع، في هذا الكتاب، روائع علي في وصف الطاووس والخفاش.

    10 - معتمدين: قاصدين.

    11 - بفوق أن يعان: أي بأعلى من أن يحتاج إلى الإعانة.

    12 - اقتحمته العيون: حقرته. بدون أن يعين: بأعجز من أن يساعد غيره.

  7. #22
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]
    الحنان العميق
    [/align]


    وأدرك علي أن منطق الحنان أرفع من منطق القانون، وأن عطف الإنسان على الإنسان وسائر الكائنات، إنما هو حجة الحياة على الموت، والوجود على العدم!

    ولم يكن موقف عليّ من المرأة لك الموقف الذي صَوَّروه!

    إذا كان من عدالة الكون وتكافؤ الوجود أن تلتقي على صعيد واحد بَوارحُ الصيف ومُعْصِرات الشتاء، وأن تَفْنى في حقيقةٍ واحدةٍ السوافي والأعاصير والنُّسَيمات اللّينات، وأن تحملَ الطبيعةُ بذاتها، بكلّ مظهر من مظاهرها، قانونَ الثواب والعقاب، فمن هذه العدالة أيضاً ومِن هذا التكافؤ أنْ تتعاطى قوى الطبيعة وتتداخل سواءٌ في ذلك عناصرُ الجماد وعناصر الحياة. وسواءٌ في ذلك ما انبثق عن هذه أو انسلخ عن تلك.

    ولما كانت صفات الإنسان وأخلاقه وميوله وأحاسيسه منبثقة عن عناصر الحياة التي تتّحد فتؤلّف ما نسميه شخصية الإنسان، فهي متعاطية متداخلة، تُثبتُ ذلك الملاحظةُ الطويلة والموازنةُ الدقيقةُ ثمّ قواعدُ العلم الحديث الذي لاحَظَ ووازن وأَرسى مكتَشفاتِه على أسُسٍ وأركان.

    وقد مرّ معنا أنّ الإنسان في مذهب علي بن أبي طالب هو الصورة المثلى للكون الأمثل. وممّا يُعزى إليه هذا القولُ يخاطب به الإنسان:

    وتحسبُ أنّك جرمٌ صغيرٌ***وفيك انطوى العالَمُ الأكبر

    فمن الطبيعيّ في هذه الحال أنْ يُلحّ عليّ في طلب كلّ ما يتعلّق بالإنسان ممّا يطاله زمانُه وإمكاناتُ عصره. ومن الطبيعيّ كذلك أنْ يُلحّ في الكشف عمّا في هذا (الجرم الذي انطوى فيه العالَم الأكبر) مِن مظاهر العدالة الكونية وتكافؤ الوجود ضمْن الإطار الذي دارت آراؤه فيه.

    أحسّ عليّ إحساساً مباشراً عميقاً أنّ بين الكائنات روابطَ لا تزول إلاّ بزوال هذه الكائنات. وأنّ كلّ ما يُنقص هذه الروابط يُنقص مِن معنى الوجود ذاته. وإذا كان الإنسانُ أحد هذه الكائنات، فإنّه مرتبطٌ بها ارتباطَ وجود. وإذا كان ذلك - وهو كائنٌ - فإنّ ارتباطَ الكائن بشبيهه أجدرُ وأولى. أما إذا كان هذا الكائنُ من الأحياء، فإنّ ما يشدّه إلى الأحياء من جنسه أثبتُ وأقوى. وأما الإنسان - رأس الكائنات الحيّة - فإنّ ارتباطه بأخيه الإنسان هو الضرورة الأولى لوجوده فرداً وجماعة.

    وحين يقرّر عليّ أن المجتمع الصالح هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها وأشرف أشكالها، إنّما يسن قانوناً أو ما هو من باب القانون. ولكنّ هذا القانون لا ينجلي في ذهنه ولا يصبح ضرورة، إلاّ لأنه انبثاقٌ طبيعيّ عمّا أسميناه روح العدالة الكونية الشاملة، التي تفرض وجودَ هذا القانون. لذلك نرى ابنَ أبي طالب ملحّاً شديد الإلحاح على النظر في ما وراء القوانين، وعلى رعايتها بما هو أسمى منها: بالحنان الإنساني.

    وما يكون الحنان إلاّ هذا النزوع الروحيّ والماديّ العميق إلى الاكتمال والسموّ. فهو بذلكٍ ضرورةٌ خلقيّة لأنه ضرورةٌ وجودية.

    الصفحة الأولى التي ينشرها عليّ من صفحات الحنان تبدأ بأن يذكر الناس بأنهم جميعاً أخوة فينعتهم بـ(إخواني) نعتاً صريحاً وهو أميرٌ عليهم. ثم يردف ذلك بتذكير الوُلاة بأنهم إخوان الناس جميع الناس، وبأنّ هذا الإخاء يستلزم العطف بالضرورة، قائلاً إلى أمرائه على الجيوش: (فإنّ حقّاً على الوالي أنْ لا يُغيّره فضلٌ ناله، ولا طَولٌ خُصّ به، وأنْ يزيده ما قسم الله له من نِعَمه دنوّاً من عباده وعطفاً على إخوانه). وما يذكره لنفسه وللولاة بأنّهم والناس إخوانٌ بالمودّة والحنان، يعود فيقّرره بحكمة شاملة يتّجه بها إلى البشر جميعاً دون تفرقة أو تمييز، قائلاً: (وإنما أنتم إخوانٌ ما فرّق بينكم إلاّ خبث السرائر وسوء الضمائر). وهو بذلك يضع خبثَ السريرة وسوءَ الضمير في طرف، وحنانَ القلب ومودّةَ النفس في طرفٍ آخر. ولمّا كان من الحقِّ الوجوديّ للإنسان أن ينعم بحنان الإنسان، فإنّ الطبيعة التي تحمل بذاتها القيَمَ والمقاييس لابدّ لها من التعويض على صالحٍ ضَيّعَه الجيرانُ والأقربون والأهل فما لفّوه برداءٍ من حنان، بعطفٍ وحنانٍ كثيرين بإتيانه من الأباعد، فيقول عليّ: (مَن ضيّعَه الأقربُ أُتيح له الأبعد!).

    وهو في سبيل رعاية هذه الأخوّة القائمة بالحنان الإنساني، لا يقبل حتى بالهَنات الهيّنات لأنّ فيها انحرافاً مبدئياً عن كرَم الحنان: (أمّا بعد، فلولا هَناتٌ كنّ فيك لكنتَ المقدّمَ في هذا الأمر).

    وإذا كانت القوانين المتعارَف عليها تسمح عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يحارب المتآمرين به، فإنّه لا يفعل إلاّ بعد أن يراعي كلّ جوانب الحنان في نفسه وقلبه، وبعد أن يستشير كلّ روابط الإخاء البشريّ في نفوس مقاتليه وقلوبهم. وهو إنْ فعل في خاتمة الأمر فإنّما يفعل مُكرَهاً لا مختاراً، حزيناً باكياً فرِحاً ضاحكاً، فإذا شعوره بالنصر بعد القتال آلَمُ وأوجعُ من شعور مناوئيه بالهزيمة!

    وإذا كانت القوانين المتعارَف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يترك المعتدين عليه، بعد موته، بين يدي أنصاره وبنيه يقاتلونهم ويقتصّون منهم لضلال مشَوا به وإليه، فإنّ الرأفة بالإنسان وهي لديه وراء كلّ قانون، تحمله حمْلاً على أن يخاطب أنصاره وبنيه بهذا القول العظيم: (لا تقاتلوا الخوارج من بعدي، فليس مَن طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه).

    وهو بعامل هذا الحنان العميق يربط سعادة المرء بسعادة جاره، أي بسعادة الإنسانية كلّها، لأنّ لجار المرء جيراناً، وما يجوز عليه بالنسبة له يجوز عليهم بالنسبة لسائر الناس. ومن سعادته أيضاً أن يطغى عليه هذا الحنان فإذا بأبناء الآخرين يحظون منه بالعطف الذي يحظى به أبناؤه: (أدِّبِ اليتيم بما تؤدِّب به وُلْدَك). وأنّ يستشعر الجميع روحَ العدالة الأساسية التي تفوق القوانينَ الوضعية قيمةً وجمالاً لأنها تحمل الدفءَ الإنسانيّ وتصل الخلقَ بمنطق القلب لا بمنطق الخضوع لقانون: (ليتأسّ صغيركم بكبيركم، وليرأفْ كبيركم بصغيركم).

    وإذا كان العجز عن إتيان المكرمات نقصاً، فإنّ منطق الحنان على لسان عليّ يجعل العاجز عن اكتساب أخوّة الناس أكثرهم نقصاً: (أعجز الناس مَن عجز عن اكتساب الإخوان). ويضيفُ عليٌّ إلى هذا العجز عجزاً آخر هو الميل إلى المراء والخصومة قائلاً: (إيّاكم والمِراء والخصومة) بل إنّ الأولى هو لين الكلام لِما فيه من شدّ الأواصر بين القلب، منبع الحنان، والقلب: (وإنّ من الكرَم لين الكلام). وليس بين نزعات القلب ما هو أدعى إلى الراحة من شعور المرء بأنّ له في جميع الناس إخواناً أحبّاء، فإذا تألّم ابنُ أبي طالب من سيئات زمانه، جَعَلَ الخبزَ وهو آلة البقاء، والصدقَ وهو ركيزة البقاء، ومؤاخاةَ الناس في منزلة واحدة، فقال في ناس زمانه: (يوشك أن يفقد الناس ثلاثاً: درهماً حلالاً، ولساناً صادقاً، وأخاً يُستراح إليه).

    وإذا كانت الغربةُ قساوةً كبرى لأنها تستدعي الوحدة، فإنّ أشدّها يكون ساعةَ يفقد الإنسان إخوانه وأحبّاءَه لأنه يفقد إذ ذاك قلوباً يعزّ بعطفها ويحيا بحنانها: (والغريبِ من لم يكن له حبيب) و(فقْدُ الأحبّة غربة).

    ولابدّ لنا أن نشير إلى موقف ابن أبي طالب من المرأة على هذا الصعيد. فالمرأة نصف الإنسان، فهل يخلو هذا النصف من العطف على نصفه الآخر؟ وهل النصف الآخر مدعوٌّ إلى أن يجوز على مقاييس العدالة الكونية القاضية بحنان الإنسان على الإنسان؟

    لقد أوّلَ الكثيرُ بعضَ أقوال عليّ في المرأة تأويلاً شاءوا به الطرافة والترفيه فوق ما شاءوا به أن يُبرزوا موقفَ عليّ منها. فألحّوا على كلماتٍ له قالها في ظروفٍ كان أبرز ما فيها عداء امرأةٍ معيّنةٍ له وهو لم يُسئ ولم يأمر إلاّ بمعروف. وفاتَهم أنّ مثل هذه الأقوال الخاضعة لظرفٍ محدودٍ بذاته، والرامية إلى إيضاح الأسباب في صراعٍ بين عقليتين مختلفتين كلّ الاختلاف، إنّما قال في بعض الرجال أشدّ منها وأقسى. وهو بذلك لا يعني الرجال قاطبةً وفي كلّ حالاتهم. كما أنه، حين أطلق تلك الأقوال في المرأة، لم يكن ليعني النساء قاطبة وفي كل حالاتهن. فإن مسبّبي الويلات التي ألمّت به وبالخير عن طريقه، تعرّضوا لمثل هذه الأقوال سواءً أكانوا رجالاً أو نسوةً لهنّ قوة الرجال ونفوذهم. وهو إنْ هاجم هؤلاء وهؤلاء من نسوة ورجال، فإنّما كان يهاجم فيهم مواقفَ معيّنةً وقفوها من الحقّ والعدل وأصحابهما. وفي ذلك ما ينفي الادّعاء بالإساءة إلى المرأة مِن قِبَل عليّ. وإنّي لأسأل مَن يعنيهم الأمر أن يوافوني بكلمةٍ واحدةٍ يسيء بها عليّ إلى المرأة ولم تكن موجّهةً إلى إنسان معيّنٍ في ظرفٍ معيّن، أو من وحي هذا الإنسان في هذا الظرف! لقد هاجم المرأة عندما كانت سبباً في الفتنة، وهاجم الرجل في مثل هذه الحال. فهو بذلك يهاجم الفتنة وحسب!

    أمّا موقف عليّ من المرأة كإنسان، فهو موقفه من الرجل كإنسان، لا فرق في ذلك ولا تمييز. أوَ ليس في حزنه على زوجه فاطمة وقد توفيّت، دليلٌ على إحساسه بقيمة المرأة كإنسان له كلّ حقوق الإنسان وعليه كلّ واجباته، وفي أساس هذه الحقوق والواجبات أن يَنعَم بالحنان الإنسانيّ ويُنْعِم به الآخرين؟

    أوَلم يكن الناس في الجاهلية وبعد الجاهلية يتفاءَلون بمولد الذكَر ويفرحون، ويتشاءَمون بمولد الأنثى ويحزنون!

    أوَلم يكن موقف الفرزدق تعبيراً عن نظرة عصره إلى المرأة، وهو عصرٌ متّصِلٌ بزمن ابن أبي طالب، ساعةَ ماتت زوجته، وكان يحبّها على ما زعموا، فقال فيها هذا القول العجيب:

    وَأهْوَنُ مفقودٍ، إذا الموتُ نالَه،***على المرء مِن أصحابه، مَن تقنّعا

    أي أنّ أهوَن فقيدٍ على المرء من أصحابه ومعارفه فقيدٌ يلبس القناع، ويريد به المرأة. فالمرأة في قلبه وعلى لسانه لا تستحقّ أن تُبكى، ولا أن يُحزَن عليها. لماذا؟ لا لشيء إلاّ لأنها امرأة!

    وعليّ، ألم يكن من أبناء ذلك الزمان؟ ولكنّه كان أنفذَهم تفكيراً وأشرفهم نظراً وأعمقهم إحساساً، فقال في جملة ما قال بهذا الشأن متلوّماً على أصحاب تلك العقلية الرعناء: (وإن بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث... إلخ). إذن، فالذكور والإناث بمنزلة واحدة عند عليّ تجمعهم صفة الإنسان وحسب.

    أضف إلى ذلك أن علياً الذي يعطف على الناس عموماً، وعلى الضعفاء منهم خصوصاً، يفرض على الخُلق الكريم أن يكون أشدّ حناناً على المرأة لأنها مستضعفة إن لم تكن ضعيفة، فيقول: (وانصروا المظلوم وخذوا فوق يد الظالم المريب وأحسنوا إلى نسائكم). ويقول في مكان آخر: (آمركم بالنهي عن المنكر والإحسان إلى نسائكم).

    ويتابعُ ابنُ أبي طالب حلقات هذا المسلك المتماسك في دعوته أن يلتفّ الناس جميعاً، ثم الناس وسائر الكائنات، بدفء الحنان، فيقول في العلم - وقد عرفنا قيمة العلم في مذهبه - : (رأس العلم الرفق). وهو لا يرى في كثرة الذنوب ما يهول أكثرَ من أنها مدعاةٌ إلى القسوة بحُكم تَعَوُّدها، ومن ثمّ فهي سببٌ في نفورٍ باردٍ يحلّ في القلوب محلّ حنانٍ دافئ، فيقول: (ما جفّت الدموع إلاّ لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب!) وإذا لم تكن من أهل الذنوب فأنت من أهل الحنان ومن حقك أنْ تبذل - بهذا الحنان - كلّ ما تملك لنصرة أخيك الإنسان: (فإن كنتَ من أخيك على ثقةً فابذلْ له مالك ويدك، وأعنْه، وأظهِرْ له الحسن).

    وأخيراً يُطلقُ عليٌّ مجموعة من الأقوال تدور في مدار الدعوة إلى تفاني الناس في الناس عطفاً وحناناً. وهي تُعتبر بحقٍّ من أسمى ما يملكه الإنسان من تراث خلقيٍّ عظيم. ومنها هذه الروائع: (صِلْ مَنْ قطعك وأعطِ مَن حرمك. أحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يُحس إليك. أحسن إلى مَن أساءَ إليك. عودوا بالفضل على من حرمكم إلخ..).

    وإنجازاً لهذه الدعوة الكريمة يُشْرِك ابنُ أبي طالب البهائمَ والبقاعَ والناس في حقٍّ لها مشتَرَك في الحنان فيقول: (اتّقوا اللهَ في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم!).

    وهكذا، فإنّ عطف الإنسان على الإنسان وسائر الكائنات إنّما هو حجّةُ الحياة على الموت، بل هو إرادةٌ من إرادة الوجود العادل!


    [align=left]
    جورج جرداق
    [/align]

  8. #23
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    [align=center] صدق الحياة[/align]

    وهذا الصدقُ عهدٌ منك وعليك، لأنه روح الجمال والحق، وإرادةُ الحياةِ القادرةِ الغلاّبة!

    لعلَّ أبرز مظاهر العدالة الكونية في عالم الجماد وعالم الحياة، وفي كل ما يتَّصل بطبيعة الوجود وخصائص الموجودات، هو الصدق الخالص المطلق. فعلى الصدق مدارُ الأرض والفلك والليل والنهار. وبالصدق وحده تتلاحق الفصول الأربعة ويسقط المطر وتسطع شمس. وبه كذلك تفي الأرض بوعدها حين تُنبت ما عليها كلاٍّ في حينه لا تقديمَ ولا تأخير. وبه تقوم نواميس الطبيعة وقوانين الحياة. والريح لا تجري إلا صادقة، والدماء لا تطوف العروقَ إلا بصدق، والأحياء لا يولدون إلا بقانون صادق أمين.

    هذا الصدق الخالص المطلق الذي تدور عليه قاعدة البقاء، هو الينبوع الأول والأكبر الذي تجري منه عدالة الكون وإليه تعود!

    ولمّا كان عليّ بن أبي طالب شديد الملاحظة لصدق الوجود، شديد التفاعُل معه، فقد جعل من همّه الأوّل في الناس تهذيبَ الناس استناداً إلى ما يعقل ويحسّ ويرى. والتهذيب في معناه الصحيح ومدلوله البعيد ليس إلاّ الإحساس العميق بقيمة الحياة وشخصيّة الوجود. ولمّا كان هذا المعنى هو المعنى الأوحد للتهذيب العظيم، كان الصدق مع الذات ومع كلّ موجود مادّيٍ أو معنويّ، هو المحور الذي يدور عليه التهذيب، كما رأيناه محور العدالة الكونية. وبذلك ينتفي من التهذيب السليم كثيرٌ من القواعد التي تَوَاطأ عليها البشرُ دونما نظرٍ في نواميس الوجود الكبرى، وهم يحسبون أنّها قواعد تهذيبيّة لمجرّد اتّفاقهم عليها. وبذلك أيضاً ينتفي من التهذيب السليم كلُّ ما يخالف روحَ الحقّ وروحَ الخير وروحَ الجمال. والتهذيب على غير أصوله الكبرى تَواطؤٌ سطحيّ على الكذب القبيح. وهو على أصوله البعيدة إحساسٌ عميق بالصدق الجميل، ممّا يجعله اندماجاً خالصاً بثوريّة الحياة الجارية الفاتحة.

    لذلك كان مدار التهذيب عند ابن أبي طالب، حماية الإنسان من الكذب، أو قُلْ حمايته وهو حيٌّ من برودة الموت!

    وحماية الإنسان من الكذب تستوجب أولَ الأمر تعظيمَ الصدق نصّاً مباشراً في كلّ حال، وإبرازَه ضرورةً حياتيّةً لا مفرّ منها لكل حيِّ، وتوجيهَ الناس نحوه أفراداً يَخْلُون إلى أنفسهم أو يعيشون جماعات. وفي هذا الباب يبرز عليّ بن أبي طالب عملاقاً يرى ما لا يراه الآخرون، ويشير إلى ما يجهلون، ويعمل ما لا يستطيعونه الآن ويريدهم أن يستطيعوه. يقول عليّ: (إيّاكم وتهزيعَ الأخلاق وتصريِفَها واجعلوا اللسانَ واحداً). وتهزيع الشيء تكسيره. وتصريفه قلْبُه من حال إلى حال. يريد بذلك تذكيرَ الصادق بالخطر الذي يتعرّض له صدقُه إنْ هو كذب ولو مرّةً واحدة. فالصادق إذا كذب مرةً انكسر صدقه كما ينكسر أيّ شيء وقع على الأرض مرةً واحدة. وكذلك النفاق والتلوّن فهما لونان من ألوان الكذب. ويقول أيضاً: (وكونوا قوماً صادقين. واعملوا في غير رياء. وأعَزّ الصادقَ المحقّ وأذَلّ الكاذبَ المبطل. واصدُقوا الحديث وأدّوا الأمانة وأوفوا بالعهد. من طلب عزاً بباطل أورثه الله ذلاً بحق. إن كنت صادقاً كافيناك وإن كنت كاذباً عاقبناك. إنّ مَن عدمَ الصدق في منطقه فقد فُجع بأكرم أخلاقه. ما السيف الصارم في كفّ الشجاع بأعزّ له من الصدق). وما هذه الآيات في الصدق إلاّ نماذج من مئاتٍ أُخرَيات يؤلف ابنُ أبي طالب بها أساسَ دستوره الأخلاقي العظيم.

    ثم إليك هذه الآية التي يكثر في نسجها نصيبُ العقل النافذ الواعي. يقول: (الكذب يهدي إلى الفجور). ولسنا في حاجة إلى الإسهاب في إظهار ما تخفي هذه الكلمة من حقيقة تجرّ وراءها سلسلة لا تنتهي من الحقائق. كما أننا لسنا في حاجة إلى الإسهاب في تصوير ما تشير إليه من حقيقة نفسية لا تزيدها الأيام إلا رسوخاً. ومثل هذه الآية آيات، منها: (لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أنْ يَعِدَ أحدُكم صبيَّه ثم لا يفي له!) أما المعنى الذي يشير إليه الشق الأول من هذه الآية العلوية، فقد كان موضوع جدل كثير بين فلاسفة الأخلاق ولاسيما الأوروبيين منهم. والواقع أن هؤلاء أجمعوا على أن الصدق حياة والكذب موت. غير أنهم اختلفوا في هل يجوز الكذب في حالة الضرورة أم لا؟ فمنهم الموافق ومنهم المخالف. ولكلٍّ من الفريقين حجته.

    أمّا عليّ بن أبي طالب، فيقف من هذا الموضوع الذي تثيره عبارته، موقفاً حاسماً ينسجم مع مذهبه العظيم في الأخلاق، هذا المذهب الذي نعود فنذكّر القارئ بأنه منبثقٌ عمّا أحسّه عليّ ووعاه من عدالة الكون الشاملة، فيقول غير متردّد: (علامة الإيمان أن تُؤْثر الصدقَ حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك، وأن لا يكون في حديثك فضلٌ عن عملك!) ومن الواضح أن ابن أبي طالب لا يرى أن في الكذب ما ينفع وأن في الصدق ما قد يضرّ، فيتحدث إلى الناس في نطاقٍ من مدى تصوُّرهم ليبلغ كلامُه منهم مبلغاً ذكياً. وتأكيداً لذلك يقول: (عليك بالصدق في جميع أمورك). ويقول أيضاً: (جانبوا الكذب فإن الصادق على شَفَا مَنْجاة وكرامة، والكاذب على شَفَا مَهْواةٍ وهلكة!).

    أما المعنى الذي يذكره الشقّ الثاني من العبارة: (ولا أنْ يعد أحدُكم صبيّه ثم لا يفي له)، فالتفاتةٌ عظيمة إلى حقيقةٍ تربويّة تقرّرها الحياةُ نفسها، كما تقرّرها الأصولُ النفسية التي ينشأ عليها المرء ويتدرّج. ويكفيك منها هذه الإشارة إلى أن الطفل يتربَّى بالمثَل - القدوة - لا بالنصيحة. وهذا الرأي هو محور فلسفة جان جاك روسّو التربويّة!

    والصدق مع الحياة يستلزم البساطة وينفر من التعقيد، لأن كل حقيقة هي بسيطة بمقدار ما الشمس ساطعة والليل بهيم. ودلالةً على هذه البساطة الدافئة لأنها انبثاقٌ حيّ وعفوي عن الصدق، نقول إن ابن أبي طالب كرهَ التكبر لأنه ليس طبعاً صادقاً بل الكبْر هو الصدق، فإذا بالمتكبر في رأيه شخصٌ يتعالى على جبلته ذاتها. يقول: (لا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه). وهو في الوقت نفسه يكره التواضع إذا كان مقصوداً فإنه عند ذاك لا يكون طبعاً صادقاً بل الشعور بأن الإنسان مساوٍ لكل إنسان في كرامته هو الصدق. لذلك يخاطب مَن يقوده تواضعُه إلى أن يذلُ نفسه، قائلاً له: (إياك أن تتذلّل للناس). ثم يردف ذلك بقول أروع: (ولا تَصْحَبَنَّ في سفرٍ مَن لا يرى لك من الفضل عليه مثلَ ما ترى له من الفضل عليك!).

    وإني لا أعرف في مبادئ المحافظين على كرامة الإنسان كإنسان لا يتكبر ولا يتواضع بل يكون صادقاً وحسب، ما يفوق هذه الكلمة لابن أبي طالب أو ما يساويها قيمةً: (الإنسان مرآة الإنسان!).

    ومن أقواله الدالّة على ضرورة أخْذ الحياة أخذاً بسيطاً: (ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى. الثناء بأكثر من الاستحقاق مَلَقٌ والتقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد. لا تقل ما لا تعلم. لا تعمل الخير رياءً ولا تتركه حياء. يا ابن آدم، ما كسبتَ فوق قوتك فأنت فيه خازنٌ لغيرك. لا ينصف للخير ليفخر به، ولا يتكلّم ليتجبّر على من سواه. مَن حمّل نفسه ما لا يُطيق عجز. لا خير في معينٍ مهين). وكأنّي بابن أبي طالب لا يترك جانباً ممّا وعاه فكرُه وشعورُه من أمور الحياة والإنسان إلاّ أطلق فيه رائعةً تختصر دستوراً كاملاً. وهذا ما فعله ساعة شاءَ أن يوجّه الناس إلى أخذ الحياة أخذاً صادقاً بسيطاً، فقال هذه الكلمة الدافئة بعفْويّة الحياة: (إذا طَرقَك إخوانك فلا تدّخر عنهم ما في البيت، ولا تتكلّف لهم ما وراء الباب!).

    وإذ يفرغ عليّ من حديثه الكثير الدائر حول ضرورة الصدق مع الحياة بصورةٍ مباشرة، ثم حول البساطة التي لا يكون صدقٌ بدونها ولا تكون بغير صدق، يواصل طريقه في مفاهيم التهذيب التي تتلازم في مذهبه وتترابط حتى لكأنّها صورةٌ عن كلّ موجودات الكون، والتي يظلّ الصدقُ مدارَها الأوّلَ وإن تناولتْ وجوهاً أخرى من وجوه الأخلاق. فيوصي بأن يتغافل المرءُ عن زلاّت غيره فإنّ في ذلك رحمةً من المتغافل وتهذيباً للمسيء بالسيرة والمثَل أبلغَ من تهذيبه بالنصيحة أو بالبغضاء، يقول: (من أشرف أعمال الكريم غفلتُه عمّا يعلم). كما يوصي بالحلم والأناة لأنهما نتيجةٌ لعلوّ الهمّة ثمّ مَدْرَجَةٌ لكرَم النفس: (الحلم والأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمّة. ويكره الغيبة لأنها مذهبٌ من النفاق والإساءة والشرّ جميعاً: (اجتنب الغيبة فإنّها إدام كلاب النار). والخديعة مثل الغيبة وكلتاهما من خبث السرائر: (إيّاك والخديعة فإنّها من خلق اللئام). وكما رأى أنّ كذبةً واحدةً لا تجوز لأنّ الصدق ينكسر بها، يرى أن كل ذنبٍ مهما كان في زعم صاحبه خفيفاً قليل الشأن إنّما هو شديدٌ لأنه ذنبٌ، بل إنه أشدّ وقعاً على كرامة الإنسان إذا استخفّ به صاحبه، من ذنبٍ عظيمٍ عاد مقترفُه إلى الرجوع عنه في الحال: (أشدّ الذنوب ما استخفّ به صاحبه). وينهاك علي عن التسرّع في القول والعمل لأنه مدعاةٌ إلى السقوط وعلى الإنسان المهذّب ألاّ يُبيح نفسَه لأيّة سقطة: (أنهاك عن التسرّع في القول والعمل).

    وهو يريدك أن تعتذر لنفسك من كلِّ ذنب أذنبتَ إصلاحاً لخلقك، ولكنّه ينبّهك تنبيهاً عبقريَّ الملاحظة والبيان إلى أنّ الإنسان لا يعتذر من خير، فعليه إذن ألاّ يفعل ما يضطّره إلى الاعتذار: (إياك وما تعتذر منه فإنه لا يُعتَذَر من خير. ومنعاً للاشتغال بعيوب الناس وإغفال عيوب النفس، وفي ذلك ما يدعو إلى سوء الخلق والمسلك سلباً وإيجاباً، يقول علي: (أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله)، و(مَن نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره). وإذا أتى القبيح من مصدر عليك أن تُنكره أوّلاً، فإن لم تستطع ذلك تحَتّم عليك ألاّ تستحسنه لئلاً تصبح شريكاً فيه: (مَن استحسن القبيح كان شريكاً فيه). وإذا كان التعاطف بين الناس ضرورةً أخلاقية لأنه ضرورةٌ وجودية على ما مرّ معنا في الفصل السابق، فإنّ منطق العقل والقلب يأمر بأن يكون عطفك على من أنطقك وأحسن إليك أكثرَ وأوسع. وفي ذلك يقول عليّ: (لا تجعلنّ ذربَ لسانك على من أنطقك وبلاغةَ قولك على من سدّدك). ثم يقول: (وليس جزاء من عظّم شأنك أن تضع من قدره، ولا جزاء مَن سرّك أن تسوءه).

    ويهاجم الحرص والكبرياء والحسد لأنّها سبيلٌ إلى الانحدار الخلقي: (الحرص والكبر والحسد دواعٍ إلى التقحّم في الذنوب). وإذا كان الأخلاقيون القدماء يذمّون البخل فلأنه في نظرهم صفةٌ مذمومةٌ لذاتها. أمّا عند ابن أبي طالب الذي يرصد الأخلاق بنظرةٍ أشمل وفكرٍ أعمق، فالبخل ليس مذموماً لذاته قدر ما هو مذموم لجمعه العيوب كلّها، ولدفْعه صاحبَه إلى كل سوءة في الخلق والمسلك. فالبخيل منافق، معتدٍ، مغتاب، حاسد ذليل، مزوّر، جشع، أناني، غير عادل. يقول علي: (البخل جامع لمساوئ العيوب).

    ويطول بنا الحديث ويتّسع إذا نحن شئنا أن نورد تفاصيل مذهب ابن أبي طالب في الأخلاق وتهذيب النفس، فهي كثيرةٌ لم تترك حركةً من حركات الإنسان إلاّ صوّرتْها ووجّهتْها. وإذا قلتُ إن مثل هذا العمل طويلٌ واسعٌ شاقّ فإنّي أعني ما أقول. وما على القارئ إلاّ أن يطّلع على الروائع التي أخذناها من أدب ابن أبي طالب في هذا الكتاب، حتى يثق بأنّ المجلّدات قد تضيق عن دراسة مذهبه في الأخلاق وتهذيب النفس، وعمّا تستوجبه هذه المختارات من شرحٍ وتعليق. ويكفي أن نشير إلى أنّ هذه الروائع العلويّة من أشرف ما في تراث الإنسان، ومن أعظمه اتّساعاً وعمقاً.

    على أنه لابد لنا الآن من التلميح إلى آية الآيات في التهذيب العظيم بوصْفه إحساساً عميقاً بقيمة الحياة وكرامة النفس وكمال الوجود. وإنّ نفراً قليلاً من المتفوّقين كبوذا والمسيح وبتهوفن وأشباههم هم الذين أدركوا أنّ آية التهذيب إنّما تكون في الدرجة الأولى بين الإنسان ونفسه. ولا تكون بين الإنسان وما هو خارجٌ عنه إلاّ انبثاقاً بديهيّاً طبيعيّاً عن الحالة الأولى. وقد أدرك ابنُ أبي طالب هذه الحقيقة إدراكاً قويّاً واضحاً لا غموضَ فيه ولا إبهام. وعبّر عنها تعبيراً جامعاً. يقول عليّ في ضرورة احترام الإنسان نفسَه وأعماله دون أن يكون عليه رقيب: (اتَّقوا المعاصي في الخلوات). ويقول في المعنى ذاته: (إيّاك وكلّ عملٍ في السرّ يُستحى منه في العلانية. وإيّاك وكلّ عملٍ إذا ذُكر لصاحبه أنكره). وإليك ما يقوله في الرابطة بين السرّ والعلانية، أو بين ما أسميناه (آية التهذيب) وما أسميناه (انبثاقاً) عنها: (مَن أصلح سريرتَه أصلح الله علانيّته).

    ومن بدائع حكيم الصين كنفوشيوس في تهذيب النفس هذه الكلمة: (كلْ على مائدتك كأنك تأكل على مائدة ملك). وجليٌّ أنه يريد منك أن تحترم نفسك احتراماً مطلقاً غير مرهون بظرف أو مناسبة، حتى ليجدر بك أن تتصرف حين تخلو إلى نفسك كما تتصرف وأنت بين يدي ملك. ومثل هذا المعنى يقوله علي بن أبي طالب على هيئة جديدة: (ليتزيّنْ أحدكم لأخيه كما يتزيّن للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة!).

    وهو يريدك في كلِّ حال أن تعظ أخاك لتعينه في الانتقال من حَسَنٍ إلى أحسن في الخلق والذوق والمسلك. ولكنّ روح التهذيب الأصيل يأبى عليك أن تجرحه أو تؤذيه بنُصحه علناً، بل إنّ هذا الروح يقضي عليك أن تكون ليّناً رفيقاً فلا تنصح إلاّ خفيةً ولا تعِظ إلاّ سراً. يقول علي: (مَن وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومَن وعظَه علانيةً فقد شأنه).

    وأيّةً كانت حالك فعليك أن تصدق مع نفسك والحياة والناس. فبهذا الصدق تحيى وبغيره تهلك. وبه تحفظ سلامةَ روحك وقلبك وجسدك. وبغيره تفقدها. وبالصدق تُحِبّ وتُحَبّ ويوثَق بك، وبغيره تجلب لنفسك المقْتَ والكراهية والسّيئاتِ جميعاً وير ذلك الناس تافهاً حقيراً. وهذا الصدق عهدٌ منك وعليك لأنه إرادة الحياة القادرة الغلاّبة وهي إرادةٌ تقضي عليك بأنّ تنظر في عهدك كلّ يوم. وابنُ أبي طالبٍ يقول: (على كلّ إنسان أن ينظر كلّ يومٍ في عهده!).

    [align=left]جورج جرداق[/align]

  9. #24
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]
    خير الوجود وثورية الحياة
    [/align]


    لَشَدَّ ما رأيناه يجعل ثوريّةَ الحياة كُلاًّ من خير الوجود، وخيرَ الوجود كِّلاًّ من ثورية الحياة!

    وقالت الثورة: أنا الهادمة البانية!

    وليس من حقّ الوجود العادل إلاّ أن يكون خيّراً كريماً. وليس من طبيعته إلاّ العطاءُ. وهو لا يأخذ ما يعطيه إلاّ ليعودَ إلى بذْلِه طيّباً جديداً. وخيرُ الوجود كيانٌ من كيانه وجوهرٌ من جوهرِه. وعهْدُ عليٍّ به هو هذا العهد. وإحساسُه بخيره هو إحساسه بعدْله لا يقلّ ولا يزيد. وعلى ذلك تَحَدّث عن هذا الخير فأكثر الحديثَ وقد روينا من أقواله في خير الوجود شيئاً غيرَ قليل. ولعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة قالها وكأنّه يوجز بها مذهبَه المؤمنَ بخير الوجود: (وليس الله بما سُئل بأجودَ منه بما لم يُسألْ). فإذا عرفنا أنّ لفظة (الله) تعني في أقصى ما تعينه عند القدماء من أصحاب الأصالة الذهنية والروحية: مركزَ الوجودِ والروابطِ الكونية، عرفْنا أيّ خير شامل عميم هو خير الوجود الذي يمنحك ما تسألُ ضمن شروطٍ، ثمّ يعطيك فوق ما تسأل، ثمّ يزيد!

    ولمّا كان الإنسان الذي يحسب أنّه جرمٌ صغير، ممثّلاً لهذا العالم الأكبر على ما يقول ابنُ أبي طالب، فلابدّ أن يكون هو أيضاً صورةَ عن الوجود بخيره كما هو صورةٌ عنه بعدله. فإذا أعطاك الوجودُ فوقَ ما تسأله من خيره، يكون قد بَدَأك لحاجةٍ في طبيعته إلى أن يكون خيّراً. وإذا كنتَ صورةً عنه، فأنتَ أحْوَج إلى اصطناع الخير من أهل الحاجة إليه. وهذا ما يؤكّده عليّ بقوله هذا: (أهل المعروف إلى اصطناعه أحوَجُ من أهل الحاجة إليه!) وهذا ما يؤكّده أيضاً في عبارةٍ يرجع إليها كلّما تحدّث عن اصطناع الخير بين الناس: (والفضل في ذلك للبادئ).

    وإذ ننتقل إلى النظر في الخير ومعناه على صعيد العلاقات بين الناس، أمكننا أن نُجريَ آراء ابن أبي طالب في المجاري التالية:


    • أولاً، الخير بين الناس يكمن في أن يتعاونوا ويتساندوا، وأنْ يعمل واحدُهم من أجل نفسه والآخرين سواءٌ بسواء، وألاّ يكون في هذا العمل رياءٌ من جانب هذا ولا إكراهٌ من جانب ذاك لكي (يُعمَل في الرغبة لا في الرهبة) على حدّ ما يقول عليّ، ثم أن يضحّي بالقليل والكثير توفيراً لراحة الآخرين واطمئنان الخلق بعضهم إلى بعض، وأن تأتي هذه التضحية مبادرةً لا بعد سؤال ولا بعد قسرٍ وإجبار. وكلّ ما من شأنه أن ينفع ويفيد، سواءٌ أكان ذلك على صعيدٍ مادّي أو روحيّ، كان خيراً.


    • ثانياً: يرى عليٌّ الخير لا يأتي إلاّ عملاً أولاً، ثم قولاً، لأن الإنسان يجب أن يكون واحداً كالوجود الواحد، وأن يساند بعضُه بعضاً وفاءً لهذه القاعدة، فإن قال فعل، وإن فعل قال. ومن روائع ابن أبي طالب كلمةٌ قالها في رجلٍ يرجو الله في أمرٍ ولا يعمل من أجل هذا الرجاء: (يدّعي بزعمه أنّه يرجو الله! كذبٌ والعظيم! ما باله لا يتبيّن رجاءه في عمله، فكلّ مَن رجا عُرف رجاؤه في عمله!) أمّا إذا عملتَ خيراً، فمن حقك عند ذاك أن تقول خيراً: (قلْ خيراً وافعلْ خيراً!).


    • ثالثاً، يفسح عليّ في المجال أمام قوى الخير لأن تنطلق أبعدَ ما يكون الانطلاق، وذلك بأن يجعل قبولَ التوبة عن الشرّ قاعدة يُعمل بها. فإذا أثِمَ المرء مسيئاً إلى الآخرين، فإنّ في التوبة باباً يلجه من جديد إلى عالَم الخير إذا شاء. يقول عليّ: (اقبل عذر من اعتذر إليك، وأخّر الشرّ ما استطعت). ويعرف التاريخ مقدار الإساءة التي لحقتْ بعليّ عن طريق أبي موسى الأشعري، ويعرف كذلك أنّ علياً لا ينزع إلاّ عن مذهبه أيّةً كانت الظروف والصعوبات، لذلك نراه يبعث إلى أبي موسى قائلاً: (أمّا بعد، فإنّك امرئٌ ضلّلك الهوى، واستدرجك الغرور، فاستقلِ اللهَ يقِلْك عثْرتَك، فإنّ من استقال الله أقاله!).


    • رابعاً: يؤمن علي بأن قوى الخير في الإنسان تتداعى ويشدّ بعضها بعضاً شدّاً مكيناً. فإذا وُجد في إنسان جانبٌ من الخير فلابد من ارتباطه بجوانب أخرى منه، ولابدّ من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات. وفي هذه النظرة إشارةٌ صريحة إلى أنّ الوجود واحد متكافئٌ عادلٌ خيّرٌ سواءٌ أكان وجوداً عامّاً كبيراً، أو وجوداً خاصّاً مصغّراً يتمثّل بالإنسان: (إذا كان في رجلٍ خلّةٌ رائقة فانتظروا أخواتها!).


    • خامساً، ومثل هذه العدوى الخيّرة بين الخلال الرائقة، عدوى مماثلة تنتقل من الخير إلى الشر بين الناس والناس: (جالس أهل الخير تكن منهم!) و(اطلبوا الخيرَ وأهلَه).


    • سادساً، الإيمان العميق بأنّ في طاقة الإنسان أيّاً كان أن ينهج نهج الخير، وأنّه ليس من إنسان أجدر من إنسانٍ آخر بهذا النهج: (ولا يقولَنّ أحدُكم إنّ أحداً أولى بفعل الخير منّي!).


    • سابعاً: على المرء ألاّ يستكثر من فعل الخير كثيراً. بل إنّ ما يفعله من خير يظلّ قليلاً مهما كان كثيراً لأنّ في الاكتفاء بقدرٍ من الخير جحوداً بخير الوجود العظيم وإنكاراً لطاقة الإنسان الذي ينطوي فيه العالم الأكبر. يقول عليّ في أهل الخير: (ولا يرضَون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون (1)).


    • ثامناً، لابدّ من الإشارة إلى النظرة العميقة التي يلقيها عليٌّ على مفاهيم النزوع الإنساني إلى ما يجعل الناسَ، كلّ الناس، في نعيم.

    فإذا نحن نظرنا في آثار معظم المفكرين الذين أعاروا شؤونَ الناس اهتمامَهم، رأينا أنّ لفظة (السعادة) هي التي تتردّد في هذه الآثار، وأنّ مدلول هذه اللفظة إنّما، هو بالذات، مدار أبحاثهم وغاية ما يريدون. أمّا عليّ فقد استبدل بلفظة (السعادة) هذه ما هو أبعدُ مدىً، وأعمق معنى، وأرحبُ أفقاً، وأجلّ شأناً في ما يجب أن تتصف به الطبيعة الإنسانية وتصبو إليه. لقد استبدل بـ(السعادة) هذه، لفظة (الخير) فما كان يوجّه القلوبَ إليها بل إليه. لأنّ في السعادة ما هو محصورٌ في نطاق الفرد، ولأنّ الخير ليس بمحصور في مثل هذا النطاق. فالخير إذَن أعظم! ثمّ إنّ الخير يحتوي السعادة ولا تحتويه، فهو أشمَل! أضِفْ إلى ذلك أنّ بعض الناس قد يسعدون بما لا يشرّف الإنسان، وأنّهم قد يسعدون بما يؤذي الآخرين، وأنّم قد يَتْفَهون ويترهَلون وهم يحسبون أنّهم بذلك سعداء. أما الخير فهو غير السعادة إذ يكون معدنها هذا المعدن. فهو السعادةُ منُوطةٌ بسعادة الناس جميعاً. وهو الرضى عن أحوال الجسد والعقل والضمير! لذلك أكثر عليٌّ من استخدام هذا اللفظ في دعوته الحارّة إلى كلّ ما يرفع من شأن الإنسان!

    ولم أعثر في آثار ابن أبي طالب على لفظة (السعادة) إلاّ مرةً واحدة. ولكنه لا يخرج بمعناها الذي يقصد عن مفهوم الخير بما يُحمّلها من حدوده ومعانيه. أمّا العبادة التي وردتْ فيها لفظة (السعادة) فهي هذه: (مِن سعادة الرجل أنْ تكون زوجته صالحة وأولاده أبراراً وإخوانه شرفاء وجيرانه صالحين ورزقه في بلده). فانظر كيف ربط سعادة المرء بسعادة المحيطين به من أفراد عائلته ثم بسعادة إخوانه وجيرانه جميعاً. بعد ذلك ناط سعادة هذا الرجل بسعادة بلاده مستنداً إلى أنها بلادٌ تُنتج الرزقَ لجميع أبنائها وهو واحدٌ منهم!.


    • تاسعاً: إنّ خير الوجود وخير الإنسان يستلزمان، بالضرورة، الثقةَ بالضمير الإنسانيّ ثقةً تجعله حَكَماً أخيراً في ما يضرّ وينفع. ولنا في هذا الموضوع رأيٌ نُفصّله نقول:

    من روائع ابن أبي طالب ما يخاطب به العقلَ وحده. ومنها ما يخاطب به الضمير، وأكثرها ممّا يتوجه به إلى العقل والضمير مجتمعين. أماّ تلك التي يخاطب بها العقلَ، فقلْ إنّها الغاية في الأصالة، وإنّها نتيجةٌ محتومة لنشاط العقل الذي لاحظ ودقّق وتمرّس بخير الزمان وشرّه، وعرف من التجارب كلّ ما يكشف له عن الحقائق ويجليّها، فإذا هي مصوغةٌ على قواعدَ هندسيّة ذات حدود وأبعاد لشدّة ما ترتبط بالحقائق، ومُظْهَرةٌ في أروع إطار فنّي لشدّة ما ترتبط بالجماليّة التعبيرية، مما يجعلها، من حيث المادة والشكل، في أصول الأدب الكلاسيكي العربي.

    وفي هذا النوع من الحِكَم الموجّهة إلى العقل، نرى عليّاً يصوّر تاركاً للناس أن يحكموا بما يرون. فيأخذوا إذا شاءوا أو يتركوا. لذلك لا نرى في هذا النوع من الحِكَم صيَغَ الطلب. إنّما نرى حِكَماً صيغتْ بقالبٍ خبريٍّ خالصٍ جُرّد من صُوَر الأمر والنهي جميعاً. حِكَماً تتبلور فيها طبائع الصديق والعدوّ، والمحسن والمسيء، والأحمق والعاقل، والبخيل والكريم، والصادق والمنافق، والظالم والمظلوم، والمعوِز والمتخَم، وصاحب الحقّ وصاحب الباطل، ومفهوم الخلق السليم والخلق السقيم، وشؤون الجاهل والعالم، والناطق والصامت، والأرعن والحليم، وصفات الطامع والقانع، وأحوال العُسْر واليُسر، وتقلبّات الزمان وما لها من أثرٍ في أخلاق الرجال، وما إلى ذلك من أمورٍ لا تُحصى في فصلٍ أو باب.

    أما تلك التي يخاطب بها الضمير، والعقلَ والضميرَ مجتمعين، فإليكَ ما هي وما حولها:

    من الثابت أنّ الذين رأوا في الأنظمة والتشريعات وحدَها سلامةَ الإنسان وكفايةَ المجتمع، قد أخطأوا خطأً عظيماً. فإن هذه الأنظمة والتشريعات التي تعلن عن حقوق الإنسان وتأمر برعايتها والمحافظة عليها، لا يضبطها في النتيجة، كما لا يُخلص في اكتشافها وابتداعها، إلاّ عقلٌ سليم ونفسٌ مهذّبة وضميرٌ راقٍ. فإنّ دنيا الناس هذه يرتبط كلّ ما فيها، ضمنَ حدودٍ معيّنةٍ طبعاً، بأخلاق القيّمين على دساتيرها وأنظمتها، وبمدى الخير الذي يتّسع في نفوسهم أو يضيق، بقدر ما يرتبط بضمير الجماعة التي تؤلّف ميدان هذه الأنظمة والدساتير وتبرر وجودَها. هذا، مع الاعتراف بأنّ الأنظمة الاجتماعية الحديثة تتفاوت تفاوتاً عظيماً في سماحها للقيّمين عليها بمسايرتها أو بالخروج عليها. وذلك بحكم طبيعتها وبنسبة ما تحويه أصولها من إمكانات التنفيذ. أمّا الأنظمة والدساتير القديمة، فقد كانت أكثر تأثُّراً بأخلاق القيّمين عليها المشرفين على إقامة ما تقتضيه من حدود. ولذلك أسبابٌ ليست من موضوع حديثنا هذا.

    وبالرغم من أنّ الأنظمة والتشريعات الصالحة من شأنها أن توجّه الناس وتفرض عليهم ما يؤدي إلى نفعهم فرضاً، فإنّ هذا التوجيه وهذا الفرض يظلاّن خارج حدود القيمة الإنسانية إن لم يوافقهما العملُ النابع من الوجدان بالذات. وفي مذهبنا أنّ كلّ عملٍ يأتيه الإنسان لابدّ أنه فاقدٌ الدفء الإنساني، وهو أثمنُ وأعظم ما يوافق الصنيعَ الإنساني، إن لم يحمل وهجَ الضمير وعبقَ النفس وإرادة العطاء على غير قسْرٍ وإكراه. ولا تنجح الأنظمة والتشريعات في إقامة العلاقات الإنسانية إلاّ بمقدار ما يمكنها أنْ تتوجّه إلى العقل والضمير فتقنعهما بالخير، فتخلق الانسجام الرائع بين إتاحة الفرصة للعمل النافع وإرادة العامل في وحدةٍ تكفل للفرد وللجماعة الصعودَ في طريق الحضارة.

    وما يصدقُ، بهذا الصدَد، في نطاق الأفراد والجماعات، يصدُق كذلك في تاريخ المفكّرين والمشترعين والعلماء والمكتشفين ومَن إليهم. فإنك لترى، إذا أنتَ استعرضتَ تاريخ هؤلاء الذين خدموا الإنسان والحضارة، أنّ العقل الذي دَلّهم على الطريق الصحيح في كلّ ميدان، لم يكن وحده في تاريخهم. فالعقل بارد، جافّ، لا يتعرف إلاّ إلى الأرقام والأقسام والوجوه ذات الحدود. فهو لذلك يدلّك على الطريق ولكنّه لا يشدّك إلى سلوكه ولا يدفعك في سهله ووعره. أما الدافع، فالضمير السليم والعاطفة الحارة. فما الذي حمل ماركوني على العزلة القاسية والانفراد الموحش الكئيب، إن لم يكن الضمير الذي يحسّن له الانصراف عن مباهج الحياة إلى كآبة الوحدة في سبيل الحضارة والإنسان؟ وإن لم يكن العاطفة التي تغمر هذا الضميرَ السليم بالحرارة والدفء فلا يفترُ أبداً.

    وما يقال في ماركوني يقال في باستور، وغاليليو، وغاندي، وبتهوفن، وبوذا، وأفلاطون، وغيتي، وفي غيرهم من أصحاب المركّب الإنساني القريب من الكمال.

    والدليل الإيجابي على هذه الحقيقة يستتبع دليلاً سلبياً لزيادة الإيضاح. فهذا ادولف هتلر، وجانكيزخان، وهولاكو، والحجاج بن يوسف الثقفي، وقيصر بورجيا بطل كتاب (الأمير) المشؤوم لمكيافيللي (2)، وبعض علماء الذرة المعاصرين الذين يوافقون على تجربتها على الآدميين، ألم يتميز هؤلاء جميعاً بعقول واسعة ومدارك قد تهون أمامها مدارك الآخرين؟ ومع ذلك، فما كان من شأنهم إلا التقتيل والتدمير والاعتداء على مقدسات الحضارة ومخلّفات الجهود الإنسانية، وعلى كرامة الحياة والأحياء وخير الوجود! ذلك أن عقولهم لم تواكبها الضمائر السليمة والعواطف الكريمة! فحيث لا ضمير ولا عاطفة، لا نفع من العقل، بل قل إنه إلى المضرّة أقرب.

    ولا أريد هنا التفصيلَ بين مختلف قوى الإنسان من عاطفة وضميرٍ وعقلٍ وما إليها، فهي ولا شكّ تتفاعل وتتعاون. غير أن ما أردتُه بالعقل هو القوّة التي تعقل الأمور على صعيدٍ يربط السببَ بالنتيجة ويُحْكم بين العلّة والمعلول، فيدور في نطاقٍ من الأرقام والحدود التي لا تتأثّر، بحدّ ذاتها، بالبيئة الإنسانية الخاصّة والعامّة. وعلى هذا الضوء أجزتُ هذا التفصيل.

    إذن، فالعقل المكتشف لابدّ لصاحبه من ضميرٍ وعاطفة يدفعانه في طريق الخير. وما يصحّ بهذا الشأن في المشترع يصحّ في المشترع له. فالأفراد الذين يُطلَب إليهم أن يسيروا على هذا النظام الخيّر أو ذاك، لابدّ لهم من اقتناعٍ وجدانيّ، إلى جانب الاقتناع العقلي المجرّد، يدفعهم في طريق التهذيب الإنسانيّ الرفيع، لبناء المجتمع الصالح. لابدّ لهم من التمرّس بالفضائل الأخلاقية التي تحيط الأنظمة والتشريعات بحصونٍ رفيعةٍ منيعة. لابدّ لهم من أن يكونوا خيّرين!

    لذلك راح عليّ يحرّك في الأفراد عواطف الخير على ما رأينا، ويوقظ فيهم ما غشّتْه الأيامُ من الضمائر السليمة. ويعمل على إنمائها وينصح برعايتها.

    توجّه علي إلى الضمائر بتوصياته وخطبه وعهوده وأقواله جميعاً. لأنه لم يفتْه أنّ لتهذيب الخلق شأناً في رعاية النظم العادلة، وفي بثّ الحرارة في المعاملات بين الناس. ولم يفْته كذلك، أن هذا التهذيب يُطلب لذاته بما هو من القيم الإنسانية، كما يُطلب لحماية العدالة الاجتماعية وسُنَنها بما هو ضبطٌ لنوازعَ وتوجيهٌ لأخرى. وقد ساعده في ذلك ما أوتي من مقدرة خارقة ينفذ بها إلى أعماق الناس أفراداً وجماعات، فيدرك ميولهم وأهواءهم، ويعرف طباعهم وأخلاقهم، فيزن خيرَها وشرَّها، ثم يصوّر، ويطوّر، ويأمر وينهى، على ضوء ثقته الراسخة بالضمير الإنساني الذي يتوجه إليه.

    كانت ثقة ابن أبي طالب بالضمير الإنساني ثقة العظماء الذين تآلفَ فيهم العقل النيّر والقلب الزاخر بالدفء الإنساني، النابض بالحب العميق الذي لا يعرف حدوداً.

    كانت ثقته بهذا الضمير ثقةَ بوذا وبتهوفن وروسّو وغاندي وسائر العظماء الذين مدّهم القلبُ بنور يخبو لديه كلّ نور. وعلى أساس هذه الثقة أرسى ابنُ أبي طالب حِكمَه وأمثاله، وعلى أساسها تترابط الأفكار والتوجيهات التي يخاطب بها وجدانات الناس.

    وإذا كان للإمام علي مثلُ هذه الثقة بنواحي الخير في الناس، على ما مُني به على أيديهم من نكبات وفواجع، فإنه يأبى إلاّ أنْ يلقي بذور هذه الثقة في قلوبهم جميعاً. فهو يعرف (أنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وكذباً وصدقاً). ولكنّ الأولى بالمرء أن يفتح عينيه وقلبه على نواحي الخير هذه، فلعلّها هي التي تنمو دون نواحي الشر. ولعلّ التعليم بالمثَل والسيرة يكون أجلّ وأجدى. وقد طالما كرّر عليّ وصاياه بضرورة هذه الثقة بالضمير الإنساني، وفي جملة ما يقوله: (مَن ظنّ بك خيراً فصدّق ظنه). ويقول في مكان آخر: (لا تظننّ بكلمةٍ خرجتْ من أحدٍ سوءً وأنت تجد لها في الخير محتَملاً) و(ليس من العدل القضاءُ بالظنّ على الثقة) و(وإذا استولى الصلاحُ على الزمان وأهلهِ ثمّ أساء رجلٌ الظنَّ برجلٍ لم تظهر منه خَزْيةٌ، فقد ظلم) و(أسوأ الناس حالاً مَن لم يثق بأحدٍ لسوء ظنّه، ولم يثق به أحدٌ لسوء فعله!).

    وقد أخطأ دارسو الإمام علي ساعة رأوا أنه متشائمٌ بالناس شديد التشاؤم، متبرّمٌ بهم كثير التبرّم. وساعة احتجّوا لرأيهم ذا بأقوال له يهاجم بها أبناء زمانه بشدّةٍ وعنف. أمّا رأينا نحن فعلى العكس من ذلك تماماً. رأينا أنّ علياً لم ينقضْ ثقتَه بالإنسان ساعةً واحدة وإنّ نقَضَها ببعض الناس في بعض الظروف. فمَن عرف طاقة ابن أبي طالب على احتمال المكاره تأتيه من الناس، وجلَدَه العجيب في مقاساة الأهوال الناجمة عن الغدر والخيانة والفجور في الكثير من خصومه وأنصاره، ثم ما كان من أموره معهم جميعاً إذ يأخذهم بالرفق والعطف ما أمكنه أنْ يرفق وأنْ يعطف؛ أقول: مَن عرف ذلك أدرك أنّ عليّاً عظيم التفاؤل بحقيقة الإنسان، وبفطرته التي أضلّها المجتمع في بعض أحواله. لا يختلف في ذلك عن أخيه روسّو.

    وإذا كان له في ذمّ أهل الخيانة والغدر والظلم قولٌ كثير، فما ذاك إلاّ لأنه يعترف، ضمناً، أنّ الإنسان ممكناً إصلاحُه ولو طال على ذلك الزمن. فإنّ المتفائل وحده هو الذي يزجر المسيء كما يُثيب المحسن أملاً منه بتقويم الاعوجاج في الخلق والمسلك. ولو لم يكن لابن أبي طالب مثل هذا الأمل، لمَا استطاع احتمال ما لا يُحْتَمَل من مكاره الدهر التي جرّها عليه المسيئون، ولما صبر على ما يكره! وهو إن قال في الدنيا وأهلها: (فإنّما أهلها كلابٌ عاوية وسباعٌ ضارية، يهرّ بعضُها بعضاً، ويأكل عزيزُها ذليلَها، ويقهر كبيرُها صغيرها)، فإنّما يقول ذلك لأنه قاسى من غدر الغادرين وفجور الفاجرين ما آلمه وآذاه. فوبّخهم هذا التوبيخَ الموجع إيثاراً منه لمن لا يفجر ولا يغدر ولا يكون كلباً عاوياً ولا سبعاً ضارياً ولا عزيزاً يأكل ذليلاً أو كبيراً يقهر صغيراً! يقول ذلك ثم يحارب السبع الضاري والعزيز الظالم والكبير الجائر كما يحارب الطبيبُ الجراثيم إيثاراً منه لسلامة البدن والروح، بل إيثاراً منه للحياة على الموت، وتفاؤلاً بحسن النجاة!

    إذن، فالإمام عليّ، وهو الذي يحترم الحياة: أعظم ما خلق الله، ويحترم الناس الأحياء: أجمل نماذج هذه الحياة، عظيمُ الثقة بالخير الإنساني. عظيم التفاؤل بالإنسان يريده حرّاً كما يجب أن يكون!

    ولولا هذه الثقة وهذا التفاؤل لمَا كان من أمره مع الناس ما كان، ولمَا قال: (لا تظنّنّ بكلمةٍ خرجتْ من أحدٍ سوءً وأنت تجد لها في الخير مُحْتَمَلاً!) ثمّ لمَا تَوجّه إلى الضمير الفرديّ والجماعي بوصاياه التي تجمع عمق الفهم وحرارة العاطفة إلى سموّ الغاية ونبل المقصد. هذه الوصايا التي أرادها حصناً منيعاً للأخلاق العامّة، والعاطفة الإنسانية، وتركيز العمل النافع على أسس الإيجابية في العقل والضمير. واستناداً إلى هذه الثقة بالضمير الإنساني، وتحصيناً للعمل الخيّر الشريف، نراه يقيم على الناس أرصاداً من أنفسهم وعيوناً من جوارحهم فيخاطبهم قائلاً: (اعلموا أن عليكم رَصَداً من أنفسكم وعيوناً من جوارحكم وحُفّاظَ صدقٍ يحفظون أعمالكم وعدد أنفساكم!).

    ***

    واستناداً إلى هذه الثقة بخير الوجود وعدله، وإلى عظمة الحياة والأحياء، يخاطب عليّ ابن أبي طالب أبناء زمانه بما يوقظهم على أنّ الحياة حرّةٌ لا تُطيق من القيود إلاّ ما كان سبباً في مجراها وواسطةً لبقائها وقبَساً من ضيائها وناموساً من نواميسها. وأنّها لا يطيب لها البقاء في مهد الأمس. فعليهم ألاّ يحاولوا غلّها وتقييدها وإلاّ أسِنتْ وانقلبت إلى فناء. فالحياة جميلة، كريمة، حرّة، خيّر كالوجود أبيها، تحفظ نفسها بقوانينها الثابتة لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين.

    وهي متجدّدة أبداً، متطوّرة أبداً، لا ترضى عن تجدّدها وتطوّرها بديلاً وهما أسلوب تنهجه في فتوحاتها التي تستهدف خيراً أكثر وبقاءً أصلح. وملاحظةُ ابن أبي طالب الدقيقة العميقة للحياة ونواميسها وهي أعظم موجودات الوجود الخيّر، مكّنتْ في نفسه الإيمانَ بثوريّة الحياة المتطلّعة أبداً إلى الأمام، المتحرّكة أبداً في اتّجاه الخير الأكثر. وثوريّة الحياة أصلُ تَحَرّكها وسببُ تطوّرِها من حسنٍ إلى أحسن. ولهذا كانت الحياة حرّةً غير مقيّدة إلاّ بشروطِ وجودها. وثوريّة الحياة أصلُ تحرّكِ المجتمع الإنساني وسببُ تطوّره. ولولا هذه الخاصّة لكانت الحياة شيئاً من الموت والأحياء أشياء من الجماد.

    آمن ابنُ أبي طالب بثوريّة الحياة إيماناً أشبه بالمعرفة، أو قُلْ هو المعرفة. فترتّب عليه إيمانٌ عظيمٌ بأنّ الأحياء يستطيعون أن يُصلحوا أنفسهم وذلك بأن يماشوا قوانين الحياة. ويستطيعون أن يكونوا أسياد مصائرهم وذلك بأن يخضعوا لعبقريّة الحياة. وقد سبق أنْ قلنا في حديثٍ مضى إنّ ثوريّة الحياة ألصقُ مزايا الحياة بها وأعظمها دلالةً على إمكاناتها العظيمة. وهي تستلزم من المؤمنين بها أن يعملوا على أساسٍ من الثقة المطلقة بالتطوّر المحتوم، وأن ينبّهوا الخواطر إليه، وأن يستخدموا الدليلَ والبرهان في زجْر المحافظين عن كلّ تصرّفٍ غبيٍّ يتوهّم أصحابه أنّهم يستطيعون الوقوف في وجه الحياة الثائرة المتطوّرة بثورتها.

    بهذه الثقة وبهذا الإيمان خاطب ابن أبي طالب الإنسانَ بقوله: (فإنك أوّلَ ما خُلقتَ جاهلاً ثمّ عُلِّمتَ، وما أكثر ما تجهلُ من الأمر، ويتحيّر فيه رأيك، ويضِلّ فيه بصرُك، ثم تُبصره بعد ذلك!) ففي هذا القول اعترافٌ بأنّ الحياة متطوّرة، وأنّ التعلّم إنّما هو الانتفاع بما تخزن الحياة من عبقريتها في صدور أبنائها، على ما قلنا سابقاً. وفيه إيمانٌ بالقابلية الإنسانية العظيمة للتقدّم، أو قُل للخير. وما دعوته الحارّة إلى المعرفة التي تكشف كلّ يومٍ عن جديد، وتبني كلّ يومٍ جديداً، إلاّ دليلٌ عن الإيمان بثوريّة الحياة الخيّرة وإمكانات الأحياء. فالمعرفة لديه كشفٌ وفتحٌ لا يهدآن.

    وهو بهذا الإيمان وهذه الثقة يخاطب أبناء زمانه يقول: (لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم). فلولا تفاؤله العظيم بأنّ في الحياة جمالاً، وبأنّ في الناس قابليّة التطوّر إلى الخير، لَما أطلق هذا القولَ الذي يوجز علمَه بثوريّة الحياة، ويوجز تفاؤلَه بإمكانات الإنسان المتطوّر مع الحياة، كما يوجز روحَ التربية الصحيحة، ويخلّص كلّ جيلٍ من الناس من أغلال العُرف والعادة إلى ارتضاها لنفسه جيلٌ سابق.

    ولابن أبي طالب في هذا المعنى قولٌ كثيرٌ منه هذه الآيات الخالدة التي يمجّد بها العملَ بوصْفِه حقيقةً وثورةً وخيراً: (مَن أبطأ به عملُه لم يُسرع به نَسَبُه) و(قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسنه) و(اعلموا أنّ الناس أبناء ما يُحسنون) و(لكلّ امرئٍ ما اكتسب).

    ومن أقواله ما يدفع به المرء إلى أن يطلب التقدّم بالعمل، وألاّ يُحجم أو يتراجع إذا هو أخفق كثيراً أو قليلاً، لأنّ الوجود الخيّر لا يحرم أبناءه ما يستحقّون. وإذا هو حرَمَهم فبعضَ الحرمان لا كلّه. وقد يُسَوّى الأمرُ في دفعةٍ ثانية من الطلب بواسطة العمل. ومن قوله في ذلك هذه الآية: (مَن طالب شيئاً ناله أو بعضه). وأظن أن القارئ فطن إلى روح هذه العبارة التي تتألق وكأنها انبثاقٌ عن كلمة المسيح الشهيرة: (اقرعوا اقرعوا يُفْتَحْ لكم).

    ولعلَّ أجمل ما في المذهب العلويّ بهذا الشأن، أنّ صاحبه كان يوحّد ثوريّة الحياة وخيرَ الوجود نصّاً كما كان يوحّدهما روحاً ومعنى. فَلَشَدّ ما نراه يوحِّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى خير الوجود توحيداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك، ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثوريّةَ الحياة كُلاًّ من خير الوجود، وخيرَ الوجود كُلاًّ من ثورية الحياة. وإن في آياته هذه لدليلاً كريماً على صحة ما نقول فليس فيها ما يحتاج إلى شرحٍ أو تعليق. وإليك نموذجاً عنها: (العاقلُ مَن كان يومه خيراً من أمسه) و(مَن كان غده شرّاً من يومه فهو محروم) و(مَن اعتدل يوماه فهو مغبون).

    ....................................
    الهوامش:

    1 - من أعمالهم مشفقون: خائفون من التقصير فيها.

    2 - مكيافيللي: نابغة إيطالي عاش في عصر الرسام العظيم رافاييل، وكان صديقاً له ومعيناً. وقد دفعه عقله الفذّ وخلقه الكريم إلى مهاجمة أساليب الظلم والبربرية عند حكام التاريخ، فألف كتابه الشهير (الأمير) الذي يصف فيه وقاحة أولئك الحكام، وشخصياتهم المبتذلة، بطريقة غير مباشرة إذ دفع إلى الناس صورة عن شخصية الأمير الذي يخلو من كل ضمير وكل عقل وكل ذوق ويلجأ لشتى وسائل العنف في التقتيل والترويع والتشريد وسائر الفظائع تثبيتاً لمركزه.. مشيراً إلى أن إمارات التاريخ والعصر الذي هم فيه إنما (تركزت) على هذا الأسلوب السمج. وقد أخذ مكيافيلي صفات (الأمير) في كتابه هذا من شخصية قيصر بورجيا ابن اسكندر بورجيا، صاحب المظالم المعروفة. ويطلق على المبدأ القائل باللجوء إلى هذا الأسلوب توسّلاً إلى الحكم ثم إلى تركيزه، اسم المكيافيلية، نسبة لمكيافيللي صاحب الكتاب.

    [align=left]جورج جرداق[/align]





  10. #25
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]
    مشكلة الفقر والغنى في نظر الإمام علي (عليه السلام)
    [/align]

    إن الفقر الذي هو عجز إنسان أو جماعة من الناس في المجتمع عن وجدان ما يوفر مستوى الكفاية في العيش - إن الفقر بهذا المعنى ظاهرة حار بها الإسلام في تشريعه ووصاياه كما سنرى ذلك فيما يأتي من أبحاث - واعتبرها شراً إنسانياً باعتباره يسبب حرمان الإنسان من أحد حقوقه الذي هو الكفاية في العيش، وشراً اجتماعياً باعتباره يعوق المجتمع عن التقدم المادي والمعنوي، واعتبر الإسلام أن المجتمع الأمثل الذي يسعى إلى تكوينه هو المجتمع الذي لا فقر فيه ولا فقراء.

    ومن هنا فإننا حين نستعمل كلمة (طبقات) في سياق الحديث عن الإسلام فإنما نقصد بذلك الفئات الاجتماعية، وليس الطبقات بالمعنى الذي شاع استعماله في الأدب السياسي في العصر الحاضر، وإنما حرصنا على استعمال كلمة طبقات لأنها وردت في كلام الإمام علي بمعنى فئات اجتماعية، ولم تكن في ذلك الحين قد تضمنت معناها الذي تعنيه الآن.

    ***

    لقد اعترف الإسلام كما اعترف الإمام بالطبقات الاجتماعية (الفئات) القائمة على أساس اقتصادي أو مهني أو عليهما معاً، وذلك لأن وجود هذه الطبقات (الفئات) ضرورة لا غنى عنها ولا مفر منها في المجتمع، فلابد أن يوجد تصنيف مهني يقوم بسدّ حاجات المجتمع المتجددة، ولابد أن يوجد أناس لديهم مال كثير وآخرون لا يملكون من المال إلاّ قليلاً لأن التحكم التام في توزيع الثروات على نحو متساوٍ أمر مستحيل إطلاقاً. وإذا اختلفت المهن وتفاوتت الثروات فلابد أن يختلف مستوى المعيشة ويتفاوت طراز الحياة المادي والنفسي وحينئذ توجد الطبقات.

    وقد رأينا أن التفاوت الطبقي يصير منبعاً للصراع الطبقي إذا جعل الاقتصاد مثلاً أعلى للحياة. وإذن، فالتفاوت الطبقي الناشئ عن التفاوت الاقتصادي خطر بقدر ما هو ضروري، وإذا لم يوضع للمجتمع نظام يذهب بالخطر من هذا التفاوت ويستبقي جانب الخير فيه فإنه خليق بأن يسبب للمجتمع بلبلة تقوده إلى الدمار.

    وهنا تتجلى عبقرية الإسلام وعبقرية الإمام.

    فقد تدارك الإسلام هذه الثغرة فسدها بنظام من القوانين عظيم، وجاء الإمام فوضع قيوداً أخرى تحول بين التفاوت في مستوى الدخل وبين أن يخلّف في المجتمع عقابيله الضارة، وآثاره الوبيلة.

    وعند الحديث عن التدابير الحكيمة التي وضعها الإسلام لوقاية المجتمع من شرور التفاوت في المستوى الاقتصادي يجيء الحديث عن المثل الأعلى للحياة في للإمام قبل كل حديث.

    وحديثنا عن المثل الأعلى للحياة في الإسلام يسوقنا إلى الحديث عن المثل الأعلى للحياة عند الإمام. وما نهج البلاغة إلا انعكاس الإسلام في نفس الإمام. ومن هنا كان الحديث عن أحدهما يلزمه الحديث عن الآخر كما تستهدى العين بخيوط الشعاع على مركز الإشراق.

    ***

    إن المثل الأعلى للحياة في الإسلام وعند الإمام هو التقوى. فقلّ أن ترد سورة في القرآن لم يرد فيها الأمر بالتقوى، تقوى الله. وقل أن ترد خطبة أو كلام في نهج البلاغة لم يرد فيه الأمر بالتقوى، تقوى الله. فالقرآن أمر بالتقوى، وفصلها، ومدح المتقين، والإمام أمر بالتقوى، ووصفها، ومدح المتقين.

    قال (عليه السلام):

    (أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم، وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله، فإن التقوى في اليوم الحرز والجُّنَّة (1) وفي غد الطريق إلى الجنة. مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ، لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين والغابرين، لحاجتهم إليها غداً.. فاهطعوا بأسماعكم إليها، وكظوا بجدكم عليها، واعتاضوها من كل سلف خلفاً) (2).

    وقال (عليه السلام):

    (أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله.. فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواء ظلمتكم.. فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعدد، نوها، واحلوّت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وسهلت له الصعاب بعد إنصابها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدّبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه الكرامة بعد إرذاذها) (3).

    وقال (عليه السلام):

    (.. فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب) (4).

    ولكن ما هي التقوى؟

    إن الإمام (عليه السلام) يتعرض لوصف التقوى من داخل إذا صح التعبير. انه اكتفى - على كثرة ما قاله فيها - بوصفها من خارج : ميزاتها، وفضلها، وثمرتها، وأصحابها، أما هي بذاتها: مقوماتها، طبيعتها، فأمر لم يتعرض له الإمام (عليه السلام) وإنما تعرض له القرآن.

    ولعل الإمام ترك الكلام في هذه الجهة اعتماداً على ما جاء في القرآن، واعتماداً على أن المسلمين إذ ذاك كانوا ولا شك يعون ما هي التقوى، فاكتفى بتشويقهم إلى الأخذ بها والاعتصام بحبلها. أو أن الإمام قد تكلم في هذا الموضوع وأعطاه حقه من البيان ولكن الشريف (رحمه الله) لم يقع على شيء منه، أو وقع عليه ولم يكن بين ما اختاره. وعلى أي حال ففيما قدمه لنا القرآن غنى وكفاية.

    قال الله تعالى:

    (..ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (5).

    وقال تعالى:

    (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (6).

    وقال تعالى:

    (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَماوَات وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (7).

    وقال الله تعالى:

    (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (8).

    وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: جماع التقوى في قوله تعالى:

    (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (9).

    من هذه النصوص الإلهية، وغيرها أكثر منها، نعرف طبيعة التقوى: إنها الفضيلة في أرفع معانيها وأجلّ صورها.

    إنها الإيمان بالله في أطهر حالاته وأسمى معانيه.

    وبذل المال لمن أعوزه المال... ولكن كيف..؟ إنها بذل المال على حبه.. حب الله تعالى، فلا امتنان على المعطى ولا إفضال، ومتى؟ إنها بذله في السراء والضراء.

    وهي الصبر في جميع المواطن وفي جميع الأحوال. وهي كظم الغيظ، وهي العفو عن الناس، وهي العدل فيهم والإحسان إليهم إلى غير ذلك من حميد الأخلاق وجميل الخصال.

    هذه هي التقوى. فإذا حققت التقوى في نفسك: وعيت وجود الله وأمره ونهيه في كل ما تلمُّ به من فعل أو قول، وتحريت الفضيلة أنى كانت فأخذت بها وأخضعت نفسك لها، وجعلت من نفسك وجميع إمكاناتك خلية إنسانية حية، تعمل بحرارة وإخلاص على رفع مستوى الكيان الاجتماعي الذي تضطرب فيه، وصدرت في ذلك كله عن إرادة الله المتجلية فيما شرع من أحكام، تكون قد حققت في نفسك المثل الأعلى الذي نصبه الإسلام.

    فالمال لا يكسب قيمة إلاّ إذا بذل حيث أجاز الله أن يبذل، وإلا إذا اتخذ وسيلة إلى رضوان الله. أما أولئك الذين لا يبذلون أموالهم فلا جدوى منهم للجماعة، ولذلك فلا مزية لهم على غيرهم من الناس الذين لا مال لهم.

    والسلالة لا قيمة لها حين لا يكون صاحبها متقياً لله.

    والقوة لا قيمة لها حين لا يستخدمها صاحبها في مرضاة الله.

    والسلطان لا يكسب صاحبة قيمة إلا إذا كان ذا تقوى.

    هناك أغنياء وفقراء، وحاكمون ومحكومون، وأقوياء وضعفاء، وأناس تحدروا من سلالات لها ماض عريق وآخرون ليس لهم ماض مذكور، ولكن كل هذا لا يرفع من صاحبه ولا يضع إلا إذا اقترن بالتقوى أو عري عنها. وتعاليم الإسلام صريحة في ذلك لا لبس فيها ولا غموض، فهي تنص على أن القطب الذي يدور عليه التفاضل ليس شيئاً غير التقوى.

    قال الله تعالى:

    (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (10).

    وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى).

    وقال الإمام (عليه السلام): (لا تضعوا من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا) (11).

    وإذن، فالقيم الاجتماعية تتفرع عن هذا الأصل، وتنبثق من هذا الينبوع.

    وهكذا تكون الرغبة في الخير، ورضوان الله، ومساعدة الضعفاء، وتكريس المواهب في سبيل الجماعة تقرباً إلى الله، هي رائد كل إنسان وعى مبادئ الإسلام. وهكذا يكون المجتمع متحاباً متراحماً متآزراً متعاوناً على البر والتقوى، بدل أن يكون في صراع يؤدي به إلى التفسخ والانحلال.

    هذا هو المثل الأعلى للحياة في الإسلام وعند الإمام.

    ***

    ولكن الإسلام حين جعل الفضيلة مصدر القيمة الاجتماعية، وأراد أتباعه أن يحملوا أنفسهم على هذا المركب، صوناً للمجتمع من أخطار التفاوت الطبقي لم يغفل أمر الواقع النفسي والشعوري للإنسان.

    فإن القوي الغني يتغنى بالفضيلة في كل آن، ولكنه عندما تستيقظ فيه نوازع العدوان يمضي في سبيل الشر دون أن يصغي إلى نداء فضيلة أو تقريع ضمير. وعندئذٍ تغدو الفضيلة ضلالاً أثر له في صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي.

    لذلك لم يكل أمر تحقيق القيمة العليا إلى الإنسان وحده، وإنما جعل لها سنداً من القانون، ليكون لها من القوة ما يجعل الأغنياء الأقوياء، وغير الأغنياء على التمسك بها. وكان من ذلك أن ساوى بين جميع الطبقات في الحقوق والواجبات، فالجميع سواء أمام الله، والجميع سواء أمام القانون، وجريمة الغني هي جريمة الفقير، وجريمة الرفيع هي جريمة الصعلوك، لا يمتهن هؤلاء لضعفهم ولا يحابى أولئك لشرفهم.

    وبهذا حال بين الطبقات العليا وبين أن تطغى وتعتز، لأنه أثبت لها أن الغنى والسلالة والماضي العريق لن تجدي شيئاً أمام القانون. وحال بين الطبقات السفلى وبين أن تشعر بالحيف والضعة والاستغلال، لأنه أثبت لها أن عدم الغنى وأن ضعة النسب لا تجعل من القانون لها عدواً، وإنما هي أدعى لأن تجعله أرفق بها، وأحنى عليها، وأرعى لشؤونها في السراء والضراء.

    ***

    وحين تحتد الفروق الاقتصادية، فتتسع وتعمق، تغيض منابع الفضيلة من المجتمع وتسوده نوازع الحيوان.

    فأنت لا تستطيع أن تطلب من جائع لا يجد القوت أن يصير فاضلاً، لأن الحرمان لا يدفع إلى الفضيلة وإنما يخلق تصورات الحرمان التي تدفع إلى التمرد والإجرام حين لا يجد المحروم اليد البارّة الوصول.

    إن الجائع الذي لا يجد ما يسد جوعته وإن خشن وهان، والعاري الذي يجد للريح مثل لسع السياط، وللشمس مثل مس الحميم، والمريض الذي لا يجد ثمن الدواء ولا الخلاص من اللأواء - هؤلاء لا يستطيعون أن يتغنوا بالفضيلة حين يرون الغني الكاسي الصحيح الذي لا يعرف معنى للجوع، فالفضيلة ليست طعاماً ولا كساء ولا دواء، إن هؤلاء ينقلبون إلى قتلة ومجرمين ولصوص حين لا يجدون ما يسدون به حاجاتهم الأولية من طريق مشروع.

    وهكذا يظهر إلى العيان الصراع الطبقي بالرغم من أن المثل الأعلى هو الفضيلة ومكارم الأخلاق.

    وعى الإسلام هذا الواقع فلم يكل أمر صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي إلى المثل الأعلى وحده، وإنما أولى الاقتصاد ما له من الأهمية في أمر الصيانة والعلاج.

    فشرع الله تعالى أحكاماً تحول دون تكوُّن الثروات بطريق غير عادل وغير مشروع وتحول بين أصحاب الثروات بعد أن تتكون لديهم الثروة بطريق مشروع وبين أن يستخدموها في استغلال الآخرين.

    وشرع نظاماً للضرائب (الزكاة، الخمس) والمواريث يفتت هذه الثروات تدريجياً، ويحول بينها وبين التراكم والتعاظم، وأعطى للحاكم حق وضع اليد على ما تقضي به المصلحة العامة من أموال الأغنياء إذا قضت بذلك حاجة طارئة تعجز عن الوفاء بها المصادر التقليدية لتمويل النفقات العامة.

    وشرع نظاماً للأموال العامة يغذّى من الضرائب ومصادر الثروة العامة، يضمن مستوى الكفاية في العيش لجميع الناس. وبذلك يحول بين المجتمع الإسلامي وبين أن توجد فيه ظاهرة الفقر بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي المعروف، وإن كان هذا لا يعني أن يتساوى الناس في دخلهم وفيما يملكون، لأن هذا أمر مستحيل في أي مجتمع يتخيله الإنسان على الإطلاق. ويدخل في باب الأحلام والتصورات الطوباوية التي تاباها واقعية الإسلام.

    وبذلك يشعر الفقراء أنهم ليسوا مهملين: لا عين ترعاهم، ولا يد تمسح جراحهم، وتقيلهم عثرات الزمان.. بل يشعرون أنهم ملء سمع المجتمع وبصره، فتختفي دوافع الإجرام من أنفسهم، وحينذاك يقول لهم الإسلام: إن المثل الأعلى هو الفضيلة، ويطلب إليهم أن يكونوا فضلاء... وأن يجعلوا الأرض أختاً للسماء.

    ***

    فقد وعى الإمام أن الإنسان الجائع، المستغل، المحروم، المصفد بالأغلال لا يستطيع أن يكون فاضلاً، وأن من اللغو أن يوعظ بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وإن إنساناً كهذا ينقلب كافراً: كافراً بالقيم، والفضائل والإنسان.

    إن معدته الخاوية، وجسده المعذّب، ومجتمعه الكافر بإنسانيته، المتنكر له، وشعوره بالاستغلال، وميسم الضعة الذي يلاحقه أنى كان - هذه كلها تجعله لصاً، وسفاحاً، وعدواً للإنسانية التي لم تعترف له بحقه في الحياة الكريمة.

    ووعى أن المجتمع القائم على سيادة فريق وعبودية فريق، وعلى استغلال الأسياد للعبيد، والأحرار للمصفدين بالأغلال، مجتمع لا يمكن أن توجد فيه فضيلة ولا يمكن أن يوجد فيه فضلاء. إنه ليس إلا مجتمع لصوص ومجرمين وعبيد، تسيّر أفراده الأحقاد والمكر والاستغلال، وما كانت اللصوصية والعبودية وما إليها يوماً فضائل تشرف الإنسان.

    على أساس من هذا الوعي جعل الإسلام الإصلاح الاقتصادي أساساً للإصلاح الاجتماعي.

    ولقد كان من الطبيعي جداً - حتى عند المفكرين والمصلحين - في عصر الإمام وقبله أن يوجد أناس جائعون فقراء، وأن يوجد أغنياء يحارون كيف ينفقون أموالهم، فلم يكن الفقر بذاته والغنى بذاته مشكلة اجتماعية تطلب حلاً، لأنها في نظرهم أمر طبيعي لا محيد عنه. إنما المشكلة هي: كيف السبيل إلى إسكات الفقراء وحماية الأغنياء؟ فكان الإمام - بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو أول من كشف أن الفقر والغنى مشكلة اجتماعية خطيرة، ونظر إليها على أساس أفاعيلها الاجتماعية.

    إن فلسفة الفقر عنده تجتمع في هاتين الكلمتين:

    (إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما متع به غني) (12).

    و (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع).

    ومن هنا أصبح من أبرز المشاكل التي حفل بها منهجه الإصلاحي يوم وليَ الحكم، مشكلة الفقر والغنى.

    ولقد كان مجتمعه إذ ذاك يعاني جراحاً عميقة بسبب هذه المشكلة، فقد وليَ الإمام الحكم والتفاوت الطبقي في المجتمع الإسلامي على أشد ما يكون عمقاً واتساعاً.

    ففي العهد السابق على ولاية الإمام (عليه السلام) للحكم كانت الطريقة المتبعة في التقدير وإظهار الكرامة هي التفضيل في العطاء. وقد اتبعت هذه الطريقة في بعض الحالات بصورة خارجة عن حدود المعقول والمقبول، ففُضِّلَ من لا سابقة له في الدين ولا قِدم له في الإسلام على ذوي السوابق والأقدار.

    وقد أوجد هذا اللون من السياسة المالية طبقة من الأشراف لا تستمد قيمتها من المثل الأعلى للإسلام، وإنما تستمدها من السلالة والغنى والامتيازات التي أسبغها عليها الحكم القائم، وطبقة الشعب التي ليس لديها مال، ولا امتيازات، ولا ماض عريق، وكان من عقابيل ذلك أن أحس الفقراء الضعفاء بالدونية واستشعر الأشراف الاستعلاء، وحرم الفقراء المال الذي تدفق إلى جيوب الأغنياء.

    فلما ولي الإمام الحكم ألفى بين يديه هذا الإرث المخيف الذي يهدد باستئصال ما غرسه النبي في نفوس المسلمين.

    وقد عالج هذا الواقع الذي سبق إليه بالتسوية بين الناس في العطاء، فالشريف والوضيع، والكبير والصغير، والعربي والعجمي، كلهم في العطاء سواء. فلم يجعل العطاء مظهراً للتفاضل بين الأفراد والأفراد والطبقات والطبقات. وبهذا أظهر للناس أن القيمة ليست بالمال، وحال بين الفقراء والضعفاء وبين الشعور بالدونية، وبين الأشراف والأقوياء وبين أن يشعروا بالاستعلاء. وأهاب بالناس أن يثوبوا إلى الله فيجعلوا التقوى مناط التفاضل ومقياس التقويم.

    وقد ثارت الطبقة الأرستقراطية لسياسة المساواة المالية التي قام بها الإمام فأشاروا عليه أن يصطنع الرجال بالأموال، فقال:

    (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمِّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله. ألا وأن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف..) (13).

    ولم يكن هذا كل ما ينتظر الطبقة الأرستقراطية على يديه يوم أمسك بالزمام، لقد كانت أموال الأمة تتدفق - تحت عينيه - قبل أن يتولى الحكم إلى جيوب فريق من الناس، فأخذ على نفسه عهداً بمصادرتها، بردها إلى أهلها، وكان أن أعلن للناس يوم ولي الحكم مبدأ من جملة المبادئ التي أعدها لمحاربة الفقر الكافر في مجتمعه الموشك على الانهيار، فقال:

    (ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال. فإن الحق لا يبطله شيء. ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفرق في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق) (14).

    وكم كان يقض مضجعه عدم التوازن في توزيع الثروات في زمانه (عليه السلام)، فتراه يصرخ أكثر من مرة، من على منبر الكوفة، بمثل هذا القول:

    (.. وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، والشر فيه إلاّ إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً.. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً؟ أو غنياً بدل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً؟ أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرأ، أين خياركم وصلحاؤكم، وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم، والمتنزهون في مذاهبهم؟) (15).

    ولا يعالج الفقر عند الإمام بالمواعظ والخطب، وإنما يعالج بحماية مال الأمة من اللصوص والمستغلين، ثم بصرفه في موارده.

    وبهذا عالجه الإمام، فكان عيناً لا تنام عن مراقبة ولاته على الأمصار، وعن التعرف على أموال الأمة وطرق جبايتها وتوزيعها.

    وكم من وال عزل وحوسب حساباً عسيراً لأنه خان أو ظلم أو استغل.

    وكم من كتاب كتبه (عليه السلام) إلى ولاته يأمرهم أن يلزموا جادة العدل فيمن ولوا عليهم من الناس (16).

    وبينما هو يأمرهم بهذا يضع عليهم العيون والرقباء ليرى مدى طاعتهم وتنفيذهم لأوامره.

    لقد كان (عليه السلام)، بهذا، أول من اخترع نظام التفتيش.

    ولقد كان يكتب إلى ولاته: (إن أعظم الخيانة خيانة الأمة) (17). وليس الولاة أعضاء في شركة مساهمة هدفها أن تستغل الأمة وإنما هم كما كان يكتب إليهم (خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة) (18).

    وكون الأموال العامة هي أموال الأمة مفهوم لم يأخذ صيغته الحقة إلا على لسان الإمام (عليه السلام) وفي أعماله. لقد جاءه أخوه عقيل يطلب زيادة عن حقه فرده محتجاً بأن المال ليس له وإنما هو مال الأمة (19)، وجاءه ثان يطلب إليه أن يعطيه مالاً، بما بينهما من رابطة الحب فرده قائلاً: (إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو فيء للمسلمين) (20).

    * * *

    بهذا كله لم يكفل الإسلام ولا الإمام أمر التزام الفضيلة في السلوك إلى الضمير وحده وإنما جعلا لها سنداً من القانون يكفل لها أن تصير واقعاً اجتماعياً تنبني عليه العلاقات الاجتماعية والسلوك الإنساني. ولكنهما لم يجعلا القانون كل شيء في حياة الإنسان لئلا يكون آلة مسيَّرة لا تملك اختيار ما تريد، وإنما أناطا جانباً من سلوكه بملزمات الضمير بعد أن أيقظا هذا الضمير. ولم يكلا أمر صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي إلى الفضيلة وحدها، لأنها لا تسد حاجات الإنسان التي لا يقوى بدونها على التزام الفضيلة ومكارم الأخلاق، وإنما أناطا جانباً من مهمة الصيانة بالاقتصاد لأنه هو الذي يسد حاجات الإنسان.

    وهكذا، بين الضمير اليقظ والقانون الواعي لحاجات الفرد والمجتمع ينمو الإنسان المسلم، ويأخذ سبيله إلى الكمال النسبي الذي يتاح للإنسان.

    .......................................
    الهوامش:

    1- الجنة: الدرع الواقية.

    2- نهج البلاغة - رقم الخطبة : 186.

    3- المصدر السابق - رقم الخطبة : 193.

    4- المصدر السابق: رقم الخطبة : 225.

    5- سورة البقرة: 2-5.

    6- سورة البقرة: 177.

    7- سورة آل عمران: 133 - 134.

    8- سورة المائدة: 8.

    9- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج 1 ص 37. سورة النحل: 90.

    10- سورة الحجرات: 13.

    11- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 189.

    12- نهج البلاغة - باب المختار من حكم أمير المؤمنين - رقم: 328.

    13- نهج البلاغة - رقم النص: ص 124.

    14- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 15، وهذا الكلام جزء من خطبة خطبها في اليوم الثاني من بيعة الناس له بالخلافة، ولم يذكر الرضي (رحمه الله) النص بكامله.

    15- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 127.

    16- نهج البلاغة - راجع مثلاً كتابه على الأشعث بن قيس عامل آذربيجان، رقم النص: 5، وكتابه إلى زياد بن سمية وهو متول على البصرة، رقم النص: 20 - 21، وكتابه إلى بعض عماله، رقم النص: 46، وغير ذلك كثير نجده في باب المختار من كتب أمير المؤمنين في القسم الأخير من نهج البلاغة.

    17- نهج البلاغة - من عهد له إلى بعض عماله على الخراج، رقم النص: 26.

    18- نهج البلاغة - من كتاب له إلى عماله على الخراج، رقم النص: 26.

    19- نهج البلاغة - رقم النص: 222.

    20- نهج البلاغة - من كلام له مع عبد الله بن زمعة، رقم النص: 230.

  11. #26
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] التنبؤ بالمستقبل عند الإمام[/align]


    قد دلت الأبحاث الحديثة كما عرفت على أن كل إنسان يملك مقداراً من هذه القوة الخارقة التي تكشف له عما خبأته أحشاء المستقبل، ولكن الناس إذا تساووا في نوع هذه القوة فإنهم يختلفون في مقدارها.

    فقد ثبت أن هذه الحاسة توجد عند بعض الناس بقوة تثير الدهشة، بينما توجد في بعض آخر على حال من الضعف والوهن لا تكاد تبين معه، فما السبب في هذا التفاوت؟

    لقد تبين للباحثين أن قوة هذه الحاسة تتناسب تناسباً طردياً مع درجة الصفاء الروحي والنقاء الداخلي التي يتمتع بها الشخص، فكلما كان الإنسان صافي النفس، نقي الضمير، منعتقاً من أسر التقاليد الاجتماعية الضارة، متفلتاً من قيد الضرورة وما إليها، خالي النفس من العقد والأحقاد والمطامع، كانت هذه الحاسة فيه قوية بالغة القوة، وكلما كان الإنسان مشوش النفس موزع الضمير مستغرقاً في حواسه، أسيراً لضرورات جسده وشهواته، غارقاً في مجتمعه، كانت هذه الحاسة فيه ضامرة لا تكاد تبين (1).

    فهذه الحاسة لا تنشط إلا في ساعات الصفاء العقلي والروحي والوجداني، فعند ذلك تبلغ أقصى قوتها.

    فإذا شئنا أن نبحث عن هذه الظاهرة في حياة الإمام (عليه السلام) طالعتنا فيه على أتم وأكمل ما تكون، فلقد بلغ من الصفاء الروحي حداً لم يدانِه فيه إنسان على الإطلاق ولم يَزدْ عليه فيه إلا النبي (صلّى الله عليه وآله).

    وتاريخ حياته (عليه السلام) سلسلة ذهبية من هذه الظواهر الرائعة الفاتنة.

    وإذا صحّ أن تجرداً وصفاءً وقتيين يقوم بهما إنسان عادي يتيحان له إطلاق قواه الخارقة، فما قولك فيمن كانت حياته كلها تجرداً روحياً وصفاء لا يعدله في بني الإنسان صفاء؟

    إن هذه الظاهرة التي تبدو لأعيننا في تاريخ حياته لتدلّ على أنه كان يدخل في وسعه أن يُطلق قواه الخارقة متى أراد، وإن يعي ما غاب عنه في أحشاء الزمان وطوايا المكان متى شاء.

    ويصدق قولنا هذا ما أثبته المؤرخون وتسالموا عليه من إخباراته بالمغيّبات وصدق ما أخبر به ووقوعه بعده بأزمان.

    لم يعن الشريف رحمه الله، حين آلى على نفسه أن يجمع كلامه (عليه السلام)، بهذه الناحية عناية تستحق الذكر، فما في نهج البلاغة من إخباراته بالمغيبات لا يبلغ عشر ما نسب إليه وصح عنه.

    وهذه الطائفة التي ذكرها الشريف من إخباراته تجيء على أقسام:

    1- غرق البصرة.

    2- تسلط الظالمين على الكوفة.

    3- تغلب معاوية على الخلافة.

    4- مصير الخوارج ونهاية أمرهم.

    5- مروان وخلافته.

    6- حرب الزنج.

    7- ولاية الحجاج.

    8- الأتراك.

    9- بنو أمية: ظلمهم ونهايتهم.

    10- خروج المهدي عجل الله فرجه.

    11- فتن تشمل الدنيا وتهلك الحرث والنسل.

    في هذه العناوين ينحصر ما ذكره الشريف في نهج البلاغة من الأخبار بالمغيبات، وسنتكلم في كل واحد من أولئك على حدة. ذاكرين بعد ذلك ما أهمله الشريف ولم يعن به.

    لقد تحدث الإمام (عليه السلام) عن علمه بالمغيبات في مناسبات كثيرة منها قوله:

    (.. فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها (2) وقائدها، وسائقها، ومُنَاخ (3) ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني، ونزلت بكم كرائه الأمور (4) وحوازب الخطوب (5)، لأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين) (6).

    وقد ذكر (عليه السلام) أنه استقى علمه هذا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد أتى في كلام له بعد أن هزم أصحاب الجمل في البصرة، على ذكر بعض ما يلمّ بالبصرة من الخطوب، فذكر فتنة الزنج وذكر التتر، فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك الإمام وقال للرجل:

    (ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ..) (7) فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله لنبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم (8) عليه جوانحي) (9).

    وقال مخاطباً أصحابه في موقف آخر:

    (والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه (10) وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ألا وإني مفضيه (11) إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه. والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما أنطق إلا صادقاً، وقد عهد إليّ بذلك كله، وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمر على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ) (12).

    وقال:

    (أيها الناس لا يجرمنكم شقاقي (13) ولا يستهوينكم (14) عصياني، ولا تتراموا بالأبصار (15) عندما تسمعونه مني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة (16)، إن الذي أنبأكم به عن النبي الأمي (صلّى الله عليه وآله)، ما كذب المبلغ ولا جهل السامع) (17).

    في هذه النصوص يصرح الإمام (عليه السلام) بأن علمه بالمغيبات جاءه عن طريق رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

    والذي يستوقفنا في هذا هو أننا لا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى إلى الإمام بكل حادثة من الحوادث المقبلة على نحو التفصيل، لأن الظرف الزماني الذي جمع بين النبي والإمام لا يسع شيئاً مثل هذا حتى لو فرضنا أن الإمام قد اختص بأوقات فراغ النبي كلها، فهو (عليه السلام) يقول:

    (فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلا أنبأتكم بناعقها..) (18).

    ويقول:

    (سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض..) (19).

    ويقول:

    (.. والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت... وقد عهد إليّ بذلك كله وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمرُّ على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ) (20).

    فهذا علم واسع بالغ السعة متراحب الآفاق، ومهما يكن الظرف الزماني الذي قضاه الإمام مع النبي طويلاً، ومهما تكن الأوقات الخاصة التي يفرغ فيها النبي للإمام وحده طويلة وكثيرة، فإن ذلك كله لا يسع الإفضاء ببعض هذا العلم إلى الإمام على نحو التفصيل، بحيث يتناول التعليم الجزئيات الدقيقة، والتفصيلات الكثيرة، فضلاً عن أن يسع الإفضاء إليه بكل هذا العلم على هذا النحو من الإفضاء.

    وإذ كانت الحال على هذا فلا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى إلى الإمام بكل حادثة من الحوادث المقبلة إلى قيام الساعة على نحو التفصيل، ولكن الإمام (عليه السلام) يصرح بما لا يدع مجالاً للشك بأنه قد استقى علمه هذا من النبي (صلّى الله عليه وآله)، فكيف السبيل إلى ملاءمة هذا الذي يقوله الإمام مع ما تبين لنا من عدم استيعاب الظرف الزماني للإفضاء بكل هذه العلوم؟

    الذي أراه هو أن النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يُفضِ إلى الإمام بالمغيبات على نحو التفصيل الذي يلمّ بجميع الجزئيات، فقد رأينا أن العقل يحيل ذلك لأن الزمان مهما يطلْ لا يتسع له. وإنما أفضى إليه بهذه المغيبات على نحو الإجمال لا التفصيل.

    فقد رأينا أن نشاط هذه القوى الخفية المودعة في الإنسان والتي تَصِله بالمجهول المحجوب في أحشاء الزمان أو ثنايا المكان يتوقف على الحالة العقلية والروحية والوجدانية التي يكون عليها الإنسان، فكلما كان الإنسان على حال رفيعة من الصفاء العقلي والطهارة الروحية والنقاء الوجداني كانت هذه القوى أنشط وأبلغ في النفوذ إلى المغيب المحجوب، والذي نراه بالنسبة إلى الإمام (عليه السلام) هو أن النبي قد أخبره بالمغيبات على نحو الإجمال ثم هداه إلى أقوم السبل التي تؤدي به إلى أرفع درجات هذه الحالة الروحية التي تتيح لقواه الخفية أن تعمل عملها الخارق فيعي بسببها تفصيل ما أجمله له رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

    وبهذا التفسير وحده نستطيع أن نلائم بين علم الإمام الواسع بالمغيبات الذي يسنده إلى الرسول وبين الظرف الزماني الضيق نسبياً الذي جمع بينه وبين الرسول، وليس هذا التفسير اعتباطياً فلدينا عليه شاهد مقبول.

    وهذا الشاهد الذي نعني هو أن النبي (صلّى الله عليه وآله) خلى بالإمام فأدخل في ثوبه وناجاه في اللحظات القليلة الأخيرة التي قبض بعدها، فلما فرغ من نجواه خرج الإمام من عنده فسأله الناس عما أفضى به إليه فقال: (علمني ألف باب ينفتح لي من كل باب ألف باب).

    فمهما كانت اللحظات التي خلا بها النبي مع الإمام كثيرة لا نستطيع أن نتصور كيف أفضى إليه فيها بألف باب من العلم على نحو التفصيل، لأنها مهما طال مداها لا تتسع للإفضاء ببعض هذا العد الكبير، فلابدّ من القول بأنه أفضى إليه بهذه الألف باب على نحو الإجمال وذلك بإعطاء الضوابط الكبرى التي تشمل كثيراً من الأبواب.

    ولعل قوله: (ينفتح لي من كل باب ألف باب) أبلغ دلالة على ما نقول من أنه علمه على نحو الإجمال لا على نحو التفصيل، وأنه اتكل في معرفة الجزئيات والتفاصيل إلى ما يتمتع به الإمام من مواهب تسعفه في معرفة ما غاب وتهديه إلى شريعة الصواب.

    قلنا إن إخباراته التي ذكرها الشريف تجيء على أقسام، منها إخباره بما يلم بالبصرة من الخطوب.

    فأخبر بعد فراغه من أصحاب الجمل، عن غرق البصرة كلها بقوله:

    (.. وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة) (21).

    وقد صدقت الحوادث هذه النبوءة، فقد ذكر ابن أبي الحديد أن البصرة غرقت مرتين: مرة في أيام القادر بالله (22)، ومرة في أيام القائم بأمر الله (23)، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزاً كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين.. وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها وهلك كثير من أهلها. وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم) (24).

    وأخبر عن هلاك البصرة بالزنج، فقال مخاطباً الأحنف بن قيس بعد حرب الجمل:

    (يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجَب (25) ولا قعقعة لجم (26) ولا حَمْحَمة خيل (27)، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام. ويل لسككِكم العامرة (28) والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور (29)، وخراطيم كخراطيم الفيلة (30)، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم ولا يفتقد غائبهم (31)، أنا كابّ الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها) (32).

    هذه النبوءة صدقتها الحوادث، ففي سنة خمس وخمسين ومائتين ظهر المدعو علياً بن محمد بن عبد الرحيم وجمع الزنوج وخرج بهم على المهتدي العباسي (33)، واستشرى أمره، وكاد يبيد البصرة ويفني أهلها، واستمرت الحرب بينه وبين السلطة المركزية خمسة عشر عاماً، فقد قتل في سنة سبعين ومائتين، وقد كتب ابن أبي الحديد فصلاً كبيراً عن هذه النبوءة (34).

    ولا يفوتنا التنبيه على تنبؤه (عليه السلام) في النص الآنف، بما ستكون عليه حال البصرة من الناحية العمرانية.

    وأخبر عن هلاك البصرة بالتتر فقال:

    (.. كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المَجانّ المطرّقة (35) ويلبسون السّرَقَ (36) والديباح، ويعتقبون الخيل العتاق (37) ويكون هناك استحرار (38) قتل حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور) (39).

    هذه النبوءة تحققت بظهور التتار واكتساحهم لممالك حتى وصلوا إلى العراق فلقيت البصرة منهم أعظم البلاء وأشنعه، فقد تكدست الجثث في الشوارع والأزقة وحل بالناس منهم خوف عظيم. وقد وقعت هذه الأحداث في زمن ابن أبي الحديد فكتب عنها فصلاً كبيراً (40).

    وقد تنبأ (عليه السلام) بما سيحلّ بالكوفة من الظالمين فقال:

    (كأني بك يا كوفة تُمدّين مدّ الأديم العكاظي (41)، تُعركين بالنوازل (42) وتُركبين بالزلازل (43)، وإني لأعلم أنه ما أراد بك جبار سوءاً إلا ابتلاه الله بشاغل، ورماه بقاتل) (44).

    وقد صدقت الحوادث نبوءته، فقد تعاقب على الكوفة سلسلة من ولاة الجور، وأعوان الظلمة، أذاقوها وساموها العذاب، فزياد ابن أبيه، وعبيد الله ابن زياد، والحجاج، ويوسف بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وخالد بن عبد الله القسري وأضرابهم... كلهم أقاموا الحكم في الكوفة على ركام من الجماجم وأنهار من الدماء (45).

    وقد تنبّأ (عليه السلام) بتغلب معاوية على الخلافة وسيطرته على الكوفة وأنه سيأمر أهل الكوفة من الشيعة بسبّ الإمام والبراءة منه، فقال:

    (أمّا أنه سيظهر (46) عليكم بعدي رجل رحب البلعوم (47)، مندحق البطن (48)، يكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه. ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة مني، أما السبّ فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرءوا مني (49)، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة) (50).

    هذه النبوءة تحققت بتمامها، فقد غلب معاوية بعد صلح الحسن وأمر الناس بسبّ الإمام صلوات الله وسلامه عليه، والبراءة منه، وقتل طائفة من عظماء أصحابه (عليه السلام) لأنهم ثبتوا على ولائه فلم يتبرءوا منه، منهم حجر بن عدي الكندي وجماعته. وقال قوم إن المعنى بهذا الكلام زياد بن أبيه، وقال قوم إنه المغيرة بن شعبة، وكلٌّ ولِيَ الكوفة، وأمر بالسبّ والبراءة (51).

    وتنبأ (عليه السلام) بما سيصير إليه أمر الخوارج من بعده فقال:

    (.. أما إنكم ستلقون من بعدي ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً وأثَرَةً (52) يتخذها الظالمون فيكم سنة) (53).

    وهكذا كان، فإن الخوارج، بعد العدل الذي لاقوه من حكومته والحرية التي تمتعوا بها، لم يعاملوا في جميع العهود التالية إلا بالاضطهاد والحرب والمطاردة.

    وقال لما قتل الخوارج وقيل له: هلك القوم بأجمعهم:

    (كلا والله، إنهم نُطَفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء (54)، كلما نَجمَ منهم قرن قطع (55) حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين) (56).

    وقد صحّت نبوءته، فلم يمضِ زمن طويل حتى نجم أمرهم مرة أخرى واستمرت بينهم وبين السلطات المركزية المتعاقبة حروب طاحنة، وكانت نهايتهم أن صاروا قطّاع طرق ولصوصاً سلابين..

    وقد تنبأ بعدد من يقتل من أصحابه وبقدر من يبقى من الخوارج قبل أن يشتبك معهم في النهروان، فقال:

    (مصارعهم دون النطفة (57)، والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة) (58).

    فلم يقتل من أصحاب الإمام إلا ثمانية، ولم ينج من الخوارج إلا تسعة (59).

    وقد كثر كلامه عما سيحل بالناس من بني أمية وظلمهم، وكأنه يعد بذلك أنفس الناس لتلقي فادح الظلم.

    وقد تنبأ بخلافة مروان بن الحكم وبما سيحل بالأمة منه ومن أولاده، وتنبأ عن نهاية بني أمية متى تحين.

    قال متنبأ بمصير الخلافة إلى مروان:

    (أما أن له إمرة كعلقة الكلب أنفه (60) وهو أبو الأكبش الأربعة (61)، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر) (62).

    وقد تم كل ما قال، فقد كانت إمرة مروان قصيرة جداً إذ لم تزد على تسعة أشهر، وقد كان له من الأبناء أربعة هم: عبد الملك، وعبد العزيز، وبشر، ومحمد. ولي عبد الملك الخلافة، وولي محمد الجزيرة، وولي عبد العزيز مصر، وولي بشر العراق. وقد حل بالمسلمين منهم ظلم عظيم (63).

    وقال في ظلم بني أمية:

    (.. والله لا يزالون حتى لا يدعو الله محرماً إلا استحلوه (64)، ولا عقداً إلا حلوه، وحتى لا يبقى بيت مَدر ولا وَبَر (65) إلا دخله ظلمهم، ونبأ به سوء رعيهم (66)، وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه. وحتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه) (67).

    ولا يجهل أحد مبلغ ما نزل بالناس من ظلم بني أمية وانتهاكهم للحرمات، واستهتارهم بالفضيلة حتى صار خلفاؤهم مثلاً في الظلم والفسق والتهتك (68).

    وقد تحدث (عليه السلام) كثيراً عن نهاية بني أمية وأن الأمر سيصير إلى أعدائهم بعدهم في الوقت الذي يحسب الناس فيه أنهم مخلدون.

    قال (عليه السلام):

    (حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بني أمية (69)، تمنحهم درّها (70) وتوردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظانّ لذلك. بل هي مجّة (71) من لذيذ العيش يتطعمونها برهة ثم يلفظونها جملة) (72).

    وقال:

    (فأقسم بالله يا بني أمية عما قليل لتعرفنها في أيدي غيركم وفي دار عدوكم) (73).

    هذه النبوءات بزوال ملك بني أمية على يد العباسيين، وما يصنعه العباسيون من القتل والتشريد قد تحققت بحذافيرها (74).

    وقد تنبأ بولاية الحجاج وبما سيحل بالعراق من بلوائه فقال:

    (أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيّال الميّال (75)، ويأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم، إيه أبا وَذحة) (76)، (77).

    وقال فيما رواه ابن أبي الحديد من تتمة خطبة أخرى تنبأ فيها بولاية الحجاج بن يوسف الثقفي ويوسف بن عمرو الثقفي:

    (..وستليكم من بعدي ولاة يعذبونكم بالسياط والحديد. وسيأتيكم غلام ثقيف: أخفش وجعبوب، يقتلان ويظلمان وقليل ما يمكثان).

    قال ابن أبي الحديد:

    (.. الأخفش الضعيف البصر خلقة، والجعبوب القصير الدميم، وهما الحجاج ويوسف بن عمرو وفي كتاب عبد الملك إلى الحجاج: قاتلك الله أخيفش العينين أصك الجاعرتين. ومن كلام الحسن البصري (رحمه الله) يذكر فيه الحجاج: أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان ما عرق فيها عنان في سبيل الله. وكان المثل يضرب بقصر يوسف بن عمرو كان يغضب إذا قيل له قصير) (78).

    ***

    قلنا أن الشريف رحمه الله لم يذكر في نهج البلاغة كل ما صح عن أمير المؤمنين من إخباره بالمغيبات، ولكن ابن أبي الحديد قد سد هذا النقص حين أفاض في ذكر ما صح عنه (عليه السلام) في هذا الباب.

    ومما يحسن ذكره هنا أن ابن أبي الحديد لم ينقل كلما وقع إليه من أخبار الإمام بالمغيبات، بل حقق فيما وقع إليه من ذلك فطرح المشتبه أمره، وذكر ما صح عنه (عليه السلام).

    قال ابن أبي الحديد:

    (.. وقد وقفت له على خطب مختلفة فيها ذكر الملاحم (79) فوجدتها تشتمل على ما يجوز أن ينسب إليه وما لا يجوز أن ينسب إليه، ووجدت في كثير منها اختلالاً ظاهراً. وهذه المواضع التي أنقلها ليست من تلك الخطب المضطربة بل من كلام وجدته متفرقاً في كتب مختلفة) (80).

    وعلل ابن أبي الحديد هذه الظاهرة الفذة في الإمام بقوله:

    (واعلم أنه غير مستحيل أن تكون بعض الأنفس مختصة بخاصية تدرك بها المغيبات، وقد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه الكفاية (81)، ولكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كل المغيبات، لأن القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية، وكل قوة في نفس حادثة فهي متناهية. فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا على أن يريد به عموم العالمية، بل يعلم أموراً محدودة من المغيبات، ممّا اقتضت حكمة الباري سبحانه أن يؤهله لعلمه..) (82).

    ولابن أبي الحديد هذا نص طويل ذكر فيه طائفة كبيرة من إخبارات الإمام بالمغيبات، نذكره لطرافته، ولما له من الصلة ببحثنا هذا، على أن نتبعه بذكر ما أهمل ابن الحديد ذكره في هذا النص وذكره في مناسبات أخرى. قال:

    (.. وهذه الدعوى ليست منه (عليه السلام) ادعاء الربوبية ولا ادعاء النبوة، ولكنه كان يقول أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخبره بذلك، ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة.

    كإخباره عن الضربة التي يضرب في رأسه فتخضب لحيته).

    وإخباره عن قتل الحسين ابنه (عليهما السلام)، وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها.

    وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده.

    وإخباره عن الحجاج وعن يوسف بن عمرو.

    وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان.

    وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم وصلب من يصلب.

    وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

    وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص (عليه السلام) إلى البصرة لحرب أهلها.

    وإخباره عن عبد الله بن الزبير وقوله فيه: (خب ضب، يروم أمراً ولا يدركه، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش).

    وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة أخرى بالزنج...

    وكإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان، وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون بـ(بني رزيق) وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم، وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية.

    وكإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة وقوله إنه يقتل عند أحجار الزيت.

    وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباخمرا: (يقتل بعد أن يظهر ويُقهَر بعد أن يَقهَر).

    وقوله أيضاً: (يأتيه سهم غرب تكون فيه منيته، فيا بؤساً للرامي شُلّتْ يده ووهنَ عضده).

    وكإخباره عن قتلى وجّ وقوله فيهم: (هم خير أهل الأرض).

    وكإخباره عن المملكة العلوية بالمغرب، وتصريحه بذكر كتامة، وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم. وكقوله، وهو يشير إلى أبي عبد الله المهدي، وهو أولهم: (ثم يظهر صاحب القيروان الغض النض ذو النسب المحض المنتخب من سلالة ذي البداء المسجي بالرداء). وكان عبيد الله المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة، رخص البدن، تارّ الأطراف، وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد (عليهما السلام) وهو المسجي بالرداء لأن أباه أبا عبد الله جعفر أسجاه بردائه لما مات وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره.

    وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم: (ويخرج من ديلمان بنو الصياد) إشارة إليهم، وكان أبوهم صياد السمك، يصيد منه بيده ما يتقوّت هو وعياله بثمنه، فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم. وكقوله (عليه السلام) فيهم: (ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء)، فقال له قائل: فكم مدتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: (مائة أو تزيد قليلاً). وكقوله فيهم: (والمترف بن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة) وهو إشارة إلى عزّ الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين، وكان معز الدولة أقطع اليد، قطعت يده في الحرب، وكان ابنه عزّ الدولة بختيار مترفاً صاحب لهو وطرب، وقتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمه بقصر الجص على دجلة في الحرب وسلبه ملكه. فأما خلعه للخلفاء، فإن معز الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتب عوضه القادر. وكانت مدة ملكهم كما أخبر به (عليه السلام).

    وكإخباره (عليه السلام) لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده، فإن علي بن عبد الله لما ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى علي (عليه السلام)، فأخذه وتفل في فيه وحنّكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك.

    وكم له من الأخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ممّا لو أردنا استقصاءه لكسرنا كراريس كثيرة، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة (83).

    وقال:

    (.. والمراد بقوله: فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض، ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور ولا سيما في الملاحم والدول، وقد صدّق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الأخبار بالغيوب المتكررة لا مرة ولا مائة مرة حتى زال الشك والريب في أنه إخبار عن علم وليس عن طريق الصدفة والاتفاق) (84).

    ونأخذ الآن في ذكر ما أهمل ابن أبي الحديد ذكره في النص السابق وأتى على ذكره في مناسبات أخرى.


    1- لما شجرهم (85) - الخوارج - علي (عليه السلام) بالرماح قال: (اطلبوا ذا الثدية) فطلبوه طلباً شديداً حتى وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى فأتي به وإذا رجل على ثديه مثل سبلات السنور، فكبّر علي (عليه السلام) وكبّر الناس معه (86).



    2- قال (عليه السلام) لمن قال له: أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة الشعر، بعد كلام: (.. وإن في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)).

    قال ابن أبي الحديد: وكان ابنه، قاتل الحسين (عليه السلام) طفلاً يحبو، وهو سنان بن أنس النخعي (87).



    3- وخطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال: يا أمير المؤمنين، إني مررت بوادي القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له، فقال (عليه السلام): والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار، فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال: يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حمار وإني لك شيعة ومحب، فقال: انت حبيب بن حمار؟ قال: نعم، فقال له ثانية: والله إنك لحبيب بن حمار، فقال: إي والله، قال: أما والله إنك لحاملها ولتحملنها ولتدخلن بها من هذا الباب، وأشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة. قال ثابت - وهو راوي الحديث -: فوالله ما مات حتى رأيت ابن زياد وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي (عليهما السلام)، وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل (88).



    4- كان جالساً في مسجد الكوفة وبين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي (عليه السلام): يا من قتل الرجال وسفك الدماء وأيتم الصبيان وأرمل النساء، فقال علي (عليه السلام): (وإنها لهي هذه السلقلقة الجلعة الجعة، وإنها لهي هذه الشبيهة بالرجال والنساء التي ما رأت دماً قط)، قال يزيد الأحمسي - وهو راوي الحديث -: فولت هاربة منكسة رأسها، فتبعها عمرو بن حريث، فلما صارت بالرحبة قال لها: والله لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا الرجل فادخلي منزلي حتى أهب لك وأكسوك، فلما دخلت منزله أمر الجواري بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها، فبكت وسألته أن لا يكشفها وقالت: أنا والله كما قال، لي ركب النساء وأنثيان كأنثيي الرجال، وما رأيت دماً قط، فتركها وأخرجها، ورجع إلى مجلسه مع الإمام (عليه السلام) فحدث بذلك (89).



    5- قام أعشى باهلة وهو يومئذ غلام حدث إلى علي (عليه السلام)، وهو يخطب ويذكر الملاحم، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة.

    فقال علي (عليه السلام):

    (إن كنت آثماً فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف)، ثم سكت.

    فقام رجال فقالوا: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟

    قال: (غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك حرمة إلا انتهكها يضرب عنق هذا الغلام بسيفه).

    فقالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟

    قال: عشرين إن بلغها.

    قالوا: فيقتل قتلاً أم يموت موتاً؟

    قال: بل يموت حتف أنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه.

    قال إسماعيل بن رجاء - وهو الراوي - فوالله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة وقد أحضر في جملة الأسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج فقرعه ووبخه واستنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس (90).



    6- قال (عليه السلام) لعمرو بن الحمق الخزاعي في حديث:

    (يا عمرو إنك لمقتول بعدي، وإن رأسك لمنقول، وهو أول رأس نقل في الإسلام، والويل لقاتلك، أما إنك لا تنزل بقوم إلا أسلموا برمتك، إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك).

    قل شمير بن سدير الأزدي - وهو الراوي - فوالله ما مضت الأيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفاً مذعوراً حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه، فقتل، وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد (91).



    7- دخل جويرية بن مسهر العبدي على علي (عليه السلام) يوماً وهو مضطجع وعنده قوم من أصحابه، فناداه جويرية:

    أيها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب بها لحيتك.

    قال حبة العرني - وهو الراوي - فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: (وأحدثك يا جويرية بأمرك، أما والذي نفسي بيده لتتلنّ إلى العتل الزنيم، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر).

    قال حبة العرني: فوالله ما مضت الأيام على ذلك، حتى أخذ زياد جويرية فقطع يده ورجله وصلبه إلى جانب ابن مكعبر وكان جذعاً طويلاً فصلبه على جذع قصير إلى جانبه (92).



    8- قال الإمام لميثم التمار يوماً بمحضر من خلق كثير من أصحابه وفيهم الشاك والمخلص:

    (يا ميثم إنك تؤخذ بعدي وتُصلب، فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دماً حتى يخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثالث طُعنت بحربة تقضي عليك فانتظر ذلك، والموضع الذي تُصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث، إنك لعاشر عشرة أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، يعني الأرض، ولأرينك النخلة التي تُصلب على جذعها). ثم أراه إيّاه بعد ذلك بيومين.

    وقد تحققت هذه النبوءة بحذافيرها كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في حديث طويل يضيق به المقام (93).



    9- روى إبراهيم بن العباس النهدي في سند ينتهي إلى زياد بن النضر الحارثي أنه قال:

    كنت عند زياد وقد أتي برشيد الهجري وكان من خواص أصحاب علي (عليه السلام)، فقال له زياد: ما قال لك خليلك إنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال زياد: أما والله لأكذبن حديثه، خلو سبيله، فلما أراد أن يخرج، قال: ردوه، لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال لك صاحبك، إنك لا تزال تبغي لنا سوءً إن بقيت، اقطعوا يديه ورجليه، فقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم. فقال: اصلبوه خنقاً في عقنه، فقال رشيد: قد بقي لكم عندي شيء ما أراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه، فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال: نفّسوا عني أتكلم كلمة واحدة، فنفسوا عنه فقال: هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين بقطع لساني، فقطعوا لسانه وصلبوه (94).



    10- حدث سعد بن وهب، فقال في حديث:

    فأتيته - يعني علياً (عليه السلام) - في كربلاء، فوجدته يشير بيده ويقول: هاهنا هاهنا فقال له رجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: (ثقل لآل محمد (صلّى الله عليه وآله) ينزل هاهنا، فويل لهم منكم وويل لكم منهم). فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: (ويل لهم منكم تقتلونهم وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار) (95).

    11- ذكر ابن أبي الحديد تتمة خطبته في الملاحم تنبأ فيها الإمام بأن السلاح سيحمل على الظهر بقوله: (... وحتى يكون موضع سلاحكم على ظهوركم..) وكأنه يشير بذلك إلى البندقية وما إليها من الأسلحة الحديثة، وتنبأ فيها بولاية الحجاج ويوسف بن عمر (96).



    12- قال ابن الحديد: .. ومن عجيب ما وقفت عليه من ذلك قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم وهو يشير إلى القرامطة: (ينتحلون لنا الحب والهوى ويضمرون لنا البغض والقلى، وآية ذلك قتلهم وراثنا وهجرهم أحداثنا).

    قال ابن أبي الحديد: وصح ما أخبر به، لأن القرامطة قتلت من آل أبي طالب خلقاً كثيراً وأسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني. وفي هذه الخطبة قال، وهو يشير إلى السارية التي كان يستند إليها في مسجد الكوفة: (كأني بالحجر الأسود منصوباً هنا، ويحهم إن فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه وأُسه، يمكث هنا برهة، ثم هاهنا برهة - وأشار إلى البحرين - ثم يعود إلى مأواه وأم مثواه). ووقع الأمر في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به (97).

    ............................................
    الهوامش:

    1- الدكتور علي الوردي، خوارق اللاشعور.

    2- ناعقها: الداعي إليها مأخوذ من (نعق بغنمه) إذا صاح بها لتجتمع.

    3- مناخ... في الأصل: محل بروك الإبل، استعمل هنا للتعبير عن مصير الفئة الضالة أو الهادية ونهايتها.

    4- كرائه الأمور: جمع كريهة، المصائب الكبرى.

    5- الحازب: الخطب الشديد، يقال: (حزبه الأمر) إذا اشتد عليه.

    6- نهج البلاغة، رقم الخطبة 91.

    7- سورة لقمان: 34.

    8- تضطم: افتعال، من الضم، أي وتنظم عليه جوانحي، والجوانح: الأضلاع تحت الترائب ممّا يلي الصدر، وانضمامها عليه: اشتمالها على قلب يعيها.

    9- نهج البلاغة، رقم الخطبة 146.

    10- المخرج: محل الخروج، والمولج: محل الولوج، الدخول، أي: أخبره من أين يخرج، وأين يدخل.

    11- مفضيه: أصله من (أفضى إليه) إذا خلا به. والمراد أنه موصله إلى أهل اليقين ممن لا تخشى عليهم الفتنة.

    12- نهج البلاغة، رقم الخطبة 173.

    13- لا يجرمنكم: لا يحملنكم ويكسبنكم، (شقاقي) عصياني. أي لا يكسبنكم عصياني الخسران والضياع.

    14- لا تقعوا في هوى العصيان.

    15- تتراموا بالأبصار.. ينظر بعضكم إلى بعض تعجباً واستنكاراً.

    16- أنبت الحبة، وخلق الروح.

    17- نهج البلاغة، رقم الخطبة 99، ولاحظ في النص رقم 16، قوله: (ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم).

    18- نهج البلاغة، رقم النص 91.

    19- نهج البلاغة، رقم النص 187.

    20- نهج البلاغة، رقم النص 173.

    21- نهج البلاغة، رقم النص 13. جؤجؤ السفينة: صدرها. جثم الطائر، تلبد بالأرض، وهيئة النعامة الجاثمة على الأرض كهيئة السفينة من مقدمها.

    22- القادر بالله، أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر. بويع بالخلافة في يوم 12 رمضان سنة 381هـ. 3 أكتوبر تشرين الأول 991م واستمر خليفة إلى أن توفي في نهاية ذي الحجة سنة 42هـ 18 ديسمبر كانون الأول 1031م.

    23- القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن القادر. بويع بالخلافة في ذي الحجة سنة 422هـ (1031م) واستمر خليفة إلى 13 شعبان سنة 467هـ 3 ابريل نيسان سنة 1075م.

    24- ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج1، ص84.

    25- اللجب: الصياح.

    26- اللجم، جمع لجام. وقعقعة اللجم ما يسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل.

    27- الحمحمة: صوت البرذون عند الشعير.

    28- السكك: جمع سكة، وهي الطريق المستوي الممهد، وهو إخبار عما يصيب تلك الطرق وما حولها من المنازل من الخراب والتهديم.

    29- أجنحة الدور: رواشنها جمع روشن، بمعنى شرفة (برندة) وذلك على التشبيه بأجنحة الطير.

    30- خراطيم الدور: هي الميازيب تطلى بالقار.

    31- أصحاب الزنجي، وإنما لا يندب قتيلهم، لأن ليس لهم زوجات وأهل يبكون عليهم لأنهم كانوا عبيداً ليست لهم أسر.

    32- نهج البلاغة، رقم النص 126.

    33- المهتدي بالله، محمد بن هارون الواثق، ابن المعتصم بن الرشيد بويع له بالخلافة يوم 27، رجب سنة 255هـ، يوليو تموز 869م، وخلع في 14 رجب سنة 256، 17 يونيو سنة 870م.

    34- ابن أبي الحديد، شرح النهج، 2، ص310-361.

    35- المجان، جمع مجن ـ بكسر الميم ـ وهو الترس، وسمي مجناً لأنه يستتر به عن العدو، والجنة ـ بالضم ـ السترة، والمطرقة، هي التي ألزق بها الطراق ـ ككتاب ـ وهو جلد يفصل على مقدار الترس ثم يلزق به.

    36- السرق: شقق الحرير الأبيض.

    37- يعتقبون الخيل.. أي يحتبسون كرائم الخيل لأنفسهم ويمنعون غيرهم منها.

    38- استحرار قتل: اشتداد قتل.

    39- نهج البلاغة، رقم النص 126.

    40- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص361-371.

    41- الأديم: الجلد المدبوغ، والعكاظي نسبة إلى عكاظ ـ كغراب ـ وهو سوق كانت تقيمه العرب في صحراء بين نخلة والطائف، يجتمعون إليه من بداية شهر ذي القعدة ليتعاكظوا، أي يتفاخروا، وأكثر ما كان يباع الأديم بتلك السوق فنسب إليها. وقوله: (تمدين مد الأديم العكاظي) استعارة لما ينالها من العسف والشدائد، كأن ما ينزل بها من الظلم يشبه ما ينزل بالجلد حين يراد أن يدبع من الخبط والدق.

    42- تعركين مأخوذ من (عركتهم الحرب) إذا مارستهم حتى أتعبهم، والنوازل: الشدائد.

    43- الزلازل: المزعجات من الخطوب.

    44- نهج البلاغة، رقم النص 47.

    45- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص286-287.

    46- سيظهر: سيغلب.

    47- الرحب: الواسع.

    48- مندحق البطن: عظيم البطن بارزه، كأنه لعظمه مندلق من بدنه يكاد يبين عنه.

    49- قد يكون السب نتيجة للإكراه من الظالم مع إبطان الحب والولاء، وأما البراءة من إنسان فهي الانسلاخ من مذهبه.

    50- نهج البلاغة، رقم النص 57.

    51- ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج1، ص355.

    52- الأثرة: الاستبداد بفوائد الملك، وحرمان الآخرين منه.

    53- نهج البلاغة، رقم النص 58.

    54- قرارات النساء: كناية عن الأرحام.

    55- كلما نجم منهم قرن قطع: كلما ظهر منهم رئيس قتل.

    56- نهج البلاغة، رقم النص 59.

    57- يعني بالنطفة ماء النهر، وقد جرت المعركة معهم عند النهروان.

    58- نهج البلاغة، رقم النص 59.

    59- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص379-380 و424-427 و445-446.

    60- تصوير بالحركة لقصر ملك مروان بن الحكم.

    61- كناية عن أولاده.

    62- نهج البلاغة، رقم النص 71.

    63- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص53-60.

    64- استحلال المحرم: استباحته.

    65- بيوت المدر: المبنية من حجر، وبيوت الوبر: الخيام، أي أن ظلم بني أمية يشمل جميع الناس حيث كانوا.

    66- أصله من (نبأ به المنزل) إذا لم يوافقه، فارتحل عه. أي أن ظلم بني أمية وسوء سياستهم في الناس، يجعل المجتمع مضطرباً غير مستقر ولا آمن.

    67- نهج البلاغة، رقم النص 96.

    68- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص466-467، وراجع ح2، ص193-194، و408-409 في شأن عبد الملك بن مروان والفتن في عهده.

    69- معقولة على بني أمية: مقصورة عليهم، مسخرة لهم، كأنهم شدوها بعقال الناقة.

    70- درها: لبنها.

    71- مجة: مصدر من (مج الشراب من فيه) إذا رمى به.

    72- نهج البلاغة، رقم النص 185 آخر النص.

    73- نهج البلاغة، رقم النص 103، ولاحظ النص رقم 167.

    74- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص132-133 و178 و200-202 و466-467.

    75- الذيال: الطويل القد، الطويل الذيل، المتبختر في مشيته، والميال: الجائر المائل عن طريق الحق والعدل.

    76- الوذحة: قال الشريف الرضي رحمه الله بعد أن أورد هذا النص: الوذحة الخنفساء. وهذا القول يرمي به إلى الحجاج، وله مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره. وقد أورد ابن أبي الحديد عند شرح هذه الفقر عدة روايات عن الحجاج الثقفي في شأن الوذحة. راجع الجزء 7، ص279-280، من شرح نهج البلاغة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار إحياء الكتب العربية، سنة 1960م.

    77- نهج البلاغة، رقم النص 114.

    78- شرح نهج البلاغة، 2، ص132-133 257-258.

    79- الملاحم، جمع ملحمة، وهي الواقعة العظيمة.

    80- ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج2، ص508.

    81- تقدم منه كلام في هذا في ج1، ص425-427.

    82- المصدر السابق، ج2، ص508.

    83- المصدر السابق، ج1، ص175-176.

    84- المصدر السابق.

    85- شجرهم: حاربهم أو رماهم.

    86- المصدر السابق، ج1، ص205.

    87- المصدر السابق، ج1، ص208.

    88- المصدر السابق، نفس الصفحة.

    89- المصدر السابق، ج1، ص208-209.

    90- المصدر السابق، ج1، ص209.

    91- المصدر السابق، ج1، ص209.

    92- المصدر السابق، ج1، ص209-210.

    93- المصدر السابق، ج1، ص210-211.

    94- المصدر السابق، ج1، ص211.

    95- المصدر السابق، ج1، ص278.

    96- المصدر السابق، ج2، ص133.

    97- المصدر السابق، ج2، ص508، وذكر ابن أبي الحديد، في ج2، ص49-50، عن المدائني في كتاب صفين خطبة للإمام في الملاحم خطبها بعد النهروان.

  12. #27
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center][align=center] الديمقراطية في نهج البلاغة[/align]

    بقلم: السيد محسن الأمين[/align]

    إنّ النزعة الديمقراطية في نهج البلاغة أوضح من أن تحتاج إلى بيان.. فها هو الإمام علي (عليه السلام) يأمر الوالي بأن يجلس لذوي الحاجات دون جند أو حرس لكيلا يتعتوا في توضيح مسائلهم. فهو (عليه السلام) في قضائه بين الناس قد فضل العامة على الخاصة وإن سخط الخاصة.

    يقول الإمام علي (عليه السلام):

    (إن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يفتقر إلى رضى العامة، وليس أحد أثقل على الوالي من الرعية مؤونة في الرخاء وأقل معونة في البلاء، وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقل شكراً على الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء: العامة من الأمة فليكن صفوك لهم وميلك معهم).

    وهذا كلام صريح في تفضيلهم والاعتماد عليهم، وأنا شخصياً أميل إلى الظن بأن هذا الكلام كان له تأثير في سلوك بعض زعمائنا الذين عرفوا بميلهم إلى الإمام علي والتشبه بكلامه في أكثر من موضع، ولن نطيل في تفصيل هذه الديمقراطية، ولنردد في سرور قول الإمام الجامع: (إن أعظم الخيانة خيانة الأمة وأفضع الغش غش الأئمة).

    وقوله الذي يذكرنا بالقول السائر: صوت الشعب من صوت الله (إنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده). وإذا كان الإمام (عليه السلام) قد أخذ بالديمقراطية كما وضح فمن الطبيعي أن نراه نصير الحرية يهيب بابنه (ولا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرّاً) وأن نراه رافع لواء المساواة لا يزال يذكرها ويوصي بها ويقول لمن يوليه:

    (وآس - وساو - بينهم في اللحظة والنظر حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم).

    وقول في موضع آخر:

    (إن المال لو كان ماله لساوى بين الناس فكيف والمال مال الأمة).

    ولكن للجمهور سيئاته كما أن له حسناته فلنسمع كلمة الإمام في الغوغاء، قال:

    (الناس ثلاثة فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق).

    ووصف الغوغاء في موضع آخر من أنّهم إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا).

    وقيل وصفهم بأنهم إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا، لأنّ كل صانع ينصرف إلى عمله فيحصل النفع، وقد وضع الإمام إصبعه على آفة وطبيعة من آفات وطبائع الجماهير هي سرعة التقلب، تلك الخاصة الجماهيرية التي وضحها (شكسبير) أبلغ إيضاح في (يوليوس قيصر) وكذلك أصاب في أن اجتماعها غلبة وتفرقها ضياع، وفي أن اجتماعها قد يكون في بعض الأحايين مجلبة للضرر، كما أنّ تفرقها مجلبة للنفع لانصراف كل عامل إلى عمله، وهذه النظرة إلى الجماهير قد تبدو متعارضة بعض التعارض مع ما سبق من رأيه فيهم ولكن بيان نقص الغوغاء لا يستلزم استبعاد رأيهم.

    ثمّ عرض (عليه السلام) الصفات الواجب توفرها في الإمام فقال: (من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه).

    وحدد العلاقة بين الراعي والرعية فقال: (أيها الناس إن لكم عليّ حقاً ولي عليكم حق، فأمّا حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأمّا حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم).

    ولنلاحظ هنا أنه (عليه السلام) يجعل من حقه على الشعب أن ينصحه الشعب، وهذا مبالغة في السعي وراء الكمال، وكم هو نبيل قوله لقومه رداً على من أثنى عليه:

    (فلا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بنفسي يفوق أن أخطئ).

    وأدلى (عليه السلام) بآراء قيمة في الولاة فقال أنّهم ملزمون بأن يعيشوا عيشة جمهور الشعب لكيلا (يتبيّغ بالفقير فقره) أي لكيلا يسخط الفقير لفقره، وليتعزّى بحال أميره:

    (أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش).

    ونصح علي الولاة بقوله مؤكداً لأحدهم: (ولا يطولن احتجابك عن رعيتك).

    وتلك نصيحة حق فإن كثرة ظهور الحاكم بين الرعية استئلاف لقلوبها وإشعار بها أن الحاكم مهتم بمصالحها، ثمّ هو منير للحاكم سبيل حكمه ومعطيه الصورة الواضحة لحال شعبه فيعمل على نورها.

    وقال (عليه السلام): (إنه ليس شيء أدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم) أي الراعي حين يحسن لرعيته يطمئن قلبه ويأمن خيانتهم. وأمر باحترام التقاليد الشعبية فكان حيكماً بعيد النظر: (ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية).

    ووجه علي (عليه السلام) نصيحة غالية صادقة كل الصدق في قوله: (إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شاركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الآثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير خلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم. ثمّ ليكن عندك آثرهم أقولهم بمرّ الحق لك).

    ونظرية الإمام (عليه السلام) صحيحة تماماً فإنّ إثم أحدهم فيما مضى لا يؤمن إثمه فيما حضر، ومن اتصل بالظلمة بالأمس لا يؤمن اتصاله بهم اليوم وإعانتهم على كيدهم بماله من سلطة الوزارة. وكان حكيماً في قوله: (فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة وداولهم بين القسوة والرأفة).

    وأمر الوالي أن لا يرغب عن رعيته وتفضيلاً بالإمارة عليهم فإنهم الأخوان في الدين والأعوان على استخراج الحقوق ثمّ قال له: (وإنا موفوك حقك فوفق حقوقهم وإلاّ فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، بؤساً لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين). ودعاه إلى أن يساوي نفسه بهم فيما الناس فيه سواء، وهذا القيد يظهر بعد نظره وفهمه لحقيقة المساواة الممكنة. ودعا (عليه السلام) إلى تشجيع المحسن وعقاب المسيء قائلاً: (ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء).

    ولفت نظر جباة الضرائب إلى الرفق بالآهلين، وعدم بيع شيء ضروري - وهذا ما فعلته القوانين الحديثة إذ منعت الحجز على الملابس ومرتبات الموظفين، وبالغ في الرفق الحكيم فقال: (فإن شكوا ثقلاً أو علة وانقطاع شرب أو إحالة أرض اعتمرها غرق أو أجحف بها عاطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم).

    وهذا بعد نظر حكيم وسياسة مالية محكمة تزيد وضوحاً في قوله: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد). وإذا تذكرنا ما جرّ التعسف في جبي الضرائب في فرنسا وولايات تركيا وغيرها عرفنا قيمة هذه النصيحة التي يؤيدها المنطق ويسندها التاريخ. وقد أدى بعد نظر الإمام (عليه السلام) به إلى أن يدعو إلى تقسيم العمل ذلك المبدأ الذي لم نعرفه إلاّ حديثاً فقد قال ناصحاً: (واجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه به فإنه أحرى ألاّ يتواكلوا في خدمتك).

    وقال في رسالة إلى الأشتر النخعي أيضاً:

    (واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها إلاّ من بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلاً قد سمّى الله سهمه) ثم فصل بعد ذلك وظيفة كل فرقة.

    وتمشياً مع قاعدته في تقسيم العمل واختصاص كل بما يحسنه، ردّ على من قال له: إنك تأمرنا بالسير إلى القتال فلم لا تسير معنا؟: أنه لا يجوز أن يترك مهماته من قضاء وإدارة وجباية ضرائب.. و.. (لأن الأمير كالنظام من الخرز يجمعه).

    إن هذا الإمام (عليه السلام) ما كان ليغفل الدعوة إلى الاتعاظ بالتجارب في الحكم فها هو إذ يقول: (إن الأمور إذا اشتبهت اعتبر آخرها أولها).

    ويقول في مكان آخر: (استدل على ما لم يكن بما كان) ثمّ يقول أيضاً: (العقل حفظ التجارب) ولست أحمل هذا القول الأخير أكثر مما يحتمل إذا قلت أنه الرأي الفلسفي المعارض للرأي القائل بأنّ العقل يتفاوت عند الأشخاص بطبيعته، والذاهب إلى العكس إلى أن العقل ليس إلاّ عمل التجارب والتهذيب والدافع لحجة الرأي الأول القائلة بأنا لو ربينا أشخاصاً ذوي أعمار واحدة تربية واحدة في بيئة واحدة لنشأوا رغم ذلك مختلفي العقليات، بأنهم إنما يختلفون لسبق تأثرهم بمزاج وراثي مختلف.

    وتكلّم الإمام (عليه السلام) في رسالته إلى الأشتر عن القضاة كلاماً قال عنه الأستاذ العشماوي أستاذ القانون الدستوري بكلية حقوق القاهرة: إن كلاماً غيره في أي دستور من دساتير العالم لم يفصل مهمة القضاة وطرق اختيارهم مثل ما فعل. قال الإمام: (ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلل ولا يحصر في الفيء إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بإدغامهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، من لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتياب الرجال له عندك).

    وهذا دستور حكيم بل هو أحكم ما نعرفه وحسبه أنه انتبه إلى وجوب إجزال العطاء المالي للقضاة ليستغنوا بذلك عن الارتشاء، وأنه شدد في إعطائهم منزلة قريبة من الوالي ليقطع بذلك الطريق على الوشاة وليعمل القضاء في جو هادئ.

    وفي غير هذه الرسالة ذم من يتصدى للحكم وليس أهلاً له قائلاً: (جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً من رأيه ثمّ قطع به، جاهل خباط جهالات عاش ركاب عشوات، تصرخ من جور قضائه الدماء وتعج منه المواريث إلى الله).

    وفي موضع آخر يقول: (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها).

    ومعنى هذا أنّ على الخواص مهمة هي عدم الصبر على الظلم بل مجاهدته ولو لم يقع عليهم.

    والآن وقد سرنا في نهج البلاغة شوطاً يغرينا بالاستزادة فلنقف، وإذا كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قد نهى قومه عن أن يمدحوه فلا يخافن اليوم اغتراراً وهو بعيد عن حياة الغرور، إن نحن انحنينا أمام عبقريته، لقد حبانا نهج البلاغة فأحسن ما حبانا، فلنطبق عليه قوله: (قيمة كل امرئ ما يحسنه).

  13. #28
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]التربية في نهج البلاغة[/align]

    - مفهوم التربية عند الإمام علي (عليه السلام):

    لعل من المفيد أن نستهل هذا الموضوع بتبيان المدلول اللغوي لمفهوم التربية. فالتربية في اللغة مأخوذة من ربى ولده، والصبي يربه، رباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك (1).

    فالتربية بمدلولها اللغوي، تعني تعهد الطفل بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يشب. ولقد اهتم الفلاسفة والعلماء بهذا المفهوم، وجهدوا في الكشف عن مضامينه العلمية وأوجدوا له عدداً من التفسيرات التي إن اختلفت في شكلها، فهي متفقة في جوهرها، وسنعرض فيما يلي أقوال بعض المفكرين القدامى والمحدثين، لنرى موقع (النهج) منها.

    يقول أفلاطون (427-347ق.م):

    (التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال) (2). وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية المؤدية لكمال الفرد.

    ويقول أرسطو (384-322ق.م):

    (الغرض من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم، وإن يقوم بما هو نبيل وخير من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة) (3). وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في دنياه.

    ويقول جولز سيمون، الفيلسوف الفرنسي (1814-1896م):

    (التربية هي الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حراً، ويكون القلب قلباً حراً) (4). وهذا يتم بالنواحي الروحية من التربية. ولعل أوثق تعريفين للتربية هما: ما قاله الغزالي (450-505):

    (ومعنى التربية، يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه) (5).

    وما قاله جون ديوي: (إنها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة ـ أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة) (6).

    وهناك تعريفات كثيرة لا مجال لذكرها لعدم الحاجة إليها ـ وهي في أكثرها مشابهة لما سبق ـ وما يهمنا هو استعراض ما مر منها ومقابلتها بما صدر عن الإمام (عليه السلام)، من أفكار تربوية تفسر حقيقة مفهوم التربية.

    يرى (عليه السلام) أن الإنسان هو غاية الوجود، ومن أجله خلق الله ما خلق إذ بعد أن خلق تعالى الكون ورتبه أحسن ترتيب، ونظمه أجمل تنظيم، وأتم مرافقه، على أكمل وجه، وجمع فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، أخرج إليه الإنسان، وأسكنه فيه على أن يكون خليفته في أرضه، يحيا في كنفها ويعيش من خيراتها، ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه، ومقاصده، وفق أحكام الله وإرادته مطيعاً، مذعناً، شاكراً، إلا أنه خالف أمر الله، وسلك بوحي من نفسه الأمارة بالسوء، فجذبته الدنيا إليها وحجبت عنه الرؤية السليمة فبات أسير أوهامه وشهواته.

    إن ضعف الإنسان أمام إغراء المادة والإيمان بأن الشيطان الذي أغواه في الجنة لن يتوانى عن إغوائه مرة أخرى وهو على الأرض، وبالتالي سوف لن يتمكن من ممارسة الخلافة كما أوجبها الله ما دام ضعيف الحجة، مسلوب الإرادة، قليل الإيمان. هذه الأمور أوجبت أخذه بالتربية والتعليم حتى تستقيم نفسه ويقوى على مقاومة الضلالة والفساد. إلا أن هذه التربية، لا تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً يعضده العلم والعمل والإيمان بهدف منفعة العباد وخيرهم.

    وكثيرة هي الخطب والكلمات التي تضمنها (النهج) وهي تدعو إلى طلب العلم وأخذه من أي مصدر كان، كما وتحث على العمل حتى لا تبقى التربية مجرد نظريات لا فائدة منها في عالم الواقع. لذلك فإن الإمام (عليه السلام) يدعم القول بالعمل وهذا هو الحق الذي يشهد به العمران والتقدم والتطور الحاصل في المجتمعات من ذلك (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل) (7).. إذ لا خير في علم بلا عمل. ولابد للعارف من أن يكون عاملاً حتى لا يكون علمه حجة عليه.

    ولقد أدرك الإمام علي (عليه السلام) هذا الأمر وطبقه على سائر مجريات حياته، يبدو ذلك في حديثه عن العلماء الذين يتعلمون، برأيه ـ لغايات ثلاث (8):

    ـ للمراء والجدل.

    ـ للاستطاعة والحيل.

    ـ للفقه والعمل.

    - أما الأول (فإنك تراه ممارياً للرجال في أندية المقال، قد تسربل بالتخشع وتخلى من الورع. فدق الله من هذا حيزومه وقطع منه خيشومه).

    - وأما الثاني (فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله، ويتواضع للأغنياء، من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا بصره، ومحى من العلماء أثره).

    - وأما الثالث (فتراه ذا كآبة وحزن، قام الليل في حندسه، وانحنى في برنسه، ويعمل ويخشى، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه).

    فليس المهم بنظر الإمام (عليه السلام) كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، ولا كثرة العلماء، ما دام البعض منهم قد اتخذ العلم وسيلة للهدم، أو أداة للرياء والنفاق، في حين أن البقية الباقية منهم، ممن آمنوا بربهم وخشعوا له، قد اتخذوه للعمل الحر الشريف. فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها ليست مقبولة ما دامت لا تستند إلى الكيفية والنوعية. إلا أن هذه النوعية لا فائدة منها إذا لم تقترن بالفاعلية فالعلم لا يراد لذاته، بل لأجل التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول (عليه السلام): (لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا) (9).

    إلا أن العمل قد يجر الويل على المجتمع، إذا لم يستند إلى أساس روحي خلقي وما نراه اليوم دليلاً على ذلك، فالذرة قد تستعمل للبناء وقد تستعمل للفناء والدمار والذي ينحى بها هذا المنحى أو ذاك، هو الإنسان ذاته الذي اكتشفها، لذلك كانت التربية الروحية الخلقية لابدّ منها في صياغة كيان الفرد وتفكيره وخلقه. ولقد جمع الإسلام بين التربية الدينية والدنيوية بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (10).

    هذه النظرية للتربية التي انفرد بها الإمام علي (عليه السلام) هي أكثر شمولاً وعمقاً من تلك التي أوحت بها التعريفات السالفة الذكر، فبينما نرى أن فلاسفة التربية قد قصروا نشاطها على جانب معين من حياة الفرد (أفلاطون ـ ارسطو ـ جولز سيمون) يتوسع الإمام (عليه السلام) في هذا النشاط ليشمل جميع نواحيه الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والدنيوية كما سنرى فيما بعد وذلك من أجل إيجاد الإنسان الفاضل القريب من الكمال. هذا المضمون نفسه هو الذي أكده كل من (الغزالي) و(جون ديون) ممّا يثبت بأن هذا الكتاب، كان وما يزال في صميم المعرفة التي تحدث عنها الفلاسفة والعلماء في كل عصر وجيل.

  14. #29
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]التربية في نهج البلاغة[/align]



    سمات المنهج التربوي العلوي:

    ينطلق الإمام (عليه السلام) من مسلمات بديهية على أساسها يضع المنهج في تربية الإنسان وإعداده منها:

    1ـ حقيقة الإنسان وطبيعته

    سبق في علمنا أن حقيقة الإنسان هي الروح والجسد معاً. ولقد اختلف المتكلمون في هذا الأمر، فقال (العلاف): (إن الإنسان هو الشخص الظاهر المرئي الذي له يدان ورجلان) (11)، أي هو الجسد فقط دون الروح واحتج على ذلك بقوله تعالى: (خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (12). وقال النظام: (الإنسان هو الروح ولكنها مداخلة للبدن.. وإن البدن آفة عليه وحبس وضاغط له) (13) أما (بشر بن المعتمر) فقد وافق الإمام (عليه السلام) على أن (الإنسان جسد وروح وأنهما جميعاً إنسان، وأن الفعال هو الإنسان الذي هو جسد وروح) (14) وقد دمج (النظام) بين الروح والنفس والجسم فقال: (الروح هي جسم وهي النفس) (15) في حين ميز بينهما (العلاف) وقال، (النفس معنى غير الروح) (16) أما (الأصم) فقد اعتبر أن (النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد لحقيقة الشيء، لا على أنها معنى غير البدن) (17).

    وحقيقة القول، أن كلا منهما مختلف عن الآخر، فالروح أمر إلهي لا علم لنا به وهو بمثابة القوة التي تبعث الحياة في الجماد. أما النفس، فهي كناية عن طبيعة الإنسان المختلفة باختلاف قواها النفسية. ولقد قسم الإمام علي (عليه السلام) هذه الطبائع النفسية إلى أربعة، لكل منها خمس قوى وخاصيتان، وما أثر عنه في هذا المجال ما نحن بصدد الحديث عنه:

    قال كميل: سألت أمير المؤمنين فقلت له: أريد أن تعرفني نفسي.

    فقال (عليه السلام): يا كميل، وأي الأنفس تريد أن أعرفك.

    قلت: يا مولاي، هل هي إلا نفس واحدة؟

    قال (عليه السلام): يا كميل إنما هي أربع: النامية النباتية، والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والكلية الإلهية، ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان.

    فالنامية النباتية لها خمس قوى: جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومربية، ولها خاصيتان، الزيادة والنقصان وانبعاثهما من الكبد وهي أشبه الأشياء بنفس الحيوان.

    والحسية الحيوانية لها خمس قوى: سمع وبصر وشم وذوق ولمس، ولها خاصيتان، الشهوة والغضب، وانبعاثهما من القلب، وهي أشبه الأشياء بنفس السباع.

    والناطقة القدسية: ولها خمس قوى، فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة، وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية، ولها خاصيتان، النزاهة والحكمة.

    والكلية الإلهية ولها خمس قوى: بقاء في فناء، ونعيم في شقاء، وعز في ذل، وغنى في فقر، وصبر في بلاء، ولها خاصيتان، الرضا والتسليم، وهذه هي التي مبدؤها من الله، واليه تعود.

    قال الله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (18) وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (19)، والعقل وسط الكل، لكيلا يقول أحدكم شيئاً من الخير والشر إلا بقياس معقول) (20).

    وهكذا يقسم (عليه السلام) النفس إلى أربعة أنواع: النباتية، والحيوانية، والناطقة، والإلهية ويرى أن هذه الأخيرة مبدؤها من الله وإليه تعود، بينما تتمحور جميعها حول العقل الذي يسيطر عليها ويشردها إلى طريق الاعتدال، ولولا ذلك لبلغت حد الإفراط والتفريط وكلاهما رذيلة كما قال الإمام علي (عليه السلام): (العقل ملك والخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها) (21) لهذا جاء التأكيد على ضرورة معرفة النفس لأنها تؤدي إلى معرفة الله، لأن (من عرف نفسه فقد عرف ربه) (22). و(من عجز عن معرفة نفسه، فهو عن معرفة خالقه أعجز) (23).

    كما أنه يؤكد على أهمية شأن العقل ويعتبره من المصادر الأساسية للمعرفة، وكل ما يتنافى معه فهو باطل. أما الحواس فهي كاذبة ولا تصلح للرؤية، وإنما الرؤية الحقيقية للعقل: (ليست الرؤية مع الأبصار، فقد تكذب العيون أهلها ولا يغش العقل من استنصحه) (24). ويكفي العقل فضلاً وشرفاً أنه يميز بين الحق والباطل، ويفرق بين الغي والرشاد، لذا كان من أبلج المناهج وأقوم المسالك وأكثر مصادر المعرفة رشداً، وأقله ضلالاً، ومن استرشد بغيره، فقد أخطأ سواء السبيل. يقول (عليه السلام): (من استرشد غير العقل أخطأ منهاج الرأي) (25).

    وتنمية القوى العقلية للإنسان لا تكون إلا في طلب العلم، لأن العلم غذاء العقل، به ينشط وقوى على ممارسة الوظائف العقلية لأنه (ليس شيء أحسن من عقل زانه علم) (26) كما يقول الإمام (عليه السلام).

    إلا أن الإنسان يجمع إلى حد القوة حد الضعف، فهو القوي بعقله وفعاليته وهو الضعيف الذي (تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة) (27) والإنسان مجمع الأضداد، في داخله تتصارع العواطف والأهواء والغرائز وحياته تعتورها حالات متضادة نتيجة للصراع بين قواه العقلية والعاطفية، فيرتفع إلى المستوى اللائق به بعقله، وينحدر إلى مستوى البهيمية بغرائزه، والتوازن بينهما هو ما يحفظ كيانه ويصون كرامته وإنسانيته كما عبر الإمام (عليه السلام) بقوله: (لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك أن له مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ وإن غاله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر استلبته الغرّة، وإن أصابته مصيبة فضحة الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد) (28).

    أما غرائزه فهي متعددة، ومتلونة تختلف من شخص لآخر بحسب الفطرة التي أرادها الله سبحانه، كما يذكر (عليه السلام) بقوله: (فأقام من الأشياء أودها ونهج حدودها، ولاءم بقدرته بين متضادها، ووصل أسباب قرائنها، وفرقها أجناساً مختلفات في الحدود والأقدار والغرائز والهيئات، بدايا خلائق أحكم صنعها، وفطرها على ما أراد وابتدعها) (29).

    هذه الغرائز تتغير بتغير بيئة الإنسان وثقافته، ولا يخفى أثر البيئة القوي في التنشئة والإعداد. فالإنسان يتأثر بالأحوال والظروف المحيطة به فهو ابن بيئته وعوائده كما يقول ابن خلدون، فيكون لذلك شأنه في صياغة أفكاره وأخلاقه وعاداته سلباً أو إيجاباً بحسب ما يكتنفه من أمور تؤثر في مجرى حياته، ونظراً لتعدد البيئات واختلاف مقوماتها وعناصرها الثقافية والاجتماعية والطبيعية فإن لذلك أثره القوي في اختلاف أفراد النوع الإنساني وتباين سماتهم العقلية والبدنية. يقول الإمام (عليه السلام): (إنما فرق بينهم مبادئ طينهم، وذلك أنهم كانوا فلقة من سبخ الأرض وعذبها وحزن تربتها وسهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون) (30).

    إن الإمام علي (عليه السلام) يقطع من خلال عرضه للمبادئ التي تحكم طبيعة الإنسان وتبيانه للميول والأهواء والغرائز المتناقضة والمتصارعة، تلك التي تتحكم في نفسه، وتوجه سلوكه وتحدد سماته الخلقية والفكرية، بضرورة أن نأخذ جميع هذه الأمور بعين الاعتبار ونراعي ما يظهر من الفروق الفردية، فيما لو حاولنا حل مشكلات المتعلم النفسية والاجتماعية والتربوية وإعداده للحياة الحرة الفاعلة الفاضلة. ذلك لأن مراعاة هذه الأسباب في العملية التربوية تضفي عليها شيئاً من الرغبة، وتساهم في صلاح المتعلم وحل عقده. في حين إن إكراهه على ما يناقض مزاياه الخلقية والنفسية، إنما هو قتل لشخصيته وهدر لطاقاته ودفعه إلى المشاغبة والنفور، ذلك أن (للقب شهوة وإقبالاً وإدباراً فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عمي) (31) ولا يعني هذا مسايرة رذائل الإنسان وشهواته، وإنما مقاومتها بأسلوب يخلو من العنف والقهر والسمو بها إلى مصاف الخلق النبيل. وسوف نرى أن الإمام علي (عليه السلام) كان يؤكد على التسامي بشهوات الإنسان ورغباته الشريرة واستبدالها بما ترضى عنها الذات والمجتمع.

    نستنتج ممّا تقدم، أن هذا الكائن البشري يجمع إلى جانب قوى الخير قوى أخرى تجنح به نحو الشر. وهذا يوصلنا إلى فكرة الخطيئة التي شغلت بها أذهان المفكرين عبر العصور. فقد اعتبرت المسيحية أن الإنسان مذنب ومخطئ بطبعه وأن الشر متأصل في فيه (وليس في استطاعته الوصول إلى النجاة بقوته وجده، وإنما ينال النجاة بالغفران وذلك الغفران تمنحه الكنيسة بطريقة استبدادية محضة) (32).

    في الجانب المقابل، مال البعض إلى القول بخيرية هذا الكائن وميله الأصيل إلى الفضيلة والخير. أما الشر الصادر عنه فهو من الوسط الذي يعيش فيه. ومن أبرز القائلين بذلك جان جاك روسو الذي اعتبر أن الطفل يولد خيراً بطبعه، ولكن المجتمع هو الذي يفسده.

    وما أثر عن الإمام علي (عليه السلام) كان موقفاً وسطاً بين هؤلاء وأولئك، فالإنسان لا يميل بطبعه إلى الخير أو إلى الشر، لأنه قادر على فعل الخير كقدرته على فعل الشر، ذلك: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وكذباً وصدقاً) (33). ونوع التربية التي تتعهده بها البيئة التي يعيش فيها، هو الذي يجنح به نحو الخير أو الشر. كذلك فإنه مزود بالغرائز والأعضاء والحواس والجوارح التي تأتمر بأمره وتتأثر بالجو المحيط به، وبقدر تهذيبها وإرشادها يسهل توجيهها الوجهة الصالحة. أما إذا أهملت وتركت وشأنها، فإنها تنحا به نحو الرذيلة والفساد.

    ولقد أكد الغزالي قابلية الإنسان للخير والشر بقوله: (... فإن الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً، وإنما أبواه يميلان به إلى حد الجانبين) واستشهد بقول الرسول الكريم: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) (34).

    ولن يؤتي الفكر ثماره إلا إذا استند إلى الخبرة والعمل. فالخبرة هي التي تصقله وتهذبه والعمل هو الذي يخرجه إلى حيز الواقع. ولقد أقام (عليه السلام) نظامه الفكري على هذا الأساس. فربط بين العلم والعمل ودعى إلى استفادة الخبرة من رسالة الإسلام، ومن تدبر أحوال الماضين، واتباع آثارهم واختيار الصالح منها وترك ما لا فائدة منه. وهذا ما عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لولده الحسين (عليه السلام): (أي بني! إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم، قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله) (35).

    وهكذا فالتفكير الذي يتحدث عنه الإمام (عليه السلام) يرفض التقليد إلا في أضيق نطاق وعن الذين يمكن الوثوق بكلامهم وأفكارهم والركون إلى أخلاقهم وسجاياهم. وحتى هؤلاء لم يخرجهم (عليه السلام) من دائرة الاجتهاد، حتى لا يشكلوا ضغطاً فكرياً على الآخرين فهو يؤثر الاجتهاد في كل شيء حتى في الدين. والغاية من ذلك الإقناع لا الإكراه بهدف إيجاد المفكر الذي يحاول أن يتفهم دينه ودنياه بوحي من بصيرته. لذا فهو يدعو إلى إعمال الفكر في كل خطوة نخطوها وفي كل رأي نبديه ونعلنه، بل وفي كل خبر نسمعه حتى نتجنب الخطأ والعذر في كل ما يصدر عنا من آراء فالتفكير المستند إلى التركيز والانتباه هو ما يعبر عنه الإمام (عليه السلام) فيقول: (اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل) (36).

    تلك هي أبرز سمات المنهج التربوي في (نهج البلاغة) فهي تنطلق من مفهوم شامل للتربية تتناول الإنسان بمختلف أبعاده وتنظر إليه كوحدة متكاملة تبرز حقيقته وطبيعته التي فطره الله عليها وتظهر ما فيه من غرائز وقوى تتراوح بين القوة والضعف وما للبيئة من أثر في تحديدها وتنوعها.

  15. #30
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    سمات المنهج التربوي العلوي:

    2ـ المعرفة: طبيعتها، مصدرها

    المقصود بالمعرفة هو بعمومها وأنواعها المتعددة، العلمية والبديهية والميتافيزيقية، وهي تتضمن دائماً الإشارة إلى عنصرين متكاملين: الذات والموضوع، أي الذات العارفة والشيء المعروف.

    لقد اختلفت الآراء حول طبيعة المعرفة وسببها. فقال العقليون الذين يؤمنون بقوة غير حسية، قادرة على إدراك ماهيات الأشياء أو المعقولات وهي العقل (إن تلك الماهيات أو المعقولات التي في أذهاننا، ليست إلا نماذج مماثلة تماماً لما في خارج الذهن من أشياء، أو صورة مطابقة لها، وهذا ما يعبر عنه الفلاسفة بقولهم إن الحقيقة هنا هي نسخة لما في خارج الذهن) (37). هذا يعني أن المعرفة ليست سوى مجرد تصورات ذهنية مطابقة لما في خارج الذهن ولا علاقة لها بالحياة. لقد ظهر هذا المذهب عند كل السقراطيين واستمر حتى بداية الفلسفة الحديثة وهو متعدد من حيث تفاصيله ولكنه واحد من حيث المبدأ. وقد قام محل الحواس التي اعتبرها أداة وهم تقف في طريق المعرفة الحقيقية. يقول (مالبرنش): (إن نماذجكم الحسية ليست إلا ظلاماً فاذكروا هذا وارقوا إلى أعلى حيث العقل وسترون النور. ألزموا حواسكم وخيالكم وانفعالاتكم بالصمت، وستسمعون حينئذ صوت الحقيقة الباطنية النقي، وإجابات عقلنا المشترك الجلية الواضحة، إياكم أن تخلطوا هذه البينة التي تنجم عن المقارنة بين الأفكار، بحيوية المشاعر التي تتحرك وتمسكم. يجب علينا أن نتبع العقل رغم تلطفات البدن الذي نلتصق به، ورغم تهديداته وإهاناته، ورغم تأثير الموضوعات التي تحيط بنا.. إنني لأهيب بكما أن تقروا بأن ثمة فارقاً بين أن نعرف وأن نحس بين أفكارنا الواضحة وإحساساتنا الغامضة المختلطة على الدوام (38).

    وقال العمليون ـ المعبر عنهم في العصر الحديث (بالبرجماتيين) Pragmatism في مذهبهم الذي يمزج الفكر بالحياة، إن غاية المعرفة هي الحياة وإن قيمة كل فكرة أو نظرية تقاس بمدى ما تحققه من نفع، حين نطبقها في حل المشكلات التي تواجهنا (ولذلك فلكي نستوثق من قدر نظرية من النظريات نحاول أن نتخيل أنها مطبقة فعلاً في العمل حتى يتسنى لنا رؤية ما عسى أن يكون هنالك من نتائج لتطبيقها، ونحتفي بها على قدر ما تأتي من نتائج عملية خالصة) (39).

    إن معيار حقيقة الفكرة عند العقليين، هو مطابقتها للواقع أي لما هو خارج الفكر. هذه المطابقة تجعل من الحقيقة واضحة وثابتة، أما في المذهب العملي فإن الفكرة لا توصف بالحقيقة لمطابقتها للواقع، بل لكونها تؤدي عملاً نافعاً، أي بالنظر لنتائجها وغاياتها العملية. وباختصار فإن المذهب الأول يقول بأننا نعيش لنفكر أما الآخر فيقول بأننا نفكر لنعيش.

    إن ربط الفكر بالعمل يتضمن انقلاباً في نظرية المعرفة، فبدلاً من النظر في الأصول البعيدة للحقيقة، كما كانت تفعل الفلسفات المجردة، فإن الفلسفات العملية حولت النظر إلى النتائج والغايات العملية، وجعلت قيمة الحقيقة بما تؤديه من نتائج عملية ونفعية.

    هذا الانقلاب الذي أحدثه المذهب العملي كان الإمام (عليه السلام) قد طرحه كأحد المسلمات التي لابدّ منها لحياة أفضل. فالمعرفة القائمة على التصورات فقط لا قيمة لها بل يصنفها في عداد المعارف الوضعية التي لا يترتب عليها أدنى منفعة. في حين أن المعرفة التي تظهر في أعمال تنفع البشر وتؤدي لهم خدمات مفيدة هي التي يقول بها ويضعها في مستوى المعارف الرفيعة. فصفة الحقيقة فيه ليست ملازمة للفكرة كفكرة وإنما هي تكتسبها بما تحققه من عمل نافع. والواقع ينطق بذلك، إذ ما قيمة قوانين (نيوتن) مثلاً لو لم تقدم خدمات عملية على أرض الواقع بتفسيرها حركة الأجسام هذا الربط عبّر عنه الإمام (عليه السلام) يقول: (فإن خير القول ما نفع، واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع) (40). و(أوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان) (41).

    وهكذا يكون كتاب (النهج) في صميم الفلسفة الحديثة التي قرنت الفكر بالعمل ممّا أتاح للبشرية فرصة سانحة للسير في طريق التقدم والعمران.

    أما عن مصدر المعرفة، فقد وقع فيه اختلاف كالذي حصل في طبيعة المعرفة.

    إن المشكلة في الفلسفة الحديثة ليست إمكان الوصول إلى الحقيقة أو عدم إمكانها وإنما أصبحت تدور في أصل الحقيقة ومنبعها، أهو العقل أم الحس والتجربة، أو هما معاً، أم الحدس أم الوحي؟

    لقد تعددت آراء الفلاسفة حول الطريقة التي تحصل بها المعرفة فديكارت (1596-1650م) يعترف بأن لا سبيل إلى الوصول إلى الحقيقة إلا بممارسة أفعال العقل الطبيعية.. ولتلك الغاية ليس هناك إلا فعلان أحدهما الحدس intuition أو النظر المباشر، والآخر الاستدلال Deduction. (42)

    أما جون لوك (1632-1704م) (فقد أعلن بهدوء أن جميع أنواع المعرفة تأتينا من التجارب عن طريق حواسنا، وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له الحواس) (43) في حين أن (عمانوئيل كانت) جمع بين العقل والتجربة في الحصول على المعرفة وكان يقول: (إن التجربة ليست الميدان الوحيد التي تحدد فهمنا، لذلك فهي لا تقدم لنا إطلاقاً حقائق عامة، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتم بهذا النوع من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه) (44).

    وخرج (هنري برجسون) (ولد سنة 1859م) عما اعتبره (كانت) مصدراً للمعرفة، وقال بأن: (العقل ليس هو الأداة الصالحة لإدراك الحياة، لأن هذا مطلب فوق مقدوره.. فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير الوجود أي أنها تتناول الوجود في ظاهره، ولكنها لا تنفذ إلى باطنه. ولما كانت المعرفة الحقيقية هي التي تتمشى مع الوجود في تحوله، وتغلغل في بواطن الأشياء وتحسها إحساساً مباشراً كما يحس الحمل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب، فالبصيرة وحدها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة لأنها حاسة الحياة التي تنقل إلينا الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود) (45).

    أين كان موقع الإمام علي (عليه السلام) من هذه الآراء؟

    إن الإمام (عليه السلام) يعتبر أن مبادئ الوجود ثلاثة: الله والروح والمادة، وعليه فطرق المعرفة تتعدد بتعدد الموجودات الثلاثة. فبالحواس ندرك الظواهر الخارجية والجزئيات، إلا أنها لا تصلح للرؤية الحقيقية لأنها كاذبة كما سبق في علمنا فلابدّ من إثباتها بالتجربة لإصلاح ما ينجم عنها من خطأ في الإدراك، لأن (في التجارب علم مستأنف) (46).

    أما العقل، فهو لإدراك الكليات وما وراء الطبيعة، وقد سبق في علمنا أنه (عليه السلام) استدل على وجود الله بالنظر في مخلوقاته وما فيها من نظام محكم وتدبير متقن، ومعنى هذا أنه يؤمن بالعقل الذي يدرك ما وراء الكون بالاستنتاج والانتقال من المعلوم إلى المجهول.

    أما إذا عجزت الحواس والعقل عن إدراك ما يمكن وراء هذه الظواهر الحسية ـ فلا سبيل أمامنا سوى القرآن أو الوحي، نستعين به لكشف ما غاب عنا، يقول إخوان الصفاء: (إن الوحي هو أنباء عن أمور غائبة عن الحواس، يقدح في نفس الإنسان من غير قصد منه ولا تكلف) (47). إلا أن الوحي الذي يعنيه أخوان الصفاء، ليس كما صرّح به الإمام (عليه السلام) إنما هو أقرب إلى الحدس الصوفي القائم على الكشف والذوق. فهل يعتبر هذا الحدث الصوفي طريقاً آخر للإدراك يمكن الركون إليه كما هو الحال عند المتصوفة؟

    وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نوضح أن هناك فكرتين تتحدثان عن علاقة الله بالعالم. الأولى، و(يصح أن نسميها بالاثنينّية، وهي تعتقد في الله أنه مستقل عن الخلق يشرف عليه من فوق، ويمد كل مخلوق بإمداداته، ويدير نظام الكون من أصغره إلى أكبره، وهو فوق الأرض، وفوق السماء وفوق كل شيء. وإن في الكون موجودين متميزين عن بعضهما كل التمييز، مخلوق وخالق، ومدبَّر ومدبِّر، ومحكوم وحاكم. ووسيلة الإنسان في إدراك الله حسب هذه الفكرة هو العلم وقضايا المنطق.

    أما الفكرة الثانية، وهي الواحدية، أو بعبارة أخرى، وحدة الوجود، ترى أن الله والخلق واحد، والحاكم والمحكوم شيء واحد، كما قال الحلاج:

    [align=center]أنا مــــن أهـوى ومن أهوى أنا***نحـــــن روحـــــان حللـــنا بدنا

    فـــإذا أبصــــرته أبصــــــرتني***وإذا أبصـــرتني أبصرتـنا(48)[/align]

    وإدراك الله هنا، يتم بالتروّض والكشف.

    وما ذكره الإمام (عليه السلام) ينفي عن الله الحلول والاتحاد كما سبق وأشرنا إليه في حينه، ولا يقول بوحدة الوجود، بل يميز بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، ويؤمن بأن الإسلام يضع الإنسان أمام خالقه دون حجاب أو ترجمان أو وساطات تشفع له عند الله كما جاء في القول: (لم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه) (49).

    ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره المظلة الواقية من الخطأ في الإدراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الإيمان بوجود الله، إلا تلك التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة.

    إذا أخذنا جميع هذه الأمور بعين الاعتبار، أمكننا الإجابة عن السؤال السابق بأن الإمام (عليه السلام) لم يأخذ بالحدس الصوفي كمصدر للمعرفة، ما دام العلم بالله حاصل بالفطرة والنظر العقلي، دون الوصول إلى تلك الحالة الخاصة التي يبلغها الإنسان بالوجد والكشف حيث يدرك عندها الله إدراكاً مباشراً. وما أشبه هذه التجربة العقلية التي يدعو إليها هذا الكتاب بتجربة (برغسون) التي تغلغل في صميم الواقع وتغوص في أعماقه وتتصل به اتصالاً مباشراً من غير واسطة تحول بين العارف والمعروف.

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني