صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123
النتائج 31 إلى 39 من 39

الموضوع: نهج البلاغة

  1. #31
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    سمات المنهج التربوي العلوي:

    3ـ التفكير

    التفكير بمعناه الواسع (اصطلاح عام يشمل كل أنواع النشاط الرمزي فيشمل الاستدلال والتخيل، وتكوين المعاني الكلية والابتكار، ويستخدم التفكير بديلات للأشياء الحقيقية والمواقف الواقعية، أي أنه يستخدم رموزاً تقوم مقام الأشياء أو الظروف. والرمز هو أي شيء ـ فكرة، معنى أو صورة يقوم مقام شيء آخر، فنستجيب له بنفس الأسلوب الذي نستجيب به للشيء نفسه) (50).

    إن عملية التفكير ترجع إلى التفاعل بين العوامل العضوية أو البيولوجية المتمثلة بالجهاز العصبي المعقد، والعوامل الاجتماعية المتمثلة بالمؤثرات الاجتماعية المختلفة. فهو إذن عملية بيولوجية اجتماعية عن طريقه توصل الإنسان إلى بناء حضارة عظيمة تزخر بالتقدم العلمي والتنظيم الاجتماعي.

    والتفكير ضرورة تربوية هامة يعتمد عليه الإنسان في تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها، فهو في صراع دائم مع الحياة للحفاظ على استمرارية وجوده كما أنه محتاج، لكي يدافع عن نفسه ويؤمن حاجياته ويزيل الصعوبات والمشكلات التي تعترض طريقه، إلى أن يفكر ويختار نسب الحلول الملائمة. لذلك (يخطئ إذن من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية. إنما هو كائن مدرك، حر الإرادة، قادر على اختيار سلوك معين، والاختيار خلق وإنشاء، فليس الإنسان رتيباً في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه) (51). كما قول برغسون.

    وهو في محاولته حل مشاكله، إنما يستعين على ذلك بالمحاولة والخطأ والتجربة والاختيار والابتكار والإبداع، لذلك كان التفكير نشاط ديناميكي هادف. ولا يعني هذا أن العقل لا يفكر إلا إذا اعترضته المشكلات الواقعية. فهو في نشاط مستمر، في حالة اليقظة أو الغفلة وما أحلام اليقظة إلا (استجابات بديلة للاستجابات الواقعية يتخذها الفرد عندما يفشل في أن يستجيب استجابات واقعية لما يواجهه من مثيرات فيلجأ إلى أوهامه يحقق فيها ما عجز عن تحقيقه في عالمه الواقعي، وهكذا نستطيع أن نعتبر الأحلام إحدى صور التفكير الذاتي) (52).

    ثم إن ارتباط التفكير بالعمل يساعد الفرد على تحقيق آماله والوصول إلى غاياته. وكلما ارتفع مستوى الإنسان الفكري، اتجه بصورة أفضل نحو إحلال الأعمال بالأفكار أي يختبر صحة ما يصل إليه بصورة عقلية قبل أن يقوم بعمل معين، ويصبح التفكير بديلاً للعمل، وذلك لفاعليته واقتصاديته. لهذا كانت نتيجة التفكير هي الاقتصاد في الوقت والمجهود، وتوفير فرص أكبر للحياة والبقاء.

    أما إذا لم يكن للتفكير أثر في زيادة كفايتنا العملية وتوسيع معرفتنا بأنفسنا وبالعالم الذي نعيشه فيه، وإذا لم يكن مساعداً على توفير الوقت والجهد، كان تفكيراً ناقصاً ومختلاً، لأن (الأفكار تبقى ناقصة إذا ما ظلت مجرد فكار، وأن خير ما يقال عنها أنها مؤقتة من قبيل الاقتراحات والدلالات. فهي أساليب وجوه لمعالجة أوضاع الخبرة، وإذا لم تطبق في مثل هذه الأوضاع، وبقيت ناقصة في معناها وواقعيتها، فالتطبيق وحده هو الذي يمتحنها، والامتحان وحده هو الذي يكسوها رداء الحقيقة، ويكسبها كمال المعنى. أما إذا بقيت الأفكار من غير استعمال فإنها تجنح إلى الانعزال وتكوين عالم خاص بها) (53). وإذا كانت للخبرة أهميتها في عملية التفكير فإنه لا سبيل إلى وجود خبرة ذات معنى، ودون أن يكون فيها عنصر من التفكير الذي هو (التعبير الصريح عن عنصر الذكاء في خبرتنا) (54).

    على أن خبرتنا التي نصوغها في قوالب تفكيرنا، لا تعني الاهتمام بكل ما ورد فيها، وليس هذا من التفكير في شيء، ما نفكر به يجب أن نتدبره تدبيراً سليماً، بحيث يكون له أثر في مدى تفاعل الفرد مع بيئته، وفي حل المشكلات التي تعترضه، وهذا ما أكده جون ديوي بقوله: (فالتفكير في الأشياء كما ترد إلينا هو محاولتنا تعرّف ما تدلنا عليه من النتائج المحتملة أو المرجحة. أما أن نملأ رؤوسنا كما نملأ الدفاتر بشتى المعلومات الجزئية باعتبار أنها أشياء كاملة مفروغ منها، فليس ذلك من التفكير في شيء، إن هو إلا تحويل أنفسنا أجهزة تسجيل. ولكننا إذا تدبرنا تأثير الحوادث فيما قد يقع وإن لم يقع بعد، فذلك هو التفكير) (55).

    وهكذا فالتفكير هو إحدى المكونات الرئيسية للتنظيم المعرفي للفرد وأهميته تكمن في إعطائه القدرة على امتلاك البيئة والتحكم فيها، كما يمكّنه من العمل المثمر الخلاق ويفتح أمامه فرصاً واسعة للنجاح. لذا كان التفكير عملية لابدّ منها في تنمية الفكر الإنساني وانطلاقه وتحريره من الجهل والجمود والتقليد.

    ويعتبر الإمام علي (عليه السلام) من المفكرين الأوائل الذين أدركوا أهمية التفكير عند الإنسان فأشاد بالعقل ودعا إلى تنميته بالفكر، لأن الفكر جلاء للعقول، كما أنه يفيد الهداية والرشد واليقظة والاستبصار، ويعصم عن الضلال والشك. وكثيرة هي العبارات التي صدرت عنه بخصوص هذا الأمر يقول (عليه السلام): (الفكر يهدي) و(الفكر عبادة)، و(الرأي بالفكر) و(الفكر رشد) و(الفكر ينير القلب) (56).

    وهكذا فإن الإمام علي (عليه السلام) يجد في التفكير القدرة على كشف الحقائق وتخليص العقل من الأوهام والأساطير، كما وأنه يرى فيه الهداية والرشد والرأي السديد ليس ذلك فحسب، بل أن العلم الحاصل عن التفكير هو من أشرف العلوم وأكثرها ثباتاً ودقة، وذلك بالقياس إلى ما ندعي امتلاكه بالحفظ والتلقين بلا وعي ودراية. وما العبرة في علم إذا لم يكن جزءاً من كياننا ومثار سلوكنا ومحقق أهدافنا وغاياتنا في الحياة؟ فالملاحظة السطحية وغير الكاملة تعيق نمو العقل بل وتفسده، وعدم التركيز الفكري يعرقل نضوجه وتطوره. لذلك كان التفكير أحد العوامل الرئيسية في ديناميكية العقل وزيادة إنتاجه، فيجب والحالة هذه أن يكون نمو هذه الملكة عند الإنسان، هو الهدف الأسمى لعملية التربية والتعليم. لقد قرن (عليه السلام) بين الفكر والرشد والهداية ـ كذلك فقد قرن بين رفيع العلم وما بني منه على أساس متين من التفكير عندما قال: (لا علم كالتفكير) (57).

    إن اهتمام الإمام (عليه السلام) بهذا الجوهر الثمين عند الإنسان، بالإضافة إلى ما تضمنه من نشاطات فكرية تجلت في الحديث عن الله والعالم العلوي، والكون بما فيه من مخلوقات يغلب عليها التعقيد والغموض، إنما يدعو إلى ضرورة أن يتمتع الإنسان بعمق في التفكير وسعة في الاطلاع حتى تكون النتائج يقينية بحيث لا يتطرق إليها الخطأ أو الزلل.

    كما أنها تكشف عن طبيعته الفكرية وما للعقل من أهمية كبرى في صياغة تفكيره وإبداء وجهات نظره في الكون والحياة وفي نفسه وكيفية إسعادها من خلال استناد الفكر إلى الخبرة الواسعة والربط بينه وبين العمل.

    هذه السمات الفكرية التي أبرزها الإمام (عليه السلام) إنما ترتكز في أساسها على الإسلام، الأمر الذي يجعل من هذا الكتاب، إحدى الذخائر الإسلامية الهامة التي لا يمكن الاستغناء عنها في البحث عن الوسائل والطرق المؤدية إلى حسن إعداد الإنسان للحياة.

    إن اهتمامه (عليه السلام) بهذا الجوهر الثمين عند الإنسان، بالإضافة إلى ما أثر عنه من نشاطات فكرية متعددة، إنما ينم عن عمق في التفكير، وسعة في الاطلاع ودقة في الملاحظة، بها امتاز وتفوّق على سائر معاصريه، ومن أبرز مظاهر تفكيره ذاك التسلسل المنطقي والتماسك الفكري الذي نراه بادياً في (النهج) بحيث أن كل فكرة هي نتيجة طبيعية لما قبلها وعلّة لما بعدها. ولقد كانت غايته من وراء ذلك ليس إبراز مقدرته الفكرية واللغوية والعلمية، وإنما تشجيعاً لقومه على التفكير، وتحريرهم من رقدة الجهالة، وتنويرهم بالعبر والأحداث حتى يثوبوا إلى رشدهم ويعيشوا في رحاب العلم والمعرفة وما ذلك إلا لأن الفكرة تورث النور والغفلة تورث الظلام.

    - التربية والتعليم:

    تربية الإنسان وتعليمه، عملية أساسية اضطلعت بها الأسرة أولاً، وتولت مهمة القيام عليها منذ نعومة أظفار هذا الكائن الحي، ثم توالت على ممارستها مؤسسات مختلفة لهذه الغاية.

    ولقد اختلفت الآراء حول مضمون هذه العملية، وذلك لاختلاف الأنماط الثقافية والحضارية والتربوية لكل أمة من الأمم، لكنها اتفقت جميعها على كونها طريقة إعداد للحياة، كما اختفت في معنى كل من التربية والتعليم، فمنهم من استعملها بمعنى واحد، ومنهم من ميز بينهما.

    والواقع أن مفهوم التربية يختلف عن مفهوم التعليم. وعدم التمييز بينهما يؤدي إلى تفكك الأساليب التربوية وتشويش شخصية الطفل، لأن تزويده بأنواع العلوم والثقافات قبل تهيئة التربة الصالحة لها، إنما معناه البنيان على الرمال.

    ولقد ميز (دي نوي) بين التربية والتعليم فقال: (فتربية الولد تقوم على تهذيب سجاياه الخلقية وتعليمه المبادئ الأساسية الثابتة التي يعترف بها الإنسان في كل البلدان، وإنماء الكرامة الإنسانية فيه منذ نعومة أظفاره. أما تعليمه فهو تغذيته بالمدنية التي جمعها الإنسان في مختلف الحقول. والتربية تصوب أعماله وتوحي إليه سلوكه في علاقاته مع الناس، وتساعده على تملك زمام نزواته. أما التعليم فيوفر له عناصر نشاطه الفكري ويعرفه بحالة التمدن الحديث. تعطيه التربية أسس الحياة التي لا تتبدل، ويمكنه العلم من التكيف حسب تبدلات محيطه، ومن ربط هذه التبدلات بالحوادث الماضية والمستقبلية) (58).

    فتربية الطفل إذن تبدأ قبل تعليمه، ولا يخفى أثر هذه التربية الأولى على شخصيته، إذ على مبادئها ومعطياتها يدرج وينمو ويبني كياناً مستقبلاً فاعلاً. وهذا ما يفسر ضخامة البناء الفكري الذي يشيده خلال سنيه الأولى، حيث تعمد التربية إلى كشف وإبراز ما يتمتع به من ميول ومواهب وقدرات وأهداف ليمارسها فيما بعد بالتعليم والعليم اللذين ليساهما، كما يقول أخوان الصفاء، (سوى إخراج ما في القوة يعني الإمكان، إلى الفعل يعني الوجود) (59).


    --------------------------------------------------------------------------------


    [align=center]أولاً: التربية[/align]


    إن تربية الطفل إذن، يجب أن تبدأ منذ المهد، وذلك بتنشئته على الأخلاق الفاضلة والعادات الحسنة، قبل أن يبدأ باكتساب العلوم أو يتشوه سلوكه بالعادات السيئة. يقول (دي نوي): (وعلى التربية الأولى أن تكيف أخلاق الولد ما دام دماغه ليناً خلواً من كل أثر وينبغي أن يتم هذا العمل الإعدادي قبل أن يكون احتكاك شخصيته بالعلم قد كوّن عادات يصبح من الضروري محاربتها يوماً ما) (60).

    ولا شك في أن هذه الفترة، من حياة الطفل إنما هي من أنسب الفترات وأخصبها وأكثرها أثراً على حياته ومستقبله، وذلك أنه (بقدر ما يكون الولد حديث السن، يسهل الحصول على نتيجة تربيته، فتنطبع القواعد فيه انطباعاً لا يمحى، وتأتي التأثيرات الأخرى الناتجة عن احتكاكه بالمحيط فلا تزيل أثرها. أما إذا جاءت القواعد الخلقية المعقدة وفرضت على الولد، بعد أن يكون سلك سلوكاً شخصياً، فلسنا نتمكن من محو الارتكاسات الذاتية) (61).

    ولقد تحدث الإمام علي (عليه السلام) عن هذا الأمر قبل ذلك بآلاف السنين. إذ يرى وجوب مباشرة الحدث بالتربية وتعهده بها، قبل أن يقسو قلبه أو ينشغل عقله بالعقائد والعادات السيئة التي تهجم عليه وتطبع سلوكه إذا ما وجدت سبيلاً لها إلى عقله، الذي يصوره الإمام (عليه السلام) بقوله: كـ(الصفحة البيضاء) أو كـ(الأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء إلا قبلته) (62).

    وهكذا، فقلب الحدث خال من الانتقاش بالعقائد مع استعداده لتقبل ما يلقى إليه من خير أو شر كما يقول الغزالي: (وقلب الطفل الطاهر، جوهرة نفيسة ساذجة عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة.. وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك) (63).

    نستنتج من ذلك أن المعرفة لا تولد مع الشخص، وإنما يولد معه الاستعداد لتحصيلها، وهذا هو معنى وجود العلم بالقوة في النفس الإنسانية. وهو قابل للتعلم منذ صغره، لأن حواسه ومداركه تكون منفتحة ومتيقظة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها، (فإنه في الوقت والساعة تدرك حواسه محسوساتها) (64).

  2. #32
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]التربية في نهج البلاغة [/align]


    - وظائف التربية:

    ولا تقتصر وظيفة التربية على إعداد الإنسان أخلاقياً صالحاً بل هي تمتد لتلعب دورها في تطور البناء الاجتماعي من خلال: نقل التراث الثقافي وتغيير كيان الفرد والمجتمع.


    ـ نقل التراث الثقافي

    إن تحليل معنى التراث الثقافي وعلاقة الإنسان به، يوضح مدى أهمية العملية الاجتماعية التي يتم بواسطتها نقل الأنماط الثقافية من جيل إلى آخر يأتي بعده.

    فالثقافة تعني مختلف وسائل التعبير وأنماط السلوك التي تبرز خصوصية شعب من الشعوب، لذلك فهي تشمل، استناداً إلى رأي الأنثروبولوجين الأميركيين بشكل خاص (على كل أنماط السلوك التي يعبر بها الإنسان عن نفسه والتي يشاركه فيها الآخرون، فهي تشمل الأدب والفن والديانات والميثولوجيات والأخلاق أو الآداب القومية والشعبية ومظاهر الحياة الاجتماعية من لباس وتزيين وكيفية طبخ وأكل.. الخ، فهذه كلها تعابير ورموز وآيات يعبر بها الإنسان عن نفسه، فهي ثقافته حتى لو كانت تقتصر على بعض المظاهر الفلكلورية) (65).

    وإذا كان التراث الثقافي مبعث آمال الأئمة وملهم مشاعرها وعنوان تقدمها والانقطاع عنه يؤدي إلى هدم الأساس الذي تقوم عليه حضارتها، فإن إعادة نبش هذا التراث من بطون التاريخ، ونفض الغبار عنه وصياغته صياغة جديدة تقتضيها الحال عملية تربوية شاقة يضطلع بها الجيل السابق لتقديمه غذاءً سائغاً إلى الناشئة من الأجيال اللاحقة. ومن هذا المنطق، فقد عرفت التربية بحسب دلالتها وعلاقتها بالحياة الاجتماعية. وهذا ما فعله المفكر الاجتماعي المشهور (اميل دوركهايم) في أوائل القرن الحالي، بقوله أنها (التأثير الذي يجزيه الجيل الراشد في الجيل الناشئ) (66)، وهذا ما كان قد عبر عنه ابن خلدون في الربع الأخير من القرن الرابع عشر، عندما نظر إلى القضية، نظرة المفكر الاجتماعية ولاحظ أن الجيل الناشئ يتشوق إلى تلقي العلوم والمعارف من الجيل الذي سبقه فيقول: (وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم) (67). وقول ابن خلدون هذا لا يختلف معنى ومدلولاً عن قول (إميل دوركهايم) السالف الذكر.

    ولقد تحدث الإمام (عليه السلام) عن هذا التفاعل الثقافي والاتصال الفكري بين الماضي والحاضر، انطلاقاً من تراث الإسلام المشرق، الذي صوره أقوالاً وأفعالاً ومبادئ تربوية يمكن الاستفادة منها في بناء الإنسان الفاضل، ومن تأكيده على أهمية هذا التراث وأثره الفعال في شحذ الهمم، نراه يتوجه إلى كل إنسان بما يراه صالحاً له في الدنيا والآخرة، فينقل إليه آثار الأولين والآخرين، نقية صافية من الأخطاء والشوائب من خلال السير في ديارهم وتتبع آثارهم وتمييز ما ينفع وما يضر منها. فالاتصال بالجذور لا ينبغي أن يكون عشوائياً بحيث يجذبنا التراث ويأسر أفئدتنا فنأخذ منه الغث والثمين. لهذا وحرصاً على صلاحية الهدف الذي نتوخاه من التربية يجب (أن لا يكون الاتصال بالماضي ضرباً من التبعية أو العبودية لهذا الماضي إذ لابدّ لنا من أن نجتهد على الماضي فنتجنب السلبيات ونؤكد على الإيجابيات) (68).

    كذلك، فإن محتوى النقل الثقافي يجب أن يكون هادفاً بحيث يتحدد بنوع المواطنة الصالحة التي نريدها ونوع المجتمع الذي ينبغي بناؤه وتكوينه بحيث تكون أهداف التربية منسجمة مع أهداف المجتمع حتى لا يحصل التناقض بينهما فتكون النتيجة خلاف ما نتوخاه ونعمل له. وليس أدل على ذلك من الاضطراب والتفكك الذي يظهر في المجتمعات التي تنشد التطور بينما هي ترزح تحت عبء القيم التربوية البالية والمتأخرة. لهذا (.. فالتربية ملزمة بهذه الوظيفة وعلى عاتقها يقع عبء الاختيار من بين الاتجاهات والقيم والعادات والمعارف والعلوم التي توجد في المجتمع على أساس التمييز بين المرغوب فيها والمرغوب عنها، ذلك أن كل مجتمع يتضمن الكثير من العناصر المختلطة والأفكار المتنوعة، والقيم المتعارضة المتشابكة. فوظيفة التربية في هذا المجال تكمن في تنمية الاتجاهات والقيم المنتقاة على ضوء الأهداف العليا لذلك المجتمع) (69).

    من أجل ذلك فإن أول ما يجب أن تنقله التربية إلى الأجيال الناشئة، هو كتاب الله، تنقله إليهم نقباً صافياً، خالياً من الشوائب باعتباره من أهم الركائز التي يجب أن يستند إليها الإنسان طيلة حياته لتقويم اعوجاج سلوكه وتنقية نفسه من الأدران التي علقت بها من جراء الابتعاد عن السبيل الصالح الذي رسمه الله في كتابه الكريم. وهذا ما أكده (عليه السلام) حيث اعتبر القرآن الأداة الفعالة في بناء الفرد والجماعة، فقال في وصية الحسن (عليه السلام)، المولود البكر لأمير المؤمنين والإمام الثاني من أئمة أهل البيت: (وأن ابتدئُك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ، وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه لا أجاوز ذلك بك إلى غيره) (70).

    لقد كانت الغاية من وراء ذلك، أن يزود الحسن (عليه السلام) ومن خلاله أهل الإسلام جميعهم بمقومات التغيير قبل أن تلتبس عليه أهواء الناس وآرائهم ومعتقداتهم الباطلة فيقول، (ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم فكان أحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة ورجوت أن يوفقك الله لرشدك، وإن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيتي هذه) (71).

    هذا المبدأ التربوي الهام الذي قرره الإمام (عليه السلام) منذ أمد بعيد إنما يقضي باستغلال نقاوة الفكر الإنساني لزرعه بالمعلومات الصحيحة. قبل أن تهجم عليه الأخلاق الذميمة والآراء الفاسدة الأمر الذي يجعل من الصعب على التربية أن تعيد تشكيله من جديد، وهذا يتوافق مع أحدث المناهج التربوية في يومنا هذا.


    ـ التغيير الفردي والاجتماعي

    ويقصد به كل تحول يحدث في كيان الفرد والمجتمع، وهذا التحول ينتج عن الصراع بين القديم والجديد، وعلى أساس هذا الصراع تتحدد وجهة سير هذا التغيير وسرعته. ذلك أن كل نمط ثقافي جديد يقابل بموقفين متعارضين أحدهما يدفعها إلى الأمام، والآخر يشده إلى الوراء. لهذا فالثقة الاجتماعية، إما أن تكون متطورة (ديناميكية) ترحب بالجديد وتتفاعل معه، وإما أن تكون جامدة (استاتيكية) تحافظ على القديم وتصدر رياح التغيير عنه. من هذا المنطق، فإن موضوع التغيير الذي تحدثه التربية، أصبح من أهم موضوعات علم الاجتماع ممّا يفرضه على الأفراد والمجتمعات من تحولات متفاوتة بين القوة والضعف، ولها أثرها في إعادة ترتيب الحياة من جديد. إلا أن هذا التغيير لن يؤتي ثماره ما لم تتوفر له القيادة المتميزة بالصلابة والتماسك والتي لا ترضخ لعنف الرفض والمقاومة.


    أ) التغير على مستوى الفرد

    إن التغير الذي تحدث التربية في نفسية الفرد، إنما هو بداية للتحول العظيم الذي سيطال المجتمع ككل. وبما أن للقيادة دورها الهام في إحداث التغيير المطلوب، فإن الاقتداء بها أمر يساهم في سرعة هذا التغيير. ولقد أعطى (عليه السلام) القدوة التي يجب أن تحتذى لحسم صراع النفس مع شهواتها لصالح الإنسان الفاضل وكانت وصاياه ومواعظه تصب في هذا الإطار فيقول في وصية إلى (شريح بن هانئ): (واعلم أنك لم تردع نفسك عن كثير ممّا تحب مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزواتك عند الحفيظة واقماً قامعاً) (72).

    وردع النفس عن شهواتها يستلزم الزهد في الدنيا، وما أكثر الخطب والمواعظ التي أوردها الإمام في الزهد تشبهاً بحياة الرسول والاقتداء به حتى قال فيه عمر بن عبد العزيز: (ما علمنا أن أحداً كان في هذه الأمة بعد النبي أزهد من علي بن أبي طالب) (73).

    ولا شك أن السيطرة على أهواء النفس والزهد في الدنيا من أكثر الأمور المشجعة على السلوك الفاضل. والتربية التي نعتمدها، إنما تساهم في تنمية الحس الخلقي للفرد وصياغة فكره قوالب معينة وبفضل التربية ينتقل الإنسان من بيداء الجهل إلى ميادين العلم والمعرفة كما في وصية الحسن (عليه السلام): (فإنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك) (74).


    ب) التغير على مستوى المجتمع

    إن التغير على مستوى المجتمع لا يتم بالصورة التي يتمناها رواد التربية فقد يكون سهل المنال وقد يقاوم بمعارضة شديدة، والمقاومة هي الأكثر حصولاً لتشبث القديم بقدمه، ورغبة الجديد في التطور والتقدم. وهذه حال رواد الصلاح والتغيير في العالم. وقس على ذلك حال الأنبياء والرسل والأئمة، والتاريخ يشهد بذلك. لقد جاوبه الإمام علي (عليه السلام) بمقاومة عنيفة من الفئات التي كانت تفضل الركود والجمود حرصاً على مصالحها وامتيازاتها فوقفت سداً منيعاً أمام رياح التغيير وحاولت منعه من تنفيذ برنامجه في الإصلاح، وقبل ذلك وقف النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ومعه الإيمان كله يصد موجات الكفر والضلال التي رفضت دعوته وأبت عليه مهمته في قهر الشرك ورسم معالم التوحيد.

    إن روح الإصلاح والتغيير التي تنبعث من كلمات الإمام علي (عليه السلام) وتتأكد في مواقف ومناسبات عديدة، تقابل بالإصرار على العنف والرفض والمعاناة كما يقول (عليه السلام): فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب) (75).

    إن حسم الصراع لن يتم إلا بالثبات في المواقف والتماسك في النفس حتى في أحلك الظروف، فلا يفت اليأس من عضد القائد أو يتسرب إلى قلبه ولا يرهبه عنف الصراع واحتدامه، فالتربية التي يتحدث عنها الإمام (عليه السلام) هي تلك التي تبني كياناً للإنسان يلزمه باتخاذ المواقف الأكثر صلابة تجاه الحق، فلا تؤثر فيه الإغراءات، ولا تخيفه الأعاصير كما جاء في قوله إلى أخيه عقيل: (لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولا تحسبنّ ابن أبيك ـ ولو أسلمه الناس ـ متضرعاً متخشعاً، ولا مقراً للضيم واهناً، ولا سلسل الزمام للقائد ولا وطئ الظهر للراكب المقتعد) (76).

    ولا شك من أن لهذا الثبات والتصميم في إزالة كل العوائق التي تحول دون بلوغ التغيير الاجتماعي الهادف، دوراً هاماً في تحقيق النصر النهائي بهدم صروح الحضارة البالية والتشييد لبناء حضارة خالدة (فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكتب وأنزل علينا النصر) (77).

    .................................................. ....
    الهوامش:

    1- باقر شريف القرشي، النظام التربوي في الإسلام، ص41، عن تاج العروس، ج1، ص261.

    2- سليمان، كامل والعبد الله، علي: التربية، مطبعة صادر، بيروت، 1965، ص176-177.

    3- نفسه، ص176-177.

    4- نفس المصدر.

    5- الغزالي، رسالة أيها الوالد، ترجمة توفيق الصباغ، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، سنة 1951، ص37.

    6- ديوي، جون، الديمقراطية والتربية، ترجمة متى عقراوي، وزكريا ميخائيل، طبعة محددة لأغراض دراسية، بيروت، 1970، ج1، ص12.

    7- أنظر ح، ج19، ص284.

    8- مستدرك نهج البلاغة، ص177.

    9- انظر ح، ج19، ص164.

    10- سورة القصص، آية 77.

    11- مقالات الإسلاميين، ج2، ص329.

    12- سورة الرحمن، آية 14.

    13- المصدر نفسه، ص 329.

    14- المصدر نفسه، ص 331.

    15- المصدر نفسه، ص 333.

    16- المصدر نفسه، ص 337.

    17- المصدر نفسه، ص 336.

    18- سورة الحجر، آية 29.

    19- سورة الفجر، آية 27-28.

    20- مستدرك نهج البلاغة، ص160.

    21- انظر ح، ج20، ص194.

    22- انظر ح، ج20، ص292.

    23- المصدر نفسه، ج20، ص292.

    24- المصدر نفسه، ج19، ص173.

    25- المصدر نفسه، ج20، ص260.

    26- المصدر نفسه، ج20، ص267.

    27- المصدر نفسه، ج20، ص260.

    28- انظر ح، ج18، ص271.

    29- المصدر نفسه، ج6، ص416.

    30- المصدر نفسه، ج13، ص18.

    31- انظر ح، ج19، ص11.

    32- أ. س. زابوبرت، مبادئ الفلسفة، ترجمة أحمد أمين، ط7، القاهرة، 1964، ص80.

    33- انظر ح، ج11، ص38.

    34- إحياء علوم الدين، ج3، ص74.

    35- انظر ح، ج16، ص67.

    36- انظر ح، ج18، ص254.

    37- الفندي، محمد ثابت، مقدمات في الفلسفة، مكتب كريدية أخوان، بيروت، 1971، طبعة محددة لأغراض دراسية، ص43.

    38- مالبرانش، أحاديث في الميتافيزيقا، الحديث الثالث، عن كتاب (بعض مشكلات الفلسفة) لـ(وليم جيمس) ص94.

    39- وليم جيمس، بعض مشكلات الفلسفة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، دار الطلبة العرب، بيروت، سنة 1669، ط2، ص20-21.

    40- انظر ح، ج16، ص64.

    41- المصدر نفسه، ج18، ص245.

    42- بلدي، نجيب ديكارت، دار المعارف، بمصر سنة 1968، ص65.

    43- ويل ديورانت: قصة الفلسفة، ص319-320.

    44- المصدر نفسه، ص334-335.

    45- المصدر نفسه، ص561.

    46- انظر ح، ج20، ص259.

    47- الرسائل، ج4، ص84.

    48- أحمد أمين، ظهر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، ط3، القاهرة، سنة 1962م، ج2، ص60.

    49- انظر ح، ج16، ص86.

    50- حلمي المليجي، علم النفس المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، ص1970، ص209.

    51- قصة الفلسفة، ص559.

    52- عبد السلام عبد الغفار، مقدمة في علم النفس العام، دار مكتبة الجامعة العربية، بيروت، 1969، ص268.

    53- الديمقراطية والتربة، ج1، ص181.

    54- نفسه، ج1، ص165.

    55- الديمقراطية والتربية، ج1، ص166.

    56- جميع هذه الأقوال أخذت من كتاب (الغرر والدرر) للآمدي، ص43.

    57- انظر ح، ج18، ص276.

    58- مصير الإنسان، ص301.

    59- أخوان الصفاء، الرسائل، ج1، ص262.

    60- مصير الإنسان، ص305-307.

    61- المصدر نفسه، ص305-307.

    62- انظر ح، ج16، ص66.

    63- إحياء علوم الدين، ج3، ص72.

    64- رسائل أخوان الصفاء، ج3، ص414.

    65- العروي، عبد الله، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت، 1973، ص70.

    66- الحصري، ساطع: دراسات في مقدمة ابن خلدون، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، ص1967، ص444.

    67- ابن خلدون، المقدمة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط5، د. ت. ص433.

    68- لبنان الحضارة الواحدة، لمجموعة من الأستاذة، صدر عن النادي الثقافي العربي في بيروت، وهذا النص أخذ من مقال الدكتور معن زيادة في هذا الكتاب، ص21.

    69- علي محمد الحسين الأديب، منهج التربية عند الإمام علي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1979، ص53.

    70- انظر ح، ج16، ص68.

    71- نفسه، ج16، ص68.

    72- انظر ح، ج17، ص138.

    73- فضائل أمير المؤمنين وإمامته، ج2، ص345.

    74- انظر ح، ج16، ص74.

    75- انظر ح، ج14، ص47.

    76- المصدر نفسه، ج16، ص148.

    77- المصدر نفسه، ج4، ص33.





  3. #33
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]أنواع التربية[/align]


    أولاً: التربية الاجتماعية




    1) الأسرة وأثرها في إعداد الإنسان

    الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى في نسيج المجتمع لذلك كانت محور دراسات الفلاسفة منذ القدم، وموضع اهتمام الديانات السماوية وجميع النظم والدساتير السياسية، وهي تعتبر بحق من أهم عوامل تقدم المجتمعات وتطورها واستقرارها بفعل العناصر الخيرة والفاضلة والمؤثرة التي ترفدها بها.

    وهي مجتمع صغير تتكون من زوج وزوجة والأولاد والخدم وربما شملت أيضاً الجدود والأحفاد والأقارب على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة.

    ولقد لعبت الأسرة، وما تزال دوراً مهماً في تنشئة الأجيال وإعدادها. ومهما قيل عن تراجع دورها بفعل المؤسسات المختلفة التي استحدثها المجتمع لتحل محلها، فإنها ما زالت تمارس وظيفتها في التناسل والتنشئة الدينية والخلقية والاجتماعية بشكل يدعو إلى صعوبة الاستغناء عنها أو التقليل من أهميتها باعتبارها أكثر التصاقاً ومعرفة بالطفل وأدق تنظيماً وإحكاماً من سائر المؤسسات التربوية التي من المفترض أن تحل محلها.

    والأسرة من الفعاليات الاجتماعية الديناميكية التي تنزع إلى مسايرة التطور ولا تستنكف التأثر بالنظم والتغيرات الحضارية لتعود وتؤثر في باقي أجزاء البناء الاجتماعي. فالتفاعل بينها وبين سائر أنظمة ومؤسسات المجتمع متبادل وهي لا تفتأ تؤثر التكيف والنمو والتجديد وفي ذلك يكمن سر تقدم المجتمعات وتطورها.

    وإذا كان للأسرة دورها في التقدم فإنها من جهة ثانية، يمكن أن تلعب دوراً هداماً تكون نتيجته التفكك والاضطراب. ذلك أن المجتمع يتكون من مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف والقيم والنظم والقواعد، ولا بد أن يمثلها أفراده في تصرفاتهم وعلاقاتهم بعضهم مع بعض حفاظاً على السلامة والاستقرار الاجتماعي. وعلى عاتق الأسرة تقع مهمة تزويد الأطفال بها، وتعويدهم عليها، وإلا فإن الشواذ منهم يكونون عامل هدم وتخريب وعدم استقرار.

    كذلك فإن أثرها في احترام قوانين المجتمع ونظمه وأحكامه، لا يقل أثراً عن اهتمامها بتزويده بالعناصر الفاعلة. وهذا الأمر يتوقف على القيم السائدة بين الآباء والأبناء، لذلك يؤكد علماء النفس الاجتماعي على ضرورة أن تتسم العلاقة فيما بينهم بالاتزان والانسجام والتعاون والاحترام المتبادل.

    ولا شك في أن الأسرة مسؤولة عن سلامة الأطفال النفسية وانحرافهم وشذوذهم والسبب يكمن في عدم الاستقرار العاطفي بين الآباء من جهة، وبينهم وبين الأبناء من جهة ثانية أو بني الأبناء أنفسهم.

    وهي من جهة أخرى، مسؤولة عن تزويدهم بالاتجاهات والنماذج السلوكية المقبولة، إذ في داخلها يتعلم الطفل قيم الأخلاق وقواعد الآداب ونماذج السلوك الحسن وأساليب الثواب والعقاب ومناحي الحق والخير والجمال والتعاون والمحبة والعمل وغير ذلك. لهذا يمكن اعتبارها إحدى العوامل الأساسية في بناء الكيان التربوي وتحقيق عملية التطبيع الاجتماعي. فالعائلة رغم كونها مؤسسة اجتماعية صغيرة، إلا أنها كبيرة الأهمية وعليها تتوقف قوة المجتمع ومنعته.

    ويمكن تلخيص أثرها في الطفل بأمور ثلاثة ذكرها (جون ديوي) وهي:


    أ. تكوين العادات اللغوية

    إن أساليب الكلام الأساسية والجانب الأكبر من المفردات اللغوية إنما تتكون في سياق الحياة داخل الأسرة. فالطفل يتعلم لغة أمه. يقول (ديوي): (أجل إن التعليم المقصود في المدارس قد يصلح من هذه العادات اللغوية أو يبدلها، ولكن ما أن يتهيج الأفراد حتى تغيب عنهم في كثير من الأحيان الأساليب الحديث التي تعلموها عن عمد، ويرتدون إلى لغتهم الأصلية الحقيقية).


    ب. الآداب الاجتماعية

    إن القدوة الحسنة أفضل من النصيحة، والعمل الطيب أبلغ أثراً من الكلمة المجردة والتربوية الفاضلة إنما تكتسب برياضة النفس على العمل الصالح لا باكتساب المعلومات عنها. يقول (ديوي): (وعلى الرغم من الجهود المقصودة المستديمة في تعليم الأفراد وتقويم سلوكهم، فإن الجو والروح المحيطين بهم يبقيان أقوى العوامل المؤثرة في تكوين آدابهم. وما الآداب الاجتماعية سوى الأخلاق مصغرة، أما في السمت الأعلى من الأخلاق فالتعليم المقصود لا يكاد يكون قوي الأثر إلا على قدر مطابقته لسيرة الأفراد الذين يكوّنون بيئة الطفل الاجتماعية).


    ج. في الذوق السليم وتقدير الجمال

    إن الطفل يأخذ أول فكرة عن الجمال والذوق من الأسرة، من خلال مشاهدته لأثاث البيت وتنسيقه، والترتيب الحاصل في الملابس التي يرتديها، أو التي يرتديها باقي أفراد أهله.

    كما أنه يكتسب من الأسرة، أول فكرة عن النظافة والثواب والعقاب، والحكم على الأشياء، واتخاذ القرارات وغيرها من النماذج السلوكية التي تساعده على حسن التكيف، والتفاعل مع غيره من أعضاء المجتمع الكبير الذي سينتقل إليه فيما بعد) (1).

    ونظراً لهذا الدور الهام الذي تلعبه الأسرة في بناء كيان الفرد والجماعة فقد عني الإسلام بدراسة شؤونها وتنظيمها وتشكيلها في صورة فاضلة وراقية، تتفق مع أحدث التشريعات وكانت عنايته بها حقيقة انفرد بها عن سائر الشرائع السماوية والأرضية. ومن يتدبر القرآن، يجد تركيزه وبجدية على ضرورة الالتزام بشروطها ومتطلباتها، بما يؤدي إلى ترابطها وتماسكها لما للطلاق من آثار سيئة عليها وعلى المجتمع ـ لذلك فقد (جعل للزواج أحكاماً، ووضع للطلاق وتعدد الزوجات قيوداً، وقرر للزوجين من الحقوق والواجبات المتبادلة ما به تحسن المعاشرة، وتقوى الرابطة وتطيب الحياة. ولا نكاد نجد في تشريع ما، أرضي أو سماوي، مثل هذه القاعدة الجليلة التي جعلها القرآن أساساً للحياة الزوجية ولفت بها الأنظار إلى ما بين الزوجين من الحقوق والواجبات، تلك القاعدة التي وردت في قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (2).


    2) موقف الإمام (عليه السلام) من الأسرة:

    يشير الإمام (عليه السلام) إلى أهمية هذه المؤسسة وأثرها على الفرد والمجتمع فيقول: (أيها الناس، إنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه وألمّهم لشعثه وأعطفهم عليه عند نازلة إن نزلت به ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره) (3).

    إلى أن يقول: (إلا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته، فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة) (4).

    إن مفهوم الإمام (عليه السلام) للعائلة، لا يقتصر على الآباء والأولاد، بل هو يمتد ليشمل العشيرة بأكملها وما تتضمنه من الأحفاد والأجداد والأقارب. ونظراً للدور الهام الذي تلعبه في بناء كيان الأفراد وحمايتهم من الأخطار التي تحدق بهم، فإنه يحث الأغنياء منهم على مواساة أقاربهم الفقراء وصلتهم بالمال ويرغب إليهم هذا الأمر بالذكر الجميل والاعتضاد بالعشيرة ودوام محبتها لهم.

    والواقع أن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن عائلته وخاصة في صغره كما أن المال لا يوفر له بدلاً عنها، فهي بالنسبة إليه ضرورة ملحة طيلة حياته ووظيفتها لا تقتصر على حماية أبنائها من خطر الآخرين بل أنها تتعدى ذلك إلى أخذهم بمختلف أنواع التربية حتى يشبوا صالحين. كما أنها المكان الذي يجد فيه الطفل الرعاية اللازمة لنموه وتطوره. يقول (جون ديوي) إن بني الإنسان يولدون قليلي النضج إلى درجة أنهم لو خلوا وأنفسهم بدون توجيه الآخرين وعونهم ما تمكنوا من الحصول حتى على أيسر الكفايات اللازمة لحياتهم المادية فصغار البشر يظهرون قليلي الحظ من الكفايات الأصلية إذا ما وزنوا بصغار الحيوانات الدنيا حتى أنهم لا قبل لهم باكتساب القوى التي تكفل حصولهم على ما يسد رمقهم إلا بحياطة غيرهم، فما أشد حاجتهم للرعاية إذاً، في محيط بلغت فيه الإنسانية مبلغها من الصناعة والفن والعلم والخلق) (5).


    3) روابط الأسرة

    إن روابط الأسرة كما حددها الإمام (عليه السلام) تتسامى عن تلك التي جمعت بين أفراد القبيلة في الجاهلية. فالعصبية القائمة على صلة الرحم، هي من النزعات الطبيعية في البشر فرضتها الحمية على الأهل والأقارب كما يقول ابن خلدون: (وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر، إلا في الأقل. ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك، نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا) (6).

    هذه النزعة الطبيعية في البشر، تؤدي إلى (الاتحاد والالتحام) فيما بين أفراد النسب الواحد، لأنها تحملهم على (التعاضد والتناصر) وتستلزم (استماتة كل واحد منهم دون صاحبه) (7).

    إلا أن هذه العصبية لم تستبعد الظلم الناجم عن الغزو، ولم تتخلص من الأحقاد التي زرعت الدماء والتنافر بين القبائل المختلفة بما نجم عنها من حروب اكتوى الناس بنارها.

    وإذا كان لصلة الرحم دورها الهام في توثيق عرى الاتصال بين أفراد الأسرة الواحدة. فإن هذا لا يعني التغافل عما يصدر عنهم من مظالم ومساوئ يلحق ضررها بالآخرين. ولقد تدارك (عليه السلام) هذا الظلم الناجم من استغلال البعض لهذه الصلة من أجل تحقيق مآرب شخصية ولم يتسامح في أي عمل يستحق المؤاخذة ومن أي مصدر كان قريباً أم بعيداً، فلا يدعو إلا إلى الحق الذي على أساسه يفاضل بين الأعمال. فعندما تنكر عبد الله بن عباس والي البصرة لابن عمه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقابله بالعداوة بعد الصداقة، وسرق أموال المسلمين مدعياً حقه فيما أخذ، كتب إليه الإمام يعنفه ويوبخه ويتوعده بالقتل إن لم يرجع للناس أموالهم التي سرقها، فيقول: (فاتق الله واردد إلى هؤلاء أقوم أموالهم، فإنك لم تفعل، ثم أمكنني الله منك، لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار) (8).

    وهكذا فالإمام علي (عليه السلام) لم تمنعه قرابته لابن عباس من أن يدفع الظلم الذي ارتكبه، إن هذا التماسك في شخصيته دفعه إلى تطبيق ما يؤمن به قولاً وعملاً، وحتى على أقرب الناس إليه. لقد أقسم أن ولديه، على قربهما منه وكرامتهما عليه، لو فعلا ما فعله ابن عباس من الخيانة، لما كانت لهما عنده هوادة في أخذ الحق منهما، لأنه لا يخشى فيه لومة لائم. فيقول: (والله لو أن الحسن والحسين فعلاً مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتهما) (9).

    لقد أراد الإمام (عليه السلام) من الإنسان أن يكون نصيراً للحق، ثابتاً عليه، فلا تأخذه فيه شفقة أو رحمة أو عاطفة أو عصبية. ومهما تكن لهذه الروابط من تأثير في النفوس فإنه لا ينبغي أن تحد من رؤية الحق ونصرته، وإذا كان للعصبية شأنها في تقوية الصلة بين أفراد العشيرة فإن الإمام (عليه السلام) يسمو بها إلى درجة تحد ممّا يلحق بها من مظالم وأحقاد ويجعلها سبباً لمكارم الأخلاق.

    فهو إذ يوبخ الناس على تعصبهم للباطل الذي تثور به الفتن، وتسفك بسببه الدماء، لسبٍ واهٍ، كتعصب إبليس على آدم لأصله، ويقول لهم: (ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة) (10). فإنه يحذرهم من هذا الأمر الذي لا طائل منه وينبههم إلى مواقع العصبية وما ينبغي أن تكون له، وهي مكارم الأخلاق ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، تلك التي تفاضل بها أهل المجد والشرف والنجدة من بيوتات العرب وسادات القبائل فيقول: (فإن كان لابدّ من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأخلاق، ومحاسن الأمور، فتعصبوا لخلال الحمد، من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والأخذ بالفضل، والكف عن البغي والإعظام للقتل والإنصاف للخلق والكظم للغيظ واجتناب الفساد في الأرض) (11).

    فروابط العشيرة إذاً ليست العصبية العمياء، ولكنها روابط الحق والعدل والعمل الصالح ومكارم الأخلاق. وكل ما عدا ذلك فهو باطل، وما قول الإمام (عليه السلام): (فإن كان لابد من العصبية..) إلا تأكيد على أصالة قوى الشر والعدوان عند الإنسان إلى جانب قوى الخير. تلك القوى التي لو تركت دون توجيه وإرشاد لشب عليها الإنسان وأصبح من العناصر الشاذة في المجتمع. لذلك فلقد حاول أن يصرفها بطريقة تكفل السلامة النفسية. إذ لا يمكن كبت تلك القوى لأنها سوف ترتد إلى اللاشعور أو الجانب المظلم من النفس، وتصبح من الدوافع اللاشعورية والرغبات المكبوتة التي (لا تستقر ولا تهدأ بل تحاول جاهدة أن تعبر عن نفسها بشتى الصور وتنجح في ذلك حينما يغفل الرقيب فتظهر في صورة متنكرة كما في أحلام النوم كتعبير رمزي عن محتويات اللاشعور، كما تعبر عن نفسها في صورة أمراض عصابية) (12).

    وهكذا فالكبت وإن كان يحول دون التعبير الطبيعي والمباشر عن الدوافع اللاشعورية، إلا أنه لا يمنعها من أن تعبر عن نفسها في صور تنكرية ملتوية.

    كما أنه لا يمكن قمعها واستبعادها بالقوة لأنها ستعود من جديد إذا خف عليها الضغط ولم تجد من يردعها. وفي كلتا الحالتين تتحول تلك القوى إلى عقد نفسية وأمراض عصابية لها أثرها السيئ على الإنسان.

    لذلك فقد استبعد الإمام (عليه السلام) هذا الأسلوب السلبي، وقال بوجوب الإعلاء والتسامي بها وصرفها في أمور يرضى عنها المجتمع. فبدلاً من أن يتعصب القوم لعشائرهم لأسباب يغلب عليها الجهل والعداوة والأحقاد مع ما ينتج عن ذلك من المآسي والشرور، فليكن التعصب لما فيه خير الفرد والمجتمع معاً.

    وللإمام (عليه السلام) أسلوب آخر في توجيه دوافع الفرد، تمثل في مبدأ الثواب والعقاب ولقد اعتمده من أجل تشجيع الإنسان على فعل الخير ونهيه عن فعل الشر، لما في الثواب أو العقاب، المادي أو المعنوي، من أثر في إصلاح رغباته ودوافعه، وسوف نرى ذلك في مكانه.


    أ. العواطف

    وهي من أكثر الروابط فعالية بني أفراد الأسرة، فالعاطفة (نظام يتألف من عدة ميول وجدانية مركزة حول شيء ما (شخص أو جماعة أو فكرة مجردة) تكيف الشخص لاتخاذ اتجاه معين في شعوره وتأملاته وسلوكه الخارجي) (13).

    وهي، من هذا المنطلق، تتميز عن الميول الفطرية، بالرغم من أنها ولدت منها، كذلك فإنها تتأثر بالعوامل الاجتماعية وتنمو وتتهذب بالتفكير والتأمل والتجارب الانفعالية المختلفة، كما أنه لها أثرها في تنظيم الحياة الانفعالية للفرد، وتوجيه السلوك والدوافع الفطرية توجيهاً حسناً بحيث تصبح أكثر ثباتاً واستقراراً ممّا يساعد على التنبؤ بسلوكه. والعاطفة، وإن كانت من الروابط الهامة بين أفراد الأسرة الواحدة إلا أنه لا ينبغي أن تصل إلى حد الإفراط أو التفريط لأن كلاهما مضر ومفسد لنفسية الإنسان كما يقول (عليه السلام): (فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد) (14).

    إن عدم رعاية الطفل والاهتمام به وحرمانه من المحبة والعاطفة يؤدي إلى تبرمه بأسرته وانعزاله عنها وسوء الظن بها، ومن ثم التطرف في أقواله وأفعاله، كما أن إحاطته بجو من العطف المفرط المشوب بالقلق واللهفة يجبره على الارتكاس إلى طفولته الأولى حيث كان يجد لذته ويجعله اتكالياً في شتى أموره، ويبذر بذور القلق في نفسه. فالعلاقة العاطفية التي تسود جو الأسرة، لها أثرها في سلامة الطفل النفسية وفي تحديد سلوكه الاجتماعي المقبل، ذلك لأن الطفل إن كان (غير واثق من عطف والديه وكانت علاقته بهما مشوبة بالقلق والخوف، فلن يبدي استعداداً للتعاون الإيجابي مع الآخرين، وإن كانت الرابطة العاطفية التي تربطه بهما هي رابطة العطف المفرط من جانبهما والاعتماد المطلق من جانبه فلن يسعى إلى التعلق عاطفياً بأفراد من خارج الأسرة. وإنما يقنع بالارتباط الطفلي اللذيذ، ويعرض عن كل ما من شأنه أن يفض هذا الارتباط) (15).

    أما إذا ألف الطفل من والديه قدراً كافياً من الحب المتزن، فإنه لن يتوانى عن المشاركة في شتى أمور الأسرة، ومن ثم يصبح من العناصر المقبولة اجتماعياً بسبب هذه العاطفة المتوازنة التي كفلت الأمن والطمأنينة له، ذلك لأن (الحب الوحيد الكفيل بإشاعة الأمن في نفس الطفل هو الحب الثابت المتزن، وهو وحده الذي يطبع علاقات الطفل الاجتماعية المقبلة بطابع الثقة) (16).

    هذا الجو المتسم بالمحبة الصادقة والعواطف النبيلة المتزنة، هو ما يدعو إليه الإمام (عليه السلام) على أن يكون الطابع الذي يطبع علاقة الآباء بباقي أفراد أسرتهم. لقد كانت الروح الحاكمة في الأسرة التي تكلم عنها، هي روح التواضع والمحبة والصداقة والاحترام المتبادل. فالعاطفة الأبوية التي تربط بين الآباء والأبناء، ينبغي أن تتأكد بتقديم النصائح والتوجهات والمعاملة الحسنة.

    لذا كان من الواجب على الأبوين أن يخلقا في البيت جواً عائلياً مشبعاً بروح المودة والحب. فإذا ما درج الأولاد على هذه الروح في حياتهم البيتية، سهل عليهم نقلها إلى حياتهم الاجتماعية الواسعة، ولقد عبر (عليه السلام) عن هذه العاطفة النبيلة بقوله: (ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي) (17).

    كذلك فإن الرباط العاطفي بين الآباء له أثره على الأبناء، لأن السعادة العائلية تبعث الطمأنينة في نفس الطفل، في حين أن عدم الاستقرار العائلي له ضرره في تعقيد نفسيته وهروبه من الواقع المؤلم الذي يعيشه ممّا يسهم في سوء تكيفه الاجتماعي. فإذا عجز الآباء عن تأمين هذا الجو العاطفي، فلا مجال للتحدث عن أطفال أسوياء. لذا كانت (مودة الآباء قرابة بين الأبناء) (18).

    لقد دخلت كلمات الإمام (عليه السلام) إلى أعماق النفس البشرية وسبرت أغوارها وكشفت عن مكنون أسرارها، ووقفت على ما يلائمها من الفضائل والمعارف والعواطف والانفعالات ودعت إلى تنشئتها عليها حتى يستقيم نهجها وتسمو في مدارج العلم والأخلاق.


    ب. الحقوق والواجبات

    إن العيش ضمن نطاق الأسرة يفرض جملة من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الآباء والأبناء، حيث لا يمكن بدونها حفظ كيان الأسرة وضمان استمرارها. فالآباء الذين لا يكترثون بأبنائهم ولا يعبأون برعايتهم وتربيتهم، وكذلك الأبناء الذين يظلمون آباءهم ولا يحترمونهم ولا يقدمون يد المساعدة لهم، إنما يقترفون خطأ فادحاً في ضمير الإنسانية وشرحاً واسعاً في كيان الدين والمجتمع. وكم نحن بحاجة اليوم إلى تدعيم الأسرة وتمتين وشائجها في عصر طغت على أبنائه المادية الهدامة وقل أثر الدين في النفوس، فتنكر الابن لأبيه وشغل الأب عن ابنه.

    ولقد أدرك الإمام (عليه السلام) هذا العصر ومنذ آلاف السنين وكشف عما يعتوره من رذائل ومفاسد فيقول: (يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل ولا يظرف فيه إلا الفاجر ولا يضعف فيه إلا المنصف يعدون الصدقة فيه غرماً، وصلة الرحم منّاً، والعبادة استطالة على الناس) (19).

    ونظراً لأهمية الأسرة كإحدى الركائز الثابتة في بناء المجتمعات وتقدمها فإن ما تحدث به الإمام (عليه السلام) يدعو إلى تدعيمها وتوثيق الصلة بين أفرادها من خلال ربطها بحقوق وواجبات تكفل لها الاستمرار والتقدم فجعل للأبناء حقاً على الآباء، وكذلك للآباء على الأبناء، وألزم كلاً منهما واجبات تجاه الآخر. وإذا تأكد حق القرابة والرحم فأخص الأرحام أفضلهم بذلك.

    إن طاعة الوالدين وبرهما من علامات المؤمن لقوله تعالى: (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) (20)، ولقد أوصى سبحانه ببر الوالدين وصلتهما في قوله الكريم: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) (21) ومعاملتهما في الدنيا بالمعروف حتى وإن خالفا قول الحق لقوله عزّ وجلّ: (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (22)، وقوله عزّ القائل: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (23).

    وهكذا فحق الآباء على الأبناء هو البر والطاعة في كل شيء إلا في معصية الله سبحانه، وحتى في هذه الحالة الأخيرة، فإن الله سبحانه يوجب الإحسان إلى الوالدين وعدم زجرهما أو التأفف منهما (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (24).

    أما حق الأبناء على الآباء فيتجلى في أمور ثلاثة:


    ـ في تحسين الاسم: إن للاسم أثراً على نفسية الطفل في مستقبل حياته، فبعض الأطفال يخجلون من ذكر أسمائهم ويرفضون مناداتهم بها وقد يفتعلون المشاكل بسبب ذلك، وربما يحاولون تغييرها بأسماء يرتاحون إليها. في حين أن البعض الآخر يطربون لسماعها وقد يعتزون بها ويشمخون. من هنا وجب الحرص والتمهل والاعتناء في اختيار الأسماء حفظاً على سلامة الطفل النفسية وحسن تكيفه الاجتماعي.

    ومن حق الولد على والديه أيضاً حسن اختيار مرضعته. ويرى الإمام علي (عليه السلام) أن لبن الأم هو أكثر فائدة للصبي من لبن أية مرضعة أخرى كما يقول: (ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه) (25)، وإذا تعذر ذلك فإنه يوجب النظر في اختيار المرضعة فيقول: (انظروا من يرضع أولادكم فإن الولد يشب عليه) (26). ولذا فقد استبعد الحمقاء عن الرضاعة، لأن لبنها يؤثر على طباع الطفل، (ولا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يغلب الطباع) (27).

    وقد عبر عن ذلك ابن سينا في قوله: (إن من حق الولد على والديه إحسان تسميته ثم اختيار ظئرة كي لا تكون حمقاء ولا ردهاء ولا ذات عاهة فإن اللبن يعدي كما قيل) (28).


    ـ في تحسين الأدب: والطفل أمانة والديه، ونفسه جوهرة نقية خالية من كل نقش، لذلك وجب أخذه بالآداب الصالحة والأخلاق النبيلة والعلوم النافعة، لما لها من مردود خير عليه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه، وذلك قبل أن تستفحل فيه الأخلاق والآداب الذميمة. وعلى كاهل الأسرة يقع عبء تعهد الطفل بالرعاية والتثقيف والتأديب والتهذيب وتمكينه من ممارسة الفضائل الخلقية والأدبية. وهذا ما أثبته ابن سينا بقوله: (فإذا فطم الصبي عن الرضاع بدئ بتأديبه، ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة وتفاجئه الشيم الذميمة، فإن الصبي تتبادر إليه مساوئ الأخلاق وتنثال عليه الضرائب الخبيثة فما تمكن منه من ذلك غلب عليه فلم يستطع له مفارقة ولا عنه نزوعا) (29).


    ـ في تعليمهم القرآن: وما ذلك إلا لأن القرآن يأمر بالخير، وينهى عن الشر ويجنب قبائح الأخلاق ويدعو إلى محاسن الفضائل والآداب وفيه شفاء من النفاق وهداية من الضلال. وقد عبر الإمام (عليه السلام) عن فضل القرآن بقوله: (واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدّث الذي لا يكذب وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، ونقصان من عمى.

    واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء. وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فاسألوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه وإنه ما توجه العباد إلى الله تعالى بمثله.

    واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق، وإنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة، ألا أن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواءكم) (30).

    وإذا كانت للقرآن هذه المزايا الهامة، كان لابدّ من تنشئة الطفل عليه حتى يتمثله قولاً وعملاً. وهذا ما دعا إليه ابن سينا عندما قال: (فإذا اشتدت مفاصل الصبي، واستوى لسانه وتهيأ للتلقين ووعى سمعه أخذ في تعلم القرآن وصور له حروف الهجاء ولقن معالم الدين) (31).

    ولقد ذكر (عليه السلام) هذه الحقوق المتبادلة بين الآباء والأبناء فقال: (إن للوالد على الولد حقاً، وإن للولد على الوالد حقاً، فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء إلا في معصية الله سبحانه، وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه ويعلمه القرآن) (32).

    ولا شك من أن المسؤولية الأولى في تربية الطفل إنما تقع على عاتق الأسرة فإذا كان العقل، كما يقول جون لوك: (صفحة بيضاء أو لوحة شمع خالية من النقش عند الميلاد) (33) مع استعداده لتقبل ما يلقى إليه، استطعنا أن نبلغ به ما نريد بتسليط المؤثرات الملائمة عليه. ولقد أظهرت الأبحاث والدراسات تأثر الطفل بصفات آبائه الخلقية والعقلية، باعتباره مطبوع على الاقتداء بهم والسيرة على نهجهم. ذلك لأن (أكثر أخلاق الطفل وسجاياه يأخذها من الوسط الذي يعيش فيه، فتنمو فيه وتترسخ لكثرة استعمالها والمداومة عليها، فترة طويلة، إلى أن تصبح عادة متأصلة في طبعه) (34).

    ونظراً لهذه المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق الأسرة، فلا عجب أن يمتدحها الإمام (عليه السلام) ويوصي بها خيراً فيقول: (وأكرم عشيرتك فإنهم جناحيك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول) (35) . ويدعو إلى حسن معاملة كل فرد من أفرادها.


    4) سياسة الأسرة

    وتتضمن أسلوب الرجل في تعامله مع زوجته وولده وخدمه باعتباره سيد الأسرة ومدبرها ومنظم شؤونها.


    أ. سياسة المرأة

    وفي ذلك نشير إلى موقف الإمام علي (عليه السلام) من المرأة وقضاياها وحقوقها وكيفية التعامل معها.

    إن موقف الإمام (عليه السلام) من المرأة هو موقف الإسلام بالذات. يقول محمد جواد مغنية (إن أقوال الإمام وآراءه، وواقعه هو واقع الإسلام وأقواله هي أقوال القرآن، لا يفترقان أبداً، حتى يردا الحوض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كما جاء في الحديث الشريف. وبالتالي فإن الإمام لم يخلق لنفسه، وإنما وجد وخلق ليمثل الإسلام على حقيقته، فإذا فكر، أو قال، أو فعل فلا يخرج في جميع ذلك عن دائرة الإسلام) (36).

    لقد ساوى الإسلام بين المرأة والرجل رغم اختلافهما بيولوجياً، ولم يفاضل بينهما إلا بالتقوى كما قال سبحانه: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (37). وضمن للمرأة حقوقاً ورتب عليها واجبات لقوله عزّ وجلّ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (38) فكفل لها حق العم والكسب والعشرة الحسنة، والملكية وحق اختيار الزوج.. وهاجم الذين يفضلون الرجل على المرأة ويتشاءمون من الأنثى لقوله تعالى: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (39).

    لكن المرأة هي العنصر الأضعف وكونها إنساناً لها مثل الذي عليها فإن هذا لا يمنع من أن تكون سائرة في فلك الرجل، ولقد وصفها الإسلام من خلال تصرفاتها التي تصدر عن طبيعتها وفطرتها. قال تعالى: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) (40). ولا ينقص هذا من شخصية المرأة لأن (حق القوامة مستمد من التفوق الطبيعي في استعداد الرجل، ومستمد كذلك من نهوض الرجل بأعباء المجتمع وتكاليف الحياة الأسرية) (41).

    وقال تعالى: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (42)، وحتى أنه تعالى جعل كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لقوله سبحانه: (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (43).

    تلك هي طبيعة المرأة كما عبر عنها الإسلام في كتابه الكريم، ولم يتخلف الإمام علي (عليه السلام) عن هذه الصورة التي وضعها القرآن للمرأة. فقد حصلت على كامل حقوقها التي أقرها لها الإسلام، ولم يذكر التاريخ حادثة واحدة أهان بها الإمام المرأة أو غمط بعض حقوقها حتى اللواتي أضمرن له العداوة عملاً بوصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال موصياً ولده الحسن (عليه السلام): (الله الله في النساء وما ملكت أيمانكم، فإن آخر ما تكلم به نبيكم أن قال: (أوصيكم بالضعيفين: النساء وما ملكت أيمانكم) (44).

    وليس أدل على ذلك من معاملته لعائشة التي ألّبت عليه الرجال وحشدت ضده الجيوش ودخلت معه في حرب ضروس كانت الأشد خطراً على الإسلام والمسلمين، ومع ذلك، لم يتصرف معها بما يشين كرامتها ويعدو شرفها بل أذن لها بالرحيل وجهزها بما تحتاجه من مركب وزاد ومتاع وسار في وداعها عدة أميال، وهو يدعو لها بالمغفرة.

    أما كلماته (عليه السلام) في حق المرأة، فهي تتراوح بين الاهتمام بها، وعدم الإساءة إليها أو التعرض لها بأذى، والكشف عن طبيعتها فيقول: (... ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول) (45) وليس هذا قدحاً في شخصية المرأة بقدر ما هو دليل على طبيعتها. لذلك فهو يحذر منهن بقوله: (فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر) (46).

    ومن الغريب حقاً، أن يسند ابن أبي الحديد هذا الكلام بموقف الإمام (عليه السلام) من عائشة حيث يقول: (وهذا الفصل كله رمز إلى عائشة). وليس هذا من الصواب في شيء لأن المنطق يقضي بعدم الحكم على الكل من خلال الجزء، إضافة إلى أن هذا يتنافى ومنطق الإسلام الذي يقول: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (47).

    وإذا كانت المرأة أداة للشر والفساد فإن المسؤولية في ذلك لا تقع عليها بقدر وقوعها على المجتمع الذي استغل غرائزها وضعفها وجعلها أداة للشر، ولم يهتم بتعديل هذه الغرائز وتوجيهها لما فيه خيرها وسعادتها.

    لقد كانت المرأة على قدر كبير من الجهل بحيث تمنعها ضآلة ثقافتها من إبداء الرأي السديد والحكم الصائب. أما اليوم فقد فتحت أمامها أبواب العلوم المختلفة ودخلت في أكثر المجالات التي دخلها الرجل وأصبحت قدرتها على المشاركة الإيجابية الفعالة في الحياة لا تقل عن قدرة الرجل، بل أصبحت تلعب دوراً هاماً في صنع الأحداث واتخاذ القرارات. فلا يمكن بعد ذلك عزلها في البيت وقصر وظيفتها على التربية فقط كما قال محمد عبده. (48) كما أن دعوة الإمام (عليه السلام) إلى عدم مشاورتها بقوله (وإياك ومشاورة النساء..) (49) لا يمكن أن ينسحب إلا على المرأة الجاهلة كما فعل النبي (صلّى الله عليه وآله)، يقول مغنية: (أما نهي النبي وعلي عن مشورة النساء، فيحمل على مشورة الجاهلة وكان أكثر النساء آنذاك في معزل عن العلم وتجارب الحياة ولا ذنب للمرأة في ذلك إذا قصر الرجل في تربيتها مع العلم بأنها من طينة الرجل، وطبيعتهما واحدة (يشتركان في المسؤولية على قدم المساواة) (50). فإذا عملنا على تثقيف المرأة وتهذيب غرائزها وتزويدها بالفضائل الخلقية والاجتماعية، لم يعد هناك من مبرر لحصرها في المنزل دون الانتفاع بمواهبها ومؤهلاتها شرط أن لا يتعارض ذلك مع واجبها المنزلي. ففي هذه الحالة يكون ضررها أكثر من الفائدة المرجوة منها، ويكون احتجابها في البيت، وقيامها على راحة زوجها وأولادها أفضل بكثير من اندماجها في المجتمع وهذا هو جهاد المرأة الحقيقي الذي عبر عنه الإمام بقوله: (جهاد المرأة حسن التبعّل) (51).


    ب. سياسة الولد

    أما الولد فهو أمانة والديه، ونفسه الطاهرة خالية من كل نقش وقابلة لكل نقش، فإن عُوّد الخير نشأ عليه وإن عوّد الشر مال إليه. لذلك وجب أخذه بالتربية قبل أن تهجم عليه الأخلاق الذميمة وتستحكم منه. ونظراً لضعف قواه العقلية والجسدية فإن الشفقة واجبة عليه، فلا ينبغي الإسراف في معاقبته: (حصّن عقوبتك من الإفراط) (52) كما قال (عليه السلام).

    أما في مجال الحياة العامة، فإن الإمام (عليه السلام) يوصي بعدم تنشئة الولد على الرفاهية والسخاء لا، من شأن هذه التربية أن تفسده وتسبب له الهلاك لحرصه عليها. فالسخاء صفة جميلة يحمد عليها الإنسان، لكنها تصبح عادة مهلكة إذا اعتادها وتجاوزت الحد المعقول، فيقول: (لا تحمدن الصبي إذا كان سخياً، فإنه لا يعرف فضيلة السخاء، وإنما يعطي ما في يده ضعفاً) (53).

    وفيما يتعلق بمهنة الولد، فإنه يؤكد على ضرورة الاهتمام بميوله واهتماماته ورغباته، إلا أنه يتعلم مهنة أبيه بسرعة لشغفه في تقليده ومحاكاته في عمله، لذا فإن (من عمل عمل أبيه كفى نصف التعب) (54).


    ج. سياسة العبيد

    الرقيق ظاهرة اجتماعية عرفتها مختلف الأمم والشعوب منذ أقدم العصور فكان اتخاذ الخدم منتشراً عند اليهود والنصارى والمسلمين، ولقد واجه الإمام (عليه السلام) سوء معاملة الخدم وأكد على حقهم في الرعاية والرفق والمعاملة الحسنة فإذا كانت ظروف الحياة، وليس الطبع، قد أجبرتهم على العيش معنا، يؤدون لنا من الأعمال والخدمات الكثيرة، إن هذا لا يعني الحط من أقدارهم وهدر إنسانيتهم.

    لقد آمن (عليه السلام) بإنسانية الإنسان، وألقى في نفسه ما يوقظه على أصل من أصول وجوده، وهو أن طبيعة الكون جعلته حراً لا يتمرد ولا يطيع ولا يعمل ولا يقول إلا على أساس من هذا الحق الطبيعي. وهو بذلك إنما يلقي في نفسه بذور الثورة على كل ما من شأنه أن يضيق عليه ويسلبه حقه في أن يكون حراً. لذلك فهو يتوجه إليه بقوله: (لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حراً) (55).

    هذا المفهوم العميق للحرية جعلت رجال الدين والإصلاح يهتمون بعتق العبيد في وقت كان يعتبر فيه الرق نظاماً طبيعياً، ويحد العبد بأنه آلة للحياة ضرورية لضرورة الأعمال الآلية المنافية لكرامة الإنسان الحر. إن عتق العبيد حاجة إنسانية فرضتها كرامة الإنسان وطبيعته الحرة. هذه الحاجة تجسدت في فكر الإمام علي (عليه السلام) وعمله ووجدانه وأصالته ووعيه بعدم أحقية الفوارق والامتيازات بين البشر، تلك التي نتجت عن عهود طويلة من الظلم والإقطاع وممارسة أبشع ألوان استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. فليس غريباً إذن أن يعتق الإمام (عليه السلام) العديد من هؤلاء بكده وعرق جبينه كي يعيد إليهم حقهم في حياة حرة كريمة. لهذا فقد (أعتق ألف عبد من كد يده، كل منهم يعرق فيه جبينه وتحفى فيه كفه) (56) كما ذكر جعفر ابن محمد في شرح النهج.


    5) سياسة الأصحاب والأعداء

    حاجة المصاحبة طبيعية بين البشر، بل وحتى في الحيوان ولكنها في البشر أولى لتشعب علاقاتهم وتنوع حاجاتهم ـ وقد اعتبرها الغزالي ثمرة حسن الخلق فقال: (اعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق والتفرق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر. ومهما كان المثمر محموداً كانت الثمرة محمودة) (57).

    والمصاحبة أوصت بها الكتب السماوية والسنن النبوية، وكما كانت من وصايا الأولياء والحكماء والأدباء ورجال الإصلاح لما فيها من أثر مباشر على تماسك المجتمع وصلاحه. إذ لا حياة لقوم إلا بوحدة أبنائه وألفتهم وإنه متى تحققت هذه الوحدة والألفة، تضافرت الجهود والعقول إلى العمل لحياة أفضل، إذ لا شيء وراء الشتات سوى المذلة والهوان، ولقد حذر الإمام (عليه السلام) من الفرقة والاختلاف ودعا إلى اجتماع الكلمة ولملمة الصفوف من خلال وحدة وطنية متراصة دون اعتبار لدين أو لون أو أي اعتبار آخر في سبيل تحقيق الهدف المشترك في التقدم والتطور (فإن جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة فيما تحبون من الباطل) (58).

    والمصاحبة تتطلب الانسجام في الخلق والمواقف، وهذا لن يكون إلا بحسن اختيار الأخوان والتأكيد على صلاحيتهم لهذا الأمر. وبقدر ما يكون الاختيار مصيباً بقدر ما تكون المصاحبة أكثر ثباتاً واستقراراً، إذ ليس كل أحد من الناس يصلح لأن يكون صديقاً لذا فإن الإمام علي (عليه السلام) يحدد نوع المصاحبة وأثرها فيقول شعراً:

    [align=center]فلا تصـــــحب أخـــــا الجــــهلِ *** وإيّــــــــــــاك وإيّـــــــــــــــــاه

    فكم مـــــــــن جــــــــاهل أردى *** حَلِيـــــــــماً حيـــــــــنَ آخـــــاه

    يقــــــــــاس المـــــــرءُ بالمرء *** إذا مـــــــا المــــــــــــرء ماشاه

    وللشـــــــيء مـــــن الشـــــيء *** مقايـــــــــيس وأشــــــــــــــباه

    وللقــــــــلب علــــــــى القــــلب *** دليل حـــــــين يلــــــقاه(59)[/align]

    ويقول أيضاً:

    [align=center]إن أخـــــاك الحــــــقّ من كان معك *** ومن يضـــــــرّ نفســــــه لينفــــعك

    ومن إذا ريــــــبُ زمــــــان صدعك *** شتّت فـــــيه شمله ليجمعك(60)[/align]

    إن ندرة الصديق الوفي تقضي بوجوب المحافظة عليه واحترام كافة حقوق الصداقة وذلك من أجل ترسيخ جذورها بحيث لا يؤثر عليها أي طارئ، صغيراً كان أم كبيراً.

    فالصداقة وذلك من أجل ترسيخ جذورها بحيث لا يؤثر عليه أي طارئ، صغيراً كان أم كبيراً. فالصداقة صنو الوفاء، والوفاء توأم الصدق، والصدق من الإيمان، ولن يصلح إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولقد دعا (عليه السلام) إلى نشر هذه القيمة الإنسانية السامية بين البشر لأهميتها في رص الصفوف ووحدة الكلمة ووضع الأسس الصالحة لممارستها بما يكفل لها الديمومة والاستمرار، ولن يتم لها ذلك إلا بضمان حقوقها المستندة إلى الوفاء والإخلاص والمحبة ونكران الذات كما جاء في وصية الحسن (عليه السلام): (.. ومن ظن بك خيراً فصدّق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه) (61).

    أما العداوة فلا معنى لها في منطق الإمام (عليه السلام)، لأنها من شيم النفوس الخبيثة الداعية إلى الحقد والكراهية. لذلك فهو يرفضها حتى في أضيق حدودها ويدعو إلى اعتماد العفو عند المقدرة تيمناً بكتاب الله القائل: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (62) فقال: (إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه) (63).


    6) سياسة الجار

    في هذا الباب يدعو الإمام إلى حسن الجوار واحترام حق الجيرة لأن جيران الأسرة من عوامل هناءتها أو شقوتها وعلى قدر ما يكون بينهما من ألف أو خلف، تحلو الحياة أو تسوء، لذا فقد تعوذ الناس بالله من جار السوء، وقال (عليه السلام): (سل عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار) (64).

    والوصية بالجار من الأمور التي دعا إليها الإسلام ووضع لها الشرائع والسنن. فقد أحل الله الجيران محلهم من ضمن الذين يتوجب الإحسان إليهم، فقال عزّ وجلّ: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (65)، وقال الرسول الكريم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) (66).

    فليس من الإسلام في شيء من يسيء معاملة جاره أو يهضم حقاً من حقوقه أو يطمع في أشيائه أو يشمت وينكل به. لذلك قال الإمام علي (عليه السلام): (وأحسن مجاورة جارك تكن مسلماً) (67).

    بهذا يكون الإمام علي (عليه السلام) قد صاغ نشاطات الإنسان الفكرية والعملية في قوالب اجتماعية سليمة من خلال تربية عمادها القيم والمبادئ السامية، بهدف خلق جيل يؤمن بالحق والخير والتضحية والفضيلة، (وهل التربية الاجتماعية سوى تعريف الولد بأصول المعاشرة وحسن المعاملة والأمانة والصدق والغيرية ونكران الذات ومحبة الآخرين وحسن السلوك والتعاون والتضحية) (68).
    ...................................
    الهوامش

    1- الديمقراطية والتربية، ج1، ص20.

    2- سورة البقرة، الآية 228.

    3- انظر ح، ج1، ص312.

    4- انظر ح، ج1، ص313.

    5- الديمقراطية والتربية، ج1، ص4.

    6- المقدمة، ص128.

    7- المصدر نفسه، ص154.

    8- انظر ح، ج16، ص168.

    9- المصدر نفسه، ج16، ص168.

    10- المصدر نفسه، ج13، ص166.

    11- انظر ح، ج13، ص166.

    12- علم النفس المعاصر، ص115.

    13- علم النفس المعاصر، ص166.

    14- انظر ح، ج18، ص271.

    15- عبد المنعم وحلمي المليجي، النمو النفسي، دار النهضة العربية، بيروت، ط4، ص224.

    16- النمو النفسي، ص220.

    17- انظر ح، ج16، ص75.

    18- المصدر نفسه، ج19، ص214.

    19- انظر ح، ج18، ص260.

    20- سورة النور، الآية 51.

    21- سورة لقمان، الآية 14.

    22- سورة لقمان، الآية 15.

    23- سورة الإسراء، الآية 23.

    24- سورة الإسراء، الآية 24.

    25- مستدرك نهج البلاغة، ص171.

    26- المصدر نفسه، ص170.

    27- المصدر نفسه، ص171.

    28- ابن سينا، السياسة، نشرة الأب لويس معلوف اليسوعي، ص1073.

    29- نفسه، ص1073.

    30- انظر ح، ج10، ص18-19.

    31- ابن سينا، السياسة، ص1074.

    32- انظر ح، ج19، ص365.

    33- الديمقراطية والتربية، ج2، ص298.

    34- قاسم جابر، أخوان الصفاء وآراؤهم السياسة، ص23، دراسة أعدت لنيل شهادة الماجستير في الفلسفة، 1979.

    35- انظر ح، ج16، ص221.

    36- علي والفلسفة، ص121.

    37- سورة الحجرات، الآية 13.

    38- سورة البقرة، الآية 228.

    39- سورة النحل، الآيتان، 58-59.

    40- سورة النساء، الآية 34.

    41- مجلة عالم الفكر، م7، ع1، 1976، ص54.

    42- سورة يوسف، الآية 28.

    43- سورة النساء، الآية 76.

    44- تحف العقول، ص140.

    45- انظر ح، ج15، ص104.

    46- المصدر نفسه، ج15، ص214.

    47- سورة الأنعام، الآية 164. فلابدّ والحالة هذه من أن يكون هذا الكلام نابعاً من الخبرة بطبيعة المرأة والمعرفة بدقائق نفسيتها، تلك الخبرة التي استقى أصولها من الإسلام.

    48- انظر م، ج1، ص129.

    49- انظر ح، ج16، ص122.

    50- انظر ح، ج3، ص531.

    51- تحف العقول، ص79.

    52- انظر ح، ج20، ص318.

    53- المصدر نفسه، ج20، ص330.

    54- المصدر نفسه، ج20، ص335.

    55- انظر ح، ج16، ص93.

    56- المصدر نفسه، ج4، ص110.

    57- إحياء علوم الدين، ج2، ص157.

    58- المصدر نفسه، ج2، ص171.

    59- إحياء علوم الدين، ج2، ص171.

    60- نفس المصدر.

    61- انظر ح، ج16، ص105.

    62- سورة البقرة، الآية 237.

    63- المصدر نفسه، ج18، ص109.

    64- المصدر نفسه، ج16، ص163.

    65- سورة النساء، الآية 36.

    66- إحياء علوم الدين، ج2، ص212، تحف العقول، ص140.

    67- تحف العقول، ص138.

    68- التربية، ص189.

  4. #34
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    ثانياً: التربية الدينية والأخلاقية



    الأخلاق، علم يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه الإنسان وما ينبغي أن يعمل، وبأي شكل يشكل حياته، ولقد مر هذا العلم بفترات طويلة من النمو والتطور قبل أن تحتضنه الفلسفة ويصبح علماً له قواعده وأصوله.

    خلق الإنسان، وهو مجهز بكثير من القوى والملكات، وبالعديد من الميول والرغبات والحاجات، فهو المخلوق الحر الذي يعمل ما يشاء وكما يشاء، وله السلطان التام على أعماله وأفعاله تجاه نفسه أو غيره من بني نوعه. ولم يكن له من حاكم يحكم به على أمور سوى ذاته. لذا اختلفت الأحكام وتعددت المقاييس وأصبح العمل الواحد أخلاقياً في مكان أو زمان، ومستهجناً في مكان أو زمان آخرين.

    ويظهر أن في الإنسان صوتاً باطناً يوحي إليه بما ينبغي أن يفعل، ويساعده على التمييز بين الحسن والسيئ، الحق والباطل، الضار والنافع، وهو ما يسمى بالوجدان أو الضمير. هذا الشعور هو الذي كان يحمل الناس على السير في طرق خاصة قبل بحث النظريات الأخلاقية بحثاً فلسفياً بأزمان طويلة. وهو ينشأ إما من غريزة في الإنسان وإما من معتقدات دينية وإما من أحكام تواضع الناس عليها وقرروا العمل بها لما وجدوا فيها الخير والمنفعة لهم في حياتهم العملية. وتأكدت هذه الأحكام بالجري عليها، ثم أجبر الناس على العمل بمقتضاها حتى صارت عرفاً وعادات وأصبح العمل بحسبها أخلاقياً وانتهاكها مخالفاً للأخلاق، قال زجلو: (العرف مجموعة أعمال محدودة تواضع الناس عليها اعتباطاً، ونمت في أوساط خاصة، سيما في المجتمعات الطبيعية والجنسية كالعشيرة والقبيلة ثم صار انتهاكها تعدياً على الآداب واتباعها فضيلة) (1).

    وعندما وجه سقراط فكر اليونان إلى البحث في الإنسان كانت الأحكام الأخلاقية منثورة في أقوال الشعراء على شكل حكم وأمثال، ولم يكن ثَمّ علم خاص بها. لذا قال الفيلسوف الفرنسي (بول جبانيه): (إن الشعراء كانوا أول لاهوتي عند اليونان كما كانوا أول واعظ) (2).

    أما البحث الحقيقي في الحقائق الأخلاقية، فأول من بدأ به عند اليونان، أفلاطون وأرسطو ولاسيما أرسطو.

    أما في الشرق، مهبط الأديان السماوية، فقد تولى هذه المهمة إلى جانب الفلاسفة رجال الدين والكهان والوعاظ. لذا اصطبغت فلسفتهم الأخلاقية بالدين الذي أصبح معيار الحكم الأخلاقي. ولقد كان الإسلام من جملة الأديان التي اهتمت بالأخلاق، فجمع بين الدين والدنيا.

    من خصائص التربية الإسلامية هي كونها دينية وأخلاقية وهي تهدف إلى تكوين الإنسان الفاضل الذي يكتسب من الفضائل بما يضمن له السعادة في الدارين. وهذا ما نلمسه بوضوح لدى التربويين المسلمين القدماء جميعهم، من خلال عرضهم لأهداف التربية والتعليم. إذ يرى هؤلاء أن الغرض الأسمى للتربية هو إحياء الشريعة وإتمام مكارم الأخلاق. يقول الغزالي في رسالة (أيها الولد): (أيها الولد كم من ليال أحييتها بتكرار العلم، ومطالعة الكتب وحرمت على نفسك النوم، لا أعلم ما كان الباعث فيه؟ إن كان نيل عرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصبها والمباهاة على الأقران والأمثال، فويل لك ثم ويل لك، وإن كان قصدك فيه إحياء شريعة النبي، وتهذيب أخلاقك وكسر النفس الأمارة بالسوء، فطوبى لك ثم طوبى لك) (3).

    إن اهتمام التربية بتكوين الإنسان الفاضل، إنما هو تمهيد لخلق المجتمع الفاضل، بقيمة الروحية والخلقية. ولقد عمل الإسلام على تخليص المجتمع ممّا علق به من أدران الجاهلية. وجاء النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي قال فيه تعالى مثنياً عليه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4)، ليبعث الروح في جسد هذه الأمة، ويتمم مكارم الأخلاق كما قال (صلّى الله عليه وآله): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (5).

    ولا شك أن للعبادة وذكر الله أثرها في الوجدان الخلقي للإنسان، إذ تكثر فيه الرغبة إلى الخيرات والعمل الصالح، وتقل فيه الرغبة إلى الشر والفساد والذنوب. هذا يعني أن الدين يزيل النزعات الشريرة من النفوس ويستبدلها بالميل إلى الخير والبر والعمل الصالح.

    ولقد حفل (نهج البلاغة) بكثير من خطب الإمام علي (عليه السلام) الداعية إلى الالتزام بحدود الله، لأنها تعصم عن الرذائل. جاء في إحدى هذه الخطب بعد تأكيد شديد على الصلاة (وإنها لتحت الذنوب حتّ الورق، وتطلقها إطلاق الربق) (6). وجاء في خطبة أخرى بعد الإشارة إلى عدد من رذائل الأخلاق من قبيل، الطغيان والظلم والكبر: (وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات تسكيناً لأطرافهم وتخشيعاً لأبصارهم وتذليلاً لنفوسهم وتخفيضاً لقلوبهم وإذهاباً للخيلاء عنهم) (7).

    فالصلاة عامود الدين وأساس اليقين تنقي القلوب وتغسل الخطايا وتذهب بالذنوب وتقرب إلى الله تعالى، فيجب تعهدها والقيام بها، فإنها كانت على المؤمنين كتاباً موقتاً، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (8).

    وهكذا فالصلاة تحت الذنوب حت الورق وتطلقها إطلاق الربق. ولقد شبهها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالحمة تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن. وقد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ولا قرة عين، من ولد ولا مال كما قال تعالى: (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) (9). وقد أمر تعالى رسوله الكريم بها فقال جل القائل: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) (10).

    وبالإجمال فالصلاة عامود الدين، وقربان كل تقي وعلم الإيمان كما قال (عليه السلام): (علم الإيمان الصلاة من فرغ لها قلبه، وقام بحدودها فهو المؤمن) (11).

    أما الزكاة، فهي كالصلاة من القرابين التي يتقرب بها العبد إلى الله. وهي فريضة اجتماعية واجبة، فرضها الله تأكيداً لمبدأ التعاون بين الناس من أجل الصالح العام وخاصة الأغلبية الفقيرة منهم، على أن يكون بذلها عن طيب خاطر.

    أما الصوم، فهو إحدى العبادات الكبرى التي فرضها الله في جميع رسالاته على البشر وعلى مدى التاريخ، يشهد بذلك قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (12). وللصوم كغيره من العبادات، هدف تربوي يتمثل في تنمية الضمير الأخلاقي في داخلهم، والحس الإنساني في سلوكهم، من أجل التضامن الاجتماعي في علاقاتهم داخل المجتمع، وإيجاد روح الانضباط والنظام في حياتهم العامة. وقد عبر الله تعالى عن هذا الهدف التربوي بالتقوى فقال: (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (13). والتقوى ذات مضمون اجتماعي وسياسي إلى جانب مضمونها الروحي، إذ لا تعبر فقط عن الحالة الروحية وحدها بل هي في الحقيقة نظرة إلى ما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان في المجتمع.

    فالصوم من هذا المنظور، عمل تجريبي يقوم به الإنسان ليتحسس آلام الآخرين، ويدرك من خلال التجربة الشخصية حاجتهم، فيكون أكثر استعداداً للعمل بنفسه والتعاون مع الآخرين في المجتمع والدولة لتنمية هذا الإحساس ونشره بين فئات المسلمين. والصوم في الوقت ذاته عمل انضباطي يمارس الصائم ضبط النفس والطاعة الواعية أمام الإغراءات التي تقدمها له الحياة اليومية فتدعوه إلى العدل وعدم الظلم. وهذه النقطة عظيمة الأهمية في التربية الحضارية، لأن مقياس قدرة أمة من الأمم على صنع حضارة، تتناسب طرداً مع قدرة أفرادها وجماعاتها على الانضباط والتقيد بالنظام. ومن المعلوم أن نمو الروح الفردية يشجع على انطلاق الرغبات الأنانية في المجتمع لدى الأفراد والجماعات، ويؤثر بالتالي على التماسك الاجتماعي، ومن ثم فإنه في المدى البعيد، يؤثر على قدرة الأمة وعلى مدى ثباتها أمام التحديات والنكبات.

    من هذا المنطلق، فإن الصوم ضرورة تربوية لمواجهة تيار الترف وما يؤدي إليه انحلال يطبع حياتنا شيئاً فشيئاً، ويطغى عليها بتأثير نمط الحياة الغربي، الذي يجعل المتعة الشخصية والرفاه والراحة غايات مقدسة على حساب الشعور بالمسؤولية الإنسانية تجاه الآخرين وتجاه المجتمع الذي نعيش فيه.


    1) معنى حسن الخلق

    تكلم كثير من الفلاسفة والحكماء في حقيقة حسن الخلق ولم يتوصلوا إلا لبعض نتائجه دون أن يستوعبوا حقيقته بل ذكر منهم ما خطر له منها وما كان حاضراً في ذهنه. ولقد اعتبر الغزالي نفسه ممن توصلوا إلى الكشف عن هذه الحقيقة فقال: (فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية. فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجملية المحمودة عقلاً وشرعاً، سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً) (14).

    هذا المعنى الذي تكلم عنه الغزالي، لا يوضح فيما إذا كان الخلق أمر مركوز ومطبوع في الجبلة مذ الميلاد، أم أنه مكتسب بالمران والعادة طيلة أيام الدنيا ومع ذلك فإن إيجابيته تكمن في جعل الخلق شيء طبيعي يصدر عن النفس تماماً كصدور النور عن الشمس من غير فكر ولا روية لأن التكلف يوحي بالرياء والمراوغة وغير ذلك من الأفعال القبيحة.

    ولقد كان الإمام علي (عليه السلام) أبدع تصويراً وأشكل إحاطة بحقيقة حسن الخلق من خلال شرحه لحال العارف المطلق الذي خصه الله بألطاف بحيث تصدر عنه الأفعال بالفطرة ومن غير فكر وروية تتأكد بالممارسة العملية الصادقة. من ذلك قوله: (عباد الله، إن من أحب عباد الله إليه، عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى ليومه النازل به فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد، نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده، فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى عن الهموم إلا هماً واحداً انفرد به. فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى، وقد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبل بأمتنها. فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور، من إصدار كل وارد عليه، وتصيير كل فرع إلى أصله، مصباح ظلمات، كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه، فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه. قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمها، ولا مضنة إلا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله) (15).

    هذا النص يفسر حقيقة حسن الخلق بكونه لطفاً إلهياً أمد الله به أخلص عباده إليه، يختار عنده الحسن ويتجنب القبيح من غير روية وإعمال فكر. ولقد حدد الطرق التي ينبغي أن يسلكها العارف كي يخصه الله بلطفه، وهذه الطرق تتمثل بالعبادة والزهد وطلب العلم وقول الحق.

    أما العبادة، فهي في الإخلاص لله والتورع عن محارمه والاستكثار من ذكره والتفرد بمناجاته ومطالعة أنوار عزته حتى تتكيف نفسه بتلك الكيفية العظيمة الإشراق.

    ويظهر الزهد في قطع علائقه بالدنيا والتخلي عن همومها إلا هماً واحداً وهو أن يلقى الله راضياً مرضياً، وأن يطلب العلم ويهتدي بنوره لنهج السبيل الحق حتى يصبح قادراً على كشف المبهمات وحل المعضلات. ويتمكن من دينه ويسلك بوحي منه ويجيب بالحق عن كل سؤال وإن يحكم بالعدل ويلزم نفسه به ويقول الحق ولو كان عليه.

    هذه الطرق إذا سلكها الإنسان استخلصه الله وأيده بلطفه فصارت تصدر عنه الأفعال بالطبع لا بالتكلف. وهكذا فإن حسن الخلق يتأكد بالممارسة الدينية والدنيوية السليمة ويصبح من سجايا النفس الطبيعية فيصدر عنها بعون الله من غير فكر أو روية.

    تلك هي أبرز معالم التربية الخلقية التي اعتمدها الإمام علي (عليه السلام) في سبيل إعداد الإنسان العالم المؤمن الذي اهتدى بنور العلم والإيمان إلى نهج السبيل الحق وتغلب على نفسه الأمارة بالسوء وسلك طريق العلم والعمل بوحي من ضميره الخلقي وحق له أن يكون من خلفاء الله في أرضه، الذي يخضع فكراً وسلوكاً لأحكامه وتعاليمه الداعية إلى عمارة الأرض وصلاحها لخير العباد وصلاحهم.


    2) طرق التهذيب المسلكي

    إن طبيعة الإنسان قابلة للتغير والتكيف بالتربية والتعليم، وقد زعم البعض بعدم القدرة على تعديل الخلق نظراً لعدم تغير الطباع ولو كان الأمر كذلك (لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (حسنوا أخلاقكم) (16).

    ومن الطرق التي اعتمدها (عليه السلام) في التهذيب المسلكي هي:


    أ. القدوة الحسنة

    وأعني بها مواجهة الناس بالسلوك الحسن بحيث نكون قدوة لهم في ممارسة الفضائل والمكرمات والطاعات واجتناب الرذائل والمحرمات، لأن من يروم إصلاح غيره وجب أن يبدأ بنفسه أولاً. فإذا كان المرشد مناقضاً لنفسه ودينه، تابعاً لأهوائه وميوله ذهب إرشاده مع الريح وهذا نوع من السفه، بل هو السفه كله. فيقول: (من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره. وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم) (17).

    ولقد كان الإمام علي (عليه السلام) يعطي المثل من نفسه في كل عمل يدعو إليه أو كلام يأمر به لأنه يكره التلون في الأخلاق والتناقض بين الأعمال والأقوال، وما ظلم من ساوى الناس بنفسه فيقول: (إني لأرفع نفسي عن أن أنهى الناس عما لست انتهي عنه أو آمرهم بما لا أسبقهم إليه بعملي أو أرضى منهم بما لا يرضي ربي، إني لا أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها) (18).


    ب. المربي الجيد:

    لشخصية المربي دورها الهام في تشكيل نفوس المتعلمين، وقد أوصى الحكماء والمربون بضرورة أن يتولى مهمة التربية والتهذيب ممن تتوفر فيهم الصفات الحسنة والخصال الحميدة لأن (من لم يصلح خلائقه لم ينفع الناس تأديبه) (19) ما قال الإمام (عليه السلام). فالمربي الجيد يستطيع أن يسمو بأمته ويضعها في مصاف الأمم المتحضرة والمتقدمة من خلال تزويدها بالطاقات البشرية الصالحة. لذا فإن أهميته تتعدى أهمية المناهج والقوانين والأنظمة المتبعة. يقول الأبراشي: (ليست المناهج والقوانين المدرسية والأبنية الفخمة والأجهزة العظيمة بأكثر أهمية في التربية والتعليم من المدرّس، فإن له أثراً كبيراً في التلميذ، في عمله وأدبه وفي عمله ومهارته، فمن المحال أن يرتقي مستوى التعليم إلا إذا أوجد له مدرسون قديرون، مخلصون في عملهم، خبيرون بمهنتهم واستفادوا من تجاربهم وإرشادات غيرهم) (20).

    من هذا المنطلق فقد اشترط (عليه السلام) على من يتولى هذه المهمة الصعبة أن يكون له (قوة في دين وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وعلماً في حلم.. الخير منه مأمول، والشر منه مأمون.. يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه.. لا يضار بالجار ولا يشمت بالمصائب ولا يدخل في الباطل.. نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة..) (21). إلى غير ذلك من القيم الخلقية والأدبية والدينية والاجتماعية.


    ج. العِشرة

    وللعشرة دورها في تكوين خلق الإنسان، لأن الصاحب معتبر بصاحبه، والسجايا والخصال إنما تتأثر وتتكون بجو العشرة وما يكتنفه من قيم ومبادئ، لذلك كان الأبرار قرناء الخير والخلق الحسن وكان الأشرار قرناء الشر والخلق السيئ، وما ذلك إلا لأن (سوء الخلق يعدى، وذاك أنه يدعو صاحبك إلى أن يقابلك بمثله) (22) كما يقول الإمام (عليه السلام).


    د. الثواب والعقاب

    ونعني به التهذيب بالترغيب والترهيب، وهو من المبادئ التربوية الهامة التي تأخذ بها التربية الحديثة، لأن الثواب يرغب بعمل الخير ويدعو صاحبه إلى المثابرة عليه. أما العقاب فإنه ينهي عن الشر ويردع عن فعل السوء.

    جاء في عهد الأشقر: (ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء..، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه) (23).


    3) معرفة أخلاق النفس

    لكي يتمكن الإنسان من معرفة أخلاق نفسه، لابدّ له من سلوك طريقين: معرفة نفسه بنفسه، ومعرفة نفسه بالآخرين.


    أ. معرفة نفسه بنفسه

    إن من أبغض خلائق الله رجلاً استسلم إلى نفسه فشغل بها ونسي خالقه، فجاء عن قصد السبيل وخبط في الباطل، فكان من نفسه في عناء والناس منه في بلاء.

    والنفس أمارة بالسوء لما جبلت عليه من حب الشهوات، فلابدّ من زجرها بالعقل ومراقبتها باستمرار حتى لا تستحوذ علينا الرغبات والأهواء فتؤدي بنا إلى الهلاك. لذا (فمن شغل نفسه بغير نفسه، تحير في الظلمات وارتبك في الهلكات، ومدت به شياطينه في طغيانه، وزينت له سيئ أعماله) (24) كما يقول الإمام (عليه السلام).

    وكلما أمعن المرء في مراقبتها وحاسبها على أخطائها واستدرك ذلك بالتوبة والمغفرة، وقوم اعوجاجها بالعقل والضمير والوجدان، كلما انقادت إليه بسلاسة وتمكن من السيطرة عليها فلا ترديه في مهاوي البؤس والرذيلة فيكون اتعاظه بنفسه أقوى أثراً وأبلغ حجة من وعظ الناس له لأن: (من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها لا زاجر ولا واعظ) (25) كما يقول الإمام (عليه السلام) أيضاً. ومن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، ويرى أحدهم القذى في عين أخيه، ويعمى عن رؤية العصي في عين نفسه، وكفى بالمرء جهلاً ألا يعرف قدره.


    ب. معرفة نفسه بالآخرين

    إن معرفة أخلاق النفس بالغير، أفضل من معرفتها بنفسها لما في طباع الإنسان من التغاضي عن عيوبه والتسامح عن كثير من أخطائه. لذا كان لابدّ من الاستعانة بمن يصدقونه، الحديث عن نفسه ويبصرونه بعيوبها حتى ينظر إليها منعكسة في مرآة نفوسه. ومن هؤلاء الأصدقاء والأعداء، لأن الأولين يظهرون له بصدق ما يعتمل في نفسه من محاسن ومساوئ والآخرين يطنبون في ذكر معايبها فيتجنبها. ومنهم أيضاً أهل الورع والحكمة وأصحاب العلم والأدب، فيحاكمهم في نفسه حتى يطلع على خفايا الآفات ومطايا الزلل، فيبتعد عنها ويعمل بوحي آرائهم ومشورتهم، قال الإمام علي (عليه السلام): (جالس العلماء يكمل عقلك وتشرق نفسك وينتف عنك جهلك) (26). وهكذا تظهر نزعة الإمام علي (عليه السلام) الاعتزالية في تقديمه للعقل.


    4) علامات حسن الخلق

    إن الإمام علي (عليه السلام) يمثل الأخلاق الإسلامية بأروع معانيها وبكل ما تنطوي عليه من القيم والمبادئ السامية. ولعل قوله السالف الذكر (قيمة كل امرئ ما يحسنه) هو خير تعبير عن الإنسان الفاضل الذي يريده. والناس أبناء ما يحسنون، وما يحسنه الإنسان يجب أن يكون منطلقه الإيمان لأن الدين يقدس الفضائل كلها وحكمه تؤخذ من حكم العقل لذا كان (التقي رئيس الأخلاق) (27) كما يقول الإمام علي (عليه السلام).

    والتقوى تتعارض والنفاق في الأخلاق وتتماشى مع الطبع وكل ما يبدر من الإنسان يجب أن يكون انقياداً للطبع والسجية دون تكلف أو رياء. والرجل التقي لا يأخذ الحياة كغاية في حد ذاتها بل وسيلة لغاية أسمى هي إثبات جدارته بخلافة الله في أرضه فيتورع عن البغي ويجهر بالحق ويصبر على الشدائد ويمقت التكلف ولا يتصنع في رأي يراه أو نصيحة يسديها أو رزق يهبه أو مال يمنحه ويتواضع ولا يتكبر وتكون علاقته بغيره مبنية على الصراحة والخلق والصدق وسلامة القلب فلا يحسد ولا يبخل ولا يكره ولا يحقد.

    لذلك فإن الإمام حدد (عليه السلام) مكارم الأخلاق في عشر خصال هي (28):

    أ. السخاء

    ب. الحياء

    ج. الصدق

    د. أداء الأمانة

    هـ. التواضع

    و. الغيرة

    ز. الشجاعة

    ح. الحلم

    ط. الصبر

    ي. الشكر


    5) أما الخصال المذمومة التي نهى عنها الإمام علي (عليه السلام) وحذر منها فهي كما يلي:

    أ. الغضب

    ب. الخوف

    ج. الحسد

    د. الحرص

    ه. البخل

    و. الجبن

    ز. الطمع

    ح. الكذب

    ط. الحقد

    ي. العجب

    ك. الرياء

    ل. الغيبة

    م. النميمة

    ن. الفخر

    س. كثرة المزاح

  5. #35
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    ثالثاً: التربية الوطنية



    للتربية الوطنية مكانتها الرئيسية في دساتير الأمم والشعوب، ومهمتها تكمن في إعداد النشء على محبة الوطن وخدمته بصدق ووعي وإيمان والذود عنه والعمل على رفعته وتطوره في سائر المجالات بالتعاون مع سائر أبنائه. والشعوب منذ فجر حياتها، وحتى يومنا الحاضر، ما زالت تعتبرها إحدى الركائز الهامة لبناء مجدها ومستقبلها (فالأقوام البدائية مثلاً كانت وما تزال في بعض البقاع النائية المنعزلة، تعطي أولادها عند البلوغ دروساً نظرية وعملية عن أسرار القبيلة وتقاليدها، وعاداتها قبل إدخالهم في عضويتها، كما أن الرومانيين كانوا يحفّظون أبناءهم مجموعة من أهم قوانين البلاد أطلق عليها اسم الألواح الاثني عشر) (29).

    ولقد كان لخطب الإمام (عليه السلام) دورها في تنمية هذا الحس الوطني والشعور القومي، بعيداً عن العصبية والقبلية الجاهلية، بل في إطار التعاون بين سائر الشعوب ضمن حدود الحق والعدل والأخوة، فلم يعد الوطن هو المحدد بمساحته وحدوده وشعبه (القطري) ولا المحدد بلغته ودينه وتاريخه (القومي) فهذه الأوطان هي من الضيق بحيث لا تسع أفق الإمام ومداركه. إن نظرته (عليه السلام) للوطن تلغي الحدود وتتجاوز الحواجز الروحية كانت أم مادية، وتمتد لتشمل الوطن الإنساني (ليس بلد بأحق بك من بلدك، خير البلاد ما حملك) (30). فالوطن الذي يقصده هو حيث يطمئن فيه الإنسان إلى وجوده ومصيره وحقوقه، لأن (وطن الإنسان هو راحة الإنسان وأمنه وحريته وكرامته وحقوقه ومصيره، فكل بلد يؤمن له ذلك هو وطنه الذي يخلص له، ويستميت في سبيله سواء أكان بلد الآباء والأجداد أو لم يكن، أما الأسماء والألفاظ فوسيلة لا غاية) (31).

    والوطن هو حيث يكفي حاجة الإنسان ويرفع عنه كابوس الفقر والعوز فيعيش بكرامة وغباء ويتجنب ذل السؤال لأن (الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة) (32). إن ما نستنتجه من هذه الكلمات هو الإيمان بوحدة الأمة والعمل على تكريس هذه الوحدة من خلال تربية الفرد وإعداده إعداداً وطنياً صالحاً. والمواطنة الصالحة تقضي ببناء كيان الفرد الفكري والعاطفي والخلقي.


    أ. البناء الفكري

    وهي تتضمن تنمية ثقافة الفرد بشؤون الحكم ومعناه وسلطاته ووظائفه وعلاقة إحداها بالأخرى، وما له من حقوق وما عليه من واجبات تجاه وطنه وأهله لذلك فهو يوصي بضرورة الاهتمام بالشرائع العادلة، والسنن الفاضلة، والوصايا الخيرة للتزود منها بالخبرات التي تساعد على حسن سير الأمور بحيث تجرى على سنن ثابتة فاضلة بدلاً من الخبط في الجهالات، وهذا من شأنه أن يضفي على علاقة الحاكم بالمحكوم طابع الأخوة والثقة والمحبة والاحترام، فتتأصل الوطنية في النفوس وتتزاحم تلقائياً لخدمة الوطن.


    ب. البناء العاطفي

    ويقصد بها تغذية شعور الفرد بكل عاطفة نبيلة نحو وطنه وشعبه. فالمواطنة الصالحة لا تكتفي بالقيم والمبادئ الفكرية المجردة، بل لابدّ من ممارستها عملياً على أرض الواقع لذلك كان الوجدان همزة وصل بني الفكر والسلوك. وكان العمل هو الضمانة الوطنية الخالصة. فالوطن لا تحميه الدموع ولا تتعمق جذوره إلا بسواعد أبنائه وأصحاب المصلحة العليا في الذين يتقاعسون عن نصرة بلادهم فيقول: (يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزَون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون) (33). فالوطنية إذن ليست نشيداً حماسياً ولا تغنياً بالأمجاد، ولكنها وفاء وتضحية والتزام.


    ج. البناء الخلقي

    وهي الهدف الأسمى للتربية الوطنية وبدونها تبقى الأفكار والعواطف لا ضابط لها ولا وازع.. لذلك فإن الإمام (عليه السلام) يؤكد على الناحية المسلكية من شخصية الإنسان فيرى ضرورة قيام العلاقة بين البشر على المحبة والأخوة والاحترام المتبادل يظهر ذلك في القول: (يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك، وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم واحسب كما تحب أن يحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وارض من الناس بما ترضى لهم من نفسك) (34).

    هذا التفاعل الوطني الخير الذي بذره (عليه السلام) في نفوس الناس كان وسيلة لغاية أكبر هي وحدة الوطن ورص الصفوف والتعاون من أجل الصالح العام. وكثيراً ما كان يدعم هذه العاطفة النبيلة بحثّ الرعية على التآلف والتآخي فيقول: (ليتأس صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية، لا في الدين يتفقهون ولا عن الله يعقلون، كقيض بيض في أداح، يكون كسرها وزراً، ويخرج حضانها شراً) (35). كما كان يدعو إلى تقوى الله والعمل الصالح والأخذ بالمكارم والفضائل والسعي في حوائج الناس والمصادقة والتعاطف والتزاور وغير ذلك من القيم الاجتماعية التي تنمي روح الأخوة والتعاون بين أبناء الشعب الواحد كما في الحديث إلى كميل: (مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ويدلجوا في حاجة من هو نائم) (36).

    تلك هي الروح الوطنية التي بعثها الإمام علي (عليه السلام) في نفوس الرعية فإذا ما درجوا عليها كانت لهم عوناً على صلاح أنفسهم وجمع شتات كلمتهم لحماية بلادهم من العدو الداخلي المتمثل بالفساد والضلال والعدو الخارجي المتربص بالبلاد، يغتنم فرصة ضعفها وتفككها للانقضاض عليها.

  6. #36
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    رابعاً: في القضاء



    القضاء، ويراد به منصب الفصل بين الناس في الخصومات، قديم قدم الإنسان، إذ كان بحاجة إليه منذ وجوده على الأرض لحماية حقوقه من تعديات الآخرين، ولقد اهتم الإمام علي (عليه السلام) بهذا المنصب وجعله تحت مراقبة شديدة ليكون صورة من عدل السماء على الأرض فلم يصانع أو يداري أو يداهن في الحق، بل كان حرباً شعواء على الظلم والظالمين، فزهت العدالة في عصره، واطمئن الناس إلى حقوقهم ووجودهم ومصيرهم، وتغير مفهوم القضاء فلم يعد (مؤسسة تضاف إلى سائر المؤسسات التي أنشأها الأقوياء لأكل الضعفاء، والظالمون لإرهاق المظلومين، وأصحاب السلطان لأخذ السبيل على الناس بالعدوان والتنكيل) (37). ولكنه (إنصاف لمظلوم، ورحمة بالناس، وحكم بحق) (38). فنظم أصوله ورتب قواعده، وجعله مبادئ وقوانين تأخذ طابعاً إنسانيا بعيداً عن العبارات الجامدة الجافة، فإذا القضاء رحمة بالناس وتصريف عادل لشؤونهم، وإذا القاضي أخ رؤوف رحوم والناس لديه آمنون مطمئنون من وصول الحق إليهم.

    والمساواة إمام القانون أمر لابدّ منه في دستوره (عليه السلام)، لأن الناس سواء لا فرق بينهم أمام الحق. إن الإيمان المطلق بهذه القاعدة والشعور العميق بما قد يساور أحد المتقاضيين من المذلة ساعة يحس أن في القضاء أدنى إيثار لإنسان على إنسان، جعل الإمام (عليه السلام) يلتزم الحياد فلا ينحاز إلى جانب دون الآخر بل هو يساوي بينهما في المعاملة حتى يصدر الحكم عن نزاهة وصدق فيقول (عليه السلام) للأشتر: (فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك بهم) (39).

    هذا الاهتمام الذي يوليه (عليه السلام) لهذه القاعدة دفعته إلى أن يكون أكثر تشدداً وصرامة في تطبيقها حتى على نفسه في عصر كان القانون بخدمة الحاكم وضد مصالح المحكوم فصار الحاكم ليس بفوق أن يمثل أمام القضاء مع أي إنسان آخر، وأن يقبل الحكم له كما يقول في نهجه: (وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد) (40).

    ومبدأ المساواة أمام القانون يفترض الاعتراف بحرية القاضي المطلقة في أن يحكم بموجب القانون والضمير بعيداً عن الضغط والهوى، كي يكسب القضاة حصانة تمكنهم من الحكم بالعدل، ولتأكيد ذلك، أوجد الإمام (عليه السلام) ـ كما في عهد الأشتر ـ جهازاً للشرطة كي يكون عوناً للقانون وللقاضي في البحث عن أهل الريبة واعتقالهم ومعاقبتهم ولم يسبقه في ذلك إلا نظام (العسس) (الذي أوجده عمر بن الخطاب، وهو الطواف ليلاً للبحث عن المنحرفين).

    إن الحديث عن طبائع البشر وعن حقيقة التعامل بينهم، بتسخير أنفسهم وضمائرهم ومحاولة سيطرة الأقوياء منهم على الضعفاء، أمور انطلق منها (عليه السلام) للكشف عن حقيقتين تساعدان على انحراف القضاة:

    - الأولى ضغط السلطة التنفيذية بحيث يحكم القاضي بما تمليه عليه لا بما يراه.

    - الحاجة إلى المال التي قد تضطره إلى قبول الرشوات واستقلال منصبه بالاستفادة منه.

    فقضى على هذين السببين وأوصى بضرورة مراقبة القاضي باستمرار وتقريبه وحمايته والبذل له والتوسعة عليه. وهذه خطوة هامة في استقلال القضاء، وفصله عن السلطة التنفيذية بحيث لا تتدخل في شؤونه أو تؤثر عليه. كما أنها محاولة جادة لتحرير القضاة من ضغط الحاجة التي قد تجبرهم على الحكم بغير الحق، جاء في عهد الأشتر: (ثم أكثر من تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك) (41).

    ولما كان منصب القضاء من الأهمية بمكان، فإن من يتولى هذا المنصب يجب أن تتوفر فيه بعض الصفات التي تساعد على أن يحكم بوحي من ضميره وخلقه واستقامته فيستبعد كل ما من شأنه أن يؤثر على سلامة الحكم الصادر عنه حتى لا يفسر سلوكه المشين بعدم نزاهة القضاء جاء في عهد الأشتر: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتف بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرّماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأحرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء وأولئك قليل) (42).

    هذه المثالية التي يتحدث عنها الإمام (عليه السلام) توضح مدى الاهتمام البالغ بالقضاء في تصريف الأمور وحفظ الحقوق، كما تفسر ما كان يعانيه من أزمة أخلاقية حادة انحرفت به عن جادة الحق. وحتى تأتي هذه السياسة نتائجها المرجوة منها فإنه (عليه السلام) يمنع أن يتولى أمور القضاء، الأقرباء والأصدقاء، لما في ذلك من تشجيع لهم على التساهل بإحكامه، واعتماداً على ما بينهم وبين الحكام من صلات.

    بهذا يكون الإمام علي (عليه السلام) قد سما بالقضاء إلى مستوى إنساني، هو من الرفعة بحيث لا يستطيع أحد أن يطاله أو ينال منه، أو يفكر بالانحراف عنه، لما له من مكانة سامية في هيئة الحكومة التي تحدث عنها كتاب (النهج). ولقد شهد الإسلام نخبة من أنزه القضاة وأكثرها صدقاً في جنب الله، فكان لممارستها العادلة، ولأعلميتها الشاملة الدور البارز في وضع أصول التشريع الإسلامي وفي مقدمة هؤلاء علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي كان ميزان القضاء والإفتاء ذخيرته حكمة قبسها من نبع النبوة، واتساع أفق وعلم فياض، لا يباريه في ميدانه صاحب ولا رفيق، حتى أصبح في المستعصيات ذا الرأي الحاسم الأخير، وكتب بأحكامه الفذة أصول التشريع الإسلامي في كل نواحيه، وألقى أضواء لامعة من ذخيرة معرفته على مشكلات الحياة ومسائل القضاء حتى كان ابن الخطاب وهو صاحب القضاء على عهد أبي بكر يقول فيه: (لا بقيت معضلة ليس لها أبو الحسن) (43).

    ...........................................
    1- مبادئ الفلسفة، ص64-65.

    2- المصدر نفسه، ص68-69.

    3- رسالة (أيها الولد) للغزالي، ص17.

    4- سورة القلم، الآية 4.

    5- إحياء علوم الدين، ج3، ص49.

    6- انظر ح، ج10، ص202.

    7- المصدر نفسه، ج13، ص163.

    8- سورة المدثر، الآيتان 42-43.

    9- سورة النور، الآية 37.

    10- سورة طه، الآية 132.

    11- انظر ح، ج10، ص206.

    12- سورة البقرة، الآية 183.

    13- سورة الحج، الآية 37.

    14- إحياء علوم الدين، ج3، ص53.

    15- انظر ح، ج6، ص363-364.

    16- إحياء علوم الدين، ج3، ص55-56.

    17- انظر ح، ج18، ص22.

    18- الغرر والدرر، ص93.

    19- انظر ح، ج20، ص263.

    20- التربية والحياة، ص171.

    21- انظر ح، ج10، ص148-149.

    22- انظر ح، ج20، ص290.

    23- المصدر نفسه، ج17، ص44

    24- انظر ح، ج9، ص209.

    25- المصدر نفسه، ج6، ص395.

    26- الغرر والدرر، ص119.

    27- انظر ح، ج29، ص47.

    28- المصدر نفسه، ج20، ص275.

    29- جورج شهلا، وجربلي عبد السميع وحنانيا، الماس شهلا، الوعي التربوي ومستقبل البلاد العربية، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ط4، ص245-246.

    30- انظر ح، ج20، ص90.

    31- علي والفلسفة، ص179.

    32- انظر ح، ج18، ص190.

    33- المصدر نفسه، ج2، ص75.

    34- انظر ح، ج16، ص84.

    35- المصدر نفسه، ج9، ص282.

    36- المصدر نفسه، ج19، ص99.

    37- جورج جرداق، بين علي والثورة الفرنسية، دار الحياة، بيروت، 1970، ص252-254.

    38- المصدر نفسه، ص252-254.

    39- انظر ح، ج15، ص163.

    40- انظر ح، ج17، ص97، انظر مقاضاة أحدهم لعلي إمام الخليفة عمر بن الخطاب.

    41- انظر ح، ج18، ص59.

    42- المصدر نفسه، ج1، ص58-59.

    43- الإمام علي بن أبي طالب، ص210-211.

  7. #37

    افتراضي

    الاخ المسيباوي
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    شبكة العراق نورت بهذا الجهد الكبير
    شكرا على هذا الموضوع الجميل والعمل الرائع ، اسأل الله ان يوفقك في الدنيا والاخرة

  8. #38
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أخي العزيز iraqcenter
    و شكراً على إطرائك و تعطفك علينا بالدعاء جزاك الله خيراً

    تقبل خالص تحياتي

  9. #39
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]التعليم في نهج البلاغة[/align]


    ثانياً: التعليم


    الفكر خاصية الإنسان وحده، به تجلى وتميز عن سائر الخلق، فهو في مواجهته للواقع لا يفتر عن الفكر طرفة عين، حيث تنشأ العلوم والصنائع المختلفة. وحاجة الإنسان لا تستقر على نوع معين من العلوم، لذلك فهو يرغب في تحصيل ما ليس عنده منها، من أجل إشباع ما تستدعيه طباعه من الحاجات والرغبات. ولن يتم له ذلك إلا بأخذه ممن سبقه أو زاد عليه في العلم والمعرفة. ومن هنا جاء العليم. فالعلم والتعليم حاجة طبيعية، فرضها العمران البشري، كما يقول ابن خلدون (فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر) (1).

    وبالرغم من أن للعوامل الوراثية دورها في تحديد مواهب الفرد وميوله واستعداداته فإن مدى تحقيق هذه الإمكانيات يتوقف على البيئة، بما تتيحه من وسائل التعلم والتدريب. لذا فقد أعطت الأمم والشعوب للتعليم مكانة بارزة في دساتيرها، وأفسحت بالمجال لدور العلم فيها، وشجعت على طلبه بوسائل عدة، لما كانت تأمله فيه من تقدم وازدهار يطال جميع مرافقها ومؤسساتها.

    ولقد كان الإسلام في طليعة الأديان الداعية إلى تعلم العلم والتشدد في طلبه وأخذه من أي مصدر كان. وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يشجع التعليم قولاً وعملاً، فيطلق سراح أسرى الحروب إذا علموا المسلمين القراءة والكتابة، ممّا يدل على الأهمية التي كان يعطيها للعلم والتعليم في بناء الفرد والجماعة. يقول الابراشي: (إن التربية أساس النجاح للفرد والمجتمع. لذلك تنفق الحكومات في الأمم المتمدنة بسخاء على التعليم، موقنة أن في التعليم قوة، وقوة كبيرة في ترقية الفرد والنهوض بالمجتمع إلى حياة راقية وعيشة راضية، والتاريخ خير دليل على أن بالتربية والتعليم تحيا الشعوب من موتها، وتنتبه من غفلتها، وتقلل سجوتها) (2).

    ولم يتخلف الإمام علي (عليه السلام) عن الدعوة التي أطلقها النبي (صلّى الله عليه وآله) في طلب العلم وممارسته في الحياة، وهو الذي كان يعتبر الجهل الفقر الأكبر الذي يقود إلى العمى والضلال في حين أن العلم يحلق بالإنسان في رحاب المعرفة والفضيلة ويسمو به عن الصغائر ليعيش في ملكوت الحق، فقال: (اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به) (3).


    1) طلب العلم

    يورد (عليه السلام) طرقاً مختلفة، على طالب العلم أن يسلكها للحصول عليه منها:


    أ. الفقه في القرآن

    الإسلام يؤمن بالعلم وبقدرته الفائقة على الخلق والإبداع. ولقد رفع إلله في كتابه العزيز، من شأن الذين آمنوا وعملوا، فقال عزّ القائل: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (4) وميز بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون فقال سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (5).

    والقرآن، كلام الله، وموضع علمه ومحط رسالته، فيه علم الأولين والآخرين، فهو الدواء الشافي من الأمراض والعلل، والمرشد الأمين إلى الهداية والاستقامة. لذلك فقد دعا الإمام علي (عليه السلام) إلى تعلمه والتفقه فيه والعمل به فقال: (وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص) (6).


    ب. المحاكاة

    وهي تعني التشبه بأقوال وأفعال الصالحين، ممن تتوفر فهيم ملكات العلم والأخلاق وهذا ما تحدث عنه (عليه السلام) حين أمر بـ(الأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك) (7).

    إلا أن المحاكاة، وإن كانت من طبيعة الفكر الانساني، فهي غير مأمونة من الخطأ كما يقول ابن خلدون (والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة وتخرجه مع الذهول والغفلة، عن قصده وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيراً، فيقع في مهواة من الغلط) (8).

    من هذا الباب، فإن الإمام علي (عليه السلام) لم يدع إلى محاكاة الأولين دون إمعان النظر فيما نأخذه منهم، وما إذا كان يتناسب مع الظروف الحالية أم لا، فالتقليد الأعمى مرفوض وما نأخذه عن الماضين يجب أن يكون مستنداً إلى التفهم حتى لا نقع في الشبهات والخصومات كما يقول: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات) (9).


    ج. مجالسة العلماء والحكماء وأصحاب التجارب

    والعلم لا يحصل بمجرد قراءته أو حفظه، بل لابدّ من المناقشة والمناظرة في مواضعه وذلك بارتياد المجالس العلمية والمحافل الأدبية، وبحضور مشاهير المعلمين من العلماء والحكماء وأصحاب التجارب الحياتية، حتى تحصل الملكة العلمية، ولن تكون إلا (بالمحاورة، والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها) (10)، كما قال ابن خلدون.

    وكان الإمام (عليه السلام) يوصي بضرورة مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء للاستفادة منهم فيقول: (أكثر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء) (11). كما كان يحث على مجالسة أصحاب التجارب للاعتبار والاتعاظ بهم فيقول: (عليك بمجالسة أصحاب التجارب) (12)، ولم يفرق في هذا الأمر، بين صديق أو عدو، فالعلم لا ينبغي أن يكون حكراً لأحد، بل هو مشاع للجميع، يطلبه أياً كان مصدره، فيقول: (جالس العقلاء، أعداء كانوا أم أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل) (13).

    وهكذا فالتعلم بالمناقشة والمناظرة أفضل بكثير من التلقين والحفظ، وهو من المبادئ التربوية الهامة التي أقرت بها التربية الحديثة.

    ولقد أعطى (عليه السلام) الأهمية الكبرى للسؤال باعتباره العامل الذي يضفي على المناظرة الحيوية والنشاط، وهذا ما تعتمده التربية الحديثة التي تنظر إلى التعليم على أنه عملية ديناميكية تراهن على إيجابية التعلم وفاعليته بعيداً عن التلقين. إلا أن فلسفة طرح السؤال ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، بحيث يفضي التساؤل إلى المعرفة لا إلى الجدل والسفسطة الكلامية. فالسؤال هو لإثارة العقل على التفكير والبحث، وبالتالي ليس أداة للهزل وإضاعة الوقت أو للتساؤل عن أشياء لا يبلغها العقل، فهذا من باب التعنت لا التعلم: (سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وإن العالِم المتعنت شبيه بالجاهل) (14).

    والمناظرة تحتاج إلى تدوين المعلومات حتى يتسنى للمتعلم مراجعتها عندما تدعو الحاجة إليها، كي يتمكن من حسن الاستفادة منها ـ فما يجود به العقل، يترجمه القلم، لأن (عقل الكاتب في قلمه) (15). فالكتابة حاجة ضرورية للمتعلم، وعدم معرفته بها تحرمه من فرصة النجاح التام في عملية التعلم، وتفقده أهم وسيلة لجمع المعلومات، لذلك فإن: (عدم المعرفة بالكتابة زمانة خفية) (16).

    والكتابة تستلزم الخط الجميل، من حيث تحسين شكل الحروف والفصل بين الكلمات والسطور، ممّا يكون له أثره في سرعة القراءة والفهم. ويصور الإمام (عليه السلام) ذلك بقوله: (الق دواتك واطل جلفة قلمك وفرّج بين السطور، وقرمط بين الحروف فإن ذلك أجدر بصباحة الخط) (17).

    وليس المهم تنميق الكلام وتزويقه وجذالته، فهذه أمور قد تشغل من يعمد إليها عن فحوى الكلام ومضمونه، فيظهر غنياً بالشكل لا بالمضمون، لذلك: (من اشتغل بتفقد اللفظة وطلب السجعة، نسي الحجة) (18).


    2) أنواع العلوم

    والتربية، كما يتحدث عنها الإمام (عليه السلام)، دينية ودنيوية والأولى تمهيد للثانية وغايتهما واحدة، هي صلاح الإنسان في الدارين، أما العلوم المؤدية إليهما، فهي: الشرعية والزمنية، وقد جمعهما (عليه السلام) معاً عندما قال: (أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض) (19). وعندما يتحدث الإمام علي (عليه السلام) عن طرق السماء، فإنما يقصد (العلوم الشرعية)، ويعني بطرق الأرض (العلوم الزمنية).

    والعلوم الزمنية تنقسم إلى قسمين:


    أ. بديهية: يوحي بها العقل، ولا تتطلب التعلم والسماع، بل هي مطبوعة في غريزة العقل حيث يولد الإنسان مفطوراً عليها كعلمه بأن الكل أكبر من الجزء، أو أن الشيء الواحد لا يكون قديماً وحادثاً معاً. فهذه الأمور تصدر عن الإنسان العاقل بالبداهة فلا يحتاج لاكتسابها إلى التعلم.


    ب. مكتسبة: وهي العلوم المستفادة بالتعلم والنظر العقلي. إن هذا التقسيم للعلوم إلى فطرية ومكتسبة يظهر عند الإمام علي (عليه السلام) أيضاً في قوله شعراً:

    [align=center]رأيــــــــت العـــــــقل عقلـــــين *** فمــــــطـــــبوع ومسمـــــــوع

    ولا ينـــــــــــفع مســــــــــموع *** إذا لـــــــم يــــــك مطــــــــبوع

    كمـــــــا لا تنــــــــفع الشمــس *** وضــــــوء العـين ممنوع(20)[/align]

    ولا يمكن التقرب من الله بالعلوم الفطرية أو الضرورية، بل بالمكتسبة وليس كل أحد ممن جمع العلوم المكتسبة يستطيع هذا الأمر لصعوبة إدراك القديم بالعلم الحادث (ولكن مثل علي، رضي الله عنه، هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من العالمين) (21) كما قال الغزالي.

    أما العلوم الدينية فهي تلك التي تؤخذ من الأنبياء تقليداً عن القرآن الكريم، ومن الأئمة تقليداً عن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، فهي إذن تحصل للإنسان بالتعلم عن كتاب الله تعالى وسنّة نبيه وحكمة أئمته، وبها تكون سلامة القلب من الأدواء والأمراض لأن العلوم العقلية، منها ما يكون محموداً كالطب والحساب والزراعة وغير ذلك، ومنها ما يكون مذموماً كالسحر والطلسمات والنجوم. لذلك فإن مباشرة الإنسان بتعلم العلوم الدينية، تفتح بصيرته وتنمي فيه ملكة التمييز بين الصالح والطالح من العلوم فيختار منها ما يفيده في دنياه وآخرته.


    3) فضيلة العلم

    إن تشبع الإمام (عليه السلام) بالعلوم الدينية والدنيوية يدل على مدى الاهتمام بالعلم وتفضيله على سائر مغريات الحياة ومنها المال، فالعلم، مقياس تطور الأمم والشعوب ومعيار تفاضل البشر. والقلوب البشرية باعتبارها مستودع العواطف والمشاعر والنزعات، إنما تتفاضل بمدى وعيها وإدراكها لقيم الحق والخير كما جاء في قوله (عليه السلام) (إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها) (22) لذلك هو يقسم الناس في العلم إلى ثلاثة أقسام:

    ـ عالم رباني.

    ـ ومتعلم على سبيل نجاة.

    ـ وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.

    ثم يفاضل بني العلم والمال، مبيناً ميزات كل منهما حتى يخلص إلى تقديم الأول على الآخر، فيقول: (العلم خير من المال) (23).

    وما يرثه الإنسان من علم هو أفضل ما يرثه من مال لأن (العلم وراثة كريمة) (24). وقد تسامى بهذه الوراثة وجعلها من أشرف الأشياء، (أشرف الأشياء العلم) (25)، وقصر السعادة التامة عليها (السعادة التامة بالعلم) (26) وجعلها الأداة التي يصول بها الإنسان ويجول (العلم سلطان من وجده صال به، ومن لم يجده صيل عليه) (27) والعلم هو الملكة التي يفتخر بها العالم على أهل الجهل. كما يقول الإمام علي شعراً:

    [align=center]ما الفــــــخر إلا لأهــــــل العلـــــم إنّهم *** على الهدى لمــــــن استهــــــدى أدلاّء

    وقدر كلّ امــرئ ما كــــان يحـــــــسنه *** والجاهلــــــــــون لأهــــــل العلم أعداء

    ففز بعلــــم تعـــــش حـــــــيّاً بـــه أبداً *** الناس مــوتى وأهل العلم أحياء(28)[/align]

    من أجل ذلك كانت دعوته إلى ضرورة الاهتمام بالعلم، والعمل على أخذه من أي مصدر كان، لأن العلم لا حدود له ولا يعترف بالتعصب والقبلية لذا وجب على الإنسان أن ينشده من الأعداء الأصدقاء على السواء (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق) (29).

    فالحياة لا تطلب لذاتها، ولكن لأجل أن يثبت الإنسان وجوده، ويحقق إنسانيته ولن يتسنى له ذلك بممارسة الشهوات والانغماس في الملذات، فهذه أمور الغاية منها تنمية الجسم ومساعدته على مباشرة الحياة السامية، (لا تطلب الحياة لتأكل، بل اطلب الأكل لتحيا) (30).

    أما من اقتصر في حياته على الشهوات كان أشبه بالبهيمة التي همها علفها، فانحدر مستواه الخلقي إلى درجة لا يحمد عقباها، فصار عبداً لها تقوده إلى ما فيه هدر كرامته وضياع إنسانيته، لهذا فإن (من ترك الشهوات كان حراً) (31). كما يقول الإمام علي ولا سبيل له إلى التخلص من عبوديته إلا بطلب العلم الذي ينير قلبه، ويفتح بصيرته. لذا كان العلم أشرف مطلوب، والاهتمام به يفوق سائر الاهتمامات ومن زهد به وشغف بالشهوات، إنما يحكم عليه بالبوار والخسران المبين وينعي (عليه السلام) على أولئك الذين بإمكانهم أن يكونوا أناساً شرفاء، مخلدين في الحياة بعلومهم، ولكنهم انحدروا، لسوء ما اختاروه من زخرف الحياة وبهرجتها إلى مستوى البهائم السافلة فيقول: (قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنساناً، وقد أمكنه أن يكون ملكاً، وأن يرضى لنفسه بقنية معارة وحياة مستردة وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياة مؤبدة) (32).

    والكرامة التي يستمدها الإنسان من ماله أو سلطانه، إنما هي مزيفة لأنها متوقفة عليهما فإذا زالا زالت معهما. أما الكرامة الحقيقية، فهي تلك التي يوجبها العلم والأب سواء كان الإنسان غنياً أم فقيراً، قوياً أم ضعيفاً، فهي حق مكتسب ومفروض، لذا كان الاعتبار للعلم وليس للمال فيقول: (إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان، فلا يعجبنك ذاك، فإن زوال الكرامة بزوالها، ولكن ليعجبك أن أكرمك الناس لدين أو أدب) (33). من هنا: (يجب على العاقل أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف منه بما أحيا جسمه من الغذاء) (34). لذا فإن قيمة الإنسان، هي بما يحسنه من العلوم الآداب التي بها يتفاضل الناس لا بالحسب والنسب والجاه والسلطان وغير ذلك من الاعتبارات التي لا توازي العلم قيمة وشرفاً واعتباراً. قال ابن عبد البر: (إن قول علي بن أبي طالب (قيمة كل امرئ ما يحسنه) لم يسبقه إليه أحد. قال: (وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها، وقالوا: ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأول للآخر شيئاً). قال ابن عبد البر: قول علي هذا من الكلام المعجب الخطير، وقد طار له الناس كل مصير ونظمه جماعة من الشعراء إعجاباً به، وكلفاً بحسنه) (35).


    4) آفة العلم

    وإذا كان للعلم هذه الفضائل الجمة التي تستوجب طلبه وأخذه من أي مصدر كان، فإنه من ناحية أخرى قد يكون وبالاً على حامله، ومصدر شر له ولأبناء جنسه، فالعلم سلاح ذو حدين، قد يستعمل للخير والصلاح وقد يستعمل للشر والفساد والإنسان هو الذي يحدد وجهة سيره. وما يميز الإنسان هو وجود القيم الخلقية والفكرية فيه، تلك التي تعطي للحياة معنى وقيمة. وكم نحن بحاجة اليوم إلى مثل هذه القيم، وخاصة الخلقية منها، في عصر طغت عليه الفلسفة المادية وفصل الدين عن الحياة. يقول محمد قطب (ونشأت على أنقاض الكنيسة والدين فلسفة مادية بحتة، تستمد وحيها من الأرض، من واقع الحواس، ولا ترتفع ببصرها لحظة واحدة إلى السماء) (36).

    لقد أخضعت هذه الفلسفة، الكون والإنسان لأحكام القياس والتجريب تماماً كما تخضع العلوم الطبيعية والفيزيائية لقوانين عامة وثابتة، دون تمييز بين المادة الجامدة والمادة الحية. يقول طلال عتريسي: (هذه الفلسفة (المادية) لم تكتف بإخضاع الكون وحركته ووجوده لمفاهيم العقل وقدرته، وللحواس وحدودها ولأحكام القياس والتجريب، دون الاعتقاد بأية قوة خارجة عن الإدراك المباشر والمحسوس، بل أخضعت كذلك وجود الإنسان بكل أبعاده لأحكام القياس والتجريب نفسها، ونشطت الأبحاث والنظريات التي تفصل مشاعر الإنسان وأحاسيسه عن بعضها لدراستها دراسة (علمية) ومخبرية، هذا، رغم الحركة الدقيقة والمتشابكة لهذه المشاعر والأحاسيس) (37).

    لذلك فإن خلاص البشرية يكمن في تخليص العلم من آفاته وتنمية الحس الخلقي من خلال تعزيز أثر الدين في النفوس.

    هذه الحقيقة تبدو في (نهج) الإمام علي جلية واضحة. فهو من جهة يدعو إلى احترام العلم، وإجلاله، ويعتبره (أفضل الكنوز وأجملها، خفيف المحمل، عظيم الجدوى، في الملأ جمال، وفي الوحدة أنس) (38)، إلا أنه من جهة ثانية يوصي بحسن الخلق فيقول: (ما من شيء في الميزان أثقل من خلق حسن) (39) و(عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه) (40) و(عليكم بحسن الخلق فإنه في الجنة، وإياكم وسوء الخلق فإنه في النار) (41).

    إن الربط بين القيم الخلقية والفكرية، كفيل بتقدم البشرية وسيرها في ركب الحضارة، في حين أن الفصل بينهما، آفة تقضي عليها وتهبط بها إلى الحضيض.

    ومن آفات العلم، العجب، وهي نقيصة تدعو إلى الكبر وتجاهل الأخطاء، والذنوب، والاستبداد بالرأي وترك المشورة، واستجهال الناس واحتقارهم والأنفة عن المساواة بهم ولذلك فقد نهى عنه، وحذر منه بقوله: (حصن علمك من العجب) (42). في حين أن التواضع زين للعالم وشرف له (التواضع إحدى مصايد الشرف) (43).

    ومن آفات العلم أيضاً الطمع والاسترسال في الشهوات والملذات ممّا يؤدي إلى الاهتمام بأحوال الجسد وعدم الالتفات إلى العلم كغذاء للعقل فيذبل ويموت. فيقول (أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع) (44) لذلك فقد حذر من الشهوات لأنها تأسر العقل وتلهيه عن الفكر والنظر وحث الإنسان على السمو بلذائذه والارتفاع بها عن حضيض المادة: (فإن كنت شاغلاً نفسك بلذة، فلتكن لذتك في محادثة العلماء ودرس كتبهم) (45) وما ذلك، إلا لأن تقييد العقل حد لطاقته وشل لنشاطه وفاعليته، ودفعه في مهاوى الشر والرذيلة. وبقدر ما يكون حراً، يكون أغزر إنتاجاً، وأسلس قيادة وأكثر أماناً من الوقوع في الهلاك، ذلك أنه: (إذا خلى عنان العقل، ولم يحبس على هوى نفس، أو عادة دين، أو عصبية لسلف ورد بصاحبه على النجاة) (46).

    وهكذا يدعو الإمام (عليه السلام) إلى تحرير العقل وتخليصه من آفاته لفسح المجال أمامه للعمل الخلاق. ثم يربط بين العلم والأخلاق، ويجد في هذا التحالف بينهما تمام السعادة وحصانة من الشر والفساد. فيقول: (ملاك العقل ومكارم الأخلاق، صون للعرض والجزاء بالفرض والأخذ بالفضل، والوفاء بالعهد والإنجاز للوعد) (47).


    5) فضل العلماء

    إن فضل العلماء لا يخفى، وهو يظهر في شتى الكتب السماوية وخاصة الإسلام وكذلك على لسان الأنبياء والأئمة والصالحين من بني البشر. نذكر من ذلك قوله تعالى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) (48). وقال الرسول الكريم، (العلماء ورثة الأنبياء) (49).

    ويقول الإمام علي (عليه السلام): (العالِم مصباح الله في الأرض، فمن أراد الله به خيراً اقتبس عنه) (50). فالعالِمُ مصباح زمانه، به يستضاء من الظلمات والجهالات، وبه نبلغ منازل الأبرار والدرجات العلى، ولقد فضله الإمام علي (عليه السلام) على المؤمن العابد المجاهد فقال: (العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا غيره) (51).

    وللعلماء فضل في تجويد الحياة وجعلها مستساغة من قبل الناس، وهم وحدهم الذين يكتشفون أسرارها، ويبددون المخاوف الناجمة منها، ولن يكون ذلك إلا بتخليص الناس من علائق الدنيا الزائفة وترغيبهم بنعيم الآخرة الخالد، عند ذلك تهون عليهم كل لذة دنيوية مقابل ما يرجونه منها في الآخرة، لهذا صار حق العالم يفوق حق الوالدين، فإذا كان هؤلاء هم السبب في وجود الحياة الفانية فإن العالم هو المفيد للحياة الأخروية.


    6) فضيلة التعلم والتعليم

    يقول تعالى: (فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (52)، وقال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (لأن تغدو فتتعلم باباً من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة)، وقال: (باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها) (53). وسبق قول الإمام علي (عليه السلام) في الحث على التعلم.

    يتبين من ذلك، أن التعلم فريضة فرضها الله والرسول والأئمة على المسلمين جميعاً دون استثناء، وهو يبدأ بعد سنوات التربية ويحدده الإمام بالسن السابعة فيقول: (اترك ولدك سبعاً، وعلمه سبعاً، وصاحبه سبعاً) (54). وهذا هو السن الأنسب الذي ذهب إليه أهل الاختصاص في عمر التربية، حيث تتوفر للطفل القدرة على الفهم وتركيز الانتباه بسبب نضجه، وزيادة قاموسه اللغوي، ولا تخفى أهمية العلاقة الطردية، بين النضج والتعلم.

    وتحديد سن التعلم بالسابعة، لا يعني إغفال سنوات ما قبلها، بل ينبغي أن تستغل لتقويم سلوك الطفل وتزويده بالقيم الخلقية، والروحية حتى يكون مستعداً لمباشرة التعلم بنفس صافية من الأمراض والشوائب الخلقية. ولقد أجمع علماء النفس على أن السنوات الأولى من عمر الطفل، ذات أثر كبير يكاد يكون حاسماً في تعيين شخصيته المستقبلية وتحديد اهتماماته واتجاهاته. ولا شك من أن لهذه السنوات الفضل الأكبر في تمكين الطفل من اكتساب العديد من المعلومات التي سوف يظهر بها، فيما بعد، على غيره (تعلموا العلم صغاراً تسودوا به كباراً) (55) كما يقول (عليه السلام).

    وما يجب أن يتعلمه الحدث هو ما ينفعه في مستقبل حيته. والعلوم التي تنفعه هي: الدين وشرائعه كي يعمر قلبه بالتقوى والإيمان والخشية من الله في كل عمل يقوم به، وحتى يزهد في الدنيا ولا يغتر بمفاتنها فتأخذ عليه نفسه وتسلبه عقله وتنسيه آخرته.

    وما ينفعه أيضاً علم الأخلاق حتى يميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وحتى تتحسن علاقته بالآخرين ويشعر بالمسؤولية على كل عمل يقوم به ومدى ارتباط هذه المسؤولية بالحرية والثواب والعقاب.

    وما ينفعه أيضاً تلك العلوم التي لابدّ منها لقوام أمور الدنيا. إذ على المعلم أن يبث فيه مبادئ هذه العلوم لأنها ضرورية له كالطب لبقاء الأبدان، والحساب لتسهيل المعاملات والمواريث والزراعة والصناعة والتجارة والحياكة، والسياسة وغير ذلك من العلوم النافعة له في دنياه.

    مثل هذه العلوم لابدّ للولد من أن يقف عليها منذ صغره فترسخ في ذهنه وتنمو بنموه، وتتطور بتطور عقليته. وهكذا يكون الإمام علي (عليه السلام) قد زود الطفل بخامة علمية لا بأس بها، فيشب وعقليته متفتحة، ونفسه تتوق إلى المزيد منها لمواجهة تيار الحياة المتجدد باستمرار. ولن تحصل له هذه العلوم بدون تعلم، لذا فإن بذل العلم وهو فرض على كل عالم، فلا ينبغي له أن يضن به أو يمنعه سائليه، فهو ملك للجميع وليس له فقط، يتصرف به كما يشاء، ومن يفعل ذلك إنما يعارض إرادة الله التي قضت بطلب العلم وبذله لمحو آثار الجهل والضلال: (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا) (56) كما يقول الإمام (عليه السلام).

    لذلك فقد ربط (عليه السلام) بين العلم والعمل. هذا الجمع بينهما أدى إلى ما وصلت إليه الأمم من تقدم وعمران. فالعلم لا يطلب لذاته، بل لأجل الاستفادة منه، ولن يتم ذلك إلا بممارسته وبذله في شتى ميادين الحياة. من هنا يكتسب العلم فضله وشرفه بينما يبقى ناقصاً لو أجرى على اللسان فقط ولم يأخذ مجراه إلى الحياة العملية، وكلما أبحر الإنسان فيه كلما ازداد عمقاً واتساعاً كما يقول لكميل بن زياد: (العلم يزكو على الإنفاق) (57). فالغرض الأول للعلم هو العمل به، كما أن تبليغ الدعوة، لا ينفصل عن العمل بأحكامها على أن لا يطلب فيصبح وسيلة للإثراء والمتاجرة ممّا يحط من شرفه ورفعته ولكن بأن يقصد به وجه الله تعالى يقول ابن جماعة: (حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتحلية باطنه) (58).

    وعلى العالِم أن يعمل وفق علمه وحسب ما يمليه عليه عقله، لأن العالِم المنافق يستحيل أن يكون قدوة لغيره طالما أنه يغش بعلمه، ويعطي صورة مغايرة لما يدعيه من العلم فيكون الضرر الناجم عنه أبلغ من الفائدة المرجوة منه. فالتناقض بين العلم والعمل مرفوض في عرف الإمام (عليه السلام)، لأن ذلك يؤدي إلى فساد الزرع ورداءة الإنتاج في الحقل التربوي ممّا يكون له أثره المدمر على عقلية ونفسية المتعلمين، فيقولك (يا حملة العلم، أتحملونه؟ فإنما العلم لمن علم ثم عمل، ووافق عمله وعلمه) (59).

    وبما أن الوظيفة الأساسية للعالم هي الإرشاد والتوجيه، فلابدّ أن يكون صادقاً مع نفسه، فلا يخالف قوله عمله. أما إذا حصل العكس، فلا سبيل إلى أن يكون قدوة ومرشداً لغيره بسبب فقدان الثقة بينه وبين المتعلم.

    ولا يجب على العالم أن يقول كل ما يعلم، لأن هناك من العلوم ما لا تستسيغه عقول العامة، فلا ينبغي عليه أن يفشي كل ما يعلم إلى كل أحد، بل عليه أن يحدث به ما هو أهلاً له، لأن الجاهل لا يأبه به ولا يفهمه، والسفيه يسخر منه ولا يقدره، وبذل العلم لهما لا طائل منه.

    ولن يتمكن العالِم من محادثة الناس بعلمه، إذا لم يكن هو نفسه متعلماً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، من هنا أكد الإمام (عليه السلام) على ضرورة تعليم النفس قبل تعليم الغير فقال: (من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها، أحق بالإجلال، من معلم الناس ومؤدبهم) (60). بل أوجب على المعلم أن يكون ملماً بعلمه، حاذقاً فيه، خبيراً بأصوله وقواعده وشوارده، فلا يخفى عليه منه شيء ولا يضعف عن تناول مسألة من مسائله، فقال: (إذ سمعتم العلم فاكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب) (61). لأن خلط العلم بالهزل تزهيداً للناس بطلبه، وانتفاء للفائدة منه، لهذا قال (عليه السلام): (قصم ظهري، رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك) (62).


    7) أسلوب التعليم

    إن التعليم بنظر الإمام علي (عليه السلام)، لا يقوم على التلقين، ولا يعتمد على الكمية بقدر اعتماده على الكيفية كما سبق وأوضحنا فهو في جملته يستند إلى المناظرة والمناقشة.

    لقد أحاط المتعلم بجو تعبق فيه روح الحرية والنشاط، فمكان الدرس (الجامع يومذاك)، ليس سجناً تمارس فيه شتى أنواع الإرهاب والتنكيل، بل هو منتزهاً يرتاده المتعلمون بشوق، تحدوهم إليه العلاقة الأخوية الصادقة بين العالِم والمتعلم. فالانفعالات الحادة الناجمة عن الجو التعليمي المتسم بالرهبة، تعرقل العملية التربوية وتترك المتعلم عرضة لكثير من الاضطرابات والعقد النفسية لأن الانفعال (ضرب من السلوك تعمّ آثاره الإنسان كله نفساً وجسماً، يحدث أثناءه تغيرات في داخل الجسم وخارجه، فتؤدي إلى إعطائه صورة معينة) (63). وإذا كانت للانفعالات الحادة هذه التغيرات التي تؤثر سلباً على شخصية المتعلم، فإن الحد منها يكمن في إيجاد جو من التعليم يكفل له قسطاً وافياً من الرغبة والطمأنينة والانفعالات الهادئة التي تساعد على تأدية وظائفه العقلية بنظام وتنسيق، فكأن هناك شبه تناقض بين التعليم والانفعال.

    لقد دعا (عليه السلام) إلى تربية سمحة تبتعد عن الضغط والإكراه، لأن الطفولة تختلف في مفاهيمها واهتماماتها عن الرجولة، وما ينجم عنها من أخطاء ينبغي أن لا نقيسها بمقياس الرجل البالغ، فهي تتصرف بوحي من ذاتها التي لا تعرف الحدود والموانع، وأي تصد لها بالعنف إنما هو إحراج لها وقمع لرغباتها. يقول (دي نوي): (فمن المهم حقاً ألا نحكم على ذنب يقترفه الولد بالنظر إلى نتائجه. فالذنب عند الولد خطير لذاته ـ مطلقاً لا نسبياً ـ لأن ذلك قد تقرر على هذا الوجه. وخفة الذنب المطلقة وحدها قادرة على تعويد الطفل نظاماً خلقياً لا سبيل إلى التقدم بدونه ويختلف هذا المعيار لدى البالغين) (64).

    إن الشطط في العقاب أمر غير مرغوب فيه في التربية لأنه يورث الكسل ويحمل على الكذب والخبث والتظاهر بغير ما في النفس خوفاً من القهر ومن شأن الاستمرار على ذلك أن يؤدي إلى اعتياد المتعلم على ذلك، فتكسل نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل. لذلك فلا ينبغي للعقاب أن يتبع الذنب مباشرة قبل التعرف على الدوافع الكامنة وراءه حتى لا يكون عن ظلم وذلك بعدم إتاحة الفرصة للولد كي يدافع عن نفسه ويبرر خطأه أو يقدم اعتذاره لهذا: (لا تتبع الذنب العقوبة، واجعل بينهما وقتاً للاعتذار) (65). كما قال الإمام (عليه السلام) فالتربية التي يسودها التوتر والانفعال يستبعدها (عليه السلام) بل ويرى فيها هدراً لكرامة الإنسان وإفساداً لمعاني الإنسانية لديه وإضعافاً لقواه العقلية والخلقية وإماتة لقيم الألفة والمحبة والتعاون في نفسه، لذلك فهو يحذر منها ويقول: (أحذروا الكلام في مجالس الخوف، فإن الخوف يذهل العقل الذي منه نستمد، ويشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي نروم نصرته وأحذر الغضب ممن يحملك عليه، فإن مميت للخواطر مانع من التثبت أحذر من تبغضه فإن بغضك له يدعوك إلى الضجر به، وقليل الغضب كثير في أذى النفس والعقل، والضجر مضيق للصدر، مضعف لقوى العقل. أحذر المحافل التي لا إنصاف لأهلها في التسوية بينك وبين خصمك في الإقبال والاستماع ولا أدب لهم يمنعهم من جور الحكم لك وعليك. وأحذر حين تظهر العصبية لخصمك بالاعتراض عليك وتشييد قوله وحجته، فإن ذلك يهيج العصبية والاعتراض على هذا الوجه يخلق الكلام ويذهب بهجة المعاني، وأحذر كلام من لا يفهم عنك فإنه يضجرك، وأحذر استصغار الخصم، فإنه يمنع من التحفظ، ورب صغير غلب كبيراً) (66).


    8) حق العالِم على المتعلم

    وإذا كان للمتعلم على المعلم حق تربيته، وتأديبه وتزويده بالعلوم والمعارف حتى تستقيم نفسه وتتوق إلى ممارسة الفضائل لتصبح ملكة تطبع سلوكه في مجريات حياته فإن للعالم على المتعلم حقوقاً ينبغي احترامها والتقيد بها تقديراً له ولمهنته التي هي من أشرف المهن وأصعبها على الإطلاق. من هذه الحقوق ما رواه الإمام (عليه السلام) حيث قال: (من حق العالِم على المتعلم ألاّ يكثر عليه السؤال ولا يعنّته في الجواب، ولا يلحّ عليه إذا كسل، ولا يفشي له سراً، ولا يغتاب عنده أحداً، ولا يطلب عثرته، فإذا زل تأنيت أوبته، وقبلت معذرته، وإن تعظمه وتوقره ما حفظ أمر الله وعظّمه، وألا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت غيرك إلى خدمتها فيها. ولا تضجرن من صحبته، فإنّما هو بمنزلة النخلة ينتظر متى يسقط عليك منها منفعة. وخصّه بالتحية واحفظ شاهده وغائبه وليكن ذلك كله لله عزّ وجلّ) (67).
    .......................
    1- المقدمة، ص403.

    2- التربية والحياة، ص24.

    3- تحف العقول، ص141.

    4- سورة المجادلة، الآية 11.

    5- سورة الزمر، الآية 9.

    6- انظر ح، ج7، ص221.

    7- المصدر نفسه، ج16، ص70.

    8- المقدمة، ص29.

    9- انظر ح، ج16، ص70.

    10- المقدمة، ص431.

    11- انظر ح، ج17، ص47.

    12- انظر ح، ج20، ص335.

    13- المصدر نفسه، ج20، ص312.

    14- المصدر نفسه، ج19، ص232.

    15- المصدر نفسه، ج20، ص328.

    16- المصدر نفسه، ج20، ص297.

    17- المصدر نفسه، ج19، ص223.

    18- انظر ح، ج20، ص317.

    19- المصدر نفسه، ج13، ص101.

    20- إحياء علوم الدين، ج3، ص16-17.

    21- المرجع نفسه.

    22- انظر ح، ج18، ص346.

    23- المصدر نفسه، ص346.

    24- المصدر نفسه، ص93.

    25- المصدر نفسه، ج20، ص488.

    26- المصدر نفسه، ج20، ص307.

    27- المصدر نفسه، ج20، ص319.

    28- إحياء علوم الدين، ج1، ص7.

    29- انظر ح، ج18، ص229.

    30- المصدر نفسه، ج10، ص333.

    31- تحف العقول، ص65.

    32- انظر ح، ج20، ص306.

    33- المصدر نفسه، ج10، ص313.

    34- انظر ح، ج20، ص322.

    35- الدمشقي، جمال الدين، تاريخ الجهمية والمعتزلة، مطبعة المنار بمصر، 1331هـ، ص83.

    36- محمد قطب، الإنسان بين المادية والإسلام، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط4، ص1965، ص16.

    37- مجلة الفكر العربي، ع21، أيار/حزيران/تموز1981، ص441.

    38- انظر ح، ج20، ص339.

    39- المصدر نفسه، ج6، ص340.

    40- المصدر نفسه، ج6، ص340.

    41- المصدر نفسه، ج6، ص340.

    42- المصدر نفسه، ج20، ص318.

    43- المصدر نفسه، ج20، ص290.

    44- المصدر نفسه، ج19، ص41.

    45- المصدر نفسه، ج20، ص266.

    46- المصدر نفسه، ج20، ص343.

    47- انظر ح، ج20، ص267.

    48- سورة آل عمران، الآية 18.

    49- إحياء علوم الدين، ج1، ص11، أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي في كتاب (تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول) لابن البديع الشيباني المتوفى 944هـ، ج3، ص52.

    50- انظر ح، ج5، ص326.

    51- إحياء علوم الدين، ج1، ص7-8.

    52- سورة النحل، الآية 43.

    53- المصدر نفسه، ج1، ص7-8.

    54- منهج التربية عند الإمام علي (عليه السلام)، ص160.

    55- انظر ح، ج20، ص267.

    56- انظر ح، ج20، ص247.

    57- المصدر نفسه، ج18، ص346، كميل هو من أكابر أصحاب علي (عليه السلام) من اليمن، شهد صفين معه، وكان شريفاً عابداً، قتله الحجاج الثقفي، سنة 83هـ.

    58- ابن جماعة الكناني، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، تحقيق محمد هاشم الندوي، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1354هـ، ص42.

    59- انظر ح، ج20، ص267.

    60- انظر ح، ج18، ص220.

    61- إحياء علوم الدين، ج1، ص76.

    62- المصدر نفسه، ج1، ص58.

    63- علم النفس المعاصر، ص157.

    64- مصير الإنسان، ص302-303.

    65- انظر ح، ج20، ص328.

    66- المصدر نفسه، ج20، ص281.

    67- انظر ح، ج20، ص269.

    .......................

    تم بعون الله

صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني