المعوقات النفسية لتقدم الفرد والمجتمع
الشيخ هيثم السهلاني
إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان سوياً، بيد أنه ابتلاه بمجموعة كبيرة من عوامل الضغط وأسباب التأثير عليه.
وتركه يحارب هذا الجيش الضخم من الضغوط بما أنهم الله عليه من قدرات وطاقات، لكي يأخذ حريته المغتصبة، هذا الإنسان في صراعه مع هذه العوامل يشبه فرداً واحداً يحمل سيفاً مفرداً، تتناوشه عشرات السيوف التي تستهدف القضاء عليه.
والحكمة الإلهية البالغة شاءت فيما شاءت أيضاً أن يحصل الإنسان على أسمى درجات الوجود وهي الجنة بحريته وإرادته، حتى يصل إلى هذه الدرجة باستحقاق، أمّا لو تفضل الله عليه بالجنة دون ابتلاء وامتحان عسير.. فان الله تعالى سوف يكون عرضة للتساؤل..
إذ كيف تكون الجنة بما فيها من ملك دائم ونعمة عظيمة، لا يمكن للإنسان أن يحصيها حتى في خياله، لرجل دون الآخرين؟
بلى إن هذا الإنسان استحق نعمة الجنة، لأنه استطاع أن يحافظ على استقلاله، كون هذا الاستقلال هو صلب توحيد الله وعبادته وحده. والمحافظة على الاستقلال ليست عملية بسيطة بقدر ما هي عملية صعبة للغاية.. خصوصاً، أن قدرة الإنسان النفسية وإرادته العقلية محدودة، وطاقة تحمله الجسدي مؤطرة.. لكن هذه الطاقة المحدودة، لابد أن تواجه سيلاً من الضغوط المضادة، التي يصعب إحصاؤها.. من الانحراف الذي يصيب الإنسان وهو في صلب أبيه بواسطة العملية الوراثية التي تحمل إلى جانب الصفات المباركة كالخير والود عدداً كبيراً من الصفات السلبية كالضعف والهزيمة.. أو الحالات النفسية للأم الحامل النابعة من غفلتها وشهواتها وانحرافاتها وبأكلها من المال الحرام.
وهكذا ما ترضع به الأم طفلها الرضيع مما يؤثر في مسيرته واستقامته أو البيئة الفاسدة المحيطة بالطفل كالأغاني المحرمة التي يسمعها وهو في مهده، أو المحيط البيئي العام ثم المجتمع الفاسد المليء بالعوامل السلبية.. ومن ثم إرهاب السلطات الظالمة وإحاطة النظام الاقتصادي الفاسد، وغذاء النظام الثقافي والفكري وتضليل الإعلام الموجه.. كل هذه الانحرافات تؤثر بصورة سلبية في حياة الإنسان، لا سيما وأنه فرد واحد يحارب جيشاً من العوامل المضادة التي لا تريد عن استقلال الإنسان وحريته واستقامته بديلاً.
وإذا انتصر الإنسان على هذا الجيش الضخم من العوامل المضادة، فان الله سبحانه وتعالى يكرمه ويعظمه ويرفع شأنه بين الخلائق أجمعين، فيجعله نزيل جنته وفي دار ضيافته، بل ويرفعه إلى مقام قربه وجواره في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
الصراع مع العبودية
إنَّ من أخطر العوامل التي تساعد على تكريس الانحراف لدى الإنسان، هو تحويل عوامل الانحراف لدى الإنسان، هو تحويل عوامل الانحراف الخارجية من المجتمع الفاسد والإعلام التضليلي والتربية الخاطئة والنظام السياسي الظالم.. تحويلها إلى حالات نفسية داخلية تجره طوعاً ناحية الفساد بمحض إرادته هو..
.. فمثلاً قد يعرف الإنسان خراب البيئة المحيطة به، ويندفع لمحاربتها أيضاً، لكنه يفقد ـ شيئاً فشيئاً ـ قدرته بل حتى ثقته بنفسه لمواجهة هذه البيئة مما يضطره بعدئذ للتكيف معها.. والمثال الظريف في ذلك هو أن (ابراهام لنكولن) الذي استطاع تحرير عبيد الولايات المتحدة الأمريكية من أسيادهم، وأصدر منشور الحرية، حينها تمرد نصغ العبيد على هذا الدستور مطالبين بالرجوع إلى حالة الاستعباد والتمليك، هذا في الوقت الذي كان فيه السود في إفريقيا يرفضون العبودية للبيض حتى قيل أن تسعة رجال من كل عشرة قتلوا من أجل إعطاء الشخص العاشر وسام الحرية، ولكن هذا الشخص نفسه هو الذي أذعن للعبودية حين هجِّر إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
الشعوب الإسلامية، أصيبت بنوع من تحويل المصائب الخارجية إلى قناعات ذاتية، فبعد أن كان المسلمون يدافعون عن حريتهم واستقلالهم وقوانين شريعتهم، أصبح بعضهم يتسائل ـ الآن ـ عن إمكانية تحرير بلادهم وتحكيم رسالة الإسلام حتى حدثت مفارقات عجيبة لبن الحالتين.
فالآباء يذودون عن بلادهم ويحاربون الاستعمار بأيادي فارغة بينما الابن ليس فقط لا يحارب الاستعمار بل نراه يحني رأسه لسادتهم وقوانينهم وشرائعهم مجاناً وبدون ضغوط.
ان هذا المثال البسيط يكشف عن أن حالة الفساد الخارجية، انعكست في الجذر لتتحول إلى مشكلة داخلية في نفس الشعوب الإسلامية أو حركاتها أيضاً، فعلى صعيد التجزئة مثلاً.. كان العالم الإسلامي يزخر بأناس يطوفون العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه دون حدود مصطنعة أو أعلام متباينة أو حكومات مختلقة مثل جمال الدين الأسد آبادي الذي طاف البلدان الإسلامية، فذهب إلى أفغانستان محارباً الاستعمار البريطاني حتى سمي بالأفغاني، وسافر إلى مصر وقاد حركة تحريرية، وذهب إلى الهند وقاد حركة الجهاد، ثم سافر إلى تركيا وحارب التخلف هناك، ولم ينكر عليه أحد جهاده في هذه البلدان، ولم يبتعدوا عنه بحجة أنه أجنبي وغريب عن المنطقة.
وللأسف ان حالة التجزئة هذه انعكست على بعض الحركات الإسلامية.. فنشأت حركة مصرية وأخرى فلسطينية أو لبنانية، دون توجه جاد للدولة الإسلامية الواحدة.
التخلف أهم عوائق التقدم
ومن بعض الانعكاسات التي تحولت إلى حالات نفسية داخلية في الأمة الإسلامية.. داء التخلف الذي تكرس فيهم حتى استصعب عليهم مقاومته والمفارقة اللطيفة بين الهند وباكستان في السياق نحو الحضارة واضحة، فأسواق الهند تفتقد إلى الصناعات الأجنبية، فاندفعت نحو بناء نفسها.. ففجرت القنبلة النووية.. وبعكس التجربة الهندية تكمن تجربة باكستان، فحينما أراد الرئيس الباكستاني (بوتو) تفجير القنبلة النووية، أجهز على نظامه بانقلاب عسكري.
ان الشعوب الإسلامية قادرة على تجاوز التخلف ومقاومة الشرق والغرب بصناعتها الوطنية التي تستطيع منافسة صناعات الأجنبي، ولكي تتمكن الشعوب من الوصول إلى هذه المرحلة لابد من مواجهة العدو الداخلي، هذا العدو الذي يعبر عنه القرآن الكريم (بالاصر) وهو الثقل الذي يركس الإنسان نحو الأرض لاسيما بانعدام قدرته على العلو، فمثلاً الشعوب الإسلامية تمتلك كثيراً من أسباب التقدم والرقي من الماء والأرض والمناخ الطبيعي والسواعد البشرية، لكنها لا تملك خبزاً يسد رمق الجياع.. وهذا هو أصل التخلف الذي تحقق، لأن الإنسان عاش في ذاته حالة العبودية وتعود قلبه على نوع الاستجداء، عبر القيم التافهة التي زرعت في النفوس بسبب التربية الفاسدة والضغوط المختلفة التي توالت على المجتمع، وحكمت فيه بعض العادات الخاطئة، مثل الخضوع للأكبر سناً.
لأن الصحيح قد يكون كما يقول المثل العراقي (الصانع أستاذ ونصف)، أي أن الذي يتعلم ممن يعلم، فهو أعلم منه، لأنه يجمع إلى علم نفسه علم معلمه.
بعض هذه العادات تسللت إلى بعض الحركات الإسلامية، وتحولت إلى ظواهر مستمرة، فاذا مات مرشد حركة إسلامية، فان الذي يحل مكانه هو الأكبر سنا والأقدم انتماءاً، إن هذه الحالة لها وجهان، فمن جهة صحيح ان بعض كبار الشخصيات للحركة الإسلامية ساهموا في تأسيس هذه الحركة المؤمنة، لكن من الوجه الآخر، إذا وجد شخص قادر على تحمل المسؤولية أكثر منه، فان المطلوب هو تقدم هذا الشخص إلى زمام القيادة.. .. حتى لا يصبحوا بمرور الزمن كما نصب بورقيبة نفسه رئيساً على تونس مدى الحياة!!
ان تجاوز الأصر والأغلال من المقدمات الأساسية للخوض في العمل الجهادي، ولذا فان الرسول الأكرم (ص) يضع الاصر والأغلال عن النفوس في البدء، هذا كما تؤكده الآية الكريمة (يضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم) لأن هذه الأغلال هي أخطر من الأغلال الخارجية، فقبل أن تسعى لهدم الحكومات الفاسدة اسع أولاً نحو هدم كيانهم الذي تصوره النفس أولاً.. ثم تحرك لإزالة هذه الكيانات في الواقع.