القسم الثاني
الفصل الثاني في تحديد معنى الربا واما الفصل الثاني فهو في الربا وتحديد معناه وحقيقته، وسنوقع الكلام فيه ضمن مرحلتين:
الاولى: نتعرض فيها لحكم الربا.
الثانية: نتعرض فيها للاشكال والانحاء المتصورة لجعل الفائدة في الديون.
المرحلة الاولى: حول حكم الربا الربا على قسمين: ربا القرض، وربا المعاوضة والبيع.
اما ربا البيع، فتختص حرمته بمعاوضة المكيل والموزون والذهب والفضة بامثالها، خلافا لربا القرض، فان حرمته لاتختص بهذه الامور، وان ما تجري في مختلف الاموال مهما كان لونها وشكلها.
وينقسم ربا القرض الى قسمين يتصف كلاهما بالحرمة، فان القرض تارة يكون باشتراط الزيادة حين عقد القرض، واخرى تكون الزيادة بازاء تاخر المدين في اداء دينه عن الاجل المحدد في القرض، وكلما طالت فترة التسديد كلما زادت هذه الزيادة.
وهذان القسمان كما ذكرنا كلاهما محكوم بالحرمة دون التفريق بين انواع المال.
شبهة اختصاص حرمة الربا بربا المعاوضة وفي المقام مجموعة من الاشكالات التي لا بد لنا من التعرض لها والاجابة عنها، وذلك بهدف البرهنة على صحة ما ادعيناه من عدم اختصاص حرمة القرض الربوي بمورد الربا البيعي.
الاشكال الاول: اجمال مطلقات التحريم وقصور الروايات الخاصة:
الاشكال الاول عبارة عن قصور ادلة حرمة الربا عن الشمول للقرض الربوي في غير مورد الربا البيعي، فيقال في تقريب الاشكال: ان ما يدل على حرمة الربا عبارة عن الادلة العامة والخاصة:
ا- اما المطلقات والادلة العامة التي تحرم الربا بشكل مطلق، فهي مجملة، باعتبار ان الربا لغة هو مطلق الزيادة، فلو باع التاجر سلعة بما يزيد عما تساويه واقعا، لكان ذلك داخلاتحت عنوان الربا، والحال ان اكثر المعاملات السوقية من هذاالقبيل وبه قوام التكسب، وهو مما لا اشكال في جوازه، فيلزم من الالتزام بذلك تخصيص اكثر هذه الادلة العامة.
ب- واذا كانت المطلقات مجملة، تنتقل النوبة الى الادلة الخاصة، وجلها مختص بمورد الذهب والفضة، باستثناء اربع روايات ربما يتوهم انه يمكن ان نثبت من خلالها حرمة الربا القرضي في غير الموارد المذكورة، وهي ما يلي:
الرواية الاولى: ما رواه الحسن بن محمد بن سماعة، عن عبيس بن هشام، عن ثابت بن شريح، عن داود الابزاري قال: ((لايصلح ان تقرض ثمرة وتاخذ اجود منها بارض اخرى غير التي اقرضت منها))((1)).
ووجه الاستدلال بها انها تحرم اخذ الاجور مطلقا، دون اختصاصها بمورد خاص. ويرد على الاستدلال بها:
اولا: ضعف سندها بداود الابزاري.
ثانيا: انه لا يمكن الاستفادة منها من الناحية الدلالية، لعدم اشتراطها الاجودية اصلا، وانما تمنع عن اخذ الاجود مطلقا،سواء اشترط ذلك ام لا، وحيث ان هذا يخالف ما هو مسلم فقهيا، فيتعين حمل النهي فيها على الكراهة.
ثالثا: ثم اننا لو سلمنا بدلالة الرواية على التحريم، فانها تختص بالمثليات ولا تشمل القيميات، فان قوله ((وتاخذ اجودمنها)) معناه اخذ مثله، والا لو كان قيميا فلا معنى لان ياخذ اجود مما اعطاه.
الرواية الثانية: ما رواه علي بن ابراهيم في تفسيره، عن ابيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن ابي عبد اللّه(ع) قال: ((الربا رباءان: احدهما ربا حلال والاخر حرام، فاما الحلال فهو ان يقرض الرجل قرضا طمعا ان يزيده ويعوضه باكثر مما اخذه بلا شرط بينهما، فان اعطاه اكثر مما اخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له، وليس له عند اللّه ثواب فيما اقرضه، وهو قوله عز وجل: [فلا يربوا عند اللّه((2))] واما الربا الحرام فهو الرجل يقرض قرضا ويشترط ان يرد اكثرمما اخذه، فهذا هو الحرام)) ((3)) .
ووجه الاستدلال بهذه الرواية هو ان الامام قد ذكر اشتراط المال الاكثر، وهو مطلق يشمل تمام الاموال. لكن يرد على الاستدلال بها:
اولا: انها ضعيفة بالقاسم بن محمد.
ثانيا: عدم وفائها بالمقصود، بسبب اختصاصها بالمثليات. وقوله ((ويشترط ان يرد اكثر مما اخذه)) معناه ارجاع مثله، والا لوكان للراد ان ياخذ قيمته لما كان معنى للاكثرية. فلو اقرض جارية وهي من القيميات فلا يصدق على ما ياخذه بازائهاانه اكثر مما اخذه، وان كان آلاف الدنانير. وبالجملة، حتى يصدق انه ((اكثر مما اخذه)) يشترط ان يكون مثله.
الرواية الثالثة: ما رواه محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن الحسين بن ابي العلاء، عن اسحاق بن عمار، عن ابي الحسن(ع) قال: سالته عن الرجل يكون له مع رجل مال قرضا، فيعطيه الشيه ءمن ربحه مخافة ان يقطع ذلك عنه، فياخذ ماله من غير ان يكون يشترط عليه، قال: ((لا باس به ما لم يكن شرطا)). و رواه الشيخ باسناده عن محمد بن يعقوب، ورواه الصدوق باسناده عن اسحاق بن عمار نحوه ((4)) .
وجه الاستدلال بهذه الرواية ان تقييد عدم الباس بمورد عدم الاشتراط معناه الحرمة اي وجود الباس في مورد وجودالاشتراط، وبما ان المال الذيهو موضوع الحكم في المقام عنوان عام شامل لتمام الاقسام، فتثبت الحرمة في الجميع.
والاستدلال بهذه الرواية ايضا لا يتم، لوجوه:
اولا: لان قوله ((فياخذ ماله)) لا يصدق الا اذا كان المال الذي يسترده على الاقل مثلا لماله، والا لقال ((فياخذ قيمة ماله)).وعليه، فلا يتعدى فيها الى غير المثليات.
ثانيا: لضعف سندها، فان لهذه الرواية طرقا ثلاثة: ففي طريق محمد بن يعقوب واسناد الشيخ موسى بن سعدان ((5))، وفي اسناد الصدوق علي بن اسماعيل ((6))
الرواية الرابعة: محمد بن يعقوب باسناده عن صفوان، عن اسحاق بن عمار، قال: قلت لابي ابراهيم(ع): الرجل يكون له على الرجل المال قرضا، فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منه منفعة، فينيله الرجل الشي بعد الشي كراهية ان ياخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة، ايحل ذلك له؟ قال:
((لا باس اذا لم يكن بشرط)). وباسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان مثله. ورواه الصدوق باسناده عن اسحاق بن عمار، الا انه قال: ((لا باس اذا لم يكونا شرطاه)) ((7)) . هذا ما ذكره صاحب (الوسائل).
ووجه الاستدلال بالرواية: انها تدل بمفهومها على وجود الباس اذا كان هناك اشتراط، وقد اخذ عنوان المال باطلاقه.ويجاب عنه:
اولا: بانصراف عنوان المال الى النقد.
ثانيا: انه حتى مع عدم التسليم بهذا الانصراف، فانه يرد عليها ما ورد على سابقتها من ان قوله ((ان ياخذ ماله)) لا يصدق الااذا كان المال المسترد على الاقل مثل ماله، فيكون المراد منها المثلي.
تتميم اطلاقات الادل ة اذا ظهر اجمال المطلقات وقصور الادلة الخاصة عن شمول القرض لتمام الاموال، فلا يمكن لنا الحكم بحرمة الربا القرضي في تمام الاموال. وهذه الشبهة هي التي دفعت بعض العامة الى عدم القول بحرمة الربا في القرض مطلقا، باعتبار ان الادلة التفصيلية عندهم مشوشة لا يمكن استفادة حرمة الربا القرضي منها. وما حكموا بحرمته هو ربا البيع، لقيام الادلة الخاصة على ذلك.
ومن هنا وجب علينا بيان حقيقة الامر حتى تتضح الخصوصيات التي اوجبت حكم الفقهاء بعدم الحرمة في بعض اقسام الربا.
وبيان الموقف: ان الربا هو الزيادة، وباى وجه اتفقت، ولكنها زيادة نفس الشي، فيقال مثلا: ربا الولد اي كبر، ويقال:
ربت الارض اي زادت ونمت، والذي حرمه الشارع هو زيادة نفس المال، وهي الزيادة الحقيقية.
والتحقيق: ان حصول الزيادة في الشي نفسه له ثلاثة انحاء، تختلف درجة صدقه فيما بينها:
النحو الاول: هو حصول الزيادة في الشي نفسه بازاء تاجيل الموعد المحدد لاداء الدين: فلو اقرضه دينارا وحدد له موعدالادائه، فعند الموعد يستقر الدينار في ذمة المدين، ثم بعد الموعد ينمو ذلك الدينار في الذمة ليصبح دينارا وربعا مثلا. وهذامصداق حقيقى لزيادة نفس المال، وهذا ما كان سائداومعروفا في عهد الجاهلية.
النحو الثاني: ما ليس من افراد الربا الحقيقية، وانما يدخل في عنوان الربا بالعناية، وهو مورد بيع المثل بالمثل في صورة زيادة احد الطرفين عن الاخر، فانه في الحقيقة ليس هناك نماء لاصل المال، وانما حصل النماء في عوض المال.
ولكن العرف العقلائي يطلق على هذا النحو عنوان الربا، لان العرف لا يدقق في الخصوصيات الشخصية، بل يقصر نظره على الخصوصيات النوعية وعلى المالية، فلو باع شخص منا من الحنطة بمن آخر منها، فالعرف ينظر الى المن الثاني وكانه نفس ماله السابق. فحينئذ لو استبدل منا من الحنطة بمنين منها فحينئذ يقال: ان النماء حصل في نفس ماله. ك اما مع اختلاف الصنف، فحتى لو كانت زيادة احد الصنفين على الاخر تقدر بالالوف، فمع ذلك لا يصدق عندهم عنوان الربا، الذيهو نماء نفس المال والحاصل ان الربا صادق على هذا النحو ايضا، لوجود الخصوصية المتقدمة في نظر العقلاء.
النحو الثالث: وهو يتمثل في القسم الاول من الربا القرضي، وهو ما اذا اشترط الزيادة من حين انشاء القرض. وصدق عنوان الربا على هذا النحو موقوف على تحقيق معنى القرض، فانه لو قلنا بان القرض معاوضة وهو المبنى الاول الذي ذكرناه آفلا يصدق عليه الربا، واما لو اخترنا احد المباني الثلاثة الاخرى، فيصدق عليه صدقه على القسم الثاني. وتوضيحه:
1- اننا اذا اخترنا كون القرض معاوضة كما في المبنى الاول فحينئذ لا يصدق الربا، لحصول النماء في عوض المال لافي اصله. نعم، لو كان المال من المثليات فحينئذ يدخل في عنوان معاوضة المثل بالمثل، ويكون حينئذ حاله حال البيع.
2- واما اذا اخترنا احد المباني الثلاثة الاخرى التي تشترك في نكتة واحدة، وهي التنازل عن الخصوصية وعن اصل المالية(والوجوه هي:
ا- التمليك والاستئمان.
ب التمليك مقابل الضمان.
ج التملك بالحيازة، والضمان بمقتضى اليد
، ففي هذه الحالة يكون الشي الذي غض المالك نظره عنه وملكه مجانا هو الخصوصية، والذي احتفظ به لنفسه واراده هو المالية، ولاتختلف حال المالية، سواء اكانت في ضمن نفس المال ام في ضمن قيمته. فصحيح انه عندما خرج من يده كان في ضمن شي آخر، الا ان خصوصية ذلك الشي السابق لم يكن منظورا اليها، كماان خصوصية ما ياخذه ليس منظورا اليها. فحينئذ يصدق فيهذا الحالة نماء نفس المال كما صدق نماء اصل المال في النحو السابق، اذ كما ان الخصوصيات الشخصية في البيع لم يكن منظورا اليها بنظر العقلاء، فكذلك الحال هنا، حيث ان المفروض ان العقلاء يحكمون بان القرض عبارة عن اسقاط لحقه في الخصوصية.
هذا تمام كلامنا في الجواب عن الاشكال الاول، وقد ظهر ان الادلة العامة غير مبتلاة بالاجمال وتشمل تمام القروض الربوية باشكالها واقسامها، وتمام اقسام بيع المثل بالمثل مع الزيادة.
غاية الامر ان هناك (...) ((8)) .
وقد ظهر من خلال ذلك بطلان التيارات الفكرية السنية والشيعية القائلة:
تارة باجمال المطلقات وعدم امكان الاستفادة منها اصلا، كما ذهب اليه العامة.
واخرى بان القدر المتيقن مما يثبت بالمطلقات القرآنية هو ربا البيع او الربا المعاوضي، فقد علمت بان القدر المتيقن من مطلقات حرمة الربا هو النحو الثاني من الربا القرضي، والربا البيعي كذلك، على اشكال في خصوص الاية الشريفة التي جعلت الربا في مقابل البيع، حيث قد يقال باختصاصها بالربا القرضي.
«
الاشكال الثاني: اجمال
تعارض نصوص المكيل والموزون مع ادلة الحرمة الاطلاقية للربا القرضي ((9))» هذا تمام كلامنا في المرحلة الاولى من الفصل الثاني.
المرحلة الثانية: الانحاء المتصورة في اخذ الربا في المرحلة الثانية من هذا الفصل نتناول الاقسام المتصورة في الربا القرضي. والزيادة في القرض: تارة تشترط من حين العقد، واخرى تجعل في مقابل التاخير عن عن الاجما تكون الزيادة فيه مشترطة من حين العقد:
ويمكن تصوير هذا القسم في ثلاثة انحاء، نذكرها الواحد تلو الاخر، ثم نبحث في كل واحد منها هل هو نحو واقعى ام انه غير متصور اصلا النحو الاول: اخذ الفائدة على نحو الجزئية ان تؤخذ الفائدة جزءا من المال الثابت في ذمة المدين، وهذا تارة يكون بنحو شرط النتيجة واخرى بنحو شرط العمل:فتارة يكون نفس المال الزائد جزءا مما في ذمة المدين، واخرى يكون اعطاء الفائدة كذلك. ولا فرق بينهما فيما نحاول توضيحه، فنحن نتحدث حول الجامع، وهو عنوان جعل الفائدة جزءا.
ومعقولية هذا النحو متوقفة على تنقيح اصل القرض، فعلينا ملاحظة الحال على ضوء كل من المباني الاربعة:
ا- اما على المبنى الاول القائل بان القرض في الواقع عبارة عن معاوضة، فحينئذ تكون تمامية هذا النحو في غاية الوضوح،لان الدينار الذي اقرضه الدائن يكون معوضا، ويكون عوضه امرا مركبا من الدينار مع ذلك الربح الخاص، سواء اكان مالاام عملا، وذلك كله في الذمة.
ب- واما على المبنى الثاني وهو مبنى المحقق الايرواني القائل بان حقيقة القرض عبارة عن هبة للخصوصية واستئمان على المالية فلا يكون لهذا النحو صورة عقلائية، فان الخصوصية اذا اعطيت مجانا من دون مقابل فلا يبقى لديناالاالاستئمان، وهو ليس معاوضة حتى يكون في مقابل بدل يؤخذ فيه الزيادة بنحو الجزئية.
ج- وام ا على المبنى الثالث الذي اختاره السيد الاستاذ القائل بان حقيقة القرض هي التمليك في مقابل الضمان فتكون معقولية هذا النحو واضحة عقلائيا، فان التمليك كما يمكن في مقابل ضمان مالية نفس ما ملكه، فكذلك يمكن ان يملك في مقابل هذه المالية مع شي اكثر، فيكون جزءا حينئذ.
د- واما على المبنى الرابع الذي اخترناه والقائل بان حقيقة القرض هي التملك بالحيازة والضمان بمقتضى اليد فيمكن ان يقال بعدم معقولية هذا النحو، لعدم ثبوت الضمان بجعل المالك.
ولكن الصحيح معقولية هذا النحو على المبنى الرابع كذلك، وبيانه:ك انه اذا رضي المالك بان تؤثر اليد تاثيرها الاولي والثانوي، فيضمن المقترض هذا المال، ك ويكون الضمان ضمان غرامة، وضمان الغرامة يتعلق بالمثل في المثلي وبالقيمة في القيمي، ك وهذا بمقتضى العرف العقلائي والجعل الكلي عندهم.
لكن نفس العرف العقلائي يتفق على انه لو تبانى طرفا العقد على ان يكون الضمان على شي آخر، عندها يتعلق ضمان الغرامة بنفس ما اتفقا عليه، والا فانه يتطرق بطبعه الاولي الى المثل او القيمة.
وعلى هذا تظهر معقولية النحو الاول على المبنى الاخير، فيكون الربح حينئذ جزءا للمضمون بجعل من قبل المتعاقدين.وبذلك ايضا يظهر وجه حكم الاصحاب بانه في باب القرض لو اتفق المتقارضان على ان يكون ضمان المثلي بالقيمة صح ذلك، وكذلك العكس، ويجب على المقترض اداء ما تم الاتفاق عليه.
النحو الثاني: اخذ الفائدة على نحو الشرطية اما النحو الثاني فهو ان يكون الربح ماخوذا على نحو الشرطية، فيكون من قبيل الشرط في ضمن العقد، ويترتب عليه احكام الشرط، وبهذا يختلف عن النح وتحقيق المطلب على ضوء المباني المشهورة القائلة بان الشرط يتقوم بان يكون في ضمن العقد هو ان الفقهاء قسموا العقودالى قسمين:
القسم الاول: ما لا يكون في الواقع الا اذنا وترخيصا من قبل صاحب المال لا اكثر من ذلك، وذلك من قبيل الوديعة والعارية والاذن في التصرف والاذن في البيع والشراء، وحتى الوكالة على قول.
القسم الثاني: ما كان فيه تعاهد من الطرفين، بحيث يكون كل واحد منهما ملزما بشي تجاه الاخر، وذلك من قبيل البيع مثلا.
والقسم الاول ليس عقدا في الحقيقة، وانما ادرجوه في ذلك من باب التساهل. فلا بد والحال هذه ان يكون الشرط ضمن القسم الثاني حتى يكون شرطا وتترتب عليه آثاره.
ومن هنا يظهر ان هذا النحو من اخذ الزيادة في عقد القرض لا يتعقل على المبنى الرابع دون سائر المباني، فان المبنى الرابع يقول بعدم زيادة القرض عن كونه اذنا.
اما على المباني الاخرى فالقرض: على الاول معاوضة، وهذا حاله معلوم. وعلى الثانيهبة واستئمان، والهبة والاستئمان كلاهما من العقد. وعلى الثالث تمليك على وجه الضمان، فيدخل ضمن العقد.
النحو الثالث: اخذ الفائدة على نحو التعليق النحو الثالث ان تؤخذ الفائدة على سبيل التعليق لا الشرط، بحيث يكون القرض معلقا على اعطاء الزيادة. ومن المعلوم عدم معقولية هذا النحو الا على المبنى الرابع القائل بان القرض مجرد الاذن، ولا يتعقل ذلك على المباني الاخرى التي تجعل القرض من العقود، باعتبار ان العقد لا يمكن التعليق فيه.
شمول دليل حرمة الربا للانحاء المتقدمة ظهر من خلال ما اوضحناه ان اخذ الزيادة على نحو الجزئية يتصور على المبنى الاول والثالث والرابع، وان اخذها على نحو الشرطية يتصور على المباني الثلاثة الاولى دون الرابع، وان اخذها على نحو التعليق لا يتصور الا على المبنى الرابع.
بعد هذا نقول: هل يشمل دليل حرمة الربا كل هذه الاقسام ام انه يختص ببعضها فقط؟ تحقيق ذلك: ان الربا لما كان عبارة عن جعل المال اداة لتنميته واستخدامه للالزام بالزيادة، فيكون هذا الالزام ناشئا عن الزام بارجاع اصل المال، فاذا كانت الزيادة منوطة بارجاع اصل المال، فحينئذ يصدق الربا، فلو اقرض شخص اباه مالا ثم مات الاب، فله ياخذه من التركة بحسب قانون الوراثة، اضافة ك الى ما كان قد اقرضه اياه، الاك انه ليس من الربا في شي،لان الالزام بالزيادة لا يرتبط بالالزام بنفس المال.
اذا ات ضح ذلك ناتي الى محل الكلام لنرى ما هو الحال:
ا- اما النحو الاول الذي تجعل فيه الزيادة جزءا، فمن المعلوم فيهذه الحالة صدق الربا، ك لان الزيادة تكون تابعة لاصل المال.
ب- وكذلك الحال بالنسبة الى النحو الثاني الذي تؤخذ فيه الزيادة بنحو الشرطية، فان الالزام بالزيادة فيه تابع للالزام باصل
ج- واما النحو الثالث الذي يكون فيه بنحو التعليق على اعطاء الزيادة، ك فلا تكون الزيادة تابعة للالزام بارجاع نفس المال، فلا يصدق فيه تنمية نفس المال وجعل نفس المال اداة لتنميته.
غاية الامر ان حصول القرض متوقف على التمليك للزيادة، فيكون عقد القرض سالما من الزيادة التابعة ولكن الانصاف ان النحو الثالث في حد نفسه ليس معقولا، فانه وان كان معقولا على المبنى الرابع الذي اخترناه حول حقيقة القرض، الا ان المعقولية في نفسها لا تثبت الصحة، ودخوله تحت دليل القرض يتوقف على ان يكون ذلك امراعرفياعقلائيا، باعتبار ان دليل القرض انما يثبت صحة ما يكون متعارفا عند العقلاء، والتعليق في العقود خلاف داب العقلاء.وكذلك الحال في الوكالة، فانها وان كانت في حقيقتها من باب الاذن، الا ان العقلاء قد اشترطوا في صحتها التنجيز.
2- ما تكون الزيادة فيه بازاء التاخير عن الموعد المحدد ناتي الان الى ما كانت الزيادة فيه في مقابل التاخير عن الاجل، وهذا القسم ايضا يتصور فيه عدة انحاء:
النحو الاول: ان تكون الزيادة في مقابل التاخير عن الاجل بحيث يلزم المدين على اعطاء الدائن وتمليكه دينارا فيما لوتاخر في التسديد عن الاجل المحدد.
النحو الثاني: ان تكون الزيادة على نحو الجعالة، بان يقول المقترض للدائن: ان تاخرت عن الموعد المحدد فلك كذا.
النحو الثالث: ان لا يكون ذلك على نحو الجعالة او العوض عن التاخير، بل يكون على نحو الالزام التكليفي، وذلك بان يقول الدائن للمقترض بانه يتوجب عليه احد امرين:
(ا) ان يسدد دينه في الموعد المحدد.
(ب) او ان يعطيه المال الكذائي بتلك النسبة.
وهذه الاقسام الثلاثة ايضا كلها داخلة تحت عنوان الربا، فان الربا هو استخدام المال الاصلي في الالزام بالزيادة، وهذاحاصل في الاقسام الثلاثة التي بيناها، بلا فرق بينها، كما لا فرق بين الاقسام الاتية، فانها جميعا مشمولة لدليل حرمة الربا:
ا- بين ان تكون هذه الزيادة المالية في مقابل حق المطالبة فيسقط الحق حينئذ.
ب- ك وبين ان تكون في مقابل اعطاء حق للمدين في التاخير لو كان هذا ممكنا، وتحقيق حاله وحال ما قبله الى بحث النقد والنسيئة.
ج- وبين ان تكون الزيادة في مقابل ان لا يطالب الدائن خارجا.
كما يدخل في الربا مورد البيع المحاباتي، وذلك بان يشترط الدائن على المدين انه لو تاخر عن الموعد المحدد فانه يتعامل معه ببيع محاباتي. فقد يقال: انه حيث لم يجعل فيهذه الصورة مال في مقابل الاجل، بل كان المال في مقابل ما اشتراه،فان تاخير الاجل حينئذ سيكون بلا مقابل.
والحق ان المحرم الذي حذر منه الشارع ليس عنوان جعل ما يقابل التاخر عن الاجل المحدد، ولو كان هذا هو المحرم الذي صدر عنه التحذير لقلنا بالجواز فيهذه الصورة، ولكن ما حذر عنه الشارع هو ان يكون نفس المال مستخدما في نمائه وزيادته.
وهذا ينطبق على المقام، فان نفس المال هو الذي يوجب الزيادة،ك ولكن هذه الزيادة ليست مالا من جنسه، ك بل هي عبارة عن مال عقلائي من جنس آخر، وهو نفس المبيع المحاباتي، فيكون نفس المال موجبا لنمائه، ويكون بالتالي مشمولا لدليل حرمة ا نعم، وردت روايات تدل على جواز مثل ذلك، ولكن الصحيح عدم امكان العمل بها.
وتوضيح المسالة: ان من المعلوم عند جميع الفقهاء حتى الذين افتوا بمضمون هذه الروايات ان هذه الروايات ليست في مقام تخصيص العموم القرآني، وانما في مقام بيان وجه الخلاص والحيلة الشرعية التي بها تخلص المعاملة من الربا المحرم ويكون المقصود حاصلا مع ذلك. ك اذن هذه الروايات لا تخصص العموم في دليل الربا الشامل لتمام اقسام بيع المثل بالمثل في مورد المكيل والموزون، وانما مفادها ان الاية بنفسها لا تشمل مثل هذه الحالات، ولهذا الحقوا الهبة بالبيع المحاباتي، فيكون معنى الروايات ان معنى الاية هو حرمة جعل المال في مقابل تاخير الاجل، لا غير.
وهذا المعنى موجب لسقوط هذه الروايات، فاننا لو قلنا بامكان تخصيص العموم الكتابي بالاخبار، فلا يمكننا القول بامكان تغيير الظهور بواسطة الروايات، من خلال تغييرنا لمركز الحرمة من الربا اي استخدام نفس المال لاثبات الزيادة الى شي آخر، وهو جعل المال في مقابل تاخير الاجل، فان مثل هذا المعنى لا يحتمله العرف عندما يواجه الاية الكريمة،ك كماان هذا المعنى لا يخطر ببال العقلاء لدى سماعهم كلمة (الربا).
وحينئذ تدخل هذه الروايات في الروايات التي ورد في شانها من الائمة (ع): (زخرف)، (باطل)، (لم نقله)، (اضربه عرض الجدار).. فتسقط بذلك عن الحجية.
ثم ان صاحب الحدائق نقل عن بعض العلماء المعاصرين عدم العمل بهذه الروايات وطرحها، لكونها ايضا من الربا. ثم قال:ان هذا الرفض اجتهاد في مقابل النص، فيجب العمل بها.
والصحيح انه قد يتراءى للفقيه بالنظر الاولي ان هذه الروايات مقيدة لعمومات تحريم الربا، وليس هناك محذور في تقييددليل حرمة الربا، ويكون حالها حال سائر التقييدات الاخرى، وقد وقع بالفعل تقييد لدليل الربا في مورد البيع، فخصصت الحرمة بالمكيل والموزون و....
وتحقيق المسالة ان هناك نظامين في استيفاء الديون:
احدهما: النظام الربوي الذي يقع جزءا من النظام الراسمالي.
والثاني: النظام اللاربوي المتخذ من قوانين الاسلام.
ففي النظام الاول يثبت للدائن حقان على المدين:
الحق الاول: هو حق الزامه برد ماله، وهذا الحق مقيد بتمكنه من اداء قرضه وعدم كونه معسرا.
الحق الثاني: هو حق الزامه بالجامع بين ارجاع المال والزيادة، فلو كان غير متمكن من الاداء في الوقت يمكنه ان ياخذبالثاني، ولا يكون الزامه بالجامع مقيدا بشي. ويعتبر هذا الامر احد القواعد الاساسية للنظام الربوي في المجتمع الراسمالي.
اما النظام الاسلام في استيفاء الديون،ك ففيه ايضا حقان:
الحق الاول: هو حق الزام المدين بتسديد الطلب الذي يدل عليه قوله تعالى: [وان تبتم فلكم رؤس اموالكم((10)) ]،وهذا الحق يتوقف كذلك فيهذا النظام على عدم عسر المدين. ومن هذه الناحية يشترك النظام الاسلامي مع النظام الراسمالي.
الحق الثاني: اما الحق الثاني فهو باطل في القانون الاسلام تكليفا ووضعا، وقد عوض عنه بمفهوم الصبر في قوله تعالى:[وان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة وبحسب هذا النظام، فان اي الزام ناشى ك من كونه دائنا وبوصفه جزءا من نظام الاستيفاء فهو حرام وباطل، ولا فرق في الزيادة بين ان تكون مالا من الاموال الاعتبارية وبين ان تكون عملا وبين ان تكون بيعا محاباتيا، فان ذلك كله له مالية عقلائية اما اذا لم يكن هناك الزام من قبل الدائن، ك فكل عمل يقع من قبل المدين لا يدخل تحت الربا وليس فيه نكتة الربا، لانه خال عن الالزام من قبل الدائن:
ا- فلو دعا المدين الدائن الى طعام واطعمه طمعا في عدم استيفائه الدين عند الاجل المحدد لا يكون ذلك من الربا.
ب- وكذلك الامر ان اعطاه مالا بطمع عدم المطالبة، وهو ما صرح به في صحيحة اسحاق بن عمار.
ج- ومثله ما لو اوقع بيعا محاباتيا مع الدائن طمعا بذلك.
د- ومنه ايضا ما لو اشترط ضمن البيع المحاباتي ان لا يطالبه بدينه، فيجوز ذلك اذا لم يكن هناك الزام وضغط من قبل البائع، بان يقول له: اما ان تعطيني مالي او توقع هذا البيع، فان ذلك باطل وحرام،ك وليس للبائع هذا الحق، سواء اكان موسرا ام معسرا، بل يمكنه ان يجبره بالوفاء عند اليسر.
ه- ومنه كذلك ما لو جعل المقترض مالا في مقابل التاجيل، ك فيجوز طالما انه لم يلزم به.
نعم هناك اشكال في امكان جعل المال في مقابل الاجل،ك ولكن هذا المحذور انما يبطل الشكل الاخير، فيمكن الاستعاضة عنه بمعاملة لازمة مستقلة ويشترط ذلك ضمن تلك المعاملة، كما هو الحال في حق الشفعة الذي لا يقبل جعل المال بازائه.
ثم ان الروايات التي تدل على جواز البيع المحاباتي اذا كانت دالة على ما ذكرناه من البيع المحاباتي في صورة صدور ذلك من قبل المدين ومن دون اعطاء حق لالزامه، فلا محذور في الاخذ بها، لعدم منافاتها للعمومات الدالة على حرمة الربا، ولاتكون هذه الحالة حيلة من الحيل التي ذكرت حول الربا،ك اذ لم يكن هناك اى الزام للمدين، بحيث لو لم يرد المدين لنفسه ذلك لما كان هناك اى حق للدائن في الزامه فيما لو لم يكن موسرا.
واما اذا كانت هذه الروايات تدل على جواز اعطاء الحق في الالزام بهذا البيع للدائن، عندها تتعارض مع العموم القرآني الدال على حرمة الربا، فان الربا كما هو المتعارف من معناه عبارة عن الزام الدائن المدين بالزيادة مهما كانت.
وحيث ان هذه الروايات ليست مخص صة لدليل حرمة الربا، فمعنى ذلك ان دليل الربا غير شامل لهذه الموارد، فيكون معنى الرباجعل الزيادة مقابل الاجل. وانصراف كلمة الربا من ذلك لو لم يكن بالنص والصراحة، فلا اقل من الظهور. وحينئذ تكون هذه الروايات مخالفة للكتاب، فيجب طرحها.
الا ان اكثر الروايات الواردة لا تدل على اعطاء الدائن حق الالزام، فلا يتاتى محذور تواتر هذه الروايات.
والروايات المشتملة على الالزام الذي يصرف البحث الى الربا تتلخص في روايتين على ما في (الوسائل)، وقد علمت انها ليست دالة على ما يخالف العمومات.
ومما ذكرناه يظهر حال اخبار العينة، كما لو جاء المدين الى الدائن واشترى منه مالا نسيئة بمقدار، ثم باعه عليه باقل من ذلك واخذ الثمن وبه سد دينه. فلو كان الدين عشرة دنانير، فعندما يحل الاجل ياتي المدين الى الدائن ويشتري منه كيسامن الحنطة باثني عشر دينارا نسيئة على ان يوفي ذلك بعد ستة اشهر، ثم يشتري الدائن هذا الكيس بعشرة دنانيروالروايات الواردة في تجويز هذا المضمون اكثرها لا يدل على جواز الزام الدائن ((11)) الفصل الثالث في بيان الواقع الخارجي للبنوك وكيفية نشاتها ((12)) ان البنوك الموجودة اليوم في تمام بلدان العالم ليست وليدة يوم واحد او عام واحد، وانما مرت وتدرجت في مجموعة من مراحل الى ان وصلت الى ما هي عليه.
فقد تربت هذه البنوك اول الامر في احضان الصيارفة الاوروبيين، الذين كانوا يعملون في عهد الاقطاع في ابدال النقود آكما هو داب الصيارفة الموجودين فعلا في البلدان الاسلامية، فكانوا يبدلون العملة الفرنسية بالعملة الايطالية مثلا، وكانواينتفعون من خلال الفارق الموجود بين العملات.
وبهدف الحفاظ على رؤوس اموالهم، لجا هؤلاء الصيارفة الى اقتناء صناديق حديدية راحوا يحفظون فيها اموالهم ومستنداتهم. وقد استرعت هذه الصناديق انتباه الاقطاعيين، الامر الذي دفعهم الى ايداع اموالهم لدى هؤلاء الصيارفة، فكان الواحد منهم يعط ي امواله للصيرفي ليضعها في الصندوق الحديدي ويحفظها، ويستلم منه وصلا يفيد استلامه للمبلغ. وكان الصيرفي يتقاضى من الاقطاعي اجرا في مقابل خدمة حفظ امواله، وذلك بموجب الجعالة او بموجب اجارة الصندوق،وكان المبلغ الذي يتقاضاه متناسبامع مقدار المال المودع لديه، بحيث كلما زاد المبلغ كلما زادت اجرة حفظه، والعكس صحيح. وبهذه الطريقة تدفقت الاموال الى صناديق هؤلاء الصيارفة.
وبعد ذلك التفت هؤلاء الصيارفة الى ان الاقطاعيين لا يتقاضون الاموال المودعة في صنادقيهم الا نادرا، وانهم يودعونهافي صناديقهم بدل ايداعها في الجدران او الارض، وكانوا يتقاضون مقدارا من هذه الاموال في حال نشوب حرب بينهم،حيث كانوا يسترجعون مقدارا منها لتمويل الجيش، وكان المقدار الذي يتقاضونه لا يتجاوز العشرة في المائة، وكان يصل في حالات السلم الى واحد في المائة.
ومن هنا فكر الصيارفة في امكانية الاستفادة من هذه الاموال المجمدة بنحو يدر عليهم الارباح، وكانت تربطهم بتجارالسوق علاقات حسنة، حيث كان التجار دائما يبدلون نقودهم عندهم، ففكروا في اقراضهم مقابل ربح ما، ومن هنا اعلنواللتجار عن استعدادهم لتقديم القروض مقابل المنفعة، فاقبل التجار عليهم.
وبهذه الطريقة اخذ الصيرفي يستوفي فائدة مالية في مقابل ما يقرضه للتجار، وكانت نسبة هذه الفائدة تختلف زيادة ونقصانابحسب قوانين العرض والطلب، فكلما كان اقبال التجار على الاقتراض اكثر، كلما زادت نسبة هذه الفائدة.
وقد نتج عن ذلك ان اكتسب الصيرفي من خلال اموال الاقطاعيين سمعة مالية قوية، وكان التجار يرون انه يدفع لهم المال دون الحاجة الى اقامة الدعاوى. ومن خلال اعمال اخلاق السوق، اخلاق الدرهم والدينار، اخلاق المصلحة الراسمالية،تمكن الصيرفي من جلب انظار التجار اليه، حيث لم يكن يتتعدى عن المقدار المتفق عليه بينهم ولو بمقدار فلس واحد،فخدعهم بهذه الاخلاق، واخذ يمتص دماءهم ويرتزق من اموالهم دون ان يشعروا بذلك.
ثم ان التاجر لما اخذ يقترض من الصيرفي لم يعد ياخذ منه المال، بل كان يكتفي بالاقتراض ويسجل ذلك في حسابه،وياخذ في مقابله ايصالا، وذلك باعتبار ان غرضه من الاقتراض كان ابرام معاملة مع تاجر آخر، وغالبا ما يكون هذاالاخير في البلد نفسه ويتعامل مع الصيرفي نفسه، فبدل ان ياخذ المال من الصيرفي ويعطيه للتاجر الاخر، كان ينقل المال من حسابه الى حساب ذاك دون ان يخرج من صندوق الصيرفي مال اصلا.
وبعد ذلك لاحظ الصيرفي ان المال الذي يقوم باقراضه للتجار قلما يخرج من صندوقه، حيث انه غالبا ما يتنقل بين حساب هذا وذاك، ومن هنا فكر في خطوة لاحقة في مضاعفة نسبة الدين الى عشرة اضعاف ما يستوفيه من الاقطاعيين، فلو كان الاقطاعي يودع لديه عشرة دنانير، وكان الذي يقع تحت الطلب عشر هذا المبلغ اي دينارا واحدا ك فكان يقدم بازاءهذا الدنانير التسعة المتبقية قروضا بقيمة تسعين دينارا.
وبهذا راح الصيرفي يمتص دماء الناس والتجار ويرتزق من اموالهم، دون ان يدخل هو في معترك التجارة ويتعرض لاجواءالسوق. وتمكن عن طريق هذا الارتزاق والعيش الطفيلي من النفوذ الى تمام اعصاب التجارة والصناعة والزراعة.
ثم تلا هذه المرحلة عصر النهضة، وهو عصر النهضة المادية والاقتصادية التي كانت متناسبة عكسيا مع الجانب الروحي والحضاري.
هنا لم تكن القروض التي يقدمها الصيارفة لتفي بحاجات الشركات التجارية الاوروبية الكبرى التي عملت في مجال استخراج النفط من نقاط افريقيا القصوى، فلم تكفها مئات الدنانير ولا الوفها، حيث كانت على اقل تقدير تحتاج الى مائة مليون دينار. ومن هنا كان على هذه الشركات ان تقترض مبالغ كبيرة.
ولم تكن هذه المبالغ بحوزة الاقطاعيين الذين امسوا اضعف من ذلك بعد ان سلب منهم سلطانهم وشلت ايديهم، وسحبت منهم مكانتهم الاجتماعية، حيث ارادوا والحال هذه ان يعيشوا في ظل اموالهم المكتنزة حياة مريحة على اقل تقدير.
واما التجار، فلم يكونوا ليتمكنوا من رصد هذه المبالغ وتمويل مشروع واحد من هذه المشاريع حتى لو قاموا بتجميع كافة اموالهم.
ومن هنا وجدت الحكومات الراسمالية نفسها مضطرة في سبيل تامين هذه الاحتياجات الى تجميع فضول الاموال المتوفرة لدى الناس، وكان عليها ان تلجا الى احد اسلوبين لتحقيق هذا الغرض: الاكراه او الطوع.
اما الاكراه، كفكان خلاف ما تؤمن به تلك الحكومات (قبل ظهور الفكرة الاشتراكية بعد ذلك الحين).
واما الطريقة الطوعية حيث يبذل الناس اموالهم لتمويل هذا المشروع عن طوع واختيار فكانت غير ممكنة فيظلمجتمع لا يؤمن افراده الا بالمادة، اذ لم يكونوا ممن يتسابق الى الخيرات في العطيات.
في هذه اللحظة الحاسمة برز الصيرفي مجددا في الميدان، وتعهد بتمويل هذه المشاريع وتجميع فضول اموال الناس، واعلنعن استعداده لتقديم الربح الى كل من يقوم بايداع امواله لديه. وقد وقعت هذه الخطوة في عمق نفس الانسان الاوروبيالذي لم يبق لديه في ذلك الحين سوى شره المال والحياة.
ومن نتائج ذلك ان اقبل الناس على الصيارفة ومولوهم بكل ما يملكونه من فضول المال طمعا في تحصيل الفائدة، واقبلعليه التجار وغيرهم ليمولوه بقروض طويلة الامد، وفي المقابل قام الصيرفي بتقديم اقل مقدار من الفائدة بحيث يستطيعمن خلال هذا المقدار الحفاظ على اهتمام الناس. وبعد ان جمع الاموال قام بتمويل تلك الشركات التجارية بالقروض فيمشاريعها التي تحتاج فيها الى رؤوس اموال ضخمة، وقام بتقسيم هذه القروض الى ثلاثة انواع: القروض قريبة الاجل،متوسطة الاجل وبعيدة الاجل. وكلما زادت مدة القرض كلما زادت الفائدة المستوفاة عليه.
هذه بشكل مختصر قصة نشاة البنوك، وقد اتضح مما ذكرناه كيفية نشوء الاسرة الربوية. وقد عرفتم واقع الامر الذييذكره اصحاب الفكرة الراسمالية ويمجدونه ويتعاملون معه بوصفه خدمة قدموها الى عالم الاقتصاد.
هذه هي قصة الربا الذي استعانوا به لتجميع فضول اموال الناس، وقد ظهر ان تاثير الربا على اقتصاد هؤلاء والدور الايجابيالذي لعبه فيه كان نتيجة الروح المادية التي كانوا يعيشونها في ذلك الحين.
ومن المعلوم ان هذه العملية لم تكن لتنجح فيما لو نقلناها الى بيئة اخرى تعيش ظروفا مغايرة، وليس الناس فيها اصحابذلك الشره والطمع في الدرهم والدينار. الا ان الطريقة المذكورة المعمول بها في تلك البيئة سيطرت على مقاليد الاقتصادفي البلاد، فاخذت تسيطر على الاقتصاد على الرغم من انها تعيش عيشا طفيليا على حساب التجار والكسبة. هذا كلهبسبب توهم امكانية خلق اموال طولية وامكانية اخذ المال في مقابل تاخير الاجل.
موقف الاسلام من الطريقة الربوية في التعامل الاقتصادي ولكن الاسلام عارض بشدة هذه الفكرة الخاطئة، وطرح مفهوم [وان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة((13))]، ولم يقم بالمنععنها فحسب، وانما سد الابواب امامها بالكلية، ومنع ايقاع المعاوضة على الاجل، وبهذا يكون قد استاصل هذه الفكرة منجذورها ولم يبق لها مجالا لتنتشر.
المظاهر الاجتماعية للنظام المالي الربوي هذا ويمكننا ان نستخلص عدة مظاهر اجتماعية لهذا النظام المتخذ من هذه الفكرة الراسمالية، منها:
الاول: انه لما كانت رؤوس الاموال التي بواسطتها تتحرك التجارة مدينة في الغالب للبنوك، كان على التاجر اثناء تعيينالمشروع الذي يتقدم به ان يدخل في حسبانه الفوائد التي تتقاضاها البنوك، ويدخل ذلك في الربح.
ومن هنا دخلت الفوائد البنكية ضمن كلفة الاعمال، كولذا فان اقل مقدار يستطيع ان يكتفي به التاجر هو اقل مقدار منالربح، مضافا اليه الفائدة البنكية.
ومن هنا اخذ التجار يبحثون عن المشاريع التي تدر عليهم ارباحا اكثر، حتى لو لم تكن ضرورية من الناحية الاجتماعية،بل حتى لو كان فيها ضرر على الفرد والمجتمع. وفي المقابل، لو كان هناك مشاريع ضرورية ولكنها لا تدر ارباحا جيدة، لمتكن لتحظى باهتمام التجار وتبقى معطلة، حتى لو بلغت من الاهمية مبلغا.
الثاني: ان الاسرة الربوية التي تقدم القروض لما كان غرضها الوحيد من تقديم القرض هو تحصيل المنفعة وتامين الارباحالتي ترد الخزنة، فحتى لو افلس المقترض وعجز عن تسديد القرض وكان لديه بساتين موروثة يمكنه بيعها وتسديد مايتوجب عليه، كفان عليه الاقدام على بيعها وتسديد القروض المستحقة حتى لو ادى ذلك الى افلاسه بعدالتسديد.
الثالث: ان وضع البنوك راح يتناقض مع المصالح التجارية العامة، فحيث كانت فوائد القروض تختلف باختلاف قوانينالعرض والطلب، صارت الفائدة تزداد كلما ازدادت المشاريع، وتنخفض كلما انخفضت. فكلما كان الاقتصاد العام محتاجاالى رؤوس الاموال كانت البنوك تمسك يدها عن الاعطاء من خلال زيادة الفائدة، وكلما كانت حاجته تقل، كانت البنوكتسهل في عملية العطاء. وهذا كله ناجم عن ذلك العيش الطفيلي المضمون.
ثم ان الاسرة الربوية تعدت هذه الميادين الى ميادين السياسة، فلعبت دور ملوك الواقع وصارت جميع المصالح مربوطة بهمبدلا من الملوك، من قبيل ما حصل مع لويس السادس عشر والسابع عشر اللذين قتلهم الناس.
كما انها دخلت الى الميدان الفكري والعلمي، فاخذت تعمل على تقريب ذهن الانسان الاعتيادي الى صحة هذا النحو منالمعاملة، وجاءت بنظريات عديدة بهدف التقريب وبغرض تبرير هذه الفوائد، ولعلنا نتعرض الى ذلك في الخاتمة.
هذا تمام الكلام حول ما اردنا تقديمه قبل الحديث عن الصورة الاسلامية لهذه المعاملات.انتهى