هذيان الموقد جبارقاسم
الحياة وردة صناعية منزوية في الصقيع والدخان. لكن بنفسجتي مغلفة برماد الكلمات المحترقة.حملتها الريح بعيدا نحو الهاوية.تفوح مهنا ذكريات معتقة بنكهة الأهوار وليالي البصرة, تصاحبها الأهازيج وزغاريد النخيل المشتاق لهدوء العراق ولأمجاد بابل. يغلفني دخان سكائري الكثيف بتساؤلاتي العابثة ,وأنا أصحو على أمالي القلقة الممزوجة بطموحات عريضة ترافقها أحلام اليقظة وهي تأخذ الغرفة جيئة وذهابا. يقطع حديث خيالي بائع الغاز. انظر إليه من خلال النافذة الضيقة وارى العراق بملابسه الرثة يدق ناقوس مجده الذي انطفأ وعيناه تسرقان ضوء الشمس.
انشغلت عنه بضوضاء عقلي ورنيني الهاتف.
عندما يصل صوتك النائي البعيد إلى مرافئ قلبي الشاحبة والمتشحة بالضباب تتراقص بألوان الكلمات وهي تمزق صمت المسافات فأدنو إليك خجلا ملتصقا بسماعة الهاتف لاتبع أنفاسك السابحة في سيول الكلمات الحزينة المودعة. وأنا مختبئ خلف صمتي خلف سماعة الهاتف المنهمرة في الحنين والدموع مطرقا بجوارحي لأسمع عتاب الكلمات التي تخاطب سكوني المشتاق إلى ضحكاتك البريئة التي أخرسها تتطاولي على معبد عشقي وغرامي متابعا أنفاسك كضوء يخبو أمام ظلام روحي الذي يطوف كفراش حولك.
لقد أغلقت سماعة الهاتف وتركتني اسبر حيرتي وصمتي عائدا إلى تأملاتي هي لا تريد لي سفراً إلى بوابات الزمن الجرداء.
لماذا أبقى وحيدا في المسيرة؟نحن في بلد ليس لأهله!
حتى الأرصفة تشتاق إلى العابرين عليها
كثيرة الأوراق التي تحمل همومنا ونلقيها على الرف كذكرياتنا التي مازلنا فيها بشخوصها بألمها
كل لحظة هنا حزن يتبعه حزن من يحمل البصرة معي إلى الأمان يحملها بعيدا بشطها والنخيل والمراكب وأحلامنا والأماني
حياتي كأوراق مهملة في سلة الحياة القابعة في عصور التمرد
احمل وسادتي ومسبحة وأورادي إلى سطح الدار وفي يدي ورقي وبضع كلمات هي حياتي وكل الذكريات عن كل شيء لم اكتبه ولم يصالحني قلمي في نطقه
عندما تكون وحيدا مبتلا في مستنقع الندم تحاصرك الزوايا
يزاحمني الحائط خاصرتي رئتي …مختنقا بضجيج الأسلاك الشائكة.
لكن صوتك يطفو فوق الضجيج واسمك يعلو صفحات عقلي…بعت البيت والطباشير لم يبق سوى سبورة مكتوب في أعلاها ملاحظة
في وحدتي أصاب بالهذيان يقاسمني الورق كآبتي ومازلت مستمرا في الثرثرة ساقطا نحو النجوم أراقب شهابا مضى بدون اتجاه
أوراقي
سكائري
أكواب الشاي ينتظرون بكل دعاء قلمي الخجول في مصارحة الكلمات هي لا تعطي نفسها
شهية تلك الكلمات كمعلمتي ولذيذة عندما تتحدث عن الطقس والتضاريس وعوامل التعرية
خجولة الكلمات عندما تراني أترنح تقترب نحوي
رويدا رويدا
تتحسس وجعي…حزني
تمطرني حنينا وبكاء لجسد البصرة المتآكل وهو يفوح بالحناء
كلمات بنكهة الطين وعطر الماء
تلتف حولي كالنوارس وهي تراقص أصوات البحارة
يداي تمسكان ضفيرة حلم مقدس
صورة عتيقة تشاركني هذياني
استيقظ وهي غافية مبعثرة تعانق شفتاي مودعة
بالرحيل…
تاركة عراقيا مصغي لصوت انفجار
تنسل خلسة مخلفة محبرة من ذكريات تزحف
نحو الأوراق ترسمها
تصبغها بأنفاسي الضاحكة
برذاذ الماء النازل من كف ليلى
وأنا القي براسي في أحضانها يالله
كيف لي إن أفارق هذا الوجه السابح
تحت أمواج الشعر كالشلال …يالنقائها وعذوبتها وصفاء ضحكتها
وهي تمزق قلقي المنطوي بيديه ورجليه. لأفتح عيني على ثغر العراق
يوقظني الندى المنساب من عينيها وأنا في حجرها ليداعب رموش خيالي هل يفارقني النخل وهذا النهر؟
بين سطور حياتي…
أوقفتني خطوات أمي وأنا
أفتش عنها
لقد أقلعت من مطارات أمي وفي حقائبي أخفيت ظلي
فوق راسي ظل من دعاء
خبأته في حقيبتي وفارقت ظلي
أترنح بلا ظل أو رداء… تسيل طموحات أبي على صدري
فتصبغني رداء كئيبا يشبهني
مصلوب على ظل الماء… هل ما زلت أهذي؟
المساء كلمات مقفلة شاحبة
يفتح سرها الصباح
وليلى مفتاح لكل مسائاتي
أراها في كل الأشياء
عند كل هذيان نحتسي الصبر عن الموقد
يقص علينا كيف كنا نسبح في عين الشمس
وحكايات الأهل وبكاء بغداد
وهجرة السندباد دون عودة
تاركا إلف ليلة وليلة
متخفيا من جيش المغول
لأنهم ملئوا دجلة بحبر أجسادنا
في بلادي الشمس ما عادت تشع ضياء
لا ارغب بحلم يداعب وسادتي ويذهب دون عناء
دون إن يطرق نوافذ ليلى أو يعيد براءتها لتضحك
بوجه الشمس لتملئ عرسي سلال ضوء انثر
على الأرصفة التي شاركتني حديثي باحترام
وهي مصغية لهذياني
هاجرت فيها محملا بذنوب المرايا
فلقد ضاجعت المرايا وهي تلطخ شرفتنا بالزفاف
أراها نخلة لا تفارق الرافدين
جذورها موغلة في جراحي ... فهل لي من بقاء
احملها إلى العراق تسبقني إلى منفاي
وعيناها تلاحقان شهابا مضى باتجاه الخليج
في ليلك توقظين النخل وأنت تقرئين أسمائنا المجروحة في ضلوع النخيل وتوقظينها بدموعك التي مرت بجراح النخل لتعلن عن كتابة اسمين – جرحين من جديد.
تراقبك النجوم وهي ترق لحزنك تاركة قمرها عندك
وليلتي الأولى ارتب قصاصات أوراقي المسفوح حزنا سرمديا بحزن الرافدين وجرحه شوقا لامرأة هي وطني.
أتذكرين؟ كنت اتسولك سيدتي مرتديا حبا عتيق
حتى استيقظت فيك وسرقت من عيناك ليلي
انثر روحي لمن يعطيني عطرا يشبه عطرك
اسير في شوارع البلد الشقيق
تخترقني أضواء المركبات الأنيقة
لم أجد ظلا يشبه ظلي
اعود محطما كعادتي
يشاركني الرصيف حديثي
وتنتظرني صالة الفندق الغافية
المال والاحتلال
عدويين يقبعان على صدري
ويحرمني وطني
ويبدءا هذياني ...
حتى الأرصفة أراها حاقدة
لا تشبه أرصفتي الحافية
وأنا أتسابق معها كل شتاء
غريبة حدائقهم باهتة مخيفة رغم الأضواء
أراها كئيبة قاحلة جرداء
تقودني خطاي إلى هاتفي
اضغط ارقامه بقلبي ورجفة تعتريني حتى الاصابع
ليسقط كل العالم من حولي وليتدحرج قلمي كجثة هامدة
في ساحة ورقي المتعب وأنا اتحسس صوتها بقلبي باشتياقي لتحملني معها مع كل حرف بانفاسها المنهكة
إلى موطن عشقي وصباي
اسمع صوتها يتحسسني يداعبني يطمئن علي
يلمس كل خلية في جسدي
خدر يتسرب من سماعة الهاتف ليملئني احساسا لا اعرفه يشبه هذياني.
احساسا حلو في الفناء فيها
يذوبني صوتها وأنفاسها
المتسارعة كدقات قلبي عند رؤياها.
:قالت حبيبي كيف أنت بدوني؟ هل تطاوعك الكلمات؟أم مازالت متمردة مثلي ؟ هل وجدت عمل لها في الجريدة؟
- يا حبيبتي كيف تتقبلها صحف اليوم وهي لا تكف عن الصفير !.
كل الصحف طائفية ... حزبية... تلوغ في دمائنا
وشرطي العالم يسرق الأمان.
يسرق مستقبلنا ...أطفالنا...أحلامنا
يسرق البسمة وضوء مشعلنا
ويحكم علينا بلا عودة
: وهل تتركني حبيبي ممزقة إلى أشبار أمتار؟
أسيرة البيادق
يتجنبني الطريق
وأنت تلهو بالمحار والأصداف
وعدتني في حدائق الروح
وأنت تقطف قلبي قنديل صلاة أبدية
بان الخلود شيء محال إلا لك سيدتي بخلودك
تبدأ الحياة
وعدتني ستنثر الرياح لتنزع الخليج ويكون معبرا لك لتحلق عند عيون الفرات ويكون معبدنا عند الضفتين بعيدا عن خط الانفجار.
لماذا تناسيت إن المريخ لن يوقف نحسه ولن يكف عن الحداد زحل
هو يعانق أساطير الأولين وتمنيت إن يفقد أسطورته الأولى!
إلا تعلم بإن سومر تسبح في ضوضاء وان تموز لن يعود إلا بحياتي
إلا تكفي تلك القرابين وهي تطوف بأرواحها حول القباب كم من الضحايا تكفي لرجوع العراق.
من العالم السفلي وطرد كل الخنازير البرية.
من وارث هذا الالم؟
- يا حبيبتي صلبوا قامتي على الانحناء حتى قصيدتي قصدها الانحناء لانها ورثت كنزا من الفجيعة
: اسمع اعلم إن السيف منحني و لا يقصد الانحناء
- أنت لا تعلمين بان الشاعر يولد مرتين الثانية في القصيدة وان كلماتي تتحرش بالرصاص.
: الم تورق كلماتك صحراء الجرائد ؟ الم تكن الجرائد كثبان رملية فامطرتها الكلمات حرية وشهداء وسنابل من دماء؟
هل يكون النخل عراقيا إذا ولد في غير مكان؟
لماذا برؤياه تصيح عراق؟
لماذا النخل يعني العراق؟
- إن حنيني جسرا يمتد من فندقي هذا إلى حجرة أمي
: يا حبيبي لن تجد موقدا تعرج فيه لمحراب صفائك وستبقى تائه في مدن الضياع
ممزق الإرادة محنطا في الرماد.
استحلفك بطمع القادمين إن تبذر غربتك وتبيعها في سوق السلاح لتشتري أمانا لبضع ساعات حتى استقبلك عند كل الكتل الكونكريتية.
- لكنها اهون علي من ان اكون صحراء لا تحفظ الوجوه.
ولا اكترث بسراب يلهث خلفي
ولا اكترث بنهر روضني وروضه الاخرون
يفتق شراييني يمزقني ضفتين
كل ليلة ارى الفردوس لكني انهض مرعوبا
لاني رايت قدري معي
مغتربا في وطني و ان ارى
المنابر غارقة في الضحك
وصمتنا يولد دون صراخ
وان نمجد الكفر بايات الرب
كم تؤلمني غربة الروح
يتشظى قلبي كل انفجار
وصوت اليتامى مرتفعا ممتزجا
بكل احزان الارض
: حسنا لديك الاختيار بان تبقى معلقا باطراف الكلمات مصلوبا فيها بكل منفى دون اختزال لبقايا عمرك.
او ان نهذي معا
علنا نوقظ موقدنا
او ناتي منه مشاعل وحكايات نلقيها تمائم وقلائد في اعناق الاحفاد... عن الاقزام الذين اطلقوا سراح الليل وكيف زحف الاسمنت على العقول ولم يوقفهم سوى عمود النور الاخير.
حتى يشيخ الانتظار متكأ على صبرنا في اخر
تعويذة للبؤس
ونكون الغصن الوحيد الذي لم يتقوس
امام السيف وهو
يقسمنا الى فجيعتين ليلفظ
انفاسه الاخيرة
في احظان الموقد