[align=justify]لئن كانت الدراسة القرآنية بحاجة إلى كثير من الوقت وقسط كبير من الفراغ ومحاولة غير يسيرة للاندماج مع القرآن في أحد جوانبة المشرقة الكثيرة، فإنّ استمداد الدرس الإجتماعي لواقع حياتنا من القرآن الكريم عمل يسير لا يتطلب مزيداً من الجهد والانصهار قرآنياً عميقاً.
فإنّ دروس القرآن متناثرة في كل آيات القرآن الكريم تلقي أضواءً متنوعة في طريق الإنسانية إلى الحق والعدل والخير، وتكشف الستار عن أسرار النفس البشرية ونقاط ضعفها وقوتها وما تعتمل في أعماقها من عمليات الخير وعمليات الشر وما هو السبيل إلى تنمية تلك واستئصال هذه، فلماذا إذن لا احاول أن اكتفي بدرس من القرآن عن دراسة له، قلت هذا في نفسي وأنا أقرأ في سورة التوبة قوله تبارك وتعالى: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبّأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)[1].
فما تمالكت أن وقفت عند هذه الآية الكريمة وقطعت قراءتي لعلّي انطلق منها في الدرس القرآني الذي اعتزمته.
إنّ القرآن الكريم يقطع في هذه الآية الملتهبة العذر على المعتذرين، ولا يسمح للنبي بوصفه التعبير الأعلى عن الداعية للإسلام أن يستمع بعد رجوعه من إحدى معاركه الجهادية إلى اعتذار المعتذرين الذين تخلّفوا عن موكب الدعوة ونكصوا عندما دقّت الساعة وأزف الخطر مهما كان لون الإعتذار واُسلوبه.
عشت هذه الآية لحظة واستنشقت جوّها الروحي المرتفع وتجاوبت بكلّ كياني ومشاعري مع تصميمها الهائل على الإرتفاع بقضية الدعوة عن مستوى الاصغاء إلى نفاق المنافقين ودجل المثبطين وتقاعس المصلحين، وقلت: فليكن هذا هو درسنا من القرآن في هذه المرّة ولنتعلّم على يد القرآن ما هي تلك الاعذار التي يمليها الضعف البشري على المتخلفين عن موكب النور؟ وكيف نجابه تلك الأعذار؟ ونحن حين نستعرض الأعذار التي يكشف القرآن الستار عن زيفها ويفضح سرّ جذورها نجد أنّ الأعذار بالأمس هي الأعذار اليوم لا تختلف في جوهرها ومضمونها الروحي وميوعتها ودوافعها الأنانية، كما أنّ الدعوة اليوم كالدعوة بالأمس في محنتها بذوي الأعذار والمثبطين ومصيبتها بهم في كلا الحالين، فهي إن سجّلت نصراً في إحدى معاركها قال المثبطون إنا كنا معكم (ولئن جاء نصر من ربك ليقولنّ إنا كنا معكم أو ليس الله باعلم بما في صدور العالمين)[2].
وإن منيت بخسارة قال المثبطون: قد أنعم الله علينا إذ لم نكن معهم (وإن منكم لمن ليبطّئنّ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا)[3]. يعتذر المعتذرون بطول الطريق (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لا تّبعوك ولكن بعدت عليهم الشقّة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون)[4].
هذا العذر نفسه يردّده المثبطون والمتقاعسون اليوم ويصوغونه في إطار من الواقع المعاش. يقولون إنّ طريق الدعوة شائك وطويل لا أمل في اجتيازه بجهد محدود ولا ضمان للتغلب على صعابه وعقابه المنتشرة على طول الطريق، بل هو من الطول والامتداد ما لا يتيح للدّاعية وهو في مستهلّ الطريق أن يتبين معالمه إلى الأخير أو أن يمد ببصره إلى نهاية الطريق، فكيف نسلك طريقاً مظلم النهاية شائك الدَّرب أوسع إمتداداً من أبصارنا وقدرتنا على الاستيعاب.
الطريق طويل لأنّ ميوعة الاُمّة التي انحدرت إليها وغرابة المعطيات الإسلامية اليوم على أفكارها وعقولها التي تعوّدت الابتعاد عن الإسلام في واقع الحياة والاستعمار الغاشم الداهية الذي يقف للامّة بالمرصاد والحضارة الغربية بكل حماتها ودعاتها حواجز في الطريق لا يمكن للداعية تذويبها والتغلب عليها.
إنّ الطريق طويل والشقّة بعيدة، لو كان سفراً قاصداً، لو كان عرضاً قريباً، لو كان طريقاً قصيراً وغايات محدودة على مرمى البصر لكان للعمل مجال.
الطريق طويل، هذا ليس فيه شك غير أنه لا يعنى بالنسبة للدّاعية إلى الله وشرعه شيئاً؛ لأنّ المسلم لا يستهدف من دعوته مكسباً مادياً يواتيه في نهاية الطريق، وجائزة عاجلة يكلّل بها جهاده في لحظة النصر ليزهد في طريق طويل قد لا يصل إلى آخره ولا يسير فيه الا خطوات، وإنّما الهدف الحقيقي للمسلم من عمله في سبيل الله ثوابه تعالى (ورضوان من الله أكبر).
ولا أعرف هدفاً جهادياً يمكن ضمانه للمجاهدين وتأكيد فوزهم به كهذا الهدف بقطع النظر عن طول الطريق وقصره ومشقته ويسره واجتيازه وعدمه، فليست المسألة من وجهة نظر السماء إلاّ مسألة طاعة يحسن العبد فيها نيته لربه فيجازيه على ذلك سواء تمثلت الطاعة في الخطوة الأخيرة من الطريق أو في أيّ خطوة اُخرى من هذا الطريق الطويل الطويل (ذلك بأنهم لا يصيبه ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطأ يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍّ نيلاً إلاّ كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلاّ كتب لهم ليجزيهم أحسن ما كانوا يعملون)[5].
والطريق شائك لا شك في ذلك ومن قال أنه ليس بشائك؟ وهو طريق صنع الاُمّة من جديد وإعادتها إلى مركزها القرآني الذي انحرفت عنه؟ إنّه طريق بناء الإنسانية كلها وتصميمها في قوالب السماء، ولكن الشوك وإن أدمى الأيدي التي تحاول اقتلاعه إلاّ أنه يرضخ في النهاية للارادة القوية والتصميم الثابت.
إنّ الصعاب التي تواجه الدعوة الإسلامية واجهت كلّ دعوة إنقلابية في التاريخ فلو أنها كانت صعاباً قاهرة لجمد التاريخ، بل لقد واجهت الصعاب الدعوة الإسلامية في مطلعها، فلو أنّ أحداً كان يتنبأ لحظة اختفاء الرسول الأعظم(ص) في الغار والعيون منتشرة في الصحراء للتفتيش عنه والقضاء عليه، لو أنّ أحداً تنبأ في هذه اللحظة بأنّ هذا الطريد الشريد الوحيد سوف يصل في طريقه إلى عواصم القياصرة والأكاسرة ويغزو العالم المتحضر كلّه ويحدث أعظم انقلاب عرفه التاريخ لقال المثبّطون عن هذا التنبّؤ إنّه مجنون. وما هو بمجنون، أي والله ليس بمجنون إن هو إلاّ ذكر للعالمين ولتعلمنّ نبأه بعد حين.
[1] التوبة: 94. [2] العنكبوت: 10. [3] النساء: 72. [4] التوبة: 42. [5] التوبة: 120 و121 [/align]