لا أدري لماذا تذكرني هذه الشخصية بحارث ضاري ومطلك ومشعان جبوري وغيرهم، ورغم تزويق صحيفة بزاز له، إلا نه يبقى كما أظن شخصية نمطية على مستوى النشأة والوظيفة والعائلة، تتسم بالشذوذ وإنعدام المبادئ!

يونس بحري قرّبه الرؤساء وأحبه الناس واقترن اسمه بهتلر - شخصية خلافية تنوعت مواهبها في الاذاعة والصحافة والتأليف - سمير عبد الله الصائغ

يونس بحري.. الخيال.. وظل الحقيقة! يونس بحري.. ربما سمعنا عنه جميعاً.. لكننا عرفنا عنه النزر اليسير والمتفرق. نعرف انه عمل في إذاعة برلين واخرج منها بقرار من الحاج أمين الحسيني بعد ان كان العامل الرئيسي في نجاحها واستحوذ علي آذان المستمعين العرب في كل مكان وقد قرر الحسيني إخراجه لانه لم يكن يلتزم بنصوص البيانات والتعليقات التي كان يعدها المكتب العربي في القدس فقد كان ينفعل ويضيف عبارات قاسية غير مكتوبة في النص وكان يخص الوصي عبد الإله بالقسم الأكبر من شتائمه وكذلك نوري السعيد والملك عبد الله في الأردن.

هو من أبناء مدينة الموصل.. متي ولد وكيف نشأ.. وسار في دروب الحياة واختط فيها نهجاً متفرداً وزار الأصقاع والأمصار.. ثم عاد إلي مسقط رأسه ليقضي ما تبقي من عمره في بيت أحد أقربائه الصحفي (نزار محمد زكي الجبوري) الذي عمل في وكالة الأبناء العراقية لفترة من الزمان.. وقد مات البحري في بغداد ودفنته البلدية في مقبرة الغزالي في آذار (مارس) من عام 1979.. وكان الزميل الجبوري في حينه مراسلاً لوكالة الأبناء العراقية في بيروت. وقد أجاب الصحفي نزار الجبوري عن الأسئلة المختصة بحياة البحري موضحاً بأسلوب جميل ومتسلسل حسب التعاقب التاريخي للأحداث. وهذا هو نص الحوار.

من هو يونس بحري؟ ولماذا سمي بهذا الاسم؟ ولماذا ذاع صيته؟

ــ هو يونس صالح خلف الجبوري ولد ونشأ في محلة الخضر في الموصل وهو من عشائر الجبور التي استقرت في ضواحي مدينة الموصل منذ حوالي الخمسة قرون وتسمي عشيرته الجوابنة ويعود أصلها الي قحطان. كان والده صالح أغا الجبوري يوزباشي في الجيش العثماني يقوم بتأمين البريد بين إسطنبول مركز الدولة العثمانية وولاية الموصل. له أخوان صادق أفندي الجبوري والذي توفي عام 1947 وكان قائمقاماً لعدة أقضيه في وسط وشمال العراق ومنها دلي عباس وشرانش والعاصي وكان يونس يزوره في هذه المناطق زيارات طويلة وتعلم خلالها العديد من اللغات المحلية كما سيأتي ذكره لاحقاً، والأخ الثالث طه الجبوري وكان مُعقباً في محاكم الموصل.

ويونس بحري طويل القامة أشقر عيونه زرقاء وصوته عالي النبرة، درس في مدارس الموصل وأمتهن الصحافة في وقت مبكر واصدر أول كتبه (العراق اليوم) عام 1924 المحفوظ في مكتبة الأوقاف في الموصل وكان محرراً رئيسياً في صحيفة (العقاب) وهي سياسية أدبية. دخل معترك السياسة كمعلق صحفي وإذاعي في بداية الثلاثينات قبل وبعد تتويج الملك غازي الأول ملكاً علي العراق حيث كان أحد أصدقائه المقربين لعدة أسباب منها ميول الملك غازي السياسية تنسجم مع تلك التي للصحفي الموصلي يونس وتتمثلان بمعاداتهما للسياسة البريطانية وانحيازهما الي حكومة (الرايخ الثالث) أي حكومة (هتلر).

وكان يونس بحري أول مذيع قدم الملك غازي من إذاعة قصر الزهور التي أهداها بدوره إلي الملك غازي.

وقصة هذه الإذاعة أن الملك غازي كان مصوناً غير مسؤول ولا يمكن للمندوب السامي التدخل في شؤونه الخاصة كما لم يكن له سلطة رسمية علي القصر الملكي باعتباره مندوباً سامياً والعراق تحت الوصاية البريطانية وعن هذا السبيل استطاع يونس بحري بصوته أن يعبر عن أراء الملك عبر هذه الإذاعة، أو استطاع الملك غازي أن يعبر عن آرائه من خلال هذه الإذاعة وبصوت يونس بحري. وعند اغتيال الملك غازي كتب يونس قصة مقتله في إحدي الصحف وقام بنفسه بتوزيع نسخ الصحيفة علي دراجة نارية موضحاً أن عبد الإله ونوري السعيد قد تأمرا مع الإنكليز واغتالوه وكما هو معروف.

وإذ ذاك أدرك خطورة وجوده في العراق فأتفق مع القنصل الألماني في بغداد الدكتور كروبا علي الهرب خارج العراق.. فوصلت الي بغداد طائرة ألمانية تحمل وفداً صحافياً وعند هبوط الطائرة صعد إليها يونس باعتباره صحافياً لمقابلة الوفد فعادت الي التحليق متجهة إلي ألمانيا.وهناك أصبح أحد أقرب المقربين للقيادة النازية وبالذات لكوبلز وزير الأعلام ومنح رتبة عسكرية ألمانية بدرجة ماريشال وكان يحمل علي كتفه الصليب المعقوف في الحفلات الرسمية التي يحضرها وأسس الإذاعة العربية في برلين بإعلانها ذائع الصيت (هنا برلين حي العرب) وخصصت هذه الإذاعة تعليقاتها الرئيسية لمهاجمة الحلفاء وتوعية الجماهير العربية للخطر الاستعماري المحدق بهم كأمة.

تزوج يونس لأول مرة من امرأة موصلية أسمها مديحة من منطقة متفرعــة من شارع النجفي الحالي وأنجب منها أبنين وبنت البكر.. هو الدكتور لؤي بحري وهو أستاذ يدرس حالياً في جامعة الجزائر للعلوم السياسية، والثاني الدكتور سعدي يونس الفنان الأكاديمي المتخصص في الفنون المسرحية (المسرح الشعبي) ويحمل ميولاً يسارية متطرفة ويرأس حالياً في جامعة السوربون في فرنسا ودعي أخر مرة الي مهرجان بابل حيث قدم مسرحية مثلها لوحده وهي (المجنون). والبنت هي الدكتورة مني بحري الأستاذة المتقاعدة حالياً من جامعة بغداد والمتخصصة بعلم النفس. وهو يتقن ستة عشر لغة عالمية أساسية قراءة وكتابة عدا اللغات واللهجات المحلية العراقية فيتقن مثلاً علي المستوي العالمي اللغة السواحيلية، وقد وصل عدد زوجاته إلي أكثر من الربعين وكان يقول لقد بدأت بشهريار الإيرانية وانتهيت بشهرزاد السورية ولا أدري ان كان قد تزوج شهريار قبل زوجته الموصلية مديحة أم بعدها.

(وقد كان رجلاً عجائبياً حقاً). ففي فترة من حياته في الهند كان يعمل كراهب في النهار وراقص في ملهي بالليل ويجد مع ذلك وقتاً ليقوم بعمل إضافي مراسل لإحدي الصحف الهندية، وفي وقت آخر أصبح مفتي في أندونسيا ومرة جاءه أحد سكان الجزيرة المعروفين مُصطحباً معه فتاة في منتهي الجمال يريد منه ان يعقد قرانه عليها..(فأستحيفها) يونس لأن الرجل كان مُسناً ودميماً وافهمه انه لا يجوز شرعاً عقد قرانه عليها، فصدقه الرجل لانه (مفتي) وترك الفتاة فتزوجها المفتي.

وقد سُمي بالبحري لأنه وصل في إحدي جولاته كسائح في منتصف الثلاثينات (طاف العالم أربع مرات) الي الساحل الذي ينطلق منه سباحو العالم لعبور بحر المانش، فتقدم يونس باسمه وبعلم بلاده العراق لدخول المسابقة قبل ساعات معدودة من بدئها دون تحضير سابق أو تدريب. فعبر البحر محرزاً قصبة السبق وفائزاً بالمركز الأول مسجلاً سابقة لا مثيل لها فأطلق عليه تسمية يونس البحري ومنح جواز سفر دبلوماسي ألماني بهذا الاسم ولأول مرة.

هل ضاع حقه في خضم السفر والغربة والوحدة؟

ــ وقد ضاع حقه فعلاً حيث قبل ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 مباشرة وصل إلي العراق فأرسل في طلبه نوري السعيد وكان هناك خلاف بين السعيد وعبد الناصر فطلب إليه نوري السعيد أن يذيع مقالاته ضد عبد الناصر.. ففعل.. فأعتُبر بعد الثورة كأحد أنصار نوري السعيد في حين انه حارب الاستعمار والسياسة البريطانية والوجود الأجنبي في العراق سنين طويلة، وأعتقل بعد الثورة لفترة تقارب السبعة أشهر وأطلق سراحه دون محاكمة لعدم كفاية الأدلة وعدم وجود قضية أصلاً وذلك بعد مقابلة حامية مع عبد الكريم قاسم..

وقد تعرف أثناء إعتقاله إلي رئيس عرفاء في السجن فقال له مرة: لماذا لا تقوم بانقلاب وتستولي علي السلطة؟ فأجاب: كيف وأنا رئيس عرفاء؟ فقال: وكيف استطاع رئيس عرفاء في دولة أفريقية القيام بثورة.. وحين سمع عبد الكريم قاسم هذه المحادثة أرسل في طلبه وقال له: أتريد أن تفسد عليّ جنودي؟ وبعد إطلاق سراحه أفتتح مطعماً في منطقة الكرادة ببغداد وأخذ يرتاده كبار الشخصيات السياسية والفكرية والسفراء فكان أشبه بمنتدي وكان يونس يقوم بطبخ الأكلات المختلفة التي تعلمها أثناء سفراته.. ولم تجد أجهزة أمن عبد الكريم قاسم هذه المسألة فسمحوا له بالسفر بعد أن أخذ عبد الكريم قاسم منه وعداً بعدم مهاجمة نظامه بعد مغادرته الأراضي العراقية. وقد تم تخصيص راتب له بعد سفره إلي لبنان قدره مائة دينار يستلمه من السفارة العراقية في بيروت ولكنه لم يتوقف عن نشاطه فأصدر كتابه الذي يشرح فيه وضعه في موقف أبي غريب والموقف العام في باب المعظم (سبعة أشهر في سجون قاسم).

لقد عمل فترة في الصحافة. فهل له مقالات ومنشورات وهل تتوفر نسخها؟

ــ أصدر حوالي ستة عشر كتاباً منها (العراق اليوم)، (الحرب العراقية البريطانية) وسلسلة (هنا برلين حي العرب) حوالي عشرة أجزاء و (سبعة أشهر في سجون قاسم).. ومن الصحف التي أصدرها كان صاحب ورئيس تحرير صحيفة (العرب) الصادرة في باريس أواخر الخمسينات باللغة العربية كما أصدر صحيفة (أبو ظبي نيوز) باللغة الإنكليزية في (أبو ظبي) واصدر مجلة (العراق والكويت) في اندونيسيا في منتصف الثلاثينات.. وربما توجد نسخ لكل أو لبعض هذه المنشورات وكتبه موجودة في مكتبة الأستاذ محمد صديق الجليلي.

لابد انه كان يتحسر علي كثير من الأشياء قبل وفاته.. مثل بعد الأهل والأقرباء عنه.. وأمور أخري أليس كذلك؟

ــ كان من أبرز صعاليك العرب في هذا القرن.. وكان يتنقل حاملاً في حقيبته الدبلوماسية أربعة أشياء جواز سفر، قنينة عرق، فرشاة أسنان وأدوات الحلاقة. وقد شارك في التظاهرة التي تدلل علي وطنية حقه والتي تحولت الي هجوم علي القنصلية البريطانية قرب منطقة المحطة في مدينة الموصل حيث قُتل القنصل البريطاني.

وكان من أبرز أصدقائه محمد صديق الجلبلي الذي كان يدعوه دائماً لمجالسته وكذلك عبد الجواد الطوبجي وعبد الوهاب الخياط وكان الأدباء في السنوات الأخيرة يدعونه ويجالسونه في الموصل مثل القاص الدكتور نجمان ياسين والقاص محمد عطاء الله والشاعر سالم الخباز.. لم يكن يتحسر علي شيء لانه عاش حياته بكل تفاصيلها.. من الرهينة والتعبد والتصوف إلي الرقص واللهو والسكر بالإضافة الي السياحة والرياضة والصحافة والإذاعة والتنقل بين الزوجات كما لو كانت بلداناً يطوف بها، وكان الحصول علي المال من أيسر الأشياء بالنسبة له.

ومع هذا مات وحيداً مفلساً في دار أحد معارفه في الباب الشرقي في بغداد وكنت وقتها في بيروت مراسلاً لوكالة الأنباء العراقية وقد علمت بالوفاة عن خبر أوردته وكالة رويتر للأنباء وأوردته كذلك الأنباء الفرنسية ونشر الخبر في الصفحة الأولي لجريدة (النهار) اللبنانية.
وكان والد غسان تويني مؤسس جريدة النهار صديقاً حميماً له وهو الذي عرفه باللبنانية سميرة أيوب وزوجه إياها والتي توفيت في حادثة سيارة قبل ثورة 14 تموز (يوليو) بفترة قصيرة جداً

وكانت تزوره في السجن برفقتي حيث إعتادت أن تحضر له ليرات ذهبية حيث كنت أصرفها بثلاثة دنانير إلا ربعاً وأعتاد أن يطلب مني حين كان في الموقف كلوس (تكة) سكاير (نوع كامل) camel: وحليب قواطي غير مُحلي ومن النوادر التي حدثت له في الموقف العام إنه وتوفيق السويدي كانـا في قاعة واحدة وكان كلاهما يُكني (بأبي لؤي) وفي يوم جاء ضابط السجن صائحاً: من (أبو لؤي).. فخاف السويدي لانه توقع أن يكون وراءه شراً ولم يجب.. واجابه يونس بحري وكانت المفاجأة أن الضابط أحضر مظروفاً يحوي مائة دينار فوقع بحري واستلمها.. وبعد أيام جاءت رسالة إلي توفيق السويدي تقول: هل استلمت المائة دينار؟.. (ومن طريف حديثه قبل وفاته بفترة قصيرة أن جاءه أحد الزوار وكان يتحدث بشكل بطولي عن مقدرته حيث خدع أحد أفراد شرطة الحدود وهرب بعض المواد حين دخوله العراق من الحدود التركية.. وبعد مغادرة هذا الرجل قال بحري: ضحكنا علي ذقون ملوك ورؤساء سنين طويلة وهذا يتفاخر بأنه خدع شرطياً..!)

ولم يكن خائفاً من السجن لانه لم يكن خائناً وقد سبق أن حُكم ثلاث مرات بالإعدام خارج الوطن وداخله حيث أصدر نوري السعيد حكم الإعدام بحقه غيابياً.. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية حكمه الحلفاء أيضا.. وحُكم مرة في أفريقيا أثناء الحرب أيضاً حيث أرسل مبعوثاً عن الحكومة الفرنسية لمفاوضة إحدي القبائل الحاكمة وحين رأوا أسمه علي الجواز (JOHANS BAHRI) تصوروه عميلاً فرنسياً وحكموه بالإعدام.. وحين سأله الضابط المسؤول عن رغبته قبل ان ينفذ فيه الحكم في اليوم التالي طلب قنينة ويسكي.. فقال له: كيف تطلب مشروباً وتستسيغ شربه وأنت مقبل علي موت محتم؟ فأجابه أنا مجنون حيث جئت هنا.. فلماذا لا أطلب المشروب؟ فضحك الضابط وجلب ماطلبه وفي الهزيع الأخير من الليل جاءه لا ليقتاده إلي ساحة الإعدام بل ليهربه.

لماذا أختارك أنت بالذات لتكون ملاذه الأخير.. أو ربما أنت اخترت ذلك؟

ــ اختارني لأن علاقته بأولاده كانت واهية لانه تركهم صغاراً قربتهم جدتهم لأمهم (مريم خانم) والتي كانت تملك في الثلاثينيات في مدينة الموصل مدرسة لتعليم الخياطة. وقد لحقت به (أي بيونس) أمهم (مديحة) إلي باريس وصارت تمتلك صالون حلاقة هناك.
أما أنا فكنت قريباً منه لأسباب عدة أولها أني أعمل في السياسة والصحافة مثله واكبته فترة طويلة وكنت وقتها أعزباً ومستقلاً في شقة في مدينة الموصل.. وأمتلك روحاً منطلقة مشابهة لروح ونفس يونس بحري.. أي كنا نعيش بدون تحفظات أو تزمت من أي نوع.. حيث التقت روحانا المتفتحان العصريتان رغم فارق العمر والتجربة ومسار الحياة.