--------------------------------------------------------------------------------
بيعة الغدير و(إعدام) آخر الخلفاء - الدكتور طالب الرمَّاحي

(صوت العراق) - 10-01-2007
ارسل هذا الموضوع لصديق

يحدثنا التاريخ أن النبي ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) وهو راجع من حجة الوداع اختار للحجيج مكانا يسمى ( غدير خم ) ليلقي عليهم آخر بيان آمر به أن يلقى قبل أن يتفرق الجمع كل الى بلده عند مفترق في الجحفة بعد الغدير بمسافة قريبة : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) المائدة 67 . لقد أختار الرسول ذلك الغدير لخاصية فيه لم تكن موجودة في غيره وهو أن الصوت فيه ذات رجع يصل الى مسافة بعيدة حتى يضمن أن الجميع قد سمع صوته وأدرك تبليغه وقد كان عدد الحاضرين يربو على الـ 120 ألف صحابي. ولمَّا استوى النبي على ظهر الناقة تحت ظل شجرة باسقة قال بأعلى صوته للجموع الغفيرة : أيها الناس ألستم تعلمون أنى أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: بلى ، قال: من كنت مولاه فعلى مولاه . ولما رأي المسلمون ذلك التنصيب الإلهي لعلي عليه السلام تدافعوا يباركون له هذا المقام الألهي الرفيع وسبقهم في ذلك أبو بكر وعمر وهم يرددون : بخ بخ لك ياعلي لقد أصبحت مولانا ومولى المسلمين .

هذه الهبة السماوية قبل أن تكون لعلي هي رحمة للمسلمين فهو شخصية لايماثلها في الشجاعة والأخلاق والعلم والإيمان بين المسلمين أحد غير رسول الله ، وكل هذه الخصال التي تمييز بها صهر رسول الله وابن عمه وحامل سره اعترف بها محبوه ومبغضوه فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك فرصة إلا وأكد هذه المعاني في وجدان الأمة كي تتقبله زعيما لها بعد رحيله فكان يقول دائما : علي أقضاكم – أنا مدينة العلم وعلي بابها – علي مني بمنزلة هارون من موسى – وفي فتح خيبر : لأعطين الراية غدا لشخص يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله – وكان ذلك الشخص هو علي وقد فتح به الله خيبر بعد أن فشل كبار الصحابة ، ولو أردنا أن نستنطق التاريخ لوجدنا من أقوال النبي في هذه المعاني ما لا يمكن حصيه . والتي رسمت بمجملها لعلي بن أبي طالب صورة ملونة ناصعة واضحة كشمس الضحى ، ذلك البريق الذي أخرجه المنطق النبوي بأمر إلهي كان يراد منه هزيمة الظلام الذي كان يتراكم في قلوب البعض من المسلمين والذين كانوا يتربصون برسالة السماء ، ذلك التربص لم يك خافيا عن النبي ولذا فقد أمر الصحابة في أن يخرجوا جميعاً مع أسامة بن زيد قبيل وفاته ، حتى لا تتسنى لهم فرصة التآمر بعد رحيله ، ولم يكن الله غافلاً عما يسترون فأنزل - جل وعلا - تحذيرا شديد اللهجة عندما أنزل : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.

ماذا حصل بعد بيعة الغدير بـ 70 يوما عندما حضرت وفاة رسول الله ؟ عصوا أمره وتخلفوا عن الخروج مع جيش أسامة ، مع أنه عليه الصلاة والسلام طلب منهم ذلك مرارا حتى قال : ملعون من تخلف عن جيش أسامة . لقد كانوا ينتظرون رحيل النبي لينفذوا ( الإنقلاب ) الذي أنذر وحذر منه القرآن .

وفيما كان علي عليه السلام وجميع بني هاشم منشغلين بتزهيب جثمان الرسول ودفنه ، اسرع الرجال الى سقيفة بني ساعده لينفذوا ذلك ( الإنقلاب ) وينصبوا أحدهم خليفة لرسول الله بعد طول جدال وتدافع ولف وتحايل ودوران. لقد جعلوا الإرادة الإلهية وراء ظهورهم ، وفضلوا رغبة الناس على رغبته ، وما كان الله ليختار عليا لأنه علي ، لكنه اعده قبل أن يختاره لمثل هذا المنصب الخطير الذي يتحكم بوجود ومستقبل أمة فتية ودين هو خاتم الأديان والرسالات ، الله الذي خلقنا يدرك أكثر منا طبيعتنا والنوازع التي تتحكم بنا ، ومن أجل أن لا يكون الحاكم عبد لنوازعه فتضيع الأمة عندما تستهتر تلك النوازع بمصائر الناس ، لقد اختار لنا علياً الذي قال فيه أشد الناس عليه عمر بن الخطاب : والله لو وليها ابن ابي طالب لحملكم على المحجة البيضاء . وما المحجة البيضاء ؟ إلا الإستقامة بأنصع وجوهها والتقوى بأكمل أشكالها والقدرة النافذة على هوى النفس .

لم يك عليُ من أهل الدنيا وهو القائل : والله أن دنياكم لاتساوي عندي عفطة عنز ، ولقد رأينا كيف يعيش جشابة العيش وبساطة الملبس والمأكل وهو خليفة ، وما كان تواقا للسلطة وهو القائل لقنبر : إن إمرتكم لاتساوي شسع نعلي هذا .

لم يك أبو الحسن مسلما وحسب وأنما كان مثالاً متكاملاً لكل المباديء السماوية التي نزل بها القرآن وأوصى بها النبي .. لهذه الأسباب كرهوه ولهذه الخصال أبعدوه ، لقد خافوه على دنياهم كما كان يخافهم على آخرته ولذلك فقد كان البون شاسعا بينهم وبينه .

لقد عزلوه وماكان هدفهم أن يعزلوه جسداً ، أنما هو عزل للقيم التي أراد الله لها أن تحكم الناس وتمهد لنشر العقيدة في بلاد الله الواسعة ، لقد فضلوا أن يسير الإسلام أعرجا أعمشاً معهم على أن يسير سالما معافى مع علي ، وليتهم ارتضوا بذلك لقد بقوا يلاحقوا عليا المباديء والقيم بعد أن تولى الخلافة باختيار الأمة وإصرارها ، فألبوا عليه الناس ، وخرجت عليه صاحبة الناقة بعد أن اغراها ( طلحة والزبير) وقد نكثا البيعة . وما إن عقرت الناقة وهوى شيطانها وتشتت جمعها حتى استشاطت أبالسة الشام يقودها بن هند آكلة الأكباد ، فكانت ( صفين ) بني أمية لتكون امتدادا لفتنة ( الجمل ) وليمسك معاوية وثعلب الصحابة عمر بن العاص خيوط الفتنة قبل أن يسقط زمام ( الإسلام ) بثقله في يد بني أمية وتبدأ مسيرة الإنحراف الكبرى .

لقد ضاعت بيعة الغدير بضياع علي وضاع الإسلام بضياع بيعة الغدير ، وتاه العرب بعدها في تيه أشبه ما يكون بتيه بني إسرائيل ، بل هو أشد وقعا على حاضرهم ومستقبلهم ولعل أكبر مظاهر هذا التيه هو فقدانهم لبوصلة الحق مما جعلهم يتخبطون في مواقفهم الى درجة تثير السخرية وتدفع بهم نحو المهالك.

لقد أفرزت الأحداث التي أعقبت وفاة الرسول (ص ) مدرستين ، مدرسة الخلفاء أو السقيفة ، ومدرسة علي أو بيعة الغدير ، وإذا كانت المدرسة الأولى استسلمت لإملاءات بني أمية ومن بعدهم لبني العباس وتبلورت تبعا لذلك مناهجُ على مقاس مطامع خلفائهما فإن تلك المدرسة عمقت شيئا فشيئا تلك المناهج التي ابتعدت في مكوناتها عما جاءت بها العقيدة وأوصت بها السنة النبوية وبقيت تسير في سياق واحد من الرضوخ للواقع الجديد الذي فرضته مدرسة السقيفة والذي تميز بكثير من مظاهر الإنحراف السياسي والإجتماعي والبدع الدينية. أما مدرسة علي عليه السلام أو بيعة الغدير فقد بقيت متمسكة بمبادئها الأولى التي استقتها من المعلم الأول وحملها علي بين جنبية فكرا وممارسة وتحدي ، وقد ترجم الإمام الحسين عليه السلام ذلك التحدي والإصرار على ضرورة العودة بالأمة المتمردة على تعاليم السماء الى أصل الشريعة المحمدية ، فكانت معركة الطف التي رسمت منهجا رافضا لكل الإنحرافات السياسية والإجتماعية التي افرزتها مدرسة السقيفة ، وكانت ثورة الحسين وما زالت مصدر إلهام للثوار والمجددين وحملة العقيدة من الأحرار ، وسارت قوافل شهداء العلويين وأتباع أهل البيت من المسلمين الشيعة موازية لمسير تاريخنا الإسلامي الدامي ابتداءا من السقيفة وانتهاءاً بسقوط آخر خلفاء مدرستها ( صدام ) في 9 نيسان 2003 .

لقد كان للشيطان دور فاعل فيما حصل ، وكان يدفع بأوليائه لينجزوا له مهامه في فساد الأمة وإبعادها عن بناء دولة الإيمان ، أوليس هو القائل : ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلََصِينَ ) ؟ لقد تمكن الشيطان من ذلك بعد رحيل خاتم النبيين ، ولم يبق من أصحاب محمد إلا ( المخلَصين ) الذين أراد الله أن يحفظ بهم سلامة الخط ولو بعد حين ، فتعرضت الأمة لإمتحان إلهي كما فتنت الأمم من قبل ( ولقد فتنا الذين من قبلكم ) ، لقد فشلت الأمة بذلك الإمتحان فشلاً خطيرا أدار دفتها نحو بحار من الفتنة والضياع حتى وصلت الى ما هي عليه النكوص والتردي.

لقد جاءت أم كلثوم بنت علي عليه السلام لأبيها وهو خليفة في الكوفة وسألته : يا أبته ، أصحيح أننا سوف نسبى ونمر من هنا الى الشام ؟ فقال عليه السلام : نعم سيكون ذلك يابنتي . وأوصاها بالصبر ، ثم قال : وعند ذلك يفرح الشيطان ويقول لأزلامه : لقد هيمنا على العالم إلآ هذه ( العصابة المؤمنة) ، فعليكم بها تفريقاً وشرذمة . وكان الشيطان يقصد بالعصابة المؤمنة بقية أهل البيت وأتباعهم ومحبيهم .

-------------

مركز العراق الجديد للإعلام والدراسات في بريطانيا

10/01/2007