النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي العالميه الإسلاميه في فكر السيد محمد باقر الصدر

    عبدالكريم آل نجف



    العالميه معلم أصيل من معالم الرساله الإسلاميه التي هي كسائر الأيديولوجيات كل لا يقبل التجزئه، فإما أن تؤخذ بكل معالمها و سماتها و إما أن ترفض. و كما أن النتائج تتوقف علي توفر كل الأسباب الدخيله و ارتفاع كافه الموانع المؤثره، كذلك الواقع الإنساني لا يمكن أن يوصف بالإسلام ما لم تكن الرساله بتمامها متجسده فيه؛ و العالميه من تمامها.





    و الحديث عن عالميه الإسلام حديث واسع متشعب، قد يطرق من زوايا متعدده، فتاره، يطرق من زاويه أهميه الأفق العالمي في الرساله الإسلاميه، و مدي حاجه الإنسانيه إليه في حل الأزمات الاجتماعيه و السياسيه و الدوليه. و يكفي لاستكشاف هذه الأهميه أن نشير إلي حقيقه هامه يشترك في الاعتقاد بها الفكر الديني و الوضعي معاً، و هي أن المجتمع البشري بداً عالمياً في فجر التاريخ توحده الفطره و البساطه، و سيعود في خاتمه المطاف عالمياً في نظامه السياسي و الاجتماعي و في بنيته العقائديه. فقد آمن الإسلام بأن البشريه كانت في‌ أول أمرها أمه واحده تسودها الفطره (كان الناس أمه واحده فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)1.


    فهذه الآيه صريحه في أن البشريه كانت في أول أمرها أمه واحده متأخيه منسجمه ثم ظهر فيها الاختلاف و التشتت، و هنا جاءت السماء لتلعب دوراً مباشراً في إرجاع البشريه إلي سابق عهدها بالتآخي و العالميه (فبعث الله النبيين … و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) و أستمر هذا الدور متواصلاً علي مدي 124 الف نبوه ضمن خمس رسالات أساسيه هي رسالات أولي العزم (ع) آخرها الرساله المحديه الخاتمه التي ختم الله بها أمر البشريه و التي لابد لها من يوم في خاتمه التاريخ تظهر فيه علي سائر الأديان و تحقق انتصاراً ساحقاً و سياده تامه عبر دوله عالميه هي دوله الإمام المهدي (عج)، فتكون هذه الدوله محققه للهدف المركزي لخط النبوات الذي عبرت عنه الآيه بقولها: (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه). فإن دور الأنبياء و الكتب السماويه في رفع الاختلافات و الصراعات البشريه، سوف يظهر بصوره تامه متكامله في ذلك اليوم؛ لأن الوحده البشريه سوف تبلغ ذروتها آنذاك.


    و قد ساند المفكرون الغربيون الشق الأول من هذه النظريه؛ حيث آمنوا بأن المجتمع كان بدائياً شيوعياً، و علي أساس هذه الفكره آمن ماركس، بأن الشيوعيه البدائيه هي المرحله الأولي في الماديه التاريخيه، أو أن المرحله الأخيره في مسيره التاريخ لابد من أن تتمثل في العوده إلي هذه الشيوعيه، و هذا يعني أن الماركسيه، قد وافقت علي جوهر الشق الثاني المتعلق بالمستقبل من هذه النظريه القرآنيه. كما آمنت المسيحيه من قبل بأن التاريخ سيختم بظهور ملكوت الله في الأرض علي يد المسيح المنقذ.


    كما نادي و ينادي العديد من أقطاب الفكر و السياسيه في الحياه المعاصره بنبذ العنصريه و العوده إلي التآخي الإنساني و القيم العالميه بدلاً عن القيم القوميه. و هكذا فإن اتفاق العقائد الدينيه و النظريات الوضعيه علي عالميه المجتمعين الأول و الأخير في التاريخ يقدم دليلاً حاسماً علي أصاله العالميه و عمقها في الحياه الإنسانيه. و بالتالي، مدي أهميتها و خطوره الانحراف عنها.


    و يطرق هذا البحث مره أخري من زاويه ما تلقيه عالميه الإسلام من وظائف و التزامات علي عاتق المسلمين تأتي في مقدمتها وظيفه نشر الإسلام في إرجاء المعموره و الدعوه إليه في صفوف المجتمعات غير المسلمه تجسيداً لخصوصيه الشهاده التي جعلها الإسلام في المسلمين.


    و قد يطرق مره ثالثه من زاويه الاستحقاق، استحقاق الإسلام للمكانه العالميه و اعتلاء السده البشريه علي النحو الدائم المتواصل، و استحقاق المسلمين للزعامه الإنسانيه.


    و لاشك في أن مهمه من هذا النوع تحتاج إلي جهود متظافره و متنوعه، و مستوي رفيع من الشعور بالمسؤوليه، غير أن هناك نوعاً من الجهود و الأنشطه يمكنها أن تلخص كل هذه الجهات معاً. تستجيب لكل هذه الجوانب في وقت واحد كالمبادره إلي طرح رموز المسلمين، و قياداتهم الفكريه و السياسيه من الطراز الأول كرموز و قيادات ذات مكانه عالميه. فلو أن الكتاب و الفنانيين المسلمين وفقوا في أعمالهم الفكريه و الفنيه في طرح شخصيه الرسول الأعظم (ع) كشخصيه إنسانيه عالميه لا تداني في سمو، و لاتخاذي في رفعه من خلال بيانات فكريه موثقه و مبرهنه و علي أساس منهج المقارنه المنصفه مع الشخصيات الأخري التي قد يدعي أنها تنافس الرسول (ص) في ذلك، و ترافق مع ذلك حركه إعلاميه و تبليغيه مناسبه لا تضح للعالم أن الرسول الأعظم (ص) هو أعلي رمز إنساني علي صعيد الإصلاح و التغيير الاجتماعي.


    و هكذا الأمر بالنسبه لأمير المؤمنين (ع) الذي هو أعلي رمز إنساني في العداله الاجتماعيه، و الإمام الحسين (ع) الذي هو أعلي رمز ثوري في التاريخ البشري، حتي نصل إلي الأمام المهدي (ع) الذي تؤكد النصوص الإسلاميه أنه سيكون خلاصه القيم الإنسانيه و منتهي القمم في العداله، و التغيير، و الإصلاح.


    و بإمكان هذا الاتجاه أن يتواصل و يتخذ من بعض أعلام المسلمين البارزين محطات، ما يؤكد قابليه المسلمين لممارسه دور الشهاده بالنسبه إلي البشريه، و بخاصه الحلقات المعاصره من هؤلاء الأعلام.


    و ليس من شك في أن السيد الشهيد الصدر (رض) يتقدم إلي الطليعه من هذه الحلقات، و هو الحلقه المشعه التي لو أتيح لشعاعها أن يمتد و يأخذ ما يستطيعه من المدي لنفذ إلي قلوب أحرار العالم، و مفكريه، و مستصعفيه أينما كانوا، إلا أن قله الاهتمام و قصور المنهج هو الذي أقعد هذا الشعاع عن الوصول إلي مرماه الأخير.





    ما نعنيه بالأفق العالمي
    العالميه مصطلح قابل للاستعمال في ثلاثه معان:


    1. ذيوع الصيت و انتشاره.


    2. الاهتمام بأمر البشريه و ما يمثل قضيه إنسانيه عامه و مصيريه.

    3. احترام دور العناصر الإنسانيه الأصيله في حركه الفرد و المجتمع و التاريخ و عدم تغليب العناصر المحليه كاللون، و الجنس، و القوميه عليها. فالنظره الأيديولوجيه المرتكزه علي هذا المحور تسمي نظره عالميه، بينما تسمي النظره الأخري المرتكزه علي تغليب دور العامل القومي و الوطني و العرقي بالنظره المتعصبه.


    و نحن نقصد في دراستنا هذه المعني الثالث، و نحاول استقصاء ما قدمه السيد الشهيد من معالجات و آراء و نظريات في هذا المضمار، و إن كانت المعاني الثلاثه تنطبق عليه، فهو مفكر عالمي بمعني ما يستحقه من المكانه و ذيوع الصيت و انتشاره، كما أنه مفكر عالمي بمعني ما قدمه من اهتمام بأمر البشريه و حل معضلاتها الاجتماعيه، و أطرواحات تتبني العناصر الإنسانيه الأصليه و تستبعد دور العناصر المحليه في حركه الفرد. و المجتمع، و التاريخ. و ذلك أن المعني الثالث يشتمل علي جدليات تنطوي علي درجه كبيره من الأهميه و الغموض، و من الممكن أن تؤدئ إلي منزلقات و أخطار كبيره. و من الطبيعي أن يفرع المعنيون بمثلها من ذوات البأس إلي السيد الشهيد الصدر بوصفه قمه الفكر الإسلامي الأصيل في عصرنا، محاولين استلهام الحلول و المعالجات من مدرسته الرائده.





    الأبعاد العالميه في مدرسه الشهيد الصدر
    إذا ما حاول الباحث استقصاء الفكره العالميه و معالجات السيد الشهيد الصدر لها في مدرسته الفكريه و ما خلفه من آثار و مؤلفات، فسيجد نفسه أمام عدد كبير من الآراء و الأفكار و المؤشرات المفصله أحياناً، و المقتضبه أخري و التي يمكننا تقسيمها إلي أربعه مجالات:


    1. الأبعاد العالميه في المجال العقائدي


    2. الأبعاد العالميه في المجال التاريخي


    3. الأبعاد العالميه في المجال السياسي


    4. الأبعاد العالميه في السيره الذاتيه للشهيد الصدر






    أولاً: الأبعاد العالميه في المجال العقائدي
    العالميه في الإسلام ليست شعاراً عاطفياً عابراً، و إنما هي مفهوم أخلاقي حيوي تنطلق جذوره من عمق العقيده التوحيديه القائمه علي الإيمان بالله سبحانه و تعالي كمطلق و مثل أعلي في الكون و الحياه الإنسانيه. بما يستتبع انضواء كافه المخلوقات تحت لواء ربوبيته سبحانه، فيغدو بذلك إطاراً عقائدياً و عاطفياً يربط أفراد البشريه بأخوه إيمانيه من شأنها تذويب الفوارق المحليه و الطبيعيه، و تحويلها إلي فوارق غير مؤثره بعدما أصبح الإيمان بالله هو المحور للمجتمع و ليس العامل البيئي و المادي.


    و من هنا، نعتقد أن الإسلام هو العقيده الوحيده القادره علي إنجاز عالميه حقيقيه، و أن ما عداها عالميات زائفه تبدأ شعاراً عاطفياً ساذجاً، و تنتهي غطاء للعدواه و تبرير الهيمنه علي الآخرين؛ لأن العامل البيئي الذي يقسم المجتمع البشري إلي قبائل، و قوميات، و أوطان لا يمكن التغلب عليه إلا من خلال قيم سماويه فعاله تشعر الإنسان برابطه أعلي و أسمي من تلك الانتماءات. ذلك أن الانتماء ‌القبلي- و كذلك القومي و الوطني- المنطلق من غريزه حب الذات و المتمحور حولها، بكل ما تنطوي عليه من قيم أرضيه ماديه إذا ما انفرد بالساحه الاجتماعيه سرعان ما يطغي و يتجاوز حدوده الطبيعيه ليتحول من انتماء إلي ولاء، من رابطه اجتماعيه إلي مثل أعلي يعبيء الإنسان في معارك مع الآخرين، و ينتحل لنفسه كل خصائص الالوهيه، و هذه هي محنه الإنسان مع المطلقات الزائقه التي أشار إليها السيد الشهيد الصدر في بعض مؤلفاته، فقد كتب يقول:


    «… علي مر التاريخ توجد خطوات ناجحه تاريخياً، و لكنها لا يجوز أن تحول من حدودها كخطوه إلي المطلق إلي مثل أعلي، يجب أن تكون ممارسه تلك الخطوه ضمن المثل الأعلي، لا أن تحول هذه الخطوه إلي مثل أعلي. حينما اجتمع في التاريخ مجموعه من الأسر فشكلوا القبيله، حينما اجتمعت مجموعه من القبائل فشكلت عشيره، حينما اجتمعت مجموعه من العشائر فشكلت أمه، هذه الخطوات صحيحه في تقدم البشريه و توحيد البشريه، و لكن كل خطوه من هذه لا يجب أن تتحول إلي مثل أعلي، لا يجوز أن تتحول إلي مطلق، لا يجوز أن تكون العشيره هي المطلق الذي يحارب من أجله هذا الإنسان، و إنما المطلق الذي يحارب من أجله الإنسان يبقي هو ذاك المطلق الحقيقي، يبقي هو الله سبحانه و تعالي، الخطوه تبقي كاسلوب و لكن المطلق يبقي هو الله سبحانه و تعالي هذا التعميم الزمني أيضاً هو شكل من التعميم الخاطئ، حينما يحول هذا المثل المنتزع من خطوه محدوده عبر الزمن إلي مثل أعلي»2.


    ثم يقارن في موضع آخر بين المثل الأعلي الحقيقي و المثل الأعلي الزائف، فيقول: «إن المثل الأعلي يوحد الجامعه البشريه و بلغي كل الفوارق و الحدود باعتبار شموليه هذا المثل الأعلي، باعتبار شمولياته فهو يستوعب كل الحدود و كل الفوارق، يهضم كل الاختلافات، يصهر البشريه كلها في وحده متكافئه لا يوجد ما يميز بعضها عن بعض لا من دم، و لا من جنس، و لا من قوميه، و لا من حدود جغرافيه، أو طبقيه، المثل الأعلي بشموليته يوحد البشريه، و لكن المثل العليا المنخفضه تجزئ البشريه و تشتتها، أنظروا إلي المثل الأعلي كيف يقول: (إن هذه أمتكم أمه واحده و أنا ربكم فاعبدون)3، (و أن هذه أمتكم أمه واحده و أنا ربكم فاتقون)4.


    هذا هو منطق شموليه المثل الأعلي التي لا تعترف بحد و بحاجز في داخل هذه الأسره البشريه، انظروا استمعوا إلي المثل المنخفض إلي مجتمع الظلم و آلهه مجتمع الظلم كيف يقولون، أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم، (إن فرعون علا في الأرض و جعل أهلها شيعاً)5 6.


    و عندما يكون التوحيد عالمياً بطبعه و جوهره كما اتضح من البيان السابق، فمن الطبيعي أن تكون النبوات عالميه كذلك بجوهرها و طبعها، بمعني أن النبوات تتعامل مع أفراد البشريه كوحده نوعيه واحده متساويه و متكافئه، بحيث لا نجد فيها أثراً لانحياز إلي فرد، أو قبيله، أو أسره، أو قوميه، أو بقعه جغرافيه، علي حساب فرد، أو قبيله، أو أسره قوميه، أو بقعه جغرافيه أخري. و من هنا، كانت العالميه صفه منحصره في الدين السماوي الصحيح، فلا نجد لها أثراً حقيقياً في مبدأ أرضي، و لا في دين سماوي مشوب بشوائب أرضيه.


    قال السيد الشهيد: «و قد عرف العالم دعوات عالميه كثيره، عرف المسيحيه الرسميه التي يدعي أنها عالميه مع أن كتابها المقدس ينطق بأن ما عدا شعب إسرائيل كلاب، و لم تكن إنسانيه في يوم من الأيام؛ و عرف الماركسيه في العصر الحديث و يدعي اتباعها بأنها عالميه، و لكنها لن تكون إنسانيه في يوم من الأيام: لأنها ماديه و قد كفرت بالإنسان يوم جردته من مصدر عظمته و من أعظم ميزاته، و هو جانبه الروحي و محور إنسانيه الوحيد، و إذا لم تكن إنسانيه فلن تكون عالميه؛ لأنها تفقد الشرط الأساس لذلك و هو الإيمان بالإنسان، و يبقي الإسلام و الإسلام وحده دعوه إنسانيه عالميه، كذلك كان و كذلك هو الآن، و كذلك سيبقي حتي يرث الله الأرض و من عليها»7.


    و علي أساس هذه الفكره ينطلق السيد الشهيد في مواضع أخري ليناقش و يثبت حقيقتين:


    1. صحه الإسلام كرساله سماويه.


    2. إن الأديان السماويه توحيديه عالميه منذ البدء.

    أما الحقيقه الاولي، فقد عالجها و أثبتها في كتابه «المرسل الرسول الرساله» في مواجهه تشكيكات الخصوم التي أرادت أن تنال من الإسلام كرساله سماويه بادعاء أنه مبدأ أرضي كان من إبداع النبي نفسه، و هو ادعاء أظهره النصاري و اليهود قديماً، و عدد من المستشرقين حديثاً بنحو علني سافر، و انجر إليه بعض دعاه القوميه العربيه بنحو ضمني حينما آمنوا بأن الإسلام جاء تعبيراً قومياً عن الشخصيه العربيه في خصوصياتها، و طبائعها. فكتب السيد الشهيد يقول في ردهم:


    إن «الرساله ـ كمحتوي – حقيقه ربانيه فوق الشروط و الظروف الماديه، و لكنها بعد أن تحولت إلي حركه، إلي عمل متواصل في سبيل التغيير يصبح بالإمكان ربطها بظروفها، و ما تكتنفها من ملابسات و أحاسيس، فإذا قيل مثلاً: إن شعور الإنسان العربي بالتمزق و الضياع و هو يجسد إلهه و مثله الأعلي في حجر يحطمه في لحظه غضب، أو حلوي يلتهمها في لحظه جوع، جعله يتطلع إلي الرساله الجديده، أو قيل: إن الشعور القبلي لعب دوراً مهماً في حياه الرساله؛ إذا قيل شيء من هذا القبيل، فهو أمر معقول، و قد يكون مقبولاً غير أن هذا إنما يفسر الأحداث و لا يفسر الرساله نفسها»8.


    و لو كان الإسلام و ليد البيئه لانعكست عليه خصائصها و طباعها، بينما نجد أن الرساله الإسلاميه جاءت بقيم و مفاهيم عن الحياه و الإنسان و العمل و العلاقات الاجتماعيه … فابن مجتمع القبيله ظهر علي مسرح العالم و التاريخ فجاه ينادي بوحده البشريه ككل، و ابن البيئه التي كرست ألواناً من التمييز و التفضيل علي أساس العروق و النسب و الوضع الاجتماعي ظهر ليحطم كل تلك الألوان، و يعلن أن الناس سواسيه كاسنان المشط و (إن إكرمكم عند الله أتقاكم)9، و ليحول هذا الإعلان إلي حقيه يعيشها الناس أنفسهم … و أبن الصحراء التي لم تفكر إلا في همومها الصغيره، و سد جوعتها و التفاخر بين أبنائها ضمن تقسيمها العشيري، ظهر ليقودها إلي حمل أكبر الهموم و يوحدها في معركه تحرير العالم … »10.


    و هكذا فنحن «نواجه هنا طفره هائله و تطوراً شاملاً في كل جوانب الحياه، و انقلاباً في القيم و المفاهيم التي تتصل بمختلف مجالات الحياه إلي الأفضل بدلاً عن مجرد خطوه إلي الأمام. إن مجتمع القبيله طفر راساً علي يد النبي إلي الإيمان بفكر المجتمع العالمي الواحد، و إن المجتمع الوثني طفر راساً إلي دين التوحيد الخالص الذي صحح كل أديان التوحيد الأخري … »11. و خلاصه ذلك كله أن عالميه الإسلام تثبيت سماويته.


    و أما الحقيقه الثانيه، فقد بحثها السيد الشهيد الصدر في نطاق مناقشه الفكره القائله بأن الأديان تطورت من الصوره القبليه إلي الصوره القوميه ثم إلي الصوره العالميه علي أساس «أن كل شعب حين تطورت ظروفه الاقتصاديه و أناحت له إقامه مجتمع قومي مستقل كانت الآلهه التي يعبدها آلهه قوميه لا تتجاوز سلطتها حدود الأراضي القوميه المدعوه إلي حمايتها و بعد أن تلاشت قوميات هذه الشعوب بالاندماج في إمبراطوريه عالميه هي الإمبراطوريه الرومانيه ظهرت الحاجه إلي دين عالمي أيضاً. و كان هذا الدين العالمي هو المسيحيه التي أصبحت ديناً رسمياً للدوله»12.


    و يرد السيد الشهيد الصدر علي هذه الفكره بأن المسيحيه «لو كانت تعبيراً عن الحاجات الموضوعيه الماديه التي تشير إليها الماركسيه لكان من الطبيعي أن تولد المسيحيه و تنمو في قلب الامبراطوريه الرومانيه الآخذه بزمام القياده العالميه … مع أن الواقع التاريخي يختلف عن ذلك تماماً فالمسيحيه لم تنشأ في نقاط التمركز السياسي، و لم تولد في أحضان الرومان الذين بنوا الدوله العالميه و كانوا يعبرون في نشاطاتهم عنها، و إنما نشأت بعيده عن ذلك كله، في إقليم من الأقاليم الشرقيه المستعمره للرومان و تمت بين شعب يهودي مضطهد لم يكن منذ استعمرته الإمبراطوريه علي يد القائد الروماني بمبي قبل الميلاد بسته عقود يحلم إلا بالاستقلال القومي، و تحطيم الأغلال التي تربطه بالمستعمرين الأمر الذي كلفه كثيراً من الثورات و عشرات الألوف من الضحايا خلال تلك العقود السته، فهل كانت ظروف هذا الشعب الماديه، و السياسيه، و الاقتصاديه جديره بأن تتمخص عن الدين العالمي الذي يلبي حاجات الامبراطوريه المستعمره؟13.


    و من الزاويه الإسلاميه إذا «أخذنا فكره الماركسيه عن التطور التاريخي للأ‌ديان لنطبقها علي الأسلام الدين العالمي الآخر، لوجدنا مدي التناقض الفاضح بين الفكره و الواقع. فلئن كانت أروبا دوله عالميه تتطلب ديناً عالمياً، فلم تكن في جزيره العرب دوله، بل لم تكن توجد دوله قوميه تضم الشعب العربي، و إنما كان العرب موزعين فئات متعدده، و كان لكل قبيله إلهها الذي تؤمن به، و تتذلل إليه و تصنعه من الحجر ثم تدين له بالطاعه و العبوديه، فهل كانت الظروف الماديه و السياسيه تدعو إلي انبثاق دين عالمي جديد من قلب تلك الجزيره المبضعه، و هي لم تعرف كيف تدرك وجودها كقوم و شعب فضلاً عن أن تعي وحده من نمط أرقي تتمثل في دين يوحد العالم برمته؟ و إذا كانت الآله الدينيه تتطور من آلهه قوميه إلي إله عالمي تبعاً للحاجات الماديه و الأوضاع السياسيه، فكيف طفر العرب من آلهه قبليه يصنعونها بأيديهم إلي إله عالمي دانوا له بأعلي درجات التجريد؟»14.


    و هو حينما يفند هذه النظريه في مجال تطور الأديان يطرح في قبالها نظريه جديده يمكنها أن تعالج مسأله تغيير النبوات، تجددها و ظهورها واحده بعد الأخري، و المجال هنا لا يسمع لبسط هذه النظريه، و إنما نقتصر علي القدر المرتبط منها بموضوع دراستنا هذه. و هو أن النبوات تتغير و تتجدد تبعاً لعوامل، و من جمله هذه العوامل عامل مدي استعداد الإنسان لوعي حقيقه التوحيد.


    صحيح أن التوحيد حقيقه واحده في كل النبوات و الرساله السماويه، و لكن استعدادات الإنسان و شروطه النفسيه و الفكريه تختلف من مرحله زمنيه إلي مرحله زمنيه أخري، و في حاله كهذه لابد من أن تقدم فكره التوحيد «علي مراحل و علي درجات كل درجه تهيئ ذهنه لتلقي التوحيد، و نحن بإمكاننا الالتفات إلي فكره التوحيد المعطاه من التوراه، و الانجيل، و القرآن الكريم. أن نفهمه مثالاً علي هذا المعني، التوراه و الإنجيل الذي يعيش بيننا اليوم؛ لأن التوراه و الإنجيل الموجدان بين أيدينا اليوم علي أي حال قد تقصدان تصوير الفكره الدينيه في شعب موسي و شعب عيسي، في قوم موسي و قوم عيسي، و لاشك أنه أيضاً يحتفظ بجزء من النص الديني إلي حد قليل أو كثير، خاصه في التوراه، و لهذا يمكن أن نستلهم من الكتابين في سبيل تقدير و تحديد الروح الدينيه العامه لمرحلتين من مراحل الإنسان التي عاشها مع النبوه بطبيعه المعطي، فبينما التوحيد في الكتاب الأول يقوم علي أساس إعطاء إله، و هذا الإله لا يستطيع هذا الكتاب أن ينزع عنه الطابع القومي المحدود؛ فكانت التوراه باستمرار تقدم الإله في إطار قومي، كانه إله هؤلاء في مقابل الأصنام و الأوثان التي هي آلهه الشعوب و القبائل، فلم تقل التوراه بشكل صريح عميق لهؤلاء: إن هناك إلها واحداً للجميع، و إنما عوضت هؤلاء بالخصوص عن صنم و وثن معين، بإله يعبدونه بدلاً عن هذا الصنم، فخيل لهم علي مر الزمن أنهم يحتكرون الله لأنفسهم بينهما الشعوب و القبائل الأخري هي ذات آلهه شتي و أصنام شتي … في الكتاب الثاني صعدت فكره الله مرتبه؛ و ذلك لأن الطابع القومي انتزع عن هذه الفكره و أصبح الإله المقدم من قبل تلامذه السيد المسيح عليه السلام للعالم، إلها عالمياً لا فرق فيه بين شعب و شعب هو إله العالمي علي الإطلاق، لم يغادر منطقه قريبه من ذهن الإنسان المحسوس، لم يجرد تجريداً كاملاً عن عالم الحس، بقي علي صله وثيقه جداً بالإنسان الحسي، كأنه أبوه و بهذا يعبر في الأناجيل كثيراً عن الإنسان بأنه ابن الله، ألأناجيل تعبر عن أي إنسان أنه ابن الله؛ لأنها تعطي فكره عن الله فكره الأب الواحد للجماعه البشريه، فكره الخالق السيد المطلق المقتدر، بينما الكتاب الثالث يعطي فكره التوحيد بأنصع و أوسع ما يمكن من التنزيه الذي يبقي محتفظاً بقدرته علي تحريك الإنسان؛ لأنه يجرد هذه الفكره عن طابع الأبوه و العلائق الماديه مع الإنسان علي الإطلاق»15.


    و هذه الفكره تؤكد ما أسلفناه من العلاقه بين التوحيد و العالميه فلكما كان التوحيد واضحاً ناصعاً كانت العالميه الناتجه عنه أكبر و أكد، حتي جاء الإسلام ليبلغ بالتوحيد إلي أرقي مراحله و بالعالميه إلي أكبر درجاتها.


    و في هذا السياق لابد من معالجه الظاهره الملحوظه في خط النبوات، ألا و هي ظاهره إعطاء الوصايه علي الرساله لأشخاص يرتبطون بالرسول القائد ارتباطاً نسبياً أو لذريته و أبنائه، و هذه الظاهره لم تتفق فقط في أوصياء النبي محمد (ص) بل اتفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل. قال الله سبحانه و تعالي: (و لقد أرسلنا نوحاً و إبراهيم و جعلنا في ذريتهما النبوه و الكتاب)16 (و وهبنا له اسحاق و يعقوب كلا هدينا و نوحا هدينا من قبل و من ذريته داود و سليمان)17 فاختيار الوصي كان يتم عاده من بين الأفراد الذين انحدروا من صاحب الرساله و لم يروا النور إلا في كنفه و في إطار تربيته»18. و هذا يعني أن خط الشهاده السماويه في مرحلتي النبوه و الإمامه، قد أغلق لحساب سلاله أسريه خاصه، و هذا ما لا يتفق مع قيم العالميه و مثلها.


    و قد أجاب السيد الشهيد علي هذه الشبهه فكتب يقول: «و ليس هنا من أجل القرابه بوصفها علاقه ماديه تشكل أساساً لتوراث، بل من أجل القرابه بوصفها تشكل عاده الإطار السليم لتربيه الوصي و إعداه للقيام بدوره الرباني. و أما إذا لم تحقق القرابه هذا الإطار، فلا أثر لها في حساب السماء ‌قال الله تعالي: (و إذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً، قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)»19.


    و يمكننا أن نقرب هذا الجواب بوجه آخر فنقول: أن خط الشهاده في مرحلتي النبوه و الإمامه يتطلب خصائص استثنائيه في النبي و الإمام لا ينالها الفرد العادي و في مقدمتها العصمه، و من الطبيعي أن تجند السماء من أجل انجاح ثوره الأنبياء كافه الاستعدادات و أعلي الامكانات و منها عامل الوراثه، و عامل التربيه، و عامل النسب. فالوراثه تنقل الاستعدادات و الملكات العالميه، و التربيه النبويه تنمي و توجه هذه الملكات و الاستعدادات و الملكات العاليه، و التربيه النبويه و توجه هذه الملكات و الاستعدادات و النسب يلعب دوراً تشجيعياً مهماً في تنشئه الفرد الذي يجد نفسه أكثر إقداماً و تصميماً كلما انتسب إلي أسره عريقه.


    و يمكننا أن نذكر جواباً آخر؛ و هو: إن البشريه في عصور الأنبياء و الأئمه كانت تتعامل مع النسب كقيمه اجتماعيه و سياسيه، بحيث إنها تفرض فيمن يتصدي لزعامه المجتمع أن يكون من نسب عائلي رفيع؛ و لذا ظلت النظم الإمبراطوريه و الملكيه هي السائده بلا منازع، حتي قيام الثوره الفرنسيه، و لا زال العالم يحتفظ ببقايا من هذه النظم ما يدلل علي أن البشريه لا زالت تعطي النسب قيمه سياسيه، و لو بدرجه أقل من السابق.


    و من الطبيعي في مثل هذه الحاله أن يراعي خط النبوات هذه النقطه، حتي يتمكن من إحراز النجاح المطلوب في عمليه التغيير الاجتماعي، و ذلك حينما ينطلق من أرضيه اجتماعيه قويه ممثله بنسب نبوي رفيع يحظي باحترام الناس و اعترافهم.


    كما أنه من الممكن أن يقال: إن انتظام سلسله الأنبياء و الأئمه (ع) في سلاله أسريه واحده ربما يراد منه تكريس وحده البشريه و تعميق روح القرابه بين أفرادها.


    و الشيء المهم أن خط النبوات و هو يراعي هذه الضرورات و الجوانب لم يساوم علي عالميته و لم يخسر قيمتها الخلقيه الرفيعه. فالملاك في النبوه و الإمامه لا زال هو الملكات و الاستعدادات و الفضائل التي يشترط في النبي و الإمام أن يكون قد بلغ القمه فيها، و نال ذروتها، و لم يكن النسب بما هو نسب ملاكا أو جزءاً من الملاك فيها.


    و إذا كانت الثوره الفرنسيه قد سجلت في القرن الثامن عشر الميلادي بدايه الانطلاق نحو النظم الجمهوريه التي لا تتعرف بالنسب كقيمه سياسيه في المجتمع، فإن الإسلام قد سبق هذه الثوره بثمانيه قرون حينما أعلن أن المرحله الثالثه في خط الشهاده – و هي مرحله المرجعيه التي انطلقت مع حلول غيبه الامام (ع) في منتصف القرن الهجري الثالث- هي مرحله غياب الدور السياسي للنسب غياباً تاماً. و ذلك حينما لم يعد خط الشهاده يشترط في حلقاته القياديه شرط العصمه الذي كان النسب يلعب دوراً مساعداً فيه من خلال عاملي الوارثه و التربيه النبويه. فاختفت القيمه السياسيه للنسب في هذه المرحله اختفاء تاماً.





    ثانياً: الأبعاد العالميه في المجال التأريخي
    لم يعد التاريخ كتاباً تطالع فيه الأجيال قصص الغابرين للمتعه و الاعتبار، بل تعدي ذلك و أصبح ميداناً حيوياً من ميادين المنازله الفكريه و السياسيه بين الأيديولوجيات و النظريات المختلفه، كل منها يحاول أن يلتمس من التاريخ دليلاً يؤيدها و يثبت فشل الطرف المقابل لها، و علي أساس ذلك ظهرت فلسفه التاريخ منذ القرن السابع عشر الميلادي كإتجاه فكري حاول من خلاله الفلاسفه و المفكرون إخضاع التجربه التاريخيه للبحث و التحليل الموغل في العمق بغيه الوصول إلي أكمل معرفه ممكنه بشأن حقيقه الفرد و المجتمع.


    و من الطبيعي أن يخضع هذا الاتجاه الذي عرف في بادئ الأمر باسم العلم الجديد ثم تغير اسمه إلي فلسفه التاريخ للنزعه الماديه التي سيطرت علي أوروبا، و نتيجه لذلك أصبحت فلسفه التاريخ تغي إعطاء تفسيرات ماديه للتاريخ بنحو، أو بآخر، فتاره يفسر علي أساس العامل الاقتصادي، و أخري علي أساس العامل الجغرافي، و ثالثه علي أساس العامل العرقي، و رابعه علي أساس العامل الجنسي.


    و من الضروري أن يطرح الإسلام رأيه في هذه المعركه و يبين العامل الذي يختاره، و قد عالج عدد من الأعلام و المفكرين الإسلاميين هذه المساله في عدد من المؤلفات و الكتب أبرزها كتاب فلسفه التاريخ لآيه الله الشهيد مرتضي مطهري.


    و قد كان مؤملاً من السيد الشهيد الصدر أن يطرح النظريه الإسلاميه في هذا المضمار و يبين القول الفصل فيه كما هو شأنه في كليات الفكر الإسلامي و أصوله الكبري، لولا أن القدر المشؤوم اختطف هذا الأمل الكبير. و أكبر أن سماحته كان عازماً علي تناول هذا الجانب في كتاب مجتمعنا و ذلك لمؤشرين:


    أ- أنه كتب في نهايه فلسفتنا، و في سياق بحثه عن الإدراك و قدره الإنسان علي التكليف مع البيئه يقول:


    «سوف ندرس في مجتمعنا طبيعه هذا التكليف و حدوده في ضوء مفاهيم الإسلام عن المجتمع و الدوله؛ لأن من القضايا الرئيسيه في دراسه المجتمع و تحليه و في تلك الدراسه سنستوفي بتفصيل كل النواحي التي اختصرنا الحديث عنها في بحث الإدراك هذا»20.


    ب- و في مقدمه الطبعه الأولي من اقتصادنا كتب يقول أيضاً: «و كنا نقدر أن يكون مجتمعنا هو الدراسه الثانيه في بحوثنا؛ نتناول فيها أفكار الإسلام عن الإنسان و حياته الاجتماعيه و طريقته في تحليل المركب الاجتماعي و تفسيره …»21.


    و الذي يعرف منهج السيد الشهيد الصدر في تناول الموضوعات و ما يمتاز به من عمق يستطيع أن يرجح بأن سماحته، سوف يتناول دور البيئه و ما تمثله من عوامل ماديه في شخصيه الإنسان كفرد، و مجتمع، و تاريخ، و هل أن موقف الإنسان إزاءها هو دور المنفعل المقهور أم المختار المريد؟ و غير ذلك من المباحث ذات الصله العميقه بيحوث الإدراك و المجتمع.


    و التراث الفعلي السيد الشهيد الصدر يشتمل علي جانبين من فلسفه التاريخ هما:


    أ- مناقشه الماديه التاريخيه لدي الماركسيه مناقشه تفصيليه معمقه، تاره في ضوء الأسس الفلسفيه و المنطقيه التي يتكون منها مفهوم الماركسيه العام عن الكون، و أخري بما هي نظريه عامه تحاول استيعاب التاريخ الإنساني، و ثالثه في ضوء ما ترسمه الماركسيه من تفاصيل عن مراحل التاريخ البشري و القفزات الاجتماعيه علي رأس كل مرحله، و ذلك في كتاب اقتصادنا و قد عدت هذه المناقشات أقوي ما واجهته الماركسيه من تفنيد ورد؛ و ذلك لما تميزت به من حجج قطعيه و براهين مؤكده من وجوه متعدده.


    و لكن هذه المناقشات لا يدخل منها في حساب النظريه الإسلاميه في حقل التاريخ و فلسفته إلا النزر اليسير؛ لأن أكثر النقوض و الردود التي أوردها سماحته تتمثل في شواهد تاريخيه و فلسفيه تثبت فساد النظريه الماركسيه، و واضح أن إثبات فشل الماركسيه شيء، و إقامه النظريه الإسلاميه شيء آخر.


    ب- طرح نظريته المعروفه عن سنن التاريخ في القرآن الكريم في خمس محاضرات من محاضراته القرآنيه حول التفسير الموضوعي و الذي يطالع هذه المحاضرات التي نشرت باسم «المدرسه القرآنيه» و يطابق بينها و بين ما ذكره عن كتابه «مجتمعنا» يستطيع أن يرجح أن السيد الشهيد قد أودع في محاضراته هذه جانباً من روح إبداعه في كتاب «مجتمعنا» بشأن المجتمع و التاريخ، و أن السنن التأريخيه التي شرحها في هذه المحاضرات تمثل القاعده القرآنيه التي يمكن الاتكاء عليها في تشييد نظريه متكامله بشأن فلسفه التاريخ. و كان الأقدار شاءت أن يقدم السيد الشهيد محاضراته تلك في المجتمع و التاريخ كخميره و رؤوس أقلام في النظريه الإسلاميه عن المجتمع و التاريخ بحثاً عمن ينهض بهذه المسؤوليه، و يحول تلك الخميره إلي نظريه متكامله. أن يحول تلك المحاضرات القرآنيه إلي «مجتمعنا».


    و من جمله الأفكار الجوهريه التي طرحها في محاضراته هذه قوله:

    «إن الإنسان أو المحتوي الداخلي للإنسان هو أساس لحركه التاريخ، و أننا ذكرنا أن حركه التاريخ تتميز عن كل الحركات الأخري بأنها حركه غائيه لا سببيه فقط، ليست مشدوده إلي سببها إلي ماضيها، بل هي مشدوده إلي الغايه؛ لأنها حركه هادفه لها عله غائيه متطلعه إلي المستقبل، فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخيه، و المستقبل معدوم فعلاً، و إنما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل. إذا، الوجود الذهني هو الحاضر و المحرك و المدار لحركه التاريخ. و هذا الوجود يجسد من ناحيه جانباً فكرياً و هو الجانب الذي يفهم تصورات الهدف، أيضاً يمثل من جانب آخر الطاقه، الإراده التي تحفز الإنسان نحو هذا الهدف و تنشطه للتحرك نحو هذا الهدف.


    إذا هذا الوجود الذهني الذي يجسد المستقبل المحرك، هذا الوجود الذهني يعبر في جانب منه عن الفكر، و في جانب آخر منه عن الإراده. و بالامتزاج بين الفكر و الإراده تتحقق فاعليه المستقبل و محركيته للنشاط التاريخي علي الساحه الاجتماعيه، و إن المحتوي الداخلي الشعوري للإنسان يتمثل في هذين الركنين الأساسيين و هما: الفكر و الإراده. إذا، المحتوي الداخلي للإنسان هو الذي يصنع هذه الغايات، و يجسد هذه الأهداف من خلال مزجه بين فكره و إراده. و بعد هذا صح القول، بأن المحتوي الداخلي للإنسان هو الأساس لحركه التاريخ و البناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات، و من أنظمه، و من أفكار و تفاصيل. هذا البناء العلوي في الحقيقه مرتبط بهذه القاعده، بالمحتوي الداخلي للإنسان»22.


    و هذا المعني يبتني أساساً علي ما قرره السيد الشهيد في نهايه «فلسفتنا» من أن «الفكر نشاط إيجابي فعال للنفس، و ليس رهن ردود الفعل الفيزيولوجيه، كما أنه ليس هو الواقع المباشر للغه كما زعمت الماركسيه بل اللغه أداه لتبادل الأفكار، و ليست هي المكونه لتلك الأفكار»23.


    ثم يخلص إلي القول بأن:


    «الحياه الاجتماعيه و الظروف الماديه لا تحدد أفكار الناس و مشاعرهم بصوره آليه من طريق المنبهات الخارجيه، نعم إن الإنسان قد يكيف أفكاره تكييفياً اختيارياً بالبيئه و المحيط كما نادت بذلك المدرسه الوظيفيه في علم النفس تأثراً بنظريه التطور عند لامارك في البيولوجيا، فكما أن الكائن الحي يتكيف عضوياً تبعاً لمحيطه كذلك الأمر في حياته الفكريه، و لكنا يجب أن نعلم:


    أولاً: إن هذا التكليف يوجد في الأفكار العمليه التي وظيفتها تنظيم الحياه الخارجيه. و لا يمكن أن يوجد في الأفكار التامليه التي وظيفتها الكشف عن الواقع …


    ثانياً: إن تكيف الأفكار العمليه بمقتضيات البيئه و ظروفها ليس آلياً بل هو تكيف اختياري ينشأ من دوافع إراديه في الإنسان تسوقه إلي جعل النظام المنسج مع محيطه و بيئته، و بذلك يزول التعارض تماماً بين المدرسه الوظيفيه، و المدرسه الغرضيه في علم النفس، و سوف ندرس في مجتمعنا طبيعه هذا التكليف، و حدوده في ضوء مفاهيم الإسلام عن المجتمع و الدوله»24.


    لكن النتيجه التي تتوصل إليها من خلال هذه الأفكار تبدو غير منسجمه مع ما أفاده سماحته في كتابه «اقتصادنا». و النتيجه هي: إن الفرد و من خلاله المجتمع ثم في حلقه أكبر التاريخ يتحرك علي أساس عامل واحد و هو عامل الفكر و الإراده المعبر عنه بالمحتوي الداخلي للإنسان، و هذا يعني أن الإسلام يؤمن بأصل فكره العامل الواحد في التاريخ، خلافاً لما ذكره في اقتصادنا، حيث كتب يقول بعد شرح موجز عن نظريات العامل الواحد في التاريخ.


    «و كل هذا المحاولات لا تتفق مع الواقع و لا يفرها الإسلام؛ لأن كل واحد منها قد حاول أن يستوعب يعامل واحد تفسير الحياه الإنسانيه كلها و أن يهب هذا العامل من أدوار التاريخ و فضول المجتمع ما ليس جديراً به لدي الحساب الشامل الدقيق»25، و واضح أن الغرض من فكره العامل الواحد في التاريخ ليس إلغاء العوامل الأخري، و إنما الفرز بين عامل أساسي و عوامل ثانويه. و البحث عن «العامل الذي يشكل الروح الأصليه للتاريخ و هويته الواقعيه و الذي يستطيع أن يكون المبرر و المفسر للعوامل الأخري»26، كما يقول الشهيد المطهري.


    و هكذا فإن فكره الجمع بين العوامل التي طرحها بعض المفكرين و منهم الدكتور محمد فتحي عثمان27 فكره وهميه؛ لأن الإنسان الذي يتحرك بعوامل متعدده غير طوليه أشبه بالسياره التي تجعل لكل عجله فيها محرك خاص، و مقود خاص، و سائق خاص، و لا أكاد أشك بأن السيد الشهيد لا يقصد من كلاسه السابق الإيمان بفكره الجمع بين العوامل المستقله المتعدده في آن واحد، و لابد من حمل كلامه علي معني آخر ينسجم مع ما استخلصناه من «المدرسه القرآنيه» و «فلسفتنا». و الشيء‌ الذي يهمنا في دراستنا هذه، هو: إن السيد الشهيد، قد قرر بوضوح أن العامل المحرك للتاريخ هو الفكر و الإراده، و هذا بحد ذاته يشكل موقفاً إزاء النظريات التي فسرت التاريخ بعوامل أخري، و منها النظريه الجغرافيه التي اعتبرت البيئه الجغرافيه هي الأساس لما يزخر به التاريخ من حركات، و ثورات، و تحولات، و النظريه العرقيه التي آمنت بإعطاء هذا الدور للعراق و الجنس و الدم، و هما النظريتان اللتان تعتبران مصدراً فكرياً مهماً من المصادر التي تكون الفكره القوميه و الوطنيه.


    إن الإسلام حينما يعتمد الفكر و الإراده، و المحتوي الشعوري و الروحي للإنسان كعامل في حركه الفرد و المجتمع و التاريخ إنما يعتمد علي عامل جوهري ينطوي عليه أصل الخلقه الإنسانيه، و يتساوي في الانتماء إليه كل أفراد البشريه، و هذا ما ينسجم مع الإطار العالمي للرساله الإسلاميه، و حينما تعتمد الليبراليه الغربيه علي العامل الجغرافي و القومي، فإنما تعتمد علي عامل شكلي يتفاوت أفراد البشريه فيه، و هذا ما ينسجم أيضاً مع الإطار المادي للحضاره الغربيه، و الفرق بين الإسلام و الليبراليه من هذه الجهه هو الفرق بين أسره آمن أفرادها بدور الأب الروحي و التوجيهي، فكانت أسره موحده متآخيه تنظر لجوهر وجودها الإنساني و الأخلاقي الواحد في الجميع، و تتجاهل الفروقات الشكليه بين أفرادها. و أسره أخري تنكرت لدور الأب و فقدت بسب ذلك الإطار الجامع لأفرادها، فتناست جوهرها الإنساني و الأخلاقي الواحد في الجميع و تشبث كل فرد فيها بما يمتلكه من خصوصيات شكليه في اللون، و الطول، و الجمال كأساس للامتياز علي سائر إخوته؛ الأسره الأولي هي الأسره البشريه في ظل أبوه السماء التي عبر عنها الإسلام بالعالميه، و الأسره الثانيه هي الأسره البشريه في ظل الماديه الغربيه التي أغرت الإنسان بالعامل الجغرافي تاره، و العامل القومي أخري، و العامل الطبقي ثالثه لتشبع شعور الأفراد و نزعه كل واحد منهم للامتياز علي سواه، و لتلقي بالجميع في أتون الصراع الذي يعد ركناً خفياً من أركان الليبراليه الغربيه، حيث قامت- و بسبب ماديتها- علي تكريس الصراع و التنظير له كفكره فلسفيه، و علميه، و اجتماعيه. ففيما ينعم المجتمع البشري في ظل أبوه السماء المتجسده في عالميه الإسلام بفكره الأخوه الإنسانيه العامه و الإيمانيه الخاصه، تحاول الحضاره الغربيه عبر إنكارها لأبوه السماء و تاكيدها علي الجانب المادي أن تهيئ الجو لظهور مشاعر النزاع بين أفراد الأسره بعدها خطفت أباهم، و لا تكتفي بذلك فحسب، بل أنها تمجد فكره الصراع، و تعتبرها القانون الفلسفي و العلمي و التاريخي و الاجتماعي الطبيعي علي الساحه الإنسانيه.


    فهناك فكره الصراع بين الأضداد علي الصعيد الفلسفي، و فكره صراع الطبقات علي الصعيد الاجتماعي، و فكره الصراع من أجل البقاء علي الصعيد البيولوجي العلمي، و فكره الصراع بين العرق الرفيع و العرق الردئ علي الصعيد القومي، و فكره التطور الديالكتيكي التاريخ علي الصعيد التاريخي، و كل ذلك يجعل الصراع فكره حتميه في المجتمع. بينما علي العكس من ذلك نجد الفرد المسلم يحس، «بارتباط عميق بالجماعه التي ينتسب إليها، و انسجام بينه و بينها بدلاً عن فكره الصراع التي سيطرت علي الفكر الأوروبي الحديث، و قد عزز فكره الجماعه لدي الإنسان المسلم الإطار العالمي لرساله الإسلام الذي ينيط بحمله هذه الرساله مسؤوليه وجودها عالمياً و امتدادها مع الزمان و المكان، فإن تفاعل إنسان العالم الإسلامي علي مر التاريخ مع رساله عالميه منفتحه علي الجماعه البشريه يرسخ في نفسه الشعور بالعالميه و الارتباط بالجماعه»28.


    و حينما يعتمد الإسلام العامل الإنساني في التاريخ تصبح العوامل الأخري داخله في هذا النطاق أيضاً. فنحن لا ننكر دور الغريزه القوميه - و كذا العامل الاقتصادي و بقيه العوامل - في حركه المجتمع، و لكننا نري العوامل و الغرائز، و منها الغريزه القوميه تنقل إيعازاتها و مطاليبها إلي الجهاز الذهني كفكره، و لا تتحول إلي سلوك اجتماعي إلا بعد أن يمضيها، فقد يمضيها و قد يرفضها، و قد يحور فيها.


    و اختيار أحد هذه البدائل يتم في ضوء الشروط النفسيه و الذهنيه لذلك الإنسان، فإن كان الذهن مشتملاً علي فكره صحيحه قويه تمكنه من معالجه الموقف معالجه إيجابيه فعاله، و إن لم يكن كذلك أصبح بإمكان تلك العوامل و الغرائز أن تملي موقفها و فكرتها عليه.


    و من هنا، يعد الإسلام النفس ميداناً لحسابات دقيقه و مستمره بين عالم العقل الموجه و عالم الغريزه الضاغط كما يعتبر السلوك الخاطئ أو المنحرف هو السلوك الناشيء عن غريزه ضاغطه قد عجز العقل عن توجيهها بسبب ضعفه من جهه، و عنفوانها من جهه أخري. و التطبيق البارز لهذه الفكره نجده في كتاب «أهل البيت تنوع أدوار و وحده هدف» حيث ركز السيد الشهيد فيه علي الدور الخطير الذي لعبته العصبيه القبيله في حرف مسيره الأمه الإسلاميه عن الخط العاملي الذي رسمه النبي (ص) لها إلي الخط الجاهلي القبلي المتعصب النابع من غريزه حب الذات التي تريد أن تفرض نفسها علي الإنسان كمحور وحيد للسلوك، فكانت هناك الفكره الإسلاميه العالميه، لكنها لا زالت فتيه جديده قد دشنها المجتمع الإسلامي تواً، و لا زالت أمامه في مضمارها أشواطاً تطبيقيه و تربويه كبيره. و هناك الفكره القبيله التي ما زال رصيدها الاجتماعي كبيراً، و لا زال المجتمع الإسلامي مشبعاً بها في الشعور و اللاشعور. في مثل هذا الظرف توفي النبي (ص) و كانت الأمه الإسلاميه «مقبله علي تحول اجتماعي و سياسي كبير و ضخم جداً؛ لأنه كان من المفروض تحقيق فكره المجتمع العالمي، هذه الفكره التي دعا إليها النبي (ص) و لكنه لم يحققها؛ لأنه (ص) توفي قبل أن يمتد نفوذه خارج النطاق العربي بالرغم من أنه (ص) دعا ملوك العالم إلي الإسلام؛ لأجل توعيتهم بالإسلام، و لأجل تسجيل أن الإسلام عالمي و يدعو إلي المجتمع العالمي الذي لا يفرق فيه بين شعب و شعب، و بين قوميه و قوميه، بالرغم من هذا لم يتحقق المجتمع العالمي.
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    تحقق أيام النبي (ص) مجتمع عربي يحمل فكره العالميه و يقوم علي أساس الرساله لا علي أساس الفكره القوميه، أو القاعده القوميه للرساله، هذا المجتمع بعد النبي (ص) كان من المفروض أن يبني عالمياً، و أن ينشيء المجتمع الإسلامي العالمي، هذه المرحله أو هذه المهمه تحتاج إلي عقليه رساله 100%، إلي نزاهه عن كل شائبه، و عن كل الانخفاضات الفكريه و العاطفيه التي يعيشها الإنسان القبلي، أو الإنسان القومي … حتي الآن لم يعيشوا المجتمع العالمي إلا كفكره لم تولد إلي النور، و إن الناس كلهم أسره، الناس سواسيه كأسنان المشط، أن لا فرق بين عجمي و عربي هذا كانوا يسمعونه كفكره من النبي (ص) … لم يتيسر لمثل هؤلاء أن يحققوا هذه الفكره، و أن يتولوا تحقيقها في مثل هذه المرحله الدقيقه من التجربه الإسلاميه، بطبيعه الحال سوف تحصل هناك انخفاضات فكريه و عاطفيه تجعلهم دون مستوي تحقيق فكره المجتمع العالمي …»29.


    و يقول السيد الشهيد أيضاً في موضع آخر من كتابه: « … جاء النبي (ص) إلي مجتمع متأخر يعيش الفكره القبليه بأشد ألوانها و نتائجها، و أقسي مفاهيمها و أفكارها جاء فألقي فيها فكره المجتمع العالمي الذي لا فرق فيه بين قبيله و قبيله، و بين شعب و شعب، و بين أمه و أمه. هذه الطفره الهائله بكل ما تضم من تحول فكري و انقلاب اجتماعي. هذا الطفره لم تكن شيئاً عادياً في حياه الإنسان.


    إذا، كيف يمكن أن نتصور أن هذا المجتمع سوف يودع تمام ما كان عنده من الأفكار و المشاعر و الانفعالات، و يقلب صفحه جديده كامله دون أي اصطحاب لموروثات العهد السابق؟ هذا غير ممكن إلا في فتره طويله جداً مع أن رسول الله (ص) لم يعش كمرب لمجتمع و دوله تربيه كامله في المدنيه إلا عشر سنوات فقط، علماً أن جزءاً كبيراً من المجتمع الإسلامي دخل الأحداث بعد وفاه رسول الله (ص)»30.


    و قد أثبتت التجربه النبويه أن كبار الصحابه، و حتي فتره متأخره من حياه النبي (ص) كانوا لا يزالون مثقلين بالشعور القبلي المتعصب، و نحن هذا غرضنا الزاويه الاجتماعيه التغييريه، و ليس غرضنا إصدار الأحكام، أو انكار إيجابيات هؤلاء و تجريدهم مما قاموا به من خدمات للإسلام، فإن هذه الخدمات تجسد معينه من التغيير أنجزوها في أنفسهم، و قد تكون هذه النسبه مقبوله في حسابات التغيير الاجتماعي بالنسبه إلي ذلك الظرف التاريخي، و قد يكون الرسول (ص) راضياً عن هؤلاء بلحاظ هذه النسبه التي تيسر له إنجازها فيهم، و لكن هل من المعقول أن يمنح الرسول (ص) قياده التجربه الرساليه المصيريه بالنسبه للبشريه جمعاء لأفراد لم يؤثر الإسلام إلا في جزء يسير من شخصيتهم، و لا زال الجزء الأعظم منها ينتظر التغيير؟ ألا يعني ذلك أن التجربه ستنتفع من هؤلاء بالمقدار المحدد الذي حصلوا عليه من التغيير الإسلامي و ستضرر بالمقدار الواسع من أفكار و مفاهيم و موروثات الجاهليه التي لا زالت في مضمار الشعور و اللاشعور؟ هل من المعقول أن تعطي قياده العالميه الكبري في التاريخ لأفراد لا زالت العالميه فكره غامضه و ضعيفه في أذهانهم، و لا زال الشعور القبلي سائداً فيهم؟


    و هذا يفرق السيد الشهيد بين الوعي، و بين ما يسميه بالطاقه الحراريه، و هو يري أن «الأمه تحمل طاقه حراريه كبيره، و لم نكن تحمل وعياً مستنيراً مجتثاً لأصول الجاهليه فيها»31.


    و يستشهد علي ذلك، بغزوه حنين يوم وزع الرسول (ص) الغنائم علي مسلمي مكه فقط لمصلحه وجدها في ذلك و لم يعط الأنصار شيئاً منها، فظهر الشعور القبلي عند الأنصار، و فسروا الحادثه بأن النبي (ص) حابي أهل مكه؛ لأنهم قومه و عشيرته.


    و يكرر الفكره نفسها في محل آخر مع استشهاد تاريخي آخر هو أن المخالفين للإمام علي (ع) بعد وفاه النبي كانوا يملكون طاقه حراريه، و لكن بدون وعي. كانوا يحسبون أن محمداً (ص) يريد أن «يعلي مجد بني هاشم أن يعلي كيان هذه الأسره، أن يمد بنفسه بعده فاختار علياً، اختار ابن عمه، كان تفكيراً منسجماً مع الوضع النفسي الذي يعيشه أكثر المسلمين كراسب الجاهليه …»32.


    و يؤكد ذلك أن المهاجرين قالوا في حادثه السقيفه: «إن السلطان سلطان قريش إن سلطان محمد سلطان قريش نحن أولي من بقيه العرب. و بقيه العرب أولي من بقيه المسلمين هنا يبرز الشعور القبلي و الشعور القومي في لحظه انفعال …»33.


    فالمساله مسأله قريش، و سلطانها، و أمجادها؛ و لذا كان عمر بن الخطاب يريد أن يعرف مستقبل الأمور من بعده، فأخذ يسأل الناس عمن يريدون من بعده و كان يقول: «ما سألت عربياً إلا و قال: علي بن أبي طالب، و ما سألت قرشياً إلا و قال عثمان بن عفان. يعني جماهير المسلمين كانت تقول علي بن أبي طالب (ع) و عشيره واحده معينه كانت تريد أن تنهب الحكم من الأمه كانت تقول عثمان …»34.


    و عمر بن الخطاب نفسه كان مشبعاً بالشعور القبلي و هو الذي أعترف «بأن رسول الله (ص) حاول أن يولي علياً أن يرشح علياً لكني أنا منعته احتياطاً للإسلام و حرصاً علي مصلحه الإسلام»35.


    و الحقيقه هي الاحتياط لمصلحه قريش التي أخلص لها ولاءه يوم كان خليفه و ذلك «حينما ميز بين الطبقات، حينما اثري قبيله بعينها دون غيرها من القبائل أتعرفون أي قبيله هي التي أثراها، هي قبيله النبي (ص)»36.


    و يذكر التاريخ عنه أنه «أعفي نصاري العرب في العراق من الجزيه … عمر بدل الجزيه بالزكاه، فأمر بأخذ الزكاه هذه البدره الصغيره جداً و الطفيفه جداً لم تنطبق إلا علي عشيره واحده لا أكثر من عشائر النصاري في العراق هذه البذره علي مر الزمن تأتي الشر المستطير لعل هذه البذره هي الأساس في كل الشرور التي عاشها المسلمون بعد هذا أو التي مني بها المسلمون نتيجه للكيانات القوميه التي زعزعت بعد هذا الإسلام و حطمت الرساله الإسلاميه، الكيانات القوميه العربيه، و الفارسيه، و التركيه، و الهنديه إلي غير ذلك من الكيانات القوميه الكافره التي أنشئت في العالم الإسلامي … أريد أقول بأن مهمه إنشاء مجتمع عالمي تحتاج إلي قياده تختلف عن طبيعه (الصلاه و الذوق) التي كانت موجوده في هؤلاء الخلفاء»37.


    و في مثل هذه الحاله كان من الطبيعي أن يتخلي غير العربي عن الإسلام و يتراجع عنه مادامت هذه الفكره الحاكمه هي الفكره العربيه المتعصبه و ليست الفكره الإسلاميه العالميه التي خوطبوا بها، و أسلموا علي أساسها «ألا أن الذي جعل الأمه لا تتنازل عن الإسلام هو أن الإسلام له مثل آخر قدم له مثل واضح المعالم، أصيل المثل و القيم، أصيل الأهداف و للغايات قدمت هذه الأطروحه من قبل الواعين من المسلمين بزعامه الأئمه (ع) من أهل البيت».38 بوصفهم الخط الذي يمثل الإسلام و قيمه العالميه تمثيلاً كاملاً.





    الأبعاد العالميه في المجال السياسي
    و حفلت مدرسه السيد الشهيد الفكريه بمعالجات عالميه عديده علي الصعيد السياسي نجدها موزعه في ترائه الفكري.


    في لمحته الفقهيه عن دستور الجمهوريه الإسلاميه نجده يحدد أن الدوله الإسلاميه تهدف في علاقاتها الخارجيه إلي حمل نور الإسلام، و مشعل هذه الرساله العظيمه إلي العالم كله، و الوقوف إلي جانب العدل و الحق في القضايا الدوليه وتقديم المثل الأعلي للإسلام من خلال ذلك، و مساعده كل المستضعفين و المعذبين في الأرض و مقاومه الاستعمار و الطغيان و بخاصه في العالم الإسلامي الذي تعد إيران جزءاً لا يتجزء منه39.


    و يقارن سماحته بين النظام الإسلامي و النظام الديمقراطي، فيقرر: أن «الأمه هي مصدر السياده في النظام الديمقراطي و هي محط الخلافه و محط المسؤوليه أمام الله تعالي في النظام الإسلامي»40.


    و واضح أن هذا الفرق يحكي جوهرياً و هو أن الأمه حينما تكون محط الخلافه فهي حلقه الوصل بين المستخلفين و سائر البشريه. و هذا يعني أنها حلقه عالميه في محتواها الأخلاقي، و الاجتماعي، و السياسي، فالخلافه مفهوم عالمي بطبعه و جوهره … بينما يعبر عن الأمه في الفكر الوضعي الحديث بأنها مصدر السياده.


    و واضح أن المقصود بالأمه هي الجماعه ذات النطاق القومي و الإقليمي الخاص، فهي سيده نفسها، و لا سياده لغيرها عليها. و بذا تكون فكره السياده فكره قوميه بجوهرها و طبعها.


    و يؤكد السيد الشهيد فكره الخلاقه مع شرح و تعميق أكبر في بحثه الرائع عن خلافه الإنسان و شهاده الأنبياء؛ حيث يقسم التاريخ البشري إلي مرحلتين: مرحله الإشراف السماوي من خلال المعصوم (ع) النبي أو الإمام (ع) و في هذه المرحله يكون المعصوم ممثلاً للخطين معاً، فهو يمثل خط الشهاده بما هو نبي أو إمام، و يمثل خط الخلافه بما هو إنسان، فهو شهيد و خليفه في آن واحد، و مرحله المرجعيه الرشيده التي يغيب عنها عنصر العصمه، فيكون بوسع الأمه أن تمارس و تمثل خط الخلافه علي أن يمارس المرجع الرشيد دور الشهاده عليها و كان الإسلام يحاول من خلال هذا التوزيع توفير ما يمكن توفيره من جو العصمه المفقود في هذه المرحله»41.


    و عن عالميه الدوله الإسلاميه كتب السيد الشهيد الصدر يقول:


    «إن استحقاق الدوله الإسلاميه للأرض نوعان: النوع الأول الاستحقاق السياسي، هو ما تستحقه الدوله الإسلاميه من الأرض باعتبارها الإداره السياسيه العليا للإسلام، أي باعتبارها المسؤوله عن الكيان و الموظفه الشرعيه عن تطبيقه و نشره و حمايته. و دائره هذا الاستحقاق ليست محدوده بحدوده؛ لأن الكيان السياسي للدوله الإسلاميه قائم علي مبدا فكري عام لا تختلف بحسابه الأراضي و البلاد و لذلك كان الإسلام المتمثل في الدوله الإسلاميه صاحب الحق الشرعي في الأرض كلها (و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) فيحق للدوله الإسلاميه إخضاع جميع أراضي العالم لها سياسياً، غير أن طريقه استعمال هذا الحق و شكل تنفيذه يختلف باختلاف طبيعه الأشخاص المستوطنين للأرض من حيث كونهم مسلمين، أو كفاراً غير ذميين …»42.


    و في هذا النطاق وجه سؤال إلي سماحته حول الفرق بين الفتح كفكره إسلاميه و بين الاستعمار الذي نندد به، و نشجبه كظاهره غربيه، فأجاب جواباً رائعاً خلاصته أن التوسع ظاهره مشتركه بين الإسلام و الغرب. فالغرب يقول: أنا أتوسع و أفتح و أسيطر بالإقناع أو بالقوه، و الإسلام يقول الشيء ذاته. و لكن أمرهما ليس واحداً، و المقياس فيهما هو أن يقيم كل منهما في ضوء القاعده الفكريه التي انطلق منها، فالتوسع المشروع هو التوسع الذي ينسجم مع القاعده الفكريه التي انطلق منها، و الغرب يقوم علي قاعده الحريه مقتضي هذه القاعده أن يحترم الغرب حريه الأمم و الشعوب الأخري، و لا يفرض نفسه عليها كمثل أعلي في مضمار الحضاره. حتي علي فرض أن يكون ذلك الادعاء حقيقه واقعه؛ لأن ذلك سيمثل نقضاً للقاعده التي تستند إليها الحضاره الغربيه.


    فإما أن يكون الغرب كاذبا في دفاعه عن الحريات و هدفه الحقيقي هو تمصير البلدان تحت لواءها. و إما أن الحريه غير مؤهله؛ لأن تكون قاعده فكريه و مثلا أعلي للحضاره الإنسانيه، فإن كان كاذبا كان التوسع عدوانا، و إن كانت الحريه لا تستحق أن تكون مثلا أعلي و قاعده فكريه في مضمار الحضاره فالتوسع الغربي لا يجد ما يبرره، خاصه و أن الحضاره الغربيه هي حصيله الإبداع الغربي و الذهنيه الغربيه. فيكون فرضها علي الأمم الأخري توسعا قوميا علي حساب هذه الأمم. فالمسأله مسأله توسع قومي أكثر مما هي مسأله حريه و ديقراطيه. و هذا ما يجعلنا نشجب الاستعمار، و نعتبره عدوانا علي الأمم و الشعوب.


    أما الإسلام، فقاعدته الفكريه هي التوحيد و التوحيد ينطوي في ذاته علي فكره قيمومه السماء علي الأرض، و التجسيد الطبيعي لهذه القيمومه هي أن يقوم أتباعه بإقرار سياده التوحيد علي الأرض كتكليف سماوي عليهم، و هكذا فالتوسع الإسلامي ينسجم مع القاعده التي ينطلق منها و لا ينطوي علي اعتداء؛ لأنه تكليف سماوي و ليس مبادره شخصيه من المسلم إزاء غير المسلم كما هو التوسع الغربي مبادره شخصيه من الغربي إزاء غير الغربي، و لا ينطوي علي توسع قومي؛ لأن التوحيد فكره سماويه و ليست نتاجاً بشرياً حتي إذا فرض علي الآخرين كان توسعاً قومياً43.





    الهوامش
    1. سوره البقره، الآيه 213.


    2. المدرسه القرآنيه، دارالتعارف، بيروت، ص 169.


    3. الأنبياء: 90.


    4. المؤمنون: 52.


    5. القصص: 4.


    6. المدرسه القرآنيه: ص 229.


    7. رسالتنا: ص 59.


    8. المرسل الرسول الرساله. تحقيق عبدالجبار الرفاعي ص 194.


    9. الحجرات: 13.


    10. المصدر نفسه، ص 186.


    11. المصدر نفسه، ص 190.


    12. اقتصادنا، ص 116.


    13. المصدر نفسه، ص 116-117.


    14. المصدر نفسه، ص 117-118.


    15. أهل البيت تنوع أدوار و وحده هدف، ص 39-40.


    16. الحديد: 26.


    17. الأنعام: 84.


    18. الإسلام يقود الحياه، ص 166.


    19. المصدر نفسه، ص 167.


    20. فلسفتنا، ص 200.


    21. اقتصادنا، ص 72.


    22. المدرسه القرآنيه، ص 139- 141.


    23. فلسفتنا، ص 339.


    24. المصدر نفسه، ص 400.


    25. اقتصادنا، ص 43.


    26. المجتمع و التاريخ، القسم الأول، مؤسسه البعثه ص‌ 18.


    27. المدخل إلي التاريخ الإسلامي، ص 493.


    28. اقتصادنا، ص 21- 22.


    29. أهل البيت تنوع أدوار و وحده هدف، ص 137- 138.


    30. المصدر نفسه، ص 93.


    31. المصدر نفسه، ص 89.


    32. المصدر نفسه، ص 82.


    33. المصدر نفسه، ص 91.


    34. المصدر نفسه، ص 29.


    35. المصدر نفسه، 139- 140.


    36. المصدر نفسه، ص 63.


    37. المصدر نفسه، ص 138- 139.


    38. المصدر نفسه، ص 79.


    39. الإسلام يقود الحياه، ص 15.


    40. المصدر نفسه، ص 18.


    41. المصدر نفسه، ص 169- 172.


    42. محمد الحسيني، الإمام الشهيد محمد باقر الصدر: ص 340.


    43. المجموعه الكامله لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، ج 13، ص 99.
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني