التهميش في العراق.. بين الوهم والحقيقة..!
جابر حبيب جابر
يقول ابن الاثير: «فلما مرض معاوية مرضه الذي مات فيه دعا ابنه يزيد فقال: «انظر أهل العراق فإن سألوك ان تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فان عزل عامل أيسر من أن يُشهر عليك مائة الف سيف»
هنا شخص الخليفة الأموي معاوية بعض سمات الشخصية العراقية، ففضلاً عن سرعة تقلب مزاجها وعدم رضاها عن الحكام، فأنها تتسم بميلها للزعامة والقيادة، وكما وصفها شاعر عراقي:
بلادي رؤوس كلهم.....
أرأيت مزرعة البصل
فهم كلهم رؤوس ويجدون انفسهم متساويين وكلهم اهل للقيادة والزعامة، ومن هنا جاء وسيظل الشعور بالتهميش في كل تكوين اجتماعي، سواء كان اثنياً أم طائفياً. ولذلك، وعندما يكثر الحديث عن التهميش السياسي، فالمقصود وفق المعايير العراقية يصبح الصراع على المناصب، اذ يغلف الطامعون غايتهم هذه بذرائع الدفاع عن حقوق الطائفة او القومية، ويستثمرونها لتحصيل المكاسب الذاتية.
فلا نسمع حديثا، حتى عند المتحدثين باسم الطوائف او التكوينات المجتمعية، عن خدمات للمدن التي تكثر فيها طوائفهم، او فرص عمل او غيرها. فهل يرفع حصول بعض افراد من اي طائفة على وظائف الصف الاول من شأنها؟ وهل ربح الاكراد بتعيين اربعة او خمسة وزراء منهم، ام انهم ربحوا عندما بدأ مواطنوهم يشعرون بنيلهم لحقوقهم، وبالمساواة وبالثقة بالمستقبل والتخلص من هاجس الخوف، ومن الشعور بالدرجة الادنى في المعاملة حتى انهم يقولون: اعطونا الرئاسة حتى ولو لفريق كرة قدم.
وايضاً القول بالتهميش يعود الى خطأ القياس، اذ ان القائلين به يقيسون الاوضاع المقبلة على الحالة السابقة، عندما كان القريبون من النظام وموضع ثقته يحصلون على الوظائف والعطايا، ومناطقهم تحظى بالرعاية والانفاق وحصتهم هي الاعلى والاكبر من ثروات الريع النفطي، لأن الدولة كانت تمسك بيدها لقمة العيش وتوزعها حسب الرضا والولاءات، لذا فإن البعض يظن ان التحول او ابتعاد السلطة عنهم، يعني طردهم من دائرة الحظوة واحلال آخرين محلهم.
ويتأتى الاعتقاد بالتهميش من عدم الادراك لما تعنيه الديمقراطية، من انها تقوم على قاعدة المواطنة ووحدتها المواطن كفرد، بعيداً عن انتماءاته الفرعية من قبلية وطائفية وغيرها، وايضاً من فهم خاطئ لمفهوم الاغلبية والاقلية، اذ ان الحديث عنها هو بمفهومها البدائي، اي اغلبية طائفة على اخرى، وليس بمفهومها السياسي، وهنا اتفق مع (كارلوس فالنزويلا) ممثل الامم المتحدة في الانتخابات العراقية، بأن الشيء الذي فاجأه بالعراق «ان المواطنين لا يهتمون كثيراً في معرفة كيفية حصول الأحداث والكيانات على المقاعد والفوز، فيهتمون بكيفية حصول الجماعات الاثنية أو الدينية السياسية، على المزيد من المقاعد. حيث من المفيد ان يدرك العراقيون ان هذه الانتخابات، غير مصممة كصراع بين الشيعة والسنة او بين المسلمين والمسيحيين او العرب ضد الأكراد، ليست لدى العراقيين فكرة واضحة عن أن الانتخابات تجري كسباق سياسي».
للاسباب السابقة بشكل عام ولاخرى ذاتية، يتم الحديث عن تهميش العرب السنة، والذي بدأ الشعور به عند سقوط النظام السابق، حيث ان الاكراد والشيعة كانت لهم قياداتهم التي تبلورت تأريخياً، وايضاً بسبب طول العمل في المعارضة، في حين ان السنة لم تنشأ لهم احزاب او قيادات قوية وراسخة وتشكل موضع اجماع، ولهذه المسألة جذور تأريخية ايضاً، اذ ان الزعامات التقليدية في العراق هي إما قبلية او دينية، وكون مناطق السنة بشكل عام ليست مناطق اقطاع واسعة، بقيت القيادات القبلية ضعيفة ومتشرذمة الا باستثناءات قليلة. وبسبب اندماج المؤسسة الدينية السنية مع الدولة ضعفَ تأثيرها وتميزها عند الجمهور، بجانب ان الموروث السني وطريقته التعبدية لا تضفي على رجال الدين القدسية التي تضفيها الشيعة عليهم، او على مشيخات الطرق الدينية عند الاكراد، مما اضعف ظهور قيادات او مرجعيات دينية.
بعد التغيير في نيسان 2003، وفي الوقت الذي كانت الاحزاب الشيعية والكردية تعمل ولها تأسيسها ولعقود، فأن بعض احزاب العرب السنة أُنشئت او أُعيد تأسيسها في ظل ظروف الفوضى والتشرذم. والملاحظ انه في ظل هكذا ظروف، لم يتم ادراك عوامل القوة عند السنة، او يتم تجنب عوامل الضعف عند الاخرين، فبدل ان يستفيدوا من الاسهام السياسي الذي أسس الدولة العراقية الحديثة، وقادها لعقود وافرز قيادات سياسية ذات خبرة وتجربة، وبعضها شكل استقطاب لكل الجماعات العراقية، بدأوا يبحثون عن ايجاد وتأسيس مرجعيات دينية، فكانت ان اتت لهم بكل السلبيات التي عانت منها الطوائف الاخرى.
والمفارقة أنه وفي حين ان الزعامات السياسية عند السنة قوية تاريخيا مع ضعف او غياب المرجعيات الدينية، فالشيعة تهيمن عليهم المرجعيات الدينية، مع ضعف او غياب للقيادات السياسية، بل حتى ان النخب السياسية غالباً ما تكون من خلفية دينية او مرجعية.
امام هذه الحقيقة فإن السنة لم يستفيدوا من ارثهم الذي قدموه للعراق، وتقاليدهم التي انتجت عددا من رجالات الدولة، الذين اسهموا في بنائه وتأسيس وديمومة دولته. وبدلاً عن ذلك، لجأوا الى ايجاد مرجعيات دينية أصبحت تشكل ضغطاً عليهم، وتحديداً لقرارهم، اذ انها لم تكتف بالجانب الديني، بل طالبت بمرجعية سياسية مما قاد الى اضعاف اكثر للقوى السياسية السنية الغضة. ومع ذلك فمن الغريب ان يترك المرء ما سبق له وأن أحسنه، وأعني المجال السياسي، ليذهب لملعب ومجال الاخرين الذين اتقنوه، كونهم يرتكزون في مرجعيتهم على ارث الف سنة، مع فكرة التقليد التي تلزم اتباعهم بالرجوع اليهم.
واخيراً، فالقول بالتهميش والشعور به، لا يعالجه الانكفاء والعزوف عن الحياة السياسية. وهنا لا أعني المشاركة من عدمها، بل القدرة على تقديم عناصر القوة والتنوير لديك، وان تطرح البرامج التي تخترق الطائفة والتكوين لتمثل مشتركات لكل المواطنين، وقبل كل ذلك يجب ان يتم التخلص من عقدة الارتباط بالنظام السابق، إذ لا يمكن وبأي حال ان يُحسب صدام على السنة، لأنه ووفقاً لهذا المنطق، فإن تجربة شاه إيران يجب ان تحسب على الشيعة. ومن هنا، وفي المقابل، يجب أيضاً على البعض ان يفك الارتباط مع الجماعات ومع المشروع المسلح، ليتم الاحتكام الى الممكنات المسلمة والقبول بها.