الإسلام يقرّ المبادىء العامة لحقوق الإنسان

فضل الله: الإدارة الأميركية هي الأكثر عدوانية في التعامل مع خصوصيات الشعوب


سئل العلامة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله، في ندوته الأسبوعية، عن المفهوم الإسلامي لحقوق الإنسان، وكيفية التعاطي مع القواعد الدولية في هذا السياق؟

فأجاب: "لعلّ المطّلعين على المبادى‏ء العامة للقانون العالمي لحقوق الإنسان يلاحظون تلك الصلة الوثيقة بين هذه المبادى‏ء، وبين الأسس والمفاهيم الإسلامية في كثير من تجليات هذا الإعلان، بل إنّ الذين ساهموا في ولادة هذه الوثيقة أشاروا إلى حضور القيم والمفاهيم الإسلامية وقيم الرسالات السماوية فيها على أساس أن الدين وخصوصاً الدين الإسلامي يحتوي على المخزون الأبرز في مجالات احترام حقوق الإنسان والتشريع لحمايتها وصونها على جميع المستويات...

وقد أكّد الإسلام حرية الإنسان أمام العالم وفق قاعدة: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"، أو "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". وأشار إلى أن الإبداعات الكبرى للبشرية إنما تنطلق من احترام حرية الإنسان في المعتقد والتفكير والاقتناعات، وكذلك في إعطائه حقه وفرصته في التعلم وفي الحياة الحرة الكريمة، وفي احترام حقوق المرأة وفي رفض استعباد البشر والعمل على إنهاء مسألة الرقّ، وكذلك في رفض التضييق على البشر وتعذيبهم وسجنهم دونما وجه حق، وفي إفساح المجال للأفراد والجماعات لكي يعبروا عن اقتناعاتهم ومواقفهم بالأساليب الحضارية بعيداً عن ضغط الضاغطين وتعسّف المتعسّفين.

ولكن مشكلة البشرية وخصوصاً في هذه المرحلة لا تكمن في قلة التشريعات والمفاهيم التي تتحدث عن ضرورة احترام حقوق الإنسان وحمايتها، بل في السلطة الراعية لهذه الحقوق على مستوى الدول، وكذلك على المستوى العالمي، ولأن السلطات المهيمنة في العالم، وخصوصاً الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية، عملت على مصادرة حقوق الإنسان تحت عنوان صون هذه الحقوق، وسعَت لاسترقاق الشعوب واستعبادها تحت عنوان رفض التمييز ومحاربة الذين يميزون بين البشر على أساس عرقي أو ديني، إلى المستوى الذي صادرت فيه حقوق أمم وشعوب بأكملها تحت هذا العنوان، وهي تتحرك في هذه الأيام لمصادرة البقية الباقية من حقوق الإنسان العربي والمسلم تحت عنوان رفض معاداة السامية، وقد يصل بها الأمر إلى مستوى مصادرة سامية العرب والمسلمين لحساب السامية اليهودية التي يُراد لها أن تختصر السامية في مسألة حماية إسرائيل، في الوقت الذي يمتنعون عن تشريع قانون ضد معاداة الإسلام والمسلمين.

لقد تنبّه الإسلام منذ البداية إلى أن مفهوم حقوق الإنسان لا يمكن اختصاره بجملة من التشريعات والمفاهيم التي تقدم كنموذج قيمي في ساحة القيم العالمية. ولذلك مزج بين مفهوم حقوق الإنسان وحقوق الأمة على أساس أن القيم تحتاج إلى نظام يحميها وإلى قوة للعدل لكي تدافع عنها، وأكد أن الدين جاء لخدمة الإنسان وليس العكس، وأفسح في المجال أمام الأمم والشعوب لكي تتعارف وتتواصل لحفظ هذه القيم وصونها ورفض التعاون والتحالف على أساسٍ من الإثم والعدوان.. ولقد كنا نؤكد دائماً أهمية احترام القواعد الدولية المعاصرة لحقوق الإنسان والتي لا تتناقض مع المفاهيم الإسلامية، سواء في ما يتعلق باحترام حقوق الشعوب في تقرير مصيرها أو احترام حق الجيرة أو احترام المعاهدات والمواثيق التي تحمي حقوق هذه الشعوب وتصون مستقبلها وتضمن رخاءها، ولكننا كنا ولا نزال نحذر من أن معظم هذه القواعد جرت مصادرتها لكي لا تأخذ طريقها للتطبيق في واقعنا العربي والإسلامي أو في العالم "النامي" وخصوصاً في الواقع الفلسطيني وبخاصة في ما يتعلق بحقوق التنمية وتقرير المصير...

إن الدول التي تقدم نفسها على أساس أنها الساهرة على حقوق الإنسان في العالم هي التي تمارس أكثر الأدوار وحشية لقهر حقوق الإنسان، وهذا ما يحصل على صعيد الحركة السياسية والأمنية التي تقودها الإدارة الأمريكية في احتلالها للعراق وما فعلته قبل ذلك في أفغانستان وما تقدمه من رسائل ضمانات ومن دعم أمني وعسكري وسياسي لإسرائيل لكي تصادر حقوق الإنسان الفلسطيني بما يتناقض كلياً مع قرارات الأمم المتحدة التي كانت هي وراء صوغها وصناعتها في مدى ما يقارب من خمسين سنة. وإن الإدارة الأمريكية هي من أكثر الإدارات في العالم اعتداءً على الخصوصيات الدينية والوطنية والحضارية للشعوب والأمم من خلال سعيها المستمر لإخضاع هذه الخصوصيات لحساباتها السياسية ومشاريعها للهيمنة الإمبراطورية على العالم، وهي التي منعت مجلس الأمن من أن يتحول إلى قوة رادعة لحساب السلام العالمي وحوّلته إلى سلطة لقهر الشعوب ومصادرة حقوقها، وعملت من خلاله للضغط على الدول الصغرى، واستخدمت قوته القانونية والسياسية للإفساح في المجال أمام جيوشها للاستيلاء على ثروات الدول وخصوصاً الثروات العربية والإسلامية. ثم تركت الأبواب مشرعة أمام إسرائيل لكي تعبث بهذا الواقع من خلال هذا الاستغلال الوحشي وهذه الهيمنة العدوانية الأمريكية على الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

إن أمريكا هذه هي نفسها التي تغاضت عن كل انتهاكات حقوق الإنسان التي قامت وتقوم بها إسرائيل، والتي قام بها صدام حسين في السابق ضد شعبه وضد إيران والكويت، لأن هذه الانتهاكات كانت من سنخ الانتهاكات الأمريكية وبمباركة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ولأنها كانت السبيل الذي مهّد الأرض أمامها للدخول المباشر إلى ساحة النفط والسيطرة المباشرة على الثروات النفطية في العراق وغيره. إن أمريكا التي ترفع شعارات حقوق الإنسان لا تتعرف على حقوق الإنسان المستضعف وخصوصاً الإنسان العربي والمسلم، ولا تأخذ في الحسبان إلا حقوق إنسانها وإلا ما تدعيه من حقوق للإسرائيليين، وهي العقبة الكبرى أمام شرعة حقوق الإنسان، لأنها المنتهك الأكبر لهذه الحقوق أو المحرض الأكبر على انتهاكها ومصادرتها...

إننا، ومع ذلك كله، وانطلاقاً من القواعد الإسلامية والإنسانية لحقوق الإنسان، ندعو إنساننا العربي والمسلم إلى احترام حقوق الإنسان الغربي أو الإنسان غير العربي وغير المسلم أو إنسان الدول الكبرى، لأننا نرى أن الظلم الذي ينطلق من الآخرين لا يبرر لنا سلوك طرق وأساليب الانحراف لظلم الشعوب وقهرها، ولكننا ـ في الوقت عينه ـ نرفض كل سعي لسحق حقوقنا تحت رحمة مصالح الدول الكبرى، وندعو شعوبنا إلى التأسيس لقوة الحق والعدل التي تنطلق من وحدتها الداخلية لحماية إنسانها وكذلك احترام حقوق الإنسان الآخر، لأننا في عالم لا يُصان الحق فيه إلا من خلال القوة التي تحميه، فلا حياة لهذا الحق إلا من خلال القوة، القوة العاقلة، والقوة الرادعة".