وتسأل أن هل قام فينا العراق ؟
زهير كاظم عبود

ستشرق الشمس كعادتها ، غير أن أشعتها تختلف هذه المرة ، وستزحف أيام نيسان تتداخل مع أيام آذار تدعو الطبيعة للاحتفال السريع الذي يتزامن مع احتفال الأرض والورود والأشجار ، وتزداد البلابل تغريداً والعصافير رقصاً .
وتنطلق زغاريد ممتلئة بالفرح الممزوج بالحزن والدموع ، أنها دموع الفرح التي اختزنتها نسوة أهل العراق دهراً من الوجع الآدمي وزمنا من القهر والعذاب والصمت والخوف والرهبة والغياب والحزن والسكون .
زغاريد تختلط ببعض تشق عنان السماء لاتقف عند حد و لا تطغي عليها أصوات رصاص الفرح والابتهاج ، عباءات تتطاير فرحاً ونسوة يرقصن في الشوارع وظفائر تهتز كما تهتز أجساد الشابات اليافعات وشيوخ تتلاقى لحاها بالقبلات العراقية الحارة والتهاني والدعاء والجلوس على حافة الشوارع نتمتلأ بالنحيب العجيب .
أين كانت هذه الجموع ؟ وأي شيء وحدها وجمعها في وقت واحد ؟ الهواتف كلها تعلن فرحها فلا تكاد تسمع غير نحيب العراق وهلا هل الفرح والرقص الذي أحال الرجال الى قطع من العرق والتعب الأسطوري ، وشابات يوزعن الماء العراقي الذي عاد صافياً من دجلة والفرات ، ونقياً مثل سماء العراق ، أضرحة الأئمة والأولياء التي أمتلأت بالنذور المنذورة لساعة الخلاص من الطاغية لا تتسع لها ساحة الصحن ولاباحة البنايات ، الأدعية والزيارات صارت بصوت عالي يختلف عن سابقتها ، رحماك يا الله ياكاشف الضر وقالب الشر ومنزل الخير ، يا من تعز من تشاء وتذل من تشاء ، صلاة غير محدودة الركعات ، وسجدات طويلة ممتلئة بدموع النذر والشكر على الخلاص من الزمن المرير الطويل والغمة الكبرى والليل الذي كان لابد أن ينجلي .
شموع أستمرت تجري فوق تموجات ضفاف دجلة والفرات ليلاً ونهاراً فوق كرب النخيل والخشب وفوق أقراص روث الحيوانات المتيبس ، ثمة من ينذر يرمي حبوب الرز والشعير للطيور والأسماك ، أستحالت الأنهر الى أعراس ضوئية تزاحم القدرة الكهربائية التي ما أنطفأت فوق سماء المدن ، ثمة من يرش ماء الورد على رؤوس الناس الرائحة كأنها عطر أجنبي ، أين كانت هذه العطور والعبقات قبل الآن ؟
بيوت تنادي على عابري السبيل لحضور مآدب الطعام ثواباً ونذراً ، الناس تهيم في شوارع المدن تريد أن تعبر عن فرحها واندهاشها ، شلة تستمع الى من يتحدث عن تفاصيل نهاية الطاغية ، شلة أخرى تستمع الى تفاصيل يبثها التلفزيون ، ومواطن فقير قرر أن يوزع ما يملكه من حاجيات على الناس مجاناً ، وسط الشوارع امتدت الحلويات والبسكت العراقي وبجانبها عصير الفواكه مجاناً لعابري السبيل .
رجل يفتح ذراعيه للهواء ويقبل كل من يلتقيه ، وثمة من يشعل كل ملابس الحروب التي جمعها الناس بأكوام مشتعلة وسط الحارات الشعبية ، وأمراءة تركض مشياً على قدميها الى قبور النجف تريد أن تهنيء أولادها المعدومين بعيد النصر على الطاغية !! فتقول لها الناس : ولكنها بعيدة يا خالة !! تقول ومع هذا نذر علي أن أصل حتى ولو في الرمق الأخير لأكون أول من يخبرهم بالبشارة فقد أخذت ثأرهم وردت عافيتي وحيلي .
فوق السطوح ومع النسمات الباردة يتواصل دعاء الشكر وصلاة الشكر وهلاهل الأمهات والأخوات ، وصحف مختلفة ممتلئة بالعرق يحتفظ بها الناس ، وثمة من يدعو للتفرج على أقبية دائرة الأمن في المدينة التي أصبحت مفتوحة للناس لأول مرة ودون بطاقات دخول .
أجراس الكنائس ترقص على غير عادتها ودون توقف وتنطلق مكبرات الصوت بالآذان تدعو الناس بفرح للصلاة ، كيف أستحال العراق لبيت واحد وعائلة واحدة ؟ كيف عادت الحياة في عروق العراق ومفاصل أيامه التي نشفت من الظلم والقهر وغياب الوطن عن الدنيا وتوقف عجلة الحياة في العراق ، أزدحام كبير وأرواح هائمة ترفرف فوق الرؤوس تسألنا هل قام فيكم هذا العراق ؟ فنقول لهم بلغة الواثق من نفسه هذه المرة : أجل قام فينا العراق !!

(: