كيــــــف تعمـــــــــــل مؤسســـــــــات الفكـــر في أميركـــــــا؟ مؤسسة بروكنغز نموذجا
ستروب تالبوت
يقول ستروب تالبوت، رئيس مؤسسة بروكنغز، إن هدف مؤسسة بروكنغز، وهو هدف جميع مؤسسات الفكر والرأي الأخرى، هو "تزويد العاملين في الوسط السياسي بتحليلات واستنتاجات لاستخدامها قاعدة لتطوير سياسات جديدة، ولتعديل أو إنهاء العمل بسياسات قائمة." ويضيف: "إن أكثر مُهماتنا صعوبة هو التحديد المبكّر للقضايا الجديدة والمهمة التي سوف تواجه بلدنا والعالم في المستقبل"، ومن ثم لفت نظر صانعي السياسة وعامة الناس إليها. و(المدى) إذ تنشر هذه المادة، ما زالت تتساءل: أين نحن من مؤسسات الفكر والرأي ومراكز البحث التي ترسم سياسات الدول، وتعالج مشكلاتها وأزماتها؟ وتتفاقم حدّة سؤالنا، وتبرز راهنيته بوضوح، في ظل هذا الكم الهائل من القضايا والملفات العراقية العالقة!
إن الأفكار هي المواد الأولية الخام التي تعمل من خلالها مؤسسات الفكر والرأي. فمؤسسات الفكر والرأي، وبعبارة أنسب: هيئات أبحاث السياسة العامة، تُقيّم صحة ومنفعة الأفكار التي تُشكّل قاعدة أية سياسة، وتُطوّر أفكاراً جديدة قد تقوم عليها السياسات في المستقبل. وقد وصف جيمز آلن سميث، المؤرخ الذي ألّف عدداً من الكتب حول مؤسسات الفكر والرأي، هذه المؤسسات، في عنوان أحد كتبه، بـ "وسطاء الأفكار".
ومؤسسة بروكنغز هي إحدى أقدم مؤسسات الفكر والرأي في الولايات المتحدة. وقد انبثقت مؤسسة بروكنغز الحالية عن مؤسسة الأبحاث الحكومية التي أسست في واشنطن سنة 1916 على يد رجل أعمال ومحسن من مدينة سانت لويس يدعى روبرت بروكنغز، الذي أسس لاحقاً منظمتين متصلتين ببروكنغز هما مؤسسة الاقتصاد، وكلية الدراسات العليا للاقتصاد وشؤون الحكم. وقد أسس روبرت بروكنغز تلك المنظمات لأنه رأى أن مؤسسات الأعمال كانت تستفيد في الجزء الأول من القرن العشرين من المجالين العلميين الحديثين نسبياً، أي الأبحاث الاقتصادية والإدارة التنظيمية، وأعتقد أن الحكومة يمكنها أن تستفيد منها هي أيضاً. وقد تمّ دمج منظمات الأبحاث الثلاث هذه سنة 1927 لتشكّل مؤسسة بروكنغز، التي ركزت في بداية الأمر على السياسة الداخلية الاجتماعية والاقتصادية. ولم تضف الدراسات الدولية إلى برنامج أبحاث بروكنغز إلاّ بعد الحرب العالمية الثانية.
وتتشكل مؤسسة بروكنغز من ثلاثة ميادين رئيسية للأبحاث: دراسات السياسة الخارجية، والدراسات الاقتصادية، ودراسات شؤون الحكم، علماً أن هذا التمييز بين الدوائر يقل وضوحاً بشكل متزايد مع تناول المؤسسة القضايا التي تتشابك فيها المعارف والعلوم المختلفة، وهي القضايا التي تشكل الصفة المميزة لعالم العولمة الذي نعيش فيه. كما تضم هيكليتنا التنظيمية أيضاً عدة مراكز أبحاث تُركز اهتمامها على مناطق مثل الشرق الأوسط، أو على قضايا وظائفية مثل سياسة التعليم.
قال روبرت بروكنغز في أحد الأيام: "إن أساس جميع نشاطات بروكنغز هو الاعتقاد بضرورة وضع أطر دقيقة صحيحة ومتجردة للقضايا، وتقديم الأفكار دون إيديولوجيا". وقد زودت مؤسسة بروكنغز، منذ أيامها الأولى، صانعي السياسة وعامة الناس بأبحاث قابلة للتطبيق في التوقيت المناسب، تستهدف استنباط الحلول لأكثر التحديات التي تواجه الولايات المتحدة تعقيدا. وقد ادت الأفكار الواردة من بروكنغز، خلال العقود الماضية، دوراً أساسياً في حملات التعبئة والحشد للحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي تكوين العملية اللازمة لإنشاء موازنة الحكومة الفدرالية، ونظام الخدمة المدنية، والضمان الاجتماعي، وفي تطوير مشروع مارشال، وفي التحكم بالأسعار خلال الحرب العالمية الثانية، وفي استخدام العقوبات لمعاقبة الدول المارقة والضغط عليها، وفي تنظيم مجلس الأمن القومي وهيكليات السياسة الخارجية والدفاعية الأخرى، وفي الالتزام بتعزيز التنمية في البلدان الأكثر فقراً، وفي تطوير سياسة الولايات المتحدة إزاء روسيا في فترة ما بعد العهد السوفياتي، فضلا عن الكثير من السياسات الأخرى.
وقد تمّت، عقب هجمات الحادي عشر من أيلول، إعادة تركيز الأبحاث لدينا، لتوجيهها بشكل أكبر نحو إنتاج الأفكار والتصورات التي ستقود إلى تطوير أو إعادة النظر في السياسات المتصلة بالعلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي، والتوازن الصحيح بين التيقظ في مواجهة الإرهاب وحماية الحريات المدنية، والنزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، والحاجة إلى تعديل الدبلوماسية التقليدية التي تقوم على العلاقات بين الدول لكي تأخذ بالاعتبار الأطراف الجدد من خارج إطار الدولة، والنقاش حول الحرب الاستباقية أو الوقائية للتصدي لتهديدات الإرهابيين والدول التي تساند الإرهاب، وتطوير استراتيجية دولية طويلة الأمد لعالم ما بعد الحرب الباردة، ومستقبل الرقابة على التسلح، وقضية نظام الدفاع بواسطة الصواريخ.
وقد خلص آندرو ريتش، أستاذ العلوم السياسية الذي درّس موضوع مؤسسات الفكر والرأي، في تقرير أعده قبل خمس سنوات إلى أن "مؤسسات الفكر والرأي تبقى مصدراً رئيسياًً للمعلومات والخبرات بالنسبة لصانعي السياسة وللصحفيين. ويتم الاعتماد على تقاريرها بشكل منتظم لإرشاد و/أو مساندة أعضاء الكونغرس في جهودهم التشريعية، والصحفيين في وضع تقاريرهم".
وقد وجد ريتش، في دراسة أعدها حول الموظفين العاملين مع أعضاء الكونغرس والصحفيين الذين يغطون أعمال مجلسي الشيوخ والنواب، أن 90 بالمئة من هؤلاء يرى أن مؤسسات الفكر والرأي "لها بعض التأثير أو تأثير كبير" في السياسة الأمريكية المعاصرة. وقال ريتش إن مؤسسة بروكنغز تُعتبر "الأكثر مصداقية" بين المؤسسات الثلاثين المذكورة في دراسته.
وكثيراً ما يشار إلى بروكنغز على أنها "جامعة بلا طلاب"، فالعديد من كبار باحثينا، الذين يبلغ عددهم خمسة وسبعين، هم من حملة الشهادات الجامعية العليا، وهناك عدد لا بأس به منهم ممن كانوا أعضاء في هيئات تدريسية جامعية. أما أبحاثهم وكتاباتهم فتخضع لعملية مراجعة من قبل علماء.
ويطلق على بعض الزملاء في بروكنغز لقب "باحث من العاملين" أو "باحث صاحب مهنة". وهؤلاء هم الباحثون الذين يقبلون بين الحين والآخر مناصب حكومية، إذ يستطيعون اختبار مدى صحة استنتاجاتهم الأكاديمية في العالم الحقيقي، فضلا عن المسؤولين الحكوميين السابقين الذين يأتون إلى بروكنغز بعد فترة قضوها في الخدمة العامة، إذ يمكنهم استخدام خبرتهم في الحكومة لإضافة وجهة نظر عملية إلى أبحاثنا الأكاديمية.
لقد خدم أكثر من اثني عشر من "الباحثين العاملين" في بروكنغز، في وزارة الخارجية أو في مجلس الأمن القومي مثلا، ومن بينهم جيمز ستاينبرغ، نائب رئيس ومدير برنامج دراسات السياسة الخارجية في بروكنغز (نائب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض ومدير فريق عمل التخطيط السياسي في وزارة الخارجية سابقاً)، وهلموت سوننفلدت (من كبار أعضاء فريق عمل مجلس الأمن القومي في إدارة نيكسون، والمدير السابق لمكتب الأبحاث حول الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية في وزارة الخارجية)، ومارتن إنديك مدير مركز صبان لسياسة الشرق الأدنى التابع لمؤسسة بروكنغز (مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة مرتين في إسرائيل). ولدى أعضاء بروكنغز خبرات أيضاً في جميع الفروع الحكومية الأخرى، مثل عضو الكونغرس السابق بيل فرنتزل (جمهوري/ولاية مينيسوتا)، وهو أحد خبرائنا المقيمين المتخصصين بسياسة الضرائب والتجارة الحرة والموازنة.
وجمع المعهد الوطني للأبحاث المتقدمة في طوكيو لائحة تضم 3500 مؤسسة فكر ورأي في العالم، نصفها في الولايات المتحدة. ولا تحافظ كل منظمات الأبحاث السياسية هذه على جو أكاديمي بحت، ولا يشترط فيها أن تكون "مستقلة وغير حزبية" في تحليلاتها، كما هو مفروض في بيان رسالة بروكنغز. فبعض مؤسسات الفكر والرأي سياسية بصورة أكثر علنية. وعدد منها يُركّز على قضية واحدة أو على عدد صغير من القضايا المترابطة ببعضها. ولدى قسم منها برنامج عمل إيديولوجي أو نهج يتبين بوضوح أنه حزبي، وهي تحاول الضغط على صانعي السياسة لتطبيق برنامجها.
غير أن جميع مؤسسات الفكر والرأي هذه، سواء صُنّفت على اليسار أم اليمين أم الوسط، مثل بروكنغز، تستهدف نشر أبحاثها وتوصياتها بين صفوف صانعي السياسة، ووسائل الإعلام، والمؤثرين في الرأي العام، والمنظمات المهتمة بتلك الأبحاث، وعامة أفراد الشعب. أما الهدف الذي تسعى بروكنغز وجميع مؤسسات الفكر والرأي الأخرى إلى تحقيقه، والذي تنظم هذه النشاطات في سبيله، فهو تزويد العاملين في الوسط السياسي بتحليلات واستنتاجات، لاستخدامها كقاعدة لتطوير سياسات جديدة ولتعديل أو إنهاء العمل بسياسات قائمة.
ويتم نشر التحليلات للسياسات والتوصيات الصادرة عن بروكنغز بعدة أشكال. فاستنتاجات العديد من برامج الأبحاث تقدم في كتب وتقارير. لكن، عندما أدركت بروكنغز قبل سنوات قليلة، أن صانعي السياسة والعاملين لديهم لا يجدون دائماً الوقت الكافي لقراءة الكتب والتقارير الطويلة، بدأت أيضاً بنشر ما توصلت إليه في تقارير موجزة، سهلة المنال، سُمّيت "رسائل سياسية". وقد تبعتها في ذلك مؤسسات فكر ورأي أخرى.
وكثيراً ما يقوم الباحثون في بروكنغز بإطلاع صانعي القرار على استنتاجاتهم بصورة أكثر مباشرة، من خلال الإدلاء بشهاداتهم أمام لجان الكونغرس، والاستشارات الخاصة، والاجتماعات مع الموظفين في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبإطلاع جهات غير حكومية يهمها الأمر على تلك الاستنتاجات من خلال المنتديات، ومناقشات الطاولة المستديرة، وغيرها من النشاطات العامة الأخرى.
وكثيراً ما يتأثر صانعو السياسة بالرأي العام، وكثيراً ما يتأثر الرأي العام بدوره بما يُنشر في وسائل الإعلام. وفضلا عن ذلك، فإن الكثير مما يعرفه صانعو السياسة ومستشاروهم والجمهور حول القضايا السياسية يصل اليهم عن طريق وسائل الإعلام. فليس من المستغرب بالتالي أن يكرس الكثير من الباحثين، في بروكنغز وغيرها من مؤسسات الفكر والرأي، قدراً لا بأس به من جهودهم لعرض أفكارهم واستنتاجاتهم عبر وسائل الإعلام. ويتم ذلك على شكل مقابلات تلفزيونية وإذاعية وصحفية، ومقالات رأي في صفحات تعليقات المحررين في الصحف، وجلسات وتقارير إعلامية للصحفيين، وكلمات أو خطب في المنتديات العامة، ومقالات في المجلات العلمية أو المتخصصة. وقد قامت مؤسسة بروكنغز، قبل أكثر من سنة، بإنشاء استوديو تلفزيوني وإذاعي خاص بها، لتسهيل المقابلات مع وسائل الإعلام. كما تنشر بروكنغز وغيرها من مؤسسات الفكر والرأي أيضاً، كتيبات تعرف باسم "دليل وسائل الإعلام"، لمساعدة أي صحفي في العثور على علماء متخصصين في القضية السياسية التي يكتب عنها، وإجراء مقابلات معهم.
وتبلغ الميزانية التي تخصصها بروكنغز لتمويل كل هذه الأبحاث والتحليلات ونشر النتائج وبرنامج التواصل واسع المدى، فضلا عن الموظفين الأساسيين لديها، نحو 40 مليون دولار أمريكي سنويا. ويتأمن هذا المال للمؤسسة من هبة موقوفة خصّصها في البداية المؤسس روبرت بروكنغز، ومن منح وهبات تقدمها المؤسسات والشركات والأفراد، ومن مصادر مثل دار مؤسسة بروكنغز للطباعة والنشر التي تصدر أكثر من 50 كتابا في السنة، ومن مركز تعليم السياسة العامة، الذي ينظم ويدير حلقات دراسية لكبار موظفي الحكومة ومديري الشركات. وهناك قواعد مفصّلة تضمن أن لا يكون للذين يقدمون التمويل أي تأثير في تصميم ونتائج الأبحاث التي تقوم بها بروكنغز.
إن أكثر مُهماتنا صعوبة هو التحديد المُبكّر للقضايا الجديدة والمهمة التي سوف تواجه بلدنا والعالم في المستقبل. ومن ثم، وحسب تقاليد بروكنغز، نركز جهود نشاطاتنا العلمية على لفت انتباه صانعي السياسة والجمهور إلى تلك القضايا، وعلى تزويدهم بالأبحاث والتحليلات الصائبة، وتغذية النقاش بالمعلومات، وتقديم أفكار وتوصيات بنّاءة.
وكما كتب المؤرخ جيمز آلن سميث في عرضه تاريخ مؤسسة بروكنغز، بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها "عندما لم يكن متوفراً إلا القليل من الباحثين المستعدين لدراسة مشكلة في مرحلة الانبثاق، عملت بروكنغز في كثير من الأحيان على إعادة توجيه الاهتمام العلمي، وعلى صياغة وتشكيل شبكات جديدة من الخبرات، سواء في ما يتعلق بالموارد المالية الحكومية وتنظيمها، أم اقتصادات الدول الآسيوية، أم إدارة ومراقبة الأسلحة النووية. والحقيقة هي أن أفضل اختبار لنجاح ونفوذ المؤسسة على مدى طويل لا يكمن في تأثيرها المباشر في قرارات سياسية معينّة... بل في قدرتها على تكوين شبكات من الخبراء بطرق تواصل معه استباق الأحداث وتوقع المشكلات التي سيواجهها البلد، حتى قبل أن يتم رسم ملامح النقاش السياسي بشأنه".
وقد لاحظ صانعو السياسة الحكوميون كثيرو الانشغال، القيمة الإضافية التي يحصلون عليها من قدرة بروكنغز على الجمع في دراساتها وتوصياتها بين تحليلات الاتجاهات طويلة الأمد والتوصيات الخاصة بالسياسات قصيرة الأجل. ومع أن العديد من القضايا التي نعالجها اليوم لم يكن وارداً في تصور روبرت بروكنغز سنة 1916، إلا أن أسلوب التحقيق غير الحزبي في السياسات بقي ثابتاً لم يتغير منذ أسست بروكنغز.
/المدى العراقية