(المشروع الشيعي) في وصايا الشيخ محمد مهدي شمس الدين
هي، على ما قدّمها صاحبها، "وصايا سياسية واجتماعية وثقافية وعلمية، لعل الله يجعل فيها نفعاً للناس عامة". وهي، على ما قرأها غسان توينبي، "وثيقة فذة، تفجر المُسارّات فإذا بها عصارة اختبار الضمير والمضمور بمعايير الواقع، ثم اختبار القول الحق بمحك رياح العذابات وعواصف الحروب". وهي، إلى هذا وذاك، شهادة رجل تعهد بالولاية المعنوية والعناية الأبوية مراكب المسلمين الشيعة في لبنان على مدى اثنتين وعشرين سنة كانت حافلة بالاضطراب والمتغيرات في عالم شديد الاضطراب والتغيّر. هذا إلى مكانته العلمية المرموقة في دنيا العرب والمسلمين باعتباره فقيهاً مجدداً بامتياز، في زمن قلّ فيه الفقه والاجتهاد، ناهيك عن التجديد.
والحال كذلك، فان هذه الوصايا تتمتع بقيمة كبرى ذاتية من حيث نسبتها إلى الرجل والمكانة والتجربة، كما تأتي في الوقت عينه بمثابة "نقطة اعتراض كبرى في المنهج والنظام" على ما يجري، أو ما يراد له أن يجري، من أحوال الشيعة. وتحفزاتهم هنا وثمة... لكأنها بيان حار يردّ على أحداث جارية! ، ففي أثناء قراءة هذه الوصايا تشخص تلقائياً أمام أعيننا كل المسائل الخلافية العميقة التي ما برحت تخض اللبنانيين منذ شهور، وبصورة محمومة تنذر بأشر العواقب. نعلم أنها خلافات قديمة مستمرة، ولكنها دُفعت في الآونة الأخيرة إلى بؤرة الوجع اللبناني بأسلوب غريب الفجاجة، ودعاوى افترائية لا تعبأ بما يترصد الوطن من خطر وجودي يطاول الفكرة والكيان والمعنى، بل ضاربة بهذا المعنى عرض الحائط في سبيل مصالح نثرية تكونت على جلد الحالة اللبنانية في حقبة مريضة لمّا تنته فصولاً بعد...
وبعد، فما هي الصورة التي يرسمها الإمام في وصاياه لما "ينبغي" أن تكون عليه حال الشيعة في مختلف البلدان، ولما ينبغي أن يوجه طاقاتهم على صعيد الحراك الاجتماعي، وفي إطار الاجتماع السياسي؟ .
أبرز ملامح الصورة يأتي في وصية أولى إلى عموم الشيعة في مختلف الأوطان "أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم ، وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً - يميّزهم عن غيرهم تحت أي ستار من العناوين، من قبيل إنصافهم ورفع الظلامة عنهم، أو من قبيل كونهم أقلية من الأقليات " ، ويضيف " ولا يجوز ولا يصح أن يحاولوا - حتى أمام ظلم الأنظمة - أن يقوموا بأنفسهم وحدهم وبمعزل عن قوى أقوامهم بمشاريع خاصة للتصحيح والتقويم، لأنّ هذا يعود عليهم بالضرر ولا يعود على المجتمع بأي نفع " ، ليختمها بالقول " وأكرر وصيتي الملحة بأن يتجنب الشيعة شعار حقوق الطائفة والمطالبة بحصص في النظام " .
هذا الكلام فصيح في النهي عن اختراع أي مشروع خاص "للشيعة العرب في كل وطن من أوطانهم، وللشيعة غير العرب خارج إيران" ، لماذا هذا الاستثناء الإيراني؟ " لأن إيران هي دولة قائمة بنفسها"، هكذا يجيب الإمام، ولا يزيد ، ولعل هذه المسألة لا تحتاج إلى مزيد من القول فيها، لأن الشيعة الإيرانيين لا يواجهون في الواقع إشكالية "اندماج وطني" في بلد متشيّع بأكثريته الساحقة ، ولنقُل إن سجال الإمام مع الحال الإيرانية يأتي في مجال آخر، غير هذه الوصايا، وفي صدد قضية أخرى تتعلق بما هي القاعدة الشرعية التي ينبغي أن يقوم عليها نظام الحكم الإسلامي في هذا العصر: هل هي "ولاية الفقيه المطلقة على الأمة"، كما يمارس الخط الشيعي - الخميني في إيران، أم هي "ولاية الأمة على نفسها"، كما دعا الإمام شمس الدين وبسط دعوته هذه في بعض أبحاثه الفقهية؟ .
ولكن كيف كان يرى الحل للشيعة العراقيين، بدليل قول الإمام "إن وصيتي بالنسبة إلى هذا الموضوع لا تشمل العراق" ، كان يؤكد في الوصية نفسها أن الحركة السياسية المعارضة التي كانت قائمة في العراق ضد نظام صدام المقبور "ليست في الحقيقة حركة الشيعة، وإنما هي حركة الشعب العراقي " ، ثم يوجه كلامه للحركات الشيعية " نعم، أقول للقوى الشيعية العراقية التي تبحث عن مخرج انه لا يجوز أن تجد مخرجاً شيعياً، ولا يجوز أن تبحث عن مخرج لا ينسجم مع توجهات المحيط العربي حول العراق، ولا يجوز أن تبحث عن مخرج يتهم لا ينسجم مع توجهات المحيط العربي حول العراق، ولا يجوز أن تبحث عن مخرج يتهم الشيعة العراقيين بأنهم ملحقون بدولة أخرى ... ويا حبذا، ويا حبذا، ويا حبذا، لو أن الدول العربية الفاعلة تمكنت من أن تكوّن رؤية بما يشبه مؤتمر الطائف الذي عقد من اجل لبنان ، ولعل الله إذا مدّ في الأجل أن يرشدني إلى خير السبل في هذا الشأن للتداول مع بعض القادة الكبار من إخواننا الحكام العرب في هذه الفكرة" .
هذا يحملنا على الظن القوي إن المخرج الذي كان يقترحه الإمام للأزمة العراقية بعامة، ولأزمة الشيعة العراقيين بخاصة، هو الانتقال إلى نظام الدولة التعددية الاندماجية الموحدة (على طريقة المثال اللبناني).
إن وصية الإمام بخصوص العراق تنسجم تماماً مع دعوته الشيعة في كل مكان إلى التخلي عن فكرة "المشروع الشيعي" واعتماد صيغة الدولة الوطنية، بالمشاركة والتفاهم مع سائر المجموعات في كل بلد، وبما يحفظ لكل مجموعة خصوصياتها الثقافية في إطار الوحدة السياسية ، ولئن كانت هذه الدعوة تلقى صعوبات شديدة في مختلف البلدان (صعوبات من جهة الشيعة أنفسهم ومن جهة الآخرين) فإنها تجد في لبنان "نموذجاً للنجاح الوحيد الذي تحقق في العصر الحديث لتصحيح وضع الشيعة في مجتمع متنوع" .
في حديثه عن تجربة الشيعة في لبنان منذ بدايات العهد العثماني حتى الآن يعبّر الشيخ عن اعتزازه بأنه كان، والإمام موسى الصدر، وراء مبدأ "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه". ومن هنا أيضاً كان لا بد للإمام أن يوصي أخيرا "جميع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، أن يرفعوا من العمل السياسي مشروع إلغاء الطائفية السياسية ، فالصيغة التي تطور إليها هذا النظام، نتيجة لاتفاق الطائف، هي صيغة نموذجية في رأيي، ينبغي التركيز على إصلاحها، وعلى تنفيذها تنفيذاً أمينا لتحقق غاياتها المرجوة منها ، وأعتقد إن لبنان بهذا سيبقى منارة ونموذجاً لكل المجتمعات الأخرى التي تتميز بالتنوع الشديد" .
إن إلغاء نظام الطائفية السياسية في لبنان سيدخل لبنان في "مغامرة كبرى قد تهدد مصيره، أو على الأقل ستهدد استقراره، وقد تخلق ظروفاً للاستقواء بالخارج من هنا وهناك، ولتدخّل القوى الأجنبية من هنا وهناك" كما يرى الإمام شمس الدين .
لقد اعترف الإمام في وصاياه، وبجرأة أدبية نادرة، انه كان على خطأ حين طرح" مشروع الديمقراطية العددية في لبنان" ، وإذ استقر رأيه على " ليس فقط استجابة وترضية للمسيحيين، بل ضرورة للاجتماع اللبناني ولبقاء كيان لبنان، ولمصلحة العالم العربي في كثير من الأبعاد، وحتى لمصلحة جوانب كثيرة من العالم الإسلامي، ونحن نمرّ في حقبة تاريخية مفصلية تتعلق بقضايا التنوع والتعددية السياسية وما إلى ذلك" ... إذ استقر على هذا وأوصى به في كلمته الأخيرة .
آراء الشيخ موجودة في كتاب الوصايا
[align=center] اللهم أيدنا بنصرك
[/align]